سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 23 كانون الأول 2024
لمتابعة التغطيات السابقة
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 22 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 21 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 20 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 19 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 18 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 17 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: المصاعب والتحديات، مقالات وتحليلات 16 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مهام اليوم التالي، مقالات وتحليلات 15 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 14 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: سقوط الديكتاتور الفار بشار الأسد مقالات وتحليلات
—————————————
ذاكرة دير الزور: انفرادات «أخوة بطّة»/ صبحي حديدي
تحديث 23 كانون الأول 2024
ضمن منشورات “المعهد الفرنسي للشرق الأدنى” ـ فرع لبنان، IFOP، هنالك كتاب قيّم بعنوان “وقائع الثورة السورية: أماكن وأناس، 2011ـ2015″؛ يرصد على نحو توثيقي أمين وتفاعلي أنساقاً مختلفة من الحراك الشعبي خلال السنوات الأولى من انتفاضة آذار (مارس) 2011، في 50 من مدن وبلدات وقرى وضواحي وأحياء سوريا. الكتاب صدر سنة 2018 في بيروت، ويقع في 392 صفحة، وهذه السطور تعود إليه مراراً، وكلما اقتضت الحال شحذ الذاكرة، أو تصويب واقعة هنا وهناك، أو استرجاع ذكرى سالفة، أو محطة وجدان شخصي… ومؤخراً، بعد تحرير مدينة دير الزور من نير النظام السوري، ونجاح جهود حقن الدماء بين الفصائل المعارضة المسلحة و”قسد”؛ ألحّت على هذا العمود سلسلة إسهامات “ديرية”، كما نقول في سوريا حين ننسب إلى المدينة وأهلها، كانت بمثابة “انفرادات” خاصة على أكثر من مستوى واحد في أنشطة الانتفاضة وأشكال التحرّك الشعبي وأنماط التظاهر والاعتصام والاحتجاج. والفصل الذي خصصه كتاب الـIFOP لمدينة دير الزور يتصدره رسم للفنان أنور عيسى بعنوان “ارفعوا الحصار عن دير الزور”؛ يصوّر يدَين تقبض كلّ منهما على واحد من أعمدة الجسر المعلّق، أيقونة المدينة.
التعريف الوجيز بالمدينة يشير إلى أنها تقع على مبعدة 450 كم من العاصمة دمشق، وهي ذات جسور سبعة تعانق نهر الفرات، ومنطقة الأراضي الخصبة والثروات النفطية. ومرجعيات مفردة “دير” في التسمية تتضمن شيوع عدد كبير من الأديرة التاريخية القديمة، وكذلك سلسلة ألقاب متعاقبة حملتها المدينة على شاكلة “دير الرومان” و”دير البصيرة” و”دير الرحمة”، وصولاً إلى “الزور” التي تمتزج فيها معاني الحصن والأكمة وعقدة النهر وسواها.
ثمّ ينتقل النصّ مباشرة إلى تاريخ 18/3/2011 حين طُرح شعار إسقاط النظام في ملعب كرة القدم، أعقبته مشاركة واسعة في “جمعة الكرامة” تضامناً مع مدينة درعا، فخرجت تظاهرات من مسجد عثمان بن عفان في حيّ المطار القديم، ومسجد الصفا في حيّ العمال كانت تهتف: “بالروح! بالدم! نفديك يا درعا!”، قابلتها أجهزة النظام الأمنية بممارسات قمع فورية.
بيد أنّ الواقعة الأبرز، حمّالة الدلالات الأعلى في يقين هذه السطور، كانت يوم 15/4/ من ذلك العام، حين احتشد الآلاف وربما عشرات الآلاف، في “دوّار المدلجي” الذي لن يطول الوقت حتى يكتسب لقب “ساحة الحرّية”؛ ولسوف يشهد مسيرات ليلية ظلت تجوب الشوارع رغم استخدام النظام الرصاص الحيّ لتفريقها، فسقط عدد من الشهداء خلال التظاهرات، أو لاحقاً تحت التعذيب.
التطورات اللاحقة شهدت تظاهرة حاشدة أواخر تموز (يوليو) تجاوزت أعداد المشاركين فيها الـ 300 ألف، واندلعت اشتباكات مسلحة قُصفت بعدها المدينة وفرض عليها حصار خانق.
وهذه سطور تسترجع اليوم الاعتزاز العالي بما اجترحه الديريون في تلك الأسابيع الأولى من عمر الانتفاضة، ومقادير ما بذلوه من مشقة في الصبر على جرح لاح يومذاك أنه انفتح على توحّش دموي أقسى من أجهزة النظام وجيشه وأزلامه.
لا سبيل إلى نسيان ذلك التفصيل الفريد البهيّ في دوّار المدلجي، حين شرعت طفلة لم تتجاوز العاشرة في الغناء هكذا: “مجروح يا يمّة/ مجروح يا يابا/ ودّوا لحماة من الدير/ موّال عتابا”.
وعلى أكثر من وجهة، حانية ودافئة وغنائية، بقدر ما هي محفوفة بالألم والمعاناة والمأساة، أمكن لامرئ سوري أن يتخيل ذلك التلاقي الافتراضي، ولكن الواقعي المشتهى في الأذهان والمعنويات، بين نهرَيْ الفرات والعاصي. كذلك كان فتية المحافظة، في المدينة ذاتها وفي بلدات المياذين والبوكمال والعشارة وقرى نهرية عديدة، قد أدخلوا جديداً على أنساق التظاهر، يهدف إلى تطوير مهارات الالتفاف على أساليب العنف الوحشية التي اعتمدتها أجهزة النظام الأمنية، من جهة أولى؛ كما نفع في اجتذاب مزيد من شرائح المواطنين الذين ترددوا في المشاركة لأسباب شتى، من جهة ثانية.
ذلك الجديد تمثّل في تنظيم تظاهرة مائية على صفحة نهر الفرات، سباحة أو بقوارب صغيرة، ظلت تردّد الهتافات ذاتها تقريباً؛ ورفعت لافتات مماثلة لتلك التي ترفعها التظاهرات على اليابسة، إذا جاز القول. ولقد طافوا فوق مياه الفرات، وطوّفوا على صفحته الرايات، والتمسوا عبقرية هذا النهر العظيم الخالد، في تلك البرهة الفريدة من تاريخ المدينة والوطن؛ مستذكرين أساساً أنهم حَمَلة اللقب الشهير “أخوة بطّة”، نسبة إلى براعة في السباحة يتلقونها منذ نعومة أظفارهم، تماماً كما يليق بأفراخ البطّ!
صحيح أنّ مناطق عديدة في سوريا شهدت تطبيقاً عملياً لسلسلة الأسباب التي تجعل حقد النظام على منطقة ما، وعلى أهلها استطراداً، يتجلى على نحو أشدّ سعاراً وعصبية وهمجية أيضاً، في تحصيل الحاصل؛ لاعتبارات شتى، سياسية في المقام الأوّل، ولكنها يمكن أن تتخذ صفة انتقامية محضة (حماة، وحمص، وجسر الشغور، واللاذقية، والحفّة، وتلبيسة، والحولة، والصنمين، وإنخل…). الأرجح أنّ الحقد على مناطق مثل دير الزور كان، في المقابل، قد انقلب إلى حال مَرَضية يمتزج في طياتها الخوف من المكان في ذاته، والرغبة في تدمير رموزه. وفي عدادها كانت انفرادات “أخوة بطّة”، في ماضي الأيام، وتلك الموشكة الآتية!
القدس العربي
————————
عن التحوّل السوري إلى دولة مدنية/ سميرة المسالمة
23 ديسمبر 2024
بعد سنوات طويلة من النضال والمعاناة، شهد السوريون حدثاً تاريخياً مع سقوط النظام السابق وهروب بشّار الأسد، وتسلّم هيئة تحرير الشام بقيادة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) زمام الحكم الانتقالي. يمثّل هذا النصر، الذي تحقّق بعد تضحيات هائلة، بدايةَ مرحلةٍ جديدةٍ يتطلّع فيها الشعب السوري إلى تحقيق حلمه في بناء دولة مدنية حديثة قائمة على العدالة والمساواة. لكنّ هذه اللحظة المفصلية تحمل تحدّيات كبيرة، أبرزها الخروج من العقلية الفصائلية والحكم العسكري إلى إدارة مدنية شاملة، تستجيب لتطلّعات جميع السوريين.
منذ اللحظة الأولى لتولّي هيئة تحرير الشام السلطة، برزت تساؤلاتٌ بشأن آلية إدارة المرحلة الانتقالية، إذ تُظهِر المعطيات الحالية أن المناصب الحكومية تُمنح بشكل رئيس للمقرّبين من قيادة الهيئة، وهو مشروع راهناً، بحكم الظرف الطارئ، ولعدم معرفة المعنيين بالكفاءات السورية التي يمكن الاعتماد عليها من خارج دائرتهم الضيّقة، إلّا أن ذلك أيضاً يثير مخاوفَ مشروعةً من أن تُعيد هذه السياسة إنتاج نموذج النظام السابق، حين كانت السلطة بمراكزها العُليا والمؤثّرة في أغلب الأحيان مخصّصةً للموالين للأسد (الأب والابن) أو أقربائهم. السوريون لم يضحّوا من أجل استبدال نظام استبدادي بآخر، بل ناضلوا من أجل الحرّية والكرامة والعدالة، وتوزيع المناصب على أساس الولاء الشخصي أو العسكري يُنظر إليه من كثيرين على أنه يحوّل المناصب “غنائمَ حربٍ”، بدلاً من أن تكون مسؤولياتٍ وطنيةً تُمنح بناءً على الكفاءة والخبرة. هذه السياسة لا تؤدّي إلى تآكل الثقة الشعبية بالقيادة الجديدة فقط، بل تُكرِّس أيضاً الانقسام المجتمعي وتُضعف فرصَ بناء دولة مدنية قوية.
يحتاج الشعب السوري، الذي عانى عقوداً من الاستبداد، إلى رؤية وطنية جامعة تُعبّر عن تطلّعاته في بناء دولة حديثة تتجاوز منطق المحاصصة على أساس طائفي أو حزبي أو مناطقي أو عائلي، ويتطلّب ذلك من القيادة الجديدة تبنّي نهج شفّاف في إدارة الشؤون العامّة، فتكون المناصب أداةً لخدمة المواطنين، لا وسيلةً لتعزيز الولاءات الشخصية أو الفصائلية. التحدّي الأكبر الذي يواجه هيئة تحرير الشام، القدرة على التحوّل من فصيل مسلّح إلى كيان سياسي مدني يقود البلاد نحو الاستقرار. لتحقيق ذلك، يجب أن تبدأ القيادة بإنشاء مؤسّسات حكومية قائمة على الكفاءة، مع إرساء مبادئ الشفافية والمساءلة. هذا التحوّل غير ممكن من دون إشراك جميع مكوّنات المجتمع السوري في صياغة مستقبل البلاد.
إحدى الخطوات الضرورية في هذا السياق، صياغة دستور جديد يُعبّر عن تطلّعات السوريين، ويضمن فصل السلطات واستقلال القضاء، ويضع حدّاً لأيّ محاولات لاحتكار السلطة، فالدستور يجب أن يكون مبنياً على مبادئ الحرّية والمساواة والعدالة، قيماً دستوريةً عُليا، وأن يضمن حقوق جميع المواطنين من دون تمييز. إلى جانب ذلك، تحتاج سورية إلى إطلاق عملية مصالحة وطنية حقيقية تُعالج الجراح التي خلّفتها سنوات الحرب، أي إن العدالة الانتقالية لا بدّ أن تكون جزءاً أساسياً من هذه العملية، بحيث يُحاسَب المسؤولون الأساسيون عن الجرائم، ويُمنح الضحايا حقوقهم، ويعمل على إعادة بناء الثقة بين مختلف مكوّنات المجتمع.
التحوّل إلى دولة مدنية يتطلّب أيضاً دعماً دولياً وإقليمياً متوازناً، وهو ما يضع أمام القيادة الجديدة مسؤوليةَ الالتزام الواضح بتحقيق حلمهم ببناء دولة مدنية حديثة، لا عسكرية ولا دينية ولا طائفية ولا ديكتاتورية، قائمة على الحرّية والعدالة والمساواة للمواطنين كلّهم من دون أيّ تمييز، ما يُعزّز فرصَ الحصول على دعم المجتمع الدولي لإعادة إعمار البلاد بأسرع وقت ممكن لتأمين استقرارها، وتنميتها الاقتصادية المعوّل عليها في استعادة سورية دورها العربي والإقليمي والدولي.
رغم التحديات كلّها، الفرصة سانحة أمام القيادة الجديدة لتحقيق نقلة نوعية في تاريخ سورية، فالشعب السوري يتطلّع إلى قيادة تشاركه الحلم، وتُعيد له الأمل في مستقبل أفضل. والشرع بخطاباته الموجّهة إلى الداخل والخارج، يُعبِّر عن معرفةٍ حقيقيةٍ بأن النصر العسكري ليس سوى البداية، وأن النجاح الحقيقي يكمن في بناء دولة مدنية حديثة تُحقّق تطلّعات الشعب، وتُعيد إلى سورية مكانتها، إلّا أن هذا التوجّه، في ظلّ الخراب الذي تركه النظام الساقط، سيبقى متعثّراً ما لم يفسح المجال للقوى السياسية كلّها، ومنها القوة النسائية، للمشاركة في تحمّل مسؤولية إزالة ردم الفساد السلطوي، وإعادة بناء منظومة حكم تحقّق طموحات السوريين، وتؤسّس جمهوريةً ثالثةً تحكمها إرادة المواطنين الأحرار المتساوين.
ليس التحوّل إلى دولة مدنية في سورية مُجرَّد خيار، بل هو ضرورة حتمية لتحقيق تطلّعات الشعب في الحرّية والكرامة والعدالة. التحدّيات التي تواجه القيادة الجديدة هائلة، لكنّها ليست مستحيلةً إذا توافرت الإرادة الحقيقية، والنهج الشفّاف، الذي يضع مصلحة الوطن فوق كلّ اعتبار، فالتاريخ لا يرحم أولئك الذين يفرّطون بفرص التغيير، والشعب الذي صمد في وجه الاستبداد لن يقبل بأقلّ من دولة تحترم حقوقه وتصون كرامته.
اليوم، تقع المسؤولية على عاتق الجميع، قيادةً وشعباً، للمضيّ في بناء سورية الجديدة، سورية التي تتّسع لجميع أبنائها، وتكون نموذجاً للعدالة والمساواة في المنطقة. النجاح في هذه المهمّة لن يكون مُجرَّد انتصار لسورية، بل سيكون رسالةَ أملٍ لكلّ الشعوب التوّاقة إلى الحرّية.
العربي الجديد
———————————
في استمرار العدوان الإسرائيلي على سورية/ عبد الجبار عكيدي
23 ديسمبر 2024
لم يكن اختراق دولة الكيان الصهيوني، الأسبوع الماضي، اتفاقية فكّ الاشتباك (1974) أمراً طارئاً أو جديداً، إلّا أنه جاء في سياقات مرحلية مختلفة، وفقاً لأولويات السياسة الإسرائيلية وحاجاتها الأمنية بالدرجة الأولى. وليس من حاجةٍ إلى التأكيد أن حدود إسرائيل الجنوبية كانت، في الشطر الأول من الحكم الأسدي (1974- 2000)، الأكثر أمناً واستقراراً، وقد أسهم التزام الأسد الأب بالحراسة الصارمة للتخوم الإسرائيلية بتعزيز تلك الحالة من الهدوء والاستقرار.
ولم يكن الوريث الأسدي أقلّ حرصاً من والده على الالتزام بأن تبقى حدود إسرائيل محميّةً من أيّ خطر، سواء أكان مباشراً أم غير مباشر، بل ربّما أضحى هذا الالتزام الصارم بالحفاظ على أمن الحدود منهجاً استراتيجياً يعزّز مفهوم “اللاسلم واللاحرب”، الذي اعتمده نظام الأسد جوهراً لمعادلة استطاع نظام دمشق استثمارها في مدى عقود، وقد استطاع أن يجعل من هذا الاستثمار مصدرَ طاقةٍ وشحناً لمقولات المقاومة والممانعة من جهة، واستطاع أن يجعل منه أيضاً شهادةَ حسن سلوك يبرزها للجانب الإسرائيلي، من جهة أخرى.
لم يتردد نظام الأسد، في مارس/ آذار من عام 2011، ومع انطلاقة الثورة السورية، في تحديث استثمار الورقة الإسرائيلية، ولو عبر قنوات غير رسمية، المهمّ أن تسمع إسرائيل وتعي أن زوال نظام الأسد سيترك تداعيات كبيرة، لعلّ أشدّها خطراً زوال الحصانة الأمنية، التي كان الأسد يوفّرها لحدودها الشمالية، وربّما كانت الرسائل مقنعة لإسرائيل آنذاكٍ، وفقاً للعبارة الإسرائيلية المشهورة “شيطان نعرفه خير من شيطان لا نعرفه”، ولعلّ أبرز التجلّيات العملية لهذه المقولة تجسّدت في صفقة السلاح الكيميائي التي هندسها الرئيسان الأميركي باراك أوباما والروسي فلاديمير بوتين، في سبتمبر/ أيلول من عام 2013، وذلك في أعقاب استهداف قوات الأسد سكّان الغوطة الشرقية بالسلاح الكيميائي في أغسطس/ آب من العام ذاته، وقد كانت تلك الصفقة مكافأةً لنظام دمشق، ومساهمةً في الحفاظ على استمراره.
مع أواخر عام 2015، وموازاةً مع توغّل مليشيات إيران وحزب الله في عمق الجغرافيا السورية، مع المسعى الإيراني نحو تحويل تلك الجغرافيا مسرحاً ميدانياً، وثكناتٍ عسكريةً، ومواقعَ لتجمّع المليشيات، ومنشآتٍ لتصنيع الصواريخ والقاذفات، بدأ التوجّس الإسرائيلي واضحاً من ازدياد نفوذ إيران وأذرعها على حساب انحسار سلطة الأسد، نتيجةً للتغوّل الإيراني في مفاصل القرار السوري سياسياً وعسكرياً وأمنياً، الأمر الذي دفع إسرائيل إلى استهدافٍ يكاد يكون شبه يومي، لمطاردة مليشيات إيران واستهداف مواقعها في مدن وبلدات سورية عديدة، مع التأكيد أن الاستهداف الإسرائيلي المتكرّر لا يعني حرباً إسرائيليةً مفتوحةً على أذرع إيران، بقدر ما يعني منع إيران من تجاوز الخطوط الحمراء، أو ما هو مسموح لها. وقد لعبت روسيا دور المنسّق للتفاهمات الإسرائيلية الإيرانية، باعتبار الأجواء السورية تحت الحماية الروسية، ويمكن القول إن ثمّة تفاهماً (صريحاً أو ضمنياً) بين إسرائيل وإيران على الإقرار بأحقّية الوجود الإيراني في سورية، شرطَ ألّا يتحوّل هذا الوجود خطراً يهدّد أمن إسرائيل، ويجب أن يبقى أثره محصوراً ضمن مهامّه التي جاء من أجلها، أي حماية نظام الأسد، وربّما كان هذا التخادم بين طهران وتلّ أبيب حائلاً دون استهداف إسرائيل أيّ موقع سوري، وتحاشي الطيران الإسرائيلي أيَّ هدف تابع لقوات الأسد.
كانت لعملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر (2023) تداعيات كبيرة على استراتيجية التخادم بين طهران وتلّ أبيب، استناداً إلى تحوّل سلاح حزب الله جبهةَ إسناد لغزّة، وفقاً لشعارات إيران وأذرعها، الأمر الذي أسهم في تجاوز تلّ أبيب مفهوم التخادم المشترك مع طهران، بل بات استهداف إيران وأذرعها لا يُجسِّد مُجرَّد ردعٍ لتمدّد مليشيات إيران في داخل سورية أو عدم السماح لها بإنشاء مواقعَ جديدةٍ، بل تحوّل حرباً مفتوحةً بدأت باستهداف قيادات حزب الله وكوادره البشرية البارزة، واستمرّت بتدمير بنيته العسكرية، ولم تعد إسرائيل تستثني أذرع إيران في سورية، بل ربّما باتت قناعة إسرائيل أكثر رسوخاً بأن إبعاد نفوذ إيران من سورية مع بقاء الأسد ضربٌ من العبث. ولعلّ هذا اليقين كان جزءاً من عملية رفع الغطاء الدولي عن نظام دمشق، باعتبار الأسد عبئاً على الجميع، ولا أحد سيأسف على رحيله.
ولئن تذرّعت إسرائيل طوال السنوات السابقة بوجود مليشيات إيران في سورية، واتّخذت من وجودها مبرّراً لاستباحتها المستمرّة للجغرافيا السورية، فما الذي يدفعها إلى تصعيد عدوانها على سورية بعد زوال رأس النظام، وانحسار نفوذ المليشيات من الجغرافيا السورية؟ ما يمكن تأكيده أن مواظبة إسرائيل على عدوانها، واستهدافها البنية العسكرية السورية، وتوغّلها البرّي في العمق السوري هو جزء من نهجها الثابت، القائم على التوسّع الاستيطاني، والاستغراق في العربدة، واستمراء التنكيل بخصمها العربي، بعيداً عن التقيّد بزمان محدّد. ومع ذلك، يمكن الوقوف عند بعض الأهداف التي تبحث إسرائيل عن تحقيقها في سورية، ولعلّ أبرزها:
أولاً، حالة عدم الاستقرار الراهنة التي أعقبت زوال الأسد، تتيح للجانب الإسرائيلي الانقضاض على البنية العسكرية السورية بقصد تدميرها تدميراً كاملاً، ونظراً لغياب رادع القوة، فإن تلّ أبيب تزداد صلفاً وعدوانية، فتتوغّل برّياً داخل الأرض السورية وتقصف البلدات والقرى التي تشاء، وذلك بذريعة حماية أمن إسرائيل. ثانياً، أيّ تقدم تحقّقه إسرائيل في الأرض قد تفكر في ادّخاره ورقةً رابحةً في تفاوض مستقبلي مُفترَض. ثالثاً، بقاء سورية بلداً مهلهلاً ضعيفاً بلا أنياب، هدف تسعى إسرائيل لتحقيقه، بعدما أنجزت هذا الهدف ذاته في العراق ما بعد 2003.
على الرغم من ذلك، تكون إسرائيل مخطئةً، بل واهمةً، إن ظنّت أن تجريد أصحاب الأرض والحقّ من السلاح سيضمن سكوتهم عن العدوان، ولها في أهل فلسطين مثال شديد الوضوح، إذ لا يملك الشعب الفلسطيني داخل أرضه سلاحاً ثقيلاً، كذلك يفتقر كثيراً إلى مقوّمات عيشه الكريم، ولكنّه على الرغم من ذلك يقضّ مضاجع الإسرائيليين كلّ يوم، وهو لا يملك سوى احتجاجاته في وجه العدوان، بدليل أن السلاح الثقيل بيد العرب لا يثير مشكلةً لدى واشنطن، بقدر ما يثيرها حراك الشارع الفلسطيني وانفجاراته التي لا تهدأ.
العربي الجديد
—————————————
الروائية سمر يزبك في “لوموند”: بشار الأسد سقط لكن ثورة السوريين الحقيقية بدأت للتو
تحديث 23 كانون الأول 2024
في مقال لها بصحيفة “لوموند” الفرنسية، قالت الكاتبة والروائية والشاعرة السورية اللاجئة في فرنسا، سمر يزبك، إن العدالة التي يتطلع إليها السوريون تتطلب محاكمة مرتكبي جرائم الحرب والانتقال نحو الدولة المدنية التي تحافظ على التعدد الديني والعرقي للبلاد، وتحمي حقوق الإنسان، وخاصة حقوق المرأة، بعد سقوط الدكتاتور بشار الأسد الذي قتل شعبه وباع البلاد، وهرب جبانا، تاركا خلفه دمارا لا يقاس.
وأوضحت يزبك أنها ولدت في 1970، العام الذي نفذ فيه حافظ الأسد انقلابه العسكري. ومنذ ذلك الحين، لم تَعرف قوة غير قوة عشيرة الأسد، حيث قضت أكثر من نصف قرن تحت حكم عائلة مافيا أذاقت السوريين حياة الذل والعبودية في هذه المزرعة الكبيرة التي تسمى “سوريا الأسد”.
وتضيف الروائية السورية القول: “أتذكر أنه في أوائل الثمانينات، كان الزي الذي اضطررنا إلى ارتدائه في المدرسة هو الزي العسكري. كل صباح قبل بدء الدروس، كنا نقضي بضع دقائق واقفين نغني النشيد الوطني.. يصرخ أحدنا الذي سبق أن عينه أستاذ التربية العسكرية: من هو قائدنا إلى الأبد؟ نُجيب هو الرئيس حافظ الأسد! تكرر هذا المشهد لسنوات”.
فرحة متناقضة
تتابع سمر يزبك: “في أحد الأيام، وجدت نفسي، لسبب ما، مرهقة وغير قادرة على ترداد الصيغة بالقوة المطلوبة، ورفع ذراعي عاليا بما يكفي. تلعثمت بالكلمات، على أمل ألا يلاحظني أحد بين صفوف التلميذات. وفي نهاية النشيد، اقترب مني مدرس التربية العسكرية وصرخ في وجهي واتهمني بتعمد الامتناع. وكان عقابي هو الزحف ذهابا وإيابا عبر ساحة المدرسة خمس مرات. ولم يُسمح لي إلا باستخدام المرفقين والركبتين.. أكملت جملتي، ولم أبكِ، عدت إلى مكاني خلف مكتبي، دون أن يسمح لي بتنظيف ملابسي. نعم هكذا عشنا في سوريا الأسد. وإذا كانت هذه الحادثة التي تعود إلى ذاكرتي الآن تبدو تافهة، فقد كانت هناك حوادث كثيرة أخرى، وأكثر فظاعة بكثير”.
ومع ذلك، “فإن ذلك العهد قد انتهى حقا، وبالنسبة لي، أفكر في العودة إلى نفس المدرسة بمدينة جبلة في غرب سوريا التي عانيت فيها هذه العقوبة. أحلم أن أقف وسط ساحة المدرسة نفسها وأعبرها على قدمي، كأي إنسان عادي من حقه أن يقف بكرامة، إلا أنني هذه المرة سأردد شعارا آخر، لقد لقد سقط الأسد، تحيا سوريا”، تقول سمر يزبك.
لكن الكاتبة السورية اعتبرت أن الفرحة التي شعرت بها عند سقوط الدكتاتور بشار الأسد متناقضة: ممزوجة بالقناعة بأن انهيار النظام وهروب الأسد يرجعان فقط إلى حقيقة تقارب مصالح القوى الأجنبية نحو تقسيم الأراضي السورية. وانتهى الأمر بالأمريكيين والروس والأتراك إلى الاتفاق على ذلك. وبطريقة ما، كان هذا حظ السوريين! ولا شك أيضاً في أن قرار إنهاء النفوذ الإيراني في المنطقة لعب دوراً حاسماً في هذه العملية، التي تنبع قبل كل شيء من نضالات وتضحيات الثوار السوريين.
يد سلمية
كما اعتبرت يزبك أن الثورة الحقيقية للسوريين قد بدأت للتو، إذ أن سقوط النظام ليس سوى خطوة أولى على طريق سيكون طويلا ومغطى بالظلام، لكن السوريين رأوه على الأقل مفتوحاً أمامهم: لقد تخلصنا من الطاغية الذي ذبح مئات الآلاف من المواطنين ونفى ملايين آخرين، وفق سمر يزبك، مضيفة القول: “وربما حان الوقت ليعود السوريون في الخارج إلى وطنهم ويساهموا في بناء سوريا موحدة وحرة وديمقراطية. وفي الوقت نفسه، من السابق لأوانه بلا شك مطالبة اللاجئين بالعودة إلى ديارهم؛ وعلينا أن ننتظر لنرى كيف يتطور الوضع قبل أن نتمكن من القول إن البلاد آمنة بما فيه الكفاية لعودة السوريين، حتى لو كانت العلامات الأولى مشجعة”.
في الواقع، كان هناك خوف كبير من رؤية حرب أهلية أو اشتباكات طائفية تندلع عندما يدخل أعضاء من هيئة تحرير الشام إلى المناطق التي تؤوي الأقليات مثل العلويين أو المسيحيين. لكن ما رأيناه على الأرض بدا وكأنه معجزة: ميليشيات مسلحة سيطرت على الريف والمدن بطريقة سلمية تماما، وأظهرت في سلوكها انضباطا ووضوحا أذهل العالم كله، تقول سمر يزبك.
ومضت الكاتبة السورية قائلة إن الهوية الوطنية للسوريين قد تم تمزيقها بدقة على يد نظام الأسد الأب، الذي حشد العلويين من خلال اللعب على مخاوفهم كأقلية مهددة. وكذلك فعل مع المسيحيين، ولو باختلاف الأساليب، فتمكن من تحقيق مراده دون أن تراق قطرة دم واحدة، ودون أن يقتل علوي أو مسيحي.
التدخل من دول ثالثة
تواصل سمر يزبك القول: “الحقيقة هي أننا نجد أنفسنا اليوم أمام أسئلة شائكة وتحديات مرعبة في بلد مدمر، كيف لنا أن ننسى نظاما كرّس الطائفية وارتكب المجازر، نظاما متهما بجرائم حرب، في بلد منهك شعبه واقتصاده مدمر، ومحروم من أبسط وسائل العيش، ويعيش تسعة من كل عشرة من سكانه تحت وطأة الفقر، كما أن نصف سكانه لاجئون أو منفيون (ثمانية ملايين سوري). في هذه الأثناء، فإن السوريين رهن بتصرفات الدول التي تحتل الأراضي السورية وتتنافس على وضع أيديها على ثرواتها”.
وشددت الروائية السورية على أن العدالة الحقيقية التي يتطلع إليها السوريون، تتمثل في محاكمة مرتكبي جرائم الحرب وتقديم بشار الأسد أمام المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، ثم فتح فترة انتقالية لتلبية مطلب الدولة المدنية، أي القول باحترام الحقوق المدنية ومنحها دستوراً مدنياً، والحفاظ على تنوع وتعدد سوريا من حيث الأديان والانتماءات والمجموعات العرقية..
وتضيف سمر يزبك القول: “إذا بقينا متفائلين حتى الآن، فذلك لأننا مقتنعون بأن هذه الخطوات تشكل الطريق الوحيد لاستعادة سلامة الروح الوطنية السورية. وأكرر أنه ما زال من السابق لأوانه القول إننا خرجنا من الغابة، لأن التحديات لا تزال عديدة والمخاطر كثيرة تنتظرنا! اليوم نتمتع بلحظة من الحرية، ولكن غدا سيتعين علينا أن نواجه المستقبل المظلم الذي ينتظرنا والذي نتوق إلى تغييره. فمثل هذا التغيير يتطلب أن نعمل بنشاط من داخل سوريا، وأن نتواصل مع الحركات السورية المختلفة، وأن نبني الجسور بينها، كل هذا دون إغفال المطالب الأساسية لثورتنا: العدالة والحرية والديمقراطية”.
القدس العربي
——————————————
نحو عقد اجتماعي سوري: النقاش الراهن بشأن العلمانية والديمقراطية/ حسام أبو حامد
23 ديسمبر 2024
بعد الإطاحة بنظام بشار الأسد، يخشى سوريون أن تفرض الإدارة الجديدة التي هيمنت على السلطة في سورية هندسةً اجتماعيةً كليةً نابعةً من أيديولوجيتها الإسلامية، تحتلّ مجالات المجتمع السوري الاقتصادية والسياسية، فتهيمن على المجال العام بأدوات ومؤسّسات سلطوية جديدة تعيد إنتاج استبداد عانت منه سورية عقودًا. صحيح أن “محرري” سورية من حكم آل الأسد لا يعلنون أنفسهم ثوّارًا ديمقراطيين، إلا أنهم في الأقلّ يحرصون على عدم إبراز برنامجهم الأيديولوجي، في رسالة إلى السوريين والمجتمع الدولي، لكن سوريين كثرًا يرون في ذلك تكتيكًا لا استراتيجيا، فينادون بضمانات تمثّلت بـ”العلمانية”، و”الديمقراطية”، وبـ”دولة مدنية”، وكأنّها وصفات سحرية للخروج من عنق الزجاجة، بعد عقود من الاستبداد الأسدي، سبقتها قرون من فوات حضاري عربي بالعلاقة مع الغرب المُنتِج لتلك المفاهيم. والسؤال يبقى ما إذا كان السوريون سيتمكنون من استغلال تلك الفرصة التاريخية، محقّقين انتقالًا ديمقراطية سلسًا نحو بناء دولة المواطنة وحقوق الإنسان، التي طالما اشتهوها منذ انطلاق ربيعهم في عام 2011؟
وفي النقاش السوري الراهن، ينبغي التعامل مع “العلمانية” و”الديمقراطية” بوصفهما إشكاليتين لا مشكلتين، فإن كانت المشكلة هي مسألة أمكن الإجابة عنها، فإن الإشكالية هي مسألة، أو مجموعة من المسائل، لا تتوافر بعد إجابة عنها، أو هنالك إجابات عنها متعددة، متناقضة أحيانًا، يحتاج البت فيها إلى رؤية أكثر وضوحًا تستفيد من تقدم وسائل المعرفة، أو من ممارسة تاريخية تحلّ نظريًا ما كان غير قابل للحلّ.
علمانية أم علمانوية؟
في النقاش السوري الراهن، هنالك من يختزل العلمانية (عمدًا أو عن جهل) في اللادينية (اللائكية)، التي تتناقض وتناهض الدين والتديّن، أو تُفهَم العلمانية على أنها فصل الدين عن الدولة. وأنتج النقاش بشأن العلمانية استقطابًا حادًّا في المجتمع السوري بعد أيام فقط من سقوط النظام الأسديّ، بين سوريين شعروا بأن دينهم مهدّد، وآخرين منهم رأوا أن حرّياتهم الشخصية والعامة في خطر. لكن في مقابل سوء الفهم هذا من فريق من السوريين، لا يحدّد رافعو شعار العلمانية، بوصفها مسؤوليات الدولة تجاه الدين، أيّ علمانية يريدون. فإن كانت العلمانية تعني ببساطة التزامًا معياريًا بالحياد من جانب الدولة تجاه الشؤون الدينية من الناحية المؤسّساتية، أو التزامًا بدعم الفصل بين السلطتين الدينية والسياسية، عمليًا ومؤسّساتيًا، فإن فكرة “الحياد” تظلّ مفتوحةً للتأويل. فلا يوجد فهم واحد لمعنى “علماني” عندما يتعلّق الأمر بمسؤوليات الدولة تجاه الدين، فبالنسبة للعلمانية المحايدة: الدولة غير دينية، ويجب ألا تدعم الدين بأيّ شكل من الأشكال. في العلمانية الإيجابية: لا تؤكّد الدولة المعتقدات الدينية لأيّ دينٍ معين، ولكنها قد تخلق ظروفًا مواتية للأديان بشكل عام. في العلمانية السلبية: الدولة ليست مختصّةً في الأمور المتعلّقة بالدين، ولكن يجب ألا تتصرّف بطريقة تمنع المظاهر الدينية التي لا تهدّد المصلحة العامة، وفي العلمانية الشاملة: يجب ألا يدير الدولة دين معين، ولكن يجب أن تتصرّف بحيث تشمل أوسع مشاركة للجماعات الدينية المختلفة، بما في ذلك غير المتدينين.
باتت حيوية الدين وعودته إلى الحياة العامة من المسلّمات في النقاشات السياسية والأكاديمية، وتثار في الغرب التساؤلات حول ما إذا كانت العلمانية الآن تواجه أزمةً، أم أن المجتمعات العلمانية تكيّف نفسها مع استمرار وجود المجتمعات الدينية المحلّية، والمهاجرة أيضًا. لا يأخذ رافعو شعار العلمانية (شرطًا للديمقراطية) في سورية بعين الاعتبار ما طرأ على النقاش العلماني في الغرب، إذ هنالك من يؤكّد أن المجتمعات الديمقراطية الغربية أصبحت الآن “ما بعد علمانية” بشكل متزايد (يورغن هابرماس… وآخرون)، بعد أن أدّت عودة الدين إلى المجال العام إلى تحدّي الافتراضات الأساسية التي تقوم عليها العلمانية. ويؤكّد مؤيّدو دور الدين في الحياة العامة، ومنهم علمانيون، أن الدين يوفّر مجموعةً من المنافع العامة، ويمنح الأفراد إحساسًا بالمعنى والهُويَّة، وأن الجهود المبذولة لإبقاء الدين خارج المجال العام غير ليبرالية وغير متسامحة.
خصّص المفكر العربيّ عزمي بشارة كتابه “الدين والعلمانية في سياق تاريخي” (في جزأين وثلاثة مجلّدات، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2013 و2015) لمعالجة إشكالية العلمانية في السياق التاريخي العربي، مبينًا أن العلمانية التي كانت حلًّا وجوديًا ومخاضًا ضروريًا لنشوء الدولة الحديثة، القائمة على قيم الحرّية والديمقراطية ودولة المؤسّسات والقانون، إن هي إلا نتاج العلمَنة، أي نتاج عملية تمايز اجتماعي بنيوي، وتغيّر في أنماط الوعي. وحذّر عزمي بشارة من مغبّة استقدام العلمانية من سياقها الغربي نظريةً مكتملةَ المعالِم والشروط، ثمّ محاولة فرضها بقوة الأيديولوجيا على مجتمعات لم تعرف إرهاصات تشكّل العلمانية سياسيًا ودينيًا وثقافيًا. فليست العلمانية، كما يذهب بشارة، وصفةً للتطبيق المباشر من المنتج إلى المستهلك، بل هي عملية تمايز اجتماعي بنيوي، وتغيّر في أنماط الوعي، إنها صيرورة تاريخية. فصل الدين عن الدولة لا يعني بالضرورة فصل الدين عن المجتمع، بل لا تعني العلمنة بالضرورة تراجعًا في الإيمان الديني، أو الممارسة الدينية، بل تغيّرًا في أوضاع الإيمان ذاتها. وبحسب بشارة، لا يمكن فصل الدين عن الحيّز العام، أو عن الدولة، أو عن السياسة، فصلًا كلّيًا، بل يمكن القول إن ثمّة درجات من العلمنة، محذّرًا من أن تنزلق العلمانية نحو الأيديولوجيا، فتصبح “علمانوية”.
فضّل بشارة في غير مناسبة الحديث عن الديمقراطية بدلًا من الحديث عن العلمانية، فتبلورُ الثنائية القطبية علماني/ ديني يمكن أن يفضي في سياق الانتقال الديمقراطي إلى “الاحتراب الأهلي” بين أنصار طرفين، يتماهى كلّ منهما مع موقفه إلى درجة تحويله هُويَّةً، والصراع بين الهُويَّات ليس صراعًا ديمقراطيًا، ولا يساعد في الانتقال الديمقراطي. في الإمكان، حسب بشارة، إضعاف التحالف بين أنماط التديّن (السياسي والرسمي والشعبي) ضدّ الحداثة وضدّ الديمقراطية وتفكيكه، من دون معاداة أنماط التديّن القائمة منفردةً، بل من خلال كسب بعضها لصالح الديمقراطية، وتحييد بعضها الآخر، لتصبح المعركة السياسية مع القوى المعادية للديمقراطية ممكنةً في ظلّ سيادة القانون، تجنّبًا لحملةٍ مفزعةٍ من العنف السياسي، والاجتماعي كذلك.
الديمقراطية وهمًا عاطفيًا
العلمانية عند جورج طرابيشي أيضًا ليست أيديولوجيا خلاصية، بل آلية سلبية لفصل الدين عن الدولة، هي لازمة، ولكنّها ليست كافية. وما ينطبق على العلمانية ينطبق على الديمقراطية. وفي سورية، ما بعد الأسد، تواجه الديمقراطية تحدّيات، وتطرح بوصفها إشكاليةً إشكالياتٍ أخرى قد تعوق تحقّقها المباشر. وعند طرابيشي، فإن ديمقراطيةً يظن الأفراد أنها لازمة حتمية عن انتصار الثورة هي وهم عاطفي، إذ قد نجد أنفسنا أمام البنى نفسها التي أنتجت الاستبداد والطغيان. وحذّر طرابيشي في كتابه “هرطقات عن الديمقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية” (دار الساقي، بيروت، ط1، 2006) من الترويج للديمقراطية بوصفها أيديولوجيا خلاصية، فتساءل ما إذا كانت الديمقراطية مفتاحًا لجميع الأبواب، أم أنها تتويج لتطوّر عضوي لمجتمع، ومقياسًا لمدى تطوّره، وهل الديمقراطية ثمرة تقطف، أم بذرة تزرع؟ ورأى أن الديمقراطية تحتاج جهدًا، ولا تعفي من الجهد، كما تريد الأيديولوجيا الخلاصية، وأن الديمقراطية شرط غير كافٍ، فهي قبل أن تكون مفتاحًا لجميع الأبواب تحتاج هي نفسها إلى مفتاح، وبابها لا ينفتح إلا بعد أن تفتح سائر الأبواب الأخرى، أو بالتواقت معها على الأقل.
فأحد شروط الديمقراطية (غير المتوافر في الوضعية السورية الراهنة) هو توافر حاملها الاجتماعي، فالديمقراطية هي من اختراع الحداثة التي صنعتها البرجوازية، تغيب بغيابها، وتوجد بوجودها، وكانت براعم الديمقراطية في العالم العربي برجوازيةً قبل أن تحفر الثورات الوطنية والانقلابات العسكرية القومية واليسارية قبر الديمقراطية، وقبر البرجوازية معًا. ومن دون حامل للديمقراطية سيظلّ المأزق الديمقراطي يعيد إنتاج نفسه عربيًا، وكان ثمن تغييب البرجوازية وإفقادها الاعتبار الأيديولوجي، بحسب طرابيشي، أنظمةً سلطويةً أبّدت نفسها جمهورياتٍ متوارثةً، وحركاتٍ شعبيةً، منذرةً بشموليات من نوع جديد، وأكثر جذرية بما لا يقاس في القطع مع الديمقراطية وقيم الحداثة، وكان لا بدّ من أن تأخذ المعارضة الشعبية للدكتاتوريات القائمة شكل صعود المدّ الأصولي.
يلحّ طرابيشي على أن الديمقراطية ثقافة ومنظومة قيم. وفي مجتمع لم ينجز تحديثه المادي والفكري، ولم يستكمل ثورته التعليمية، فإن الموضع الأول لتظاهر الديمقراطية ليس في صناديق الاقتراع وحدها، بل كذلك (وربّما أولًا) في الرؤوس، فلا يمكن أن تكون الديمقراطية نظامًا للحكم من دون أن تكون نظامًا للمجتمع، تقيم النظم العربية العثرات أمام الآلية الديمقراطية، لكن المجتمعات تقيم العثرات أمام الثقافة الديمقراطية. وإن كانت النظم الاستبدادية لا تتحمّل انتخابات حرّة، فإن المجتمعات العربية لا تتحمّل رأيًا حرًّا، والمجتمع الذي يريد الديمقراطية في السياسة، ولا يريدها في الفكر، ولا في العلاقات بين الجنسين، يستسهل الديمقراطية، ويختزلها في آن.
رَجل الشرطة ورَجل المباحث
لم تكن مشكلة السوريين مع الدولة، بل مع السلطة، ولا يمكن إرساء الديمقراطية من دون بناء الدولة. لذا يحذّر طرابيشي من شعبوية تُختصَر في شعار واحد “الدولة ضدّ الأمة”، ذلك أن منطق تأثيم الدولة، وتبرئة الأمة، أو الشعب، أو المجتمع المدني، يحمل جرثومة شمولية جديدة. وفي حين أوجدت النظرية الديمقراطية علاجات للسلطوية، أبرزها فصل السلطات، ودولة القانون، وحقوق الإنسان، فإن الفكر الديمقراطي الشعبوي، الفكر السائد في الساحة الثقافية العربية، يضع رهاناته على الشعب، أو المجتمع المدني، فيؤبلس الدولة، ويؤمثل الأمة، ولا يقيم بينهما إلا علاقة جلّاد وضحية.
بالتالي، يرفض تصوير الأزمة في العالم العربي على أنها تحصيل حاصل للقطيعة بين الدولة والشعب، وانفراد الدولة في تقرير مصائر الشعوب، من دون أن يكون للشعب قدرة مقابلة على التحكّم بمقاليد الدولة. هذا التحليل ذو منزع شعبوي، يجعل من المأزق الديمقراطي نتيجةً شبه آلية لطغيان حضور الدولة، وغياب (أو تغييب) المجتمع المدني، فمأزق الديمقراطية ليس قوة حضور الدولة، بل على العكس استضعافها وتغيبها. ففي ظلّ الديكتاتوريات العربية نتحدّث لا عن عدوان الدولة على المجتمع المدني، بل عن عدوان السلطة على الدولة، وإعاقتها إياها عن أداء دورها عاملًا مُنظِّمًا ومعقلنًا للاجتماع البشري. المشكلة عند طرابيشي أن الشرطي كان “مُجرَّدًا من سلاحه أمام رجل المباحث”، و”أسقف المخافر واطئةً أمام أقبية الاستخبارات”، ولا مخرج من المأزق الديمقراطي إلا بردّ الاعتبار للدولة نفسها، ولسلطة القانون، ولمبدأ العنف الشرعي، وإن كان لا ديمقراطية مع رجل المباحث، فإنه لا ديمقراطية من دون رجال الشرطة، وسيرتدّ المجتمع المدني (إن وجد) إلى غابٍ لو غابت الدولة.
الجامعة السورية
بحسب طرابيشي، تؤدي الفئوية الطائفية إلى خللٍ خطيرٍ في تطبيق مبدأ التمثيل الديمقراطي، وأشدّ خطورةً في اشتغال جدلية الأكثرية والأقلية. فالديمقراطية من حيث هي قيم الأكثرية العديدة، تُختزَل في المنظور الفئوي الطائفي في أكثريةً عموديةً، لا أفقيةً، جوهريةً، فيدور الصراع لا في المؤسّسات التمثيلية، من برلمان وغيره، بل في المجتمع نفسه. فالأكثرية هنا ليست أكثريةً حزبيةً، أو كتلوية، ينفرط عقدها داخل البرلمان، بل هي أكثرية مجتمعية دائمة، إسلامية، أو مسيحية، سنّية، أو شيعية، عربية، أو كردية، ممّا يعني خلال الممارسة الانتخابية تصويتًا جماعيًا إجماعيًا، يصوّت فيه الناخبون لمرشّحهم من دينهم، أو طائفتهم، أو إثنيتهم، ضدًّا على المرشّح “الآخر”.
نستحضر هنا أستاذنا الراحل، الفلسطيني السوري يوسف سلامة، الذي أكدّ أن انطلاق الثورة السورية أسقط الفكرة الجامعة التي قام عليها النظام عقودًا، لكنّه حذّر من عدم امتلاك السوريين فكرةً جامعةً بديلةً تحلّ التناقضات بينهم، التي من دونها تفتقد الثورة (ولو انتصرت) الإطار الإنساني اللازم لتوحيد السوريين، لتحكُم بطريقة مشابهة لحكم النظام. لذلك، دعا إلى “الجامعة السورية” القائمة على مصلحة السوريين، بوصفها فكرةً جامعةً “تتجاوز أفكارنا التقليدية عن الأكثريات والأقليات”، ليصبح كلّ السوريين بمقتضاها أكثريات: “اتفق معي على سورية أولًا، ثمّ كن ما تريد؛ سوريًا كرديًا، سوريًا عربيًا، سوريًا آشوريًا، وحتى سوريًا فلسطينيًا”. تلك الجامعة هي التي ستمنح جميع السوريين حقوقًا متساوية، حين تتخطّى فكرة المظلوميات، لأنهم جميعًا مظلومون، وتضع دستورًا يتوافق عليه الجميع، فيحكم الجميع أنفسهم بأنفسهم، مع المحافظة على وحدة الدولة السورية.
خاتمة
يحتاج السوريون إلى عقد اجتماعي ينطلقون منه، يخرجهم من الحلقة السياسية المفرغة، يُنجز على طاولة حوار وطني قادم مستحق اتفاقًا حول تحديد علاقتهم ببعضهم بعضًا، وبعلاقتهم بالدولة التي يعيشون فيها، ويناط به صياغة التوافق الوطني العام والسلم الاجتماعي، مقدّمةً لبناء مجال سياسي واجتماعي ينبثق منه دستور، بل هو شرط لكتابة الدستور، ذلك أن دستورًا يكتب في ظلّ استمرار الصراع، وفي غياب الثقة، وفي حالة من الارتباك والضبابية السياسية سيكرّس الصراع، بل سيولّد أزمات وصراعات جديدة. بغير ذلك، فإن نصوص الدستور نفسها عرضة لإعادة القراءة والتأويل، فإن بقي الواقع صراعيًا من دون حلّ تناقضاته، سيكرّس الدستور هذه التناقضات والصراعات. وإذا كان بعضهم يرى في أن ينصّ الدستور على أن “الإسلام دين الدولة” ضربة فاضحة للتنوع الثقافي والتعددية وحقوق الإنسان، ويخلو من المنطق، لأن الدولة شخصية معنوية، فكيف يكون لها دين، فإنه في المقابل لا معنى أن ينصّ الدستور على “دولة علمانية” في ظلّ فئوية طائفية ستؤوّل الدستورَ طائفيًا تبعًا للسلطوية المكوناتية المهيمنة.
لا تحقّق الثورةُ الديمقراطيةً هدفًا مباشرًا، بل تحتاج إلى مسار تحول ديمقراطي، وفكرة العلمانية أشدّ تعقيدًا من مجرّد كونها مقاربة سياسية للعلاقة بين الدين والسياسة، بل هي علمنة لا تتحقّق من أعلى إلى أسفل. لا يعني ذلك أن يبدأ السوريون من صفر ديمقراطي، أو أن يدوروا في حلقة مفرغة، بل لا بد من أن ينطلقوا من عقد اجتماعي يتمسّك ببناء الدولة، وهناك حدّ أدنى بات معروفًا لبناء دولة على روافع ديمقراطية (فصل السلطات مثلًا)، بينما يجعلها مبدأ المواطنة دولةً مدنيةً، حين ينظم العلاقة بين الدولة وسكّانها. من هنا يضع السوريون قطار المستقبل في السكّة نحو الدمقرطة والعلمنة. طريق طويل ومتعرّج، لكنّه يستحق بذلًا وعطاءً بقدر ما يستحقّ السوريون حرّيتهم.
ضفة ثالثةً
——————————–
هل قرأ الجولاني “الفريضة الغائبة”؟/ مراد بطل الشيشاني
23 ديسمبر 2024
كان يوماً شتوياً بارداً من أيام نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2017، حين دخلتُ مسجداً صغيراً متواضعاً في مخيّم الشاطئ في قطاع غزّة للقاء أحد المنظّرين الجهاديين، الذين فرّوا من مصر إلى غزّة بعد عزل الرئيس محمّد مرسي في 2013. كنت أبحث في حال الجهاديين بين سيناء والقطاع. أُخبرت أن آتي وحيداً من دون كاميرات أو آلة تسجيل. انتظرته إلى حين فرغ من صلاته، وأعطى درساً مقتضباً للمصلّين، ومشينا إلى منزله المتواضع. كالمعتاد في غزّة آنذاك، كانت الكهرباء مقطوعة، وجلسنا في ضوء أزرق باهت يأتي من مصباح لقتل البعوض، يعمل بالبطارية. لدى أبو أحمد (وهو ليس اسمه) أسلوب جميل في سرد الحكايات. ورغم وزنه المقدّر بين جهاديّي غزّة آنذاك، انصبّ حديثه على حقبة عاصرها جيّداً في نهاية سبعينيّات القرن الماضي، وشهد فيها تطوّر الجماعة الإسلامية والجهاد الإسلامي في مصر، وهو التطوّر الذي قاد إلى اغتيال الرئيس المصري أنور السادات عام 1981. معلومة مثيرة أسرّ لي بها أبو أحمد، وتذكّرتها مع سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، حين قال إنه كان واحداً من عدّة شيوخ أقرّوا وصادقوا كتيّباً لـ”شابّ جيّد، صغير”، وفق ما قال بلهجته المختلطة بين الغزّية والمصرية، وهو “الفريضة الغائبة” لعبد السلام فرج، الذي بات منذ ذلك الحين من الكتب المؤسِّسة للحركات الجهادية، أو الدليل العملي للتفكير الجهادي.
أسّس كتيّب “الفريضة الغائبة”، ويعني بها المؤلّف الجهاد، فكرةً ثوريةً في الفكر الإسلامي التقليدي بعدّه “قتال العدو القريب أولى من قتال العدو البعيد”، ذلك أن محورية الكتيّب تدور في إطار “كفر الأنظمة الحاكمة”، وبالتالي، سيُحسب تحرير أراضي المسلمين (ومنها القدس)، وإن كان واجباً شرعياً (وإن حصل)، “لصالح الحاكم الكافر القائم، وهو تثبيت لأركان الدولة الخارجة على شرع الله”. ويرى فرج أن أساس وجود الاستعمار في بلاد الإسلام هؤلاء الحكام، والبدء بالقضاء على الاستعمار “عمل غير مجدٍ وغير مُفيدٍ وما هو إلا مضيعة للوقت”. أسّس فرج لهذا المبدأ الثنائي، الذي ستبقى المجموعات الجهادية تتقلّب بين طرفيه بحسب الظروف السياسية. وقد أكّد أبو أحمد، وهو القريب من قيادات الجهاديين الصاعدين آنذاك، أن الهدف من اغتيال السادات، في تطبيق عملي لما دعا إليه فرج، كان أن تبدأ ثورة في كل أنحاء مصر. لكنّ الجهاديين، دفعوا للعودة إلى قتال “العدو البعيد”، بحكم الضغط الأمنيّ بعد اغتيال السادات، وبحكم بدء حقبة “الجهاد الأفغاني”، التي كانت ملجأً للجهاديين الفارّين من مصر، ومختبراً للسلفيين، خصوصاً من السعودية، للاندماج بالفكر الجهادي، لينتج الحركة السلفية الجهادية التي كان تنظيم القاعدة أبرز تمثّلاتها لاحقاً.
وبعد هزيمة السوفييت، تقلّبت السلفية الجهادية بين مواجهة العدو القريب، حين عاد بعض الجهاديين إلى بلدانهم الأصلية وساهموا في مواجهات مختلفة، وهناك نماذج في الأردن، ومصر، والمثال الأبرز في الجزائر، التي شهدت حرباً أهلية عُرفت بالعشرية الدامية، وأخرون ممّا لم يتسنَّ لهم المشاركة في جهاد “العدو القريب”، فاتجهوا إلى قتال العدو البعيد مرّة أخرى في طاجيكستان، والشيشان، والبوسنة، وتشكّلت من هجمات القاعدة في دار السلام ونيروبي بنية مواجهة “العدو البعيد”، التي وصلت إلى ذروتها في 11 سبتمبر (2001)، التي أفرزت بحكم الحملة الأمنية انزياحاً لمواجهة “العدو القريب” مرّة أخرى في السعودية، واليمن، وهجمات في أكثر من بلد عربي، إلى حين بدء الاحتلال الأميركي للعراق، الذي أفرز جيلاً جديداً من الجهاديين، أكثر تطرّفاً، وأعاد الأولوية لمواجهة “العدو البعيد”، وانتج فكرة السيطرة على مساحات جغرافية، وإدارتها، سواء في سياقات “إدارة التوحّش” في إدارة مناطق حكم صغيرة، كما عمد حلفاء “القاعدة” في اليمن، والصومال، والجزائر، والعراق، بتأسيس “قاعدات” عدّة حسب المنطقة الجغرافية.
وبذلك، بات التنقّل بين العدوين، البعيد والقريب، من البنية الأيديولوجية إلى السلفية الجهادية، وبقي التيّار السلفي الجهادي محكوماً بثنائيات تمنحه هذا البعد البراغماتي (العدو القريب والعدو البعيد، والمحلّية والعالمية، والجهاد الفردي والجمعي، والشريعة والموارد، ونمط العمليات في مقابل السيطرة على بقعة جغرافية، وغيرها).
وفيما أعاد “الربيع العربي” الزخم إلى الداخل ومواجهة الحكّام، قد يكون مشهد الجهادي أبو محمّد الجولاني، زعيم هيئة تحرير الشام، المعروفة سابقاً بجبهة النصرة، داخلاً المسجد الأموي في دمشق، بعد إسقاط نظام بشّار الأسد، أول الانتصارات للسلفيين الجهاديين ضدّ عدو قريب بهذا الشكل، ويثير أسئلة كثيرة عمّا إذا كان الجولاني، الذي بات يعرف باسمه الأصلي الجديد أحمد الشرع، واستبدل زيّه الأفغاني ببدلة حديثة، وهذّب لحيته، وبات يتحدّث عن إعادة إنتاج حكم حديث، كما مارسه في إدلب عبر حكومة الإنقاذ عدّة سنوات (مع تحفّظات على هذا الحكم)، قد تحوّل بالفعل وتاب عن جهاديته، أم أنه يمارس تقيّة سياسية؟ وهل هو جهادي حقيقي أم لا؟
السؤال، وإن شغل دوائر كثيرة، إن لم يأخذ التحوّلات التي مرّت بها السلفية الجهادية، وفهم بنية هذا الفكر، سيكون سؤالاً تبسيطياً، فالجولاني/ الشرع ما زال سلفياً جهادياً، لكنّه يعبّر عن التحوّل من داخل الفكر نفسه. ويبدو أن تجربته في العراق، وخلافه لاحقاً مع قائده، وزعيم تنظيم ما يعرف بـ”الدولة الإسلامية” (داعش)، أبو بكر البغدادي، حين أبقى على بيعته لتنظيم القاعدة، تعبير عن تصادم بين فكرتي المحلّية والعالمية وبين الشرعية والموارد، وبين النصرة بالتغلّب وكسب الناس. والأهمّ، بين أولوية مواجهة “العدو القريب” على “العدو البعيد”. كذلك فإن الجولاني/ الشرع تخلّى عن الارتباط بتنظيم القاعدة، بتغيير اسم تنظيمه من جبهة النصرة إلى هيئة تحرير الشام، وهذا وإن اعتبره بعضهم نوعاً من الابتعاد عن أيديولوجيته الجهادية، غير صحيح، فأسامة بن لادن، وقد تأثّر الجولاني به وبطريقة لباسه وبحديثه في فترات مختلفة، دعا بعد “الربيع العربي” إلى تغيير اسم “القاعدة” أيضاً، رغم تاريخيّة الاسم، إلى أسماء أقرب إلى “الأمّة”، والمفارقة أن واحداً من الأسماء التي اقترحها (كما كشفت وثائق أبوت أباد) جماعة تحرير الأقصى، التي تتقاطع مع فكرة اسم هيئة تحرير الشام.
تستجيب مسألة تغيير الأسماء هذه أيضاً لبنية براغماتية محدودة في إطار الأيديولوجيا السلفية الجهادية التقليدية، في مقابل الأيديولوجيا الصلبة في حال تنظيم ما يعرف بالدولة الإسلامية، التي اعتمدتها، لكنّها تراخت في عمليات التجنيد، بينما بقي جناح “القاعدة” براغماتياً في الأيديولوجيا، انتقائياً جدّاً في التجنيد. وبهذا المعيار، حقق الجولاني أهداف تيّاره، بالانتصار على “العدو القريب”، ولو بعد حين، بينما لم يستطع تيّار “الدولة” التمسّك بالمساحات الجغرافية التي سيطر عليها، وهزمه أيضاً (إلى حين) “العدو البعيد”.
وبالتالي، كان الخلاف، لا بل المواجهة المسلّحة، بين تنظيمَي الدولة الإسلامية والقاعدة، تعبيراً عن وصول ذروة الثنائيات الجهادية إلى قمّة التصعيد بالصراع المسلّح. وعلى ذلك، لا تُعتبر سياسات الجولاني/ الشرع الجديدة، بالإبقاء على مؤسّسات الحكم التابعة للنظام، وإرسال الطمأنات للأطراف الإقليمية، وشعار “فتحاً لا ثأراً”، ومنطق الدولة لا الثورة الذي يتحدّث من خلاله، وتلك الطمأنات للأقلّيات في سورية، خروجاً من الأيديولوجيا السلفية الجهادية، بل تحوّلاً في داخلها، وقد استجاب التيّار التقليدي فيه لتلك الأسئلة منذ “الربيع العربي”، ولعلّ موقفه من المسيحيين (على سبيل المثال) أنعكس في تعامل المعارضة السورية حينها مع مسيحيّي حلب بعد السيطرة عليها، واحترام احتفالاتهم بأعيادهم، فالسلفيون الجهاديون، منذ “الربيع العربي”، يحملون تصوّرَين، فقهي وسياسي، فهم يعتبرون المسيحيين “كفّاراً” في مسلّمة دينية، ويسقطون “أحكام الذمّي” على من يعيش منهم في الدول ذات الأغلبية المسلمة. وبالتالي، يثار سؤال عن جواز استهدافهم، وهنا يبرز التصوّر السياسي بشكل أوضح، حيث يشترطون لتنفيذ هجمات على المسيحيين أن يكونوا “معتدين”، وهو أمر نسبي حسب المكان والتوقيت، إلخ. وهو الموقف الذي لم يتبعه تنظيم ما يعرف بـ”الدولة الإسلامية”، مع الأقلّيات في العراق، بمن فيها المسيحيون، بتعليم أبوابهم بحرف النون (نصارى)، أو الأزيديون الذين مورست العبودية الجنسية ضدّ نسائهم، وتكفير عموم الشيعة (رفضه التيّار التقليدي من السلفيين الجهاديين)، والقائمة تطول.
وبعد إسقاط نظام الأسد، كان الردّ من تنظيم الدولة الإسلامية مقالاً في مجلّة “النبأ”، بعنوان “تدجين وتجنيد”، معتبراً ما حدث “عملية إبدال مدروسة للنظام النصيري (وصف الجهاديين نظام الأسد)، بنظام يحارب الشرع بالشرع. معتبراً أن استخدام “الجهاديين المدجّنين” أسلوباً لمكافحة الإرهاب، بعد أن اقتنع أولئك بأنه “لا جدوى من سلوك سبيل الجهاد لإحداث التغيير المطلوب”، وهو ما يؤشّر على حال القطيعة بين الطرفَين، وفق تصورات كلّ طرف للثنائيات الحاكمة للأيديولوجية الجهادية.
التحدّي الذي يواجهه الجولاني/ الشرع، هو نسج العلاقات، وإدارة الواقع السياسي، بعيداً من إكراهات أيديولوجيته السلفية الجهادية، من دون الخروج منها، وسيواجه بمحكّات ترتبط بكيفية إدارة الفضاء الديني المتنوع في سورية، وإدارة الأطراف السياسية، وكذلك الملفّ الإقليمي المرتبط بأسئلة بنيوية في إيديولوجية التيّار، في ما يتعلّق بعلاقتها بأطراف معينة، وتحديداً تركيا ودول الخليج، والأكثر تحدّياً للأيديولوجية السلفية الجهادية إسرائيل. ففي حين أن هذه الأسئلة تبدو مؤجّلة، وفق التحوّل البنيوي للتيّار، إلا أنّها أسئلة ليست تحدّياً أيديولوجياً فحسب، بل هي ترتبط بمراكز القوى في داخل الهيئة أيضاً، ولعلّ في ما كتب محمد عبد السلام فرج في كتيّبه عن تحرير القدس دالة واضحة: “وهناك قول بأن ميدان الجهاد اليوم هو تحرير القدس كأرض مقدّسة، الحقيقة أن تحرير الأراضي المقدّسة أمر شرعي واجب على كلّ مسلم، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف المؤمن بأنه كيّس فطن، أي أنه يعرف ما ينفع وما يضر ويقدّم الحلول الحاسمة الجارية”، ولعلّ أبو أحمد وجد في الكتيّب ما سيفيد الحركة الجهادية فوافق عليه.
ما زلتُ أذكر نقزة صغيرة، تسبّب بها موت بعوضة على مصباح أبو أحمد، وأنا أهمّ بوداعه، فلم أسمع منه ولا عنه منذ ذلك الحين
العربي الجديد
—————————–
عن الطغيان الذي زال وسوريا التي نريد/ العقيد عبد الجبار العكيدي
الإثنين 2024/12/23
قد يُجيز السوريون لأنفسهم أن يذهبوا بعيداً في التطلّع إلى المستقبل، ويتبادلوا نَخْبَ التفاؤل فيما بينهم، ليس ركوناً إلى مجرّد شعور بالنشوة الغامرة، ولا استسلاماً لطاقةٍ تخييلية مجانية تنقلهم على أجنحة الوهم من واقعٍ بائس إلى عالم افتراضي مزدهر، بل الأصح، هو إيمانهم بأن ما كان حلماً في آذار/مارس 2011، أصبح واقعاً ملموساً يدركونه بحواسّهم وعقولهم وليس أمنيةً تداعب رغباتهم.
فما حدث بين السابع والعشرين من شهر تشرين الثاني/نوفمبر والثامن من شهر كانون الأول/ديسمبر، كان أمراً خارقاً لجميع التوقعات ومتجاوزاً لعموم التحليلات، ليس لأنه فعلٌ سحري عصيٌّ على الفهم، بل لأنه مطابق للوعي المتجدّد القادر على مقاربة القضايا مقاربة تنبثق من الدقة في التشخيص والإخلاص في العمل والقدرة على مجابهة الحقائق بعيداً عن التنظيرات المُستعارة، والمقولات التي تحوّلت إلى موضة كلامية، ولكي تكون الأفكار أكثر وضوحاً وصراحةً، لقد أكدنا مراراً ومنذ سنوات خلت، على أن التعويل المطلق على تناقض المصالح الإقليمية والدولية داخل الجغرافيا السورية، ربما يهيئ مدخلاً مناسباً لاستعادة المبادرة الوطنية، ويتيح المجال لأصحاب الأرض والقضية أن ينظّموا صفوفهم ويرمّموا كياناتهم وأطرهم، ويصحّحوا مفاهيمهم، ومن ثم يعيدون الكرَّة من جديد، أمّا أن يكون أمر التحرّر والخلاص مرهوناً بالمطلق، بدور إقليمي أو مبادرة دولية، فذلك ضربٌ من الوهم الخالص، ولمعرفة مدى مصداقية ما نقول، يمكن الذهاب إلى أن الوقائع تؤكّد زوال الغطاء العسكري الروسي بنسبة كبيرة عن قوات الأسد في معركة ردع العدوان، وذلك بعيداً عن أسباب هذا الانكفاء التي ربما يضيق بها هذا المقال، كما تؤكّد الوقائع أن الحليف الإيراني وأذرعه المتنوعة كان ملجوماً عن المشاركة لأسباب ليست بعيدة عن عملية السابع من تشرين الأول/أكتوبر في غزة وتداعياتها في لبنان وإيران، كما يمكن الذهاب أيضاً إلى أن نظام الأسد بات حالةً موسومة بالعقم المزمن الذي أفضى به إلى التخشّب، فبات عبئاً ثقيلاً حتى على حلفائه ومواليه، ولكن جميع هذه العوامل الموضوعية والذاتية التي أسهمت في تردّي حالة الأسد وتشظّي بنيته العسكرية، ما كان لها أن تثمر لولا انبثاق مبادرة وطنية سورية استطاعت مقاربة الوضع الدولي والإقليمي بدقة، ومن ثم استطاعت استثماره، ليس من خلال مناشدات الدول واستجداء السفارات من أجل الضغط على نظام الأسد، بل من خلال فعل يتجسّد على الأرض ليكون نواةً جاذبة وقائدة في الوقت ذاته للإرادات الدولية، وهذا ما تمّ بالفعل، إذ من الصحيح أن نظام الأسد كان مترهّلاً جداً، وقوّاته تعاني من تفكّك ووهنٍ شديدين، ولكنه حتى لو كان هيكلاً كرتونياً، فإنه سيبقى منصوباً إن لم يجد من يبادر إلى تحطيمه، وهذا ما جسّدته معركة ردع العدوان خلال أحد عشر يوماً فقط.
سقوط نظام الأسد نتيجة مُنجزٍ عسكري ثوري لا يعني أن معركة ردع العدوان كانت أقرب إلى حركة عسكرية انقلابية، ولا يعني كذلك أنها مغامرة عسكرية حققت نجاحها عن طريق الصدفة، بل هي خلاصة لنضالات عظيمة لشعبٍ عظيم أبدى قدرةً قلّ نظيرها على العطاء وبذل التضحيات، لقد قاوم السوريون نظام الأسد بشطريه (الأب والأبن) طيلة عقود طويلة من الزمن، ولم تُثْنهم الوحشية ولا العنف الممنهج ولا السجون ولا استفحال القمع ولا شتى الممارسات الهمجية عن استمرارهم بالنضال والمطالبة بحقوقهم وتحرّرهم من الظلم، لقد عانوا كثيراً من عنف النظام الأسدي في بداية الثمانينيات وشهدوا مجازره المروّعة في حلب وحماة وجسر الشغور، التي أودت بعشرات الآلاف من أرواح السوريين، لقد صبروا على جراحهم وتألموا على معتقليهم وداروا فواجعهم بصبر الأنبياء، حتى بات يظن الكثيرون أن إرادة السوريين قد سُحقت إلى الأبد، ولكن حين أبرقت ثورات الربيع العربي انتفضوا من جديد، وحين أوغل نظام الأسد في العنف لم يقصّروا في التضحيات والعطاء، فقضى من أبنائهم مليون شهيد، واعتقل من أبنائهم وبناتهم ومات تحت التعذيب مئات الآلاف، وصبروا على برد الخيام وحرّها، وعلى مرارة الغربة والتشرّد والتهجير، ولكنهم لم ييأسوا، وحين تحررت بلادهم على يد أبنائهم من الفصائل العسكرية، أشرقت عذاباتهم شوقاً إلى معانقة الحرية والتطلع إلى المستقبل الذي يتمنونه.
أمّا وقد تحرّرت سوريا من قبضة الظلم والطغيان، فقد انزاحت تلك الصخرة الجاثمة على صدورهم والمعيقة لانطلاقتهم، وبات عليهم الانطلاق إلى المستقبل لينهضوا ببلادهم التي تركها الأسد أكواماً من الخراب، ولعل هذه الانطلاقة التي يتطلع إليها جميع السوريين، لا يمكن اختزالها بزهوة البندقية بعد انتصارها، بل بتحوّل تلك البندقية من وسيلة لمقاومة الطغيان إلى أداة لحماية الإنسان والحفاظ على حياته وأمنه وحقوقه، كما ينبغي على من حمل البندقية وحرّر أهله ودياره أن يكلّل نضاله ونهجه الثوري بمسيرة جديدة قوامها بناء مؤسسات الدولة والدفاع عن الحقوق، والعمل تحت سلطة الدستور وما يتفرع عنه من قوانين. فالسلاح الذي حرر البلاد ينبغي أن يحتفظ بمهمته التحررية ولا يبقى مُشرعاً إلا للدفاع عن العباد والبلاد، مُفسحاً المجال لمسارات نضالية أخرى تحتاجها سوريا، ونعني بذلك التنمية بكل أشكالها، والتحديث الإداري والاقتصادي، والتأسيس لعلاقات طيبة مع المحيط العربي والإقليمي والدولي.
لا شك أن أمام السوريين استحقاقات كثيرة وصعبة، ولكنها لن تكون مستحيلة قياساً إلى ما أنجزوه من نصر عظيم، وكما كان انتصارهم بفعل مبادرة وطنية ثورية على يد أبنائهم، فلتكن نهضتهم أيضاً تعتمد على ثقتهم بأنفسهم وقدرتهم على المبادرة، فذلك هو ما يشجع العالم على الوقوف معهم ومساندتهم، ذلك ان العالم يُعجَب بالمبدع ويتعاطف مع القادر على الإنجاز، ويهمل الخامل
المدن،
————————
ما هو مصير ودائع السوريين في لبنان بعد سقوط الأسد؟/ أنديرا الشوفي
23 ديسمبر 2024
قبل اندلاع الأزمة المالية في لبنان عام 2019، قدّرت تقارير غير رسمية حجم الودائع السورية في المصارف اللبنانية بما يتراوح بين 40 مليار دولار و50 ملياراً. في حين قدرها بشار الأسد بما بين 20 مليار دولار و42 ملياراً، وذلك في شهر نوفمبر عام 2020.
هذه الأموال الضخمة التي هربت بسبب تداعيات الحرب الاهلية في سورية وسياسة مصادرة الأموال التي تبناها الرئيس الهارب شكّلت شريانًا اقتصاديًا أساسيًا للمستثمرين ورجال الأعمال السوريين، وباتت اليوم رهينة النظام المصرفي اللبناني المتأزم، مع القيود المشددة التي فرضتها المصارف اللبنانية على عمليات السحب والتحويلات منذ بدء الأزمة المالية قبل نحو خمس سنوات.
تشكّل أزمة هذه الودائع نقطة التقاء مؤلمة بين الاقتصادين اللبناني والسوري، حيث ساهمت الأحداث الأخيرة في سورية، بما فيها التصعيد العسكري وسقوط نظام بشار الأسد وتدهور الوضع الاقتصادي بعد أكثر من عقد على الصراع، في تعميق حاجة الاقتصاد السوري إلى العملة الصعبة.
ربع الودائع في مصارف لبنان
بحسب التقارير الصادرة عن مصرف لبنان واتحاد المصارف العربية، فإن الودائع السورية شكّلت بين 20% إلى 25% من إجمالي ودائع المصارف اللبنانية قبل الأزمة. لكن الأزمة المصرفية المستفحلة في لبنان وتراجع احتياطيات مصرف لبنان من 36 مليار دولار في عام 2016 إلى نحو ثمانية مليارات دولار في 2024 جعلا استرداد الودائع شبه مستحيل. وفوق ذلك، كانت تخشى المصارف اللبنانية خرق “قانون قيصر” الأميركي الذي يفرض عقوبات صارمة على أي تعاملات مالية مرتبطة بالنظام السوري.
ومع التصعيد الأخير في سورية وسقوط نظام الأسد واستمرار الأزمة في لبنان، يتشابك الوضع المالي بين البلدين. في حين أن السلطات اللبنانية تصرّح بأن جميع المودعين متساوون في المعاناة، وسط غياب إرادة سياسية مشتركة ورؤية اقتصادية واضحة، تبقى الودائع السورية في المصارف اللبنانية رهينة للواقع الإقليمي والدولي، ما قد يزيد من حدة التوتر الاقتصادي بين البلدين في وقت تشتد فيه الأزمات وتغيب فيه الحلول الجذرية.
رهان على موسم الأعياد في لبنان لنفض غبار الحرب
اعتبر أحد المودعين المقيمين في لبنان، ورفض ذكر أسمه لـ”العربي الجديد”، أن التقديرات التي تشير إلى حجم الودائع السورية في المصارف اللبنانية لا يمكن الأخذ بها، لأنه يقسم بين مودعين معارضين ومودعين كانوا مؤيدين للنظام قبل سقوطه، موضحاً أن السرية المصرفية تحول دون الكشف عن الأرقام الحقيقية لهذه الودائع.
ومع سياسات حزب البعث وحكم حافظ الأسد وبشار الأسد، أصبح لبنان الخيار المثالي لرجال الأعمال السوريين، نظرًا إلى تسهيلات التحويل المالي وعمليات الاستيراد والتصدير التي يتيحها القطاع المصرفي اللبناني.
وتابع حديثه بالإشارة إلى ردود الأفعال السلبية التي أثارها تعميم الجديد الصادر عن مصرف لبنان المركزي رقم 158 بين المودعين. ورغم ذلك، يعتبر البعض أن القرار يشكّل خطوة، ولو بسيطة، نحو تحسين الأوضاع، وقد يساهم في استعادة بعض المصداقية للنظام المصرفي اللبناني، لكنه يشدد على أن المبلغ الذي يسمح التعميم بسحبه يبقى ضمن إطار “الخيال”، في ظل تعقيد الأزمات الراهنة.
لا تمييز بين المودعين
ومصرفياً، قال الخبير الاقتصادي أنطوان فرح، في حديث خاص لـ”العربي الجديد”، إنه لا يوجد ترابط مباشر بين ما يُعرف بالودائع السورية في المصارف اللبنانية، أو بالأحرى ودائع السوريين، وبين طبيعة النظام في سورية. وأوضح أن الخطط التي تضعها الحكومة اللبنانية لمعالجة الأزمة المالية لا تعتمد التمييز بين الودائع على أساس الجنسية، سواء كان المودع عربيًا أو لبنانيًا أو أجنبيًا، فإن الحلول تُطبق على الجميع بالتساوي، من دون أولوية لفئة على أخرى بناءً على الجنسية.
ووفق فرح، فإن “المصارف اللبنانية لا تستطيع تخفيف القيود المفروضة على المودعين السوريين تحديدًا، لأن هذه القيود عامة وتُطبق على كل المودعين نتيجة الأزمة الاقتصادية وانهيار القطاع المالي في البلاد. وبالتالي، فإن أي حل شامل لمجموع الودائع سيشمل المودعين السوريين كما يشمل غيرهم، من دون أي تمييز”. كما أكد أن الدولة السورية في حال تغيّر نظامها لن تكون قادرة على فرض واقع جديد أو المطالبة بمعاملة خاصة للمودعين السوريين لا تشمل الآخرين.
وأشار إلى أنه من غير المرجح أن يتحول هذا الملف إلى وسيلة ضغط أو أزمة في أي حوار بين الحكومتين اللبنانية والسورية، إلا في حال قررت الحكومة السورية الادعاء بأن بعض الإيداعات التي وضعها السوريون تعود إلى الحكومة السورية نفسها، وتُعتبر أموالًا منهوبة من سورية ومودعة في المصارف اللبنانية.
ووصف الخبير الاقتصادي اللبناني هذا المسار بأنه معقد وصعب الإثبات، حتى لو تمكنت الحكومة السورية من إصدار أحكام ضد بعض الأشخاص باعتبارهم فاسدين وسارقين للمال العام السوري، فإن أقصى ما يمكن تحقيقه هو تحويل هذه الأموال إلى اسم الحكومة السورية، لكنها ستظل خاضعة للحل الشامل الذي تنتظره كل الودائع.
وأوضح فرح أن لبنان شهد محاولات عدة لإحالة هذا الملف إلى القضاء، لكن تبين أن الأزمة ذات طابع نظامي، والدولة اللبنانية هي المسؤولة الأولى عن معالجتها، والقضاء اللبناني لم يفصل في هذا الملف حتى الآن.
كما استبعد فرح أي تدخل خارجي في هذا الملف، مشيرًا إلى أن هناك دولًا كبرى لديها مودعون من جنسياتها، وأموالهم عالقة في المصارف اللبنانية من دون قدرة هذه الدول على التدخل الفعلي.
وأسلف فرح حديثه بالإشارة إلى استحالة رفع قضايا قضائية من قبل الحكومة السورية طالما أن الأزمة نظامية وتمس الاقتصاد اللبناني بالكامل مع القطاع المالي، وأن الحل النهائي يقتضي من الدولة اللبنانية تحمل جزء من الخسائر باعتبارها الجهة المسؤولة عن إنفاق أموال المودعين.
ولفت إلى أن المصارف اللبنانية لديها ديون مستحقة على مصرف لبنان بقيمة 86 مليار دولار، فيما يقول مصرف لبنان إن الدولة مدينة له بحوالي 75 مليار دولار.
وفي السياق، صرّح أحد المودعين السوريين المقيمين في لبنان بأنه في سورية، كان التعامل بالدولار ممنوعًا، ما دفعه إلى نقل أمواله إلى لبنان وإيداعها في أحد المصارف اللبنانية في عام 2014. وأوضح أنه بعد الأزمة الاقتصادية التي عصفت بلبنان عام 2019، لم يتمكن من سحب ودائعه لمدة ستة أشهر.
وأضاف أنه “في وقت لاحق، صدر تعميم سمح له بسحب مبلغ 400 دولار شهريًا بالإضافة إلى 400 دولار أخرى تُحسب على أساس سعر صرف الليرة اللبنانية لمدة عام كامل. أما في عام 2023، فقد تغير الوضع ليصبح سقف السحب الشهري 300 دولار فقط”.
تقديرات بـ40 مليار دولار
من جانبه، أفاد رئيس جمعية المودعين حسين مغنية، في حديث خاص لـ”العربي الجديد”، بأنه يجب تقسيم ودائع السوريين في المصارف اللبنانية إلى قسمين: الأول يشمل الودائع المشروعة التي يُعرف أصحابها، والثاني يضم ودائع أشخاص نافذين ومقربين سياسيًا من النظام السوري السابق، حيث وُضعت هذه الأموال بأسماء أشخاص وهميين أو أقرباء، وليس بأسماء أصحابها الحقيقيين.
وأضاف: لذلك، لا يمكن تحديد الحجم الدقيق لودائع السوريين، لافتاً إلى تصريح رئيس النظام السوري المخلوع بشار الأسد قبل عامين، حينما قال إن قيمة الودائع السورية في المصارف اللبنانية تبلغ 40 مليار دولار، إلا أن الرقم الفعلي أقل من ذلك بكثير، مؤكداً أن هناك ودائع يُعرف أصحابها الذين يطالبون بها، فيما هناك ودائع لم يُطالَب بها خوفًا من الملاحقات السياسية والقانونية.
وأضاف مغنية أن هناك عاملين رئيسيين دفعا السوريين إلى وضع أموالهم في المصارف اللبنانية، الأول يتمثل في النظام المصرفي اللبناني الذي كان يتمتع بالسرية المصرفية، أما العامل الثاني فهو الخوف من سيطرة النظام السوري السابق على هذه الأموال، ما دفع رؤوس الأموال السورية إلى فتح حسابات مصرفية في لبنان، وبرز هذا الاتجاه بشكل كبير بعد اندلاع الثورة السورية في عام 2011، حيث تدفقت الأموال السورية إلى لبنان بكميات كبيرة وغير مسبوقة.
وزير لبناني: لا قدرة لدينا لاستنهاض الاقتصاد بعد الحرب
وأشار مغنية إلى أن الودائع السورية تأثرت كغيرها بالأزمة الاقتصادية التي شهدها لبنان، موضحاً أن المودع السوري، كحال المودع اللبناني، يعاني من نفس الإجراءات والتحديات التي فرضتها الأزمة المالية، من دون وجود تمييز واضح بناءً على الجنسية، واسترداد هذه الأموال، حسب مغنية، يتطلب خطة شاملة من الدولة اللبنانية والنظام المصرفي، وقد تستغرق العملية أكثر من عشر سنوات لتنفيذها.
في سياق متصل، قال الناشط في الدفاع عن حقوق المودعين إبراهيم عبد الله، في حديث خاص لـ”العربي الجديد”، إن الودائع المحتجزة في المصارف اللبنانية تعود لمودعين من مختلف الجنسيات، ومصير كافة المودعين واحد، سواء أكانوا سوريين أم لبنانيين، مشيرًا إلى أن الأزمة الاقتصادية التي يمر بها لبنان أثرت على الجميع بالقدر نفسه، حيث احتُجزت الأموال لجميع المودعين من دون استثناء.
وأشار عبد الله إلى وجود تقصير فاضح من قبل الحكومة اللبنانية في معالجة ملف أموال المودعين بشكل عام، قائلًا إنه لم تُتخَذ أي خطوات فعلية أو تُوضع خطط واضحة لحل هذه الأزمة. وأضاف أن سقوط نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد لن يؤثر على قضية الودائع السورية المحتجزة، حيث إن هذا الملف لا يدخل ضمن أي تدخلات دولية أو اتفاقيات، نظرًا إلى أنه لا يمكن العمل على حل قضية الودائع السورية بمعزل عن أموال المودعين اللبنانيين.
ومنذ عام 2019، يشهد الاقتصاد اللبناني حالة من الانهيار شبه الكامل، حيث فقدت العملة الوطنية نحو 95% من قيمتها، وأصبحت البنوك تفرض قيودًا صارمة تمنع معظم المودعين من الوصول إلى مدخراتهم. هذا الوضع أدى إلى انزلاق أكثر من 80% من السكان تحت خط الفقر.
العربي الجديد
————————————
تحديات مخاض ولادة سوريا وشرق أوسط جديدين!/ د. عبد الله خليفة الشايجي
تحديث 23 كانون الأول 2024
أحدث سقوط نظام الأسد زلزالا سياسيا بارتدادات ديناميكية غير مسبوقة، انتكاسة لروسيا، وإيران ليكون عام 2024، الأكثر كارثية على إيران ومحورها ومشروعها.
ونشهد تغيرا كبيرا في موازين القوى وفي تحالفات إقليمية، وصعود قوى وتراجع قوى أخرى، يدفع ذلك لتشكيل نظام شرق أوسطي جديد؟! وذلك تطبيقا لما يكرره نتنياهو برؤيته «لشرق أوسط جديد»- تحضيراً لرئاسة ترامب وإدارته التي ملأها بالمتشددين والموالين لإسرائيل ومواقفها وحربها على الفلسطينيين واستمرار حرب إبادتها على غزة للشهر الخامس عشر، وسط توقعات متشائمة بأن تكون مواقف ومقاربة ترامب شخصيا وإدارته مختلفة عن السياسة المنحازة والمصطفة كلياً مع الموقف الإسرائيلي المتطرف الذي لا يؤمن للفلسطينيين حقوقا بالوجود وحق قيام دولة فلسطينية، حسب رؤية الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ عقود.
يشكّل سقوط نظام الأسد فرصة نادرة لسوريا وللمنطقة لاستثمار ذلك التحول الكبير في واقع المنطقة للانخراط بعمل جدي لخفض التصعيد والعمل الجماعي بين الدول الفاعلة والنظام العربي ككل، وكذلك مع الدول الإقليمية التي لعبت وتلعب دورا مؤثرا فيما يجري من تفاعلات سواء في سوريا وأدوار إسرائيل وتركيا وإيران.
واليوم بعد أسبوعين من سقوط نظام الأسد وفراره إلى موسكو وتحوله لعبء حتى على بوتين- لانتهاء صلاحيته والفائدة منه- تاركا أقرب حلفائه وجيشه وزبانيته وأبواقه الذين مكنوه من حكم سوريا في الداخل، وحلفاء الخارج، بإذلال وقمع السوريين لأكثر من خمسة عقود من حكم آل الأسد- تقف سوريا والمنطقة على مفترق طرق.
ومع تراجع نشوة الاحتفالات بالنصر وبدء عمل الحكومة الانتقالية لمدة ثلاثة أشهر، وإعادة فتح السفارات وتقاطر الوفود الرسمية وخاصة الأوروبية والأمريكية في تناقض واضح بالتواصل الرسمي مع «أحمد حسين الشرع» زعيم «هيئة تحرير الشام»-أو «أبو محمد الجولاني» قائد «هيئة تحرير الشام» المصنف كإرهابي! لتجتمع مع الشرع يوم الجمعة الماضي باربرا لييف مساعدة وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى! وتُلغي مكافأة 10 ملايين دولار وتصف أحمد الشرع بالبراغماتي والعملي وتُشيد بالمناقشات معه، وتعلن دعم إدارة بايدن عملية سياسية تُفضي لتشكيل حكومة جامعة لا تستثني أحداً. وحتى إعادة النظر بدعم قوات سوريا الديمقراطية (الأكراد)لإرضاء تركيا- وتقديم دعم فني لمساعدة الحكومة السورية الانتقالية بتوثيق جرائم الأسد، وأولوية لتوثيق جرائم مقابر النظام الجماعية.
ترى الولايات المتحدة، أنه لم يعد هناك دور لإيران في مستقبل سوريا ولا ينبغي أن يكون لها دور.. ولطمأنة مكونات المجتمع في الداخل وكسب ثقة الخارج الذي يراقب عن كثب المشهد السوري، أعلنت الحكومة الانتقالية بدء حوار وطني بين مختلف الكتل والفصائل والمجتمع المدني في سوريا، لا يقصي أي طرف على خلفية دينية أو عرقية أو أثنية.
واضح أولوية الشرع بلقاءاته مع المسؤولين الغربيين الزائرين الأمريكيين والبريطانيين والفرنسيين وغيرهم هو رفع العقوبات التي فُرضت على النظام السابق، وإزالة هيئة تحرير الشام والشرع نفسه من قائمة الإرهاب، لأن المنطق لا يمكن الاجتماع والتعامل مع شخصية مصنفة إرهابية!
واضح أن الشرع يطبق خطة مدروسة وذكية لطمـأنة الأطراف المشككة بنواياه وأهدافه. ويحاول إعادة إنتاج نفسه بعيداً عن سجله ومواقفه، فقد سبق انتماؤه لتنظيم القاعدة وقاتل في العراق واعتقل من القوات الأمريكية وسجن ليخرج ويشكل جبهة النصرة في سوريا، ثم يشكل ويقود هيئة تحرير الشام- ويقاتل تنظيم داعش في سوريا. واليوم يتحول الشرع إلى العقلانية والاعتدال، ويقدّم خطابا معتدلا، بعدما تخلّى عن البزة العسكرية إلى اللباس المدني والبدلة، وغيّر شكله وقصّر لحيته. وطمأن الداخل وخاصة الأقليات السورية من علويين وأزلام النظام وحتى جنرالات وجنود النظام السابق بتقديم تسوية لأوضاعهم. ليبدو نظاما يشمل الجميع دون إقصاء. كما أن حكومة الإنقاذ المؤقتة ترسل رسائل طمأنة للغرب، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، وتشكيل حكومة جامعة لجميع الكتل والتيارات والأقليات. وتنبذ الإرهاب برغم بقاء الشرع وهيئة تحرير الشام على قائمة الإرهاب. من مطالب الولايات المتحدة التي تفكر برفع الشرع وهيئة تحرير الشام من قوائم الإرهاب، عدم السماح بعودة تنظيم داعش، اغتالت قوات القيادة الوسطى الأمريكية زعيم التنظيم أبو يوسف في سوريا بعملية نوعية في دير الزور الجمعة الماضي. وضمان حقوق الأقليات، وتدمير مخزون السلاح الكيمياوي والبيولوجي.
تُثار أسئلة مشروعة من السوريين والمعنيين في المنطقة وخارجها حول مستقبل سوريا، وكل طرف يسعى لتحقيق مكاسب، أبرز هذه الأسئلة عن مستقبل قيادة أحمد الشرع و»هيئة تحرير الشام»، وعلاقتهم مع مكونات الداخل السوري ومع الدول الإقليمية والغرب وخاصة الولايات المتحدة وأوروبا. وأبرز تحد في ادماج مكونات وفسيفساء المجتمع السوري وأقلياته من علويين وشيعة وأكراد ومسيحيين. وكذلك مواجهة توسيع الاحتلال الإسرائيلي والاقتراب من العاصمة دمشق بعد تدمير القدرات العسكرية السورية بعدوان متكرر. وكذلك تبرز تحديات تحضيرات تركيا لشن عملية ضد الأكراد في الشمال، وطمأنة الجيران في لبنان والأردن.
وهكذا نشهد بوضوح تغير موازين القوى في سوريا، وتصاعد عربدة وعدوان إسرائيل وصولا إلى إيران واليمن. ما يُهدد الأمن الإقليمي كما نشهد في لبنان وبعد سقوط نظام الأسد، باحتلال المنطقة الفاصلة في الجولان وجبل الشيخ- وحجة نتنياهو أن ذلك لأسباب أمنية ولمنع وصول الميليشيات المتطرفة إلى الحدود. وصدّقه الأمريكيون ودافعوا عن منطقه أن «الوجود العسكري مؤقتاً (الاحتلال)، بينما هو غير شرعي لخرقه اتفاق وقف إطلاق النار لعام 1974 بعد حرب أكتوبر-تشرين الأول 1973.
لكن هل تشكل المتغيرات الكبيرة إدعاء نتنياهو أن حرب الجبهات السبع «غيّرت الشرق الأوسط»؟!
٭ أستاذ في قسم العلوم السياسية ـ جامعة الكويت
القدس العربي
——————————-
سوريا الجديدة… ضغط الخارج وزوبعات الداخل/ إحسان الفقيه
تحديث 23 كانون الأول 2024
نجحت الثورة السورية، وسقط أشد الأنظمة العربية استبدادا وديكتاتورية، وتنفس السوريون الصعداء، عاد الغائب، وأمِن الخائف، ورأى المغيبون في السجون شمس النهار مرة أخرى، ولكن كالعادة، تواجه مرحلة الانتقال من الثورة إلى الدولة عقبات وعراقيل داخلية وخارجية.
الغرب يساوم القيادة السورية الحالية، فيلاحق إعلاميوه الجولاني بأسئلة تفصيلية، تدور في فلك تحديد المسافة بين واقع الدولة المقبل والحكم الإسلامي، بهدف ابتزاز الثورة بورقة الاعتراف الدولي بشرعيتها، مقابل التماهي مع الأجندة الغربية، التي تريد التحكم في الهوية السورية.
يحومون حول قضايا حرية المرأة وحقوقها، وهم الذين صمتوا عن قتل واغتصاب الآلاف من السوريات في سجون الطاغية، وتركوا النازحات يواجهن الموت فرارا من البطش، ومن تنجو منهن تعيش في خيمة لا تختلف عن العراء كثيرا.
هو ذاته موقفهم من النساء في غزة، اللاتي يتم إبادتهن دون رحمة، وتُركنَ يأكلن من خشاش الأرض، وأُهدر حقهن في الحياة، فعن أي حقوق للمرأة يتحدثون؟ حقوق المرأة التي ينشدون الاطمئنان عليها في الواقع السوري، ليست سوى المظاهر العلمانية التي لا يقبلها الإسلام ولا التقاليد المحلية المحافظة، حقوق المرأة التي يعنونها هي التحلل من أي ضابط لهيئتها ولباسها، ومزاحمة الرجل في نطاق اختصاصه ومهامه، بدعوى المساواة بين الجنسين، والحق المزعوم في اختيار أحد الأشكال الشاذة للأسرة التي يحاول الغرب تصديرها، من خلال مؤتمرات السكان وتعافها الفطرة السليمة، تلك حقوق المرأة التي ينشدونها في المجتمع السوري.
يسألون عن مصير الخمر في حياة السوريين في ظل القيادة الجديدة، وكأنها مسألة مصيرية، وكأن أمان السوريين واستقرارهم مرهون بإباحة شرب الخمور، في الوقت الذي كانوا يغضون البصر عن كميات المخدرات المهولة التي كان يصدرها نظام الأسد وجنرالاته للدول الأخرى، لكنهم لم يتطرقوا إلى الحديث عن المخدرات، لأن القانون يجرمها بالأساس، أما الخمر فهي محرمة دينيا، مع أن الخمر والمخدرات كلاهما يذهب ويفسد العقل والبدن. يتحدثون عن حقوق الأقليات، وكأن هذه الأقليات كانت تنعم بالأمن والسلام ورغد العيش في ظل حكم الطاغية بشار، الذي أذل جميع الطوائف والقوميات والعرقيات، مع أنه كان يطرح نفسه على أنه حامي الأقليات مقابل الأغلبية السنية، ويُسأل عن ذلك المسيحيون الذين آثر عدد كبير منهم الهجرة في ظل حكم بشار، كما هاجرت شريحة من الأرثوذكس اليونانيين إلى روسيا طلبا للحماية، فالحاصل أن بشار لم يكن يحمي الأقليات، وإنما كان يحتمي بها من المجتمع الدولي. المسلك الغربي مع الحكومات الجديدة معروف وواضح، إما الاستجابة لأجنداته، وإما عزلة دولية تطوق هذه القيادة وتؤدي إلى اقتصاد هش وأوضاع داخلية مضطربة.
أما في الداخل، فبعد أن كانت الأصوات المعارضة لنظام بشار خامدة منزوية في جلدها، بسبب سياسة الحكم القمعي الذي ينال من مستخدم لمواقع التواصل الاجتماعي لمجرد علامة إعجاب يضعها على تغريدة لأحد المعارضين، انطلقت بعد سقوط هذا النظام أصوات تتجمهر وتتظاهر من أجل المطالبة بدولة علمانية وعدم القبول بحكم الإسلاميين.
وقطعا هذا أمر طبيعي بعد أن يتنفس الناس الصعداء ويتنسمون الحرية بعد الكبت والقهر، وبعد أن يجد كل صاحب فكر أو أيديولوجية المجال لأن ينافح عن مشربه ومنحاه وأفكاره ويريد لها السؤدد. لكن المشكلة تكمن في أن هذه المطالب يتم طرحها في توقيت حرج، في مرحلة انتقالية للثورة إلى دولة مؤسسات، وكان الأولى هو اصطفاف الشعب حول قيادته الجديدة التي قادت مسيرة إسقاط النظام وتخليص الشعب السوري منه. كان الأولى هو وحدة الصف والتعاضد مع القوى التي أنقذت الشعب السوري، للتخلص من آثار حكم الأسد، الذي ترك خزينة الدولة فارغة، وخلّف إرثا من الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية يحتاج إلى عقود من أجل إعادة بنائه.
لقد أثبت النظام البائد بما لا يدع مجالا للشك، أن أية سيناريوهات مستقبلية لسوريا لا يمكن أن تضاهي ما كانت عليه البلاد في عهد بشار، بعد أن ظهر للعلن ما كان غائبا أو مغيبا عنا، فما مارسه هذا النظام بحق الشعب السوري سيظل أحد أبشع الكوارث التي تضمنتها صفحات التاريخ، سوف تذكر الأجيال القادمة مآسي سجن صيدنايا، كما نذكر إلى اليوم محاكم التفتيش في إسبانيا، فلم الخوف والقلق من الحكومة المقبلة مهما كانت توجهاتها؟
أتفهم أن هناك مخاوف من خلفية القيادة الجديدة، وتحديدا من الارتباط السابق للجولاني بـ»القاعدة» و»جبهة النصرة»، لكن الأيام كفيلة بإنضاج الفكر وبلورته وفق متطلبات الدولة لا الجماعة، والرجل يعي أن مقومات وجود قوات المعارضة في الحياة الجديدة بسوريا هي التوافق الوطني والتعامل وفق الدستور الذي يتوافق عليه السوريون، دون إقصاء أي من أطراف المكوّن السوري، على مبدأ سوريا للجميع، فلا مجال في الحالة السورية للحكم الفردي مرة أخرى. الضامن لتحقيق ذلك هو الشعب السوري نفسه، الذي ازداد وعيا إلى وعيه، بعد أن ذاق الأمرّين تحت حكم الطاغية، هذا الشعب الذي عرف طريق الثورة، لن يسمح لأية قوة حاكمة بالاستبداد، بعد أن استمد جسارته من طول أمد المعاناة، إضافة إلى ذلك، فإن أية حكومة جديدة تعلم جيدا أن التجربة السورية سوف تكون محل أنظار العالم أجمع، وكما أن هناك من يستبشر هناك أيضا من يترصد ولن يتوانى في اصطياد أية مظاهر طائفية أو عنصرية لحكم الإسلاميين ـ على افتراض وجوده – وكلنا يعلم أن الجولاني الذي يمثل القيادة العليا في الوقت الراهن يسلك مع الغرب مسلك المقاربة، لأنه لا يرغب بعزل سوريا، بل يأمل في إقامة علاقات جيدة إقليما ودوليا ما يتيح للقيادة الجديدة العمل في أمان لإعادة بناء سوريا، حتى ما يتعلق بالاحتلال الإسرائيلي للجولان.
ليس هناك مبرر للمخاوف من حكم ذي صبغة إسلامية، فالحكم الإسلامي ليس هو «داعش» وقطع الرقاب، وليس حمْل الناس على مجموعة من الاختيارات الفقهية التي تغلب جانب الاحتياط، بل هو حكم على مبدأ الشورى وتداول السلطة، ورعاية وحفظ حقوق الأقليات على مبدأ المواطنة، والتوسعة على الجماهير في ما اختُلف فيه في الفقه الإسلامي، وإرساء قيم العدل والرحمة والتسامح، والمساواة أمام القضاء، وهذا كله قد نظّر له الجولاني في هذه الآونة، وأعتقد أن الرجل لن يتنكر لذلك ولن يستطيع.
الشعب السوري بحاجة إلى وحدة الصف وإعلاء المصالح العليا للوطن، لاجتياز هذه المرحلة الحرجة، التي يساوم فيها الغرب القيادة السورية ويبتزها مقابل الاعتراف بها، والاصطفاف حول الحكومة الجديدة وحده هو الذي تستطيع من خلاله سوريا النجاة من هيمنة الغرب، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
كاتبة أردنية
القدس العربي
————————–
هواجس على هامش حكم أحمد الشرع/ إياد الجعفري
الإثنين 2024/12/23
قتيبة أحمد بدوي، أحد الأسماء التي يجب أن يقف عندها السوريون، مطوّلاً. ففي زحمة الانشغال بالسياسة وتعقيداتها، تتقدّم الدائرة الضيّقة المحيطة بالنسخة السابقة من أحمد الشرع -الجولاني-، لتمسك بمفاصل الاقتصاد، في عموم سوريا. فـ”المغيرة البنشي”، كما كان يُعرف في نُسخة حكم الشرع لإدلب، كان يومها، أحد أبرز مسؤولي الملف الاقتصادي والمعابر الحدودية، في ذلك الجيب المناوئ للنظام المخلوع. وقد أصبح اليوم، مديراً عاماً للجمارك السورية.
كُثرٌ سيُصوّبون بصورة آنية على الكلمات السابقة، بوصفها من ملامح التوطئة لـ”ثورة مضادة”، أو نقداً مُتسرّعاً، يجافيه التوقيت السليم. وسيقول قائل، من هؤلاء الكُثر، إنه من الطبيعي أن يعيّن الشرع المقرّبين منه، من الموثوقين لديه، للإمساك بزمام الأمور، في هذه المرحلة الانتقالية الخطرة، في تاريخ البلاد. فالنظام المخلوع، له أتباعه، في الداخل، وفي دول الجوار. ناهيك عما يُحاك إقليمياً، على الأرجح، من جانب أطراف غير مرتاحة لما حدث في سوريا.
وكان يمكن لنا الاتفاق بنسبة كبيرة مع هؤلاء الكُثر، لولا التعيينات المرتبطة بالولاء، وفي بعض الأحيان، بالقرابة الشخصية. إذ يُعتقد على نطاق واسع، مثلاً، أن قتيبة بدوي، مدير الجمارك الجديد، هو شقيق زوجة الشرع. لكن الأمر لا ينحصر بهذه الحيثية فقط، بل يتعداها إلى تصريحات وإجراءات تدّل على نيّة الحكام الجدد، الاستفراد بالسلطة على المدى البعيد.
فإذا بدأنا بتصريحات الشرع ذاته، تكفي الإشارة إلى حديثه في لقاء موسّع مع الإعلاميين بدمشق، قبل نحو أسبوع، عن أن حكومة تصريف الأعمال، تضع “الخطوط العريضة” لمستقبل السوريين. وهو تصريح يتضارب مع تكليف رئيس الحكومة محمد البشير، بإدارة فترة مؤقتة تنتهي في آذار/مارس المقبل. تحديد الفترة المؤقتة، بثلاثة أشهر، بحد ذاته، ينبئ بعدم جدّية، أو بتسرّع وتخبط، إن أحسنا النوايا. فرسم “الخطوط العريضة” لمستقبل السوريين، يجب أن يكون مهمة هيئة تمثيلية مُنتَخبة من عموم السوريين. لكن هل من المتاح، ضمن الظروف الواقعية القائمة الآن، الوصول إلى هذه الهيئة، في غضون ثلاثة أشهر!
أيضاً، سيصوّب كثيرون على كلامنا الأخير، استناداً إلى تصريحات الشرع لـ”بي. بي. سي”، والتي تحدث فيها عن مؤتمر وطني جامع للسوريين، سيؤسس مجلساً استشارياً يملأ الفراغ البرلماني والدستوري خلال الفترة المؤقتة. مؤكِّداً قبوله بمبدأ حق الناس في اختيار من يحكمهم ومن يمثّلهم. وهي تصريحات مطمئنة جزئياً، لولا الضبابية التي تلفها، على صعيد التفاصيل، والأهم، على صعيد المواعيد. فإشارة الشرع في التصريحات إياها، إلى عدم توافر البنية التحتية المناسبة لإجراء انتخابات في الوقت الراهن، مقلقة.
النقطة الأخيرة، مثال يدل على سمات حكمت تصريحات وإجراءات الحكم الجديد. فهي توحي بالمدى البعيد لنوايا رجالاته، والضبابية في مخططاتهم، والتخبط في تصوراتهم. مثال آخر على ذلك، حديث رئيس الحكومة البشير، عن زيادة الرواتب بنسبة 300%، فيما وعد الشرع بزيادة تصل إلى 400%. وعود لم يتضح إن كانت مبنية على دراسة دقيقة للإمكانات المتاحة في الخزينة السورية المنهوبة. ناهيك عن مخاطر التضخم المرتقب في حال تنفيذها، من دون حساب مدروس بدقة من اختصاصيين.
ونجد في تصريحات المدير الجديد للجمارك السورية، ما يدل على ما خلصنا إليه، أعلاه. فهو أطل عبر “الوطن أون لاين”، بتوصيف للواقع المزري لمؤسسة الجمارك، إدارياً وفنياً. واستبق هذه الإطلالة بقرار حلّ فيه الضابطة الجمركية بكافة تشكيلاتها ومسمياتها، بنيّة إعادة تشكيلها على الشكل الذي يخدم الصالح العام للبلاد، وفق تعبير القرار الصادر عنه، قبل أيام. أما الضابطة الجمركية ذاتها، فهي غير مأسوف عليها، لدى غالبية عظمى من السوريين. فهي كانت مافيا مختصة بابتزاز السوريين، لا لخدمة صالحهم العام. وهذا موضع إجماع. لكن المشكلة تكمن بالإيحاءات والتناقضات التي تفيض بها تصريحات المدير الجديد للجمارك. فهو تحدث عن إلغاء رسوم جمركية عدة، لتخفيف التكاليف عن كاهل المستوردين، والتي كانت تُضاف إلى أسعار المبيع النهائي للمستهلك. كما وتحدث عن تحرير استيراد السلع من جميع القيود، ولجميع المواد غير الممنوعة بحكم طبيعتها “القانونية والشرعية”. موضحاً أن ذلك سيتحقق عبر “قرارات متتابعة”. الإشارة إلى طبيعة “شرعية” للمستوردات، تفيض بإيحاء “الأسلمة الرسمية” المثير للمخاوف من جانب شريحة كبيرة من السوريين. لكن الأخطر من ذلك، التضارب بين الإشارة إلى “تحرير الاستيراد من جميع القيود”، بالتزامن مع الإشارة في التصريحات نفسها إلى النيّة في إصدار تعرفة جمركية تحفظ حقوق التجار والصناعيين والمزارعين من منافسة البضائع الأجنبية، من خلال “تطبيق سياسة الحماية الجمركية للصناعات والمنتجات المحلية”.
فحديث مسؤولي حكومة الشرع، في أكثر من مناسبة، وفي أكثر من اجتماع، عن اتجاههم نحو “اقتصاد السوق الحرّ”، أثار قبولاً وترحيباً لدى شريحة من مجتمع الأعمال السوري، تحديداً، التجار. لكنه في الوقت نفسه، أثار مخاوف صناعيين واقتصاديين، من أن يعني ذلك، تحوّل سوريا إلى سوق لتصريف السلع الأجنبية، تحديداً، التركية، على حساب الصناعة المحلية والعمالة المرتبطة بها، والتي تحتاج إلى عناية فائقة، جراء سياسات النظام المخلوع، التي أضرّت بها بشدة، في السنوات الأخيرة.
وما بين “تحرير” و”حمائية”، تتفاقم الضبابية والغموض حول رؤية الممسكين بزمام الأمور في سوريا، اليوم. ضبابية وغموض، يمتدان إلى حقل الاقتصاد، آتيان من حقل السياسة ذاتها. فالشرع، الذي أكد في حديثه لـ”بي. بي. سي”، أنه غير مهتم كثيراً بما يقال عنه في الخارج، وأن ما يهمه هو أن يصدقه الشعب السوري، لم يُكلّف نفسه عناء الحديث بصورة مباشرة وفي حديث مستفيض، لهذا “الشعب” ذاته، عبر وسيلة إعلامية يتابعها، ليوضّح اللبس حول الكثير من تصريحاته ومواقفه وإجراءاته. وبدلاً من ذلك، كانت أبرز إطلالتين له، عبر “سي. إن. إن” الأميركية، و”بي. بي. سي” البريطانية. وركّز فيهما، بصورة أساسية، على هواجس الغرب حياله، لا على هواجس السوريين.
تعقبياً على كل ما سبق، لا تتأتى الهواجس من إدارة الشرع ودائرته الضيقة للمشهد السوري، من تصريحاتهم وإجراءاتهم الراهنة فقط، بل تتأتى كذلك من تجربة حكمهم لنحو سبع سنوات في إدلب، قبل وصولهم إلى دمشق. تلك التجربة كانت أقل وطأة في سلبياتها من نظام الأسد، بمرات. هي حقيقة يمكن الإقرار بها. لكن من حيث النوعية، كان نظام حكم الشرع في إدلب، نسخة ملطّفة من نظام حكم الأسد. حتى أن قتيبة بدوي، المدير الحالي للجمارك، اليوم، كان أحد المُتَهمين يومها بالمسؤولية عن حلقات الاحتكار المعقّدة التي أنشأها في اقتصاد إدلب المتواضع.
ولأننا ما زلنا نراهن على نضج سياسي ورُشد إداري، لدى الشرع شخصياً، ما زلنا نأمل أن يُولّي وجهه شطر مخاوف وهواجس السوريين، وأن يخصهم بحديث وإجراءات تطمئنهم، بأن مستقبلهم الذي يرسم اليوم “خطوطه العريضة”، لن يكون نسخة ملطّفة من ماضيهم في ظل آل الأسد. ويكفي لتنفيذ ذلك، تحديد تصور واضح لفترة حكمه المؤقتة، وحدود مسؤولية رجالاته المعينين في مواقع المسؤولية، بوصفها أدواراً مؤقتة. وتقديم تعهد صريح بذلك. مع الإقرار بحقّه مع من معه بامتلاك طموح حكم سوريا، شريطة أن يكون ذلك نتيجة صندوق الاقتراع، وبقيود قانونية ودستورية، لا أن يكون نتيجة الغلَبة بالقوة المسلحة، وبوصفه أمراً واقعاً.
المدن
—————————
ذهول سوري قبيل رأس السنة/ محمود الرحبي
23 ديسمبر 2024
العام الذي يوشك على الانتهاء ربّما من أكثر الأعوام في حياتنا التي ألصقنا فيه أعيننا على موانئ وشاشات هواتفنا وحواسيبنا ليل نهار، نتابع كلّ جديد، رغم أنّ هذا الجديد ليس كذلك بالمعنى الصحيح إلّا في جدّة تنوّع مشاهد العنف فيه، بل هو امتداد لعامٍ سابقٍ من حيث قوّة المجازر وعنفها، التي ترتكب ضدّ أهلنا في قطاع غزّة، أمام صمت العالم ولامبالاته. عام آخر من العار في عالم تمنّينا لو لم نعش فيه، وربّما غبطنا آباءنا وأجدادنا الذين عاشوا في زمن يمكن اعتباره رومانسياً قياساً بزماننا، رغم صعوبات عيشهم وبعدهم عن السهولة ووسائل الترفيه التي في زمننا، وكأنّ ما يحدُث في فلسطين هو بوصلة وترجمان شعورنا وأحوالنا.
وعلى المستوى الشخصي، كان قليل من الأسفار وكثيراً من القراءات في هذا العام. ربّما القراءة هي العزاء المناسب لمراوغة الوقت وتبديد ثقله، إذ أمضي أوقاتاً جيّدةً في المقاهي، وعادة بصحبة كتاب، وأحياناً مرَّتَين في اليوم. رفض صاحب المقهى الذي أرتاده يضيف أضواء إلى شجرة عيد الميلاد التي جلبها عمّال المقهى الفيليبينيون، وقد تفهّموا ذلك جيّداً في حوار لي مع أحدهم. وعرفت أنّ السبب هو التضامن مع غزّة. والآن، نتابع الموضوع السوري الذي لا يصعب ملاحظةَ أن ثمّة ذهولاً ما زال يخيّم على مشاعر السوريين، بخاصّة المثقفين منهم، وهو أمر يمكن ملاحظته بسهولة، وكأن نهاية النظام السوري كانت مرحلةً لا بدّ منها، في توافق دولي على ضرورة وقوع هذه النهاية في هذا التوقيت، وكأنّما سئمت الدول المحرّكة للمشهد العربي والفاعلة فيه من بلدٍ اختُرِق من كلّ الجهات.
يتعلق الذهول أيضاً بعدم استيعاب كمّية الخراب والدمار اللذين حلّا بالبلد في حكم هذه العائلة المجرمة بلا حدود، وبلا أي نموذج سابق لها، لا أحد يستوعب بسهولة ما نتج من أكثر 50 عاماً، إذ انتشرت خريطة العنف السرطانية لتحصد كلّ شيء، وهو ما تُنبِئ به المعتقلات والمقابر الجماعية، وتجاوز الدمار البنية العمرانية للدولة، ليتسلّل إلى البنية الذهنية السورية، على اختلاف الفسيفساء السورية وتنوعها من مذاهب وأعراق وثقافات، خراب بنيوي وذهني عام وشامل ومتجذّر.
وأنا أتابع كلّ يوم (بل كلّ ساعة) حوارات وبودكاسات وفيديوهات في مختلف القنوات، كما أقرأ كتابات الأصدقاء في جدرانهم الزرقاء (فيسبوك)، إلى جانب لقاءات مع المواطنين والطلاب في دمشق ومحافظات سورية. يسيطر الذهول والصمت المتردّد والحيرة، وكأنّ الخراب عام وكارثي، طاول حتى الإيمان وآليات التفكير وبواعث العمل، وهو ما تُنبِئ به الحوارات التي تنمّ عن ذهول وحيرة في التفكير وفي تنظيم الأولويات، لأنّ المجهول أكثر ما يسيطر على شعور السوريين، ويجعلهم يعيشون صمتاً مركَّباً. لاحظت أيضاً أنه حتى مشاهد عودة السوريين إلى بلدهم ولقاء أهلهم ليست طبيعية، فهم يعيشون ذهولاً يسهل تبيّنه من سطح الملامح، فما بالنا بأعماقها.
شعور من عدم التصديق وشعور باللامتوقّع، وانعدام التركيز بين ما يريدون وما يتوقّعون. وكأنّ الجميع كان يعيش أزمةً عامّةً، بدأت الآن تأخذ صورةً حذرةً من التلاحم والتشارك بعد أن كان بعضهم غرباء عن بعض، وكأنّ كلّ مجموعة في سورية كانت تعيش في كانتون خاصّ بها، لقد جذّر النظام الأسدي المجرم غياب أي مبدأ للوطن، وغياب أيّ طقس من طقوس المشاركة والتكامل، فكان الخوف يشلّ الحياة ويمنع الجميع من أيّ نوع من المشاركة، في ظلّ نظام يمكنه أن يسجن ويعذّب مواطنيه لمُجرَّد وشاية. الخوف من كلّ شيء ومن كلّ أحد كانا السائدين بين السوريّين، خاصّة بين سوريّي الداخل، لذلك تشكّلت أزمة ثقة حقيقية لكلّ ما هو جديد، في بلد كان عدد المعتقلات والسجون فيه أكثر من عدد المدارس، كما قال مرّة ياسر العظمة في إحدى حلقات مسلسل مرايا. فالاستيقاظ من كارثة عميقة سيحتاج إلى أعوام من العمل الجادّ.
أتمنى أن يكون العام المُقبل أبهى وأصفى فلسطينياً وسورياً، وكما اعتدنا أن نقول: “كلّ عام والعالم بخير”.
العربي الجديد
——————————-
مصر وسورية: ليس في يناير ما يخيف/ وائل قنديل
23 ديسمبر 2024
بحسابات المنطق ومعادلات الكيمياء وخلاصات التاريخ، ليس ثمّة ما يدعم احتمالية استنساخ التجربة السورية في مصر. ومع ذلك، يبدو أن ما جرى في سورية أشعل كل الأضواء الحمراء، وأطلق صفارات الإنذار في الدوائر الرسمية والإعلامية، وكأن التغيير يقف بكامل أسلحته على الحدود.
لا أحد في مصر يريد تغييراً بقوة السلاح، أو يفكر بهذا مجرد تفكير، ليس لأن القدرة منعدمة فقط، بل كذلك لأن هذا النمط من التعاطي مع حالة استبدادية متجذّرة لا يجد ما يقابله في حالة الثورة المصرية التي عرفت مساراً مغايراً وناجحاً، سياسيّاً بالطبع، قبل أن يتحالف ضدّها كل الأوغاد ويقتلونها في ذروة تألقها، فضلاً عن أن جمهور هذه الثورة الحقيقي لا يزال متمسّكّاً بقيمها وطبيعتها، بوصفها إبداعاً جماعيّاً يتجلى في السلوك الحضاري، وفي عذوبة نحت الشعارات، وفي بشاشة الهتافات، وفي إرادة التلاحم والتعايش بين المختلفين في الفرع، المتفقين في الأصل، المتمايزين في الشكل، المتّحدين في الموضوع وعليه.
والحال كذلك، ليست مفهومة هذه الحالة من الهلع التي تسكن الخطاب السياسي والإعلامي لأهل السلطة في مصر هذه الأيام، وهي الحالة التي كانت تنتابهم في سنوات مضت، كان فيها بعض النبض في الجماهير، وبعض القدرة على الجهر بالحقّ في الحلم من جديد أو استعادة الحلم القديم، فكان الإفراط في التخويف من العنف والإرهاب والربط بينهما وبين الثورة وإرادة التغيير، وهو الأمر الذي تصوّرنا أنه توقف تماماً بعد نجاح القبضة الأمنية الباطشة في أن تكسر عظام الحالمين بالديمقراطية والحرية، والإعلان عن القضاء على الإرهاب في سيناء، والتصالح مع “أهل الشر” السابقين، حيث كانت عملية استدعاء “حرب الشائعات” التي تتهمهم السلطة بتحريكها عدواً بديلاً للإرهاب المحتمل (2013) والمناخ التشاؤمي (2017)، فأصبح إعلام التواصل الاجتماعي، أو إعلام المواطن العادي، هو الخطر الذي توجه له هذه السلطة مدفعيتها.
ماذا حدث، إذن، لكي ترتدّ السلطة الخائفة إلى الوراء، وتعيد مضغ ما كانت قد توقفت عنه سنوات، لتحذّر، مجدّداً، من خطط نشر الأكاذيب في مصر، وتتهم مواقع التواصل الاجتماعي بأنها عادت تستخدم في تحريك الأوضاع داخل مصر، من خلال ما وصفها عبد الفتاح السيسي قبل يومين لدى زيارته وزارة الداخلية بأنها “خطط يتم وضعها في هذا الإطار منذ سنوات، والأمر مستمر”. ثم يقول “ده مش حاجة داخلية.. لأ.. الشغل ده بيتعمل من أجهزة مخابرات.. من حقّ الناس إنها تفكر إنها تخرّبنا ما زال يتردّد حتى الآن قدر كبير وضخم من الكذب والشائعات”.. …
هل هو شبح الحالة السورية، فقط، الذي يفجر هذه الموجة من هستيريا الخوف والتخويف، أم أنه يناير على الأبواب، محمّلاً بذكريات الحلم الذي ولد في شتاء عام 2011 وعرف شيئاً من النجاح السلمي العابر في مصر، قبل أن تقتله الأيدي السوداء، وعاد الناس يستدعونه، بعد أن رأوا الثورة السورية، بعد أن دفعوها لحمل السلاح، تتوغل عسكريّاً في المدن، حتى أسقطت بشّار الأسد؟
المؤكد غير مرّة أنه استباقاً لشهر يناير من كل عام، يستدعي السيسي شبح الثورة الجريحة، مدفوعاً بيقين أنها لا تزال على قيد الحياة، هناك في مساحة ما من الوجدان العام، وأنها ستنبعث من تحت رماد حريقها، مثل العنقاء، فيكون الحل هو التخويف منها باعتبارها مصدر الشرور ولعبة أهل الشر.
أما وأن يناير هذه المرّة يأتي وقد سقط بشّار الأسد في سورية، فهذا يضاعف مساحات الهلع ويفاقم لوثة العداء له، مع أنه لو كان ثمة عقل أو حكمة لكان من الممكن أن يكون ما جرى فرصة هائلة للتصالح مع مجتمع شبع ظلماً وحزناً وفقراً ويأساً من إمكانية الوصول إلى تلك “الحتة التانية خالص” التي وعدوه بها عشرين مرّة ولم يحصل سوى على مزيد من الأوهام والوعود الكاذبة بحياة محترمة.
العربي الجديد
—————————-
كيف نودّع أسماءنا المستعارة؟/ شيوسف م. شرقاوي
23 ديسمبر 2024
نشر أدريان بابيه (كاهن وأمين مكتبة) في القرن السابع عشر قاموساً للأسماء المستعارة وقف فيه على أربعة عشر سبباً تجعل إنساناً ما يختبئ وراء اسم مستعار؛ منها الحذر والخوف من القمع السياسي، والهوس بإخفاء حقيقة ميلاد مشين أو بائس، وحمل اسم شائن، والرغبة في النميمة دون عقاب، والتواضع. وفي كتابها “في الريشة والأجنحة”، تضيف إيللا باليرت أسباباً أُخرى في معرض حديثها عن الأسماء المستعارة ودوافع التخفّي وراءها، مثل الضرورة وغريزة البقاء وحرّية اختيار أنواع أدبية وأساليب فنّية جديدة.
وللآخرين أيضاً حرّية اختيارهم لأسمائهم المستعارة، وحرّية الاختيار هي صورة عن الوعي بالذات، ولانكشاف التجربة. يذكر التاريخ مثلاً أنّ فلاديمير إليتش أوليانوف اختار اسم نهر لينينا الذي يجري في سيبيريا حيث كان في المعتقل. ولذا صرنا نعرفه باسم لينين، بينما اختار يوسف فيساريوفيتش اسم “ستالين” أي الفولاذ، وهذه صورة الإنسان عن ماهيته. وحين يطلق الآخرون الأسماء على آخرين، فهذه صورة عن وعيهم بهم، فـ إلكسي مكسيموفيتش بيشكوف، الذي صار مكسيم غوركي، وعاه الناس مُرّاً، ذائقاً لحياةٍ مريرة. من هنا كثيراً ما تحدّد البنية النفسية الاسم المستعار لصاحبها. أمّا المثال الأكثر تطرّفاً دائماً في الأسماء المستعارة فهو لـ فرناندو بيسوا الذي كتب بـ72 اسماً، بعض هذه الأسماء تفوّق عليه، وجعل بعضها تتخصّص أكاديمياً لدراسة بعضها الآخر.
لكن ليست حرية التجربة هي الدافع وراء الاسم المستعار إلّا نادراً، إذ غالباً ما يكون الاسم المستعار ضرورة تمليها الأسباب الأربعة عشر التي عدّدها أدريان بابيه، أو أسباب أُخرى تتعلّق بالجندر بالنسبة إلى الكاتبات النساء، لا سيما مي زيادة ومقبولة الشلق المعروفة بـ”فتاة قاسيون” في العالم العربي، والأمثلة أكثر من أن تُحصى.
ما من نظرية اسمية عند السوريّين
دراسة الأمثلة السابقة والعشرات غيرها العصيّة على الحصر تدخل في مقاربات ومنهجيات علمية وفلسفية رصينة، أبرز من اشتغل عليها في الفترات القريبة جيل دولوز في “منطق المعنى” والفيلسوف الأميركي سول أرون كريبكي في “التسمية والضرورة”. إلّا أنّ الحالة السورية في الأسماء السورية المستعارة مغرقة في خصوصيتها وانتفاء أسبابها عن أسباب النظريات، وكذلك في إملاءاتها وضروراتها.
منذ 2011 تقريباً وحتى الشهر الأخير من 2024، يوقّع معظم الكتّاب السوريين والفلسطينيّين السوريّين الموجودين داخل سورية بأسماء مستعارة. لا نتحدّث هنا عن الأعمال الأدبية المنشورة في كتب، بل عن كتابة المقالات والمواد الصحافية مع مواقع ومنصّات وجرائد ومجلّات هي في معظمها أو كلّها خارج سورية، وكانت في معظمها مندرجة ضمن “القائمة السوداء” و”المنصّات المغرضة الإرهابية”. هنا تنتفي كلّ الأسباب التجريبية وتنتفي معها الحرّية، ويصبح التعبير الأقرب إلى الدقّة هو: طمس الاسم الحقيقي، إخفاؤه، تغييبه، وحذف كلّ ما يتعلق به من مراسلات وإيميلات ومحادثات مع المحرّرين.
حتى الاسم المستعار الجديد ليس اسماً تماماً بقدر ما هو هرب وتخفٍّ. السوريون لا يستعيرون أسماء جديدة، بل يتخفّون تحت مظلّتها، حفاظاً على حياتهم أمام سلسلة اتهامات بالإجرام يمكن أن يتعرضوا لها: من الإرهاب إلى التعامل مع جهات أجنبية “مغرضة”، إلى “بثّ الفتنة” و”إضعاف عزيمة الأمّة”. بالمحصلة: الاعتقال دون تهمة، إلّا الكتابة نفسها.
الخوف على مصير الاسم الحقيقي هو نفسه يصبح خوفاً على مصير الاسم المستعار. فالتفتيش عن الأخير بالنسبة إلى الكتّاب السوريّين خلال تلك الفترة كان فعلاً يعذّب الضمير. أوّل ما يخطر على بالهم هو استعارة اسمٍ لإنسان موجود فعلاً في سورية، ما يعني توريطه. عملية اختيار الاسم المستعار نفسها كانت عبئاً ثقيلاً على الضمير. لا سيما إن كان الشرط اختيار أسماء حقيقية إنسانية لا رمزية، مثل “بنت قاسيون” أو “إيزيس” وغيرها. وقد تستغرق هذه العملية بضعة أيام خوفاً على آخرين قد يكونون موجودين فعلاً في الفضاء السوري. من هنا تدخل العملية طوراً غريباً هو تفنيد الأسماء والبحث في انتماءاتها واختيار كنية ما مثلاً لا يربطها بالاسم الأول انتماء إلى دينٍ معيّن أو منطقة. وسرعان ما يتصاعد الطور حتى يصبح بحثاً في البطون والأفخاذ والانتماءات العشائرية والقبلية والمناطقية.
حتى عند الوصول إلى اسمٍ مستعار مطمئن جزئياً، مثل “ألبير حاوي”، من دمج ألبير كامو بخليل حاوي، يفتّش صاحب الاسم الحقيقي عن أيّ عاملٍ صدفي يمكن أن يصدمه فيما بعد: ألبير حاوي رجل سوري معتقل متّهم بكلّ التهم التي كان يمكن أن تتعرّض لها بنفسك لو انكشفت.
المعادلة صعبة وثقيلة ومستحيلة. من أين يخترع السوري الأسماء ما دامت جميعها يمكن أن تُحقّق إحالةً إلى الواقع؟ ثلاث عشرة سنة من المقالات والتحقيقات والاستقصاءات صاحبها إنسانٌ مزيّف.
فيرونيكا فولفو تقرّر أن تموت
سنة 2020 تغيّر اسمي. لم أختر الاسم المستعار الذي سوف يصبح بديلاً لاسمي الحقيقي المُعلَن. صرتُ: فيرونيكا فولفو، كما اختارت المؤسّسة التي عملت معها آنذاك. في ما بعد عرفت أنّ فيرونيكا هذه يمكن أن تكون امرأة حقيقية، لها وجه وجسد وتستطيع الكتابة مثلي، وربما كانت هذه سياسة المؤسّسة التي تريد أن يكون كافّة أشخاصها حقيقيّين. بحثت عن تأثيل الاسم ففرحت قليلاً، ولكن بعد ذلك كان الحزن.
في المقهى كنّا نجلس، فيرونيكا (أي أنا) مع ألبير ونارنج وديبو وعبد الله وآخرين. لا يعرف أحدنا الآخر، لكنّنا في المكان نفسه، ونشتغل في المجال نفسه، ونعيش الخوف نفسه. نخفي شاشة اللابتوب أو الهاتف أثناء الكتابة (لأنّ في المقهى كهرباء وإنترنت) كي لا يلتقطنا أحدٌ ما. نُنزل الشاشة إلى أقصاها. نكتب بخطّ 11 كي لا تظهر الكلمات. وحين ننتهي يترك كلٌّ منا اسمه وراءه، ويوقّع باسمه البديل، في الأعلى أو في الأسفل. نرسلها عبر الإيميل ثم نحذفه كي لا نترك دليلاً ملموساً. نترك للمحرّر/ة رسالة على واتساب أنّ العمل ناجز ثمّ نحذفها، ونرجع إلى البيت فارغين ومطمئنّين قليلاً، كلّ في طريق: نجونا هذا اليوم، لنرَ الغد.
اليوم، يخلع الكتّاب السوريون عبء الأسماء المستعارة عنهم، ويصّرحون بحقيقة الاسم: إنّما هذا أنا. وسرعان ما يقفز إشكالٌ آخر: هذا هو وقت الكتابة الواضحة، الصريحة، التي لا تقوم على احتيال أو مواربة (حتى مع الأسماء المستعارة، كان الالتفاف). كيف يكتب تحت الضوء من قضى سنوات يكتب في العتمة؟ ومن فوره ينبع السؤال: أيكون الاسم الصريح مؤقّتاً، أم ستظلّ أسماؤنا معنا؟
* كاتب فلسطيني سوري مقيم في دمشق
العربي الجديد
————————–
دراما آل الأسد/ زياد بركات
23 ديسمبر 2024
يستغرب بعض الناس، بل يستسخفون، هذا الاهتمام الاستثنائي بردات فعل الفنانين السوريين على الحدث المزلزل، المتمثّل بسقوط نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد، ومرجعيته في هذا أن الفنون ما وجدت إلا للترفيه. هذا صحيح جزئياً، لكنه يعزل الفعل عن مُنتجِه، ويقصر الفنون على دورها الوظيفي، بأن ترفّه وحسب، وفي هذا تغافل عن أدوار أخرى أكثر أهمية للفنون، ومنها أنها تنتج وعياً وذائقة ضمن مفاعيل ما يمكن وصفه بلاوعي التلقي.
وأنت لا تستطيع إغفال مفاعيل ظهور ممثلة مثل أودري هيبورن (1929 – 1993) في هوليوود مثلاً، ودورها في إنتاج نموذج مضاد للجمال في العالم كله، ونقلها مفهوم الإغواء نفسه من منطقة إلى أخرى، من النسوة الشقراوات الممتئلات إلى نقيضهن، ما تساوق مع ثورة صناعة الأزياء التي غادرت منطقة الفخامة، وتواضعت بالاقتراب من منطقة الطبقات الوسطى، ونسائها العاملات اللاتي يحتجن إلى ملابس أكثر عملية وأناقة لا فخامة، وصولاً إلى إلباس النساء جاكيت الرجال وبناطيله. من فعل ذلك كان هيبورن من دون أن تعلم.
وفي الحملات الانتخابية الأميركية الأخيرة، كانت الأنظار تتجه مثلاً إلى تايلور سويفت، ولمن ستنحاز، الأمر الذي دفع دونالد ترامب إلى الإيحاء، بل محاولة إقناع الرأي العام، بأنها تؤيده، بنشره صورة لها مع تعليق مفبرك بأنها تدعو متابعيها إلى انتخابه. وعندما أعلنت أنها ستؤيد منافسته كامالا هاريس، توعدها بدفع الثمن.
في منطقتنا، تحديداً في مصر وسورية ولبنان، لعبت الفنون دوراً كبيراً في “التغيير”، في صناعة الصورة، وضمناً التسويق؛ فالسينما في مصر لم تنفصل منذ بداياتها عن التأثير والتوظيف السياسي. ومع صعود حافظ الأسد إلى السلطة في بلاده، برزت صناعة ما يسمى “التنفيس” عبر الدراما التلفزيونية، فما لا يُسمح للمعارضه به تقوم به الدراما التي كان نجمها الفنان دريد لحّام، بل إن شركات الإنتاج نفسها التي أنتجت أكثر الأعمال الدرامية جرأة ونقداً مباشراً للنظام ورجالاته كانت مملوكة لرجالات النظام أنفسهم، خصوصاً في حقبة الابن بشار.
لنقل إن دور الفنون وتعالقها بمراكز النفوذ والقوة مؤشر على تقدّم المجتمعات، وتعقيداتها وتداخل مستويات السلطة والتأثير فيها. هذا يفسّر استهجان الاهتمام بمواقف الفنانين السوريين من خلع رئيسهم، فهو يصدر عن ريفية لا مدنية، عن كائن ما قبل الدولة، عن ثنائية الأبيض والأسود التي تعزل بشار الأسد عن حاضنته، والأخيرة ليست طائفة، بل خليط مكونات اجتماعية ومؤسساتية، أنتجت روايتها وفنونها التي تسوّغ، وبالتالي تسوّق صورة بعينها للنظام تساعده ليبقى. ولها في شأنها هذا مرافعاتها الدرامية، المتماسكة والمؤنسنة، فهو (النظام) وإن كان خشناً في التعامل مع معارضيه، فإنه ديمقراطي في العمق، ويسمح بانتقاده على رؤوس الأشهاد، لكنه يضطر في محاولاته للحفاظ على تماسك المجتمع والدولة، إلى قمع قوى الإرهاب التي تهدّد بنية المجتمع وتقسّمه وتهدد بتفكيكه. ألا ترون أنه معاصر ومثلنا؟ ولو كانت الظروف غيرها لما فعل ما فعله، بل ربما نقل البلاد إلى مستوى جديد يجعلها الأكثر تقدماَ في المنطقة.
هذه الصورة، وهذه المرافعات الذكية التي كنا نعثر عليها في كثير من الأعمال الدرامية السورية التي تعاين وحشية رجالات الأسد، كانت تقول ضمناً إن الأسد نفسه ليس هؤلاء، بل إنه ضدهم، وربما يكون مضطراً لهم، لكنه في نهاية المطاف صمّام الأمان لنا منهم وفي مواجهتهم، ومواجهة معارضيه أيضاً الذين يستهدفوننا جميعاً بالإرهاب، فلنحافظ عليه ونتمسك به لأن البديل كارثي في كل المقاييس.
هذا جعل بعض الفنانين السوريين يصدّقون الرواية الذكية التي تسرّبت عناصرها تدريجياً في الصناعة التلفزيونية السورية، فأصبحت تأسيسية، بل يدافعون عنها، متناسين أو غير عارفين بأنها جزء من الدور الوظيفي للدراما كما أراده النظام، ذلك أنها بالغة الذكاء والإقناع، وبقدر ما تشبع رغبات الفنانين في التعبير عن أنفسهم وأدوارهم في مجتمعهم، بقدر ما كانت تلبي رغبات النظام في التوظيف، وحصد النتائج التي كانت تشير إلى نظام متحضّر من جهة ومتوحش في أخرى، وإلى أن بقاء رأس النظام حاجة وضرورة وليست ترفاً، ودعك من مسألة حقوق الإنسان على ما أفلحت الصورة في تكريسه.
العربي الجديد
————————–
متاحف الذاكرة وفقدان الذاكرة/ سلام الكواكبي
الإثنين 2024/12/23
في أغلب البلاد التي زرتها خلال السنوات العشر الأخيرة، وإلى جانب اهتمامي بزيارة عموم متاحفها، حرصت على تخصيص وقتٍ كافٍ لزيارة متاحف “الذاكرة”. إن الغرض من متحف الذاكرة هو القيام بتوثيق أهم الأحداث التي أثّرت بشكل كبير في جزء من المجتمع أو في مجمله. ويسعى من ينشئ مثل هذه المتاح إلى المحافظة على الذاكرة الجمعية وعرضها أمام الزائرين من أهل البلاد ومن السياح المهتمين بتاريخ هذه البلاد. كما يهدف متحف الذاكرة أساسًا، لنشر الوعي لدى الجيل الصاعد وتذكيره بماضٍ ليس ببعيدٍ، وعليه هو وأترابه أن يتعّظوا من دروسه ومن مآسيه لتجنّب تكرارها. كما يُعتبر التكريم هدفًا رئيسيًا يسعى متحف الذاكرة لتحقيقه بخصوص أشخاص بعينهم أو شعوب أو مجموعات. وأخيرًا، من المهم الإشارة إلى أن متحف الذاكرة لا يهدف فقط لعرض مقتنيات، بل خلق تجربة تفاعلية تمس مشاعر الزوار وتحثهم على التفكير في المعاني الأعمق للأحداث.
يتناول هذا النوع من المتاحف أهم الأحداث التاريخية الكبرى مثل الحروب، الثورات، المجاعات، أو الكوارث الطبيعية. كما يمكن أن يتخصّص بحملات الإبادة الجماعية التي تعرّض لها أهل البلد نفسه، أو كان جزء منهم مسؤولاً عن جزء منها في حقبة تاريخية مضت. كما تعتبر متاحف الذاكرة الاستعمارية من أهم ما يجب التوقف عنده حين زيارة الدول التي كان لها باعٌ كبير في هذا المجال. كما فرنسا والبرتغال على سبيل مثال وليس الحصر. وأخيرًا، يمكن لمتحف الذاكرة أن يُخصّص لشخصية عامة شهدت على أحداث بعينها وسجّلت كتابةً أو تصويرًا أو بأية طريقة أخرى، انطباعاتها وشهاداتها الشخصية حول أحداثٍ موثّقة.
عند زيارتي للأرجنتين، زرت مدرسة الميكانيك في بوينس آيرس، والمعروفة بـمدرسة ميكانيكا البحرية. وهي تُعد واحدة من أكثر المؤسسات شهرة في الأرجنتين، ولكن ليس بسبب التعليم الفني أو البحري، بل بسبب دورها المظلم خلال الديكتاتورية العسكرية الأرجنتينية، التي امتدت بين عامي 1976 و 1983. فأثناء هذه الفترة، استخدمت المدرسة كمركز احتجاز وتعذيب سري، حيث أصبحت رمزًا لانتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبها النظام العسكري. وقد أشارت التقديرات إلى أن حوالى 30 ألف مواطن وأجنبي اختُطفوا واحتُجزوا هناك، واختفى معظمهم. وقد تم رمي جثثهم في المحيط من خلال رحلات للطائرات المروحية العسكرية التي كانت مخصصة لهذا العمل القذر. ولذا، المقبرة الجماعية الوحيدة في الأرجنتين هي المحيط. وبعد نهاية الديكتاتورية وعودة الديمقراطية إلى الأرجنتين، بدأت الجهود لتحويل المدرسة إلى رمز للذاكرة والتذكير بفظائع تلك الفترة. ويضمّ المتحف مركزًا للتثقيف على حقوق الانسان. كما فيه صالات تعرض صورًا للضحايا و/أو شرائط مصوّرة لعمليات اعتقال جماعية وتعذيب. وتعتبر المدرسة من أبرز الأمثلة على كيفية تحويل مكان كان يُستخدم للظلم والقمع إلى رمز للتعليم، التأمل، والعدالة. إنها ليست مجرد مدرسة ميكانيك، بل باتت مرآة تاريخية لتذكير الأجيال القادمة بأهمية حماية حقوق الإنسان.
“استمتعت” متألمًا بزيارة هذا المكان بصحبة دليلٍ نادرٍ تمثّل في شخص مديره حينذاك السيد إدواردو الخزامي، الأرجنتيني لبناني الأصل، الذي غادر الحياة الدنيا منذ عدة أشهر، وهو كان من معتقلي مدرسة الميكانيك. وإدواردو الذي كان في شبابه من رفاق تشي غيفارا، كان له في كل زاوية من زوايا المكان ذكرى يرويها مستعيدًا تفاصيلها بصوت مفعمٍ بالألم وبالأمل. ألم ما عاشه هو رفاقه من مناضلي الحرية في الماضي القريب، والأمل في مستقبل أفضل لأولاده وأحفاده كما لجميع مواطني هذا البلد الجميل.
يحضرني متحف “مدرسة الميكانيك” للذاكرة وأنا أتابع عن بعد مشاهد المعتقلات السورية التي فتحت أو اكتشفت، ومتحف الذاكرة في بيونس أيريس لا يُضاهي غرفة من غرفها. وأتابع العبث بسجلاتها ووثائقها، وهو عبثٌ منطقي خصوصًا لمن انتظر خبرًا عن عزيز له مفقود منذ عقود في سراديب الأمنوقراطية السورية في ظل صمتٍ عربي ودولي مُبان. ولماذا التوقف عنده بالذات على الرغم من زيارتي لمتحف ذاكرة الحرب الأهلية الاسبانية في برشلونة ومتحف المخابرات الألمانية الشرقية في برلين؟
لقد شهدت الأرجنتين بعد حقبة الديكتاتورية حكومات متعاقبة منتخبة فشلت في مجملها في إنقاذ البلاد من الفساد والتخبّط الاقتصادي، وبالتالي فهي مهّدت، أو يكاد، للعودة إلى الماضي. وعلى العكس من ألمانيا واسبانيا مثلاً، فالشعب الارجنتيني، لم يستفد إلا قليلاً من هذه المدرسة على ما يبدو، إذ جرى العام الماضي انتخاب رئيس يميني متطرف يشعر بالحنين لزمن العسكر الدامي ويعد بليبرالية اقتصادية متوحشة، ربما لها أن ترفع من مخزون القطع الأجنبي ومؤشرات السوق، لكنها في المآل الذي وصلت إليه، تُفقر أكثر فأكثر كل الفقراء ومتوسطي الدخل وهم غالبية الشعب. ولا أعرف حتى إن لم يغلق متحف الذاكرة أو أن يكون قد تحوّل الى مركز تجاري كبير.
فالانتصار على الظلم أو إزاحته، من دون الاقتصاص منه في محاكمات عادلة، يمكن أن يُشكّل خطرًا على استمرارية درب التحرر.. وربما عودة إلى الديكتاتورية. كما لا يخلو الأمر من حاملي الحنين لماضٍ قذر من سوريين وعرب ويسار بافلوفي دولي. وحل هؤلاء ليس متاحف الذاكرة، بل وبكل إنسانية، الإقامة فيها في الظروف المعيشية ذاتها التي يرويها من بقي حيًّا من معتقليها السابقين. دورة تدريبية ليس إلا، من دون تعذيب بالتأكيد.
المدن،
———————————————-
أخي محمد الشهيد المكتوم/ بشير البكر
الإثنين 2024/12/23
كانت ولادة أخي محمد عسيرة. وبقيت العائلة تتعامل معه بعناية خاصة، كونه الأخير بين تسعة حملهم بطن الأم، التي كانت تعطيه من اهتمامها أكثر من الآخرين، مدركة بأنها مع ولادته، أكملت مهمتها المقدسة التي لم تكل منها. وأظن أنها قبلت التوقف عن الإنجاب على مضض، وكانت ترغب بالمزيد من الأبناء والبنات، لكن الطبيب نصحها بالتوقف عن انهاك جسدها. ومع كل الاهتمام الذي حظي به عائليا، لم يتصرف محمد على أساس أنه الشخص صاحب الامتيازات، حتى أنه كان يرفض أن نساعده في حل فروضه المدرسية، ويفضل أن يقوم بها بنفسه، وكذلك الأمر بالنسبة لبقية التفاصيل الحياتية الأخرى، ومال شيئاً فشيئاً إلى التصوف والزهد، متأثرا بسلوك شقيقي موسى، الذي يكبرني، صاحب الطريقة وراعي الزاوية وإمام الدراويش.
سقط محمد في 20 آذار عام 2013 في مواجهة مع ميليشيات ما يعرف بـ”الدفاع الوطني”، التي شكلها نظام الأسد في عام 2012، من الحثالات والأشقياء كأحد الأذرع العسكرية المأجورة للدفاع عنه، بتمويل من رجال أعماله، وخاصة ابن خاله رامي مخلوف. وبلغ تعدادها قرابة 100 الف، وكان المسؤولون عنها ينشطون في تجارة المخدرات، وعلى صلة بحزب الله والحرس الثوري الإيراني. وقد سيطرت في بعض المدن على مقرات لحزب البعث، ورفعت شعارات وصور ذات طابع طائفي تظهر تبعيتها لإيران مثل صور زعيم الحشد الشعبي ابو مهدي المهندس، الذي قتلته المخابرات الأميركية في بغداد إلى جانب قاسم سليماني في عام 2020.
وفي التفاصيل أن مجموعة من هؤلاء اقتحمت الحي الذي يسكنه شقيقي في مدينة الحسكة، وحصلت اشتباكات نارية لقي مصرعه فيها، وحين ذهب الأهل إلى عين المكان وجدوا أنه تلقى طلقة في رأسه، ولم يكن مسلحاً، ما يعني أنه تمت تصفيته بقرار مسبق ومدروس. لقد كان مستهدفاً رغم أنه من دعاة السلمية، ولم يكن صاحب نشاط سياسي، وحتى مشاركته في الحراك الداعي لاسقاط النظام، كانت نوعاً من الواجب الأخلاقي، الذي أملاه عليه شعوره برفع الظلم والتمييز ومواجهة الاظطهاد.
لم يبلغني الأهل خبر مصرعه في حينه، من أجل تجنب تبعات إثارة المسألة إعلامياً، وظل الأمر مخفياً عني حتى تمت تصفية ميليشيات الدفاع الوطني في الحسكة على يد القوات الأمنية، بسبب صراع النفوذ واقتسام عوائد تجارة المخدرات، وقد تم قتل مسؤولها في محافظة الحسكة المدعو عبد القادر الحمو في نيسان 2021، والذي حمته قوات النظام بتوجيه إيراني، مقابل ضمان ولائه وتنفيذ أجنداتها، واستمر ذلك حتى حاول الظهور بمظهر القوي والتمرد على مشغليه، فارتأت قوات النظام وبعد مناقشات مطولة مع مسؤول الملف الإيراني بالمنطقة، الحد من صلاحياته ووقف انتهاكاته وتجاوزاته، وما أثارته من غضب شعبي خاصةً بين أبناء القبائل وعلى وجه التحديد قبيلة الجبور العربية، فارتأوا أن تقليم أظافره ربما يساعدهم لاحقاً في تكوين صورة مقبولة لدى القبائل والعشائر، كما حاول النظام من خلال قنواته إرسال رسالة أنه أنهى ملف عبد القادر حمو لكسب ود القبائل واستقطابهم، بعيداً عن فلك الإدارة الذاتية الكردية لشمال وشرق سوريا.
إن تصفية حمو لم تنه ميليشيات الدفاع الوطني، وبقيت تبث الرعب وتمارس القتل والسطو، ولذلك لم يتمكن أهالي الضحايا من الجهر في تشييعهم وإعلانهم شهداء من أجل الثورة، وظل بعضهم، كما هو حال أخي، لمدة أكثر من عقد بمثابة الشهيد المكتوم، لا تستطيع العائلة التصريح عنه، ولذا يجب أن يكون ملف جرائم هذه الميليشيات أحد ملفات محاسبة العهد السابق، وأن يتضمن ذلك حصر كل الانتهاكات التي قاموا بها، واعتقال من بقي منهم، وانصاف عائلات الضحايا وتعويض ذويهم معنويا وماديا. وبلغني من عديد عوائل المتضررين من هذه الميليشيات، أنها ليست في وارد التنازل عن محاكمة المجرمين والقصاص منهم. ويعوّل أهالي المتضريين على الحكم الجديد بحفظ الحقوق القانونية والمعنوية، واعتبار كل الذين تضرّروا منها أو قضوا على يدها كبقية الذين تعرضوا للانتهاكات أو استشهدوا خلال الثورة، ومراحل النضال ضد النظام، وما ينطبق على البقية ينسحب على هؤلاء.
المدن
—————————————-
ها أنا على “المسافة صفر” من الشام/ جود حسن
23.12.2024
ارتفعت دقات قلبي، وشعرت بحرارة تجتاح وجهي وأذنيّ. كانت السماء متّسعة بشكل مربك، كأنها تحاول استيعاب كل ما يجول في رأسي من مشاعر متشابكة. وبينما كنا نقترب من ساحة الأمويين، بدأت أصداء الأغاني الثورية تتسلل إلى مسامعي، تتداخل مع أصوات المحتفلين بتحرير دمشق وسقوط النظام.
اثنتا عشرة ليلة لم أنم فيها جيداً، أحدق مطولاً في شاشة التلفزيون، ممسكاً بهاتفي أتابع الأخبار في كل مكان. مرت ساعات قليلة، كأنها لحظات، تحررت خلالها حلب، ثم التحقت بها حماة. ما زلت لا أصدق ما أرى.
اثنتا عشرة سنة مضت وأنا لا أستطيع العودة إلى دمشق، لأجد نفسي فجأةً داخل سيارة أجرة متجهاً نحو الحدود اللبنانية – السورية بعد تحرير دمشق والإعلان عن سقوط نظام الأسد.
في كل مدينة تُحرَّر، كانت مقاطع الفيديو التي توثّق إطلاق سراح المعتقلين والمعتقلات من سجون النظام وأفرع المخابرات، تُوقظ في داخلي مشاهد دفينة ظننت أن الزمن قد طمسها.
قبل ثلاثة عشر عاماً، كنت مقيّداً في المقعد الخلفي لسيارة تابعة للأمن، أتجنب النظر المباشر من النافذة، وأراقب بطرف عيني حشود المتظاهرين يهتفون للحرية في وجه القمع. كنت على يقين أنهم سيتوقفون في أي لحظة، يسحبونني إلى الخارج مجدداً، لكن السيارة تابعت طريقها نحو فرع المخابرات الجوية.
ظلّ ذلك المشهد عالقاً في ذهني، كأنه رفض أن يتلاشى. ومع كل صورة لمعتقل يُحرَّر، كان صداه يعود أقوى، ينعش ذاكرتي، ويجعل الطريق نحو دمشق أشبه بعبور مزدوج بين زمنين، أحدهما بقي في العتمة، والآخر يحاول أن يرى النور.
كنت قد فقدت القدرة على الكتابة منذ عامين. لا أدري تماماً ما حدث، لكني شعرت حينها أن سوريا ضاعت مني، ومعها تلاشت رغبتي في الكتابة. تعاملت نفسي مع فكرة عجزي الجديد بسلاسة وتقبّل عجيبين حتى يوم 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024.
مددت يدي عبر الثقب الزجاجي المهترئ، ناولته جواز السفر. رأيت الختم يهوي عليه، حدقت فيه مطولاً: ختم الدخول إلى سوريا. شعرت بركبتيّ ترتجفان. دقائق معدودة تفصلني عما كنت أظنه مستحيلاً.
كنت قد كتبت سابقاً: “في بداية تشرين الأول 2012 خرجت من دمشق، هذا كل ما أذكره، التاريخ، التاريخ فقط. لا أذكر الليلة السابقة للرحيل، حزم أمتعتي، وداع الأصدقاء، الطريق إلى بيروت. لا شيء. هل خرجت في الصباح أم في المساء؟ لا أذكر إن كنت قد ودعت أسرتي. لا أذكر أي شيء…”.
فشلت كل محاولاتي في تذكّر الماضي الذي نُفيت منه. حاولت كثيراً أن أتذكر أي شيء، الأيام الأخيرة في دمشق، اليوم الأخير في المدينة، وتفاصيل كثيرة ممّا قبل 2011.
أصبحت في الطرف الآخر. الطريق خالٍ تماماً، إلا من دبابات مهجورة وسيارات تحمل آثار معركة حديثة العهد. أخرجت هاتفي والتقطت صورة للطريق الممتد أمامي، ثم وقعت عيناي على لافتة كبيرة: “درعا – المطار – حلب” تشير إلى الأمام، و”قطنا – القنيطرة” إلى اليمين.
ارتفعت دقات قلبي، وشعرت بحرارة تجتاح وجهي وأذنيّ. كانت السماء متّسعة بشكل مربك، كأنها تحاول استيعاب كل ما يجول في رأسي من مشاعر متشابكة. وبينما كنا نقترب من ساحة الأمويين، بدأت أصداء الأغاني الثورية تتسلل إلى مسامعي، تتداخل مع أصوات المحتفلين بتحرير دمشق وسقوط النظام.
نظرت حولي كالغريب الذي يحاول استعادة ملامح مألوفة. تدفقت الذكريات فجأة، كأنها كانت تنتظر هذه اللحظة لتخرج من مخبئها. صور وأحداث ظننت أنني تجاوزتها بدأت تتزاحم في رأسي، تزيد من ارتباكي وتجعل التمييز بين الماضي والواقع أكثر صعوبة.
اخترت النزول في فندق بدلاً من التوجه مباشرة إلى منزل العائلة. جلست في غرفتي، يرافقني قلق ثقيل بشأن ذلك اللقاء المرتقب. العودة إلى البيت، مواجهة عينيّ والدتي، وتأمل ردة فعلها بعد هذا الغياب الطويل. كنت غريباً عنها، أو هكذا شعرت. هي لم ترني بعدما عدت إلى جسدي الحقيقي، بعدما استبدلت صورتي القديمة التي علقت في ذاكرتها.
تغرق شوارع المدينة بالظلام الحالك بعد المغيب بسبب غياب الكهرباء الدائم عنها، ركبت التاكسي وقلت للسائق: “مشروع دمر، إذا بتريد”. سألني من دون أن ينظر إلي: “من طريق الربوة أو قاسيون؟ ترددت للحظة ثم قلت: “ما بتفرق”.
بدا الطريقان متشابهين في العتمة، كأنهما مساران مجهولان لا فرق بينهما. حاولت استرجاع 28 عاماً دفعة واحدة، لكن صوته قاطع شرودي: “من أي مفرق فوت؟”، نظرت حولي مرتبكاً، ثم قلت: “ما عم اتذكر، دقيقة”.
لم يكن المنفى مكاناً فقط، بل كان زماناً ممتداً داخل نفسي. كان انتظاراً طويلاً، وبحثاً مستمراً عن شيء فقدته في طيات الغياب.
أضعنا الطريق ثلاث مرات. كان الإحباط يزداد مع كل انعطافة خاطئة، بدأت تراودني فكرة العودة إلى الفندق بدلاً من الاستمرار. رنّ هاتفي، قطعت المكالمة ارتباكي. صوت أختي الصغيرة بدا متلهفاً: “وين صرت؟ بعتلك العنوان مسج، فرجيه للتاكسي”.
اقتربت من باب المنزل بخطوات متردّدة. لم أكن متأكداً من أنه المكان نفسه الذي غادرته قبل سنوات، حتى سمعت صوت أختي يصدح من الداخل، مترافقاً مع خطواتها المسرعة نحو الباب. فتحته بقوة وارتمت في حضني. تجمدت في مكاني.
من خلفها، ظهرت أمي. امرأة في الستينات من عمرها، تتحرك بتثاقل وكأن السنوات انحنت فوق كتفيها. كان البيت مظلماً، تضيئه لمبة وحيدة بنور أبيض قاسٍ، حجبت عني ملامح وجهها للحظات. وضعت يدها على وجهها، ثم غطت عينيها وبكت بصوت مرتفع، كأن البكاء كان مؤجلاً منذ خروجي.
ارتجف جسدي، وثقلت قدماي في مكانهما. بيني وبينها مسافة قصيرة بدت فجأة شاسعة. المشاعر تلاطمت داخلي، فرح متخبط، ثقل مفاجئ، وارتباك لا تفسير له. العودة إلى البلد، الدخول إلى منزل العائلة، رؤية أختيَّ، ولقاء أمي بعد هذا الانقطاع القاسي، ذلك كله ارتطم بي دفعة واحدة.
تلعثمت، وسألتها وكأنني أبحث عن مخرج: “بدك فوت أو روح؟”.
لم تجب. تقدّمت نحوي وهي تبكي، ثم احتضنتني بقوة. شعرت بجسدي يرتخي بين ذراعيها، وكأنني أفرغ كل الأثقال التي حملتها طوال تلك السنوات. بكيت للمرة الأولى منذ سنوات.
حال عائلتي كحال سكان المدينة المحاصرين منذ أربعة عشر عاماً، مرهقين ومنهكين. عيونهم متعبة، لكنها تحمل بريق أمل، وقلقاً من القادم.
كان الفرح حاضراً، لكنه بدا حبيس الدهشة، وكأنهم لم يصدقوا بعد أن النظام قد سقط، وأن باب الكهف قد شُرّع أخيراً، ليخرجوا إلى الحياة بعد حصار طويل.
في اليوم التالي، علّقت على جدران مستشفى المجتهد صور المعتقلين الذين قضوا تحت التعذيب في سجون النظام. كانت أيادي الأمهات الحزينات تمتد، تلامس الوجوه في الصور، تبحث عن أثر لأحبائهن. سرت خلف المئات في جنازة مازن الحمادة، الذي قُتل تحت التعذيب، وسط حشد اختلطت فيه الدموع بالغضب، والفرح بالحزن. في الزحام، التقيت بوجوه لم أرها منذ 12 عاماً. تعانقنا بحرارة، نبارك لبعضنا البعض سقوط الطاغية، بينما كان الألم واضحاً في العيون والكلمات. كان هناك إصرار واضح يتردد بيننا: هذا الانتصار لن يكتمل إلا حين يُحاسب المجرمون، ويُفتح كل باب أغلق على مختفٍ أو معتقل، وتُرفع صور الضحايا عن الجدران لتُكتب أسماء الجلادين مكانها.
العودة الى سوريا بعد إسقاط الأسد لحظة تتقاطع فيها مشاعر الفرح والألم، وكأنها عبور بين عالمين؛ عالم سقط فيه الخوف، وآخر لا تزال فيه ندوب الخسارة ماثلة.
إنها احتفاء بالبقاء، لكنها أيضاً استدعاء لكل الغائبين الذين دفعوا الثمن ولم يعودوا. التحرير يفتح الطريق، لكنه لا يمحو آثار الأقدام التي سارت فيه وغابت، ولا يخفف وطأة الأسماء التي أصبحت شواهد على ثمن الحرية.
التحرير ليس نهاية الرحلة، بل بداية لاختبار ما تبقى من الحياة، وما يمكن بناؤه فوق الركام. إنه التزام بتحقيق العدالة، وإرساء مجتمع طالما حلمنا به، مجتمع قادر على حماية حقوقه، وترسيخ مؤسسات مدنية وسياسية تقف سداً أمام كل من تسوّل له نفسه سلبها يوماً.
لم يكن المنفى مكاناً فقط، بل كان زماناً ممتداً داخل نفسي. كان انتظاراً طويلاً، وبحثاً مستمراً عن شيء فقدته في طيات الغياب. والآن، وأنا أخطو خارج أزقته، أشعر أن العودة ليست نهاية الرحلة، بل بدايتها.
درج
———————————-
تركيا في الامتحان السوري… كقوة اعتدال/ خيرالله خيرالله
هل من مشروع تركي متكامل لسوريا التي دخلت مرحلة جديدة؟ سيعتمد الكثير على تعاون تركي – عربي يجعل من تركيا قوة اعتدال وعلى قدرة أردوغان على جعل الشرع يحلّ مكان الجولاني.
الاثنين 2024/12/23
كان العام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيدا عن الأوهام والرغبات التي روج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران. توجد خريطة جديدة لسوريا في ضوء التوسع الإسرائيلي على الأرض في الجولان من جهة والإصرار من جهة أخرى على الانتهاء من البنية التحتية للقوة العسكرية السوريّة. هذه قوة لم تستخدم يوما إلّا في قمع الشعب السوري والشعب اللبناني، في مرحلة معيّنة. كان الاستثناء الوحيد خوض حرب تشرين الأوّل – أكتوبر 1973. كانت تلك الحرب حربا صبّت في إضفاء شرعية على نظام أقلّوي لم تكن لديه أي شرعيّة. أضف إلى ذلك أنّ تلك الحرب لم تستخدم لاستعادة الجولان المحتلّ منذ العام 1967، بمقدار ما استُخدم الاحتلال كي يكون ضمانة لاستمرار نظام حافظ الأسد.
باختصار شديد، جاء سقوط النظام السوري ليؤكّد واقعا جديدا في المنطقة. يتمثّل هذا الواقع في أفول نجم إيران وتقلّص نفوذها لمصلحة تركيا التي لعبت الدور المحوري في جعل بشّار الأسد يفرّ من دمشق إلى موسكو. في أمس قريب، كان الراحل حسن نصرالله يريد الصلاة في القدس. اليوم، يتحدّث بنيامين نتنياهو من قمة جبل الشيخ السوري عن رؤيته للأمن الإسرائيلي في ظلّ ما تشهده سوريا من تطورات من جهة وضرورة بقاء الأرض السورية، في جزء منها، تحت الاحتلال الإسرائيلي من جهة أخرى.
أقلّ ما يمكن قوله عن سقوط النظام العلوي – العائلي السوري أنّ الحدث تاريخي. إنّه في مستوى الزلزال العراقي الذي غيّر التوازن الإقليمي في العام 2003. وقتذاك، سلمت إدارة جورج بوش الابن بلدا مهمّا اسمه العراق على صحن من فضّة إلى إيران معلنة انتقال السلطة في بغداد من أهل السنّة الذين كانوا يسيطرون عمليا على مراكز القرار، بما في ذلك الجيش والأجهزة الأمنية، إلى الميليشيات الشيعية التي وضعت نفسها بإمرة “الحرس الثوري” الإيراني. كانت تلك ميليشيات عادت في معظمها من الأراضي الإيرانيّة إلى بغداد على ظهر دبّابة أميركيّة. في سوريا، لم تكن من حاجة، في 2024، إلى دبّابة تركيّة يدخل عليها زعيم “هيئة تحرير الشام” ومساعدوه ومقاتلوه دمشق…
لا يمكن اعتبار الحدث السوري حدثا تاريخيا نظرا إلى سقوط نظام آل الأسد الذي عمّر 54 عاما فحسب، بل لأنّ دور سوريا كقوة إقليمية، بسبب موقعها الجغرافي، سيتبدل جذريا أيضا. انتقلت سوريا من سيطرة آل الأسد ثم من الوقوع تحت السيطرة الإيرانية والروسيّة، إلى حدّ ما… إلى السيطرة التركيّة على الجزء الأكبر من أراضيها. لا شكّ أن إسرائيل ستبقى قوة احتلال بعدما ضمت الجولان السوري رسميا وبعدما قرّرت توسيع هذا الاحتلال للجولان في اتجاه جبل الشيخ. لكن السؤال ما الذي ستفعله تركيا بالاختراق الذي حققته سوريًا معتمدة على “هيئة تحرير الشام”، “جبهة النصرة” سابقا، وشخصية مثل أحمد الشرع، أي أبومحمّد الجولاني سابقا. هل تمتلك تركيا الأدوات التي تسمح لها بجعل سوريا منطقة نفوذ لديها، بتفاهم مع الولايات المتحدة ومع إسرائيل في الوقت ذاته؟
تغيّرت خريطة الشرق الأوسط انطلاقا من سوريا بفعل عاملين. أولهما توسع إسرائيل في الجولان، بمجرّد رحيل بشّار الأسد، وذهابها إلى السيطرة على قمة جبل الشيخ التي تشرف منها الدولة العبريّة على العمقين السوري واللبناني. أمّا العامل الآخر فهو عامل الدور التركي الذي يأخذ في الاعتبار المصالح الإسرائيلية على كلّ صعيد.
توجد عوامل عدّة أخرى لعبت دورها في سقوط النظام السوري بعد رفع إسرائيل الغطاء عنه. التقطت تركيا رفع الغطاء الإسرائيلي عن بشّار الأسد ونظامه. في مقدّم هذه العوامل فتح “حزب الله” جبهة جنوب لبنان في اليوم التالي لـ”طوفان الأقصى”، في الثامن من تشرين الأول – أكتوبر 2023. خرج الحزب يومذاك وخرجت معه “الجمهوريّة الإسلاميّة” من تفاهمات مع إسرائيل خاصة بـ”ساحة” جنوب لبنان وقواعد الاشتباك فيها. لم يستوعب الحزب، ومن خلفه إيران، معنى تهجير آلاف الإسرائيليين من مستوطنات في الجليل قريبة من الحدود مع لبنان. لم يستوعب بشّار الأسد في أي وقت معنى متابعة استخدام الأراضي السورية لتمرير الصواريخ والأسلحة المختلفة من إيران وروسيا إلى “حزب الله” والنتيجة التي ستترتب على ذلك.
مرّة أخرى، هل من مشروع تركي متكامل لسوريا التي دخلت مرحلة جديدة؟ سيعتمد الكثير على تعاون تركي – عربي في هذا المجال، يجعل من تركيا قوة اعتدال، من جهة، وعلى قدرة الرئيس رجب طيب أردوغان على جعل أحمد الشرع يحلّ مكان أبومحمّد الجولاني، من جهة أخرى. استطاع الجولاني تغيير اسمه، هل يستطيع تغيير سلوكه بمعنى العمل على تحويل سوريا إلى دولة حضاريّة بعيدا عن أي نوع من أنواع التطرّف وفرض قوانين معيّنة على المجتمع على طريقة “طالبان” في أفغانستان أو “الحرس الثوري” في إيران؟
عاجلا أم آجلا، سيتبيّن هل تركيا قادرة على النجاح في الامتحان السوري والتحول إلى قوّة اعتدال والاستفادة من حيوية المجتمع في بلد قاوم نظام آل الأسد سنوات طويلة. أظهر هذا المجتمع السوري أنّه لا يمكن الاستهانة به. إنّه مجتمع متنوع يستطيع التطور في كل الميادين. الأمل في أن تتفادى تركيا الرهان على الإسلام السياسي الذي في أساسه فكر الإخوان المسلمين الذي ولدت من رحمه كلّ التنظيمات الإرهابيّة من “القاعدة” إلى “داعش” مرورا بـ”جبهة النصرة”، الأمّ الشرعيّة لـ”هيئة تحرير الشام”!
تبقى ضرورة الإشارة إلى وجوب تخلّص تركيا من عقدة الأكراد. لا يختلف اثنان على أنّ اعتراض تركيا على حزب العمال الكردستاني له ما يبرره. هذا الحزب لا يمثل كلّ الأكراد. هل تستطيع لعب دور تحويل سوريا إلى دولة ديمقراطية تستوعب كلّ القوميات والديانات التي على أرض هذا البلد، بما في ذلك الأكراد… أم هناك إصرار تركي على الاصطدام بهؤلاء؟
العرب
——————————–
سوريا… هذه الحقائق/ طارق الحميد
تحديث 23 كانون الأول 2024
منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض».
مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً بعمل عسكري، ورغم الوجود الروسي والإيراني، والرئيس بوتين يقول إن بلاده ساعدت في إجلاء أربعة آلاف مقاتل إيراني.
ويقال الآن إنه لا بد من طمأنة المكونات السورية، وتحديداً الأقليات، بينما نظاما الأب والابن أجرما بحق الأكثرية طوال خمسة عقود. وتطالب الإدارة الجديدة بالالتزام بشروط عدّة، منها ما صدر ببيان العقبة.
بينما لم يلتزم الأسد بشيء طوال 24 عاماً، وكان بعض العرب يحاولون إقناعه بالابتعاد عن إيران، واستخدم الأسد هذا الملف أسوأ استخدام، وكان يكذب معتبراً الكذب جزءاً من السياسة، ومنح كل الوقت، وإلى لحظة هروبه، لروسيا.
ويقال إن على سوريا الجديدة طمأنة لبنان الآن، علماً بأن الأسد الأب حكم لبنان، ونكل به، والأسد الابن عبث في لبنان باغتيالات وقمع، وعطل كل مؤسساته، وجل مَن يطالبون بالتطمين بلبنان الآن كانوا يحجون إلى دمشق الأسد!
ويقال إن على الإدارة الجديدة ضمان حدودها، خصوصاً مع العراق، والعالم يعرف أنه منذ سقوط صدام حسين وسوريا هي منفذ السلاح والميليشيات عبر معبر البوكمال العراقي. ويقال إن هناك خشية من الميليشيات بسوريا، بينما الميليشيات موجودة بالعراق، وتحديداً الحشد الشعبي.
ويتحدث البعض عن ضرورة الحفاظ على الجيش السوري، و«يوتيوب» يثبت، وعبر فيديوهات قديمة لجمال عبد الناصر وأنور السادات، أنه كان جيشاً طائفياً. ومنذ الثورة عام 2011 لم يعد هناك جيش بسبب الانشقاقات.
وحلت الميليشيات من أفغان وباكستانيين وعراقيين و«حزب الله» بديلاً للجيش. وفوق هذا وذاك، يخشى البعض الآن تقسيم سوريا، بينما هي كانت مقسمة أصلاً منذ 2011 بين الأميركيين والروس والإيرانيين والأتراك والأكراد، وقبلهم الإسرائيليون.
وبالنسبة لبعض السوريين، يقال إن محاولة إعادة الأسد للحضن العربي تسببت بتقسيم المعارضة السورية قبل سقوط الأسد. وهذا غير صحيح. فما قسم المعارضة هو اتفاق آستانة وبرعاية روسية إيرانية تركية، ولم تكن للعرب علاقة بذلك.
وأيضاً يقال: لماذا لا ترد سوريا الجديدة على الاعتداءات الإسرائيلية، بينما لم يطلق نظام الأسد رصاصة على الإسرائيليين، بل إن الأسد هو مَن رسّخ عبارة «الرد بالوقت المناسب» ولم يأتِ ذاك الوقت إطلاقاً.
كما قبل «حزب الله» باتفاق وقف إطلاق نار يخول إسرائيل حق استهداف الحزب بالخارج، والداخل اللبناني. ولم تطلق الميليشيات رصاصة على الإسرائيليين من الأراضي السورية، رغم كل الاستهداف الإسرائيلي لها بسوريا.
ويقال إن الشرع مصنّف «إرهابياً» من أميركا، وكذلك الأسد تحت قانون قيصر. ويقال إن تركيا تسيطر على سوريا، ومن أبجديات السياسة أن كل فراغ يُملأ، فالسياسة «تكره الفراغ». والتقصير هو ممن ينكفئ الآن عن مساعدة دمشق.
وعليه، هذه لمحة من الحقائق، والقائمة تطول.
الشرق الأوسط
——————————–
سوريا… من سيكتب الدستور؟/ سوسن الشاعر
تحديث 23 كانون الأول 2024
الترقب هو حال جميع الدول العربية وغير العربية لاتخاذ موقف حيال ما يجري في سوريا… مع التمنيات بأن يسعد الله شعباً هجر نصفه وعذب النصف الآخر، وأن ينعم بالاستقرار والرفاه والحرية كما يستحق هذا الشعب أن ينال.
لذلك نجد جميع البيانات الصادرة من دول العالم بيانات متحفظة جداً بانتظار ما سيسفر عنه المستقبل، وتتضح من بعده صورة النظام السوري الجديد.
بالمقابل حرصت قيادة «هيئة تحرير الشام» على أن ترسل رسائل اطمئنان للجميع بمن فيهم إسرائيل، بأن سوريا ليست بصدد أن تكون منصة قلق لأي دولة، فسوريا معنية باستعادة ما دمر فيها من بنية تحتية، وتستعيد حتى ما دمر من ثقة ونفسية الشعب السوري.
إلى الآن يبدو الخطاب مدروساً بعناية ومعداً سلفاً، ويقدمه الشرع قائد «هيئة تحرير الشام» بشكل معدّ لطمأنة الجميع، لكنه في الوقت ذاته خطاب يترك الباب مفتوحاً للتكهنات حول طبيعة هذا النظام.
إذ حرص على مخاطبة الخارج من خلال منصات أجنبية، يدل اختيارها على أنه حريص على طمأنة الغرب وتغيير الصورة الذهنية السابقة عن «الجولاني».
ثم وفي مقابلة مع صحيفة «الشرق الأوسط»، أرسل رسائله التي تؤكد أنه معجب بالرؤية التنموية للمملكة العربية السعودية، وسيتعاون معهم، وأصدر بيانات يطمئن فيها العراق ولبنان، وبالمقابل وعدت المملكة بتقديم يد العون؛ وأول الغيث كان التزويد بالطاقة.
قال عن العلاقة مع روسيا ستظل حالياً كما هي، تحدث عن تركيا بامتنان، وعن إسرائيل بأنه لا يسعى لحرب معها، لذلك سيبقى اتفاق الحدود قائماً، ودعاها للرجوع إلى ما كانت عليه إبان حكم الأسد.
الولايات المتحدة ما زالت تنتظر، ومعها أوروبا، كي تبت في رفع العقوبات؛ ومنها «قانون قيصر»، إنما يبدو استعدادهم لهذا القرار واضحاً ومعداً، والزيارات المتتالية للوفود الغربية تؤكد ذلك.
وقال إنه سيعيد تأسيس الجيش ويوحد السلاح بيد الدولة؛ إنما عقيدة هذا الجيش وتسليحه وسياسته، كل ذلك تركه لمن سيكتب الدستور.
أما للداخل السوري فقدم رسائل حاول فيها طمأنة النسيج السوري المتنوع بأن الأقليات لن يهضم حقها، وستعود سوريا لجميع السوريين، كما كانت منذ الأزل منذ ما قبل الميلاد، فقدم رسائل للمسيحيين والأكراد والدروز مدروسة إعلامياً بعناية.
أما عن شكل سوريا ونظامها؛ هل سيكون متشدداً وإلزامياً، وموقفه من الحريات الشخصية، وهذا من أكثر الأسئلة تداولاً، فقد أكد أن سوريا لن تكون «طالبان» بتشددها وسيسمح بتعليم البنات!
وهنا ترك الباب مفتوحاً من جديد للتكهنات؛ إذ إنه خطاب – كما نرى – لا يبين موقف النظام الجديد من الحريات الشخصية بشكلها العام، وإلى أي حد ستكون عليه ضوابط القانون، إنما قال سيترك ذلك لمن سيكتب الدستور.
خرجت مظاهرات سورية تطالب بدولة مدنية، ومظاهرات نسائية في دمشق تطالب بأن تحترم حقوق المرأة واختياراتها شكك البعض بأهدافها ومحرضيها، إنما تركت لتعبر عن نفسها دون اعتراض، وكان ذلك جس نبض نجحت فيه «هيئة تحرير الشام».
أجاب عن صورة الفتاة التي طلب منها وضع الحجاب قبل التصوير معه، إن كانت مؤشراً على إلزامية الحجاب، فقال «إنما طلبت منها ولم ألزمها، لأن ذلك أمر شخصي يخصني أنا». اختياراته للحكومة المؤقتة مؤشر آخر على التيار الذي سيقود سوريا الجديدة بأنهم سيكونون من جماعات الإسلام السياسي، إنما الفارق أنه يؤكد أننا تعلمنا من أخطاء السابقين لنا، وربما يشير إلى التجربة المصرية، وذلك ما سيبينه الدستور الجديد.
وحين سئل: من سيكتب هذا الدستور؟ أجاب إن الجميع سيكون ممثلاً، وهنا تكمن العقدة، وأول تحديات سوريا الجديدة في اعتراف الجماعات والتيارات بمن سيكون موجوداً في لجنة صياغة الدستور، إن كان يمثلهم تمثيلاً حقيقياً أم لن يعترفوا به.
وتأتي استحقاقات تركيا تحدياً ثانياً؛ ومناطقها التي تريد أن تسيطر عليها، وهل ستصطدم الهيئة مع بقية الفصائل حين تطالب بتوحيد السلاح في يد الجيش؟ أم سنشهد خلق حرس ثوري سوري؟
—————————–
جنبلاط والشرع وجروح الأسدين/ غسان شربل
تحديث 23 كانون الأول 2024
من موسكو البعيدة يتابع أحوالَ دمشقَ التي كان يُمسك بمفاتيحها ومصائر السوريين. من حقّه أن يفركَ عينيه. المشهد صعبُ التصديق والاحتمال. يعرف هذا المكان سطراً سطراً. إنَّه الكرسي الذي جلسَ عليه والدُه قبل أربعة وخمسين عاماً. الكرسي نفسُه الذي جلس هو عليه قبل أربعةٍ وعشرين عاماً. الكرسي الذي وعدَ شاغلُه بأن يبقى إلى الأبد أسديَّ الهوية والهوى. لكن التاريخ يقول إنَّ الكرسي يَتعب من شاغلِه إذا أسرف في الرهانات الشائكةِ وأسرفت أجهزته في ولائمِ القسوة. ما أقسى أن تخسرَ القصرَ والأختام. وأن ينقضَّ الناسُ على الصور والتماثيل! لا القيصر سارع إلى ردّ القدر ولا المرشد فعل. لم ينقذْه حليفٌ ولم ينقذ نفسَه. ما أقسَى المشهد على المشاهد البعيد! سوريا بلا الأسد. وبلا إيران. وبلا «حزب الله». دار الزمان دورةً كاملة.
يعرف المكان سطراً سطراً. هذا كرسي حافظِ الأسد. وكرسي بشارِ الأسد من بعده. يجلس عليه من يصفونَه اليوم بـ«الرجل القوي». رجلٌ خلع عباءة «أبو محمد الجولاني» وارتدى بزةَ أحمد الشرع وراح يوزع الضماناتِ والتطمينات. يضاعف من قسوةِ المشهد اسمُ الزائر. إنَّه وليد جنبلاط. نجلُ كمال جنبلاط. ورفيقُ رفيق الحريري. إنَّه حاملُ النعشين وجروح الأسدين. وحين صافحَ الشرع الزائرُ الجنبلاطي، غربت شمسُ حقبةٍ كاملة على طريق بيروت – دمشق.
على مدى نصفِ قرن صُنعت على طريق بيروت – دمشق رئاسات وزعامات وأنتج المصنع الدمشقي وزراء ونواباً وجنرالات. تآكلت هيبةُ قصر الرئاسة والسراي والبرلمان في لبنان، وأمسك الضابطُ السوري المقيمُ في عنجر بأحوال الجمهورية الضائعةِ والعلاقات بين المكونات. قصة وليد جنبلاط مختلفة. عمر زعامة العائلةِ أربعة قرون ويصعب عليها ألا تعاند.
لم يسلم كمال جنبلاط بحقّ حافظ الأسد في الإمساك بمصير لبنان وتطويعه وإعادةِ صياغة موازينه. تحول وجوده عقبة أمام ممارسةِ الأسد الأب للتفويض الذي حصلَ عليه إقليمياً ودولياً لضبط البلدِ الصغير المزعج. قالَ جنبلاط لمحسن إبراهيم: «أنا أعرفُ مصيري ولن أتفاداه. لا أريد أن يكتبَ التاريخ أنّني وقَّعت على دخولِ لبنان إلى السَّجن الكبير». ولم يتأخرِ الرَّصاص. في مارس (آذار) 1977 اخترق الرَّصاص جسدَ كمال جنبلاط في معقلِه الجبلي واستدعى القدرُ نجلَه وليد لارتداء عباءةِ الزعامة.
ضبط الشَّابُّ العاشقُ للحياة وصخبها غضبه ومشاعر الثأر لدى أنصاره. وبعد نحو أربعين يوماً من الاغتيال دخلَ مكتبَ الأسد الذي استوقفه التشابه بين الابن وأبيه. رفضَ وليد إقحام طائفتِه في مواجهةٍ تفوق قدرتها. إنقاذ وجودها التاريخي أولويةٌ مطلقة لديه. خبّأ جرحَه. تظاهر بالنسيان ولم ينسَ. بلغت علاقتُه بالأسد الأب حدَّ التحالف في «حرب الجبل» في 1983 وتحمَّل الأسدُ لاحقاً مزاج جنبلاط حين كانت تراوده رغبةُ إظهار التمايز أو الاحتجاج أو الاختلاف.
تأسست علاقةُ وليد جنبلاط مع بشار الأسد على الشكوكِ والحذر وخيّم عليها ظلُّ رفيق الحريري. لم يسلّم وليد بحق بشار في إدارة لبنان كما فعل والدُه مع الأسد الأب. ولم يسلم رفيق الحريري بذلك أيضاً. وسيقول الحريري لاحقاً: «حاولت أن أكونَ صديقاً لبشار لكنَّه رفض. وليد حاول أيضاً وكانت النتيجة نفسها. صدق بشار منذ البداية الوشاةَ وكتاب التقارير».
شكّل اغتيال الحريري في 2005 منعطفاً خطراً في علاقة جنبلاط بدمشقَ الأسدية. تقدَّم الصفوفَ وذهب بعيداً. من ساحة الشهداء في بيروت هزَّ صورة الأسد وحمل عليه بأصعبِ العبارات والأوصاف.
يلعب وليد مع العواصف. يقتحمُ وينحني ويكمن. يبالغ ويعتذرُ ويصحّح. يهدأ ويراقبُ الرياح ثم يجدّد الرماية. كانت عروقُه تغلي حين أخبرته والدتُه عن حكمةٍ صينية تدعو المجروح إلى «الجلوس على حافةِ النهر وانتظار جثَّةِ عدوه». جلسَ وليد وانتظر طويلاً. سلك طريقَ بيروت دمشق مجدداً بعدما نجحَ زعيم «حزب الله» حسن نصر الله في كسر إرادة خصومِ الأسد لبضع سنوات.
لم تكن مراهمُ المصارحة والمصالحة كافيةً لتغيير ما في الصدور. بعد اندلاع الثورةِ السورية دخل وليد مكتبَ الأسد ونصحه بمحاكمة قتلة الصَّبي حمزة الخطيب. ضاعفَ ردُّ الأسد يأسَه. وازداد ابتعاده عن نظام الأسد حين سمعَ من رئيس الأركان السابق للجيش السوري حكمت الشَّهابي عبارة شديدة القسوة. قال الشَّهابي عن بشار: «هذا الولد سيأخذ سوريا إلى الحربِ الأهلية والتقسيم».
وعلى رغم نجاحِ روسيا وإيران في إنقاذ نظامِ الأسد، قرَّر جنبلاط «الوقوف في الجانب الصحيح من التاريخ» وطي صفحةِ المواعيد مع الأسد ومهما كان الثمن.
غاب الأسد فعادَ جنبلاط إلى طريق بيروت – دمشق. جاءَ على رأس وفد من النواب والحزبيين ورجال الدين. حمل وليد تمنياتِه برؤية سوريا موحدةً ومستقرة تحترم التعددَ وتتَّسع لكل مكوناتِها بمن فيهم الأكراد في ظلّ القانون. تركيبة الوفد تعكس اهتمامَ جنبلاط الدائم بترسيخ وجود المكوّن الدرزي في العمق العربي والإسلامي، خصوصاً بعد تحركات نتنياهو الأخيرة. يأمل جنبلاط في أن تقومَ بين لبنان وسوريا الجديدة علاقاتٌ طبيعية بين جارين. وأن يحصلَ تعاون جديّ في ملفات النازحين والمفقودين اللبنانيين وترسيم الحدود وجلاء قضية مزارع شبعا.
استيقظ أهلُ الجوار على سوريا جديدة. انشغل العراق باستجلاءِ أبعاد ما حصل والعواقب المحتملة. الأردن انشغل أيضاً. وتصاعدت الأسئلة في لبنان خصوصاً لدى المعنيين بانقطاع «طريق سليماني» بين طهران وبيروت. تصرفت إسرائيل بعدوانيةٍ هائلة. وحده اللاعبُ التركي لم يفاجأ لأنَّه شارك في صنع المشهد الجديد. بدأ الغرب باستطلاع نيّات الرجلِ الجالس على كرسي الأسد. هل يستطيع الشرعُ تبديدَ الهواجس والمخاوف في الداخل والخارج؟ وحدها الشهور المقبلة تمتلكُ الإجابات.
صافحَ الشرعُ حاملَ النعشين وجروح الأسدين. لوّحت حقبةٌ كاملة وغادرت إلى التاريخ.
الشرق الأوسط
——————————–
ما ملامح الإستراتيجية التركية في سوريا؟/ سمير العركي
كاتب وباحث في الشؤون التركية
23/12/2024
في الثاني عشر من ديسمبر/ كانون الأول الجاري، ظهر رئيس الاستخبارات التركية، إبراهيم كالن في المسجد الأموي بالعاصمة السورية، دمشق، وذلك بعد أربعة أيام فقط من سقوط نظام الرئيس السوري السابق، بشار الأسد.
لم يكتفِ كالن بالصلاة، بل تجول في شوارع دمشق في سيارة يقودها القائد العام للإدارة السورية الجديدة، أحمد الشرع، وسط ترحاب من جموع السوريين الموجودين في المكان.
رسالة أنقرة الواضحة من المشهد، أن تركيا لن تترك سوريا بمفردها في مرحلة التحول الحالية، والتي غالبًا ما يعتريها الاضطرابات، كشأن مراحل التحول في العالم وخاصة العنيفة منها.
في موازاة ذلك جاءت تصريحات كبار المسؤولين الأتراك، سريعة وكاشفة لملامح الإستراتيجية التركية المقبلة في سوريا.
لكن قبل محاولة استشفاف ملامح تلك الإستراتيجية، ينبغي معرفة أهمية سوريا الجيوستراتيجية بالنسبة إلى تركيا.
ماذا تعني سوريا لتركيا؟
لا يمكن فهم طبيعة علاقة الروابط التي تربط البلدَين، دون استحضار المقاربة التاريخية، لتفسير الروابط الجيوسياسية والجيوستراتيجية والجيوثقافية العميقة التي جمعتهما منذ عهد الدولة العثمانية.
ورغم انهيار الدولة العثمانية، وظهور وحدات سياسية جديدة على أنقاضها، فإن سوريا احتفظت بذات الأهمية بالنسبة إلى تركيا، فهي المعبر السياسي والاقتصادي إلى العراق والجزيرة العربية واليمن، وكلها مناطق ترتبط بتاريخ ومصالح مشتركة مع تركيا.
كما ترتبط الدولتان بحدود مشتركة تصل إلى 900 كيلومتر، مثّلت مشكلة أمنية متفاقمة لتركيا، خاصة بعد ظهور تنظيم حزب العمال الكردستاني “PKK”، واحتضان نظام الأسد الأب له رعايةً وتدريبًا.
ومع الفوضى التي ضربت سوريا – تزامنًا مع المواجهات المسلحة بين فصائل الثورة ونظام بشار الأسد – تحوّلت الأراضي السورية إلى خطر أمني متفاقم بالنسبة لتركيا، وتهديد جِدّي لوَحدة وسلامة أراضيها، مع تصاعد خطر إنشاء كيان انفصالي في شمال سوريا، في محاذاة الحدود الجنوبية لتركيا.
لكن انهيار نظام الأسد، منح تركيا – حسب وصف الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب – فرصة تملك المفاتيح في سوريا، فكان لزامًا عليها انتهاز الفرصة وبناء إستراتيجية واعية وفعالة، تعالج من خلالها الأزمات التي عانت منها خاصة في العقد الأخير.
سوريا الموحدة
فكما وقفت تركيا حجر عثرة أمام تقسيم سوريا خلال السنوات الماضية، فإن إستراتيجيتها المستقبلية، ستعمل على سد جميع المنافذ التي يمكن أن تكون سببًا في تهديد وحدة الأراضي السورية.
فالرئيس رجب طيب أردوغان – وخلال اجتماع موسع لرؤساء فروع حزب العدالة والتنمية يوم 10 ديسمبر/ كانون الأول الجاري – قال: “من الآن فصاعدًا لا يمكن أن نسمح بتقسيم سوريا مرة أخرى، ولا يمكن أن نوافق على أن تصبح مجددًا ساحة صراع”.
فالحالة السورية قابلة للتشظي والانفجار؛ نظرًا للتنوعات المذهبية والإثنية، التي قد تحاول بعض القوى الدولية والإقليمية، استغلالها لضرب تماسك الدولة، خاصة أن الخبرة السورية تمتلك نموذجين في هذا الصدد، الأول خلال القرن الماضي، عندما سعت فرنسا منذ احتلال سوريا عام 1920 إلى استخدام الأقليات، لإحداث شروخ جيوستراتيجية هائلة في المنطقة، إذ عمدت إلى تأسيس ما عرف بـ “دولة جبل العلويين” في منطقة الساحل، قبل فشلها.
لكن مع استيلاء حافظ الأسد على الحكم عام 1970 بانقلاب عسكري، اصطبغت سوريا بالصبغة الطائفية الأقلوية، التي لم تتردد عن ارتكاب مجازر للحفاظ على هيمنتها.
النموذج الثاني قادته الولايات المتحدة، بدعمها حزب العمال وفروعه في سوريا، من أجل إنشاء كيان انفصالي ذي صبغة ماركسية لينينية، مستغلةً في ذلك الوجود الكردي كعرقية أصيلة من مكونات الشعب السوري!
كل هذه المشاريع الأقلوية والانفصالية، ألقت بتداعياتها الثقيلة على الداخل التركي، وكلفت أنقرة مواجهات دامية على مدار عقود، واضطرابات سياسية، فكان لا بد من العمل الآن على منع تكرار ذلك.
وهذا ما دفع وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، إلى التعبير عن رغبته في رؤية سوريا “لا تتعرض فيها الأقليات لسوء المعاملة، بل ويتم تلبية متطلباتهم الأساسية”.
فيما أكد الرئيس أردوغان خلال لقائه في أنقرة، رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، اتفاقه معها على ضرورة إنشاء إدارة تشاركية في سوريا، وذلك للحفاظ على وحدة أراضيها.
فتركيا تدرك أن التعامل الصحيح مع هذا التنوع داخل سوريا، ليس بتجاهله بل بالاعتراف به، ومن ثم إقامة حوار مجتمعي بنّاء يضمن تأسيس نموذج رشيد للحكم يحتوي الجميع من خلال تشاركية حقيقية، تحترم الهويات الخاصة بكل طائفة أو عرقية؛ بغية خلق مجتمع متسامح.
مواجهة الإرهاب
في لقائه برئيسة المفوضية الأوروبية – المشار إليه آنفًا – أكد أردوغان عدم سماح تركيا بوجود أي تنظيمات إرهابية، مثل: حزب العمال، أو تنظيم الدولة الإسلامية على حدودها.
فهذه الفرصة التي لم تتح لتركيا منذ عقود، لن تتركها تتفلت من يدها، خاصة أنها خبرت جيدًا الوعود الأميركية والروسية على حد سواء بشأن إبعاد التنظيمات الإرهابية عن حدودها، لكن لم تفِ أي منهما بوعودها.
وجهة النظر التركية الأشد صرامة ووضوحًا عبّر عنها وزير الخارجية، هاكان فيدان، في لقاء متلفز، حيث أعلن ما يمكن اعتباره خريطة طريق للتعامل مع تنظيم حزب العمال “PKK”، وفرعه السوري وحدات الحماية “YPG”، وقوات سوريا الديمقراطية “قسد” أهم ما جاء فيها:
إعلان تدمير تنظيم حزب العمال هدفًا إستراتيجيًا لتركيا في سوريا.
مطالبة كامل مستوى قيادة حزب العمال، ووحدات الحماية، بمغادرة سوريا، حتى ولو كانوا من أبنائها.
وجوب مغادرة كل مقاتل أجنبي انضوى في صفوف التنظيم وقاتل معه الأراضي السورية فورًا.
بالنسبة للعناصر المتبقية من دون مستوى القيادات، فيجب عليهم إلقاء السلاح ومواصلة الحياة من خلال التفاهم مع إدارة سوريا الجديدة.
أما على المستوى الميداني، فحتى كتابة هذه السطور، نجحت قوات الجيش الوطني السوري، في طرد تنظيم وحدات الحماية من مدينتَي، منبج وتل رفعت، ودفعه إلى شرق الفرات، حيث تبسط القوات الأميركية حمايتها على التنظيم!
فيما يتبقى إنهاء وجود تمظهرات التنظيم المختلفة في مدينة عين العرب “كوباني”، وبقية محافظة دير الزور شرق الفرات، والرقة، إضافة إلى محافظة الحسكة.
وتحرير هذه المناطق يحتاج إلى تفاهمات واسعة بين تركيا والولايات المتحدة منعًا لتأزم العلاقات، وفي تقديري أنه مع استلام ترامب إدارة البلاد رسميًا فإنه يمكن التوصل إلى تلك التفاهمات، خاصة مع رحيل بعض الشخصيات من الإدارة الحالية، المعروف عنها دعمُها اللامحدود لتنظيم حزب العمال، وعداؤُها لتركيا، وأبرزهم مستشار البيت الأبيض لشؤون الشرق الأوسط، بريت ماكغورك.
إعادة الإعمار
يعد ملف إعادة الإعمار من الملفات التي توليها أنقرة عناية فائقة، حيث أكد أردوغان أن تركيا ” ستقف إلى جانب سوريا حتى تقف على قدميها مجددًا” وتشير التقديرات إلى أن فاتورة إعادة الإعمار قد تصل إلى 300 مليار دولار.
هذه الفاتورة لا يمكن لسوريا أن تتحملها بمفردها وتحتاج إلى دعم إقليمي ودولي من أجل رفع العقوبات الدولية المفروضة ضد نظام الأسد، والتي لم يعد لها معنى بعد إسقاطه، إضافة إلى مساهمة المجتمع الدولي في دعم إعادة الإعمار.
وهنا يأتي دور الدبلوماسية التركية، والتي تلعب دورًا ملحوظًا في هذا الصدد، حيث تعمل على دفع الحكومة الانتقالية في دمشق إلى تبنّي سياسات مرنة ومتسامحة، تطمئن المجتمع الدولي، فيما تواصل اتصالاتها ومشاركاتها الفعّالة لحمل الدول الغربية على الاعتراف بنظام الحكم الجديد في دمشق.
ومن المهم التأكيد هنا على أن ملف إعادة الإعمار لا يمثل لدى تركيا أهمية اقتصادية فقط، بل يسبق ذلك الآثار الجيوستراتيجية والأمنية المرتقبة لعودة ملايين النازحين واللاجئين إلى قراهم وبلداتهم.
إذ ستشكل عودة هؤلاء نهاية لمشروع التطهير الديمغرافي والطائفي الذي شهدته سوريا في السنوات الماضية لصالح مشاريع انفصالية ومذهبية كان يراد منها تغيير هوية الدولة والعبث بجغرافيتها.
وختامًا:
فإن آفاق التعاون المستقبلية بين الدولتين ستتعاظم خلال المرحلة المقبلة، لإعادة تأهيل الدولة خاصة في القطاعات التي تم تدميرها تمامًا، وفي مقدمتها الجيش، حيث أعلن وزير الدفاع، يشار غولر، استعداد تركيا لتقديم الدعم والتدريب العسكري اللازم، إذا طلبت الحكومة الانتقالية ذلك.
الجزيرة
———————————-
نظرة دستورية في الحالة السورية/ محمود برهان عطور
22/12/2024
الحمد لله الذي أشهدنا نهاية طاغية الشام وتحطيم الأصنام، هنيئًا لكل السوريين، ولكل العرب ولكل الإنسانية، التي كرّم الله – تعالى – الناس معها وفضلهم على كثير من خلقه.. هي قاعدة في دستور الكون، حكمة الله – تعالى – في التدبير، ولكن الطاغية يرى منهجًا غير هذا، فلا يسمع ولا يرى غير ما تسول له نفسه ونظامه الجائر من إذلال الناس وإفقارهم، وقتلهم وتهجيرهم، وحبسهم وتغييبهم؛ فجاءت نهايته الحتمية بسقوطه وتحطيم أصنامه، فلله تعالى الحمد، وله الفضل.
مما لا شكّ فيه أن الحالة الراهنة في سوريا حالة استثنائية خاصة بامتياز، ربما لا تستقيم معها المعالجات الدستورية التقليدية؛ فقد خرجنا من نير نظام بائد ظالم مستبد، استمر لعقود لا يرقب إلًّا ولا ذمة، ولا يرعى رحمًا ولا عهدًا، أنهك معها العباد والبلاد، وجعلها في حالة تراجع على كافة الأصعدة، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، انتشر معها الفقر، وهو من ألدّ أعداء الإنسان، فـ “لو كان الفقر رجلًا لقتلته”، كما يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه.. هذه الحالة الاستثنائية تتطلب اقتراحات وتشاورًا وتبادلًا للرأي، وحلولًا تعلي الشأن الوطني بهدف الاستقرار والازدهار.
حالة الضرورة في الفقه الدستوري إحدى حالات الاستثناء، التي تستدعي التدخل غير الاعتيادي لحل المشكلات القائمة التي تواجهها الدولة، وترشيد المسار بالاستناد إلى المبدأ المعروف قديمًا، بأن سلامة الدولة فوق القانون.
فالحالة الاستثنائية تفرض نفسها نتيجة متغيرات فجائية غير متوقعة، سواء كانت طبيعية أم سياسية، تستدعي مواجهة حالات طارئة وتغييرات جذرية في حياة الدولة ومسيرتها نحو الاستمرار الطبيعي لكيان الدولة.
ولعل ما يبرر حالة الضرورة حاليًا أن التغيير الجذري الذي حصل أشبه ما يكون بالزلزال السياسي في البلاد، وانعكاساته على المنطقة، وتأثيره في العالم، وهو التغيير الذي اشتاق له السوريون طويلًا، فقد عانوا وضحّوا وعملوا له سنوات طوالًا، حتى تحققت أمنيتهم بتوفيق من الله رب العالمين.
لكنه رغم الفرحة به فإن الدولة تواجه تحديات كبيرة، تستدعي مواجهتها بوسائل استثنائية غير اعتيادية، وفقًا لمعايير تتجلى بأنها ضرورية ولازمة ومؤقتة لمواجهة الحالة الراهنة؛ بهدف المحافظة على النظام العام، وتسيير المرافق العامة، وتقديم الخدمات، وتلبية الاحتياجات، والسعي نحو الاستقرار والبناء، خاصة أن النظام البائد أمعن في الإيذاء حتى آخر رمق، ولم يعر اهتمامًا للدولة والمجتمع، وكان غير عابئ بمسيرتها ولا مستقبلها، وتركها بحالة فراغ تام دون نقل منظم للسلطة في حده الأدنى.
ومما يحسب للإدارة السياسية الجديدة – وقد أحسنت في هذا – أنها أبقت على حكومة النظام البائد بعض الوقت، ضمانًا لحسن سير النشاط العام، وعملت على توجيه الحكومة لاستلام العمل من الحكومة السابقة.
لعل ما نطرحه يساهم مع فِكَر وأطروحات كل الخيرين الغيورين في تقديم حلول تساعد على استتباب الأمر في تماسك البلاد ووحدتها، وسيادتها واستقلالها، وتحقيق الأمان والاطمئنان، بما يتطلب وحدة الصف وتكاتف الجهود.
حالة الاستثناء المتعارف عليها تعمل على تركيز السلطة بشخص أو جهة، لمواجهة حالة الخطر الجسيم المحدق بالدولة في فترة من الفترات، وقد حدث ذلك لدى أمم أخرى، ومثال على هذا ما أعلنته الجمهورية الفرنسية الخامسة إبان حرب التحرير الجزائرية سندًا للمادة 16 من دستور فرنسا لعام 1958.
ولكننا أمام حالة استثنائية خاصة كما بيّنتُ، تتعلق بتغيير سياسي يهدف إلى إعادة بناء دولة وقعت تحت نير نظام ظالم مستبد، ذلك النظام الذي سخر موارد الدولة لتثبيت حكمه بالقبضة العسكرية والأمنية، غير عابئ بمتطلبات ومقدرات الناس، وأعاد معها الدولة عشرات السنوات إلى الوراء في بنية متهالكة وتحديات جمة.
إعلان دستوري قد يساهم في تحقيق الأمن القانوني، وحماية استقرار الإطار القانوني في الدولة؛ فالأمن القانوني يتعلق بالطمأنينة واليقين، مما يجب أن يسود المجتمع في إطار التنظيم القانوني لمختلف الأنشطة والعلاقات، وموضوع الطمأنينة من الأهمية بمكان لدى الناس حتى يشعروا بنوع من الاستقرار مع هذا التغيير الجذري الكبير، بما يضمن استقرار المراكز القانونية للمجتمع وللأفراد وتوقعاتهم المشروعة، والذي تعكسه حاليًا أقوال ونشاطات القيادة الحالية، وهو ما يحتاجه المجال التشريعي أيضًا على المستوى العام للتصدي لما يمكن تسميته “خطر الواقع”، الذي ينشأ تلقائيًا مع الأزمات والتغيرات الكبيرة، ويمكن أن تبادر إليه الإدارة السياسية الجديدة التي اكتسبت شرعية ثورية مستمدة من الإجماع الشعبي على وجوب التغيير السياسي، وهو ما تحقق.
يتبع ذلك خطوة تالية تبرر الحاجة إلى السير بخطى ثابتة نحو الاستقرار، بما يعين على أن تتبين معه الأسس القانونية في المرحلة الحالية، والجهات الفاعلة المسؤولة ومرجعيتها القانونية مرحليًا، ليكون العمل العام تحت هذا السقف، تلبية للمتطلبات الأساسية الطارئة الضرورية ووسائل تنفيذها، وكيفية التعامل مع المستجدات، بهدف تنظيم المسير، وجعله أكثر فاعلية في هذه الحقبة من هذا الزمن الجميل بالانتصار على طاغية الشام ونظام حكمه البائد، وعودة سوريا إلى أهلها ومحيطها.
الفصل بين السلطات من المبادئ الدستورية الجوهرية في الدولة المعاصرة؛ فإنه – ومع حالة الاستثناء – يمكن الأخذ بمضمونه، وعلى هديه يمكن أن يكون الإعلان الدستوري مترافقًا مع تشكيل مجلس حكم، مثل مجلس رئاسي يتولى الإدارة السياسية العليا للبلاد في هذه المرحلة، حتى لو طالت بعض الوقت حتى يستتب الأمر.
يتعاون معه مجلس استشاري يتولى طرح المراسيم اللازمة وكيفية إدارة شؤون الدولة، وإعادة تشكيل مجلس القضاء الأعلى والمحكمة الدستورية، إضافة لحكومة الإنقاذ ونشاطها التنفيذي، لتسير الدولة بهداه من أجل تهيئة البلاد للحقبة الجديدة وما تحتاجه من دستور جديد وحوكمة، وقوانين ناظمة للحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بما يصون الحقوق والحريات والتمثيل الشعبي الحر في المؤسسات السيادية، ويعكس التطلعات المشروعة للشعب السوري، والبدء بالإعمار، وتحقيق المصلحة الوطنية العليا من أجل ترسيخ قيام دولة القانون والمؤسسات على أساس من العدل والمساواة.. والله تعالى المستعان.
دكتوراه في القانون الدولي العام
الجزيرة
—————————-
دور الطوفان في سقوط بشار الأسد/ نور الدين سيدي عبد الله
22/12/2024
منذ أن انطلقت معركة طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، والعالم في تأهب حذر من حرب شاملة في منطقة الشرق الأوسط، استدعت من حلفاء إسرائيل دعمها ومساندتها بشكل غير مشروط، ومن أبرز تلك الدول الولايات المتحدة الأميركية، وبريطانيا، وألمانيا، وفرنسا، وذلك ما جعل اهتمام هذه الدول بالشأن السوري يخفّ.
تقهقر “محور المقاومة”
أما في الجانب الآخر فقد أعلنت المقاومة الإسلامية في لبنان دعمها للطوفان، ما استدعى منها توجيه ضربات للأراضي المحتلة، جعلت إسرائيل تجر من خلالها إيران للدخول في مواجهة شبه مباشرة وضربات من هنا وهناك، تضرّرت منها في إيران البنية التحتية العسكرية، ليختتم المشهد بشن حرب على حزب الله في الجنوب اللبناني، كان من نتائجها أن الحزب تأثر ولا شك، ولم يعد لديه إمكانية في الوقت الحالي للدخول في حرب أخرى، هذا إن لم نقل إن ما جرى نتج عنه ضعف المنظومة العسكرية للحزب، الذي كان بالأمس القريب داعمًا رئيسيًّا لنظام بشار الأسد.
الحال نفسه ينطبق على إيران المنهكة بعد مجموعة من الضربات العسكرية الإسرائيلية الدقيقة، ووفاة رئيسها السابق، وانتخاب رئيس جديد يتبنى سياسة مختلفة، وهو ذو خلفية مغايرة.
روسيا خارج اللعبة
إن المتتبع لمسار الثورة السورية يدرك أن اللاعبين الأساسيين في الشأن السوري من جهة النظام، هم: إيران وحزب الله، اللذان لم يعد لهما تلك القوة التي كانت قبل عام من الآن، وروسيا الاتحادية التي غرقت في أتون حرب أوكرانيا، ولم تعد لها قدرة على الدخول في صراع آخر يعد استنزافًا لها.
الفرصة المواتية
كل هذه العوامل، إضافة إلى التحضير الجيد للمعارضة المسلحة السورية المسيطرة منذ أعوام على محافظة إدلب، ساعدت في تهيئة الفرص لإزاحة هذا النظام الضعيف من دون دعم الخارج ومليشياته، فجيشه منهك وقد تعرض للعديد من الهزائم في السنين القليلة الماضية، وترك العديد من مناطقه للثوار، وحدث فيه الكثير من الانشقاقات، وضعف الروح القتاليّة والحماس للدفاع عن رأس النظام الذي خسر جميع أوراقه داخليًّا وخارجيًّا، ولم يعد ينتظر سوى هبة عسكرية مناهضة تكون الضربة القاضية للنظام المريض.
هذه الهبة – وإن كانت مفاجِئة للبعض من المحللين والمتتبعين للشأن السوري- كانت مدبرة وفق مصالح وطنية معارضة، استغلت اللحظة وأحسنت الاستغلال، وخرجت بكامل قواها لتجد أمامها جيشًا منهارًا نفسيًّا وبدنيًّا، وشخص الرئيس الذي لم يعد يقدر على حشد حلفائه السابقين المشغولين عنه والمنهكين.
أين تركيا مما يحدث؟
هذا التحرك الذي توفرت جميع الوسائل للبدء فيه، شكل وجود مئات الآلاف من اللاجئين السوريين في الخارج، وبالأخص في تركيا، ورقة ضغط على قادته للمسارعة في إعادة أبناء شعبهم المهجرين، أضف إلى ذلك واقع اللاجئين من منظور الدولة التركية وانعكاسات ملفهم على الشأن التركي، وما أصبحوا يشكلونه من عبء سياسي يستغل في كل سانحة انتخابية محلية.
وذاك ما فرض على الأتراك الالتزام بموقفهم الداعي إلى فرض شكل جديد للنظام في سوريا، يستوعب معارضيه ويعجل بعودة اللاجئين إلى ديارهم، ما جعل نقاط التقارب بين الثوار والأتراك تتعدد، وهذا دفع نحو دعم تركي يحدد المعالم الجديدة للمنطقة من دون الأسد.
هل إسرائيل هي التي خططت؟
إن من يرى أن هذه الحركة السريعة تخطيط وتدبير من إسرائيل يجهل الواقع المحيط بهذا التحرك، كما يجهل تاريخيًّا الدور الحيوي الذي ظل بشار الأسد ووالده من قبله يؤديانه لإسرائيل حماية لها، وهروبًا من واقع كان الأسد الأب هو من رضي به من تفريط بمرتفعات الجولان، وتسليم بالأمر الواقع، وتوجيه الأسلحة الكيميائية فقط للشعب الأعزل حين يستدعي الأمر.
ولعلّ مسارعة الجيش الإسرائيلي إلى ضرب مخازن الأسلحة الكيميائية قبيل دخول المعارضة المسلحة إلى دمشق، دافعها هاجس يوحي بأن الإسرائيليين لا يثقون بحكام سوريا المحتملين الجدد. نشوء هذا الهاجس من خصوم محتملين، وعدم وجوده قبل ذلك، يوحيان بوجود تماس وثيق سابق مع نظام الأسد في السر، كان وراء الإبقاء عليه.
أما في الجانب الآخر، فقد كان التخطيط والسيطرة، والدافع الشعبي عند المعارضة المسلحة في الشمال السوري، واستغلالها للظروف الجيوستراتيجية لجوار البلد، والتي كان طوفان الأقصى المحرك الأساسي لها، وسيلة للبدء في فتح صفحة جديدة للدولة السورية.
كاتب، مدون
الجزيرة
————————-
نقاش المهزومين في معركة سوريا/ طوني فرنسيس
بوتين أصاب الأسد وخامنئي في مقتل: 30 ألف إيراني وسوري في حلب انهزموا أمام 350 ثائراً هاجموا المدينة
الاثنين 23 ديسمبر 2024
كشف بوتين أن عدد الثوار الذين هاجموا حلب كان نحو 350 مسلحاً فيما كان يوجد في المدينة لحمايتها 30 ألفاً من عناصر الجيش السوري والميليشيات الإيرانية، وهرب هؤلاء وسلموا المدينة السورية الكبرى. وقال بوتين “بعد أن كان الإيرانيون يطالبوننا بالدخول إلى سوريا باتوا يطلبون مساعدتنا لإخراجهم منها. روسيا أسهمت في إخراج 4 آلاف إيراني عبر قاعدة حميميم، عدا الذين فروا إلى لبنان والعراق”.
فتح سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد الباب أمام مشهد جديد في سوريا والشرق العربي أو “غرب آسيا” كما يحلو لقادة إيران تسميته، لدى طرح خططهم لتدمير إسرائيل وإخراج الأميركيين منه.
أول معالم المشهد الجديد كان عكس ما حلم به الملالي وعملوا من أجله عقوداً، فقد خرجت إيران من سوريا وانطلق حوار المهزومين بين حلفاء أستانا فيما عاد الأميركيون إلى دمشق وتوغل “الكيان المزيف” (في التعبيرات الإيرانية) إلى ضواحي دمشق، وثبت أن تكتيكات إيران في المشرق العربي لم تكن قائمة على قاعدة صلبة هدفها دعم معركة التحرير الفلسطينية العربية، بقدر ما كانت محاولة لبسط النفوذ من خلال استغلال ما تيسر من إثارة مذهبية ودينية و”قومية”.
اشتغل الإيرانيون على شيعة لبنان وسوريا ورفعوا شعارات حماية مقامات الشيعة في دمشق، وفعلوا ذلك في العراق وحرضوا في البحرين واجتهدوا في اليمن، لكن ذلك لم يخدم استراتيجية تدعيها طهران وهدفها تحرير القدس.
في سوريا كان الهدف حماية نظام دموي يوفر للملالي مساحة نفوذ. وفي لبنان، لم يكن تسليح “حزب الله” بهدف تحرير مزارع شبعا ولا لاقتحام الجليل أو المساس بمنصة كاريش، بل جعل البلد متراساً أمامياً على البحر المتوسط للإمبراطورية الفارسية. وفي اليمن صار الحوثي عنواناً قيد الاستعمال في كل شيء إلا ما يتصل بالسلام الداخلي وإعادة البناء، مثله مثل الحشد العراقي الذي لا مهمة له غير منع قيام الدولة العراقية السيدة.
اتبعت إيران تكتيكات متشابهة في المشرق العربي في إخضاع شعارات تحرير فلسطين إلى مقاييس المصلحة الإيرانية البحتة، ومكاييل الزمان والمكان المناسبة لأهل النظام في طهران، وصح في توقع نتائج هذه التكتيكات ما قاله الجنرال الصيني صن تزو قبل الميلاد بخمسة قرون، من أن “التكتيكات من دون استراتيجية هي صخب ما قبل الهزيمة”.
وشهدنا فعلاً صخب الهزيمة الإيرانية في غزة وفي لبنان على يد “الكيان الغاصب” وفي سوريا على يد الشعب السوري، وبات النظام الإيراني يخشى الآن أن يكون هو التالي على لائحة المهددين بالزوال.
مع ذلك لا تريد القيادة الإيرانية الخروج من روايتها الانتصارية. فإسرائيل هاجمت “حزب الله” وانهزمت لأنها مهزومة في غزة، والثورة السورية قضت على الأسد كرد على الهزيمة الإسرائيلية في غزة ولبنان وبتخطيط أميركي- إسرائيلي- تركي، وبحسب المرشد علي خامنئي فإن الشباب السوريين سيستعيدون بلادهم، أي إنهم سيقضون على الثورة ويعيدون سوريا إلى إيران و”محورها المقاوم”.
لم يكن لروسيا شريك إيران في ضبط الوضع السوري لمصلحة الأسد، النظرة الإيرانية نفسها ولا الاستنتاجات الخامنئية المماثلة لما جرى في سوريا. بدا الرئيس فلاديمير بوتين في مؤتمره الصحافي السنوي الأسبوع الماضي أكثر عقلانية واستيعاباً للدرس السوري من جهة، وأكثر انتقاداً واستخفافاً بالروايات الإيرانية من جهة ثانية. وكشف بوتين أن عدد الثوار الذين هاجموا حلب كان نحو 350 مسلحاً فيما كان يوجد في المدينة لحمايتها 30 ألفاً من عناصر الجيش السوري والميليشيات الإيرانية، وهرب هؤلاء وسلموا المدينة السورية الكبرى. وقال بوتين “بعد أن كان الإيرانيون يطالبوننا بالدخول إلى سوريا باتوا يطلبون مساعدتنا لإخراجهم منها”. وكشف الرئيس الروسي أن روسيا أسهمت في إخراج أربعة آلاف إيراني عبر قاعدة حميميم، عدا الذين فروا إلى لبنان والعراق كما قال.
لم يشر الإيرانيون سابقاً إلى هذه الواقعة ولا تحدثوا عن آلاف من عسكرييهم في سوريا. وكانوا يكتفون بالإشارة إلى إرسالهم مستشارين قبل أن يكشف نائب إيراني عن مقتل ستة آلاف عسكري إيراني في هذه البلاد.
واقعية الشريك الروسي جعلته يعترف ضمناً بالهزيمة بتحديد أهداف تدخله في الأساس وهي مكافحة الإرهاب وليس الإمساك بسوريا كحصن لـ”المقاومة” على الطريقة الإيرانية، وهذه صيغة قد تجعله مؤهلاً في أي وقت لملاقاة الولايات المتحدة في متابعة الحرب على “داعش”، وفي الوقت نفسه تعزيز خطوط التواصل مع “هيئة تحرير الشام”، التي يبدو أنها استؤنفت بقوة غداة وربما قبل ترحيل الأسد إلى موسكو. وقد يعزز ذلك حظوظ بقاء القاعدتين الروسيتين في سوريا وهذه رغبة لم يخفها بوتين، ويبدو أن سلطات دمشق الجديدة لا تناهضها.
حاول بوتين هضم الهزيمة السورية في سياق لهجة تصالحية مع العالم ومع الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب. تركيزه على أوكرانيا جعله يربط بين انتصار معركته فيها وإعلاء شأن الوطنية والسيادة الروسية، وفي المناسبة سينتظر بوتين نظيره الأميركي ويطمئنه سلفاً أن مجموعة البريكس لا تهدف إلى تحدي أميركا أو الدولار الأميركي… وحكماً أن ذلك ليس هدف روسيا.
في المقابل حرصت القيادة الإيرانية على عدم تفويت فرصة الرد على بوتين وكانت ردودها مرتبكة ومتناقضة. بعد خامنئي الذي وعد باسترداد سوريا إلى “جبهة المقاومة”، حسم الأمين العام لمجلس الأمن القومي علي أحمديان أنه “لم نكن في سوريا أصلاً حتى ننسحب منها”.
في الصحف الإيرانية اتخذ النقاش عن الحضور الإيراني في سوريا صورة أوضح. صحيفة “أرمان أمروز” قالت إن “سوريا كانت خط إمداد لـ’حزب الله‘ و’حماس‘، لكن بعد إضعافهما ومنع العراق الحشد الشعبي من التدخل أصبح حضور إيران في سوريا غير مبرر استراتيجياً”، ثم يقول المتحدث باسم الخارجية إسماعيل بقائي إن “انسحابنا هو إجراء مسؤول” مع أننا “لسنا موجودين” على قول أحمديان!
النقاش في طهران سيذهب أبعد من ذلك. صحيفة “اعتماد” أثارت أمس السبت إعادة النظر في نظرية العمق الاستراتيجي الإيراني. كان القادة والجنرالات في إيران يفخرون بإنجازهم في السيطرة على العواصم العربية الأربع وتمدد نفوذهم إلى ساحل المتوسط في سوريا ولبنان. الآن بات في إيران من يرى أن “العمق الاستراتيجي لإيران ليس في العراق أو سوريا أو لبنان أو في أي مكان آخر، وإنما يكمن في الداخل، وتحديداً في تلبية مطالب الشعب الإيراني”.
يصعب الجزم في تأثيرات الحدث السوري في الأوضاع الداخلية في إيران. فالنظام لم يصب بضربة قوية بسبب طرده من سوريا فحسب، وإنما بسبب اختلال وانكشاف تحالفاته الهشة، ليس مع روسيا فحسب بل مع تركيا خصوصاً. فرداً على اتهام خامنئي أنقرة بالإسهام في تنفيذ خطة أميركية – إسرائيلية في سوريا، قال وزير الخارجية التركي هاكان فيدان “لقد ناقشنا هذا الأمر (الوضع السوري) مع أصدقائنا الإيرانيين، ربما ألف مرة… وعلى أي حال فإن وجودهم في سوريا لم يمنع وقوع إبادة جماعية في غزة”. فيدان وجه لكمة مباشرة لجوهر الادعاءات الإيرانية. فحديثه هذا ينسف جوهر النظرية الإيرانية عن حشد القوى للدفاع عن غزة وفلسطين. والجواب الإيراني تولته صحيفة المرشد “كيهان” على الفور عندما وصفت تصريحات المسؤول التركي بـ”الثرثرة”.
لا يقتصر “نقاش المهزومين” على روسيا وإيران، وإيران وتركيا، فموسكو وأنقرة تتحسبان بتوجس لمستقبل علاقتهما ودورهما في المنطقة. بحسب بوتين ستسعى بلاده إلى الاحتفاظ بقواعدها في سوريا وهذا يحتاج ضمناً إلى موافقة تركية يبدو أنها متوافرة حتى الآن. ويحرص بوتين على علاقته مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لأن تركيا في نظره شريك فعلي في الاقتصاد وسياسات المنطقة المتوترة، ودورها يزداد أهمية بنتيجة التطورات السورية والحاجة الملحة لعلاج المشكلات الناتجة منها.
في منتدى فالداي قبل 16 عاماً سُئل بوتين عن أولويات علاقات بلاده الإقليمية في الشرق الأوسط فحدد بلدين تعول روسيا على تمرين الصلات معهما هما تركيا وإسرائيل، لجملة من المبررات السياسية والاقتصادية والجيوبوليتيكية. ولم يتحدث عن إيران أو غيرها. بالتأكيد يمكن ملاحظة تطوير لهذه الأولويات في السلوك الروسي، لكن إيران بالذات ليست في أعلى مستويات الاهتمام، وتهكم بوتين في إطلالته الأخيرة على إيران مؤشر مهم لما يمكن أن نتوقعه لثلاثي أستانا الذي دفنه انهيار نظام الأسد، ولمستقبل التحولات التي دشنها ذلك الانهيار.
————————————
خطايا المشهد السوري/ نبيل فهمي
الشرعية درع أقوى من أي سلاح أو مؤسسات أمنية قادر على مواجهة الأخطار وإغفال ذلك خطيئة كبرى
الاثنين 23 ديسمبر 2024
الغياب العربي سيترك فراغاً يملؤه آخرون سريعاً، والأفضل أن تكون هناك مشاركة عربية استعداداً للتطوير والدعم، وإنما على أسس واعية وواضحة ومصارحة كاملة مع الساحة السياسية السورية، وبغية دعم الشعب السوري وتمكينه من تحقيق آماله نحو العدالة والاستقرار، في ظل توجهات وطنية واضحة تتسق مع الهوية والمصلحة العربية.
أحداث الأيام الأخيرة في سوريا مع تراجع القوات السورية الرسمية سريعاً أمام المعارضة، ثم سقوط النظام كلية، أبرزت الخطيئة الكبرى والأهم التي دفع ثمنها النظام السابق، ويجب أن يتجنبها المستجدون، وهي فقدان المشروعية الوطنية، فيجب أن يكون الجميع على يقين كامل بأن الدرع الواقي الوحيد لتجنب النزاعات الداخلية والذي يصمد أمام الضغوط الداخلية أو المؤامرات الخارجية، هو القوة المتمثلة في شرعية النظام والقيادات من خلال دوام التواصل مع الشعوب والعمل على تحقيق طموحات المواطنين، بما يجعلهم يلتفون حول القيادات ويصونون وحدة البلاد نتيجة التلاحم الطبيعي بين الدولة والنظام والشعب.
والشرعية درع أقوى وأصلب من أي سلاح أو مؤسسات أمنية عسكرية أو شرطية، درع أمين وقادر على مواجهة أخطار غير مشروعة من الداخل أو الخارج، بل هو الدرع الواقي والشرط الأساس لاستقرار الدول والأنظمة، وإغفال ذلك خطيئة كبرى تكون تداعياتها توترات وطنية ومجتمعية وهزات وعدم استقرار للأنظمة مهما طالت أو قويت، والوقوع في هذه الخطيئة يحمل المواطن العادي ثمناً باهظاً على الدوام بعد أن استأمن قيادات ومؤسسات غير أمينة على رزقه واستقراره.
والخطيئة الثانية التي أبرزتها الأحداث الأخيرة أيضاً هي عدم صواب اعتماد أي نظام على أطراف خارجية أكثر من اللازم، أكان ذلك في المجالات السياسية أو الأمنية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، مهما كانت الصداقة أو قوة العلاقات، وفي مراحل مختلفة كانت هناك علاقات قوية بين النظام السوري وروسيا وإيران، فلا يوجد تطابق كامل ودائم في المواقف والمصالح، أو صداقات مطلقة غير خاضعة للمراجعة والحساب، ومن شأن حساب الكلفة والعوائد أمام أي ظرف أن يفرز أولويات متباينة حتى بين أقرب الأصدقاء، ولا مجال للاطمئنان لتحقيق الأمن والاستقرار للوطن أو المواطن أو النظام على سند من طرف خارجي، وينطبق ذلك على ما مضى وما هو آتٍ إذا تشابهت الظروف وتم الوقوع في تلك الخطيئة مرة أخرى.
والخطيئة الثالثة هي تغليب طائفة على طوائف أخرى في الشعب الواحد، بدلاً من احترام الهوية الإثنية في إطار المعادلة الوطنية، وهو أقوى وأسرع سبيل إلى زرع بذور الفرقة والانشقاق، فالاستقرار الأساسي والأقوى للشعوب هو شعور المواطنين بمختلف توجهاتهم بأن الهوية الوطنية جامعة وليست رافضة أو طاردة لهم، وهي ركيزة مهمة وشرط أساسي لتحقيق الأمان النفسي والاستقرار الوطني عامة، وفي دول متعددة الطوائف والفئات خصوصاً.
والخطيئة الرابعة لأي نظام جديد منتخب أو ثوري، بل أمام الشعب السوري الشقيق أيضاً، ويجب عدم الانزلاق إليها مهما كانت قسوة التاريخ أو فجاجة ممارسات المخلوعين، هي الرد على البطر بمثله والدخول في دوامات قاسية وخطرة من الثأر الدموي، وأقدر وسيلة للرد على أخطاء الماضي والتجاوزات في حقوق الأطياف أو المواطنين هي بناء مؤسسات تمنع وتبني ممارسات تجنب تكرارها، وإذا استقر الأمر على المحاسبة على تجاوزات الماضي، فيفضل أن يتم ذلك بشفافية وبغية المحاسبة للتصالح مع معاناة وتجاوزات الماضي وتجنب تكرارها، ولعله يحتذى بتجربة جنوب أفريقيا بعد التخلص من حكم التمييز العنصري المسمى “أبرتهايد”، فلم تهمل المحاسبة، وإنما من دون السقوط في دوامات القسوة والثأر والتشفي واستبدال العنف والدم بمثيله.
والخطيئة الخامسة أن يغلب الغضب الشعبي مما مضى، والرغبة في هدم وتفكيك ما كان، فهناك فارق كبير بين الحفاظ على مؤسسات الدولة وتغيير رؤسائها أو سياساتها، وعلى الجميع إظهار الحماسة والحكمة والصبر في تطوير أو بناء مؤسسات سياسية والاتفاق على ترتيبات سليمة لإدارة الدولة الحديثة وفقاً لنظام مؤسسي قانوني عادل مع تجنب تكرار الأخطاء والتجاوزات والعودة لها مرة أخرى، والتحدي الأكبر ليس في الهدم على رغم ضرورته، وإنما في بناء المستقبل الآمن للكل والأمين على مختلف المصالح، بما يوفر المشروعية السليمة والضمانات السياسية المؤسسية بعد تجاوزات طالت وامتدت، دفع ثمنها المواطن سياسياً ومادياً وبالدم والأرواح.
والخطيئة السادسة التي يجب تجنبها من قبل القيادات الجديدة والشعب السوري وطوائفه المختلفة هي السماح لآلام ممارسات الماضي أو توازنات القوة المستحدثة جديداً أن تكون مصدر فرقة بين أطياف الشعب السوري، أو دافعاً إلى تشكيل تركيبة سياسية غير شاملة لمختلف الطوائف، مما يفرق بين السوريين ذاتهم ويجعلهم يلجأون إلى مواءمات أخرى ربما تكون مع أطراف دولية أو إقليمية وتضعف الكل استراتيجياً وتعرضهم جميعاً لتدخلات إقليمية خارجية، وتكون في النهاية دوماً في غير مصلحة البلاد، خصوصاً أن سوريا جامعة لطوائف مختلفة عدة، مستقرة داخلها وممتدة عبر الحدود إلى دول إقليمية أخرى، ولعلهم يتمكنون من بدء عملية التحول والتطور من خلال مؤتمر أو آلية جامعة للطوائف للمّ الشمل ووضع أسس وآليات يتبناها ويثق بها الجميع.
أعتقد بأن أمامنا بين 18 و24 شهراً من العمل السياسي والممتد لإعادة بناء سوريا سياسياً بغرض التفاف الغالبية حول هوية المواطنة السورية، وتشهد إدارة موقتة للبلاد لتسيير الأمور ومناقشات دستورية مهمة، فضلاً عن جهود وطنية وإقليمية ودولية لعودة اللاجئين السوريين من الخارج أو عودة المهجرين لديارهم، وكل ما يرتبط بذلك من دعم لإعادة إعمار البلاد، وهي قضية لن تستطيع سوريا تحملها وحدها.
وخطيئة سابعة خطرة وغير مستبعدة، أن تسعى الأطراف الإقليمية المجاورة لسوريا إلى استغلال ضعفها لتحقيق مكاسب على حساب سيادتها، مما نشهده من إسرائيل في الجولان، حيث خالفت صراحة “اتفاقية فك الاشتباك” المبرمة مع سوريا منذ عام 1974، وتجاوزت على حساب الأراضي السورية خطوات تتخذها في إطار ما تسميه “إعادة صياغة المنطقة”، كما يسعى بعضهم ممن لديهم حسابات إقليمية أو أخرى طائفية إلى إعادة الترتيبات أو الاحتياط منها بإجراءات تشمل التجاوز على الحق السوري، ومن بينها على سبيل المثال العلاقات التركية- الكردية، أو ما كنا نشهده من إيران تحت غطاء الدفاع عن الشيعة في الشام، ولا يستبعد ظهور محاولات لدفع مزيد من الفلسطينيين للجوء إلى سوريا، أو أوضاع الدروز، وكلها ممارسات تفتت الكيان السوري وتنمي الانشقاقات ولا يستبعد أن تغذي أدوار الأطراف غير الحكومية داخل الحدود السورية وعبر حدودها، ويتوقع أن تكون لها تداعيات متعددة، بخاصة تجاه العراق ولبنان والأردن وكذلك على آخرين.
وخطيئة ثامنة أرجو ألا يقع فيها العالم العربي هي الانعزال عن الساحة السورية لتشعب الاعتبارات وتناقضاتها، على رغم تقديري لحساسية الأوضاع وصعوبة قراءة الساحة والمعادلات لأن الغياب العربي سيترك فراغاً يملؤه آخرون سريعاً، والأفضل أن تكون هناك مشاركة عربية استعداداً للتطوير والدعم، وإنما على أسس واعية وواضحة ومصارحة كاملة مع الساحة السياسية السورية وبغية دعم الشعب السوري وتمكينه من تحقيق آماله نحو العدالة والاستقرار، في ظل توجهات وطنية واضحة تتسق مع الهوية والمصلحة العربيتين.
وخطيئة تاسعة هي أن ينفض المجتمع الدولي يديه سريعاً من القضية السورية، وهناك مؤشرات أولى تعكس رغبة دول متقدمة في الضغط على اللاجئين السوريين للعودة لبلادهم، حتى قبل أن يكون هناك ملاذ آمن أو إنساني لذلك، كما ألاحظ تجاهلاً واستهتاراً تجاه تجاوزات متكررة على الأراضي السورية بمخالفة صريحة للقانون الدولي العام والإنساني، وهي أمور إذا استمرت فمن شأنها أن تكون لها تداعيات على استقرار المنطقة وممارساتها وتمتد تداعياتها دولياً، إذ تعتبر أمثلة يحتذى بها مستقبلاً في نزاعات عدة وتؤدي إلى مزيد من التآكل في صدقية القانون والنظام الدوليين، فضلاً عن أن عدم التحمس للإسهام في عمليات إعادة التوطين والإعمار إزاء الضغوط الاقتصادية والتوجهات الانعزالية الدولية، يحد من فرص نجاح استقرار وأمان المواطن السوري الذي عانى كثيراً عبر سنين من التهجير والتجويع.
————————————-
هل تضبط واشنطن إيقاع التنافس التركي – الإسرائيلي في سوريا؟/ طارق الشامي
لا صدام وشيكاً لكن الصراع يزيد الضغوط على شبكة تحالفات أميركا في الشرق الأوسط
الاثنين 23 ديسمبر 2024
أثار سقوط نظام بشار الأسد مخاوف من إمكانية تقسيم سوريا بين جيرانها مع استيلاء القوات الإسرائيلية على أراض في جنوب غربي البلاد بينما تتقدم الفصائل المدعومة من تركيا إلى مناطق يسيطر عليها الأكراد في الشمال الشرقي، لكن بينما تبرر كل من إسرائيل وتركيا أفعالهما على أساس حماية الأمن القومي، يظهر المجتمع الدولي القليل من الرغبة في التدخل، وفي ظل الأجندات المتناقضة بين تركيا وإسرائيل يبرز التساؤل حول التوجه الأميركي حيال هذا التنافس، وإلى أي جانب سترجح أميركا كفته؟ هل ستساند إسرائيل حليفتها الاستراتيجية ذات النفوذ الهائل في واشنطن ضد تركيا حليفها القوي في حلف الـ”ناتو”؟ أم إن المشهد الجيوسياسي المتطور يمكن أن يعزز العلاقات الوثيقة بين البلدين مدفوعة بالمصالح المشتركة في استقرار المنطقة؟
واقع جديد ومعقد
خلق سقوط نظام الأسد واقعاً جديداً ومعقداً في الحسابات الاستراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط، مما تطلب تحولاً في التأثير المحتمل على دول الجوار وخصوصاً تركيا وإسرائيل، اللتين كانتا أكبر الفائزتين من سقوط نظام الأسد، إذ إن تفكك “محور المقاومة” الذي قادته إيران مع انسحاب الميليشيات الإيرانية من سوريا وقطع خطوط الإمداد العسكري من طهران إلى “حزب الله” عبر الأراضي السورية، مثل نعمة أمنية فورية ومهمة لإسرائيل.
كما أن سيطرة “هيئة تحرير الشام” التي دعمتها أنقرة، منذ سنوات، على قيادة سوريا حتى الآن، ترافقت مع بروز تركيا باعتبارها القوة المهيمنة في دمشق، مما يجعل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي أرسل جنوده، قبل أعوام، إلى ليبيا والصومال وقطر، أقرب من أي وقت مضى إلى تحقيق طموحه ببسط نفوذ بلاده عبر أراضي الإمبراطورية العثمانية السابقة حتى حدود إسرائيل، وهو نهج ينطوي في جزء منه على التنافس مع إيران في الدفاع عن القضية الفلسطينية كذريعة مقبولة جماهيرياً لتحقيق مكاسب استراتيجية.
غير أن هذين الحليفين المهمين للولايات المتحدة، اللذين توترت علاقاتهما نسبياً منذ بدأت الحرب في غزة العام الماضي، أصبحا على مسار تصادمي داخل سوريا وخارجها، ومن المرجح أن تشكل إدارة هذا التنافس أولوية لإدارة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، مما يزيد من الضغوط على شبكة تحالفات أميركا في أوروبا والشرق الأوسط.
تركيا الفائز الأكبر
تركيا وإسرائيل هما المستفيدتان الاستراتيجيتان الرئيستان من انهيار النظام السوري الذي توج الانحدار السريع للنفوذ الإيراني في الشرق الأوسط، ومع ذلك تبدو تركيا أنها الفائز الأكبر من حيث إنها أصبحت الآن، وبحكم الأمر الواقع، صاحبة النفوذ السياسي الصارخ في سوريا، وفي طريقها لأن تكون أيضاً الأكثر نفوذاً اقتصادياً وعسكرياً، بل يعد كثر أن الرئيس التركي لا يضيع الوقت من أجل تحويل سوريا إلى دولة حماية تركية، وهو في سلوكه هذا يذكر بالطريقة التي فرضت فيها إيران حمايتها على العراق بعد فترة قصيرة على إسقاط صدام حسين على رغم أنف الإدارة الأميركية.
وتعتمد استراتيجية أردوغان على نقطتي ارتكاز، الأولى هي إقامة غلاف حماية خارجي يؤيد ويساعد النظام السوري على الصعيد السياسي والاقتصادي والدولي، والثانية تعزيز إبقاء مراكز القوة المحلية في سوريا معتمدة على أنقرة، وكما تقول غونول تول مديرة برنامج تركيا في معهد “الشرق الأوسط” في واشنطن، فإن ما يريده المسؤولون الأتراك هو أن تكون سوريا الجديدة ناجحة حتى تتمكن تركيا من امتلاكها في وقت يشعرون فيه أن الإسرائيليين قد يدمرون كل شيء.
فوائد اقتصادية
ويتضح النفوذ التركي من المقابلة التي أجراها أحمد الشرع زعيم هيئة تحرير الشام مع صحيفة “يني شفق” التركية المؤيدة للحكومة، التي رسم من خلالها شبكة العلاقات التي يتوقع نسجها بين سوريا وتركيا، إذ عد أن تركيا التي قدمت المأوى لملايين اللاجئين السوريين أثناء الحرب الأهلية، ستكون لها الأولوية في إعادة إعمار سوريا، مشيراً إلى أن هذا النصر ليس فقط من أجل الشعب السوري، بل أيضاً من أجل الشعب التركي.
ولعل المزايا الاقتصادية التي يتوقع أن تجنيها تركيا تفوق ما عداها، فإضافة إلى عودة أكثر من 3 ملايين لاجئ سوري إلى بلدهم، ونصيب الأسد الذي تتوقعه أنقرة من مشاريع إعادة الإعمار في بلد خربته الحرب على مدى 13 عاماً، يتجدد الحديث عن مشاريع استراتيجية أخرى طرحت منذ عام 2009 لمد أنبوب للغاز من قطر إلى تركيا عبر الأراضي السورية ومنها إلى أوروبا، مما يعني أن أردوغان لا ينوي التنازل عن هذه الفرصة الاقتصادية التي يمكن أن تجسد حلم تركيا في التحول إلى مركز لتسويق الغاز إلى أوروبا.
أنقرة تنتظر المقابل
ولا تنوي تركيا على ما يبدو الاكتفاء بالاحتضان السياسي الذي تقدمه للشرع، إذ أوضح وزير الدفاع التركي يشار غولر أن بلاده مستعدة لتقديم مساعدات عسكرية لسوريا إذا طلب منها ذلك، إذ من المتوقع أن تكون أنقرة هي المزود الرئيس للمعدات القتالية المختلفة لسوريا من الإنتاج التركي، كما يمكن لها إرسال مدربين، وبناء نظرية قتالية تناسب الجيش الجديد، وأن تعطي الاعتماد المالي لتمويل هذه النشاطات، ربما في مقابل إقامة حلف عسكري واستراتيجي مع النظام الجديد في سوريا، يضمن مكانتها وتأثيرها في كل العمليات العسكرية والسياسية لسوريا.
وإذا كانت إسرائيل قد أدركت مدى النفوذ التركي مع بدء موسكو مفاوضات مع الأتراك (وليس السوريين في دمشق) حول مستقبل القاعدة الروسية الجوية “حميميم” وقاعدتها البحرية في طرطوس، فإنها تتوقع على ما يبدو أنه لن يمر وقت طويل حتى تبدأ تركيا في اتخاذ خطوات دولية لإبعاد الجيش الإسرائيلي من المناطق التي احتلها في هضبة الجولان.
أهداف إسرائيل في سوريا
ومنذ أن سيطرت هيئة تحرير الشام على دمشق، يشعر المسؤولون الإسرائيليون بالقلق من أن يصبح المحور الإسلامي السني الجديد بقيادة تركيا خطراً بالغاً بمرور الوقت، وخصوصاً في ضوء الدعم العلني الذي يقدمه أردوغان لحركة “حماس” الفلسطينية.
وعلى رغم أن الزعيم الفعلي لسوريا الجديدة، أحمد الشرع، يقول إنه غير مهتم بالصراع ويريد التركيز على إعادة بناء البلاد، فإنه وعدداً من الشخصيات البارزة الأخرى في دمشق كانوا يشغلون في الماضي أدواراً رئيسة في جماعة “النصرة” التابعة لتنظيم “القاعدة” الذي تصنفه الولايات المتحدة جماعة إرهابية، مما اتخذت منه حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ذريعة للاستيلاء على الأراضي في جنوب سوريا، والتعهد بالوجود هناك طوال عام 2025 في الأقل كما قال نتنياهو، وهو ما سيتطلب جهداً أميركياً ودولياً مكثفاً لإعادة إسرائيل إلى وضعها السابق.
لكن التوغل الإسرائيلي في جنوب سوريا وتماديها على مدى أسابيع في تدمير ما تبقى من البنية التحتية العسكرية لنظام الأسد، للتأكد من أن الحكام الجدد لسوريا لن تكون لديهم دفاعات جوية أو بحرية أو قوة جوية أو صواريخ بعيدة المدى، يضع تل أبيب وأنقرة على مسار تصادمي آخر، إذ دعت أنقرة إسرائيل إلى سحب قواتها والتوقف عن انتهاك الأجواء السورية بينما ردت وزارة الخارجية الإسرائيلية بأن تركيا يجب أن تكون آخر دولة تثير قضية الاحتلال في سوريا، لأن القوات التركية تعمل في ذلك البلد منذ عام 2016، وتدعم “القوى الجهادية” وتوسع من التعامل بالعملة التركية والخدمات المصرفية والبريدية في جزء كبير من البلاد.
تنافس شرس
وفي ظل التنافس الشرس وتصادم المصالح بين تركيا وإسرائيل، يخشى بعض المراقبين الإسرائيليين مثل رئيس لجنة الشؤون الخارجية والدفاع في البرلمان الإسرائيلي يولي إدلشتاين من أن تتدهور العلاقات السيئة فعلاً بين البلدين، التي يمكن أن تتطور إلى اشتباكات مع وكلاء تركيا المسلحين، كما يرى شالوم ليبنر كبير الباحثين في “المجلس الأطلسي”، الذي عمل مستشاراً لعدد من رؤساء الوزراء الإسرائيليين، أن الأمر قد يصبح أكثر قتامة إذا دفعت تركيا والميليشيات الحليفة لها في شمال سوريا الأكراد إلى الوراء، مما يفسح المجال لعودة “داعش”.
ويدفع الصقور الأكثر تشدداً في إسرائيل حكومة نتنياهو إلى إعادة بناء مصالحها الحيوية الجيوستراتيجية من خلال خلق حقائق على الأرض تواجه الخطوات التركية التي تسعى للتوسع في سوريا وتحويلها إلى دولة إسلامية تابعة لها على حساب الوجود الإيراني الذي انتهى هناك، ويرون أنه من الممكن الدفع بتعديل الحدود وإقامة منطقة دفاعية حيوية تأخذ بالاعتبار نشوب حال من عدم الاستقرار في المنطقة، إلى جانب تقسيم سوريا وفق التركيبة الطائفية الإثنية وخلق مجالات تأثير وتحالفات استراتيجية وحكم ذاتي مع الدروز والأكراد.
وفي خضم الديناميكيات المتغيرة، أوضحت وسائل إعلام إسرائيلية أن ممثلي الأكراد السوريين تواصلوا مع المسؤولين الإسرائيليين من خلال قنوات مختلفة، سعياً إلى الحصول على المساعدة والحماية ضد الميليشيات المدعومة من تركيا في شمال شرقي سوريا، إذ تنظر إسرائيل إلى المجتمع الكردي كقوة صديقة موالية للغرب، وتعمل خلف الكواليس مع حلفائها الغربيين لضمان سلامة الأكراد، وهو ما يثير حنق الأتراك الذين يضغطون الآن للتخلص من “قوات سوريا الديمقراطية” التي تعد “وحدات حماية الشعب الكردية” نواتها الرئيسة وتصنفها أنقرة جماعة إرهابية.
كما أثار غضب أنقرة، وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر حين أعلن أن إسرائيل يجب أن تعد الأكراد، الذين قال إنهم مضطهدون من قبل تركيا وإيران على حد سواء، “حلفاء طبيعيين” ويجب أن تعزز العلاقات معهم وغيرهم من الأقليات في الشرق الأوسط.
تواصل لا تصادم
ومع ذلك، لا يبدو أن الصدام وشيك، إذ إن العداء بين إسرائيل وتركيا لا يقارن بالصراع الطويل والدموي بين إسرائيل وإيران ووكلائها، إذ انتظمت الدولتان في ضربات صاروخية مباشرة على بعضهما بعضاً هذا العام، وهو ما يشكل تصعيداً للصراع المستمر منذ عقود بين إسرائيل و”حزب الله” المدعوم من إيران في لبنان.
وعلى رغم التصريحات الغاضبة أو الانتقادية من هنا وهناك، من غير المرجح أن تدعم إسرائيل بصورة مادية المقاتلين الأكراد السوريين ضد تركيا ووكلائها، كما قال أيدين سيلجين الدبلوماسي التركي السابق، والذي أوضح أن إسرائيل ستفقد عقلها كدولة إذا قررت البحث عن المتاعب ضد تركيا في سوريا، مشيراً إلى أنه لا يرى إمكانية على الإطلاق لصراع مفتوح بين إسرائيل وتركيا.
وما يعزز استبعاد الصدام، أنه على رغم انتقادات أردوغان لنتنياهو ووصفه بأنه “جزار غزة” بعد مقتل عشرات الآلاف من الفلسطينيين على يد القوات الإسرائيلية هناك، وفرض عقوبات اقتصادية على إسرائيل، تظل تركيا التي كانت أول دولة إسلامية تعترف بإسرائيل عام 1949، تحتفظ بسفارة في تل أبيب، ولا تزال قنوات الاتصال بين البلدين مفتوحة، ولا تزال تركيا حليفة للولايات المتحدة، من ثم يمكن سد الفجوة بينهما.
وإضافة لذلك، لا تطمع تركيا في تدمير إسرائيل، ولا تطور أسلحة نووية، ولا تزود “حزب الله” بترسانة هائلة من الصواريخ، ولا ترسل عشرات الآلاف من الميليشيات إلى سوريا كما يقول المتخصص في تاريخ الشرق الأوسط المعاصر إيال زيسر، ولهذا فإن الحديث عن مواجهة تركية – إسرائيلية وشيكة في سوريا أمر مبالغ فيه.
إشارات أميركية مختلطة
ويخيم على واشنطن قدر من الضبابية حول قدرتها على ضبط إيقاع كل من تركيا وإسرائيل في سوريا، فقد كانت ردود فعل إدارة الرئيس جو بايدن حيال تدخلات تركيا وإسرائيل في سوريا غير متسقة إذ دافع الرئيس المنتهية ولايته عن ضربات إسرائيل واحتلالها الأراضي، ووصفها بأنها إجراء أمني موقت، حتى مع إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن قوات بلاده ستبقى في سوريا حتى يتم التوصل إلى ترتيب آخر يضمن أمن إسرائيل، كما سعت إدارته إلى عقد هدنة بين الميليشيات الموالية لتركيا والقوات الكردية في شمال سوريا وهي الهدنة التي لم تحترمها أنقرة.
في المقابل أعرب الرئيس المنتخب دونالد ترمب عن إعجابه بعملية الإطاحة بالأسد، على رغم أنه بدا وكأنه يصفها بأنها “استيلاء غير ودي” من قبل أنقرة، مشيراً إلى أن “تركيا ستحمل المفتاح” لمستقبل جارتها سوريا، مما جعل أردوغان يسلط الضوء على رؤيته الخاصة لتركيا كقوة رائدة في الشرق الأوسط، قائلاً إن كل حدث في منطقتنا، وبخاصة سوريا، يذكرنا بأن الأمة التركية لا تستطيع الهرب من مصيرها.
أما وزير الخارجية التركي هاكان فيدان فلم يتحمس لهذه المقارنة قائلاً إنه سيكون من الخطأ الكبير اعتبار الثورة سيطرة غير ودية، وإذا كانت هناك سيطرة فهي سيطرة إرادة الشعب السوري.
لكن يبدو في كل الأحوال أن إدارتي بايدن وترمب تتجنبان الصدام مع الأتراك والإسرائيليين في الأقل في الوقت الحالي حتى تتبلور الصورة أكثر في سوريا ويرى المجتمع الدولي خطوات المرحلة الانتقالية، وما إذا كانت النتائج تتوافق مع المطالب الغربية والعربية، ومع ذلك فإن أي خلاف أو صدام محتمل للمصالح بين تركيا وإسرائيل في سوريا، من المحتمل للغاية أن تميل واشنطن إلى ترجيح كفة المصلحة الإسرائيلية، وخصوصاً مع وجود فريق للسياسة الخارجية والأمن القومي في إدارة ترمب من الصقور الموالين لإسرائيل بصورة كاملة.
—————————-
تركيا وسوريا الجديدة… تفاهمات سياسية وميدانية/ عمر اونهون
آخر تحديث 20 ديسمبر 2024
يوما بعد يوم، تتزايد التكهنات بأن العملية التي أطاحت في النهاية بنظام الأسد لم تكن ابنة لحظتها، بل بدأ الإعداد لها منذ أكثر من عام، بمشاركة تركيا، والولايات المتحدة، ودول أخرى بدرجات متفاوتة، ولكن وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، نفى وجود أي تنسيق مسبق مع دول أو مجموعات أخرى للتخطيط لهذه العملية. ووفقا لفيدان، بدأت مشاركة تركيا فقط بعد أن أطلقت “هيئة تحرير الشام” وجماعات المعارضة الأخرى العملية، حيث ركزت الجهود التركية على تقليل الخسائر البشرية وتجنب التعقيدات، كما قال في مقابلة مع قناة “الحدث” السعودية.
في أعقاب الإطاحة بالأسد، برز فاعلان محليان رئيسيان في المشهد السوري: “هيئة تحرير الشام” و”وحدات حماية الشعب.”
تسيطر “هيئة تحرير الشام”، التي انبثقت عن تنظيم القاعدة وجبهة النصرة، على إدلب منذ عام 2015. وعلى الرغم من تصنيفها كمنظمة إرهابية، يبدو أنها استطاعت أن تطور علاقات مع تركيا والولايات المتحدة ودول غربية أخرى.
ويحاول زعيم “هيئة تحرير الشام”، أحمد الشرع (الذي كان يُعرف باسمه الحركي أبو محمد الجولاني) إعادة تشكيل صورتها، وقد تبنى، علانية، في سبيل ذلك خطاب أكثر اعتدالا. ودعا إلى “الانتقال من عقلية الثورة إلى عقلية بناء الدولة،” مشددا على الحاجة إلى “تأسيس دولة قائمة على القانون والمؤسسات لضمان استقرار مستدام”.
ويبدو أن “هيئة تحرير الشام” هي من يدير سوريا حاليا، ومن الواضح أنها تنوي الاستمرار في هذا الدور بعد الفترة الانتقالية. باختصار، تحاول “هيئة تحرير الشام” إعادة صياغة صورتها، مرسلة إلى العالم رسالة، مفادها “لسنا كما كنا.” ومع ذلك، يبقى أن نرى ما إذا كانت الأفعال ستتطابق مع الأقوال.
في الوقت نفسه، تراجعت جماعات المعارضة الأخرى، مثل الحكومة السورية المؤقتة، والائتلاف الوطني السوري، و”الجيش الوطني السوري”، وجماعات مسلحة أخرى، إلى الظل إما بصمتها أو غيابها الواضح.
مناورات “وحدات حماية الشعب”
على النقيض من ذلك، ظلت “وحدات حماية الشعب” قوة ثابتة في الشأن السوري، حيث تتنقل بين العلاقات مع جميع الأطراف الكبرى، بما في ذلك الولايات المتحدة وروسيا وإيران ونظام الأسد. وهي تقوم بمناورات مدروسة للبقاء، في مواجهة سقوط الأسد، وعمليات تركيا ضد بنيتها التحتية وقياداتها، وتقدم “الجيش الوطني السوري” شرقا، وموقف ترامب، الذي عبّر عن رغبته في النأي عن الملف السوري.
وفاجأت “وحدات حماية الشعب” بقولها إنها كانت منذ البداية إلى جانب الثورة السورية. كما أعلن قائدها، مظلوم عبدي، عن اتفاق مع “هيئة تحرير الشام” ينص على التزام كل طرف بحدوده على جانبي نهر الفرات وتجنب المواجهة. وأشار عبدي أيضا إلى وجود حوارات مع تركيا بوساطة الولايات المتحدة وقوات التحالف الدولي لهزيمة “داعش”.
من جانبها، أكدت تركيا أنْ لا مشكلة لديها مع الأكراد كعرق، سواء في العراق أو سوريا، ولكنها كررت، على لسان وزير دفاع هايشار غولر، هدفها الرئيسي وهو القضاء على حزب العمال الكردستاني (PKK) ووحدات حماية الشعب.
وأشار غولر إلى أن الروابط بين “وحدات حماية الشعب” و”حزب العمال الكردستاني”، الذي يتخذ من جبل قنديل شمالي العراق مقرا له، روابط مؤكدة ولا يمكن إنكارها، وكذلك الأهداف السياسية الأوسع نطاقا المرتبطة بهذه الروابط، بما في ذلك ما يُسمى عملية السلام الجديدة في تركيا.
وأوضح الوزير التركي أنْ لا خيار أمام “وحدات حماية الشعب” سوى حل نفسها، مؤكدا على شرطي تركيا الأساسيين، وهما مغادرة جميع الأعضاء غير السوريين، وخاصة كوادر حزب العمال الكردستاني من تركيا والعراق، للأراضي السورية؛ وتسليم المقاتلين من الجنسية السورية أسلحتهم.
انتقال معقد
تظل الفترة الانتقالية في سوريا مليئة بعدم اليقين، حيث تسعى الفصائل المتنافسة والجهات المحلية والقوى الدولية إلى تحقيق أهداف متباينة. وقد تفضي إعادة تشكيل صورة “هيئة تحرير الشام” ومناورات وحدات حماية الشعب إلى اتجاهات جديدة، ولكن من غير المؤكد ما إذا كانت نتيجة تلك التحولات ستؤدي إلى استقرار دائم أو مزيد من الصراعات، فذلك يعتمد على مدى تطابق أقوال هذه الجماعات مع أفعالها – وكيفية استجابة المجتمع الدولي لهذه التطورات.
وبيّن وزير الدفاع أن بلاده أبلغت الولايات المتحدة بهذه النقاط، وطُلبت منها إعادة النظر في سياستها تجاه “وحدات حماية الشعب”، ولكن لا يبدو أن السياسة الأمريكية تشهد تغيرا كبيرا في هذا الميدان، على الأقل في الوقت الحالي.
تتمثل أولويات سوريا في هذه المرحلة بما يلي:
– منع انهيار الدولة، الحفاظ على النظام العام، وتوفير الاحتياجات الأساسية للشعب.
– تأسيس هيكل سياسي وإداري جديد للدولة السورية.
– تفكيك الجماعات المسلحة وجمع الكم الهائل من الأسلحة المنتشرة في أيدي مختلف الفصائل.
كما يطالب السوريون بمحاسبة المسؤولين عن التعذيب والقتل الممنهج الذي أودى بحياة آلاف المعتقلين في سجون النظام، وفي مقدمتها سجن صيدنايا الذي أصبح رمزا لتلك الانتهاكات. غير أن من الضروري أن تجري هذه المحاسبة دون أن تتحول إلى حملة انتقامية عشوائية تؤدي إلى فرض عقوبات جماعية أو استهداف جماعات بعينها، مثل العلويين.
يمضي تشكيل الهيكل السياسي-الإداري الجديد في سوريا وفق المراحل التالية:
أولا، تشكيل حكومة تصريف أعمال تتألف من أعضاء حكومة الإنقاذ التي حكمت إدلب لسنوات، بمن فيهم رئيس الوزراء. وبينما ينتمي جميع أعضاء الحكومة إلى “هيئة تحرير الشام”، تخلو الحكومة من النساء أو ممثلين عن المعارضة والأقليات (العلويين، الدروز، التركمان، الأكراد، والمسيحيين).
ثانيا، المرحلة الانتقالية المقبلة، والتي يُفترض أن تبدأ بعد انتهاء ولاية حكومة تصريف الأعمال في مارس/آذار، من المتوقع أن تعالج هذا النقص عبر تشكيل حكومة انتقالية أكثر شمولا، ولن نعرف مدى تحقق ذلك إلا بمرور الوقت.
ثالثا، صياغة دستور جديد يحل محل دستور 2012 لنظام الأسد. وستتركز أبرز نقاط الخلاف على:
– طبيعة الهيكل الإداري (هل سيكون نظاما مركزيا أم سيعتمد الحكم المحلي).
– هوية الدستور (هل سيكون مدنيا أم سيستند إلى الشريعة الإسلامية).
رابعا، إجراء انتخابات حرة وتعددية في موعد يُحدد لاحقا، بحيث يتمكن الشعب السوري من اختيار من يحكمه.
وستكون إعادة بناء الاقتصاد السوري بعد سنوات من التدمير تحديا بالغ الصعوبة للجميع، فقد انكمش الاقتصاد السوري بنسبة 85% بين عامي 2011 و2023، بينما تُقدر تكلفة إعادة الإعمار بما لا يقل عن 300 مليار دولار.
ورغم احتمال تقديم المجتمع الدولي وبعض القوى الإقليمية دعما ماليا فسيبقى هذا الدعم محدودا، وستظل سوريا بحاجة إلى إيجاد مواردها الخاصة من خلال:
– تحصيل الضرائب من السكان.
– جذب الاستثمارات الأجنبية.
– تعزيز القطاعات الإنتاجية والصناعية والتصدير.
– الاستغلال الأمثل لمواردها الطبيعية.
ولعل المورد الأهم لسوريا هو النفط، الذي بلغ إنتاجه قبل عام 2011 نحو 380,000 برميل يوميا. وتخضع حقول النفط، اليوم، لسيطرة وحدات حماية الشعب الكردية، التي تموّل عملياتها العسكرية والإدارية عبر بيع النفط بأسعار تقل كثيرا عن الأسعار العالمية. فلا بد إذا من تحرير النفط من سيطرة وحدات حماية الشعب واستغلاله لصالح الشعب السوري.
وفيما يتطلع السوريون إلى رفع العقوبات، فإن ذلك سيظل مرهونا بشروط سياسية وقانونية قد يستغرق تحقيقها زمنا طويلا. وقد صرح الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب بأنه يعتزم الابتعاد عن الملف السوري باعتباره “شأنا سوريا،” غير أن هذا يبدو أمرا عزيزا على التحقق. ويبقى حجم الدور الأميركي في سوريا مسألة محورية خلال المرحلة المقبلة.
ومع ذلك، فثمة مخاوف من حدوث أسوأ السيناريوهات في الفترة المقبلة، تبرز هذه السيناريوهات الاحتمالات التالية:
– قد تفرض الجماعات السلفية رؤيتها المتشددة للإسلام على الحياة السياسية والاجتماعية في البلاد، وتؤسس حكومة تستند إلى مبادئها الأيديولوجية.
– بالمقابل، قد تسعى “وحدات حماية الشعب” إلى ترسيخ مشروع “الإدارة الذاتية” وتطويره إلى مراحل أخرى أبعد مستقبلا.
– وقد تتعرض وحدة الأراضي السورية للتهديد إذا سعت الأطراف الكردية والدرزية والعلوية إلى تحقيق طموحات انفصالية. (ويجدر بنا أن ننتبه هنا إلى إشارات إسرائيل الأخيرة حول حماية الأقليات في سوريا، ولا سيما الأكراد والدروز، فهي ليست مجرد صدفة).
– وقد يحاول نظام الأسد استعادة نفوذه بدعم من إيران وروسيا.
– وقد تنزلق سوريا مجددا إلى حالة من الفوضى والحرب الأهلية.
لا ريب في أن الرئيس أردوغان قد نجح، بعد اثنتي عشرة سنة، في تحقيق اختراق مهم فيما يخص الملف السوري، وهو أحد أصعب الملفات التي واجهها، بعد الوضع الاقتصادي في تركيا. ومن هنا يمكن فهم زيارة رئيس المخابرات التركية، إبراهيم قالن، إلى دمشق والتي قُصِد منها أن تبدو كاستعراض واضح لنفوذ تركيا، فإذا كانت مشاهد قالن وهو يتجول في شوارع المدينة بسيارة يقودها أحمد الشراع، وصورته أثناء الصلاة في الجامع الأموي، رسالة رمزية مدروسة تُظهر الثقل السياسي والدبلوماسي لأنقرة في سوريا، فقد حققت هدفها بوضوح.
لكن هذه الخطوة الاستثنائية أثارت جدلًا واسعًا وطرحت تساؤلات بين السوريين والمراقبين الأجانب. وفي هذا السياق، سارع وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، إلى توضيح أن زيارة رئيس المخابرات إلى دمشق جاءت لنقل التفاهمات التي أُبرمت مع القوى الإقليمية والدولية. وأكد فيدان أن الرسائل التي حملها إلى دمشق تضمنت:
• منع التنظيمات الإرهابية من استغلال المرحلة السياسية الجديدة.
• ضمان معاملة عادلة للأقليات، وبخاصة المسيحيين والأكراد والعلويين والتركمان.
• تشكيل حكومة شاملة تمثل جميع الأطياف في المرحلة المقبلة.
• التأكيد على ألا تشكل سوريا تهديدا لجيرانها.
وفي خطوة لافتة، أعادت تركيا فتح سفارتها في دمشق بتاريخ 14 ديسمبر/كانون الأول، بعد إغلاق دام اثنتي عشرة سنة، وهو القرار الذي اتخذته شخصيا خلال فترة عملي سفيرا لتركيا آنذاك.
باختصار، خلال الأسبوعين الماضيين، حققت تركيا مكاسب غير مسبوقة على الساحة الدولية، وأصبحت تُطرح كفاعل رئيسي في الملف السوري، وبرزت كطرف محوري قادر على تشكيل مستقبل سوريا في شتى الميادين، من تسهيل العملية السياسية وإعادة الإعمار، إلى منع عودة “داعش” وضمان عودة اللاجئين.
ولكن على الرغم من الموقف المتميز الذي تحتله تركيا حاليا، لا تزال التحديات قائمة وعدم اليقين ماثلا. ولذلك، يتعين على أنقرة توخي الحذر واتخاذ خطوات مدروسة، لأن الفشل في تحقيق انتقال سياسي ناجح في سوريا واحتمالية العودة إلى الفوضى سيُلقيان بظلالهما الثقيلة على تركيا.
لهذا السبب، تؤكد تركيا التزامها بدور بناء وداعم لتحقيق حل شامل ومستدام ودائم للأزمة السورية.
المجلة
————————————-
سوريا الجديدة… و”الخطيئة السودانية”/ إبراهيم حميدي
المطلوب من أميركا وداعمي العهد الجديد لرفع العقوبات
23 ديسمبر 2024
الأسبوع السوري الماضي، كان حافلا. لم يعد يتعلق بالماضي، بل بالحاضر والمستقبل. طويت صفحة نظام الأسد. الحديث والعمل ينصبان على بناء النظام الجديد والعلاقات مع الدولة الجديدة. المطلوب من أميركا وداعمي العهد الجديد التحرك بسرعة ورفع العقوبات، كي لاتتكرر “الخطيئة السودانية”.
انتهت القطيعة بين الدول الغربية وبعض الدول العربية ودمشق القائمة منذ 2012. دول فتحت سفاراتها المغلقة ورفعت أعلامها، ودول أوفدت علنا مبعوثين رفيعي المستوى، بينها أميركا وبريطانيا وتركيا، ودول وازنة أخرى أوفدت مبعوثين كبارا في شكل غير معلن للقاء القائد السوري الجديد أحمد الشرع. كما عقدت اجتماعات وزارية وأمنية في القاهرة بين دول عربية وتركيا.
رسائل اللقاءات والاتصالات واحدة: ندعم القائد أحمد الشرع، و”نشرعن” العهد الجديد، ونرحب بالتخلص من نظام الأسد وخروج سوريا من “المحور الإيراني”، هناك فرصة ذهبية يجب البناء عليها بسرعة لتشكيل حكومة جامعة ودستور جديد، ضرورة تأسيس مؤسسات الأمن والجيش لتكون قادرة على محاربة الإرهاب وبسط سيطرة الدولة واستعادة سيادة الحكومة على جميع الأراضي، أي على 185 ألف كيلومتر مربع.
ماذا يعني هذا؟ سوريا التي كانت مقسمة إلى “ثلاث دويلات” تقوم بينها “حدود ثابتة” لحوالي خمس سنوات، انتهت. وحان وقت لسوريا القديمة بنظام جديد، أي إزالة حدود الداخل وتثببت حدود الخارج والتعاطي مع أربع عقد:
الأولى، العلاقة بين دمشق والقامشلي. إذ إن الحكم الجديد يريد بسط السيطرة على مناطق “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) في شمال شرقي سوريا المدعومة من أميركا واندماج “قسد” داخل الجيش الجديد وحل الإدارة الذاتية وإخراج جميع المقاتلين غير السوريين، التابعين لـ”حزب العمال الكردستاني”، من الأراضي السورية. لكن “قسد” بحسب قائدها مظلوم عبدي، تريد الاحتفاظ بنفسها ككتلة عسكرية لمحاربة “داعش” بدعم أميركا وأن تنال خصوصية لجهة وضع الإدارة الذاتية وحصتها في الثروات الطبيعية.
تجري بعض الاتصالات والوساطات بين دمشق والقامشلي للوصول إلى تسويات. لكن أغلب الظن أن ساعة الصفر تنتظر وصول الرئيس دونالد ترمب, الذي كان فريقه منخرط بالأيام الـ 11 التي هزت سوريا، إلى البيت الأبيض في 20 يناير/كانون الثاني. أنقرة، الداعم الرئيس للحكم السوري الجديد، تراهن على موافقة ترمب على سحب ألفي جندي من سوريا ودفع “قسد” لقبول عرض الشرع.
لا شك أن تركيا تجد نفسها رابحة في الأسابيع الأخيرة بإسقاط الأسد. وتجري مفاوضات بين دمشق وأنقرة لتوقيع اتفاق دفاعي مشترك، تتضمن مسودته إقامة قاعدتين عسكريتين في حمص ودمشق ونشر منظومات دفاع جوي لتوفير مظلة حماية ضد الاعتداءات الإسرائيلية. عندما يقر الاتفاق بعد توفر عناصر الشرعية لإبرامه، سيضع دمشق في موقف تفاوضي قوي قياسا إلى موقف القامشلي.
وهنا تأتي العقدة الثانية، التي تتعلق بإقدام حكومة بنيامين نتنياهو على سلسلة من الإجراءات بمجرد سقوط الأسد، تضمنت تدمير القوة العسكرية الاستراتيجية لسوريا البرية والجوية والبحرية، ومراكز الأبحاث، واحتلال المنطقة العازلة في الجولان ومراكز مراقبة حيوية في جبل الشيخ.
الدول الغربية تريد من سوريا الجديدة ألا تكون منصة تهديد خارجي بما فيها على إسرائيل. ودمشق تريد، من جهتها، أن تنسحب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها في الفترة الأخيرة. وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أبلغ وزراء دول عربية، أن نتنياهو أكد له أن قواته “ستنسحب في نهاية الشتاء”، لكن الشكوك كثيرة إزاء ذلك والوقائع على الأرض لاتوحي بذلك. رسائل دمشق إلى المبعوثين الغربيين بضرورة الانسحاب إلى “خط 7 ديسمبر”، وأنها ليست معنية بحروب جديدة و “لا بتصدير الثورة”
الثالثة، توحيد البندقية. واضح أن الأولوية، هي استعادة الأمن وتشكيل الجيش الجديد، لذلك بادر الشرع إلى عقد اجتماع مع قادة الفصائل وتسمية وزير دفاع جديد للإشراف على تشكيل الجيش ودمج الفصائل. كان هناك ترقب لموقف “جيش الإسلام” بقيادة عصام البويضاني ومقره دوما بريف دمشق، وموقف قائد “غرفة عمليات الجنوب” أحمد العودة. معظم الفصائل قبلت الوصفة الجديدة لإنشاء الجيش وحل الفصائل، ولا تزال المفاوضات جارية مع العودة للدخول مع دمشق في طي “صفحة الفصائلية”، أي الانتقال من “عقلية الثورة إلى عقلية الدولة”… وتوحيد البندقية.
الرابعة، المؤتمر الوطني. كانت هناك محاولات لعقد مؤتمر لمعارضين في القاهرة، لكن الإدارة الجديدة تتجه لعقد مؤتمر وطني في دمشق. أحد القياديين في “الهيئة السياسية” اتصل بنائب الرئيس السوري السابق فاروق الشرع الذي رعى مؤتمر الحوار الوطني في 2011. وهناك إقتراح بالطلب من المحافظين الجدد، الذين عينوا أخيرا من قادة الفصائل العسكرية التي شاركت في عملية “ردع العدوان”، لتسمية 40-50 من كل محافظة و70 من محافظة درعا لخصوصيتها، كي يشاركوا في مؤتمر جامع يستند إلى السوريين الذين بقوا في البلاد في السنوات الأخيرة. الرهان على أن يسهم هذا في التأسيس للدستور الجديد والمرحلة التابعة لما بعد 1 مارس/آذار المقبل، وأن يجمع بين قوى الأرض ورموز النخبة والسياسة والمجتمع المدني.
واضح أن الاتجاه في دمشق لبسط السلطة والسيادة والسياسة على مساحة 185 ألف كيلومتر مربع. أحد المفاتيح في كل ذلك، هو الاقتصاد وتحسين الوضع المعيشي للناس الذين أنهكوا في عقد من الحرب والعزلة… وإنارة دمشق. لذلك، فإن الاستعجال الغربي- الأميركي في رفع العقوبات أمر ضروري. أسباب وجود العقوبات المتراكمة انتهت مع سقوط الأسد.
أحد أسباب الانهيار السوداني والحرب الطاحنة بعد سقوط عمر البشير، تفاقم الوضع المعيشي بتأخر أميركا في رفع العقوبات عن الخرطوم. الرهان أن لا تكرر واشنطن وحلفاؤها “الخطيئة السودانية” في سوريا. الرهان ان يوفر الدعم العربي – الغربي -التركي مظلة حماية لسوريا الجديدة.
المجلة
————————————–
مراكز الاعتقال والمقابر الجماعية بعيون وعدسات المصورين السوريين/ فراس كرم
الشهادات تعكس الحقيقة التي حاول النظام التستر عليها
آخر تحديث 23 ديسمبر 2024
بمرور 15 يوما على سقوط النظام السوري، تراكمت صور المقابر الجماعية والأقبية والسراديب المظلمة التي حَبست بين جدرانها الرطبة وزنازينها الضيقة وتحت عروش رجال مخابرات نظام الأسد المخلوع في الأجهزة الأمنية المرعبة، مئات آلاف المعتقلين، وازداد حزن السوريين بعدما قطعوا الأمل في نجاة من تبقى من أبنائهم مع مصيرهم المجهول. والإعلان عن الانتهاء من عمليات البحث والتقصي عن معتقلات وسجون سرية للنظام المخلوع.
في زحمة الاكتشافات للمقابر الجماعية التي صنعتها مخابرات الأسد المخلوع، وبين رفات آلاف الضحايا، يتزاحم الإعلاميون والمصورون السوريون والمنظمات الدولية في مجال حقوق الإنسان على التقاط الصور وتوثيق المشاهد المرعبة التي اقترفتها مخابرات النظام السوري المخلوع وهربت، ونقل أهوال سجون النظام السرية الرهيبة التي فارق فيها آلاف السوريين حياتهم، تحت التعذيب والجوع، للسوريين وللعالم على حد سواء.
ويرى المصور السوري أحمد بربور، ومن خلال عدسته والتقاط الصور باهتمام بالغ، ونشرها على منصاته في وسائل التواصل الاجتماعي، وسيلة ينقل من خلالها للعالم، الكوارث التي مر بها السوريون على مدار أكثر من 50 عاما من ظلم واضطهاد مرورا بالاستبداد والتعذيب وصولا إلى هذه المشاهد المروعة والكم الهائل من الفظائع التي اقترفها رجال مخابرات الأسد الأب والابن، وانتهت بمقابر جماعية قد يبلغ عدد ضحاياها من السوريين مئات الآلاف. ويقول لـ”المجلة”: “عندما أوجد في أماكن شهدت مجازر جماعية، مثل مجزرة التضامن، يتركز اهتمامي على توثيق الحقائق بأكبر قدر من الموضوعية والدقة. أولا، أسعى لتوثيق المشهد العام للمنطقة المتضررة، ما يشمل حجم الدمار الذي لحق بالمنازل والمرافق العامة، لأن هذا يساعد في تقديم صورة واضحة عن حجم الجريمة. بالإضافة إلى ذلك، أركز على تفاصيل دقيقة مثل آثار القصف على المباني، والحفر التي خلفتها القنابل، والجثث أو الآثار البشرية التي قد تكون موجودة”.
ويضيف: “كما أحرص على توثيق شهادات الناجين والمشاهدين، سواء كانوا شهود عيان أو أفرادا فقدوا أحباءهم في المجزرة. في توثيق شهادات هؤلاء الأشخاص، أركز على إعطاء صوت للضحايا وذويهم، لأن هذه الشهادات تعكس الحقيقة التي يحاول النظام التستر عليها أو تحريفها”.
ويحاول المصور عارف وتد التركيز على دقة الصورة أو الفيديو الذي يعمل على تصويره في موقع الجرائم المرتبكة بحق السوريين الأبرياء ضمن أقبية أكثر من 50 مركزا للاعتقال في دمشق، ويذهب في تركيزه الآخر إلى التقاط مجموعة من الصور التي تحاكي واقعا مأساويا عايشه المعتقلون في زنازين مظلمة، ويقول: “نركز في عملنا التصويري على مسارح الجرائم التي مورست بحق آلاف المعتقلين السوريين والتي كانت عاملا أساسيا في وضع الشعب السوري ضمن دائرة خوف محكمة، لنعبر من خلال تفاصيلها الموجعة ما عاناه السوريون على مدار أكثر من خمسة عقود سواء بالقمع أو الترهيب أو الاعتقال حتى الموت”.
وتعمقنا بالحديث مع المصور عارف عن دور وأهمية الصورة من عشرات المواقع لجرائم النظام السوري المخلوع، وقال: “للصورة أهمية كبيرة في نقل زوايا وجوانب خفية في مواقع الجريمة بما يطرق الضمير والوعي العالمي، مع التحفظ على نقل المشاهد الأقسى كالجدران التي لا تزال عليها بقايا دماء المعتقلين والاكتفاء بحفظها في الأرشيف، على أمل أن ترفع مواقع التواصل الاجتماعي قيود النشر للصور التي تندرج تحت معايير أذى المشاعر، ويتسنى لنا حينها نشرها، لنذكر العالم بالظلم والاضطهاد الذي عايشه السوريون”.
يمضي المصور أبو الطيب الإمام وقته منهمكا، تارة بالتصوير ضمن المربعات الأمنية للنظام السوري المخلوع، وتارة أخرى بالتواصل مع وكالات الأنباء المحلية والعالمية، من أجل منحها أكبر عدد من الصور بالمجان، لتوفير الكم الكافي من الصور لها، ونشرها على أكبر مساحة من وسائل الإعلام العالمي ووكالات الأنباء العالمية، لفضح النظام السوري المخلوع وما مارسه ضد السوريين من انتهاكات وقهر. ويقول: “من حق المعتقلين علينا وخاصة الذين فارقوا الحياة تحت التعذيب وأيضا ممن نجا منهم، أن نضمن لهم حقوقهم الإنسانية عبر توثيق مواقع اعتقالهم وما عانوه من تعذيب جسدي وقهر إنساني لا يمكن وصفه ببضع كلمات، وقد تكون الصورة في بعض الأحيان أبلغ من الكلام، كما أن هذه الصور تعد بمثابة وثائق إدانة ضد النظام السوري البائد عند الشعوب العربية والغربية وكل العالم”.
حراسة سوريا من عودة أنظمة قمعية… أحد أهداف الصورة
يقول المصور ملهم العلي إن “هدف الصورة عند النشطاء والمصورين السوريين عقب إسقاط النظام السوري المخلوع، ونشرها على المواقع ووسائل التواصل الشخصية والعامة، ليس فقط توثيق وفضح جرائم الأخير بحق المعتقلين وتعذيبهم حتى الموت داخل الأقبية الأمنية (وقد تكون تحت الأرض بـثلاث طبقات) فحسب، وإنما من أجل تذكير الشعب السوري بشكل دائم ومستمر بحقبة زمنية قاسية، ودعم موقفه بعدم السماح باستنساخ نظام سوري مستقبلي جديد مشابه لنظام الأسد الأب والابن المخلوع، يقود السوريين وأصحاب الرأي، إلى أقبية جديدة تؤسس لذلك”.
ويتابع: “للصورة من مواقع جرائم النظام السوري البائد بحق المعتقلين أهداف أخرى، وفي مقدمتها تعزيز قدرة النشطاء السوريين بمن فيهم الحقوقيون والإعلاميون والإنسانيون، في ملاحقة النظام المخلوع، إعلاميا وقضائيا وإنسانيا، حول ما اقترفت أيدي مخابراته من جرائم بحق السوريين ومحاكمتهم جميعا، وعدم الإغفال عن هذا الهدف من أجل إحقاق الحق، وطمأنة آلاف الأمهات اللواتي فقدن أبناءهن تحت التعذيب المفرط حد الموت ودفنوا في مقابر جماعية، وأن حقوقهم من قتلة أطفالهم لن تهدر”.
بينما ينشغل عشرات المصورين السوريين في توثيق جرائم النظام السوري وأجهزة أمنه داخل الفروع والسجون بحق المعتقلين، هناك إعلاميون ومصورون آخرون يسارعون إلى التقاط الصور لمعتقلين (أجسادهم نحيلة ومرضى) جرى الإفراج عنهم من قبل الثوار، صبيحة الإعلان رسميا عن سقوط النظام السوري السابق في 8 ديسمبر/كانون الأول وهروب العناصر من كل الأجهزة الأمنية في دمشق وغيرها من المحافظات السورية.
ويتحدث محمد الشامي عن ذلك: “كما لصور مراكز الاعتقال الخصوصية النابعة من كونها انعكاسا حقيقيا حول إتقان النظام فن هندسة السجون بشكلها المرعب القائمة بأدواتها على الإفراط في التعذيب والاضطهاد ضد السوريين. أيضا، المعتقلون الأحياء الذين أُفرج عنهم حين سقط النظام السوري (بينهم المئات من ذوي الأجسام النحيلة وأيضا أصحاب الأمراض المزمنة وأمراض أخرى قاتلة للإنسان كالسل والتهاب الكلى والتهاب الرئتين وأمراض جلدية رهيبة كالجرب والدمامل والفقاعات ونمو الديدان على جلودهم)، لصورهم خصوصية أخرى تعكس أيضا واقعا مأساويا عايشه هؤلاء المعتقلون خلال فترة الاعتقال”.
المواجهة بين المشاعر والاحتراف
مما لا شك فيه أن كل المصورين للأقبية الأمنية والسجون السرية التي كشفت عقب سقوط النظام السوري، من السوريين. وغالبا ما كانت وما زالت تؤثر الوقائع والمشاهد الفظيعة والمرعبة، أثناء التصوير عند المصورين، على مشاعرهم الشخصية التي تغلب في كثير من المواقع على عامل المهنية لديهم، وتقودهم إلى التركيز في دقة الصورة وإتقانها.
ويتحدث هنا المصور وسيم الحموي: “في كثير من المهام من أجل تصوير الأقبية الأمنية والسجون في سوريا عقب سقوط نظام بشار الأسد المخلوع، ومشاهدتنا لوسائل التعذيب فيها بحق المعتقلين خلال السنوات الماضية، ومشاهدتنا للمنفردات والزنازين التي تنتشر في كل زاوية فيها رائحة الموت والتعذيب.
تدفعنا كل هذه المشاهد إلى التركيز في التصوير والتقاط صور بأسلوب احترافي عالٍ، قادرة على كشف كثير من تفاصيل الإفراط في التعذيب الذي كان يمارس على المعتقلين، فعندما نرى الأكبال المعدنية وإلى جانبها أسلاك الكهرباء لتعليق المعتقلين وصعقهم بالكهرباء أثناء التعذيب، نحاول وضع كل هذه الأدوات ضمن صورة واحدة حتى تصبح الصورة كاملة ومعبرة ومؤثرة في العقل الإنساني”.
المجلة
——————————-
خطوات ضرورية من منظور «مجتمع الفقدان الغامض» السوري/ خليل الحاج صالح
مُقترَح لخطة عمل عاجلة بشأن قضية المفقودين والمفقودات في سوريا
20-12-2024
ترى هذه الورقة الحال السورية اليوم من منظور «جماعة الفقدان الغامض». وجماعة الفقدان الغامض هو الاسمُ الذي تقترحه هذه الورقة لتُسمي قطاعاً واسعاً من المجتمع السوري، تأثَّرَ بعمق بسياسات الاعتقال التعسفي والخطف والإخفاء القسري والقتل تحت التعذيب في سورية، وبنتائجها، خلال العقود الخمسة الأخيرة. وتسمية الفقدان الغامض، المأخوذة من علم النفس الاجتماعي وعلوم الأُسرة، تساعد في شمل كل أفراد الأُسر الذين خَبِروا أوضاعاً ومشكلات نفسية واجتماعية واقتصادية متماثلة، نتجت عن أوضاع سياسية وأمنية وإدارية وقانونية واحدة، نجمت بدورها عن حدث إخفاء أحد أحبتها لأسباب سياسة. بعبارة أخرى، تتشكل جماعة الفقدان الغامض-إن نظرنا إليها من خارجها- مبدئياً من أُسَرِ المفقودين، وتُكوِّنُ اليوم مُجتمعاً مؤقتاً غير مُنظَّم وغير مُدرِك لذاته، رغم أن أفراده مَرّوا وخَبِروا أحوالاً نفسية واجتماعية وسياسية متماثلة ولهم احتياجات آنية مُتطابقة. تالياً، تفترضُ هذه الورقة أنه من المُحتمَل والمعقول أن ينجح أفراد هذا المجتمع، في حال تَوفُّر ظروف مواتية، في بناء «جماعة» قادرة على صياغة مطالب سياسية وقانونية-حقوقية موحدة ومتماثلة، واستراتيجية واحدة للحشد والتحرُّك. مطالب تُعيِّنُ مصلحةً مُشتركة بين أفراد الجماعة، مبنية على حقها في معرفة مصير الأحبة المفقودين واستعادة رفات الشهداء منهم، وتوظيف تضحياتهم في منع تكرار الخطف والإخفاء القسري وفي صياغة بنية قانونية مُعاصرة ومُستجيبة للحقوق.
وبما أن الإبهام واللايقين يكتنفان مصير المفقود ومكان وجوده حياً أو ميتاً، وبما أن الآثار النفسية والاجتماعية والقانونية والإدارية تقع على أُسَرِ هؤلاء المفقودين بالطريقة ذاتها، فإن هوية هذه الجماعة من أُسَرً المفقودين ترتبط مع الفقدان ومُكابَدة آثاره ونتائجه على جوانب حيواتهم كافة. إذ تَخبَرُ أُسَرٍ المُغيبين فقداناً لا حلَّ ولا ختامَ ناجزَين له، وتُضطّر لمعايشة حال مديد من اللايقين حول مصير مفقودها. إذ يستحيلُ تجنب مشاعرَ يختلطُ فيها التجاذب الوجداني وتبادل إلقاء اللوم وتحميل المسؤوليات والإحساس بالتقصير والشعور بالذنب، كما يستحيل تجنّبُ النزاعات بين أفراد الأُسرة في ما يخص قضايا الإرث والزواج والتزويج وحضانة الأطفال والسفر وغيرها، ما دام أفراد أُسرة المفقود أسرى لحال لا يعرفون متى أو كيف سينتهي، ما داموا لم يحصلوا على إجابات شافية، ما داموا لم يروا مفقودهم وقد عاد حياً، وما داموا لم يتسلموا رُفاته ميتاً فيدفنوه ويحزنوا ويحدّوا عليه وفق أُطُرهم الاجتماعية، العرفية والدينية، وما داموا لم يضعوا خسارتهم في إطار مُعترَف به ومُصادَق عليه رسمياً، ما داموا لا يتوفّرون على بينة تُبيحُ لهم ختامَ انتظاراتهم وطيَّ صفحة مؤلمة وتوجيه أنظارهم إلى الآتي، وما دامت زوجات وأمهات المفقودين، الأشد تضرراً وأطفالهنّ من تغييب مُعيليهم، لا يعرفنَ إن كنَّ زوجات وأمهات معتقلين أم أرامل وثكالى شهداء، وإن كان على أطفالهنّ أن ينتظروا أكثر عودة أبيهم أم يُقروا يُتمَهم. أُسَر المفقودين لن تستطيع المُضي قُدماً وعينها على ماضٍ لا يمضي.
لا تتوفر أي جهة حتى هذه اللحظة على تَوثُّق نهائي من عدد السوريين المفقودين في سجون ومراكز اعتقال نظام الأسد الفارّ وقوى الأمر الواقع في سورية بين عامي 2011 و2024. إلّا أن منظمات حقوقية محلية ودولية تطرح أعداد تقريبية تتراوح بين 112 الفاً، في الحد الأدنى، و152 ألف مُختطَف ومَخفي قسراً في الحدّ الأعلى؛ يُرجَّح أن أكثر من 90 بالمئة منهم ضحايا سياسة منهجية للإخفاء القسري، اتّبعها النظام السوري طوال السنوات السابقة على انحلاله فجر 8 كانون الأول (ديسمبر) 2024، فيما تتقاسم قوى الأمر الواقع السابقة والحالية، تنظيم «داعش» وميليشيا «قسد» و«هيئة تحرير الشام» وفصائل «الجيش الوطني»، المسؤولية عن خطف وإخفاء العدد المتبقي وبنسب متفاوتة.
والحالُ ليس أفضل كثيراً في ما يخص المفقودين على يد الفصائل المُعارِضة. إذ ثمة غموض في ما يخصُّ أعدادَ ومصائر المفقودين من أفراد الجيش وأجهزة الأمن وميلشيات «الشبيحة» الرديفة لهما أثناء المعارك العسكرية، حالهم حال المدنيين الذين اختطفتهم أو أخفتهم فصائل مُعارِضة. يُضافُ إلى هؤلاء المفقودينَ لأسباب سياسية مباشرة، عددٌ غير محدد أيضاً ممَنْ فُقِدوا على طُرق الهجرة واللجوء، الذين لم تَستعِد أُسَرهم جثثهم مع معرفتها بمصائرهم المؤسفة.
تُشير تقديرات مُرتجَلة من منظمات حقوقية سورية وناشطين محليين أن عدد المساجين الذين حُرّروا من مُعتقلات نظام الأسد الفارّ، خلال أسبوعين من العمليات العسكرية المترافقة مع اقتحام السجون وتحرير السجناء منها، يزيد قليلاً عن 30 ألفاً. إلّا أن هذا العدد الخام يشمل كل من خرجوا من السجون، ولا يقتصر على معتقلي الرأي والضمير المَخفيين قسراَ؛ إذ يشمل مساجين جنائيين ومُجنَّدين ارتكبوا مخالفات وجرائم ومعتقلين غير سوريين وسواهم. وبذلك يظهر أن ثمة فارقاً كبيراً بين التقديرات عن العدد التقريبي الكلي للمفقودين قبل سقوط نظام الأسد، والعدد المُحتمل للمُحرَّرين الذي يقل كثيراً عن 30 ألف شخص. لذا ينهض مرة أخرى سؤال: أين المعتقلون المُعتبَرون في عداد المخفيين قسراً؟
في هذا السياق، يُطلّ شبح إجابة كابوسية ممقوتة طالما تَجنَّبها مجتمع الفقدان الغامض في سورية، رغم أنها الإجابة الأشد اتساقاً مع سياسات نظام الأسد الفارّ. فقد واظبَ نظام الأسدين تاريخياً على استخدام سياسة ثابتة في معالجة الاعتراض السياسي ضد حكمه. سياسة تبدأ باعتقال تعسفي يحرم المُعتقل من حماية القانون ويجعله في حكم المخفي قسراً. يترافق الإخفاء القسري، حسب شهادات متواترة مكتوبة أو مُصوَّرة من آلاف الناجين، بالضرورة بتعذيب لا ناظم أو ضابط له، تتفاوت مدته وتواتره وشدته والغاية منه بتبايُن الأوضاع السياسية خارج السجن وطبيعة الدعوى والتنظيم التي اعتُقل الشخص بسببها، بطريقة مفهومة ومُفسَّرة من منظور النظام ذاته بطبيعة الحال. هذا التفسير يجعل من التعذيب في أحوال كثيرة عملاً انتقامياً، لا مُجرَّد مسعى لاستخلاص المعلومات من المُعذَّب. ولهذا تَحوَّلَ التعذيب إلى صناعة مُنظمة لتصفية المعتقلين على نطاق واسع في فترتين على الأقل بسورية؛ الأولى في مطلع ثمانينيات القرن العشرين بسجن تدمر. والثانية، على نطاق أوسع بعد العام 2011.
لذا، فمن المُحتمَل اليوم أن الناجين الذين خرجوا من سجون النظام خلال الأيام الفاصلة بين 27 تشرين الثاني (نوفمبر) و8 كانون الأول (ديسمبر) 2024 هم آخر الناجين من هذه المذبحة، وأن ما تُكثّفه صور «قيصر» من تصفية للمعتقلين تعذيباً وتجويعاً ليس سوى مقطع زمني قصير، بين عامي 2011 و2013، لا يغطي إلا هذين العامين المذكورين، وأن آلة التعذيب والقتل استمرت حتى لحظة سقوط النظام المُنحَل، ومن ثم فإن احتمالات وجود المزيد من الناجين ما عادت معقولة، وأن الاهتمام يجب أن يتركز من الآن فصاعداً على المقابر الجماعية والوثائق والسجلات والشهود من السجانين وموظفي النظام وعناصر أجهزة الأمن، وكل ما ومَن يُمكن أن يساهم في توفير معلومات عن مصائر المفقودين.
بناءً على ما سبق، ولأن الأحداث الأخيرة واستحقاقاتها الهائلة والمتناهية سبقت الفاعلين جميعاً وأوصلتهم إلى «يومٍ تالٍ» في سورية دون «يومٍ تالٍ»، فإن هذه الورقة تقترحُ عناصرَ وخطوطاً كبرى من خطة عمل طارئة وفورية باسم «مجتمع الفقدان الغامض»، عناصر وخطوط تستجيب للأولويّ من احتياجات مجتمع ضحايا الاعتقال والتعذيب والإخفاء القسري في سورية، وتحدُّ من استفحال الآثار السلبية لمُجريات الأسابيع الثلاثة الأخيرة؛ استجابة أكثر شمولاً، تُلبي حق هذه الجماعة في معرفة مصائر أحبتها، وتستوعب داخلها الاحتياجات الاجتماعية والنفسية والقانونية والإدارية لأُسَر المفقودين في هذه الظروف القاسية على عموم السوريين. نتصور أن تأتي هذه الاستجابة مُركَّبة: سياسية وتشريعية وإدارية، ومتعددة الأطراف، محلية ودولية، ومتعددة المستويات، تُشارِك فيها أُسَر المفقودين وروابطهم، ومنظمات المجتمع المدني المحلية والدولية، ووكالات الأمم المتحدة المعنية، والدول المؤثرة والفاعلة في الملف السوري. نُجمل خطوطها العامة في ما يأتي:
أولاً: إجرائي وفوري
1- تشكيل فرق عمل تكون مهمتها الأساسية إحصاءَ وتوثيق المُعتقلين الأحياء المُحرَّرين من السجون والمُعتقلات أولًا بأول. يجب أن تتشكل فرق العمل هذه وتُنسِّقَ مع روابط الأُسَر والمنظمات والروابط المحلية القادرة على تقديم أي صورة من الصور الدعم اللازمة لأُسَر المُعتقلين الناجين. نقترحُ أن تضم هذه الفرق أعضاء من فرق الدفاع المدني المحلية والهلال الأحمر والصليب الأحمر، كما نقترح أن تُوجِّه الدول المانحة، والمنظمات الدولية، جزءاً من تمويلاتها الطارئة لتغطية هذا الجهد من أجل تحقيق استجابة سريعة شبيهة بتلك التي حدثت بعد زلزال العام 2023، من أجل تحقيق تَحرُّك مُنسَّق وعاجل لملاقاة الاحتياجات العاجلة للمعتقلين المحررين وأُسَره.
2- تعبئة جهودٍ ومواردَ من قبل المنظمات الإنسانية الدولية ومنظمات المجتمع المدني السوري والمنظمات القانونية وتلك المهتمة بالتوثيق، من أجل دعم هذه الفرق فنياً ومهنياً ومساعدتها على تنظيم عملها وتنسيقه على المستوى الوطني.
3- يجب أن تعمل هذه الفرق أيضاً، وبالتعاون مع قانونيين سوريين على الأرض، على جَمْع كل ما يتعلق بقضايا الاعتقال والإخفاء القسري والتعذيب والإعدامات من وثائق وسجلات الأجهزة والوزارات ذات الصلة، وتلك المُتناثرة سواء في السجون أو الدوائر الحكومية، أو بين أيدي المدنيين أو منظمات المجتمع المدني أو عناصر الفصائل المُسلّحة، من أجل بناء قاعدة بيانات شاملة تُسهم في توفير أجوبة عن هذه القضايا.
4- يجب أن تعمل هذه الفرق أيضاً على إحصاء المقابر الجماعية ورسم خرائط لها وحمايتها بالتعاون مع قوى الأمر الواقع.
5- يجب أن تلحظَ هذه الفرق وتعملَ وفق معايير ومُتطلّبات الآلية المُستقلة والمحايدة IIIM، والمؤسسة المُستقلة للمفقودين IIMP، ومحكمة العدل الدولية، أو أن تُنسِّقَ معها.
6- يجب أن تُساهم المؤسسة المُستقلّة المعنية بالمفقودين في سورية بفعالية في تنظيم وتنسيق جهود هذه الفرق بالتعاون مع الوكالات الأممية ذات الصلة.
7- فرضُ الإقامة الجبرية على قادة الأجهزة الأمنية وعناصر الأجهزة الأمنية والعسكرية والميليشياوية التي شاركت في أعمال الاعتقال التعسفي والتعذيب والخطف والإخفاء القسري والقتل تحت التعذيب، ومنعُ سفر المُشتبَه بهم إلى الخارج إلى حين إخضاعهم للتحقيق في مسؤولياتهم المُحتمَلة عن جرائم ضد الإنسانية أو جرائم الحرب.
8- يجب أن يُوضَع مُخيم «الهول» تحت السيادة السورية، بإشراف أممي وعون أمني ولوجستي دولي، وفرز المُقيمين فيه لإخراج الأطفال والنساء والمُختطَفين منه، وإخضاع مُقاتلي تنظيم «داعش» للتحقيق والمحاكمة الجنائييَن على الجرائم الدولية التي تثبت إدانتهم فيها.
9- إعادة التحقيق مع المُفرَج عنهم من عناصر تنظيم «داعش» السوريين، وإعادة محاكمة من تثبت إدانته بجرائم منهم بجرائم دولية جنائياً.
ثانياً: سياسي وقانوني
1- تتطلب الأوضاع الناشئة في سورية حديثاً عودة فورية للمجتمع الدولي إلى سورية عبر الأمم المتحدة، من أجل رعاية عملية التحول السياسي الجارية وضمان توازنها، وتشجيع مُشاركة سياسية شاملة ومتساوية للسوريين كافة في كل خطوات ومُندرَجات إعادة بناء نظام سياسي جديد في البلاد.
2- بموازاة ذلك، يتطلب الأمر تحقيق الاستقرار اللازم لإطلاقِ مسار جدي للتحول السياسي، وخفض مُسبِّبات الصراع، ومساعدة السوريين على الحفاظ على وحدة التراب الوطني، ووقف الاعتداءات على مقدرات البلاد. هذا يتطلب جهوداً مُنسَّقة أُممية ودولية وإقليمية.
3- يجب أن تبدأ الفصائل المُسلّحة بالانتقال من منطق الثورة إلى منطق الدولة، وأن تبدأ برامجَ لنزع سلاح عناصرها وتسريح من يرغب منهم في إلقاء سلاحه، وإدماج الأكفّاء والمنضبطين منهم في مؤسستي الجيش والشرطة، اللّتين يجب أن تجري إعادة بنائهما على أُسس وطنية وقانونية واضحة؛ ويجب، في الأحوال كافة، أن يُستثنى من هؤلاء كل من ارتكبَ جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية أثناء الصراع المُسلّح؛ فلا يجب أن يتحول انتسابُ أي من هؤلاء إلى الجيش أو الشرطة إلى حصانة له أمام المُساءلة والمُحاسبة.
4- يجب إخراج جميع المُقاتلين الأجانب المنضوين في فصائل مُسلحة، في قوات سورية الديمقراطية وهيئة تحرير الشام وفلول تنظيم «داعش»، من البلاد فوراً، وإخضاع من يُحتمَل ارتكابه منهم لجرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية لمُساءلة والمُحاسبة.
5- يجب وضع قانون جديد للأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني على أساس قبول التعددية السياسية والتنظيمية، وفتح الفضاء العام أمام المبادرات القاعدية، واعتماد مناهج وأساليب العمل السياسي، ما يُسهم في تعجيل الاستقرار الأمني والسياسي ويُمهّد لمعالجة القضايا والملفات الحقوقية الكُبرى.
7- يجب وضع قانون جديد للإعلام يُلبي حاجات السوريين وحقهم في التعددية السياسية، وفي حرية الرأي التعبير الحر عنه بأشكال التعبير كافة.
8- تحتاج البنية التشريعية السورية القائمة حالياً إلى تطوير شامل كي تغدو مُستجيبة لـ، وقادرة على، معالجة التحديات المُزمنة في إرث الاستبداد المديد وما تفرضه القضايا الحقوقية الكُبرى الناجمة عنه. هذا التطوير يحتاج إلى دستور وقوانين تتّسق نصوصهما مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، والعهد الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والبروتوكولات المُلحَقة بهما، وغيرها من الاتفاقيات والعهود الدولية ذات الصلة بقضايا حقوق الإنسان.
9- وبما إن تطوير البنية القانونية في البلاد يمكن أن يستلزم المزيد من الوقت، فإن ثمة حاجة مُلحّة اليوم لأن توقّعَ سورية عاجلاً، أو وتُصادق على أو تنضمَّ إلى أو تقبل بـ، حسب مُقتضى الحال، على كلٍّ من المواثيق والاختصاصات المذكورة أدناه:
أ- أن تُصادِق سورية وتنضمّ إلى «الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري».
ب- أن تقبلَ سورية اختصاص «الآلية الدولية المُستقلة والمحايدة IIIM»، وتتعاون معها بالكامل.
ج- أن تقبلَ سورية اختصاص «المؤسسة الدولية المُستقلة لشؤون المفقودين في الجمهورية العربية السوريةIIMP»، وأن تتعاون معها بالكامل.
د- أن تتعاون سورية وتستجيب بالكامل إلى إجراءات التقاضي القائمة في محكمة العدل الدولية بين كل من هولندا وكندا من جانب وسورية من جانب آخر، بخصوص خرق سورية لـ«اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المُهينة».
ھ- أن تنضم سورية إلى «ميثاق روما» وتقبل اختصاص محكمة الجنايات الدولية ابتداءً من العام 2011، وتقبل التعاون معها بالكامل، بما يُسهم في تحقيق استجابة شاملة ومعيارية لمتطلبات كشف المصير ومُساءلة ومحاسبة المُنتهكين في سورية.
ثالثاً: عدالة انتقالية
1- حكومة ومجلس تمثيلي مُنتخَب قانوناً يُنصف كل ضحايا الانتهاكات في سورية.
2- ومن هذا، يُبنى برنامج شامل للعدالة الانتقالية في سورية يُنصِف الضحايا ويُساهِم في تحقيق الاستقرار، ويمنع تكرار الانتهاكات في المُستقبل، لذا يجب أن يَبني هذا البرنامج أولوياته على:
أ- كشف مصائر المفقودين لدى أطراف النزاع كافة.
ب- المُصالحة وتحقيق الاستقرار عبر تحقيق العدالة، وهذا يتطلب مُساءَلة ومحاسبة المُنتهِكين من أطراف النزاع كافة.
ج- جبر الأضرار التي مسَّت قطاعات واسعة من السوريين.
د- تثبيت سردية وطنية سورية شاملة لمجريات الثورة والصراع بعد العام 2011.
ھ- تخليد ضحايا الاعتقال التعسفي والخطف والإخفاء القسري والتعذيب والقتل خارج نطاق القانون واستخدام الأسلحة الكيماوية والتهجير.
موقع الجمهورية
———————————-
اختبارات الشرع وسط عواصف إقليمية ومراقبة دولية/ صهيب جوهر
2024.12.23
بدت زيارة الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، مع وفد درزي كبير، ولقاءه بقائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع، خطوة جريئة، خصوصاً أن الإدارة الأميركية وعواصم أوروبية تتعامل معه في المرحلة الحالية وكأنها مرحلة اختبار للنوايا التي يضمرها الرجل. صحيح أن السلوك الغربي تجاهه يغلب عليه الطابع الإيجابي، لكن هناك عدداً من النقاط والمسائل التي لا تزال بحاجة إلى التحقق، قبل الشروع في علاقة دبلوماسية وشراكة سياسية ورفع العقوبات.
من المؤكد أن واشنطن ودول الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو تتعمد اتخاذ نهج وسلوك يؤكدان أنها ليست في خصومة مع الشرع. ومن هنا تحرص هذه الدول على التواصل معه والبدء ببناء علاقة مباشرة من خلال الوفود الدبلوماسية والاستخباراتية إلى دمشق، بعد مرحلة طويلة من الانقطاع وإعادة فتح بعض السفارات.
لكن، وعلى الرغم من هذا السلوك الإيجابي، هناك ما يشبه التريث في الإعلان عن اعتراف هذه الدول بسلطة الإدارة الجديدة، ومنح هيئة تحرير الشام سلطة ومشروعية دولية، في انتظار التأكد من تنفيذ وعودها بالمشاركة السياسية والانفتاح على المكونات والمجموعات، وتمكين المرأة، وإجراء انتخابات تنتج سلطة شرعية ودستوراً جديداً وجيشاً موحداً. وكان لافتاً تصريح أوساط أميركية بأن السياسة الأميركية تقوم على أن كل خطوة إيجابية يتخذها الشرع ستقابلها خطوة مماثلة من واشنطن وحلفائها.
بالمقابل، تبدأ مطالب واشنطن الرئيسية بالنظر في شكل السلطة التي ستتولى الحكم ومدى إشراك مختلف أطياف المجتمع السوري، بما يشمل الأكراد والأقليات الدينية، وتحديداً المسيحيين. وفي المقابل، هناك خطوات تحتاجها سوريا، مثل رفع العقوبات، وتحريك عجلة الاقتصاد، واستعادة العلاقات الدبلوماسية الكاملة مع الدول العربية أولاً ثم مع الدول الغربية.
من هنا، جاءت زيارة مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى، بربرا ليف، إلى دمشق كخطوة أميركية متقدمة، ولكن حذرة. إذ تستعد ليف لمغادرة منصبها، ما يعني أن أي خطوة سورية ناقصة لاحقاً يمكن تحميلها المسؤولية عنها، وفي الوقت نفسه فإن أي تقدم إلى الأمام ستتولى إدارة ترامب متابعته عن كثب بالتعاون مع الأتراك والقطريين. والأهم هو عودة الحياة النقدية لدمشق بعد سرقة المدخرات والأموال من المصارف على يد الأسد وفريقه الحاكم وتهريبها إلى خارج الحدود.
تأتي هذه التحديات الكبرى بالتزامن مع الدعوة لعقد المؤتمر الوطني السوري، الذي يُناط به تحديد شكل المرحلة المقبلة. ويُعد هذا المؤتمر اليوم التحدي السياسي الداخلي الأهم، والذي تتابعه الإدارات والدول باهتمام. وهو اللبنة الرئيسية التي ستحدد إما التفاهم أو تفاقم التباينات الموجودة وتحولها إلى انقسامات خطيرة، خصوصاً في ظل رغبة أطراف إقليمية، على رأسها الإمارات، في شيطنة الإدارة الجديدة وتصويرها كتهديد للدول الوطنية العربية عبر اتهامها بالانتماء للإخوان أو الإسلاموية.
مع ذلك، تبقى المعضلة الوطنية السورية الأبرز في مسألة وجود تنظيم “قسد”، الذي يصطدم بعداء الفصائل السورية أولاً، ثم العداء التاريخي مع تركيا، باعتباره أحد أبرز أجنحة حزب العمال الكردستاني المصنف إرهابياً. وهنا تظهر معضلة شكل النظام المستقبلي وما إذا كان سيتضمن الاعتراف بالإدارة الذاتية للأكراد، الذين يسيطرون اليوم على جزء كبير من الأراضي السورية، بما يشمل ثروات البلاد النفطية والتواجد العسكري الأميركي. ويُخشى لدى الإدارة السورية الجديدة أن تكون “قسد” وأخواتها أداة لبعض الأطراف الإقليمية لتقويض مكتسبات إسقاط حكم الأسد.
لكن الأساس الذي يجمع الشرع والأطراف الدولية والإقليمية الفاعلة هو التفاهم الوثيق، المباشر وغير المباشر، حول ضرورة إبقاء إيران وروسيا خارج المعادلات السورية. ومن المتوقع أن يتم طرح مصير القاعدتين العسكريتين الروسيتين في سوريا على جدول البحث قريباً، لكن عقب الانتهاء من المرحلة الانتقالية.
لكن التصريحات المتتالية للقائد أحمد الشرع باتت تثير الإعجاب وتدفع لفهم طبيعة تحولات الرجل الأيديولوجية. غير أن العبارة الأبرز كانت قوله: “سوريا لن تكون أفغانستان ثانية”، وأن الثورة انتهت في سوريا، مما يعني أن البلاد لن تصدّر الثورة إلى الخارج. هذا الموقف قد يريح الدول العربية، وتحديداً السعودية والأردن، اللتين أوفدتا مسؤولين من الديوان الملكي وجهاز الاستخبارات للقاء الشرع، بالإضافة إلى الزيارة المرتقبة لوزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان مطلع العام المقبل. خاصة أن لدى الرياض هواجس تجاه تركيا، وحساسية مفرطة من بعض الدول العربية الأخرى، فضلاً عن خوفها الدائم من تداعيات انتصار ثورة شعبية، سواء كانت مسلحة أم مدنية.
ومع انتهاء الأشهر الثلاثة الانتقالية، سيجد الشرع وفريقه أنفسهم أمام تحدٍّ إسرائيلي، قد يتطور من المطالبة بضمانات أمنية إلى الدفع نحو إقامة علاقات مباشرة. وفي هذا السياق، استباحت حكومة نتنياهو الجولان والمناطق الحدودية وجبل الشيخ، ودمرت الأسلحة في لحظة سقوط الأسد. ولا شك أن هذه الخطوات الإسرائيلية تتجاوز المزاعم الأمنية المؤقتة، وتوحي بنوايا احتلال دائم خوفاً من نشوء جيش عربي مسلم يحيط بها ولا يخضع تماماً لإملاءاتها.
في هذا الإطار، أثار كلام وليد جنبلاط عن المخاطر الإسرائيلية الانتباه، لأنه يدرك أن لبنان يتأثر بشدة بأي مستجدات على الساحة السورية، فما بالك بانهيار كامل للنظام البعثي المتهالك. وهناك اعتقاد بأن سقوط حكم الأسد يشكل جزءاً من تأثير “أحجار الدومينو” في المنطقة، في إطار إنهاء الدور الإقليمي لإيران ورسم خارطة نفوذ جديدة واسعة النطاق.
أما عن جيران سوريا، فقد كان لافتاً أن رئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني بادر، بخطوات وإن بدت خجولة، نحو التأقلم مع التطورات واستباق عودة ترامب إلى البيت الأبيض. إذ قام بتعيين شخصية موالية له بالكامل في رئاسة جهاز المخابرات العامة، بعد أن كان المنصب يُدار بالوكالة لسنوات من قبل شخصية محسوبة على الحرس الثوري الإيراني. واعتُبرت هذه الخطوة رسالة عراقية موجهة للولايات المتحدة، وبالتحديد لإدارة ترامب، مفادها أن السوداني سيمسك منفرداً بالملف الأمني والميداني في العراق. غير أن هذه الخطوة قد تعقد العلاقة العراقية مع إيران، التي لا تزال تحت وطأة صدمة الهزيمة في سوريا ولبنان.
أما إيران، التي كانت تراهن على تفجر النزاعات بين المجموعات التي استولت على الحكم في سوريا، لتتمكن من التسلل مجدداً وبناء خطوط اتصال سرية نحو الحدود اللبنانية، فقد أوعزت لمسؤولي الفصائل العسكرية العراقية الموالية لها باتخاذ الحذر الأمني لتجنب الاغتيالات، كما حدث في لبنان. وهذا يفسر الغياب الكامل لهؤلاء المسؤولين عن المشهدين السياسي والأمني.
الخوف العراقي، الذي ينعكس على حزب الله، يتفاقم مع مناقشة فريق ترامب مع إسرائيل احتمال توجيه ضربات للمنشآت النووية الإيرانية لمنع طهران من امتلاك أسلحة نووية. ويمكن تفسير تصريحات ترامب لمجلة “التايمز” الأميركية ضمن هذا السياق، عندما قال إنه لا يستبعد احتمال نشوب حرب مع إيران. يدرك ترامب أن إيران، المهزومة في لبنان والعراق وسوريا، قد تلجأ إلى تصرفات جنونية لإثبات وجودها، كما يظهر في استمرار الحوثيين بإطلاق الصواريخ على إسرائيل.
إنها مرحلة دقيقة، صعبة، وفارقة. ورغم أن الفصل النهائي لا يزال غير مرئي، فإن النتيجة الأهم هي أن المنطقة، والعالم، وسوريا، ولبنان من خلفها، أصبحت بطبيعة الحال أكثر أماناً مع سقوط الأسد، الذي كان يمثل أحد أبرز “شياطين العالم” التي رحلت غير مأسوف عليها.
تلفزيون سوريا
—————————————-
بعد سوريا: الجيوبوليتيك الروسي نهاية 2024/ جمال الشوفي
2024.12.23
لم يكن سقوط الأسد الفار إلى روسيا حدثاً عادياً كغيره من الرؤساء العرب السابقين، بل شكل مفصلاً تاريخياً سورياً وعربياً ودولياً. فبالنسبة لنا كسوريين، والحديث ذو ألم لا ينتهي، وهو الذي دمر سوريا وهجر سكانها، ومشاهد المعتقلين المحررين وحدها كافية لتتحدث عن مستوى إجرامه ونظامه غير المسبوق، فكيف وأنه استجلب غالبية غزاة الأرض من القوى الإقليمية والدولية ليبقى على كرسيه على جماجم السوريين. وسقوطه عربياً يعني إجلاء إيران من سوريا والعمل على استقرارها، ووقف تهريب المخدرات والكبتاغون إلى الخليج العربي، وتجنب الخليج والعرب عموماً مواجهة إيرانية كانت للأمس القريب محتملة. في حين تبرز من جديد مخاطر المعادلة الدولية التي أحاطت بسوريا بحكم حجم التدخلات العسكرية الروسية مقابل الأميركية في ظل وجود تركيا وإسرائيل وإيران، فهل تتغير المعادلة الروسية عالمياً بدءاً من سوريا؟
فمنذ عادت روسيا للعب دور محوري في المعادلات الدولية، والعالم يقف على حافة خطر نشوب حرب عالمية كبرى تهدد سطح الكوكب والسلام العالمي. بدأت من القرم عام 2014، وتلتها في سوريا العام 2015 بتدخلها العسكري المباشر ولعب دور رئيسي فيها وتغيير قواعدها كليةً. ومن ثم وصولها إلى قلب أوروبا في أوكرانيا عام 2022 لتضع كامل أوروبا والسلام العالمي تحت التهديد المباشر. وتتابع دورها الرئيسي في معظم العوالق الدولية وفق سياسة جيوبوليتيكية محدثة تسعى من خلالها لتستعيد حضورها وموقعها في القمة العالمية مرة أخرى.
مع تصريحات بوتين الأخيرة حول سوريا، والمتضمنة إمكانية تفاوضه على مواقعهم العسكرية في حميميم وطرطوس مع الحكومة الانتقالية، وما رافقها من تصريحات ميدفيدف بالتهديد باختفاء أوكرانيا ما لم تستسلم لروسيا، فثمة ما يشير لبلوغ الجيوبوليتيك الروسي الذي اعتمدته الأعوام السابقة لذروته. سواء من تأجيج الوضع الأوكراني أوروبياً السماح لأوكرانيا امتلاك أسلحة بعيدة المدى (تتجاوز 250 كم) قادرة على ضرب العمق الروسي؛ وفي المسألة السورية حيث تغيرت موازين القوة في الداخل السوري بعد سقوط النظام وكسر معادلات أستانا السابقة التركية الروسية الإيرانية حول خطوط التماس الدولية. فهل هذا يعني أن روسيا بلغت النهاية في قواعدها الجيوبوليتيكة؟
الجيوبوليتيك الروسي يعتمد جملة من المعايير العلمية الدولية سياسياً وعسكرياً واقتصادياً مستقاة من معادلات الحرب العالمية الثانية، أبرز أسسه:
التحالفات البعيدة لاستكمال محيطها الحيوي الأوراسي، وهذا ما تحاول فرضه بالقوة على أوروبا من بوابة أوكرانيا.
الوصول للمياه الدافئة، خاصة بحري المتوسط والأسود، ووصلها بخطوط إمداد برية.
استخدام القوة العسكرية في تحقيق أهدافها سواء بالهيمنة المباشرة أو بعقد صفقات تجنيب الخصوم تحت عنوان المصلحة المحضة. ففي سوريا تمركزت على البحر المتوسط بعمل عسكري واسع في الداخل السوري بالاتفاق المباشر مع نظامها الساقط، وبموازاته عقد صفقات أستانا الجيوعسكرية لضمان خطوطها البرية وتمركزها الجيوبوليتيكي. ومثله تماماً حين تمددها لأوكرانيا بقسمها الشرقي وبقاء المفاوضات الأوروبية خاصة الفرنسية والألمانية مفتوحة الخطوط.
التهديد باستخدام الزر النووي وأثاره المرعبة على العالم لإملاء شروط جيوسياسية، ووضع الفيتو الدولي قيد التنفيذ المباشر في قرارات مجلس الأمن التي تتعارض مع مصالحها.
إثارة الأزمات العالمية الحادة ومحاولة فرض إرادتها المفردة سواء في سوريا أو أوكرانيا ونتائجهما الكارثية لليوم. فهل يمكنها الاستمرار بهذه السياسة وفرض حضورها العالمي من خلال تخليها عن سوريا مقابل الاستفراد بأوكرانيا؟ ما يشبه تقديم تنازلات في ملف على حساب الآخر ضمن أهدافها الجيوبوليتيكية الأساسية.
خلال السنوات الماضية لم تتوقف التحذيرات العالمية من أخطار الفورة الروسبوتينية هذه، والتي أتت على لسان أشهر منظري ومخططي السياسات الاستراتيجية الأميركية والسياسة العالمية في العقود الماضية، هنري كيسنجر، وهو الذي كتب مبكراً في 2014 أن “طبول الحرب العالمية الثالثة تقرع ومصاب بالصمم من لا يسمعها”. في حين لم يتأخر ألكسندر دوغين، أشهر منظري الجيوبوليتيك الروسي، بتوقع حدوثها، وذلك في العام 2016. وفي الأمس القريب أعاد كيسنجر ومن خلفه كثير من سياسي العالم تحذيراتهم من شدة تأزم الوضع الأوكراني وضرورة الاستعجال بالتسوية الروسية الأوكرانية والإقرار بالوضع السياسي القائم تفادياً لمواجهة عالمية قيد النشوب، باتت مؤشراتها الأوروبية أكبر اليوم. يقابلها ممثلو السياسة الروسية بالجزم أن روسيا لن تنهزم في حرب أوكرانيا حتى وإن استخدمت الأسلحة النووية!
تصريحات مثيرة للرعب تخرج من أشهر قارئي السياسات العالمية ومحلليها ومن خلفهم مراكز دراساتهم الاستراتيجية كمركز كاتخيون الروسي، أو مركزي الدراسات الاستراتيجية ومركز راند الأميركيين، ولكنها باتت غير مستغربة! فالسلم العالمي اليوم قيد التهديد المباشر. خاصة وأن الروسبوتينية مصرة على تنفيذ وتطبيق نظرياتها الجيوبوليتيكة بالقوة العسكرية للعودة للقطبية العالمية كسابق عهدها أيام السوفييت. ويبدو أن مغامرتها فيها قد توصلها إلى آخر مداها، خاصة وأن أواخر إدارة بايدن الأميركية تسعى للتصعيد والتأجيج إزاءها مع تعالي الأصوات الأوروبية بضرورة لجم ووقف التمدد الروسي في أوكرانيا.
بالمقابل تحاول روسيا العمل على امتصاص المتغيرات الدولية وتجييرها لصالحها، سواء من محاولتها البحث عن ترسيم مناطق النفوذ في أوكرانيا وتثبيت شرقها تحت نفوذها، وما رافقها من تفاهمات مفصلية في الوضع السوري مع تركيا تسمح لها بالحفاظ على مصالحها الحيوية على الساحل السوري مقابل التخلي عن حماية بشار الأسد ونظامه، فكان سقوطه المدوي.
العالم اليوم يقف على فوهة بركان قابل للانفجار بكل الاتجاهات ووقوده الشعوب التي تحاول الحرية والاستقرار، ولكن سياسات الهيمنة والغطرسة أرادت عكس هذا وباتت قابلة لتفجير الكوكب برمته. ما يستوجب على البشرية بمدنيتها وعصريتها إعادة رؤيتها في مسارات السلم العالمي ونبذ سياسات العنف جميعها سواء الروسبوتينية أو العولمة الأميركية بالمقابل، والعمل الجاد والفعلي على استقرار سوريا ومنع المزيد من انتهاكات حقوق الإنسان منذ 14 عام كبداية لمقاربتها في المسألة الأوكرانية وبالضرورة وقف العمل بالجيوبوليتيك الروسي من جذره.
خطر الجيوبوليتيك الروسي اليوم في ذروته كما كان إبان الحرب العالمية الثانية حين فعلته ألمانيا النازية. ففي حال افترضنا أنه مثل خطوة متقدمة في مواجهة التفرد الأميركي وإدارتها للشرعية الدولية بطريقتها، لكنه أتى من بوابة الحرب ذاتها. في حين لو أقامت روسيا تحالفاتها السياسية من خلال تفهم حاجيات شعوب المنطقة وتطلعاتها لبناء نماذج دولها العصرية واحترام تجاربها التاريخية والثورية الراهنة، واحترام القانون الدولي والشرعة الدولية لحقوق الإنسان، فلربما اختلف السياق العالمي برمته. وكنا شهدنا سقوط نظام الأسد منذ العام 2015 وقد وفر علينا كل مشاهد الرعب التي عشناها.
فهل نشهد نهاية للجيوبوليتيك الروسي قريباً بالعودة إلى قواعد السلم العالمي وضرورة حظره مرة أخرى من السياسات الدولية والذهاب باتجاه عالم متنوع ومتعدد الأقطاب أم سنشهد كارثة عالمية كبرى؟ سؤال برسم السياسات الدولية نهاية 2024 ومطلع 2025.
تلفزيون سوريا
————————–
ملاحظات أولية عن السجّان الأسدي/ حسام جزماتي
2024.12.23
عملتُ، قبل عدة سنوات، على مشروع استقصائي عن طاقم سجن صيدنايا في أثناء الثورة. كانت المعلومات الأساسية عن كل منهم تتضمن اسمه الكامل، بطبيعة الحال، ومكان الولادة وتاريخها، واسمي الأب والأم، وتاريخ الخدمة في السجن، ونوعها إن كانت عاملة (متطوع) أو إلزامية أو احتياطية، والرتبة العسكرية، والمهمة داخل السجن إن أمكن تحديدها بدقة، وأي ملاحظات أخرى. وأخيراً بعض الصور الشخصية.
كان هذا النموذج حقوقياً، يهدف إلى التحضير لمحاكمة المتورطين في انتهاكات القتل والإعدام والتعذيب والممارسات الأخرى، والذين يُعتقد أنهم معظم الطاقم وفق شهادات الناجين. وهو ما دفع منظمة حقوقية سورية إلى تبني هذا الاستقصاء ومشاركته مع مؤسسات دولية معنية برصد مرتكبي الانتهاكات في سوريا.
لكن هذا لم يكن كل شيء. فسجل المعلومات المذكورة أعلاه أقرب إلى أن يكون إطاراً توثيقياً بارداً، وضرورياً، غير أنه لا يجيب عن سؤال أساسي كان يشغل المعتقلين والناجين وذوي الضحايا ومناصريهم من جمهور الثورة وغيرهم من المتابعين وهو: مَن هؤلاء؟ كيف تكوّنوا؟ كيف يرتكبون كل هذه الفظائع بدم بارد؟ وهل هو بارد حقاً؟
في الثقافة السورية صورٌ عن الجلاد أو السجان، ندر أن تستند إلى استنطاقه هو نفسه، فرداً كان أو مجموعة، بل بُنيت بالاعتماد على أفكار الضحية لا على ملاحظاتها في الغالب. وتكون الضحية، عادة، شاباً يسارياً مفعماً بالأمل في تغيير العالم وبالإيمان بخيرية النفس البشرية وبطيبة الفقراء والبسطاء، يميل إلى عدّ الفاعلين المباشرين الذين يتعاملون معه، أي السجانين، تروساً قليلة الحيلة في آلة قمع كبيرة يديرها أشرار حقيقيون.
أما تجربتي فكانت مختلفة عن هذه النتيجة المشوبة بالشعرية لسببين رئيسيين:
أولهما، ما تواتر من شهادات الخارجين من سجن صيدنايا عن مبادرة السجانين، الصغار هؤلاء، إلى قتل المعتقلين بغرض التسلية أو العقوبة المزاجية، أو التنكيل بهم بشكل يتجاوز أحياناً تعليمات الضباط. لا لأن الأخيرين أكثر رحمة بل لأنهم مشغولون بالعبء العام الذي وقع على أكتافهم مع اكتظاظ السجن، في سنوات ذروة الثورة، بأعداد تفوق طاقته بكثير.
أما السبب الثاني، فهو طبيعة الصدفة التي قادتني إلى عالم السجانين. فعندما كنت أتصفح، بحساب فيس بوك مزور موال لنظام الأسد، عثرت على صفحة شاب كتب، في التعريف بنفسه، أنه صف ضابط متطوع في سجن صيدنايا. وكانت تلك صدمة حقيقية. إذ يحظر «الجيش العربي السوري» على أفراده إنشاء حساب على مواقع التواصل الاجتماعي. وإن كان مصير هذه التعليمات الإهمال عادة فإن هذا يظل غريباً في حالة الخدمة في هذا السجن الرهيب، وإعلان ذلك باستهتار في حساب يحوي صورة صاحبه!
استغرق الأمر وقتاً قصيراً للتأكد من أن راتب إبراهيم يعني ما كتب. فقد كان يتيح منشوراته للعموم، ويتوسع في عدد أصدقائه بخفة لا مبالية فأصبحت منهم، ويستمتع بتسجيل إجازاته بسهم سفر؛ من صيدنايا إلى مصياف، والعودة مع أحد زملاء «العمل» أحياناً.
عبر التاغات، والصور الثنائية والجماعية، والتعليقات الدالة على مشتركات «مهنية»؛ أمكن تحديد الشبكة الأولى من طاقم السجن. وبالطريقة نفسها توسعت الحلقة لتشمل أقل من مائتين من العاملين في السجن، التابعين لإدارة الشرطة العسكرية.
نتيجة لاحتفاظ نظام الأسد بالمجندين الإلزاميين لأعوام طويلة خلال الثورة، وثبات غالب المتطوعين من صف الضباط؛ شكّل هؤلاء مجتمعاً من أفراد عاشوا سوياً سبع أو ثماني سنوات، وخاضوا تجربة مشتركة لا تشبه غيرها ولا يستطيع معظمهم الحديث عنها خارجاً.
في البداية، يجب أن نقول إنهم لا يتلقون أي تأهيل خاص «لنزع إنسانيتهم» قبل الفرز إلى سجن صيدنايا، بل يتجهون إلى هناك كما يذهب زملاؤهم إلى مواقع أخرى، بعد انتهاء دورة التدريب العامة. وأنه لا جهود لتحويلهم إلى «وحوش» تتجاوز إتاحة الفرصة لهم لأن يكونوا كذلك في بيئة مؤهلة.
ليس كلهم علويين، كما قد يُتوقع، وإن كانت نسبة العلويين منهم أعلى من معدلها العام بين السكان، وأعلى مما كانت عليه قبل الثورة. أما مديرو السجن، منذ تأسيسه حتى سقوطه، فيتحدرون من الطائفة العلوية حصراً. وكذلك ضباطه، وأطباؤه الذين يحملون رتبة ضابط، باستثناءات نادرة.
لا يتلقى صغار المجندين الإلزاميين، حين يصلون إلى السجن لأول مرة، تعبئة سياسية تتجاوز كلمات معدودة من مديره، وما يسمعونه من الزملاء الأقدم في أثناء انخراطهم السريع في أداء المهام؛ من أن المعتقلين «خائنون للوطن وأعداء للسيد الرئيس» مما يطلق استباحتهم التي يرونها بأعينهم ثم يشاركون فيها بسرعة ومن دون غضاضة، إلا في حالات قليلة ترجع إلى انتماء العنصر إلى منطقة ثائرة أو أقلية محايدة. وحتى في هذه الحالة فإن خروجه عن السياق العام مضبوط.
ما يهم العسكري، الإلزامي أولاً والمتطوع ثانياً، ليس المساجين كما كنا نتوهم. بل إن همومه هي ما يشغل بال عناصر جيش النظام عادة: نوعية الخدمة، ومدى صعوبتها أو سهولتها، وحجم التعب، ومعدل الإجازات ومدتها، وشدة الضباط، وتواتر المناوبات. بشكل عام، ووفق المعايير العامة في الجيش، تعدّ الخدمة في سجن صيدنايا «صعبة». لذلك يحاول بعض المفرزين إليه الانتقال منه باستخدام واسطة أو بدفع رشوة. نادراً ما ينجح ذلك نتيجة لتمسك مديري السجن بعناصرهم لأداء المهام الكثيرة. وإن حدث، فنادراً ما يكون دافعه عدم القدرة على النوم ليلاً على المخدّة تحت تأنيب الضمير.
تضاف إلى صعوبات الخدمة في سجن صيدنايا عقبة يختص بها، وهي أنه محاط بأجهزة تشوّش الاتصال وتصفح الإنترنت عبر الموبايل. وهو أمر بالغ الأهمية بالنسبة إلى شباب معظمهم في حوالي العشرين، يريدون كأقرانهم خارج هذه المهمة الوحشية اليومية، التسلي بمشاركة الأغاني الرائجة والنكات والتعرف إلى الفتيات أو مراسلة الخطيبة وربما الزوجة.
بشكل غير مفهوم، لا يشعر معظم الفاعلين في هذا المسلخ البشري أنهم يرتكبون جرائم؛ وقت يجلبون الطعام الشحيح جداً ويبولون فيه، وعندما يختارون من أرادوا للقتل أو التعذيب بحجج واهية، وحين يسحبون الجثث بتثاقل وهم يسمونها «فطيسة»، ويوم يقودون المحكومين إلى الإعدام، أو المطلوبين للزيارة فيذلونهم ويسرقون مما يجلبه ذووهم.
في الليل، بعد أن ينهي أكلة حيوات البشر وكراماتهم «عملهم»، يغلقون أبواب الأجنحة على الجثث الحية. يتحررون من البدلة العسكرية ويستلقون متواجهين ليلعنوا الخدمة ويتبادلوا الحديث عن الحياة المدنية. يعدّون عشاءً ويشرب بعضهم العرق المهرّب خلسة. ومن دون أي شعور بالتناقض، يقرأ علي ساتر، طبيب السجن المتطوع الذي يعدّ نفسه مثقفاً، في ديوان لمحمود درويش، في حين يعكف الملازم حسين سلوم، مهندس الكمبيوتر الذي كان يقضي خدمته الإلزامية، على عوده ليعزف أغاني فيروز التي يدمنها، أو يلعب طاولة الزهر.
تلفزيون سوريا
—————————–
هنا دمشق!/ أحمد جاسم الحسين
2024.12.23
الكتابة عن سوريا من قلب دمشق، لحظة جاءت في غير وقتها. لحظة إيمانية من نمط “كن فيكون”، جاءت بعد فقدان أمل، ولم يعد ينفع معها مقولة شعبية “اقرصني كي أصحو وأصدق أن تلك اللحظة من واقع” لأن جلد جسمك أدمن اللاأمل!
تصل إلى دمشق، التي ينشط عاملو الدهان فيها لإزالة وسخ عَلَم، كان علماً للبلد ذات يوم، فصار رمزاً لنظام القتل والإجرام، لذلك يسارع الدهانون إلى إزالته، مستثمرين نهاية الأسبوع ليخلصوا المدينة من جزء مزعج من ذاكرتها.
تصل إلى دمشق بعد عشرة أيام من انهيار لا يختلف عن انهيارات الدكتاتوريات من قبل، انهيار بلحظة واحدة، يؤكد الناطق الرسمي أن كل شيء بخير، في حين، يرمي العساكر لباسهم ورمز قوتهم ليلبسوا اللباس المدني، تلك لحظة فارقة في حياة المدينة، نوع من التخلي عن رمزية القوة في الإدارة نحو العادية حيث يصبح كل الأشخاص عاديين، من دون قوة رمزية، أن يعود ناسها إلى فطرتهم الأولى. هكذا يغدو التخلي عن العسكرة طريقاً للنجاة، بعد أن كانت العسكرة في دمشق طريقاً للحياة والقوة والوجود والأثر.
تنظر إلى وجوه البشر المغسولة بالتعب، تكاد لا تقوى على المشي من كثرة ما أنهكت، أسأل أحدهم: يقول لي: حتى كوننا متعبين لم نكن نستطيع التعبير عنه، كنا نخاف أن نقول: إننا متعبون، نحن أبناء الصمود والتصدي حيث التعب ممنوع!
تدور أجزاء من المدينة عبر سيارات أجرة متعبة كذلك، تستمع إلى محطات إذاعات عدة فيها شيوخ ومغنون وفنانون، كأن دمشق تستعيد تنوعها كـمدينة بألوان بعد أن كانت بلون واحد فقط!
يبادلك سائقوها نظرات لم تغسل رعبها بعد، فتذكّرهم أن المدينة من دون مخابرات اليوم، لا يصدق عقلهم الباطن ذلك.
يسوغ لك أحد سائقيها تجاوز إشارة المرور عند التقاطعات رغم خطورته عليه وعلى الآخرين، فيرد مبتسماً: هذا نوع من التأكد من أن شرطي المرور لم يعد موجوداً! وأن السلطة السابقة لم تعد موجودة!
تبحث عن اسمك بين المفقودين الذين تنتشر أسماؤهم على الأعمدة، لعلك تجده، فأنت ضائع مثلهم ومعهم، أهلهم وضعوا أسماءهم ليبحثوا عنهم مع الأحياء، لا يريدون أن يذهبوا للمقابر، أو السجون، وضعوا أسماءهم وسط الأسواق، لعلك رأيتهم أو رأوك.
يبادلك سائقوها نظرات لم تغسل رعبها بعد، فتذكّرهم أن المدينة من دون مخابرات اليوم، لا يصدق عقلهم الباطن ذلك.
لا تزال غير مصدق، حسناً؛ اذهب إلى تلك المطاعم والمقاهي التي لديك فيها ذكريات، تناول الطعام الذي كنت تأكله، اشتر فطيرة من هنا، سندويشة من هناك، واشرب الشاي الخمير في مقهى الروضة. كل المعطيات الواقعية تشير إلى أن لا شيء في الواقع يشبه شيئاً مما في ذاكرتك، فما المتوقع من جودة طعام بلد يكاد أن يكون بلا كهرباء! كيف ستحفظ الأطعمة، لكنك اليوم تأكل بطعم الذاكرة، وتشرب كذلك، ذاكرتك هي التي تسيرك وتقود خطواتك، فلا ترى الوسخ أو كل تلك الظواهر المزعجة التي تحيط بك!
تريد أن تقبض على لحظة مستقبل أو حاضر في مدينة تشير خطواتها إلى أنها من الماضي البعيد، مدينة خارج الزمن، فيها لوحات مطاعم وديكورات معاصرة، مدينة نسيها الزمن سنوات وسنوات، ليس الأشخاص وحدهم يخرجون من الكهوف، المدن كذلك، هي حال دمشق.
تسألك المدينة عن إمكانية التنبؤ بمستقبلها، تستمع إلى خطط وأفكار ومناقشات بين مجموعات من فندق الشيراتون وفندق الميريديان، حيث جاءت تلك المجموعات إلى هنا كون الإنترنت سريعاً هنا، وكذلك وجود محطات فضائية ومقيمون قادمون من الخارج، كأن المدينة التي كانت تناقش مستقبلها السياسي في مقهى الكمال والروضة والهافانا؛ باتت تناقش مستقبلها هاهنا في إشارات إلى التحول، من أن أهلها هم الذين يحددون مستقبلها، إلى مدينة تدرك أن أهلها مؤثر في مستقبلها من بين عدة مؤثرات أخرى، إقليمية ودولية كذلك.
يحضر قادة سابقون ومؤثرون اجتماعيون في تلك الجلسات، يركض شباب وصبايا لالتقاط صورة معهم، مقاطعين حديثهم، إنه زمن الصورة!
تسألك شابة تتدرب على العمل السياسي: هل سيأتي أحد ليستمع إلينا؟ فيقاطعها زميلها: لنتدرب على الحكي أولاً! يجيب زميلك: نحن هنا نحكي، لكن القرار في مكان آخر!
لا أحد يصدق، لا أحد يعرف مراكز القرار، لا أحد يعرف شيئاً عن الخطوة التالية، أو اليوم التالي، وضاعت كل تلك المنظمات التي حصلت على آلاف الدولارات لترسم سيناريو اليوم التالي، بات الناس يعيشون يومهم بسعادة وكلهم ثقة أن أحداً لن يأتي قبل الفجر ليعتقلهم، هذا هو اليوم التالي المؤكد ها هنا، وكل سيناريوهات المراحل الانتقالية اليوم التالي غير موجودة في دمشق، التي ولّدت معنى جديداً لليوم التالي!
تجلس بجانب سيدة في مقهى دمشقي، تشير لهجتها وطريقة ارتدائها للحجاب أنها خائفة من اليوم التالي، بعد أن كانت مرتاحة في اليوم السابق، تسألها ما الذي يخفيك من اليوم التالي؟ فتقول لك: ما يخيفني أنني اعتدت أن أعيش في ظل القوة!
تسألها: هل تعرضت لشيء مخيف في اليوم التالي؟
تقول لك: لا! لكن الحذر من الخوف من اليوم التالي هو الذي جعلني أختار لباساً يحميني في اليوم التالي المتوقع! هكذا اختارت تلك السيدة “سيناريو” ما لليوم التالي، فهيأت نفسها له!
والخوف من اليوم التالي هو الذي جعل اللهجة الدمشقية ملاذاً لكثيرين لا تخفى عليك لهجتهم الأم، يحتمون باللغة، ينكرون ملامحهم وتاريخ جزء من عوائلهم، يسعون للمحافظة على على لقمة عيشهم باللغة!
إعلامي عربي اعتاد أن يأتي إلى دمشق بين فترة وأخرى يقول: هذا كثير علينا، أن نتحدث من دون أن ننظر إلى ما حولنا، كنا نظن دمشق لا يمكنها أن تعيش من دون “الحيطان لها آذان” هل خلعت الحيطان آذانها؟
يتجمع آلاف الشباب عند ساحة الأمويين للتعبير عن صوتهم، كنا ننتظر أن يكون لنا ميداننا يوماً، تتساءل: الأولى بساحة ملائمة لوقوف أقرب للجميع ذات دلالة تاريخية هي ساحة المرجة مثلاً، وهي مهيأة أكثر للمشاة والتظاهر، لكن أولئك الشباب والصبايا يحضرون إلى ساحة الأمويين والسيف الدمشقي ليقولوا – كما يرى أحدهم: نريد أن نقول للإيرانيين انتهى المشروع الفارسي، هذه دمشق عاصمة الأمويين!
تذهب إلى المدينة القديمة المهملة فتجد أن الناس استعادت جامعها الأموي كذلك، مع أنها لم تمنع عن الصلاة فيه، غير أن جموعهم تقول لك: الشام دمن ون مخابرات غير!
في الفناء الخلفي للجامع لا بد أن تعرّج على قبر صلاح الدين الأيوبي، فتجد أن قبر العالم الدمشقي سعيد رمضان البوطي وضع هناك بجانبه، وهو الذي فقد قيمته الرمزية لدى معظم السوريين بعد أن اختار الوقوف مع النظام البائد، تلوم عائلته، لأنها وضعته بجانب قبر صلاح الدين الأيوبي؛ مما يحتم على الزائرين تذكره، وبالتالي قد تسمع شتيمة لقبر ودعاء لقبر، هذا يشيد بصلاح الدين وبطولاته وهذا غير راض عن موقف البوطي من الثورة السورية.
أحياناً؛ التخفي والصمت أفضل الحلول، وهو ما لم يقم به فنانون كثيرون دعوا إلى إبادة السوريين المختلفين عنهم قبل سنوات وباتوا اليوم يركضون للتعبير عن ندمهم عبر شاشات التلفزة: لمن نكن نعرف! تلك جملة سهلة لتحقيق الاعتذار في عصر التسامح الدولي، مع أن كثيراً من السوريين لا يثقون بهم، حتى لو كانوا يعرفون لفعلوها لأنهم بلا كرامة أو إنسانية، كما يرى مستاؤون منهم!
يقول لك حكيم: ربما التأخر في النصر فيه حكمة لا نعلمها، لو انتصرنا سنة 2013 مثلاً لأكلنا بعضنا، ولألغينا بعضنا بعضا كذلك. تلك كانت لحظة نشوة وسكرة أما انتصار اليوم فيأتي في لحظة فكرة، فقد جاء النصر بعد انكسار طويل، بعد أن تعرف السوريون إلى السوريين الآخرين. تساعدنا وتعاتبنا واختلفنا واتفقنا وفقدنا الأمل معاً، بات كثير منا معجوناً مع الآخر ألماً وشوقاً وحزناً وغربة ولجوءاً!
تنظر إلى وجهك في المرآة، لقد غدوت شاباً بخبرة شيخ في دمشق، تقول: أمامي 54 عاماً للفرح كي أعوض فيها 54 عاماً عشتها في ذلك العهد المر، عمراً عشته تنتظر الفرح: تفتح شباك غرفتك، تمدّ رأسك خارج النافذة وتقول لدمشق: أنا كذلك لم أكن أعرف كم أحبك إلا في لحظتين: لحظة مغادرة حين قبلت أرضك مودعاً. ولحظة عودة حين مددتِ ذراعيْك لتحضنيني ثانية، بعد أن أكلني الشوق.
احضنيني أيتها الجميلة أكثر وأكثر، لأنام إلى الأبد هنا، فالنوم الهانئ بين يدي الحبيب أحد أبرز الطرق للتعبير عن الامتنان للمحب والشعور بالأمان معه، خاصة؛ أولئك الرجال الذين لا يتحدثون كثيراً لمن يحبون، بل يكتفون بلغة العيون، مع أن الحبيبة تنتظر منهم الأحاديث والسهر!
—————————–
فريدريك هوف: خطوات ترسم مستقبل سوريا
إيمان شمص
2024-12-22
حّدد الدبلوماسي والمبعوث الأميركي السابق إلى سوريا السفير فريدريك هوف عدّة خطوات تستطيع تركيا، بمساعدة واشنطن، إقناع رئيس هيئة تحرير الشام، أبي محمد الجولاني، باتّخاذها الآن بعد انتهاء حكم الأسد، وتضمن للسوريين فرصة العيش حياة كريمة ولائقة. ودعا الولايات المتحدة إلى إعادة فتح السفارة الأميركية في دمشق والاتّصال بشكل مباشر مع الجولاني، معتبراً أنّه بعد سنوات من الاضطهاد من قبل نظام وحشيّ، والانتهاكات على أيدي إيران وروسيا، والخيانة من قبل الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية، حقّق السوريون تحريرهم بأيديهم، ويستحقّون مساعدة الولايات المتحدة واستعدادها للاستماع إليهم.
وصف هوف الذي كان سابقاً المنسّق الخاص للشؤون الإقليمية في مكتب المبعوث الخاصّ للسلام في الشرق الأوسط التابع لوزارة الخارجية الأميركية جورج ميتشل، رحيل بشار الأسد عن سوريا وانهيار نظامه بأنّه “المفاجأة الجيوسياسية الأكثر متعة في القرن الحادي والعشرين”. واعتبر أنّه على الرغم من أنّ عشرين مليون سوري “يواجهون اليوم أوقاتٍ عصيبة مع وجود رجال مسلّحين لتحديد المرحلة التالية من الحكم، هناك يقين مطلق واحد: مع رحيل الأسد، أصبحت لدى السوريين الآن فرصة لعيش حياة كريمة ولائقة”.
يستذكر هوف لقاءه مع الرئيس الأسد في 28 شباط 2011، في دمشق، لإبلاغه بما هو مطلوب من سوريا لاستعادة كلّ الأراضي، وخاصة مرتفعات الجولان التي استولت عليها إسرائيل في عام 1967، مشيراً إلى أنّ تلك المحادثة والمحادثات التي تلتها مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وآخرين كانت بمنزلة النقاط لوساطة سلام خلفيّة اكتسبت زخماً في خريف عام 2010 لدرجة التخطيط للجمع بين مسؤولين سوريين وإسرائيليين في عاصمة في شرق أوروبا في نيسان 2011. وهو ما لم يحدث مطلقاً. إذ ماتت احتمالات السلام بين سوريا وإسرائيل في منتصف آذار 2011. فعندما أمر الأسد أجهزته الأمنيّة باستخدام القوّة المميتة ضدّ السوريين المحتجّين سلمياً على عنف الشرطة والاحتجاز الجماعي غير القانوني لأنصار الديمقراطية، فعل أكثر من التنازل فعليّاً عن مرتفعات الجولان لإسرائيل، فهو دمّر أيّ أمل في سوريا أن يقوم رئيس شابّ متعلّم بإصلاح النظام الاستبدادي الوحشي الذي ورثه عن والده حافظ، ومهّد الطريق لحرب داخلية دمّرت البلاد بالكامل، إلى أن طُرد من السلطة في 8 كانون الأول.
وصف هوف رحيل بشار الأسد عن سوريا وانهيار نظامه بأنّه “المفاجأة الجيوسياسية الأكثر متعة في القرن الحادي والعشرين”
لكن كيف حدث ذلك؟
يعتقد هوف، الذي عمل ملحقاً للجيش الأميركي في بيروت، ثمّ في مكتب وزير الدفاع مديراً للأردن ولبنان وسوريا والشؤون الفلسطينية، أنّ “المتمرّدين السوريين بقيادة هيئة تحرير الشام قرّروا الشهر الماضي الاستفادة من الهزائم الأخيرة التي لحقت بإيران و”الحزب” من خلال محاولة توسيع حكمهم في شمال غرب سوريا إلى حلب. فعلوا ذلك دون أيّ جهد تقريباً. فالجيش السوري الذي تدهور وضعه بسبب الخمول وأفرغه الإجرام والفساد وإنتاج الكبتاغون، لم يكن في حالة تسمح له بالقتال. وكان الباب إلى حماة وحمص ودمشق مفتوحاً على مصراعيه. ولم يعد أكبر مؤيّدي نظام الأسد، إيران وروسيا، يرغبان في دعم النظام الذي كان في الواقع “حطاماً هائلاً”.. وقد تفكّك إلى زمر إجرامية، فنهبت عائلة الأسد وحاشيته ما في وسعهم من البلاد التي دمّروها.. وأدّى الشرّ الوراثي لأسرة إجرامية وعوامل تمكينها إلى حلّ كلّ شيء”.
ماذا بعد إذاً؟
يبدو أنّ الجولاني، في رأي هوف، هو الفائز الأكبر. وعلى الرغم من ادّعائه قطع العلاقة بتنظيم القاعدة في عام 2016، تظلّ هيئة تحرير الشام منظّمة إرهابية كما صنّفتها كلّ من تركيا والولايات المتحدة. ويبدو أنّ “إدارة جو بايدن سعيدة بفرار العميل الإيراني الروسي، المتخصّص في القتل الجماعي. ومع ذلك، فإنّ التناقض في موقف واشنطن بشأن هيئة تحرير الشام أمر مفهوم. فمن ناحية، تلتزم الهيئة بشدّة تصفية وجود ونفوذ مزيج إيران و”الحزب” في سوريا، وربّما وجود ونفوذ روسيا أيضاً. لكن من ناحية أخرى، يشكّل توجّهها الإسلامي مخاطر محتملة على الأقلّيات السورية، وخاصة العلويين والمسيحيين، علاوة على احتمال وقوع الحكم السوري في أيدي جماعة أصولية تضمّ مقاتلين أجانب وربّما لا تزال تحمل مشاعر إرهابية عالمية”.
الجيش السوري الذي تدهور وضعه بسبب الخمول وأفرغه الإجرام والفساد وإنتاج الكبتاغون، لم يكن في حالة تسمح له بالقتال
ماذا تريد أميركا من الجولاني؟
يعتبر هوف أنّ “هذه التحفّظات المبرّرة بشأن هيئة تحرير الشام تفرض التنسيق والتعاون الوثيقين بين واشنطن وأنقرة. فتركيا لا ترى أيّ فائدة في أن “يحكم” سوريا أيّ شخص قد تؤدّي طائفيّته الصارخة إلى تدفّق اللاجئين في اتّجاهها. وربّما يعود دعمها لهجوم المتمرّدين الحالي إلى فشل الأسد في توفير ضمانات للعودة الآمنة والمحميّة للّاجئين السوريين من تركيا. وهي أولويّة سياسية محلّية رئيسية للرئيس رجب طيب إردوغان. ولا بدّ لتركيا من ممارسة بعض النفوذ على ما سيأتي بعد ذلك. وربّما تستطيع، بمساعدة واشنطن، إقناع الجولاني باتّخاذ الخطوات التالية الآن بعد انتهاء حكم الأسد:
– تشكيل حكومة وحدة وطنية تشمل أولويّاتها:
1- إرساء القانون والنظام مع تحقيق العدالة للجميع.
2- الإفراج عن جميع السجناء السياسيين.
3- ضمان رحيل القوات الأجنبية من الأراضي السورية.
4- توفير العودة الآمنة للّاجئين السوريين.
5- رفع العقوبات وبدء إعادة الإعمار.
6- تهيئة الظروف لإجراء انتخابات برلمانية وتحقيق الإصلاح الدستوري.
– التعهّد بعدم دخول القوّات المسلّحة لهيئة تحرير الشام محافظة اللاذقية أو أيّ أماكن أخرى يقيم فيها سوريون علويون. ويمكن للسلطات السورية، إذا لزم الأمر، طلب المساعدة التركية للدفاع عن المدنيين من أيّ شخص مدفوع بمشاعر الانتقام.
– التعرّف، بالتعاون مع عناصر المعارضة السورية الأخرى، على كبار الضبّاط العسكريين السوريين المحترفين الذين انشقّوا على مرّ السنين ووضعهم في قيادة ما بقي من القوّات المسلّحة السورية.
– استخدام وحدات الجيش السوري القائمة إلى أقصى حدّ ممكن تحت قيادة جديدة ولائقة ومهنيّة لتوفير الأمن في المناطق المأهولة بالسكّان.
– السماح لأفراد هيئة تحرير الشام بالانضمام إلى الجيش السوري وتحديد مهلة ستّة أشهر للقيام بذلك أو نزع سلاحهم.
– التوضيح للشعب السوري أنّ سيادة القانون في حقبة ما بعد الأسد لن تجلب أيّ ميزة أو ضرر لأيّ سوري على أساس طائفته.
– بدء العمل على صياغة دستور سوري جديد شامل.
هوف: لا شكّ أنّ عشرين مليون سوري يواجهون الآن مستقبلاً مليئاً بالتحدّيات والأخطاء
ما هو المطلوب من أميركا؟
من ناحية أخرى، يجب على الولايات المتحدة في رأي هوف:
– أن تتحرّك بسرعة، ما إن تسمح الظروف الأمنيّة، لإرسال مبعوث خاصّ إلى سوريا وإعادة فتح السفارة الأميركية في دمشق.
– الاتّصال المباشر بالجولاني مع الإبقاء على الشكّ فيه بهدف إمكانية التأثير عليه.
– الإبقاء على العقوبات المفروضة على عائلة الأسد وحاشيته، والضغط على كلّ من يستضيفه لكي يمثل في لاهاي لمحاكمته بتهمة ارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية وتعليق جميع العقوبات الاقتصادية الأخرى المفروضة على سوريا.
– تقديم مساعدات إنسانية وتنظيم هيكل لإعادة إعمار سوريا بالتعاون مع الحلفاء والشركاء.
– على الرغم من أنّ تركيا قد تكون محاور أميركا الأكثر أهمّية في الأيام والأسابيع المقبلة، إلا أنّ واشنطن ينبغي لها ألّا تدّخر أيّ جهد لإنشاء جبهة موحّدة من أجل سوريا بين الحلفاء والشركاء. ووجود فرنسا مهمّ في هذا الصدد، وكذلك الإمارات العربية المتحدة.
يخلص هوف، الباحث حالياً والمدير السابق لـ”مركز رفيق الحريري للشرق الأوسط”، التابع لـ”المجلس الأطلسي”، إلى القول: “لا شكّ أنّ عشرين مليون سوري يواجهون الآن مستقبلاً مليئاً بالتحدّيات والأخطاء. فمع رحيل عائلة الأسد وحاشيته، أتيحت لسوريا أخيراً فرصة لتحقيق نوع من الانتقال السياسي الذي تصوّره بيان جنيف الختامي لعام 2012 وقرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2254. وستتاح لهم الآن فرصة لم تكن موجودة من قبل للعيش والعمل والازدهار في بلدهم الأصلي بدلاً من البحث عن اللجوء والفرصة في الخارج. وبعد سنوات من الاضطهاد من قبل نظام وحشي، والانتهاكات على أيدي إيران وروسيا، والخيانة من قبل الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية، حقّق السوريون تحريرهم بأيديهم. وهم يستحقّون مساعدة الولايات المتحدة واستعدادها للاستماع. لكنّ الثورة السورية، بغضّ النظر عمّا سيحدث بعد ذلك، هي في المكان الذي تنتمي إليه: في أيدي الشعب السوري”.
أساس ميديا
———————————————
==========================