ياسين الحاج صالح: محاكمة القتلة تقطع طريق الثأر
أسامة فاروق
الخميس 2024/12/19
استضاف مركز “حلول للسياسات البديلة” التابع للجامعة الأميركية بالقاهرة، مساء أمس الأربعاء، الكاتب السوري ياسين الحاج صالح، في جلسة حوارية عبر تطبيق زووم، طرح خلالها الأسباب التي أدت إلى سقوط نظام الأسد ورؤيته للمسارات المختلفة التي قد تسلكها سوريا في ظل التحولات الحالية.
في بداية اللقاء قال الحاج صالح الذي قضى 16 عاماً من عمره في سجون النظام السوري السابق إن يوم سقوط بشار الأسد في 8 كانون الأول/ ديسمبر الجاري كان من أبهج أيام حياته التي عاش معظمها في ظل حكم “السلالة الأسدية”. فسوريا كما يقول هي الجمهورية العربية الوحيدة التي جرى فيها توريث الحكم، في حين أفشلت الثورات في مصر وليبيا وتونس مخطط حكامها لنقل السلطة لأولادهم أو من في حكمهم “لكننا في سوريا دفعنا هذا الثمن الرهيب طوال 13 عاما وتسعة أشهر” وهي الفترة التي عنونها بـ”الدولة السلطانية المحدثة” وقدمها كمشروع شديد الرجعية “البعض قد يستغرب ذلك، لكني أصر على أن الرجعية في سوريا هي الأشد فاشية”. فسوريا الأسد في رأيه لا تشبه الممالك ولا الجمهوريات التي فشل فيها التوريث، بل “تشبه إسرائيل” بالتحديد؛ قوة استعمارية شديدة الوحشية تجاه المحكومين، تحكم بحالة استثناء دائمة ومستمرة، ووفق مبدأ فرق تسد، وتبيع للقوى الدولية النافذة فكرة حماية الأقليات.
حرب ضد المستقبل
يؤكد الحاج صالح على أن النموذج السياسي السوري لم يُنّظر له ولم يتم التفكير فيه جدياً، وهو ما حاول تقديمه في بعض أعماله عبر إضاءة الجانب الزمني الذي أسماه “الحاضر الأبدي” أي محاولة فرض نوع من الواقع للأبد “وهي ليست كلمة من اختراعي، فهو شعار يفرض ترداده على طلاب المدارس يومياً. إلى الأبد إلى الأبد يا حافظ الأسد. عبارة شديدة التداول بسوريا، ومن نسل الفكرة نفسها ظهرت عبارات أخرى: الأسد أو لا أحد، الأسد أو نحرق البلد وما إلى ذلك”. فكرة الأبد في رأيه هي حرب مستمرة ضد المستقبل، ووأد لأي بذور محتملة للتغيير، وهو ما أضفى على النظام السوري رجعية شديدة حمت نفسها بنوع من المظهر التحديثي، أو ما أسماه بـ”الفاشي بربطة عنق” الذي يحوز شرعية بالنظام الدولي النيو ليبرالي وزمن محاربة الإرهاب خصوصاً “وهذا ما عول عليه النظام وربح من ورائه، فإذا كانت سوريا دُمرت كل هذا التدمير فلأن هناك شرعية من النافذين على المستوى الدولي مُنحت للنظام، خصوصاً بعد صعود الإسلاميين”.
اليوم انطوى هذا كله، ككابوس أو صفحة سوداء قاتمة مرت وانتهت، لكنه يتعامل مع الواقع بحذر ولا يسلم نفسه للأوهام، فمشاعر الفرحة تمتزج بمشاعر القلق والتوجس والخوف من القادمين الجدد، يؤمن بأن هناك نهاية كان لا بد منها، أمر قطعي يجب أن يتحقق أياً كان ما سيأتي بعده، ثم بداية مفتوحة على مالات ومسارات متعدّدة يصعب توقعها والتحكم فيها “ما أثق فيه أن الفريق الحاكم الجديد حالياً لا يستطيع أن يطوي البلد تحت إبطه بالطريقة التي فعلتها عائلة الأسد طوال 54 عاما”.
خصخصة
في محاولة لتوصيف الوضع خلال الأعوام الأخيرة يقول الحاج صالح إنه تم نزع الصفة العامة للدولة أو “خصخصة الدولة السورية” بشكل حرفي، فعندما تقول وسائل الإعلام “سوريا الأسد” فهو برأيه ليس مصطلحاً إعلامياً كسولا للتعبير عن فترة حكم بل تعبير حرفي عن الملكية: أماكن لا تعد ولا تحصى في سوريا اسمها الأسد.. أكبر بحيرة، والمكتبة الوطنية، دار الأوبرا، وهناك ما لا يحصى من التماثيل، أكاد أشعر بالأسف أنها حطمت قبل حصرها، ولن أستغرب إذا علمت أنها كانت 10 آلاف تمثال لحافظ الأسد منثورة بالأحياء والمدن.
الوضع بعد الثورة زاد سوءاً “أصبح لدينا 5 احتلالات حدثت تباعا”: الإيرانيون من البداية بصورة خبراء ومستشارين عسكريين “كانت إيران بمثابة متعهد ميليشيات شيعية من بلدان مختلفة”، ثم الولايات المتحدة في 2014، فروسيا 2015، وتركيا 2017، وإسرائيل دائماً، إضافة إلى ميليشيات مسلحة متنوعة أو “منظمات ما دون الدولة السيدة” بدأت منذ 2012 وحتى 2018 “وعندما يدعو النظام حماة أجانب من أجل البقاء في الحكم فلا يمكن أن نتحدث عن سيادة في هذه الحالة”.
انتقام
يفضل صاحب “بالخلاص يا شباب” التمهل وعدم الاستعجال في الحكم على قدرة الجماعة الحاكمة الحالية على تغيير الصورة الذهنية المتعلقة بإرثهم القديم، وممارساتهم المرتبطة بتنظيمات كجبهة النصرة والقاعدة في وقت سابق، يقول إنهم تصرفوا بحكمة حتى الآن، والصحيح هو وضع السلطة أي سلطة تحت الضغط والنقد والرقابة طوال الوقت. والواضح أن الجماعة الحالية بحسب تحليله “طيف” وليسوا “كتلة” بمعنى أن هناك تعدد في الآراء والأصوات، ومن الواضح أيضا أن بعضهم متطرف بطبيعة الحال، لذا فمكمن الخشية أن تنفجر صراعات داخل هذا الطيف خصوصاً مع الإصرار على نزع السلاح وحصره بقوات وزارة الدفاع “الكرة بملعبهم، عليهم أن يثبتوا أنّ انفصالهم عن القاعدة انفصال فكري وليس سياسياً أو لاعتبارات برغماتية”. المؤشرات بنظره إيجابية، تدعهما التركيبة المعقدة للمجتمع السوري، التي تضمن أنه لا يمكن حكم سوريا بالمنطق السلفي الجهادي “المجنون” المفرط بالمزايدة الدينية أو الوحشية والعنف. إلخ، ولكنه في المقابل أيضاً يرى أن الجماعة الجديدة غير قادرة على التصرف كنخبة وطنية معتدلة ومحافظة. لذا فإنه يأمل أن يفرض النشاط السياسي والثقافي والمدني للسوريين والمهاجرين أيضا قدراً من الاعتدال.
في المجمل يبدو الوضع السوري شديد الصعوبة في نظره: “بشار الأسد هرب لكن الأسدية لا تزال هناك”، فلم يُعتقل أحد من كبار “قتلة” النظام السابق ورموزه الذين هربوا أو تخفوا داخل البلد “يجب معاقبتهم من أجل استكمال اجتثاث النظام السابق أولا، وثانياً من أجل قطع الطريق على الانتقام. فالعدالة مهمة لقطع الطريق على الثأر، ومهمة من أجل إمكانية الصفح”. وجود هؤلاء داخل البلد مصدر قلق في رأيه، إضافة إلى أن هناك كميات من السلاح بحوزة من كانوا موالين للنظام ولم تنزع بعد “هناك ركام من المشكلات يحتاج إلى ترتيب وطاقة ومساعدة وحظ أيضا”.
سياسة الضعفاء
لا يحب الحاج صالح إسداء النصائح. يقول إنه يقاوم إغراء نصح الحاكمين، لكن أولى الأولويات في نظره حالياً إعادة رأب النسيج الاجتماعي السوري، وبناء المؤسسات، والتوجه نحو انتخابات حرة ووضع دستور “الشرع يتحدث عن لجنة خبراء تضع الدستور، الدساتير لا تصدر عن لجان خبراء، الدستور يحتاج لجمعية تأسيسية منتخبة، فمن أجل أن يكون الدستور وثيقة سيدة يجب أن تكون الهيئة التي تصدره سيدة نفسها”.
تمتين الروابط الداخلية مقدم في نظره على الخطاب الزاعق تجاه الخارج، لذا فإنه يتفق مع ما قاله الشرع عن تجنب مواجهة إسرائيل. يقول إن سوريا حالياً لا تستطيع الدفاع عن نفسها وأول شيء فعلته إسرائيل عقب سقوط النظام هو تحطيم ما تبقى من مقدرات الجيش السوري “نحن ضعفاء وسياستنا يجب أن تكون سياسة ضعفاء”. وهي حسب تفسيره رعاية النفس وتمتين النسيج الاجتماعي والتعويل على المهارة والإبداع، وقدرة السوريين على إعادة بناء بلدهم، وفي الوقت نفسه البحث عما يوفره القانون والمؤسسات الدولية من حماية نسبية للضعفاء “سياستنا يجب أن تكون على قدر قوتنا وهي اليوم شديدة الضعف. والضعيف الذي يفكر بمنطق القوة يلجأ للإرهاب”.
وفي رده على السرعة الغربية في التعامل مع القيادة السورية الجديدة مقابل الحذر العربي، قال إن القوى الغربية عموماً أكثر ديناميكية وأسرع من الدول العربية، ولقاءاتهم لا تعني اعترافاً بالضرورة، هي قد تكون درجة من درجات الاعتراف لكنها في الوقت نفسه قد تكون جس نبض أو حتى ممارسة شكل من أشكال الضغط، لكن هذا لا ينفي أن التعامل العربي كان مؤسفا ومحبطا “فبدلا من التعبير عن بعض التضامن والأخوة والجوار استخدموا سوريا كفترينة عرض لتخويف شعوبهم. وهذا مقلق في الحقيقة”.
يخشى أيضاً من أن يسوء الوضع بشكل أكبر عقب مجيء ترامب “أخشى أن يكون داعماً لمزيد من العدوان ويطبع البذاءة والوحشية السياسية الإقليمية والدولية”، يعول فقط على القدرة الأميركية نفسها لأن تجد حلولاً لما قد يسببه رئيسها من مشكلات! “لأننا ببساطة لا نستطيع أن نجد حلولاً لبلطجي بهذا الشكل. نحن في وضع أشد ضعفاً من أن نؤثر عليه”.
أمل
ورداً على الدور المنتظر لليسار السوري بالوقت الحالي، قال إن اليسار تم تحطيمه كمنظمات في الثمانينيات والتسعينيات، ولم يتبق إلا بعض الأفراد المشتغلين بالشأن الثقافي أو الحقوقي “لم يعد لدينا تيار يساري متماسك، جرى نزع مدنية المجتمع السوري ونزع سياسته”. ورغم ذلك يقول إن أكثر ما يعطيه الأمل بالمستقبل هو مستوى “التسييس” العالي للمجتمع، فبسبب الأمد الطويل للصراع، ارتفع الوعي السياسي بجوار الغضب، وأصبح هناك اشتغال أكبر على الثقافة والفكر. في المجمل لا يرى أن الوضع السوري بحاجة لزعماء، بل مزيد من النشاط والحضور “أن نُرى في الفضاءات العامة” أن يكون لتلك القوى منابرها وأن تؤثر على أجندة العمل العام، إضافة إلى الدفاع عن فكرة العلمانية “وهي في تصوري ليست فصل الدين عن السياسة بل فصل الدين عن السيادة.. عن الولاية العامة وممارسة القوة”. وعلى المستوى الشخصي يتمنى أن يرى كتبه معروضة في دمشق بعد سنوات طويلة من المنع.
ياسين الحاج صالح
كاتب وناقد وباحث ومترجم سوري معارض، وسجين سياسي سابق. ولد في مدينة الرقة عام 1961، واعتقل عام 1980 بتهمة الانتماء إلى تنظيم شيوعي ديمقراطي معارض. ويعتبر من أهم الكتّاب والمنظرين السوريين في قضايا الثقافة والعلمانية والديمقراطية وقضايا الإسلام المعاصر، وله تأثير واسع في الساحة الثقافية السورية والعربية.
المدن