صفحات الحوار

جولان حاجي: الكتابة الصحافية وسمت كتابات كثيرين بالتشوش والاضطراب

“الكلمة المرفوضة” أحدث أعماله

محمد أبي سمرا

08 ديسمبر 2024

جولان حاجي شاعر وكاتب سوري كردي، أو كردي سوري. ولد عام 1977 في مدينة عامودا، محافظة الحسكة. ومنذ 2013 يقيم في باريس. وكان أقام ودرس الطب في دمشق، ونشر 4 مجموعات شعرية: “نادي الظلمات”- 2004، “ثمة من يراك وحشا”- 2008، “ميزان الأذى”- 2016، و”الكلمة المرفوضة”- 2023. وفي السيرة ألّف كتاب “إلى أن قامت الحرب – نساء في الثورة السورية”. “المجلة” التقت جولان حاجي في باريس، فحاورته حول تجربته في الشعر والكتابة واللغة.

يستهلّ حاجي حديثه بالكلام عن جماليات التعبير الكتابي، وعن “تلك الزوبعة التي يرى أنها ابتلعت مقدرة كتّاب عرب كثيرين على التبصر والابتكار الهادئَين في عملهم الكتابي، جرّاء انشغالاتهم واستهلاكهم طاقاتهم في الكتابة الصحافية الثقافية والأدبية”.

وهذا أدى “إلى وسم كتاباتهم بالتسرع والابتسار والتشوش والاضطراب، وبغثيان لغوي. فأفقدت هذه السمة كتّاب الصحافة ولغتها التنوعَ ومتعة البطء والاختبار التي يتطلبها الأداء اللغوي أثناء عملية الكتابة. ولا تقتصر هذه الحال على الكتابة، بل هي تنسحب على القراءة والقرّاء وتطبعهم بالسمة عينها”.

الطفولة وأعباء الكرد

وفي حديث جولان حاجي عن تجربته الكتابية الشعرية النثرية، غالبا ما تحضر طفولته، منبعا أساسيا لعمله الكتابي. لكنه يوسّع أفقَ الطفولة التي يقول إن عالمها يسحره، فيحوله مدار حوار ذاتي أو شخصي مع عناصر الطبيعة والماضي وأصدقاء قلائل. وفي هذا المدار يجتهد ويكابد للعثور على مفردات وكلمات حسيّة جسمانية وذهنية، شرطها الدقة، التشكّل والبزوغ من عالم داخلي خاص، والصدور عن أحاسيس تراكمت ببطء في أزمنة متقطعة، وتخلق بتلك المفردات والكلمات عالما كتابيا جديدا يتخلص من شرط التاريخ والحاضر والمحرمات.

وفي هذه العملية – تابع حاجي –”أبحث عن الكلمات التي توافي الأحاسيس في إطار غابة من الاحتمالات اللغوية. وأحيانا لا توافيها ولا تكافئها ولا تطابقها، فتنجم عن ذلك متعة الكتابة المضنية. وهي متعة الجهد والاجتهاد للعثور على كلمات دقيقة، بعيدة من ذاكرة الكلمات ودلالاتها المستهلكة والفقيرة”.

عالم الكلمات، اختبارها واختيارها أثناء الكتابة، إيقاعي موسيقي، في رأي حاجي الذي قال إن خيطا من خيوط عمله الكتابي هو تلحين الذاكرة. وضربَ على ذلك مثلا يتعلق بكتابته نص “قطرة ليمون في العين” الذي نشأت نواة فكرته من رسالة مقاتل كردي في الجبال، وقد كتبها بالعربية الى أمه الأمّية، فترجمها لها أحدهم إلى الكردية. ومن تلك النواة التي نشأ عنها نص طويل، كان على حاجي بناء عالم كردي واسع بالعربية، ينطوي على اختبارات وخيارات تشمل أنماط تعامل الكرد مع الذاكرة، ذاكرتهم. وكيفية تعامل الأدب الكردي مع أعباء كثيرة: عبء الذاكرة والتاريخ والحاضر والزمن.

وفي حديثه عن عالم الطفولة وسحره، واستدعائه إلى فنون الكتابة، يتحفّظ جولان عن كتابة الشاعر والروائي الكردي سليم بركات سيرتَهُ الموسومة بـ”السيرتان”، سيرة الطفولة وسيرة الصبا، وهما مكتوبتان “بعنف لغوي بطّاش في تصويره عالم الطفولة والصبا الكردي. وقد رُفع ذاك البطش اللغوي ومادته في الواقع الكردي، إلى مرتبة مثال أو أنموذج عام، حُمِلَ على أنه يمثّل تمثيلا شاملا ومتكاملا عالم أطفال الكرد الموسوم بسمة واحدة ووحيدة: العنف والبطش حيال الحيوانات، كأن تخنق عصفورا بيدك، وتقتل قطة وتسلخ جلدها، وهي حيّة. ولا يقتصر هذا على الحيوانات، بل يشمل الأطفال الكرد في حياتهم وألعابهم اليومية المتمحورة كلها على العنف والبطش في ما بينهم”.

وحين قلنا لجولان إن “السيرتان” صيغة جامحة للتعبير عن العنف والقسوة بلغة حسيّة حقيقية، ورفيعة المستوى الفني الكتابي واللغة الكتابية، وتصدر عن عالم حسّي حي في الواقع، قال إنه لا يستسيغ مثل هذين العنف والقسوة، على الرغم من حضور بعض وجوههما في الواقع الكردي الذي لا يخلو من الحنان والرحمة والرأفة، الألم والعزاء والإلفة والخوف والشدة… إلخ.

منذ صغره نشأ جولان في بيئة شيوعية، لكن ليس على المعنى العقائدي، بل الثقافي الإنساني. وكانت الكردية لغة طفولته، كلاما وقراءة وكتابة. ومعلمته في مدرسته الأولى كانت إبنة صديق والده السجين. والعربية بدأ يتعلّمها بقراءة القرآن على شيخ دين كردي. وأول كتاب أحضره جولان إلى بيته كان القرآن الكريم. ومدرسته الابتدائية الإعدادية التي كانت العربية لغة التعليم فيها بعامودا، سبقتها مرحلة الروضة في روضة للسريان. وكان أتراب طفولته في حارة أهله من السريان الكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت. ولكل من هذه الطوائف في عامودا كنيسة. وهذا ما يحمله على القول إنه نشأ في بيئة تنوع طائفي.

أما ما ترك أثرا سيئا في ذاكرته، فهو السجن والاعتقالات في تاريخ حياته ووعيه السوريين. وهنا تحدث حاجي عن مرض القومية المعدي، أعربية كانت أم كردية أم سواهما. وهو يعتبر أن بيئة والده الشيوعية الأممية، عصمته أو نجّته من العدوى بذلك المرض بقوميتين. وإذا كانت السلطات الديكتاتورية من ناصرية وبعثية، هي التي كانت تمارس طغيانها العروبي، لا سيما على الكرد الذين يمتنع عليهم الجهر بقوميتهم الكردية، فإن من كانت تخفت في صدره قوميته الكردية المحمومة والمكبوتة ويخرج منها وعليها، فغالبا ما كان يوصم بالكفر وارتكاب المحرمات.

اللغات والقرآن

للقرآن ولغته مكانة بارزة وعميقة في تكوّن جولان اللغوي والثقافي، وهو مستمر حتى اليوم في قراءته القرآن في أوقات متباعدة. وهذا بعدما كان في صغره قرأ سورا كثيرة منه وحفظها غيبا، وكانت أساسية في تعلمه العربية التي ابتعلت ذائقته اللغوية إيقاعها ولحنها من القرآن الذي كان ولا يزال يقرأه قراءة صامتة، بلا صوت ولا تجويد ولا زخارف صوتية.

لذا نشأت بين حاجي والنص القرآني علاقة شخصية لغوية خالصة، وفي منأى من الجدال والسجالات الدائرة حول التراث والحداثة، التجديد والأصالة، الثابت والمتحول… إلخ. وهذه كانت ولا تزال تثير فيه نفورا منها ومن أعلامها، كأدونيس ومحمد عابد الجابري والطيب تيزيني… أما أوزان الشعر العربي فتعلمها في الثانية عشرة من عمره على رجل دين.

سألنا جولان حاجي عن كيفية استدخاله طفولته ولغته الكرديتين، ولغة القرآن العربية وثقافتها، في عالمه التعبيري الأدبي، وكيف آخى بينهما في فن الكتابة؟

ذكر في البداية معلمته الأولى في المدرسة، ابنة المناضل الكردي الشيوعي. ثم الشيخ الكردي الذي علمه قراءة القرآن، والآخر الذي علمه عروض الشعر العربي القديم. وعن التعدّد اللغوي قال إن ذاكرته تختزن اللغة الكردية منذ الطفولة، وبها كان يحلم ولا يزال أحيانا. أما الكتابة وذاكرتها اللغوية فعربية قرآنية. وعندما بدأ تعلّمه المدرسي في المرحلتين الابتدائية والإعدادية، كانت لغة التعليم هي العربية المترجمة المعاصرة أو المحدثة. وهنا اعتبر أنه أعجمي بلغة عربية. ولما درس الطب في جامعة دمشق، بدأ يتعلم الإنكليزية في المدرسة الأميركية. أما الفرنسية فتعلمها في باريس، وصار يجيدها كلاما وقراءة أكثر مما كتابة، بعد زواجه في دمشق من شاعرة فرنسية ومترجمة من الفرنسية إلى العربية.

غلاف ديوان “شجرة لا أعرف اسمها”.

في هذه الفجوات أو المسافات نشأت ذائقة جولان اللغوية التي كانت العربية مصبها، منذ طفولته. وهي المناطق الحائرة والمحيرة التي يولد فيها الأدب، وحيث تتجدّد اللغة العربية ويكمن عقلها المتجدّد. أما “الالتصاق بلغة واحدة والذوبان أو الاختناق فيها، فلا يؤسس لكتابة مهمة، خصوصا بالعربية. فالكتابة أساسها اللغة، على معنى الأداء والإيقاع والموسيقى”. أما الأفكار والمعاني والموضوعات الكتابية فآخر ما يهمه. وفي المقابل يرى أن الأهم هو فن القول، طرائق وأساليب.

الظلال والأشباح

في صغره كان جولان يجمع حشرات ميتة ويرسمها. ومنذ مدة تراوده رغبة تأليف كتاب عن الحشرات. فذاكرة الطفل الذي كانه، رحميّة وتسكنه أينما حلّ، كسند أو كذخيرة خيالية في هذا العالم. وليس من قوة على الأرض تصدّه عنها أو تمحوها من ذاكرته. أما العنف والقسوة في طفولته الكردية فثانويان. ومن السهل والعادي أن نختار- قال- سبيلا في القول والكتابة يفضي بنا إلى جعل الذاكرة الطفلية منهلا لكتابة عن مآسي الكرد والبعث والعروبة. لا، ليس هذا خياري، أضاف. فقولبة الطفولة والعالم في مدارات سياسية واجتماعية وتاريخية، يرهقه مثل الجانب القومي من التراث العربي.

غلاف ديوان “الكلمة المرفوضة”.

يصرّ على أن ما يجذبه هو الظلال وليس قوة الفكرة في التراث العربي وسائر التراثات الأدبية القديمة، وكذلك في الآداب الحديثة. والشعر عنده يبدأ من السكون إلى الحركة، من الموت إلى الحياة. ومَثَلَهُ الشعري في هذا أعمالُ الشاعر اللبناني الراحل بسام حجار الذي تطلع قصائده ولغتها من عالم ساكن، أو من سكون العالم، وهي متحررة تحررا كاملا من اشتراطات الحاجة والضرورة.

ويرى جولان أن محبة حجار للمعجم، للمفردة في ذاتها، وللتقشف المضني في اختيار القليل من المفردات واختبارها في عالمه الشعري، هي الركن والأساس في تجربته الشعرية الرائدة. وهو انغمس انغماسا تاما في الشعر والترجمة، معتزلا عزلة غير نسكية، ومنصرفا إلى أشباح الكلمات وأشباح ماضيه وعائلته، وصنع من تلك الأشباح حياة كاملة.

وها أنا – قال جولان – أمشي كثيرا في المدن والطبيعة، فأتفرج على الطيور والعصافير والحشرات والنبات، التي قد يكون لديّ اهتمام شبه علمي بها، ربما من أثر دراستي الطب في دمشق.

أخيرا تحدث جولان عن علاقته بالمناخات الثقافية الفرنسية، عبر الرسم والفن التشكيلي، ربما لأنه فن الصمت. وهو أشار إلى نهج الرسامين، طرقهم وأساليبهم المميزة بالدقة والحيوية والباعثة على الانتعاش، على خلاف تلك التي لدى الكتّاب. وهنا تساءل: أين يمكننا أن نجد في العربية كتابة فعلية عن الرسم والرسامين؟ ثم أضاف: في الفرنسية والإنكليزية تجد شعراء كبارا صرفوا شطرا من أعمارهم وجهدهم الكتابي في كتابة تأملاتٍ فكرية وفنية، سيرا وسردا وتحليلا وقراءات، عن الفن التشكيلي وفنانيه.

المجلة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى