سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسة

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 26 كانون الأول 2024

لمتابعة التغطيات السابقة

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 25 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 23 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 22 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 21 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 20 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 19 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 18 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 17 كانون الأول 2024

 
سوريا حرة إلى الأبد: المصاعب والتحديات، مقالات وتحليلات 16 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مهام اليوم التالي، مقالات وتحليلات 15 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 14 كانون الأول 2024

جمعة النصر الأولى على الطاغية، سوريا حرة إلى الأبد: سقوط الديكتاتور الفار بشار الأسد، مقالات وتحليلات

سوريا حرة إلى الأبد: سقوط الديكتاتور الفار بشار الأسد مقالات وتحليلات

———————————–

عن السوسيولوجيا السياسية لمشروع سوريا “المدنية الشرعية”/ نجيب جورج عوض

26.12.2024

في سوريا هناك انغماس عميق في سيكولوجية رد الاعتبار وإثبات الذات. نتحدث هنا عن شريحة واسعة فقدت كل ما كان يشكّل مقومات وجودها على يد نظام حرمها من كل شيء، وعاقبها لمجرد أنها رفضت أن لا تكون بشراً.

المراقب للمشهد السوري الحالي يرى فيه الثالوث التالي: “سوريا حرة – نظام مستبد ساقط – ثورة لم تنتصر”.  المحوري هنا هو “ثورة لم تنتصر”، إذ تدل المعطيات الحالية للواقع المجتمعي والدولتي القادم على سوريا، بأن الثورة التي دعا خطابها إلى الحرية والعدالة والديمقراطية والتعددية والقانون والكرامة وحقوق الإنسان (بل والعلمانية) والمدنية، لم تحقق انتصاراً، ونخشى أن تشهد هزيمة في المحصلة.

حصل مؤخراً اجتماع بين المسؤول السياسي المختص بالطوائف في “هيئة تحرير الشام”، مع إكليروس الكنائس المسيحية المختلفة في سوريا، بهدف تطمينهم على مستقبلهم.

قال المسؤول للمجتمعين إن مشروعهم لسوريا هو “دولة مدنية شرعية” كما سمّاها، وشرح لهم أن هذا يعني دولة تحفظ حقوق الآخرين الدينية والعبادية، وتعاملهم مدنياً بالحسنى والتسامح على قاعدة الشريعة الدينية.

كما ذكرت في مقال سابق، النموذج الذي يُعتمد كتطبيق عملاني لهذا الخيار، هو نموذج دويلة “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً) في إدلب، بوصفه مرجعية الحكم للهيئة، مع غموض ما زال سائداً إلى الآن، في ما يخص حكم سوريا بكاملها، على الرغم من تداول أخبار عن الدعوة إلى مؤتمر وطني شامل.

ما الذي سيساعد الهيئة ومناصريها؟ ومن سمح لها (الأميركي والإسرائيلي والأوروبي) بالركوب على ظهر الثورة واستلام السلطة وزمام الأمور في سوريا، بدلاً من أي جهة سورية معارضة أخرى (اختفت كل الهيئات المعارضة التمثيلية من المشهد تماماً وكأنها أشباح) على تحقيق هذا المشروع وفرض هذه الدولة على المشهد السوري؟.

لا يحتاج أصحاب المشروع الإسلاموي للقوة والفرض والاستبداد كي يحققوا مشروعهم. تلك الأدوات لن تنال دعم صناع القرار ومُلّاك أسهم المشرق الدوليين وتأييدهم وتغطيتهم. فلا حاجة لها في المشهد السوري الحالي، إذ إن تحقيق مشروع الدولة “المدنية الشرعية” المذكور سيتم من خلال اتّباع استراتيجية “الأسلمة من أسفل” أو “أسلمة من قاعدة الحاضنة الشعبية”.

فقاعة “دويلة” إدلب !

أدت جرائم النظام الأسدي وأسلوبه الوحشي في التعامل مع الثورة الشعبية، إلى تحول نصف الشعب السوري (12 مليون من أصل 24) إلى شعب مقتلع ونازح ولاجئ ومتمرد ومنسلخ عن كل ما يمت لسوريا بصلة. وقد حمل قسم معتبر من الشباب في هذا النصف الشعبي السلاح، وقرر أن يواجه آلة قتل النظام بالجهاد الديني والطائفي الطابع.

توزع أولئك ال 12 مليون سوري، إما في مخيمات النزوح، وإما في بلدان اللجوء. كما لجأ ما يقارب المليوني إنسان منهم، مع المقاتلين الجهاديين المذكورين (من جبهة النصرة وسواها من كتائب جهادية) إلى محافظة إدلب، وأنشأوا هناك، بمساعدة أوروبا وأميركا وتركيا، كياناً مجتمعياً وحكماً ذاتياً تحول إلى فقاعة سوسيو- أنثروبولوجية مغلقة على ذاتها، ومُنسلِخة عن أي تواصل أو اطّلاع أو وعي بباقي سوريا وبنصفها الشعبي الآخر (ال 12 مليوناً، الناجين بشق الأنفاس في المدن السورية وتحت سطوة النظام البربري).

 بدأ القسم الميال للبديل الإسلاموي في هذا النصف المسلوخ من سوريا، بالعودة إلى بلده وأرضه ومدنه وقراه التي هرب منها، وهو يُعلّي صوته ويُعبّرعن توجهاته وقناعاته مدفوعاً بهيمنة “هيئة تحرير الشام” على المشهد.

تقول دراساتنا للميول التي عبرت عنها منظومات تفكير وسلوكيات قسم لا يُستهان به أبداً، من السوريين ال12 مليون المقتلعين والنازحين واللاجئين والمنضوين تحت مظلة الكيان التديني الجهادي، إن السوريين المذكورين يعودون إلى الداخل ليمارسوا مواطنة تمر في التوجهات السوسيولوجية السياسية التالية.

أولاً: فضيلة ضد إثم

 هناك نكوص قوي وواضح، وأحياناً منفلت العقال، نحو التدين السلفي الانغلاقي القائم على معايير سلوكية وأخلاقية وصائية، أساسها “فضيلة- ضد- إثم”.

سيعمل السوريون المذكورون العائدون، على تطبيق تديُن- من- أسفل في سوريا، ونشره على المستوى الشعبي اليومي القاعدي. يستطيع المرء علمياً، أن يفهم سبب نكوص جزء كبير من ال12 مليون سوري المسلوخ إلى التَديُّن.

وأحد أسباب الارتماء في حضن الغَيـبي والميتافيزيقي، هو المعاناة والهزيمة الوجودية والفكرية والإنسانوية، التي يتعرض لها المرء في خبرات العيش المادي والواقعي والفيزيقي.

هذا ما حدث للسوريين في السنوات الماضية، وهذا ما عبرت عنه بقوة وعمق عبارة “ما إلنا غيرك يا الله.” واليوم، أولئك السوريون يشعرون أنهم يستطيعون أن يقولوا “ما إلنا غيرك يا الله ويا جولاني”.

ثانياً: إعادة الاعتبار إلى الذات

هناك انغماس عميق في سيكولوجية رد الاعتبار وإثبات الذات. نتحدث هنا عن شريحة واسعة فقدت كل ما كان يشكّل مقومات وجودها على يد نظام حرمها من كل شيء، وعاقبها لمجرد أنها رفضت أن لا تكون بشراً.

وهذا خلق عند السوريين (وحتى سوريو الداخل) إنسانية مُشوَهة ومَسحوقة ومُدمَّرة، راح أصحابها حالياً يشعرون بأنهم يستطيعون استعادة الكرامة ورد الاعتبار والقيمة.

يتمظهر هذا بقوة سوسيولوجياً، في أوساط السوريين الذين انتموا إلى تجربة دويلة الهيئة في إدلب، وعاشوا في كنفها. يشعر هؤلاء بأن لديهم فرصة لرد الاعتبار وإثبات الذات، أمام باقي أطياف وشرائح وجماعات السوريين. ولهذا، هناك رغبة بتطبيق نموذج إدلب كمثال معياري عُلوي يعوض عن الذل الماضي. ولهذا فالحديث عن “دولة مدنية شرعية” له بُعد سوسيولوجي اعتباري، هَدفه أن يُعطي العُزوة والاعتبار والتفوق لشريحة معينة من السوريين.

ثالثاً: تجاهل الآخر حد الإقصاء؟

الميل السوسيولوجي السياسي الأخير، هو رغبة في تجاهل وجود “الآخر”. يكثر الحديث حالياً عن سوريا القادمة، باستخدام مفردات “الجميع” و”الكل” و”كل أطيافها وجماعاتها” و”كل أديانها وطوائفها”.

 هذه لعبة لغة، هدفها إعطاء الانطباع بأن فكرة “الآخر” تحظى بموقع مركزي ذي قيمة عالية، في مخيال “الدولة المدنية الشرعية” المذكورة وذهنيتها. ولكن، من يفهم سوسيولوجيا السياسة في السياق السوري المذكور، يدرك أن الإكثار من استخدام لعبة لغة “الآخر”، قد لا يعني بالضرورة إعطاء هذا المفهوم قيمة مركزية ومعيارية، بل هو محاولة لتحويله إلى مجرد جزء من لغة خطاب مرجعي أحادي، بدلاً من أن يكون مصدراً وقاعدة خطابٍ آخر مواجه، نقبله ونقبل فكرة وجوده الحرة في المشهد.

لنتذكر أن أولئك السوريين المذكورين، كانوا هم أنفسهم يوماً ما “الآخر” في سوريا الأسد، وقد تمت معاملة “آخريتهم” وفق سياسة تحقيرية وطغيانية وقمعية وتهميشية وصلت إلى درجة “الأقللة.”

ولهذا، فقد بات مفهوم “الآخر” في العقل السوري المنسلخ والمقتلع واللاجئ والمجاهد، مفهوماً يقترن بالسلبية والشيطنة والتخوين والتهميش والإقصاء.

من هنا، فإن الحديث عن الآخر من قبل من كانت “أخرنتهم” مصدر تهميش وتحقير وتخوين وقمع وأذية لهم، هو تعبير عن رغبة مضادة تعويضية بالانتقام من فكرة الآخر بحد ذاتها، من خلال تسطيحها وتشييع استهلاكها لغوياً، مما يحولها إلى خطاب تسويقي تأملي، أبعد ما يكون عما سيتم تطبيقه في الواقع والممارسة.

 ما سيتم تطبيقه هو محاولة تدجين هذا الآخر ودفعه بكل الوسائل، بما فيها القسر والترهيب والهيمنة والوصائية، للخنوع والانسياق والاندماج في حلقة الأدلجة والأسلمة الشعبية.

ولكن لن يتم هذا عن طريق العنف والقمع، بل من خلال التطبّع والاندماج من الأسفل، وذلك من خلال السماح لهذا الآخر، بأن يكون آخر دينياً وطائفياً وإثنياً، ولكن من خلال أسلمته وتديينه سلوكياً وعادات وطباع وممارسات وشبكات تفسير وفهم وأخلاق. الآخر هو هدف للتغيير والتحويل وإعادة الإنتاج والرسكـلة.

هل يتم تهميش “الثورة السورية”؟

في السنوات الماضية، صرفت مراكز ومطابخ صناعة الأفكار في أوروبا وأميركا آلاف الساعات على دراسة البنية المَهيوية السوسيولوجية للسوريين ال12 مليون المذكورين، وبنت حولها طروحات واستراتيجيات عمل استشرافية، وصلت إلى دوائر صناعة القرار الجيوسياسية لمُلّاك الشرق الأوسط. وهذا ما دفع دوائر القرار الإسرائيلية والأميركية والأوروبية، أن تصل إلى قناعة متجددة ومستجدة (وليست جديدة) بأن ما يضمن أمن إسرائيل والأمن الاستراتيجي للحديقة الخلفية الأوروبية، وما يتناغم مع فهم إسرائيل الفلسفي والديني لذاتها في منطقة الشرق الأوسط، ما هو إلا بديل سلطوي سوري يعكس الميول الثلاثة التي ذكرتها في الأعلى.

 ولهذا، فقد كان من الضروري بمكان أن تُهمّش الثورة السورية وخطابها المعاكس تماماً لتلك السوسيولوجية السياسية، وأن يتم تسليم السلطة للطرف المناهض للثورة ووجها المضاد، الذي عاداها وكبتها وقمعها ووُجِد ليفرّغها من مضمونها.

وقد تقرر ذلك، بعد أن تمت مراقبة هذا الطرف ودراسته وسبر وتحليل تجربته وسلوكه في حقل التجارب الإدلبي، الذي تجري الآن عملية تطبيق نتائجه المخبرية والتجريبية على المشهد السوري الكـامل. ولهذا، أيضاً، فإن الناخب الأول لمشروع “الدولة المدنية الشرعية” والراعي الأساس له والمؤثر من خلف الستارة، هم: إسرائيل وأميركـا وأوروبا (عرابو تلميع صورة الجولاني وتغيير خطابه ومظهره) أما ال12 مليون سوري الذين حاولوا النجاة داخل سوريا، وفي ظل نظام القتل والفساد والاستبداد، فهم حقل تجارب تطبيق مشروع الأدلبة، أو “الأسلمة من أسفل”، الجديد.

نعم، لم تنتصر ثورتنا بعد، ولا يبدو أن هناك من يريد لها أن تنتصر. نعم، سوريا حرة ونظام الأسد البربري البشع قد سقط وتحررنا من أغلاله إلى غير رجعة. ولكن، لم تنتصر الثورة السورية وخطابها بعد، وما يبدو هو أنها قد تشهد هزيمة في المستقبل، لأن المخطط لسوريا والمرغوب تطبيقه فيها، هو مشروع ضمن حسابات أخرى، وعلى قاعدة طموح بتديين وأدلجة وتطييف وأسلمة المجتمع من أسفل.

لم تنهزم الثورة وخطابها بعد، وإن كـانت لم تنتصر. ولكن، تجنيبها الهزيمة يعني أن على أصحاب الصوت الآخر (صوت الثورة الأصيل) ألا يخجلوا من “آخريتهم” وألا يتنكروا لها، أو يخافوا منها، أو يخنعوا أمام من يحاول تدجينها. بل عليهم، أن يؤكدوها وأن يُشددوا على صوتهم المختلف وخطابهم وأحلامهم المُتمايزة. فهذا هو الأمل الأخير كي لا تنهزم الثورة، حتى وإن لم تَـنتصر. علينا العمل من هذه اللحظة وعدم الانتظار أبداً. السوسيولوجيا السياسية لا تؤمن بالوقت ولا تعترف بالزمن.       

درج،

————————–

مازن درويش لـ”المجلة”: يجب محاكمة الأسد علنا في دمشق… والتوقف عن العبث بالأدلة والمقابر الجماعية

رئيس “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير” يقدّر عدد المفقودين بأكثر من 110 آلاف شخص

لندن – “المجلة”

آخر تحديث 26 ديسمبر 2024

قال مازن درويش رئيس “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير” في حديث لـ”المجلة”، إن “بشار الأسد يتحمل المسؤولية السياسية والأخلاقية والجنائية عما حصل في سوريا وعن الغالبية العظمى من الجرائم حتى بالمعنى الجنائي”، مضيفا: “عندما يصبح لدينا المسار الوطني للعدالة الانتقالية يجب أن تطالب السلطات القائمة في سوريا في ذلك الوقت بتسليمه وغيره من المجرمين. ويجب أن يكون ذلك جزءا من عملية التعافي، وجزءا من عملية المصالحة الوطنية، وإمكانية محاكمة هؤلاء الأشخاص في سوريا وبشكل علني”.

وأوضح درويش ردا على سؤال: “مع سقوط النظام أصبح لدينا مجموعة واسعة جدا من الأدلة والوثائق والأوامر وتفاصيل أخرى تتعلق حتى بالضحايا أنفسهم والمقابر الجماعية”، داعيا إلى ضرورة التوقف عن “العبث بالأدلة والفتح العشوائي للمقابر الجماعية لأن كل هذا يمكن أن يؤثر فعلا على إمكانيات المحاسبة لكن أيضا على إمكانيات كشف الحقيقة بالنسبة للضحايا وعائلاتهم في المستقبل”.

وقدر درويش أعداد الضحايا الذين تم توثيقهم كمفقودين بـ”أكثر من 110 آلاف مفقود”.

وعن التسويات التي حصلت مع بعض مسؤولي النظام السابق، قال درويش: “كنا كسوريين نعتقد أن لحظة سقوط النظام ستشهد مجازر ومذابح سواء بالمعنى السياسي أو حتى بالمعنى الطائفي. حتى الآن الوضع فعلا مفاجئ جدا بالمعنى الإيجابي بشكل عام، رغم وجود خروقات هنا أو هناك”، مضيفا: “كنت أتمنى أن تحل المسألة بمجرد عفو عام أو مصالحات شكلية. الموضوع للأسف أعقَد. أعتقد أن مسارا وطنيا للعدالة الانتقالية، جزء منه يقوم على أن المحاسبة أمر ضروري”.

وهنا نص الحوار الذي جرى عبر تطبيق “زووم” مع درويش المقيم في باريس:

* شاهدنا بعد سقوط نظام الأسد تفاصيل الانتهاكات والعذابات في السجون بينها سجن صيدنايا وهناك الكثير من الوثائق. كيف يمكن تحويل ذلك إلى آلية للمحاسبة والمساءلة؟

– مع سقوط النظام أصبح لدينا مجموعة واسعة جدا من الأدلة والوثائق والأوامر وتفاصيل أخرى تتعلق حتى بالضحايا أنفسهم والمقابر الجماعية. مجموعة هائلة من الأدلة على كل ما كنا نقول إنه كان يحصل في سوريا.

للأسف الشديد بعض هذه الأدلة يتم التعاطي معه بشكل عشوائي، وهي أدلة بحاجة إلى حفظ وإلى أن يتوقف العبث فيها. حتى المقابر الجماعية والفتح العشوائي لها كل هذا يمكن أن يؤثر فعلا على إمكانيات المحاسبة لكن أيضا على إمكانيات كشف الحقيقة بالنسبة للضحايا وعائلاتهم في المستقبل.

الخطوة الأولى الأساسية الآن أعتقد أنه يجب حفظ هذه الأماكن، وإغلاقها وعدم السماح حتى للصحافيين بالدخول إليها سواء كانت مقرات أمنية، أو سجونا، أو مقابر جماعية… وأيضا نحن نعرف أن الإمكانيات المحلية الموجودة حاليا لا تستطيع أن تتعامل مع هذا الكمّ من الأدلة وخصوصا ما يتعلق بالمقابر الجماعية والـ”دي إن إيه”.

أساسا في سوريا ليس لدينا بنك “دي إن إيه” للعائلات حتى تتم مقارنة الرفات الموجود. هذا يتطلب أن تكون هناك اتفاقيات تعاون بين الإدارة الجديدة ووكالات الأمم المتحدة. نعرف أنه تم تعيين رئيسة للمؤسسة الخاصة بالمفقودين في سوريا وأيضا هناك وكالات دولية كثيرة ومؤسسات مختصة بهذا الأمر. أعتقد أنه يجب أن تكون هناك اتفاقيات تعاون بشكل فوري، لكن الخطوة الأساسية اليوم هي حفظ هذه الأماكن وحفظ الأدلة.

* هل هناك أي اتصال من الأشخاص والمؤسسات التي عملت على هذا الموضوع لفترة طويلة، في الداخل والخارج، مع الإدارة الجديدة؟

– هناك قنوات اتصال مع الإدارة الجديدة، بعض زملائنا من مؤسسات المجتمع المدني كان لديهم حتى لقاءات مع النائب العام وبعض الإدارات الجديدة. ويجب أن لا ننسى حقيقة أن التشكيلة الأساسية للإدارة والحكومة لم تنتظم بعد. سقوط النظام بهذه السرعة كان مفاجئا، نحن اليوم نتحدث بعد أقل من أسبوعين، بالتأكيد سيحتاج شغل هذه المناصب وتفعيل هذه الإدارات وقتا أكثر، لكن هناك عمليات تواصل بدأت وجزء من رهاننا أن تكون هناك استراتيجية وطنية للتعامل مع هذه القضايا فلا تبقى المسألة فقط استجابة سريعة لأحداث طارئة.

* نسمع أرقاما كثيرة عن عدد المفقودين وعدد السجناء. هل هناك عدد نهائي للسجناء والمفقودين في سوريا. وعدد الأشخاص الذين خرجوا حتى الآن؟

– للأسف يمكنني القول إن أعداد الضحايا الذين وثقناهم كمفقودين تتجاوز 110 آلاف مفقود، هذا ما تمكنا من التوصل إليه في مركز توثيق الانتهاكات. لكن نعتقد أن الرقم أكبر من ذلك وللأسف الشديد يمكن أن يكون حتى ضعف هذا الرقم. كل المؤشرات تقول إن الأعداد التي خرجت من السياسيين أو المعتقلين على هامش الأحداث السياسية أو معتقلي ما يسمى “محكمة الإرهاب”… إلخ هي النسبة الأقل. معظم المفرج عنهم والذين تم إطلاق سراحهم من السجون المركزية هم سجناء جنائيون. الأعداد الحقيقية للأشخاص الذين دخلوا السجون وخرجوا منها خلال الـ14 سنة أو لا زالوا مفقودين حقيقة هي مئات الآلاف.

* في الأيام الأخيرة حصلت تسويات مع شخصيات بارزة في النظام، آخرهم طلال مخلوف الذي كان قياديا في الحرس الجمهوري، ما رأيك في هذه التسويات؟

– دون شك ربما كنا كسوريين نعتقد أن لحظة سقوط النظام ستشهد مجازر ومذابح سواء بالمعنى السياسي أو حتى بالمعنى الطائفي. حتى الآن الوضع فعلا مفاجئ جدا بالمعنى الإيجابي بشكل عام، رغم وجود خروقات هنا أو هناك. لكن الوعي والنضج الذي نرى السوريين عليهما بشكل عام علامة فارقة ربما في كل الصراعات التي درستها أنا على الأقل أو عملت عليها. مع ذلك أنا أفهم هذه الحيوية الإيجابية الموجودة عند السلطات الجديدة، وأفهم أيضا المطالبات التي تصدر عن بعض الجهات بما يخص العفو العام. 

أمام ما حصل في سوريا، كنت أتمنى أن يكون ممكنا حل المسألة بمجرد عفو عام أو مصالحات شكلية أو مسامحات أو “اذهبوا فأنتم الطلقاء”. الموضوع للأسف أعقَد. أعتقد أن مسارا وطنيا للعدالة الانتقالية، جزء منه يقوم على المحاسبة، وهذا أمر ضروري من أجل السلم الأهلي، لأن عدم وجود محاسبة أعتقد أنه سيفتح الباب لدوامة واسعة من حالات الانتقام الفردي وسيجر المجتمع السوري برمته إلى حالة من عدم الاستقرار وحتى إمكانية حصول “حرب أهلية”. لذلك أرى أنه لا بد من أن يكون هناك مسار وطني للعدالة الانتقالية ركن من أركانه المحاسبة، ولكن أيضا نحن هنا بحاجة إلى أن نتعامل مع قضية المحاسبة بشكل موضوعي، بشكل وطني، بحيث لا تتحول هذه المحاسبة لتكون محاسبة المنتصر وحتى لا تكون أيضا شكلا من أشكال العدالة الانتقائية أو العدالة الانتقامية. نحن بحاجة إلى أن يكون هناك مسار متوازن ذكي يحقق الإنصاف للضحايا من كل الأطراف، وأيضا يحاسب ويعاقب كبار المجرمين وكبار المنتهكين. هذا المسار الوطني الذي يمكن أن نتحدث فيه عن كثير من الخطوات المطلوبة، بالإضافة إلى المحاسبة بالمعنى الجنائي. أيضا هناك قضية العزل السياسي، وقضية عدم إتاحة الفرصة لأشخاص معينين أن يكونوا جزءا من الحياة العامة والحياة السياسية في سوريا. هذا أيضا أمر في غاية الأهمية. لكن ليس من دون أن يكون لدينا فعلا حلول حقيقية. الصراع في سوريا كان معقدا جدا، جزء منه كان قائما على ازدواجية نظام استبدادي وشعب لديه حركة مطلبية سلمية ثائر في مرحلة معينة. لكن الصراع تحول في مراحل معينة إلى صراع عسكري ورأينا أيضا مستويات عديدة من الصراع لها أساس طائفي ومستويات من الصراع لها أساس عرقي وأيضا مناطقي. أيضا بين القوى نفسها التي يمكن اليوم أن نقول عنها “القوى المنتصرة” رأينا صراعات بينية، وكان هناك أيضا دم في هذا الخصوص. وهذه كلها قضايا، قد تكون الآن حالة الانتصار لا تسمح لهذه القضايا بأن تظهر، ولكن هذه واحدة من الألغام التي تواجهنا كسوريين وتواجه مستقبلنا السوري.

أيضا لا ننسى عامل الإرهاب والتطرف، “داعش” والمجازر والمذابح التي حصلت في هذا السياق والتي كان لديها أيضا انعكاسات بالمعنى القبلي أو العشائري في بعض الأحيان. بالتالي نحن بحاجة إلى أن نكون دقيقين جدا ولا نتعامل مع الأمور بشكل سطحي وسريع، بحاجة إلى أن نفكك مستويات هذا الصراع ونرى كيف سنتعامل معه. الميليشيات الأجنبية، والقوى الإقليمية بشكل عام. حقيقةً الصراع في سوريا من أعقد أشكال الصراع المعاصرة. لذلك فإن فكرة المسامحة أو العفو العام فقط أو “اذهبوا فأنتم الطلقاء”، على نبلها بالمعنى الأخلاقي العام، لكن لا أعتقد أبدا أنها يمكن أن تشكل حلا، على العكس تماما قد تكون كارثة حتى على من يطالب بها.

* في هذا السياق، هل تكون المحاسبة محلية أم تكون محاسبة دولية، أم تكون مزيجا من المسارين معا؟

– النموذج الذي يمكن التحدث عنه اليوم قد يكون مبكرا، دائما أتمنى بشكل شخصي حتى عندما كنا في كوبلينز (ألمانيا)، أو في باريس عندما كانت المحكمة تطلق أحكامها كنت دائما أقول “ليتها في دمشق”. دائما أتمنى أن يكون لدينا مسار وطني، ولكن في ضوء أن هناك الكثير من الأشخاص المتهمين المتورطين في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية فروا من سوريا، من ضمنهم بشار الأسد وغيره. أعتقد أننا نحتاج خليطا أو مزيجا من الأدوات المحلية والأدوات الدولية. أيضا هناك بعض الجرائم والانتهاكات التي حصلت مثل جريمة استخدام الأسلحة الكيماوية في سوريا لها طابع خاص وطابع عالمي من حيث الخطورة، لذلك يمكن أن تكون إحدى الأدوات أمام الإدارة الجديدة هي انضمام سوريا إلى اتفاقية روما والانضمام إلى محكمة الجنايات الدولية في هذا الخصوص.

* ماذا عن بشار الأسد الموجود في موسكو؟

– بشار الأسد يتحمل المسؤولية السياسية والأخلاقية والجنائية عما حصل في سوريا وعن الغالبية العظمى من الجرائم حتى بالمعنى الجنائي. هناك مذكرة توقيف بحقه أساسا من المحاكم الفرنسية. وأعتقد أنه عندما يصبح لدينا المسار الوطني للعدالة الانتقالية يجب أن تطالب السلطات القائمة في سوريا في ذلك الوقت بتسليمه وغيره من المجرمين. يجب أن يكون جزءا من عملية التعافي، وجزءا من عملية المصالحة الوطنية، وإمكانية محاكمة هؤلاء الأشخاص في سوريا وبشكل علني.

* عملتَ طويلا في السنوات الأخيرة على محاكمات في كوبلينز وغيرها في دول أوروبية مختلفة، ماذا عن هذه المحاكمات في ضوء ما حصل في الفترة الأخيرة. هل سعيتم أو حصلتم على وثائق معينة ستقدم في هذه المحاكم؟

– ندرس اليوم هذا الموضوع مع سلطات قضائية في أكثر من دولة. قناعتنا وخطتنا أن هذه المحاكم تقوم بإحالة كافة هذه الإضبارات والشكاوى وحتى الأشخاص الموقوفين إلى السلطات القانونية السورية عندما يكون هناك، مرة أخرى، جهاز قضائي وقانوني يسمح بهذا. هذه المحاكمات والأدلة والتحقيقات التي حصلت بالنسبة لكل الأطراف وخصوصا أننا في المركز استطعنا أن نصدر 15 مذكرة توقيف دولية بحق 15 من كبار الضباط ومن ضمنهم بشار الأسد وماهر الأسد. لكن حتى بالنسبة إلى المحاكمات التي تخص باقي الأطراف، كافة هذه المحاكمات، أعتقد يجب تسليم الملفات والأدلة والأشخاص الموقوفين إلى السلطات القانونية الجديدة.

* هل تتوقع أن يحصل هذا؟

– هذا يرتبط حقيقة بشكل الانتقال السياسي الذي سيتم في سوريا. إن كان لدينا فعلا عملية انتقال سياسي موثوقة، وكان لدينا فعلا أجهزة قانونية وقضائية أيضا موثوقة تتماشى مع معايير العدالة فهذا يجب أن يحصل، وسنحاول أن نستمر بالدفع في ذلك الاتجاه. في النهاية هذه الجرائم والانتهاكات حصلت في سوريا، حصلت ضد السوريين، ولجوؤنا إلى العدالة في دول أخرى أو إلى العدالة الدولية كان حقيقة خطة بديلة لعدم إمكانية قيام عدالة داخل سوريا. لكن اليوم أعتقد أن النافذة فُتحت وعلينا أن نتمسك بهذا الخيار. ومرة أخرى، هذا الأمر ليس فقط مجرد إنصاف للضحايا، على أهميته، ومحاسبة المجرمين والمنتهكين، على أهميتها، هذا الأمر يتعلق بإمكانية العيش المشترك وإمكانية السلام المستدام في سوريا. قضية العدالة في سوريا هي أحد أهم أساسات بناء الدولة السورية في المستقبل وإمكانية استمرارها والتعايش بين كافة مواطنينا بسلام.

المجلة

———————————-

حكم سورية… حركة بين المحاور وألغام النظام السابق/ بشير البكر

26 ديسمبر 2024

تعود سورية إلى دائرة الاهتمام الدولي والعربي، بعد زمن طويل بقيت فيه معزولة عن العالم، لا يقصدها إلا المبعوثون الروس والإيرانيون. ومنذ وصول الحكم الجديد إلى دمشق، في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول الحالي، تشهد سورية زيارة عدد من المبعوثين الدوليين والعرب من أجل استطلاع الوضع والتعرف إلى مسؤولي المرحلة، أو الترحيب بالتحول وإبداء الدعم وتقديم المساعدة. يعكس الحراك الدبلوماسي، وحضور العدد الكبير من وسائل الإعلام الدولية والعربية في دمشق مدى أهمية الحدث والمسارات التي سيأخذها حكم سورية الجديد، والآثار المترتبة على التغيير على المستويات المحلية والإقليمية والدولية.

ليست جميع الدول الأجنبية والعربية على موجة واحدة، وهذا أمر طبيعي تحدده عدة اعتبارات، الأول هو المسافة من النظام السابق والحكم الجديد، وطبيعة المصالح مع كل منهما. الاعتبار الثاني هو مدى القرب والبعد الجغرافي عن سورية، وتأثير ما يحصل فيها داخلياً وخارجياً، خصوصاً على المحيط الجغرافي القريب، كونها تحتفظ بحدود دولية طويلة مع كل من تركيا والأردن والعراق وفلسطين المحتلة. ويشكّل هذا الجوار مصدر قلق لبعض هذه الدول بعد عام 2011، من ذلك على مستوى تهريب المخدرات بالنسبة للأردن، وتشكيل إدارة ذاتية كردية في شمال شرقي سورية، تعتبرها تركيا تهديداً لأمنها القومي. أما الاعتبار الثالث فهو التفاعلات التي يمكن أن يثيرها الحدث السوري على المدى البعيد، واحتمال تحوّل سورية إلى نموذج جديد في المنطقة، وهذا يعني بالنسبة لدول الربيع العربي التي واجهت ثورة مضادة مثل مصر وتونس، والدول المتضررة من التدخل الإيراني المباشر في شؤونها الداخلية وتشكيل مليشيات محلية موازية للدولة كما هو حال العراق واليمن ولبنان. ويلعب استمرار النفوذ الإيراني دوراً مباشراً في مواقف بعض هذه البلدان من الحكم الجديد في سورية.

موقف الولايات المتحدة من حكم سورية الحالي ليس بعيداً عن أوروبا، إذ تعبّر الوفود الزائرة لدمشق عن الشروط والمخاوف ذاتها. أما تركيا وقطر فهما متقاربتان، نظراً للعلاقات المتميزة بين البلدين، بينما لكل من العراق والأردن والسعودية ومصر مواقف متباينة، تتراوح بين الترحيب بصوت عال كما هو حال الأردن، والفتور من جانب العراق، والوقوف في منتصف الطريق من جانب السعودية، واكتفاء مصر بالتأكيد على أهمية استقرار سورية وعدم التدخل في شؤونها الداخلية. ومن خلال قراءة ما بين سطور البيانات، والاتصالات الدبلوماسية المصرية، يتجلى عدم ترحيب القاهرة بالتحوّل، الأمر الذي يفسر عدم رفع العلم الجديد فوق مبنى السفارة السورية في العاصمة المصرية، كما حصل في عدة عواصم، بما فيها واشنطن.

واشنطن خطت خطوة مهمة وهي إرسال وفد رفيع المستوى بقيادة مساعدة وزير الخارجية باربارا ليف التي تعرف المنطقة جيداً، وسبق لها أن خدمت فيها لوقت طويل، في العراق والإمارات، وهي تجيد اللغة العربية. يتجاوز هذا الموقف الاهتمام إلى إبداء الترحيب المشروط، والذي يسبق الاعتراف الرسمي. ومن خلال إسقاط الجائزة التي كانت وضعتها لتقديم معلومات حول رئيس الإدارة الجديدة أحمد الشرع، قالت إنها لم تعد على موقفها السابق من “هيئة تحرير الشام” (النصرة سابقاً)، وتنتظر منها أن تتجاوب مع قائمة الشروط كي تتخذ خطوات أخرى تتمثل بالاعتراف، ورفع سورية عن لائحة العقوبات وتسهيل العقبات أمام المساعدات الدولية وعملية إعادة الإعمار.

وغير بعيد عن موقف واشنطن من حكم سورية الجديد تقف الدول الأوروبية، لكن بدرجات متفاوتة، وهناك تلاق ملحوظ بين كل من لندن وبرلين وباريس، التي كانت ذات موقف متميز من النظام السابق ورافض للتطبيع معه، ولعبت دوراً مهما على صعيد عرقلة التحركات التي قادتها رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني. فقد قررت ميلوني فتح السفارة الإيطالية في دمشق، يوليو/ تموز الماضي، وقادت حملة داخل أحزاب اليمين الأوروبي المتطرف لدعم نظام الأسد.

مواقف واضحة

وتصدر أوضح المواقف بشأن حكم سورية الجديد  في ما يخص دعم التغيير، عن أنقرة والدوحة. يعود ذلك في جانب منه إلى خصوصية العلاقات التركية القطرية من جهة، وموقف كل من البلدين على حدة من النظام السوري ودعم الشعب السوري. ومن المعروف أن تركيا حاولت اللقاء مع النظام السوري السابق من أجل تطبيع العلاقات على أساس عودة اللاجئين السوريين وتطبيق قرار مجلس الأمن رقم 2254 (2015 حول الانتقال السياسي)، ومن المؤكد أنها لعبت دوراً مهماً في المساعدة على إسقاط نظام الأسد. بينما وقفت قطر ضد محاولات التطبيع مع النظام، وأبقت على سفارة المعارضة لديها من دون سائر بلدان العالم. ويشترك البلدان في استقبال السوريين ودعم اللاجئين.

حضور الدوحة وأنقرة اليوم في الشأن السوري هو في جانب منه استمرار للمواقف السابقة لكل من البلدين، ما يفسر زيارة دمشق من قبل كل من وزير الخارجية التركي هاكان فيدان ووزير الدولة القطري للشؤون الخارجية محمد الخليفي. كل منهما على صلة مباشرة مع الملف السوري منذ عدة أعوام، وعلى تواصل مع قادة التغيير، فالوزير التركي من موقعه السابق في رئاسة جهاز المخابرات ربطته معرفة مباشرة مع قادة “الهيئة” والأطراف السورية العسكرية الأخرى. الأمر ذاته بالنسبة للوزير القطري الذي يشرف على ملف الوساطات القطرية، التي استقبلت وحاورت وساعدت أغلبية أطراف المعارضة السورية، وعلى أرضها تشكل الائتلاف الوطني عام 2012، وهي البلد الوحيد الذي فتح سفارة له، وسلمه كرسي سورية في القمة العربية التي انعقدت في الدوحة عام 2013.

يشكل الموقف الأردني علامة بارزة بين المواقف الدولية والعربية نتيجة طبيعة العلاقة مع سورية من جهة، ومن جهة ثانية كون عمّان استضافت اجتماع العقبة في 14 من الشهر الحالي، صدر عنه البيان الذي يضع شروطاً قاسية على السوريين تصل إلى حد الوصاية. ومن هنا تكتسي تصريحات نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي، أهمية خاصة بعد لقائه الشرع في دمشق، الاثنين الماضي، إذ قال إنه “يجب أن تأخذ الإدارة الجديدة في دمشق فرصتها. وهناك بداية جديدة تستحق الدعم”. ومن شأن الموقف الأردني الإيجابي أن يشجع بعض الأطراف العربية والدولية المترددة أن تغادر هذه الدائرة، كما يطمئن الدول ذات المخاوف، ويرفع الشروط التي وضعها بيان العقبة.

ويبدو من تصريحات بعض المقربين من الإدارة الجديدة أن هناك تعويلاً على تطوير السعودية موقفها واتصالاتها التي اقتصرت على زيارة وفد بقيادة مستشار في الديوان الملكي (لم يحدد اسمه). وكانت الرياض قد قادت جهوداً دبلوماسية أعادت سورية إلى مقعدها في الجامعة العربية في قمة جدة، والتي حضرها بشار الأسد في مايو/أيار عام 2023. كما أعلن البلدان استئناف علاقاتهما الدبلوماسية الكاملة في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، قبل أن تسمي الرياض فيصل بن سعود المجفل، سفيراً في دمشق في مايو 2024.  يبدو من مروحة المواقف الدولية والعربية أن هناك تباينات صريحة بشأن حكم سورية في الوقت الراهن. بعض الدول مرحبة بالتغيير ومؤيدة له وعلى استعداد لدعمه، ودول أخرى لديها مخاوف وأسئلة حول العديد من خطوات المستقبل القريب. بينما تحكم المصالح مواقف بقية الدول، ما يرتب على الحكم الجديد أن يتصرف بانفتاح، يحافظ قبل كل شيء على شعرة معاوية مع كل هذه الدول، القريب منها والبعيد.

تحديات حكم سورية

مطلوب من حكم سورية الجديد أن يبرز عدداً من المواقف. أولاً، أن يثبت استقلالية القرار السوري سياسياً واقتصادياً وأمنياً، لا يقبل الإملاءات بخصوص القضايا الداخلية والمواقف الخارجية. يعدّ ذلك تحدياً صعباً جداً في ظل انعدام الخيارات والموارد والضغط الداخلي الكبير لتقديم حلول سريعة للاحتياجات المتراكمة من الحكم السابق، مثل الكهرباء، ومياه الشرب وخدمات النظافة والأمن. في حين أن النظام السابق ترك سورية دولة فاشلة اقتصادها على الأرض، ولا يوجد في البنك المركزي أكثر من 200 مليون دولار. ثانياً، أن تخطو الإدارة الجديدة خطوات فعلية على صعيد إعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس مهنية، بعيداً عن رموز العهد السابق، خصوصاً في الجيش والأمن، والدبلوماسية والإعلام والاقتصاد. يمنحها ذلك ثقة داخلية تسلحها بأوراق قوة أمام المجتمع الدولي، فيما على السوريين وحدهم أن يقرروا شكل الحوار حول دستور الدولة. ثالثاً، حل القضايا المعلقة من دون تأثيرات أو ضغوط خارجية. وسيكون التعامل مع المسألة الكردية امتحاناً للإدارة الجديدة.

رابعاً، تفكيك الألغام التي تركها النظام السابق، وهي كثيرة، إذ لا تقتصر على حل الجيش وتسريح الأمن والاحتفاظ بالسلاح لدى أوساط من مؤيديه، بل تتجاوز ذلك إلى قطاعات متضررة من خسارة امتيازاتها التي حصلت عليها في العهد السابق، وهي لا تقتصر على طائفة بعينها. خامساً، التعامل مع التهديدين الإسرائيلي والإيراني. الأول يواصل قضم الأراضي وتهجير السكان من القرى الحدودية، والثاني يحرض على التحرك ضد الإدارة الجديدة. ويتطلب الأمر في الحالين دبلوماسية هجومية تتحرك على المستوى العالمي، لتقديم المذكرات حول الاعتداءات الإسرائيلية للأمم المتحدة والدول الكبرى ذات التأثير، وتأمين موقف عربي وإسلامي إلى جانب سورية. وفي الوقت ذاته لفضح نشاط إيران التخريبي ودورها المزعزع لاستقرار سورية والمنطقة، ومقاضاتها أمام المحاكم الدولية عن المرحلة الماضية التي ساعدت فيها النظام على قتل السوريين وتدمير مدنهم وقراهم وتهجير قرابة 12 مليوناً داخل سورية وخارجها.

العربي الجديد

——————————-

العالم يتعرف إلى السلطة الجديدة في دمشق/ بكر صدقي

تحديث 26 كانون الأول 2024

كان رئيس جهاز الاستخبارات القومي في تركيا أول الواصلين الأجانب إلى دمشق واللقاء بأحمد الشرع قائد هيئة تحرير الشام. ثم جاء الأوروبيون والأمريكيون والأمميون والقطريون والأردنيون والسعوديون، في حين كانت روسيا حريصة على إعلان أنها “على تواصل” مع السلطة الجديدة، وكذا فعلت إيران التي لم تكتم شعورها بالهزيمة الكبرى التي منيت بها في سوريا. أما إسرائيل ففضلت “اختبارها” باحتلال أراض سورية جديدة وقصف ما تبقى من إمكانات سوريا العسكرية وإطلاق تصريحات عدائية بحق السلطة الجديدة في دمشق.

وقررت الولايات المتحدة إزالة المكافأة الموضوعة على رأس أبي محمد الجولاني، مع “دراسة” إزالة اسم الهيئة التي يقودها من قائمة المنظمات الإرهابية والعقوبات المفروضة على سوريا في عهد النظام الهارب. هذه إجراءات سالبة وحسب لا تعني إقامة علاقات طبيعية مع سوريا الجديدة، ناهيكم عن مساعدتها على تضميد الجراح والشروع في بناء دولة منهارة أو محاولة لجم حليفها الإسرائيلي، إضافة إلى دور واشنطن في المرحلة الانتقالية بحكم وجود قواتها على جزء من الأراضي السورية يصادف أنها تشتمل مصادر النفط والغاز.

الدول الأوروبية المعنية بسوريا من زاوية موضوع اللاجئين على الأقل ما زالت تتعامل بحذر مع السلطة الجديدة، ولم تطلق وعوداً بشأن المساهمة في إعادة الإعمار، لعلها تنتظر أن تسبقها الدول العربية الغنية المنتجة للنفط. تركيا المزهوة بإنجاز تكاد تنسبه إلى نفسها، أعني إسقاط نظام الأسد، عينها على فرص الاستثمار لشركاتها قبل كل شيء، والعين الأخرى على شمال شرق سوريا حيث تجد أن الفرصة سانحة للتخلص من قوات سوريا الديمقراطية وإدارتها الذاتية في مناطق سيطرتها قبل دخول ترامب إلى البيت الأبيض بعد أسابيع قليلة. ولعل طموحها يصل إلى درجة لعب دور “الأخ الأكبر” للسلطة الجديدة.

ربما كان أبرز المتوجسين بين الدول من سقوط نظام الأسد، مصر والإمارات العربية المتحدة، وسيكون عليهما التأقلم مع الوضع الجديد ولو على مضض. ربما ينطبق ذلك على الصين أيضاً التي ترى في سقوط النظام الذي واظبت على تأييده في مجلس الأمن منذ بداية الثورة مكسباً صافياً للتحالف الغربي الذي يسعى لتطويق طموحاتها.

أحمد الشرع المعروف بقدرته على الاقناع ولا يخفى طموحه السياسي على أحد، حذِرُ في تصريحاته، يتجنب الشراك التي تنصب له، ويقول ما هو مقبول في الداخل كما مع مندوبي الدول الذين يلتقي بهم أو وسائل الإعلام التي تلاحقه. أما في الإجراءات، كتشكيل حكومة تصريف الأعمال أو إعادة العمل في دوائر الإدارة العامة أو تعيين محافظين أو تنظيم العلاقة مع السكان في شؤون الأمن وغيرها، فهو يتصرف بصورة أحادية، ويبدو أنه حاسم في رفضه اعتماد قرار مجلس الأمن رقم 2254 أو التعاون مع أطر المعارضة المعترف بها دولياً في المهجر.

لعل أكثر ما يلفت النظر في “براغماتية” أحمد الشرع هو تعاطيه العاقل مع الاستفزازات الإسرائيلية، وانفتاحه على علاقة طبيعية مع موسكو، وتجنب إطلاق تصريحات استفزازية ضد طهران. هذه من علامات نضج سياسي بعد عمر أمضى الرجل جله في العمل الميداني الجهادي في العراق وسوريا، وفي حكم منطقة إدلب طوال السنوات السابقة والتعامل مع الفصائل الأخرى. ويكاد يكون الشخص الوحيد الذي يمارس السياسة بمعناها الحقيقي في سوريا اليوم. هذا ما يجعل أكثر التساؤلات يدور حول مقدار سيطرته على هيئة تحرير الشام ومداها الزمني المحتمل، وعن مدى قدرته على ضبط الوضع الأمني بالعديد المحدود لقوات التحالف الذي يقوده، ومدى قدرته في الحفاظ على استقلالية القرار الوطني وسط قوى دولية عاتية تمارس على السلطة الجديدة ضغوطاً متفاوتة تحرّكها روائز مصالحها الخاصة في “الكعكة السورية”، ومدى استمرار حيازته على قبول شعبي يحتاجه في تعزيز شرعيته الثورية. وبقدر ما تتوقف هذه العناصر على استمرار أدائه الحالي، فهي ستتأثر أيضاً بمدى التجاوب المحلي والدولي مع المتطلبات العاجلة لبناء دولة جديدة من الصفر تقريباً تمثل جميع السوريين وتحظى بدعم من دول صديقة.

من مفارقات الأسبوعين الفائتين أن البيئة الموالية لنظام الأسد كانت، لأسباب مفهومة، الأكثر تجاوباً مع سياسة الهيئة تجاهها، وحين تتعرض مناطقهم لانتهاكات فهم ينسبونها إلى فصائل أخرى ويستنجدون بهيئة تحرير الشام لحمايتهم منها، بعد سنوات من شيطنتها والمساهمة الفعالة في الصراع ضدها. هذه أيضاً براغماتية مقابلة أو واقعية سياسية مطلوبة. بالمقابل ثمة أوساط تسعى ما وسعها ذلك إلى التخريب على هذا الوضع، سواء من فلول النظام المخلوع أو من أفراد من الفصائل “المنتصرة”. وثمة أيضاً من يخلطون بين المتطلبات السياسية العاجلة ومسبقاتهم الإيديولوجية على ما شهدنا في مظاهرة ساحة الأمويين الأسبوع الماضي حين رأينا أصواتاً تنادي “علمانية! علمانية!” وكأنهم يحتجون على إقرار دستور ينص على إسلامية الدولة السورية وتطبيق الشريعة فيها. في السياق الذي ارتفع فيه هذا الشعار لا يمكن أن يعني غير “النضال” ضد السلطة الجديدة ولم يمض عليها أكثر من عشرة أيام، في الوقت الذي تحتاج سوريا فيه إلى كل شيء باستثناء الاستقطابات الداخلية الحادة.

المعارضة السياسية الموجودة خارج سوريا مرتبكة لا تجد لنفسها موقعاً في المشهد السياسي، كما لو أنها مستسلمة لانتهاء دورها بنهاية نظام الأسد. فهي تجني الحصيلة الهزيلة لعملها طوال العقد الماضي، ربما تنتظر أن تمنحها الدول الفاعلة في سوريا اليوم دوراً من خلال القرار 2254، بعدما فشلت في الحصول على أي نفوذ اجتماعي بين السوريين.

يجتهد المحللون في تحديد أبرز الرابحين والخاسرين في سوريا بعد الثامن من الشهر الجاري، فيعدّون تركيا وإسرائيل بين الأوّلين، وإيران وروسيا بين الأخيرين. ولا أحد يذكر النظام المخلوع كخاسر، فهو قد خسر مسبقاً منذ سنوات طويلة، وسقط كثمرة معفنة من تلقاء ذاته. وكذا قلما ينظر أحد إلى سوريا كدولة خسرت كل شيء لتفوز فقط بجائزة ترضية هي نافذة أمل مفتوحة على المستقبل، ويتوقف على السوريين أنفسهم أن يحولوها إلى مستقبل يستحقونه.

القدس العربي

—————————————

سوريا المحاصرة بالمخاطر: أولوية تحصين الداخل سياسياً وأمنياً/ منير الربيع

الخميس 2024/12/26

ارتاحت سوريا من حكم آل الأسد. ارتاحت بعد أكثر من خمسين عاماً من القبضة الحديدية، ومن ملاعبة النظام للسوريين، الفلسطينيين، اللبنانيين، العراقيين ودول كثيرة في المنطقة. لم يكن ما جرى بسقوط نظام بشار الأسد متوقعاً. لذلك يمكن للمفاجأة أن تطول، ويمكن للناس أن تطيل الفرح. ارتاحت سوريا من ظلم آل الأسد، بما فيهم الموالون والمعارضون. لكنها إلى جانب الارتياح، تبقى قلقة. قلقة على المستقبل، واليوم التالي، والكثير من التداخلات أو التقاطعات ما بين الداخل والخارج. خصوصاً في ظل عدم توفر برنامج واضح المعالم لمسار المرحلة الانتقالية، وما يرسم معالم الدولة الجديدة. فالمجتمع السوري في غاية التعقيد والتنوع، لا يمكن لأي طرف أن يختزله لوحده، إلا بناء على قبضة عسكرية وأمنية واستخبارية كما فعل “بعث- الأسد”، وهو ما لا يمكن للسوريين القبول به بعد كل الخسائر، التضحيات، الظلم، وبعد كل الفرح والاحتفاء بسقوط النظام.

عقد اجتماعي جديد

من خارج الخلفية الدينية أو الطائفية، هناك شرائح اجتماعية وسياسية قلقة على المستقبل السياسي، بما يرتبط بالدولة المدنية، الديمقراطية، المتعددة. تتعهد الإدارة السياسية الجديدة بالعمل على إبرام عقد اجتماعي جديد، وتسعى إلى حلّ الفصائل العسكرية ودمجها في جيش وطني. وهذا يحتاج إلى تضافر جهود سياسية، اجتماعية، أمنية، بين مختلف مكونات المجتمع السوري. إذ لا يمكن لطرف واحد أن يتولى المهمة، ولا يمكنه السيطرة على القرار والمسار، فحتى حافظ الأسد وفي عزّ قوته وقبضته الأمنية، لم يتمكن من الإمساك بسوريا والسيطرة عليها إلا بعد سنوات طويلة مارس فيها كل فنون القمع والتعذيب وعمليات القتل. ومنذ العام 1970 إلى لحظة وفاته بقيت سوريا تتعرض لاهتزازات. اليوم حتماً لا أحد من السوريين يريد العودة إلى مثل تلك التجارب، وفوق الاحتفال بسقوط النظام، تبقى أولويات السوريين في الذهاب إلى الانتخابات وصناديق الاقتراع، وفتح الباب أمام تشكيل الأحزاب السياسية، وانتظام الحياة الدستورية.

لم يعد بالإمكان الاكتفاء بمشاهد ومظاهر الاحتفال، ولا مجال في البقاء عند لحظة “التفاجؤ” بسقوط النظام، بل ما هو ملّح تقديم تصور سياسي ودستوري شامل، يتم العمل عليه من قبل مختلف شرائح المجتمع السوري، بناء على أهل الكفاءة والاختصاص. وذلك لوضع رؤية دستورية وسياسية تحفظ حقوق كل السوريين الذين أرادوا الحرية، ويريدون الممارسة السياسية، إما من خلال الانخراط بالأحزاب، أو من خلال المشاركة في الانتخابات.

شكل الدولة والتحديات

تعيش سوريا هذه الأيام حالة لا دستورية بفعل تعليق الدستور، وعدم إقرار العمل بأحد الدساتير القديمة التي كانت معتمدة في الخمسينيات، فيما تتركز الأسئلة حول الهوية الدستورية التي ستنتج مستقبلاً، ومن هي الجهات التي ستكون مخولة بوضع الدستور الجديد، وكيف سيتم اعتماده، باستفتاء شعبي، أم بموافقة مجاميع سياسية، روحية، وممثلين عن شرائح مختلفة، ومن الذي يختار هؤلاء ويحددهم. كيف سيكون شكل الدولة السورية، هل دولة مركزية موحدة، أم دولة واحدة مع لامركزية إدارية واسعة، أم لامركزية إدارية ومالية واسعة. كل هذه العناوين تشكل التحدي الأبرز لسوريا المستقبل، ولما يفترض أن تقوم به ليس الإدارة الجديدة وحدها، بل مع كل المكونات والفصائل والاتجاهات والأطياف. ويمكن الاستفادة أيضاً من مقومات ومرتكزات الدولة وأجهزتها، لا العمل على إقصائها أو هدم ما كان قائماً، بل يمكن المراكمة عليه، للحفاظ على ما تبقى من هياكل للدولة أو للمؤسسات.

لا يمكن إغفال الحجم الكبير للتحديات مع مكونات مختلفة، أبرزها مع أبناء الطائفة العلوية. فهناك قنوات اتصال مفتوحة، وفي الوقت نفسه هناك أصوات مرتفعة داخل الطائفة تطالب بالضمانات والحقوق. هنا المسألة في غاية التعقيد، لا سيما أن طائفة كان لديها وضعها المتقدم طوال خمسين عاماً، ستجد نفسها خاسرة إلى حدود بعيدة، ولن يكون سهلاً بالنسبة لها ولمجتمعها أن تتقبل الخسارة. وهذا يخلق تحدياً كبيراً، ويبقي النار تحت الرماد في حال عدم معالجة المسألة بناء على الانتماء الوطني التشاركي، وحفظ الدور وحماية الوجود بموجب القانون والدستور، في مقابل أيضاً اعتماد قاعدة محاسبة المتورطين بجرائم القتل والتعذيب والفساد.

التحدي ذاته ينطبق على العلاقة مع الكرد، والدروز وغيرهم. ولكن ما هو أهم من “حقوق الطوائف” والمكونات المختلفة أو الأقليات، هناك مسألة ذات أهمية مختلفة، تتصل بمعرفة حساسيات المجتمع السوري ككل، بما في ذلك “الأكثرية”، والمقصود بهم المنتمين إلى الطائفة السنية. فهؤلاء باختلاف توزعهم الجغرافي أو المناطقي تختلف طبائعهم وعاداتهم، فمنهم من هو محافظ، ومنهم الأكثر انفتاحاً، ومنهم العلماني أو ذات التوجهات المدنية أو اليسارية حتى، وهم من طبقات اجتماعية مختلفة، فمنهم التجار والأثرياء، ومنهم الموظفون الحكوميون، ومنهم ذات الحالة الاقتصادية أو الاجتماعية المعدومة.

إعادة الإعمار

سوريا من الدول المعقدة اجتماعياً، ثقافياً، دينياً، وتوفير الاستقرار العادل فيها هو مهمة صعبة لا تتحقق إلا بمشاركة الجميع، وبتحميل مسؤوليتها للجميع على مستوى القرار أو على مستوى تصويت الناس لاختيار أصحاب القرار. وما هو أصعب أيضاً بعد كل سنوات الحرب، الحاجة السورية الضرورية والماسة لمشاريع إعادة إعمار، ما يفرض الإسراع في توفير المنجز السياسي أو الدستوري ليتم العمل على تكليف أهل الاختصاص وتشكيل المجالس المعنية في وضع رؤى شاملة لإعادة الإعمار، ووفق أي نموذج اقتصادي واجتماعي، ووضع الأسس التي على أساسها ستشارك القوى الخارجية في هذه العملية.

إلى جانب تحديات حلّ الفصائل العسكرية وبناء جيش، هناك تحديات كبرى تتصل بالأمن الداخلي، وبكيفية ضبطه، وبآلية تشكيل أجهزة الشرطة والقوى الأمنية الداخلية. لأنه من دون ذلك لا يمكن ضبط الأوضاع، بدءاً من المعابر الحدودية. إذ لا يزال الداخل إلى سوريا من لبنان لا يمرّ على أي حاجز تفتيش، ولا يتم ختم جواز سفره، حتى مشاهد عناصر الشرطة ورجال الأمن وتسيير المرور تغيب عن مختلف الساحات والشوارع. تحدّ أمني آخر كان واضحاً لدى الدخول إلى القصر الجمهوري، إذ لم يكن هناك إجراءات أمنية، علماً أن وفوداً تتقاطر إلى القصر وتدخل بناء على إجراءات روتينية بسيطة ليس فيها أي إجراءات تفتيشية. هذه بحدّ ذاتها تشكل خطراً على قائد الإدارة السياسية الجديد أحمد الشرع نفسه.

العقيدة السياسية

سياسياً، تحتاج سوريا إلى إعادة صياغة وتحديد سياستها الخارجية، فمثلاً خلال ثلاثة أشهر يفترض أن تعقد القمة العربية السنوية فما هو موقف سوريا في هذه القمة العربية، وماذا بشأن القضية الفلسطينية، والموقف من إسرائيل التي تعتدي على كل دول المنطقة في محاولة لإعادة فرض وقائع جديدة. ماذا عن العلاقات مع الدول العربية ذات الاتجاهات المختلفة، وهل سوريا ستكون إلى جانب طرف مقابل طرف آخر، وستعود إلى سياسة المحاور أم ستعتمد مبدأ الحياد.

من الواضح أن هناك انطلاقاً وتركيزاً على المسارعة الدولية والديبلوماسية إلى سوريا، وهو ما يُنظر إليه بوصفه احتضاناً دولياً للواقع السياسي السوري الجديد. وهذا له شروطه وفروضه والتنازلات التي يستدرجها. لكن الدعم الدولي والاستقواء بالخارج في سبيل تثبيت الوضع في الداخل، هو أمر لا يمكن أن ينجح، إلا بتحصين الساحة الداخلية وسدّ كل المنافذ التي يمكنها أن تسرّب عواصف كثيرة. وأي رهان على الدعم الخارجي لتثبيت الواقع في الداخل، سيكون تكراراً لما حاول أن يقوم به حافظ الأسد ونجله بشار.

لسوريا تحديات كثيرة مع دول الجوار أيضاً. فلبنان قلق ومقلق، خصوصاً في ظل كل الظروف المتغيرة في المنطقة. قلق بسبب عدم وجود إجابات كثيرة لتطورات وضع سوريا وآليات العلاقة بين سوريا والعرب. ومقلق بسبب وجود عشرات الضباط المحسوبين على النظام السوري وموجودون على الساحة اللبنانية، وكيف سيتم التعامل معهم. قلق أيضاً من وضع اللجوء السوري وكيفية العمل على إعادة اللاجئين. ومقلق لأن هناك فريقاً أساسياً لا يزال ضد التحول الذي حصل في سوريا. وفي حال توفرت مقومات إقليمية تمتد من إيران إلى العراق فلبنان، فحينها يمكن أن يكون منطلقاً لاهتزاز أمن سوريا. عدا عن ذلك أيضاً، فالحدود غير المضبوطة بين البلدين وعمليات الترهيب، يمكنها أن تشكل عنصر اختراق وتهديداً للداخل السوري كما للداخل اللبناني.

العراق والأردن وإسرائيل

العراق، أيضاً يقع بين السطوة الأميركية والنفوذ الإيراني، وهناك مساحات شاسعة من الحدود المشتركة والتي كان طريقها مفتوحة لمقاتلين عراقيين ومن جنسيات مختلفة باتجاه سوريا لمساندة النظام. هذا الطريق قد قطع، إلى جانب شعور شيعي بمحاولة لتقليص النفوذ الشيعي في المنطقة، والذي لاقاه حكم سني في سوريا، فيمكن للعراق أن يبقى مصدر قلق لسوريا في حال عدم وضع سياسة خارجية واضحة تحسّن العلاقات البينية.

ثمة قلق أردني واضح، بسبب تداعيات القضية الفلسطينية، وانعكاس ما جرى في سوريا من خلال انتصار الثورة ذات الطابع الاسلامي. ما يجعل الأردن في حالة قلق دائم، وفيه أزمات اقتصادية واجتماعية. وهناك جهات كثيرة تحاول استغلالها لخلق تحديات جديدة على سوريا، وهنا لا يمكن إغفال العنصر الإسرائيلي الذي يمكنه أن يتدخل أمنياً أو عسكرياً أو استخبارياً، وزيادة منسوب القلاقل ما بين الأردن وسوريا، وفي ذهنيته السعي إلى قضم الضفة الغربية أكثر فأكثر.

إسرائيل تسعى دوماً إلى إضعاف سوريا، وتريد مواصلة عملياتها واستهدافاتها. وتريد أن تبقى على عربدتها من دون اعتراض من أحد. وستزداد طلباتها وأطماعها، وفي لحظة المواجهة والصدام معها، ستحاول أن تفرض واقعاً جديداً في الداخل، من خلال تغذية الصراعات المذهبية أو بين الأقلية والأكثرية. وستعمل إسرائيل على استغلال تقدمها في الجنوب السوري، لبنانياً، من خلال فرض ضغوط للتخلي اللبناني عن مزارع شبعا، وتقديم صورة أن “الجولاني” لا يريد الجولان، فلماذا بعض اللبنانيين يريدون مواصلة القتال.

المدن

———————————

هل يدعم التدخل الدبلوماسي الغربي الانتقال السياسي في سوريا؟/ حايد حايد

رفْع الشرعِ إلى منصب زعيم الأمر الواقع لسوريا سيكون خطأ فادحا

آخر تحديث 26 ديسمبر 2024

بعد أكثر من عقد من العزلة، تندفع الوفود الدبلوماسية الغربية إلى دمشق بإلحاح بالغ، منهية سنوات من المقاطعة التي أعقبت حملة القمع الوحشية التي شنها النظام السوري السابق ضد شعبه. ويشكل هذا التحول من المراقبة السلبية إلى المشاركة الفعالة منعطفا ملحوظا، ويشير إلى الاعتراف بالديناميكيات سريعة التغير على الأرض والحاجة الملحة لإعادة ضبط المشاركة الدولية في سوريا.

غير أن نجاح هذه الجهود لا يتوقف على النية فحسب، بل على طريقة تنفيذها أيضا. والتعامل غير السليم مع هذه اللحظة الحساسة يمكن أن يهدد بتعزيز اختلالات توازن القوى القائمة، وإضعاف الهدف المعلن المتمثل في دعم عملية انتقال شاملة لتمهيد الطريق نحو إرساء سلام واستقرار دائمين.

مسألة التصورات والتنفيذ

تنبع المخاوف حول هذه المشاركات الدبلوماسية إلى حد كبير من مظهرها وآليات إجرائها. ففي حين تعاملت بعض الوفود مع مهماتها بحساسية وحذر، يبدو أن وفودا أخرى أعطت الأولوية للمصلحة على حساب الحساسية. وبدلا من ضمان أن لا توحي تصرفات بعض المبعوثين بوجود “فائز” واضح في المشهد السياسي السوري المنقسم، ركز كثير من الوفود بشكل غير متناسب على شخصية واحدة: أحمد الشرع، المعروف باسمه الحركي أبو محمد الجولاني، زعيم “هيئة تحرير الشام”.

ويبدو هذا الخلل جليا في الصور التي تهيمن على وسائل الإعلام، حيث يظهر الشرع بشكل بارز إلى جانب الدبلوماسيين، وكذلك في التصريحات العامة التي تلي هذه الاجتماعات. وفي حين تؤكد هذه التصريحات في كثير من الأحيان على أهمية الانتقال السياسي الشامل، كما جاء في قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2254، فإنها تميل إلى تسليط الضوء على المناقشات مع الشرع، ما يطغى على المشاركات الأوسع مع الجهات الفاعلة السورية الأخرى.

مخاطر إبراز جهة فاعلة واحدة

إن التعامل مع “هيئة تحرير الشام” ضروري بلا شك، نظرا لسيطرتها على المناطق الرئيسة ودورها في المرحلة الحالية من الانتقال في سوريا، إلا أن رفْع الشرعِ إلى منصب زعيم الأمر الواقع لسوريا سيكون خطأ فادحا، قد يفضي إلى تعزيز هيمنة “هيئة تحرير الشام” إلى ما هو أبعد من سيطرتها الحالية المفروضة بحكم الأمر الواقع، ويسمح لها بتشكيل العملية الانتقالية بطريقة تمكنها من الحفاظ على نفوذها على المدى الطويل.

وهذه نتيجة تتناقض مع المبادئ التي تحاول الوفود الغربية تشجيع التمسك بها. كما أنها قد تمكّن “هيئةَ تحرير الشام” من المطالبة بما هو أكثر من مقعد على الطاولة، ما يضع “الهيئة” في موضع المهندس الذي يصمم طريقة الانتقال نفسها. واختلال التوازن هذا سوف يزعزع الجهود الساعية إلى خلق عملية شاملة وصادقة، ما يترك الجهات الفاعلة السورية الأخرى مهمشة، بما فيها الجهات السياسية ومنظمات المجتمع المدني على حد سواء.

إن الرغبة في الحصول على المزيد نزعة إنسانية عالمية، لا تنفرد بها “هيئة تحرير الشام”. ولذلك، فإن منح طرف ما أكثر مما يمتلك بالفعل سيكون مكافأة أكبر مقارنة بمنحه حصة من شيء يعتبره بالفعل حقا مكتسبا له. وفي حالنا الراهن، فإن وضع “هيئة تحرير الشام” في موضع اللاعب المركزي في عملية الانتقال يحمل مخاطر منح “الهيئة” المزيد من الجرأة مع إبعاد الآخرين في الوقت نفسه.

الإدراك والتصورات

غالبا ما تنبع العواقب غير المقصودة لهذه الزيارات الدبلوماسية من كيفية النظر إليها وطريقة عرضها وتصويرها وليس من الأفعال نفسها. ومن المرجح أن تتواصل وفود عديدة مع طيف واسع من أصحاب المصلحة السوريين، بمن فيهم قادة المجتمع المدني وممثلو الجماعات السياسية. بيد أن تلك المشاورات الأوسع تحظى باهتمام أقل بكثير من الاجتماعات مع الشرع في معظم الأحيان.

وهذا التفاوت في الاهتمام يخلق تصورا- سواء كان دقيقا أم لا- بأن الشرع هو المحور الأساسي، بل هو المحور الوحيد الذي تصب عنده الجهود الدبلوماسية الغربية. ولمعالجة هذا الخلل ينبغي بذل جهود مدروسة ومتعمدة لتقديم هذه اللقاءات على أنها شاملة بالفعل. إن تسليط الضوء على الاجتماعات مع أطياف متنوعة من الجهات الفاعلة السورية ليس مجرد مسألة تتعلق بالتصورات العامة؛ بل هو أمر بالغ الأهمية يثبت أن هذه الوفود تمارس الشمولية التي تدعو إليها.

وفوق كل ذلك، تحمل الطريقة التي يجري بها تصوير هذه اللقاءات في وسائل الإعلام ثقلا رمزيا كبيرا. فبالنسبة لكثرة من السوريين، ممن يعتمد على التغطية الإعلامية لإدراك وفهم هذه التطورات، تشكل الصور والروايات التي تخرج من هذه الوفود تصوراتهم حول من يمتلك السلطة والنفوذ. ويمكن أن تؤثر هذه الصور أيضا على كيفية تعامل الوفود الأخرى مع التزاماتها، الأمر الذي يخلق أمواجا متلاحقة تحمل في طياتها تأثيرا يعزز عدم التوازن.

الحاجة إلى الحذر والاستراتيجية

في هذه اللحظة التاريخية، تحمل الدبلوماسية الغربية في سوريا إمكانات هائلة. إلا أنها تنطوي في الوقت نفسه على مخاطر جمة. وسيكون للقرارات المتخذة أثناء هذه الزيارات، إلى جانب كيفية تصويرها، عواقب بعيدة المدى، ليس على العملية الانتقالية في سوريا وحسب، ولكن على استقرار المنطقة بأسرها أيضا.

ينبغي علينا أن ندرك أن المخاطر كبيرة وأن عدم اغتنام هذه الفرصة بأفضل طريقة ممكنة يهدد بتحويل أمل سوريا في انتقال شامل إلى مجرد فرصة ضائعة. وفي المقابل فالنهج المدروس بعناية- النهج الذي يتجنب تعزيز اختلال التوازن القائم ويعطي الأولوية للشمولية- يمكن أن يضع حجر الأساس لحل سياسي قادر على الصمود يمنح السوريين بكافة أطيافهم مكانا وصوتا في رسم مستقبلهم.

وللوصول إلى النجاح الذي نصبو إليه، لا بد لهذه المساعي الدبلوماسية أن تسترشد بفهم دقيق للمشهد المعقد في سوريا ولا بد لها من الالتزام بتعزيز الشمولية الحقيقية. وأي شيء أقل من هذا يهدد بإطالة أمد الانقسامات التي تهدف هذه المساعي إلى معالجتها.

المجلة

———————————–

تكويعة../ سهيل كيوان

تحديث 26 كانون الأول 2024

اجترح السّوريون عبارة “التكويع”، وجعلوا لها تصريفات، كوّع يكوّع تكويعاً، والكَوَع كلمة فصيحة تعني بحسب معجم اللغة “التحوّل الحاد”، والكَوَع عَطفة، أو ثَنية في رسغ اليد، ويقال رجلٌ أكوَع وامرأة كوعاء، ويستعمل الكوع في شبكة أنابيب المياه لتغيير اتجاه الأنبوب.

اشتهر “الكوع” في قطاع غزة خلال الانتفاضة الثانية عام 2000 كقنبلة فقراء، حيث يؤخذ كوع مواسير، ويُملأ بمادّة البارود ويغلق من طرفيه المسنّنين، مع إبقاء ثقب للفتيل، يُشعَلُ الفتيل، ثم يُرمى الكوع إلى الهدف حيث ينفجر، كان ثمنه يعادل أقل من دولارين.

طفا التعبير بعد تحرير سوريا، وهروب رئيس النّظام، والانعطافة الحادة لمؤيّدي نظام الطاغية، من مؤيّدين ومدافعين متحمسين عن النظام، إلى مؤيّدين للثّورة، ومهاجمين لوحشية النظام.

كوّعَ أو أكعى كثيرون، وهنالك من كان تكويعه حادّا جدًا إلى درجة مبتذلة، فبدا كأنّما يسعى إلى القفز للركوب في آخر عربات القطار، فسقط على السّكة وكَسرَ كوعه.

بعض هؤلاء يثير ابتسامة هادئة في طريقة صياغته للتكويعة، ومنهم من تشعر بالشّفقة عليه، لأنّه أدخل نفسه في موقف محرج جداً، خصوصاً إذا كان من أولئك المطبّلين للنظام، وكان يتنّمر على الفنانين والمثقفين والمواطنين السّوريين المعارضين، ويخاطبهم بفوقية واستقواء، وينعتهم بشتى النُّعوت القبيحة، أقلها أنهم يخدمون أجندات أجنبية، وتلقي أموال من جهات مشبوهة، وبالتالي خيانة سورية.

من بين هؤلاء، من كان ينعت معارضي النّظام بالطائفية والداعشية والتعصب المذهبي، واضطهاد المرأة، والعداء للفنون وللرَّكب الحضاري. ومن هؤلاء من رفع يده لضرب محاور معارضٍ للنظام في خلال حلقة تلفزيونية، طبعاً خارج سوريا، أو سكب على المعارض كوب ماء، أو ألقى عليه دفتراً وشتمه وحقّره، لشعوره بأنّه في موقع القوّة، وكي يحظى برضى مسؤولي ومديري النّظام الذين يقرّرون في كلِّ صغيرة وكبيرة في سوريّا.

مرّ ملايين السّوريين في حالة من اليأس، ومعهم ملايين العرب، وظنّ كثيرون أن النّظام أو الأنظمة العربية عموماً، انتصرت على إرادة الشعوب بأموالها وسلاحها ومخابراتها ومؤامراتها، وأنّ الرّبيع العربي، قضى نحبه  وحُسم أمره، بل أنه ترك مرارة التجربة لدى كثيرين أدت إلى تشكيكهم بصحّة موقفهم أو بجدواه، وانتشرت عبارة “ما يسمى” في وصف الرّبيع العربي، وذلك تشكيكا بأنّه لم يكن ربيعا عربيا بالفعل، بل من صنع دوائر المخابرات العالمية، وتراجع كثيرون عن قناعاتهم، وتكوّعوا لصالح النّظام بغير قناعة، وصاروا يستعملون عبارة “ما يسمّى” الربيع العربي تبخيسا لمحاولة الشعوب العربية التحرّر من عبودية أنظمة الاستبداد.

نجحت الثورة المضادة في التشكيك بنظافة الرّبيع العربي، وبحقيقة مشاعر غضب عشرات الملايين ونزولهم إلى الشوارع والميادين، وتفننت أذرع النظام في تخوين وتحقير المتظاهرين، بحيث زعموا مرّة أن الرشوة كانت ساندويشة فلافل وعشرة دولارات للتظاهر ضد النظام.

تبنّى كثيرون مواقف النظام وردّدوها بغير قناعة، ونتيجة يأس من إمكانية التغيير، بعدما دعمت قوى إقليمية ودولية النّظام بقوة مباشرة وغير مباشرة.

أكثر الناس في أوطاننا العربية مع”الحيط الواقف”، فهم مع القوي أو المنتصر، لإدراكهم بأن المهزوم لا يستطيع أن ينفعهم حتى ولو كان معه كل الحق، بينما المنتصر ينفع، ويستطيع أن يضرّهم. كذلك لقناعتهم بأن المنتصر لا يرحم معارضيه، لغياب مفهوم الديمقراطية وحرية التعبير.

بعض الناس يتريثون حتى تنجلي المواقف، ويميلون مع الكفّة الرّاجحة.

 عندما يفقد الناس الأمل بالجميع، يتصرّفون بغريزتهم بما تمليه عليهم مصلحتهم وبقائهم قيد الحياة، حتى لو كان ضد قناعتهم، فليس لدى جميعهم جهوزية دفع ثمن الاعتراض على واقع ما، أو البوح بحقيقة ما  يشعرون ويضمرون، وخصوصا إذا كان الثمن باهظاً في الرّوح أو العرض والأملاك. النظام في سوريا كان ينتهك كل شيء، المال والأرواح والأعراض، ولهذا كانت “محبة” أكثرية الناس له نفاقا وكذبا، ورأينا فنونا من النفاق في هتافات أعضاء مجلس الشّعب، أحدهم طالبه بقيادة العالم وليس سوريا فقط، ورجل دين اعتبره عبقرية نادرة لا يجود الزمان بمثلها فقد جمع بين فن القيادة والدين والتواضع والفكر والأدب والعلوم والأخلاق. وفرقة تواشيح دينية أنشدت لوجه بشار “ضوء القمر وزين الرجال من البشر”. “حاز المفاخر كلها

إنه بشّار ضوء القمر، تمضي السنون ومجده، يزداد لا يخشى القِصَر”.

سيكون هؤلاء أوّل المكوعين، وقد تراهم يرقصون في الميادين.

من بين المكوّعين، كثيرون من الفنانين والمثقفين المعارضين، الذين تعبوا رغم معرفتهم للحقيقة. ولكن كي يبرّروا مواقفهم الخاطئة صاروا يقارنون بين ما كان قبل الثورة، وما جرى بعدها، قارنوا بين الأسعار وقيمة الليرة السُّورية قبل وبعد، محمّلين كل العالم مسؤولية ما حدث، وبرأوا النّظام الذي أعلن “الأسد أو نحرق البلد” والتمسوا له الأعذار، وبأنه يتعرّض إلى مؤامرة.

كثيرون صاروا يصرّحون أنّ الأنظمة العربية التي كانت قبل الربيع العربي أفضل مما أفرزه هذا الربيع! متجاهلين أن سبب الكوارث في الأصل هي تلك الأنظمة.

طبيعي جدا، إذا خيّرت إنسانا بين أن يُذبح أو يحرق، وبين أن يعيش في فقر مدقع، فإنّه يختار الفقر المدقع ويعتبره  سعادة، وإذا خيّرته بين أن يتشرد من بيته الدافئ، إلى خيمة في الشّمال السّوري البارد، أو في شوارع المدن الغريبة، فإنه يفضل أن يبقى تحت ظل نظام فاسد على أن يتشرّد، وخصوصا بعد أن وصلت قصص مشرّدين تجمدوا حتى الموت في غابات أوروبا، أو اختنقوا في شاحنات على طريقة “رجال في الشّمس”، إضافة إلى التحريض عليهم من قبل النازيين الجدد وغيرهم ومهاجمتهم.

حملة التشكيك مُركّبة، بعضها ما زال مستمرّاً، اشترك فيها يساريون وقوميون وأناس عُرفوا في إخلاصهم، خاصة من خارج سوريا، من أولئك الذين لم يتخيّلوا كيف سحق النظام معارضيه.

بعد تحرير المعتقلين وما كُشف من إجرام ومجازر أدمت القلوب، ذُهل داعمو النظام، وخشوا من غضبة الشّعب، فجاءت ردود التكويع حادة، ونظراً لغياب حرّية التّعبير على مدار عقود، فإنّ الخوف كان وما زال مسيطراً، وما زالت تأثيرات إرهاب النّظام متجذّرة.

بعضهم أكعى بمئة وثمانين درجة، والبعض  بزاوية منفرجة أو قائمة أو حادّة، بعضها  محسوبٌ بذكاء، بحيث لا يبدو منافقا أو جباناً بصورة فاضحة، فأكعى بمرونة، وامتدح أخلاق الثّوار الذين عاملوه بلطف، واعترف بأنّه كان يخاف من النّظام، وأنّه نافق للنظام نتيجة للخوف، وتظاهر بعضهم بأنّه لا يعرف كوعَه من بوعِه.

الشّعب يلتمس الأعذار لهؤلاء ويتفهّمهم، فهم إخوانه وأهله وأبناؤه، ويتفهّم كل أنواع التكويعات، طالما أنّ الأيدي لم تتلطّخ بدماء وأعراض وأملاك الناس.

أما الذين قادوا وقتلوا وسجنوا وعذّبوا ومارسوا ساديتهم وقذارتهم وخساستهم على الرجال والنساء والأطفال، فهؤلاء لا رحمة لهم، ويجب أن يكونوا عبرة للأجيال من الحكّام والقادة القادمين من بعدهم، بأنّ الشُّعوب لا تنسى ولن تغفر لأمثالهم، وسوف يتلقون عقابهم الشّديد ولو بعد حين.

القدس العربي

———————————-

بدايات مقاومة شعبية سورية لإسرائيل؟

تحديث 26 كانون الأول 2024

بدأت إسرائيل غزوا للأراضي السورية أطلقت عليه اسم عملية “سهم باشان”، وذلك بعد ساعات فحسب من سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر/كانون أول الجاري، وجرى التمهيد له بزعم اجتياز “عناصر مسلّحة” المنطقة العازلة، وتبع ذلك إعلان تل أبيب إنهاء اتفاق فض الاشتباك لعام 1974، والتوغل داخل المنطقة العازلة والقنيطرة وجبل الشيخ، وكانت تلك المرة الأولى منذ 50 عاما التي تعبر فيها القوات الإسرائيلية السياج الحدودي السوري.

ترافق التوغل البرّي مع شنّ مئات الغارات الإسرائيلية على مواقع عسكرية واستراتيجية سورية تضمنت مطارات ومستودعات أسلحة ومراكز أبحاث علمية ومنشآت دفاع جوي ومواقع استراتيجية أخرى في مجمل المحافظات السورية، وأنجزت إسرائيل، حسب تصريحات مسؤوليها، تدمير أكثر من 80% من أسلحة سوريا.

استغلّ بنيامين نتنياهو، رئيس حكومة إسرائيل، الظرف الذي تمرّ به سوريا، وعاجل إلى قطف الثمار السياسية للتوغّل والهجوم الإسرائيليين على سوريا، فظهر على قمة جبل الشيخ ليعلن بأن إسرائيل ستبقى في هذا الموقع الاستراتيجي الذي احتلته “لحين التوصل لترتيب مختلف”!

واجه أهالي المناطق التي توغّلت فيها إسرائيل، الغزو باحتجاجات شعبية عفوية، وكان آخر وقائع ذلك ما شهده ريف محافظة القنيطرة جنوبي سوريا، أمس الأربعاء، حيث قام السوريون بالتظاهر ضد التوغلات والإجراءات الإسرائيلية فجوبهوا، مجددا، بإطلاق النيران عليهم، مما أسفر عن إصابات عديدة بينهم وأدى لارتفاع حالة التوتر بين الأهالي وقوات الاحتلال الإسرائيلي.

أدى إطلاق النار الأخير لإصابة سبعة متظاهرين بجروح في قرية السويسة، كما أصيب مدنيان آخران بالرصاص في بلدة الداوية الكبيرة، واستدعت قوة من جيش الاحتلال وجهاء بلدة جباتا الخشب لـ”عقد اجتماع” تحت التهديد طالبتهم فيه بتسليم الأسلحة الثقيلة التي يمتلكها السكان، وأوضحت لهم أن مسؤولية منع وصول عناصر السلطات السورية الجديدة إلى المنطقة تقع على عاتقهم.

يكرّر ما حصل في جباتا الخشب وقائع مشابهة في عدة قرى ومناطق في ريف القنيطرة ودرعا والجولان، منها مزرعة بيت جن، ومغر المير، والمقرز، وصيدا الجولان، ومنشية السويسة، وقصيبة، ونعيمية، وكودنة، وبريقة، وأم العظام، والعدنانية، ومرتفع شارة الحرمون.

يواجه النظام الجديد، الذي يتلمّس طريقه في سوريا، تحديات هائلة، وواضح أن الأولوية لديه، وللمنظومتين العربية والدولية، أن ينجح في تأمين استقرار وسلم أهليّ بشكل يوجّه رسائل طمأنة للسوريين أنفسهم، وكذلك لمحيطه العربي والإقليمي وللعالم، مما يسمح ببدء ورشة الإصلاح الاقتصادية والسياسية، وإخراج سوريا عن العقوبات الاقتصادية والسياسية التي ترزح تحتها.

كان طبيعيا، والحالة هذه، أن يسعى قائد الإدارة الجديدة، احمد الشرع، عبر إعلانه أن سوريا منهكة وليست في وارد الحرب مع الإسرائيليين، ولكن الطبيعي أيضا أن يسعى السوريون المتضررون بشكل مباشر من التوغّل الإسرائيلي إلى مقاومة ما يحصل بالطرق البسيطة المتوفرة لديهم من المقاومة عبر تنظيم احتجاجات وتظاهرات واعتصامات ورفض التعاون مع إسرائيل، والطبيعي كذلك أن تطوّر هذه المقاومة السلمية أدواتها للتعاطي مع إسرائيل، فحكومتها المنتشية بقوّتها الضاربة، تواجه أشكالا عظيمة من المقاومة المتعددة المظاهر، القانونية، في محاكم الأمم  المتحدة، كما الشعبية في فلسطين نفسها، وفي شوارع العالم وجامعاته ومؤسساته.

القدس العربي

——————————–

الخوف من القادم… ماذا بعد الأسد؟!/ أيمن يوسف أبولبن

تحديث 26 كانون الأول 2024

على طول سنوات الثورة السورية، استمر القومجيون والوطنيون العرب في تكرار الأسطوانة المشروخة؛ ماذا بعد الأسد؟ وكيف يمكن ضمان أن «العهد الجديد» سيكون خيراً من سلفه؟!

ولعل هذه المغالطة – غير المنطقية – التي تُستخدم من أجل الجدال لا الحوار، استمرت – على غير ما يفرضه المنطق – إلى ما بعد سقوط الأسد، فتعالت الأصوات فجأة مُذكّرةً بأن الجولان محتلٌ، وأن النفوذ التركي يمتد إلى شمال سوريا، وأن العدو الصهيوني يقصف المطارات والمنشآت السورية، دون أن يحرك الثوّار ساكناً.

ولكن هؤلاء لم ينتبهوا أنهم يدينون أنفسهم من حيث يعلمون أو لا يعلمون، فالجولان السوري محتلٌ منذ عام 1967 أي منذ سبعةٍ وخمسين عاماً، والشمال السوري لا يخضع للنظام منذ نحو عشر سنوات، وأن الضربات الصهيونية مستمرّةٌ منذ عهد الأسد البائد، بل إن الشعوب العربية كانت وما تزال تتندّر على تصريحات حزب البعث والقيادة السورية «سنرد في الزمان والمكان المُناسبين» وكانت مشيئة الله أن يبقى هذا التهديد حبيس الأدراج والمؤتمرات الصحافيّة وكتب التاريخ، ليكون شاهداً على هذا النظام المُتخاذل الذي استخدم ماكينته الإعلاميّة للترويج لوطنيتّه المزعومة وبطولاته الوهميّة على غرار «دون كيشوت» ولتسجّل ذاكرة الشعوب بأن هذا النظام الذي صدّع رؤوسنا بالمقاومة والممانعة ومواجهة الإمبريالية، لم يطلق رصاصة واحدة على إسرائيل أو أمريكا وحلفائها طوال واحدٍ وخمسين عاماً!!.

لم يكن مظفّر النوّاب – رحمة الله عليه ـ يعلم أن مقولته الشهيرة هذه ستصبح مطيّة لكل الطواغيت العرب، يُجيّرونها لمصلحتهم، ويستغلونها أبشع استغلال، لدرجة أن سئمت منها منتديات الحوار ومنابر الإعلام.

لقد تم رهن كل مشاريع النهضة في البلاد العربيّة، وكل مشاريع التحرّر وإرساء الديمقراطيّات والتعدّدية الحزبيّة، بتلك البوصلة، والتعلّل بأن الأولوية بل الأولوية القصوى هي السعي لتحرير القدس، وإفشال المشروع الصهيوني!

رزحت سوريا تحت خط الفقر وتم احتكار الساحة السياسية بيد أوليغارشيا البعث الحاكم، وتمت مصادرة الحريّات، وتكميم الأفواه، ورمي الأبرياء في السجون والمعتقلات، وتعذيبهم وسلخهم، وكبسهم في مكابس الإعدام، والتخلّص من جثثهم، بحجّة البوصلة المشبوهة!

اغتصبت النساء، ويُتّم الأطفال، واقتلعت الحناجر، ومزّقت الأشلاء، لأن بوصلةً تشير إلى «الله، حريّة، سوريا وبس!» هي بوصلة مشبوهة!

لم يكن طريق القدس يوماً مُعبّداً للطغاة والديكتاتوريين، بل على العكس تماماً، من يسعى للحريّة ونُصرة أهل القدس، عليه أن يكون مؤمناً أصلاً بحريّات الشعوب، وبقيم العدالة والحريّة والمساواة، وكل من لا يتحلّى بهذه الصفات ويدّعي أنه سائرٌ على طريق القدس، ما هو إلا مخادعٌ ومنافق.

إن طريق القدس مشروطٌ ببناء دولٍ ديمقراطيّة تراعي التعدّدية وتضمن حرية الرأي وحريّة الفكر، ولا يخشى مواطنوها من العقاب أو السجن أو التعذيب، تمارس فيها الشعوب حرية التعبير ويتمتعون بسلطات دستورية لانتخاب من يحكمهم.

أما أكذوبة الحكم بالنار والحديد، من أجل الحفاظ على بوصلة القدس، فما هي إلا عذرٌ أقبح من ذنب!

آن لنا أن نفهم تلك الخدعة، التي ما عادت تنطلي على أحد، لن يحرّر القدس سوى أبنائها والأحرار من إخوانهم، وكل من يستغل القضية الفلسطينيّة – الأسمى والأنقى على مرّ كل العصور – لمآربه الخاصة، سيكون مصيره الذل والخنوع، والهزيمة، ولن يذكره التاريخ إلا بأبشع الصور!

أعود إلى عنوان المقال والحديث عن مرحلة ما بعد الأسد. فأقول ليس مهماً اليوم البحث عن كيفية سقوط نظام الأسد بهذه السرعة، والسلاسة، أو عن أجندة الثوّار، وتاريخهم، ليس هذا هو المهم بقدر أهميّة الحديث عن دور الشعب السوري والمخلصين من أبنائه في قيادة هذه المرحلة، والعبور منها إلى مرحلة الأمان والاستقرار، وصولاً إلى مرحلة الدولة المدنيّة التي تنعم بالتعدّدية السياسية وحرية الرأي والفكر، والعدالة والمساواة.

ولعل من المهم الإشارة، إلى أن أي مرحلة تجديد وتغيير يرافقها الكثير من المصاعب، والتحديّات، وهذا لا يعني أن خياراتنا كانت خاطئة، أو أن يغزونا اليأس مبكّراً، على عكس ما يردّده المُرجفون والخوّافون هذه الأيام، فالتاريخ أثبت لنا أن التضحيات والعطاء والصبر، هو السبيل الوحيد لنجاح الثورات والنهضات الحضارية على مر العصور، ولولا صبر الفئة المؤمنة القليلة، وبأسها لما انتشر دين الله والرسالات السماوية، في بقاع الأرض.

ومن هنا أقول إن الكثيرين للأسف من مثقفي هذه الأمة، ومنذ اليوم الأول للثورات العربيّة، استكانوا إلى وضعهم القائم، وردّدوا جوراً وبهتاناً أن الذي تعرفه خيرٌ ممّن تجهله، وأن الإبقاء على الأنظمة – البوليسيّة الديكتاتورية – هو أفضل من المجهول!

ولعمري لو عاش هؤلاء في أي زمن آخر من أزمان الثورات الكبرى، أو الدعوة لدين جديد، لكانوا من الخوالف والمرجفين والمنافقين!

اليوم هو عهدٌ جديد في المنطقة، وعصر لا مكان فيه للمتشككين والمتخوّفين، والمنظّرين، وأصحاب الشعارات، والأبواق الإعلاميّة، بل هو عصر الجد والبذل والتضحية والعطاء، والبناء، والتأسيس لنهضة جديدة، قد لا يكون لجيلنا نصيبٌ أن يعيشوا هذا الحلم لنهايته، ولكننا اليوم مسؤولون عن تأسيسه، وبنيان قواعده.

ولنا في سيرة الأنبياء وعظماء التاريخ أسوةٌ حسنة، فسيدنا محمد وهو في طريق هجرته من مكة إلى المدينة، بشّر صاحبه بمُلك كسرى، رغم أنه في تلك اللحظة لم يكن يأمن على حياته!

أما عمر المُختار فقد تم أسره ثم شنقه على أيدي الاستعمار الإيطالي، ولكنه زرع بذرة النصر في الثوّار، والرغبة في التحرير، فكان له ما أراد.

هذه هي الرؤية وهذا هو الحلم الذي علينا أن نتمسك به، ونبشّر به الأجيال القادمة.

إن المستقبل و «القادم» لسوريا مرهون بقدرة الشعب السوري على التعافي من حقبة الأسد الدمويّة، وسرعة التحوّل إلى ثقافة البناء والإصلاح، وتأسيس الدولة، ومشروطٌ كذلك بقدرة الدول والشعوب العربيّة على دعم السوريين في تجربتهم الجديدة، وإن كان هناك مؤامرة على سوريا والسوريين، فلا يوجد أخطر من تلك المؤامرة التي تحاول إيهام السوريين بأن الماضي أفضل!

كاتب ومُدوّن من الأردن

القدس العربي

—————————————

العَلمانية مجدّداً/ حسان الأسود

26 ديسمبر 2024

عندما كان أسلافنا البشر يعبدون الشمس أو الرياح أو أرواح الأجداد، كانوا يفعلون ذلك اتّقاءً لغضبهم أو جلباً لرضاهم، وسبب هذا كلّه عدم معرفتهم بقوانين الطبيعة التي تجلب الأمطار أو تنبت الزرع أو تسبّب الفيضانات والبراكين. كان التقرّب من الآلهة، بممارسة طقوسٍ تبدو لنا الآن مضحكة لو رأيناها، محاولة بشريّة لاسترضاء الطبيعة، وهكذا كان السحر من أوائل الأدوات التي استخدمها البشر للتأثير فيها. مع ازياد التجارب وتعمّقها وتراكم الخبرات، بدأ البشر يكتشفون قوانين الكون، وهكذا راحوا يخوضون غمار العَلمنة باعتبارها نزع السحر عن العالم. فالعَلمانيّة هي بالأصل تحرير العقل البشري من أدوات التفكير الغيبيّة، واتباع منهج جديد يقوم على فهم الأشياء، من خلال فهم منطقها الداخلي وقوانينها المُحرِّكة. بهذا المعنى، كانت العَلمانيّة على الدوام سيرورة بشرية لفهم العالم والتعامل معه بأدوات متطوّرة باستمرار، قبل أن تكون موقفاً من الدين، وقبل أن تدخل لتحديد العلاقة بين مؤسّسات الحكم والمؤسّسات الدينية.

لعلّ الديانة المسيحية، باعتبارها نشأت وانتشرت في ظلّ الإمبراطورية الرومانية الوثنية، خير مثال على العلاقة المتداخلة بين الدين والسلطة. قبل أن تتبنّى الإمبراطورية الديانة المسيحية بشكل رسمي، كان المسيحيون مُجرَّد “جماعة المؤمنين المتّحدين في إيمانهم خارج السلطات الزمنية، والموالين لهذه السلطات رعاياً لا يخرجون عن طاعتها، لكنّهم يرفضون أن تفرض عليهم معتقدات لا يؤمنون بها”. لكن عندما تجذّرت المسيحية في بنية المجتمع وأصبحت الديانة الرسمية للإمبراطورية، تغيّرت الحال، وأصبحت الكنيسة في موقع القوّة لتداخلها مع السلطة الزمنية. قبل الاعتراف، كانت مطالب الكنيسة من السلطة احترام حقّ رعاياها باختيار دينهم وممارسة طقوسهم وعباداتهم، وبعد الاعتراف والتبنّي صارت مطالب الكنيسة من السلطة فرض الدين المسيحي على رعايا الإمبراطورية جميعاً. الدين (أي دين) بطبيعته يصنّف البشر بين فئتَين، مؤمنين وغير مؤمنين، وهذا الفرز لا قيمة له إذا ما كان الدين خارج السلطة، لكنّه يصبح كذلك عندما يتحكّم بها أو يتداخل معها، لأنّ مؤداه أن يميّز بين رعايا الحاكم أو مواطني الدولة على أساس معتقداتهم، فيكون هناك تمييز في الحقوق والواجبات رغم افتراض تساوي المراكز القانونية أساساً، حتى لو كان التساوي بحدّ ذاته غير عادل ولا منصف.

في الإسلام يختلف الأمر قليلاً من حيث نشأة العلاقة بين السلطة والدين، فقد جمع الرسول محمد (ص) بين السلطتين الزمنية والروحية، وبعده سار الأمر برهة قصيرة على هذا المنوال، إلى أن تحوّلت الدعوة دولة. مع إنشاء أركان الدولة الإسلامية، وتثبيت سلطتها السياسية في مساحات واسعة خارج الجزيرة العربية، أصبح للسلطة المتمثّلة بالخليفة أو أمير المؤمنين قواعد مستقلّة لإدارة البلاد والعباد لم تكن على الدوام متوافقة مع متطلّبات الدين، حتى وإن بدا ذلك ظاهرياً. يذكر ابن كثير (1373) في “البداية والنهاية” أنّ: “الخليفة عبد الملك بن مروان عندما وصله الخبر أنّ الخلافة آلت إليه كان يقرأ القرآن، فوضعه جانباً وقال: “هذا آخر عهدنا بك، هذا فراق بيني وبينك”، وخرج يخطب بالمسلمين، وقال: فإني لست بالخليفة المستضعف، ولا بالخليفة المداهن، ولا بالخليفة المأفون، ألا وإني لا أداوي هذه الأمّة إلّا بالسيف حتى تستقيم لي قناتكم. والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه”. هذا أحد مظاهر العَلمنة في سيرورة الدولة الإسلامية، فالحاكم يرى الأمور في الدولة لا كما يراها الفقيه، والاستشهاد بمذهب عبد الملك بن مروان له دلالة خاصّة لما عُرف عنه من فقه وعلم ومعرفة من جهة، ولما عرف عنه من حزم في الإدارة، وإنجازات لا سابق لها من جهة ثانية.

من بين مواضيع كثيرة طُرحت للنقاش في سورية خلال فترة الثورة، نالت العَلمانية حظّها الوافر من الجدل بين الفرقاء السياسيين والعاملين في الشأن العام، ويشتدّ النقاش حولها كلّما بدا وكأنّ الأمور باتت في محكّ الممارسة العملية، كما هي الآن بعد إسقاط نظام الجماجم والرعب الأسدي. ثمّة فهم ملتبس للعَلمانية، يخلط بينها وبين الحرّيات الفردية، فكثر من السوريين والسوريات يعتقدون أن النظام البائد كان عَلمانياً، لأنه كان يتيح للناس فسحة من الحرّية في اختيار ملبسهم ومشربهم، وبعض جوانب حياتهم الاجتماعية، كممارسة العادات والتقاليد في الأعراس أو الحفلات الخاصّة، لكنّهم لا يدقّقون في سيطرته على المؤسّسات الدينية، الإسلامية والمسيحية، من خلال التعيينات الوظيفية، والتوجيه لرجال الدين، فيما هو مسموح التطرّق إليه في خطبهم وعظاتهم وفيما هو ممنوع، ولا ينظرون إلى استغلاله المشاعر الدينية لعموم الناس كلّما احتاج لإرسال رسائله لدول الجوار أو المنظومة الدولية. لا ننسى تجييشه الشباب السوري للقتال في العراق ضدّ الاحتلال الأميركي عام 2003، ثمّ مساومة الأميركيين على مكافحة الإرهاب الذي ولّده هو. لا تغيب عن البال سياسة بناء المساجد ومعاهد تحفيظ القرآن الكريم، حتى في المدن التي لا وجود فيها لأكثرية مسلمة محافظة.

لم يكن النظام البائد في سورية عَلمانياً، بل كان نظاماً استبدادياً سخّر مقدّرات الدولة للبقاء في السلطة، ومزّق المجتمع ليضعف قواه في مواجهته. العَلمانيّة ألّا تتدخّل السلطة الحاكمة في معتقدات الناس الدينية، ولا في أساليب ممارستهم طقوسهم، ولا أن تفرض عليهم ديناً أو معتقداً أو طقساً، وأن تحميهم من أي اعتداء تأتيه جماعات تخالفهم آراءهم أو لا تعتنق دياناتهم أو معتقداتهم أو لا تتفق معهم في طقوسهم وشعائرهم وأساليب ممارستها. العَلمانية ليست كفراً ولا إلحاداً ولا هرطقة، هي بالضبط ترك مسافة بين السلطة والأديان، بين مؤسّسات الحكم ومؤسّسات الأديان، وعدم استغلال أي منها للآخر. العَلمانية بجوهرها ومبدأها الأساس هي حماية للأديان والمتدينين من عسف السلطة ومن استغلالها. وصحيح أنه ثمّة تجارب متطرّفة في التاريخ لعَلمانيات متطرّفة فرضت رؤيتها لفصل الدين عن المجتمع، لا عن السياسة فحسب، مثل فرنسا، وتركيا في عهد مصطفى كمال أتاتورك وحكم العسكر، لكن هناك في المقابل عَلمانيات كثيرة أخرى ضربت أمثلة لا تُنكَر في احترام حقوق جميع المتديّنين وغير المتديّنين، مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وغيرها كثير.

مهمّة العَلمانية المطلوبة الآن في سورية ليست التدخّل في معتقدات الناس، ولا هي مواجهة الأديان والمتدينين، بل منع استغلال الدين في السياسة لفرض شكل نظام الحكم أو شكل الدولة، المنشودين في سورية بعد قيامتها الجديدة. العَلمانية ليست أيديولوجيا ولا نظام حكم ولا موقفاً من الأديان، العَلمانية سيرورة تاريخية لفهم الطبيعة والمجتمع بموجب قوانينها الخاصّة، والتعامل معها بناءً على ذلك. من هنا، لم تكن ردّة الفعل على تلك المظاهرة في ساحة الأمويين، التي أثارت كثيراً من الجدل واللغط، واستدعت هجوماً على العَلمانية والديمقراطية، حدثاً عابراً، بل هي جزء من الاستحقاقات الراهنة التي لن يستقيم بناء سورية الجديدة من دون طرحها للنقاش العلني، والوصول فيها إلى تفاهمات مبنيّة على احترام الآراء المختلفة، وهذا جزء من النضال المستمرّ، الذي لن يتوقّف ما دام الناس يسعون للعيش مع بعضهم بعضاً.

العربي الجديد

————————–

سوريا: علمانية بمواصفات ذقن حليق/ محمد جميح

تحديث 26 كانون الأول 2024

يبدو أن أحمد الشرع، قائد هيئة تحرير الشام فوّت الفرصة التي كان ينتظرها «المتعلمنون» كي لا أقول العلمانيون العرب، ضيع عليهم فرصة تدبيج المقالات، وإجراء الدراسات عن مواضيع متشعبة، أو الكتابة تحت عناوين جذابة من مثل: «مستقبل مظلم بعد سيطرة طالبان سوريا» أو «الخطر الوجودي على أقليات سوريا بعد سيطرة الدواعش» أو عناوين أخبار من مثل: «دواعش سوريا يفجرون كنائس حلب» أو العنوان المطلوب: «مئات القتلى والجرحى إثر هجوم شنته قوات هيئة تحرير الشام على مناطق العلويين في اللاذقية» كل هذه المقالات والعناوين أغلق الشرع فيما يبدو سوقها، رغم كل المحاولات لإعادة فتح بعض الدكاكين في هذا البازار الكبير المسمى الشرق الأوسط.

ظهر الشرع في أكثر من مناسبة، وهو يسجل أهدافاً متعددة لم يكن أحد يتوقعها، كما لم يكن أحد يتوقع سيطرة قواته على دمشق، منذ اللقاء الأول له مع شبكة «سي أن أن» وهو اللقاء الذي لم يحاول فيه إنكار ماضيه، قدر ما سلط الضوء على أن هذا الماضي كان ضمن سلسلة تحولات يمر بها الإنسان في حياته، أثناء رحلته الطويلة نحو النضوج والتوازن.

وفي «بي بي سي» سئل الشرع عن فتاة طلبت منه أن تلتقط صورة معه، فطلب منها تغطية رأسها، فرد «لم أجبرها، هذه حريتي الشخصية، أحب أن أتصور بالطريقة التي تناسبني» وذكر في اللقاء أنه لا يريد تحويل سوريا إلى «نسخة من أفغانستان». وفي مناسبات عدة ظل يؤكد على أن سوريا لن تشكل تهديداً لأية دولة، فيما بدا أنها سياسة يريد بها بناء علاقات خارجية متوازنة، حتى مع الدول التي كانت تدعم نظام بشار الأسد، بالتزامن مع توجيه رسائل داخلية لجميع شرائح وفئات وطوائف المجتمع السوري بأن سوريا للجميع، وأنه لا يمكن فرض تصور مكون واحد على الشعب كله، وهو خطاب يندر أن نقع على مثله على لسان «مقاتل» لم يخرج بعد من «غبار المعركة».

هذا الخطاب، وهذه السياسة لم ترُق لعدد غير قليل ممن لبس لباساً علمانياً، ليخفي به حقيقة توجهه الطائفي أو العرقي أو الأيديولوجي الذي بسببه يناصشب الثورة السورية العداء، على أساس أنها ليست ثورة «علمانية حداثوية ليبرالية» وإنما ثورة مجموعة من أصحاب «اللحى السوداء» الطويلة الذين ستدخل معهم سوريا حقبة مظلمة من الرجعية والتخلف والتشدد الديني.

وبما أن سياسة الشرع لم تلب رغبة أولئك المتعلمنين في فتح سوق لبيع بضاعتهم القائمة على وجود التشدد الديني، وعلى جماعات مثل داعش والقاعدة، بما أن الأمر اختلف هذه المرة، وبما أن رياح أحمد الشرع لم تأت بما تشتهيه سفن هؤلاء «العلمانيين جدا» فإنه لا بد لهم من إجراء «فحص النوايا» وعدم الاكتفاء بذلك، بل لابد لهم كذلك من تلفيق مقاطع فيديو، وضخ كم كبير من المعلومات المضللة، لغرض التشويش والتشويه، وهو ما جعلهم يبالغون في إبداء تشاؤمهم إزاء النظام السوري الجديد.

وهنا أسهبت «كتيبة الكتبة» تلك في الحديث عن ذهاب عصر الحريات الشخصية، وحرية المرأة على وجه التحديد، وبدؤوا يتحدثون عن اللحى، وطولها وحجمها ولونها، ويستخدمون تقنيات الذكاء الاصطناعي والفوتوشوب لتركيب وضخ صور ومقاطع لا حصر لها تشير إلى دخول سوريا حقبة «العصر الحجري».

وأصبحت مناقشة مستقبل «الخمور» في سوريا الجديدة أهم من مستقبل سوريا ذاتها، وأهم من مصير شعبها، وغدت سوريا بكل تاريخها وحاضرها ومستقبلها، بكل ما فيها من زخم وغنى ورمزية وثقل وموقع، سوريا تلك أصبحت محشورة في «قارورة ويسكي» يهم «العلماني العربي» أن يطمئن إلى مصيرها، قبل أن يصدر حكمه النهائي على نظام أصحاب «اللحى السوداء»..

وبدلاً من إثارة أسئلة حول شكل الدولة، وتوزيع السلطات ضمن النظام السياسي الجديد، بدلاً من التطرق للوضع الاقتصادي في بلد دمره «نظام علماني» وبدلاً من الكتابة عن الحلول اللازمة للأزمات التي تواجه البلاد على المستويات كافة يريد هؤلاء المتدثرون بزي العلمانية أن يطمئنوا ـ على مستقبل سوريا الجديدة ـ بل على مستقبل قارورة الويسكي، وموضة الأزياء النسائية التي مثلتها ،حرم السيد الرئيس،.

هذه علمانية غريبة وعجيبة، يمكن أن يقال عنها كل شيء إلا أن يقال إنها علمانية، لأنها تمثل مجموعة من الأحقاد الطائفية والتوجهات الانتهازية والضمائر المعطوبة والغرائز المقنعة، والعمى الأيديولوجي، كل ذلك يتم إخراجه للشعوب العربية على أنه هو العلمانية التي تمثل – في نسختها العربية – حلول كل المشاكل في هذه البقعة الجغرافية التي لا تنتهي إشكالاتها ومشاكلها.

المثير في الأمر أن ثلة من «العلمانيين العرب» أقاموا مناحات على «نظام علماني حداثي» كان يحكم سوريا، وكانت زوجة رئيس ذلك النظام تشارك في الفضاء العام، بشعرها ذي التسريحة الجميلة، وملابسها الأنيقة، ومظهرها الحضاري، كرمز لسوريا الحداثية التي كانت قلعة للعلمانية والحداثة وحقوق المرأة التي تهم «العلمانيين العرب» بشكل مبالغ فيه، وهي حقوق على أية حال لا تشمل المعتقلات اللاتي وجدن مع أبنائهن في سجون صيدنايا وغيرها من سجون «النظام الأسدي العلماني» الذي أسقطته «ثورة اللحى السوداء» ذات «التوجهات الرجعية» أو لنقل «النظام المقاوم الثوري» الذي أسقطه «عملاء أمريكا وإسرائيل».

من حق الجميع أن يطمئن على مستقبل سوريا مع وجود نظام جديد، إذ أن الجديد بحمل معه التوجس والمخاوف لدى شرائح مختلفة، ولكن ما يضخ اليوم من كم هائل من الكتابات تعدى قضية المخاوف المشروعة، بل وتعدى «محاكمة النوايا» إلى نوع من التلفيقات والفبركات المفضوحة التي اتخذت موقفاً مسبقاً ضد الثورة السورية، وهو موقف مبني على «آيديولوجيا دوغمائية» لديها أحكام جاهزة مبنية على تصورات مسبقة ضد كل من يخالفها، وهذه الأحكام وتلك التصورات تنتمي لسياقات مؤدلجة تنتمي بدورها لفترات زمنية بعيدة، لا تزال «العلمانية العربية» تغترف من قواميسها، متجاهلة أن مياهاً كثيرة قد جرت تحت الجسر، وأن ما تقوم به ينتمي لضرب من «العلمانية المؤطرة» أو «العلمانية المؤدلجة» التي تسعى لنفي الآخر، وليس تلك العلمانية التي تؤمن بحقوق الجميع، وتعترف بالآخر شريكاً أساسياً في البناء، مهما كانت درجة الاختلاف معه.

نحن اليوم إزاء علمانيين يرون أن الفرق بين النظم العلمانية والأخرى الدينية يتجسد في طبيعة الفرق بين ذقن بشار الأسد الحليق وذقن أحمد الشرع الملتحي، ولذا فإنهم يمكن أن يصطفوا مع الأسد «الديكتاتور الحليق» ضد الشرع «الثائر الملتحي» بناء على تقييمات سطحية تركز على وجود الشعر من عدمه في الوجه، وهي تقييمات تبعث على الكثير من الأسى والسخرية في الآن ذاته.

كاتب يمني

القدس العربي

———————

10 أيام هزت العالم: ابن خلدون في قطار لينين؟/ حسام الدين محمد

تحديث 26 كانون الأول 2024

ركّزت تقارير وتحليلات صحافية وتعليقات من الساسة والناشطين والجمهور العام على مسألة الفترة القصيرة التي فصلت بين انطلاق هجوم فصائل المعارضة العسكرية السورية على حلب شمال سوريا في 27 نوفمبر (تشرين الثاني) ودخولها العاصمة دمشق الذي أعلن سقوط النظام السوري وفرار رئيسه بشار الأسد في 8 ديسمبر (كانون الأول).

من ذلك تقرير نشرته قناة سي إن إن الفضائية بعنوان «كيف سقط نظام الأسد في 10 أيام بعد صموده 13 عاما؟»، ومقال تحليلي نشرته قناة «الجزيرة» بعنوان: «القصة الكاملة لسقوط نظام الأسد في 12 يوما». كان طبيعيا، بالتالي، أن يستذكر عديدون عنوان الكتاب الشهير للصحافي الأمريكي اليساري جون ريد، «عشرة أيام هزّت العالم»، الذي كتبه عن مشاهداته عن الثورة الروسية عام 1917، فنشر الكاتب الأردني المقيم في فرنسا خيري جانبك مقالة بالإنكليزية بعنوان: «سوريا: عشرة أيام هزّت العالم»، واستخدم مثقفون سوريون (مثل برهان ناصيف، وإسماعيل رفاعي، وعبد الله أمين الحلاق) العبارة على فيسبوك، وكتب نعيم موسى على صفحته: «27/11 – 8/12 عشرة أيام هزت العالم. جون ريد».

يشير عنوان مقالي هذا، من جهة أخرى، إلى ملابسات رحلة القطار المغلق الذي أخذ لينين، قائد البلاشفة، من زيوريخ، حيث كان يقيم، إلى بتروغراد (سان بطرسبرغ)، حيث كانت تعتمل أحداث الثورة الروسية. كان تهريب لينين مغامرة سياسية من ألمانيا، التي راهنت على أن تؤدي تداعيات نشاطات البلاشفة الثورية لإخراج روسيا من الحرب ضدها بحيث يركز الألمان جهودهم على محاربة البريطانيين والفرنسيين على الجبهة الغربية، ولكن تأثير انتصارهم تجاوز أكثر التوقعات تطرفا. لقد نجح مسعى ألمانيا في عقد السلام مع روسيا مع إعلان البلاشفة الانسحاب من الحرب وتوقيع اتفاقية سلام مع برلين، لكن القرارات الأولى للينين تضمنت أيضا مصادرة الأرض، وتأميم الصناعات الرئيسية والمصارف، ودعم الثورات في العالم عبر الأحزاب الشيوعية.

أمميات شيوعية وإسلامية!

ليست سوريا، التي فتحتها فصائل المعارضة خلال 12 يوما، سوى بلد صغير ضعيف ومقسّم ومهدّد، مقارنة بالامبراطورية الروسية المذكورة، لكن المفارقات التي خلقها الحدث السوري، جديرة بالتأمل العميق في مشتركات واختلافات المنعطفات التاريخية، التأمل الذي يتجاوز مجرّد استذكار عنوان كتاب جون ريد.

مفيد في هذا السياق، مثلا، مقارنة مواقف الامبراطوريات القديمة ودول أوروبا من حركات الشيوعية المختلفة في تلك الحقبة باعتبارها خطرا وجوديا وأمنيا جسيما، ومواقف العالم حاليا من الحركات الإسلامية، التي احتلّت لدى الدول وأجهزة الاستخبارات في العالم المرتبة التي انزاح عنها الشيوعيون (بل وأصبح بعض هؤلاء، كما هو حال حزب العمال الكردستاني، الماركسي الاتجاه، مدعوما عسكريا من أمريكا – خصم الشيوعية السابق العنيد – لاستخدامه في القتال ضد «الدولة الإسلامية» – أكثر التنظيمات «أممية»، وعنفا، وتطرفا في حركات الجهاد الإسلامية – والأكثر حداثة وتعبيرا عن تعقيدات عصرنا على ما يرى كتاب غربيون معروفون).

تجتمع في المشهد الواسع للحدثين المتباعدين زمنيا، الروسي والسوري، عناصر أخرى أيضا، يمكن ملاحظتها، مثل وصول جيشي الدولتين، إلى حالة أقرب للانهيار بعد حرب طويلة، ووجود أشكال عنيفة من الاحتراب الأهلي، والتدخّلات الأجنبية. تُخلي هذه التشابهات، المكان لمفارقات كبيرة، تحتاج أدوات أكثر تفحّصا في قراءة التاريخ.

ماركس «ابن خلدون أوروبا»

يُشير محمد عابد الجابري، في مقالة له بعنوان «بين ابن خلدون وماركس» إلى أن بعض الماركسيين العرب في الستينيات من القرن الماضي أخذوا ينظرون إلى ابن خلدون بوصفه رائد «المادية التاريخية»، مما حدا ببعضهم لإطلاق اسم «ماركس العرب» على صاحب «المقدمة».

يعقّب الجابري على ذلك بالقول إن ابن خلدون كان يفكر في موضوع «الدولة» داخل إطار محدد هو التجربة التاريخية العربية، ولكن هذه «التجربة الخاصة» بقيت تحظى باهتمام خاص بعد قرون هو انطواء عنصر «الخاص» فيها على اتساع وعمق، وهو يشبه ما فعله ماركس حين حلل واقع المجتمع الأوروبي تحليلا أبرز فيه ما ينطوي عليه عنصر «الخاص» في ذلك المجتمع من اتساع وعمق جعل عنصر «العامّ» الثاوي وراءه يلقي بظلاله على أنواع أخرى من «الخاص» تبدو وكأنها هي التي تحتل محلّ العام في التجارب التاريخية الأخرى، وعليه، يرى الجابري، أنه مقابل هذا الإعجاب بابن خلدون بعد ماركس كان يمكن أن يتحول الى إعجاب بماركس بوصفه «ابن خلدون أوروبا»، لو أن الأوروبيين تعرفوا بعمق على صاحب «المقدمة»، قبل مجيء ماركس.

يقول الجابري إن المقصود بهذه المقارنات ليس تضييق الشقة بينهما بل إبراز مدى التقارب او التباعد بين النتيجتين: توصل ماركس إلى أن «مشكلة المجتمع الأوروبي الصناعي» في عهده تكمن بـ»التناقض بين الطابع الجماعي لعملية الإنتاج والطابع الفردي لملكية وسائل الإنتاج»، بينما وصل ابن خلدون لنتيجة مغايرة وهي ان مشكلة المجتمع العربي في عهده هي في «التناقض بين خشونة البداوة ورقة الحضارة»، وخلص الجابري إلى أن ماركس اقترح حلا للتناقض الاجتماعي – الاقتصادي (تأميم وسائل الإنتاج، الاشتراكية)، أما ابن خلدون فلم يجد حلا.

كان الكاتب التركي حكمت قفلجملي، أحد الروّاد في مجال استكشاف العلاقات بين الإسلام والشيوعية، وقد تناظر التزامه السياسي الشيوعي مع تأسيس الجمهورية التركية 1923، أي بعد سنوات قليلة من انتصار الثورة الروسية. سُجن قفلجملي، على مدد متقطعة، بسبب نشاطاته السياسية لما يقارب عشرين عاما، وكان أول مترجم لـ»رأسمال» ماركس، ومؤسسا لحزب «الوطن» عام 1954 المحظور أيضا، ولدار نشر نشرت أغلب أعماله الكثيرة التي ما تزال مؤثرة في الحياة السياسية التركية، ومن عناوينها: «الله – النبي»، «مقالات حول الدين والسياسة»، «الفتح والحضارة»، و»آثار الدين على المجتمع التركي» الخ.

قرأت في مطلع شبابي كتابه «التاريخ العثماني – رؤية مادية» مترجما وبقيت في ذاكرتي نظريته التي أضافت للأفكار التقليدية للمادية التاريخية عنصر تغيير كبير في التاريخ تمثّله هجمات القبائل البدوية التي ساهمت في سقوط الحضارات ونشوء أخرى.

الشيوعي الإسلامي الوحيد!

اعتبر قفلجملي صعود الإسلام نوعا من «الثورة التاريخية»، وأن المسلمين الأوائل عاشوا حياتهم بطريقة «اشتراكية بدائية»، وأن مجتمعاتهم، وعلى غرار الحضارات القديمة، تبدأ بالتخلي عن جذورها الثورية بعد تركز السلطة في أيدي النخب القبلية.

في تطبيق عمليّ لهذه النظرية ألقى قفلجملي خطابا في إسطنبول خلال حملة انتخابية لحزبه «الوطن» عام 1957، في منطقة حي أيوب موضحا سياسة الحزب باستخدام أقوال النبي وآيات من القرآن، وبسبب هذا الخطاب تم اتهامه باستخدام الدين كأداة سياسية، وكان الشيوعي الوحيد الذي اتهم بهذا الجرم في تركيا!

يقدّم الحدث السوري، وقبله حدث انفجار الاتحاد السوفييتي، خلاصة تفكك تحليل الجابري وانتصارا لابن خلدون على ماركس، فحل لينين للتناقض الاجتماعي بتأميم وسائل الإنتاج، انتهى بتأميم المجتمع بأكمله، وبتحوّل “دكتاتورية البروليتاريا” إلى طغيان سلطة مطلقة لفرد متخفّ وراء حزب (ستالين وخلفائه)، أما نسخ ذلك العربية، ونظام الأسد أحد أكثر أشكالها تغوّلا، فكان عصبية طبقية وطائفية، أممت المجتمع، ثم صادرته بأكمله، وجوّفت الدولة، وعطّلت الحياة العامة، وحوّلت البلاد إلى مقبرة وآلة للقتل والنهب والفساد، حتى جاءت عصبيّة أخرى فقوّضتها وهدمت هيكلها المرعب المؤبد خلال 12 يوما.

كاتب من أسرة «القدس العربي»

القدس العربي

——————–

قطار الشرع السريع… ارتدادات إقليمية للحدث السوري/ عبد الرحمن الحاج

26 ديسمبر 2024

لا يزال من المبكّر معرفة تداعيات الحدث المدوّي وارتداداته بشكل مؤكّد، إذ من المحتمل أن تفاعلات عميقة متفاوتة السرعة تعتمل في المجتمعات العربية والدول الإقليمية يصعب رصدها أو توقّعها. وعلى الرغم من أن الانفجار السياسي الكبير الذي حدث في دمشق أدّى بشكل رئيس إلى تحطيم محور طهران – بيروت، فإن الشظايا السياسية طاولت الإقليم كلّه، وما بعد الإقليم، وفرضت على الفور جملةً من المعطيات، جعلت المنطقة على نحو مفاجئ أمام وقائع لا يمكنه تجاهلها:

أولاً، انتصار ثورة في “الربيع العربي” ضدّ دكتاتور طاغية تخلّى عنها الجميع تقريباً، ثم أريد لها أن تكون عبرة لغيرها في الفشل، وعملوا على وأدها، أو التعامل معها ملفّاً مرفقاً للعلاقة مع إيران، ثمّ سعى الجميع إلى استرضاء الأسد وتعويمه.

ثانياً، قيام نظام سياسي جديد، يسعى إلى أن يكون ديمقراطياً في محيط عربي غير ديمقراطي بالمرّة.

ثالثاً، قاد الانتصارَ إسلاميون كان العرب يحاربونهم منذ عقد بالطرائق المتاحة كلّها، بسبب ارتباطهم بـ”الربيع العربي”، فمعظم الدول التي حدثت فيها ثورات من “الربيع العربي” كان الإسلام السياسي فيها وريث الأنظمة الدكتاتورية في المراحل الأولى. تضاعف ذلك الخوف أيضاً لأن التنظيم الذي قاد إطاحة النظام بالقوة مصنّف “إرهابياً”، وقائده كان في رأس جائزة بعشرة ملايين دولار بصفته “إرهابياً” مطلوباً للولايات المتحدة، ويشكل خطراً على أمنها القومي.

رابعاً، إحباط مشروع لتقسيم سورية بهدف إضعاف إيران وطردها كان عرب ضالعين فيه، لكن اجتثاث مليشيات إيران بشكل جذري على هذا النحو جعل هذا المشروع منتهيا.

خامساً، وجود تركيا في الصورة بقوة، إذ لا يمكن إنكار أنها كانت الشريك الرئيس للمعارضة التي تخلّى عنها الجميع، والجارة القوية اقتصادياً، فضلاً عن أنها ذات نظام ديمقراطي.

سادساً، الخوف من عودة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، الذي لا يزال يملك خلايا في مثلّث صحراوي في الحدود الأردنية العراقية السورية، جنوب دير الزور، وصولاً إلى تدمر غرباً، والبوكمال جنوباً.

في مقابل هذه الوقائع، ثمّة هواجس انبثقت على الفور مع نبأ سقوط الأسد، وهي أساساً احتمال انتشار الفوضى وعمليات انتقام واسعة وانعدام الأمن في الحدود، وانهيار مؤسّسات الدولة، والاضطرار للتعامل مع الإسلاميين، مع ما يعنيه ذلك من قلق من إحياء آمال الإسلاميين في المنطقة وتشجيعهم على تقليد السوريين، ثمّ الخوف الجيوستراتيجي المتعلّق بملء الفراغ السياسي الذي خلّفه خروج الإيرانيين والروس، وتركيا بطبيعة الحال الكاسب الأكبر، وكانت طوال الوقت الحليف الإقليمي شبه الوحيد للمعارضة، بالإضافة إلى دولة قطر.

في مقابل المخاوف، ظهرت على الفور مكاسب استراتيجية لم يكن يحلم بها الإقليم، منها إنهاء أشكال الوجود الإيراني كلّها، واقتلاع جذوره من سورية. كما مُنِح لبنان فرصة استعادة الدولة مع قطع الذراع الإيرانية في سورية، وإنهاء آمال حزب الله في الاعتماد على الأراضي السورية مكاناً لأنشطته، وفي محاولة إعادة بناء نفسه بعد أن تعرّض لاستهداف شديد في شهرَي سبتمبر/ أيلول وتشرين الأول/ أكتوبر (2024). أيضاً انتهى إنتاج (وتجارة) الكبتاغون، والمخدّرات الأخرى (الكريستال الإيراني، الحيشيس)، وهو أمر كان يشكّل أداةَ ابتزاز سياسي وخطراً كبيراً على الدول المجاورة، ومصدر قلق شديد. كما أصبح في سورية نظام سياسي جديد يهدف إلى وقف الحرب وغير قادر على مزيد من الحروب، ويسعى إلى السلام، ليتمكّن من بناء بلاد مدمّرة بالمعنى الحرفي للكلمة، مع ظهور خطاب سياسي مسؤول، ومقبول ومطمئن، يسعى إلى بناء علاقات قائمة على الاحترام المتبادل، وطي صفحة الماضي.

عكس أداء قائد قيادة العمليات العسكرية التي يرأسها أحمد الشرع مفاجأةً، فقد أظهر كثيراً من المرونة والتفهّم لهواجس الدول، وبدا أنه تجاوز سريعاً دهشة الوصول إلى رئاسة الدولة والجلوس في قصر الشعب، وهو الذي كان أقصى طموحه، قبل أقلّ من شهر، السيطرة على حلب، فإذا الدولة الآن كلّها بين يديه، وساهم انتقال السلطة السلس ووقف إطلاق النار (مع وجود دول راعية) في تخفيف حدّة الهواجس. وفجأة بدأ قطار دمشق يتحرّك، منذ اليوم الأول للسقوط، فقد كانت الولايات المتحدة الحليفة للمعارضة السورية (أقله نظرياً) قد التقطت بسرعة المكاسب الجيوستراتيجية الهائلة، وأعلنت عن احتمال مراجعة تصنيف هيئة تحرير الشام في لوائح الإرهاب، وإلغاء ما يتعلّق بالجائزة المخصصة للقبض على أحمد الشرع بصفته “إرهابياً”. أعطى هذا مؤشّراتٍ للجميع بأن المكاسب الكبيرة للغاية التي تحققت بإسقاط النظام، لا ينبغي تفويتها، بل يجب تثبيتها، والتريّث في التعامل مع القادة الجدد.

لا يتعلّق المكسب بإيران، بل بالوجود الروسي في سورية، خسارة روسيا الكبيرة في سورية، تجعل سورية في فضاء حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وذلك أن حلفاء القادة الجدد هم تركيا والولايات المتحدة، ودول مرتبطة بهما، وإذا كنا نريد أن نرى الصورة الكبيرة أكثر، فإن سورية فعلياً صارت جزءاً من المجال الحيوي لحلف الناتو، وبقدر ما يجلب ذلك من مصالح ويساهم في بناء جيش احترافي على أسس سليمة، بدل الجيش الطائفي المتهالك في البنية والعتاد، فما من شكّ بأن الجيش السوري حالياً سيتأثّر بهذا الوضع الجديد في البنية والتسليح أيضاً، ثمّة خطر أن يفقد السوريون التوازن، وأن تقلّ قدرتهم على القرار المستقل عسكرياً. ما جرى في سورية يقود إلى أن إعادة بناء الجيش وليس إعادة هيكلته هو ما يجب أن يتم. الحقيقة أن الجيش انتهى، ودُمِّرت آلته العسكرية. كان عماد الجيش ضبّاطا معظمهم علويون موالون (وهذه حقيقة أقرّتها البحوث والدراسات عن سورية وليست توصيفاً طائفياً)، وكان صفّ الضباط متطوعين، ومن تبقّى منهم حتى عام 2024 مشاركين في الجرائم، وخصوصاً القيادات الميدانية، ولم يكن ممكناً أن يحاربوا. لذلك اختفى جميعهم مع انهيار النظام، ولم يعد ثمّة طريق سوى إعادة بناء الجيش من مقاتلي الفصائل بصفتهم أفراداً، من خلال عسكريين منشقّين وخبرات للدول الصديقة. سيكون بناء الجيش وأجهزة الأمن من جديد على أسس سليمة هو الضمان لاستقرار البلاد والانشغال بالإعمار من دون الغرق في حروب الآخرين.

أصبحت حركة قطار الشرع سريعة في الأيام التالية، بدأت الوفود الغربية بالوصول إلى دمشق للقاء القادة الجدد، الفرنسيين أولاً والبريطانيين والألمان، ثمّ الأميركيين والأتراك، وأخيراً بدأت الدول العربية تركب عربات القطار قبل أن يفوتها وتصبح مقاعدها مشغولة. يتعيّن علينا مراقبة ارتدادات ما جرى (ويجري) في سورية، إذ ستكون الدول العربية أمام خمسة تغيّرات: الأول إصلاحات سياسية حقيقية تعزّز التحوّل الديمقراطي، تلاقي الاندفاعة السياسية للشباب التي قد تتولد صدىً للحدث السوري، ولن يكون بالإمكان بعد الآن الحفاظ على إصلاحات شكلية ومحدودة تُبقِي الأمل مغلقاً. الثاني، مراجعة الموقف من الإسلام السياسي، واتخاذ موقف أكثر مرونة وعقلانية لاحتوائه. الثالث، دوران عجلة التنمية دوراناً رئيساً في المحور السوري الأردني السعودي. الرابع، تحوّل سياسي في لبنان والعراق، يبدأ من إعادة صياغة العقد الاجتماعي اللبناني (أو مواجهة انتفاضة لا تزال ذكراها قريبة في لبنان)، وتفكيك الحشد الشعبي إذ لم يعد له عمل. الخامس، اندثار التنظيمات العنيفة القائمة على المظلومية السنّية، وفي رأسها “داعش”، على الأقلّ في بلاد الشام والجزيرة، خصوصاً أن القيادة العسكرية في سورية قادرة على تفكيكها ولديها خصومة دامية وخبرة بشبكاتها الجهادية، وسبق أن قضت عليها في جميع المناطق التي سيطرت عليها سابقاً.

سيتعين على إيران أكبر الخاسرين التكيّف مع الوضع الجديد، وإعادة تعريف علاقتها بالمجال الحيوي (العراق ودول الخليج)، وإسقاط سورية ولبنان من حساباتها، وتخفيف طموحاتها النووية، بما يسمح بعقد اتفاق مع الولايات المتحدة يتيح لها انفراجاً اقتصادياً يعيد لها القدرة على التنمية والتخفيف من النقمة لدى الشعب الإيراني، ولعلّ أكبر ارتداد سياسي محتمل سيضرب إيران، بالنظر إلى أن النظام الإيراني الذي يعاني من مجموعات أزمات، فضلاً عن انتفاضة مستمرّة لم ترقَ إلى ثورة بعد، لكن احتمال تحوّلها ثورةً كبير، سواء قامت طهران بإصلاحات سياسية أم لا.

بالمجمل، التغيرات الكبيرة بدأت، وهي تغيرات سريعة وخاطفة تدخل بها المنطقة عصراً جديداً بعد نحو عقد ونصف العقد من أكثر الحقبات سوداوية في المنطقة.

قطار التغيير انطلق… مرحباً بكم في شرق أوسط جديد كما لم نتخيّله.

العربي الجديد

——————————

سلام لسورية/ صقر أبو فخر

26 ديسمبر 2024

ها هي سورية تمرّ اليوم بانعطافة تاريخية هائلة، إما أن تعود قمراً يُزيّن بلاد الشام كلّها، أو تغرق في الفوضى والرثاثة والاحتراب. ومهما تكن التوقّعات، فقد أذهلت سورية نواظر العرب جميعاً في ديسمبر/ كانون الأول 2024، وأصابتنا كلّنا بالذهول الممزوج بالفرح والقلق معاً. مبارك إذاً ما فعل السوريون الذين احتملوا النوائب كلّها أكثر من 50 سنة. وتقدّم لنا الحوادث السورية الجارية حكمةً ساطعةً هي أن من المحال توقّع ثوران البراكين التي تبدو خامدة، أو الاعتقاد أن اشتعالها يقارب المحال. لنتذكر أن شيوخ الأزهر، حين سمعوا صوت القنبلة الأولى التي أطلقها جيش نابليون بونابرت على القاهرة، راحوا يردّدون بجزع: “يا خفي الألطاف نجّنا ممّا نخاف”. وكانت والدتي لا تنفكّ داعيةَ صبحَ مساء “اللهم استرنا من اللايذات”، أي من اللائذات بتخفيف الهمزة. واللائذات هي الأمور الخفيّة غير المنتظرة التي تلوذ بالريبة والعواقب السيئة. وها أنا الآن “أدعو” من صميم قلبي، مثل شيوخ الأزهر ووالدتي، أن تتجنّب سورية اللائذات القاتلة كي تسلك طريقها نحو الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة والعروبة. نعم، العروبة المتجدّدة إطاراً تاريخياً وحضارياً وثقافياً، علاوة على أنها إبداع لغوي ومعرفي وثقافي لمعظم السكّان، لا العروبة الإقصائية المتعالية أو حتى العروبة الرومانسية. والدرس الذي قدّمته سورية في ديسمبر (2024) أن على الكُتّاب وراصدي الأحوال، وصاحب هذه المقالة منهم إلى حدّ ما، ألا يجازفوا في استنتاجاتهم؛ فالوقائع فضحت كثيراً من التحليلات السائبة والخائبة وأصحابها المتعالمين. لقد حذفت الحوادث السورية من رؤوسنا، خلال أسبوع فقط، كثيراً ممّا كنّا نردّده، ورمَتْ في سلال المهملات أطناناً من الهذيانات السياسية التي يندرج بعضها في مساخر الكلام، فيما يبدو بعضها الآخر باهتاً بلا أيّ تعبير أو اعتبار. ويحلو لكاتب هذه السطور أن يستعير من الأديبة السورية الكبيرة غادة السمّان عنوان روايتها المشهورة “يا دمشق وداعاً” (للقاصة السورية أُلفة الإدلبي أيضا مجموعة عنوانها “وداعاً يا دمشق”) ليقول إن دمشق (بل سورية) التي عرفناها جيداً منذ مطالع سبعينيّات القرن المنصرم، اندثرت، أو هي في طريقها إلى الاندثار، ولن تعود أبداً. وما عرفناه منها في الحقبة الدارسية ستبقى آثاره ماثلة بالتأكيد، لكن كباقي الوشم في ظاهر اليد. وقبل ألف و400 سنة وقف آخر حاكم روماني لسورية باكياً عند ثغر أنطاكيا، بينما قواته تتقهقر أمام جحافل الفتح العربي، وقال: “وداعاً يا سورية؛ وداعاً لا لقاء بعده”. الحدث السوري الذي أصابنا بالذهول والانبهار، سيُذهل أبصار القوى السياسية السورية الجديدة، نرجو ألا يُذهب معه نورها وبصيرتها في الوقت نفسه. ومهما يكن الأمر، فإن سورية الجديدة التي نتطلع إليها هي سورية العربية الديمقراطية القوية. وفي ما عدا ذلك لن تكون سورية إلا سورية الممزّقة والضعيفة والمفكّكة الملتصقة أجزاؤها بلا التحام حقيقي، وهذه هي مصلحة صافية لإسرائيل أولاً، ثمّ لتركيا، مثل حال العراق المفكّك متلاصق الأضلاع الذي هو، في حالته تلك، مصلحة إيرانية خالصة وإسرائيلية أيضاً. وما نخشاه حقّاً أن تكون غاية إسرائيل في تدمير كلّ شيء في سورية (حتى الجمارك ومراكز البحوث العلمية) هي فرط الجماعة الوطنية السورية، وبالتالي فرط آخر تعبير عن الدولة التي نشأت عقب الاستقلال عن فرنسا في سنة 1943. وما تفعله إسرائيل إنّما هو تعبير همجي عن “نظرية كوم النمل”، أي إنزال القبضة العنيفة على كوم النمل، فيموت مَن يموت، وتهرب البقايا في جميع الاتجاهات، ثمّ يعاود النمل التجمّع مجدّداً، لكن تحت الهيمنة الجديدة للقبضة الحديدية القديمة.

هناك نغمات سياسية ترنّ بين الفينة والأخرى، وتدعو إلى صوغ دستور جديد لسورية ينصّ على أن في سورية قوميتَين متساويتَين هما العربية والكردية. لماذا إذاً تُغفَل الإثنيات الأخرى كالأرمن والتركمان والشركس والأرناؤوط والداغستان واليونان والفرس؟ هنا، في هذه الحال، لا يُعتدّ بالعدد البتّة. لنتذكّر (إن كانت الذكرى تنفع) أن انسحاب ممثّل حزب الوحدة الديمقراطي الكردي من مؤتمر المعارضة في إسطنبول (15/7/2011)، كان قد دقّ مبكّراً جرس الإنذار في هذا الميدان حين اعترض على عبارة “الجمهورية العربية السورية”، وطالب باستخدام عبارة “الجمهورية السورية” فحسب.

سورية بلد عربي تماماً، مثلما أن فرنسا فرنسية، وألمانيا ألمانية، وإيطاليا إيطالية، وإسبانيا إسبانية. ولا يحتمل الوضع السوري الخطر والخطير جدّاً مثل هذه “المرقعة” السياسية الفارغة، ولا سيّما أن الدساتير الحديثة والمدنية والديمقراطية لا تقوم على الرابطة القومية، بل على رابطة المواطنة، وأن تعاقد المواطنين مع الدولة هو دستورياً تعاقد بين مواطنين أحرار متساوين، أي بين مواطنين ودولة ديمقراطية، لا بين جماعات ودولة. فالقومية هي رباط حضاري وتاريخي وثقافي ولغوي تربط بين مجموعة من الأفراد لها هُويَّة محدّدة، لكنّها ليست رابطة لهذه المجموعة مع الدولة. فالإثنيات في سورية (وهي جماعات أقلّوية وبعضها حديث الوجود في سورية)، يمكنها أن تعبّر عن هُويَّتها بحرّية تامّة من خلال هيئات المجتمع المدني، أي من خلال الجمعيات الثقافية والمؤسّسات التعاضدية والأندية الرياضية والفنية وغيرها، وتستطيع أن تطوّر شخصيتها الإثنية أو القومية، وهُويَّتها التاريخية، بالاعتناء بالفلكلور واللغة والأزياء والطعام والتاريخ والثقافة. ولهذا يصبح من الضروري التشديد في سورية المقبلة على عدم مشروعية قيام أحزاب دينية أو إثنية. فالأحزاب الديمقراطية تكون مفتوحة لجميع أفراد الشعب بصفتهم مواطنين أحراراً في دولة حرّة، وليس بصفتهم أفراداً في جماعة دينية أو إثنية أو قومية. وهذا يعني أن القانون مُلزَم بمنع جماعة كالإخوان المسلمين مثلاً من تأليف حزب كهذا، لأن القانون لو أباح الحقّ لهؤلاء في تأليف حزب بهذه التسمية، لكان عليه أن يبيح في الوقت نفسه قيام حزب للإخوان المسيحيين، وحزب للإخوان العلويين، وحزب للإخوان الدروز، وحزب للإخوان الإسماعيليين، وحزب لإخوان الشياطين… وهكذا. وفصل المقال في هذا المقام أن أيّ حزب تكون العضوية مقصورة فيه على طائفة أو إثنية أو قومية هو حزب غير مقبول على قاعدة المواطنة والديمقراطية والمساواة والعدالة. فالحزب مؤسّسة من مؤسّسات المجتمع المدني، أي أنه ميدان سياسي متاح لجميع المواطنين، وليس لفئة واحدة، ولا يجوز أن تكون عضوية حزب ما محصورة بجماعة من السوريين دون غيرها، أو بطائفة دينية دون أخرى. وأيّ حزب يجب أن يكون متاحاً ومفتوحاً لجميع المواطنين بلا استثناء.

ظهرت الدولة الحديثة في أوروبا بالتدريج دولةً تعاقديةً بين المواطنين الأحرار، أمّا الدولة العربية الأولى فظهرت (منذ البداية) دولةً لجماعة “ّدمّية”، أي أن الرابط الأساس بين الحاكمين والرعية هو رابطة الدم، ولم يكن من المستغرب في تلك الحال أن تسمّى الدولة باسم القبيلة كالدولة الأموية والدولة العباسية والدولة العثمانية والدولة السعودية والدولة الهاشمية. أمّا الأمّة (واستطراداً القومية)، فلها حقل آخر، ولا سيّما أننا نتعرّض هنا للدولة المقبلة في سورية، وليس لمفاهيم الأمّة وهي كثيرة. لنتّخذ ألمانيا مثالاً لذلك، حيث الأمّة هي التي أنشأت الدولة على أساس عرقي وتاريخي ولغوي. وفي فرنسا فإن الدولة هي التي أسّست الأمّة على أساس قيم عصر الأنوار ومبادئ الثورة الفرنسية، وفي مقدّمها العَلمانية. وفي أميركا وكندا وأستراليا، فالدولة، وهي دولة مستوطنين مهاجرين، هي التي أسّست الأمّة على أساس المواطنة لا على أساس الإثنية. بينما في إسرائيل وجنوب أفريقيا، فالمهاجرون أنشأوا دولةً على أساس عنصري وفي سياق كولونيالي. ومع ذلك، فقد انتهت الدولة العنصرية في جنوب أفريقيا، ولم يبقَ من العصر الكولونيالي إلا دولة إسرائيل الفاشية. فعلى أيّ أساس يريد بعضهم أن يقيم سورية الجديدة؟ أَعلى أساس إثني أم على أساس الشريعة أم على أساس المواطنة المتساوية؟ وهذا كلّه يُضاف إلى التحدّيات، وهي كثيرة، وإلى المشكلات المتراكمة وهي أكثر من أن تُحصى؛ فمطالب الإثنيات (الكرد والتركمان والسريان والأشوريين والكلدان)، تهدّد بتمزيق ما بقي من النسيج السوري المتهتّك. وثمّة مصير المليشيات (حيث لا دولة مع وجود المليشيات)، وهو أحد التحدّيات العاجلة. وكذلك الاحتلال الإسرائيلي ومصير الجولان، وهما نقطتان شديدتا الأهمية للدولة الجديدة، علاوة على الدستور الجديد الذي سيحدّد صورة سورية المقبلة، دولة مركزية أو لامركزية أو فيدرالية أو كونفيدرالية (؟).

وفي هذا الميدان يلوح لكاتب هذه السطور أن الفيدرالية هي العنوان السياسي المقبل، لا في سورية وحدها، بل في المنطقة العربية أيضاً. فليبيا، على سبيل المثال، دولة فيدرالية كما كانت دائما (برقة وفزّان وطرابلس)، والعراق صار بفضل بول بريمر وجورج بوش وبعض العراقيين دولةً فيدراليةً بعاصمة واحدة ذات غلبة شيعية (إقليم شيعي وإقليم سني وإقليم كردي، وربّما لاحقاً ينشأ إقليم للأقليات في سهل نينوى). واليمن دولة فيدرالية (شمال وجنوب)، والمغرب دولة فيدرالية (المغرب والصحراء المغربية وحكم ذاتي لبعض أقاليم الأمازيغ). وقد فشل الحلّ الفيدرالي في السودان فانفصل جنوبه عن شماله، وما برح شمال السودان يتفكّك إلى أقاليم متعاركة مثل دارفور وكردفان وغيرها. والغريب أن لا أحدَ من القوى العالمية يعرض الفيدرالية على إسرائيل مثلاً أو على إيران أو تركيا، مع أن بعضهم لم يتورّع عن عرض الفيدرالية على الفلسطينيين (الضفة الغربية وقطاع غزّة).

لا بدّ أن السوريين الذين يحتفلون في هذه الآونة بنهاية عهد وبداية عهد لن يتناسوا أن إسرائيل وسّعت احتلالها للأراضي السورية، وأن الاحتلال الأميركي ما برح جاثماً فوق الأرض في شمال شرق سورية، وفي مثلث التنف، وأن الوجود العسكري التركي ما زال قائماً بقوة في الشمال السوري. وحبذا لو أن كثيرين تنبّهوا إلى أن قضية فلسطين، ولو بالمعنى الجيواستراتيجي، هي قضية حياة أو موت لسورية. فإذا كان المأخذ على النظام السوري الفارط هو عدم قتاله إسرائيل لتحرير أرضه أو للدفاع عن بلاده، فإن الموقف الصحيح اليوم (وفي كلّ يوم)، هو الإصرار على العداء لإسرائيل، وعلى عدم التطبيع أو التعاون معها، أو التهليل لقصفها مواقع لبنانية أو سورية. ويجب ألا ينسى أحد أن سورية لا تعيش عزيزة إلا ببعدها العربي، ومن غير ذلك ستصبح دولةً هامشيةً مثل مصر بعد “كامب ديفيد” التي أدارت ظهرها للعرب حينذاك، واعتقدت أن دولارات أميركا ستنعشها، فلم تنعشها قط، بل أغرقتها في مشكلات ما زالت تنوء بحملها، وتعجز عن النهوض منها.

سلام لسورية العربية المقبلة.

العربي الجديد

———————————–

أخذوا الجولان وأعطونا الجولاني”/ حلمي الأسمر

26 ديسمبر 2024

لا يبدو أن الولولة التي أطلقتها الجهات المتضرّرة من انتصار ثوّار الشام ستنتهي قريباً، فالضربة كانت مباغتةً وموجعةً إلى حدّ الصدمة، وعلى ما يبدو لن تهدأ “النفوس” المستثارة إلا في حالتَين: أن تنجز الثورة مهمتها كاملةً، فيستتبّ الأمر لها تماماً، وهذا مرجّح، أو أن تنجح الخلايا النائمة للثورة المضادّة في تخريب المشهد، على نحو ما حدث في غير بلد عربي، كمصر وليبيا وتونس أخيراً، وهذا مستبعد وفق المنظور الحالي، لسبب جوهري ورئيس، أن لثورة الشام أسناناً ومخالب تحميها، فمن انتصر ليست الجماهير المحتشدة في الميادين العامّة، بل قوة عسكرية شديدة البأس والشكيمة، هزمت جيشاً ربض على قلوب السوريين أزيد من نصف قرن، في لحظة إقليمية ودولية مواتية، وهذه القوة ليست في وارد التفريط بما أنجزت، حتى لو جابهت العالم كلّه، فدونها ودون هذا خرط القتاد، كما يقول العرب.

“أخذوا الجولان، وأعطونا الجولاني”، عبارة مكثّفة لتقزيم نصر الثوار وتسخيفه، أطلقها ناشطون في منصّات الإعلام الشعبي، ووجدوا فيها تعبيراً مكثّفاً عن خيبة أملهم من نظام كانوا ينظرون إليه باعتباره “آخر قلاع” المقاومة والممانعة، التي يحلو لبعضهم أن يسمّيها “مماتعة”. ومع خيبة الأمل هذه يوجّه سهم الاختزال المخلّ لما أنجزه، بل تحويله “هزيمةً قوميةً”، لأنها وفق ما يعتقدون أعطت الفرصة أو سهّلتها (على الأقلّ) للعدو الصهيوني لإكمال احتلال الجولان، في مقابل “منح” الشعب السوري قائد الثورة أحمد الشرع، الذي كان يحمل اسم “أبو محمد الجولاني” قبل أن ينضو لباس الثائر ويرتدي لباس زعيم الثورة. والحقيقة أن التعبير إياه مضلّل فمن قال إن هضبة الجولان كانت قبل الثورة بيد سورية؟ وحتى لو كان جزء منها (نحو ثلث الهضبة) تحت سيادة سورية، فلم تكن هذه السيادة تشكّل أيّ خطر على من يحتلّ الجزء الأكبر من الجولان، فقد ظلّت منطقة حدود بالغة الهدوء نحو 40 عاماً، ولم تطلق منها رصاصة على قوات الاحتلال الصهيوني. وبهذا المعنى، وحتى لو لم تكن محتلّة بالكامل فقد كانت “واحة أمن وسلام”، على العكس من باقي نقاط التماس العربية مع المساحة التي يحتلّها الكيان. ولا يقلّل هذا القول من فداحة ما اقترفه العدو من زحف إلى الأراضي السورية بعد الثورة، بقدر ما يعيد موضعة الأمور وإعادتها إلى حجمها الطبيعي.

على حوافِّ تلك العبارة التي جعلناها عنوانا لهذه المقالة، انطلقت مقولات وعبارات كانت جلّها تستهدف “سمّ البدن”، وتسخيف الانتصار المُبهِر، والسخرية منه، تعبيراً عن فداحة هزيمة من شايعه في الداخل والخارج، ومنها أن أحمد الشرع عيّن “جماعته” أعضاءَ في حكومة تسيير الأعمال، وهذا الكلام يجافي كلّ منطق، لأن ما فعله الشرع هو ما يفعله كلُّ من تسلّم مسؤولية جبراً وقهراً أو سلماً، فأنّى لصاحب هذا الأمر أن يسلّم رقبته (ورقبة البلد) لمن لا يعرفه ولا يطمئّن إليه ولا يثق به؟ خاصّة في الأيام والشهور الأولى لتحرير البلد، وقبل أن يرسّخ قواعد الثورة ويمضي بها إلى برّ الأمان؟ كيف لثائر أن يعهد لمن لا يعرف بتسيير أمور بلاد عانت ما عانت تحت حكم عصابة نصف قرن، فخرّبت الحرث والنسل، وتركت البلاد أو كادت قاعاً صفصفاً؟ من الطبيعي في حالة الجولاني ألّا يعهد بالمسؤولية إلّا لمن يعرف ويثق ويطمئن، لاجتياز المرحلة الانتقالية، علماً أن هذا ما يفعله كلّ من يتسلّم مسؤوليةً جديدةً لبلد ما. انظروا للطاقم الذي اختاره الرئيس الأميركي المنتخب ترامب مثلاً، وكذا يفعل غيره، فإدارة أي بلد تحتاج إلى فريق متجانس يعرف بعضه ويدين بالولاء (نعم هكذا) لقائد الفريق، وسوى هذا كلام تنظيري لا يستقيم.

وغير بعيد من تلك العبارات الساخرة، ما أثير وبشكل غزير عن وجوه الثوار ووزرائهم وهويتهم “الإسلامية”، ومظاهرهم الدالّة على هذه الهيئة، وسيق النقد هنا لهم باعتبار الإسلام “مثلبة” أو جرماً يُقترَف، ورفعت في مواجهة هذه الحالة شعارات المدنية والعلمانية، وحتى اللادينية الصريحة، كأنّ جمهور أهل الشام وسوادهم الأعظم ليسوا من أمّة الإسلام، وكأن أرضهم ليست مسقط رأس وعزّ ومجد خلافة سادت العالم. صحيح هناك أقليات إثنية ودينية، ولكن من قال أن الإسلام يهضم حقوق هؤلاء، أو ينتقص من هُويَّتهم ولو قيد أنملة؟ وإلى هذا وذاك، لم يعلن الشرع ولا أيٌّ من وزرائه نيَّتهم إقامة دولة دينية، فالاعتراض اشتعل لأنهم رجال بلحى ونساءهم محجّبات وراياتهم تحمل كلمة التوحيد، واستهدفوا في تحرّكاتهم الأولى تحرير مساجد الشام ممّا علق بها من وثتيات طائفية، ويبدو أن هذا كان كافياً لإلباس الثورة رداءً يسهّل الهجوم والتحريض عليه، لصالح هُويَّات بالية ثبتت رداءتها وفشلها في مواجهة العدو وجمع شمل الأمة، وتحقيق العدالة بين أبناء الشعب الواحد، والأهم من ذلك كلّه، الحفاظ على منعة الوطن وحمايته من الفساد والنهب والعسف والاستبداد والبطش، والحكم بالحديد والنار. ولنقلها بمنتهى الصراحة، ماذا جرّت الأنظمة الشمولية التي ارتدت لباس الدين والقومية والوطنية والاشتراكية على هذه الأمّة غير التخلف والاحتلال والمظالم؟ جرّبوا الحكم الإسلامي الحقيقي ثمّ احكموا، أمّا تلك الأنظمة التي قامت على تحالف رجال الدين ورجال السلطة فأنتجت استبداداً بلحية، فتلك لا علاقة لها بالإسلام، حتى ولو رفعت راية التوحيد، فالإسلام قبل كلّ شيء حرّية وعدالة، جربوا هذا اللون من الحكم ثمّ ارموه لا بحجر فقط، بل بكل ما وصلت إليه أيديكم وأرجلكم وألسنتكم من نعال.

العربي الجديد»

—————————-

موسوعة الألم السوري/ باسم النبريص

26 ديسمبر 2024

كنت في سفر ذلك الفجر، وبمجرّد أن قرأتُ الأخبار، بدأتُ أتذكّر ما جرى في سجن “قسم الخليفة” بالقاهرة، صيف العام الثالث من الثمانينيات. كنّا في مردوان الأجانب، وكان معي شابٌّ سوري في الثلاثينيات، هارب من نظام حافظ الأسد، وراح يسألني عن تفاصيل أحوالنا في معتقلات الاحتلال، فلمّا حكيت له عمّا عرفت وخبرت (وهو أمر هيّن جدّاً قياساً بسواي)، صدمني أنّه يتمنّى لو اعتُقل هناك. صُدمت: إيش القصّة؟ وراح يشرح لي تجربته في سجن الطاغية، قبل تدبير رحلة الفرار بلا عودة. قلت له، بعد أن زلزلني: أفهمك، ولكنّ الأمنية لا تجوز بأيّ حال.

كانت تلك هي المرّة الأُولى التي أسمع فيها عن مجريات الواقع السوري. وفي ما بعد، رحت أقرأ من المتاح القليل في ذلك الأوان النائي، عن سورية وأهوالها ومناضليها. ثمّ قرأت، بعد وقت طويل، كتباً من أدب السجون، للشاعر فرج بيرقدار ولـ مصطفى خليفة وسواهما، من شرفاء سورية. كذلك أتاحت لي بغداد سهرةً طويلة في غرفة الشاعر هادي دانيال، فأخبرني عمّا نسمّيه “العجب العجاب”. ثمّ سمعت في برشلونة قصصاً من المترجم والقاص السوري كاميران محمود، وكيف أنّه كان تلميذاً، وذات مساء في طريق العودة إلى البيت من المدرسة، مرّ بصورة كبيرة للطاغية، وُضعت على الطريق الخالية، حديثاً، فانتابه الرعب، وولّى هارباً من الصورة.

قصصٌ وحكايات لها بدء بلا آخِر: روايات السيرة الذاتية، وشهادات الشخص الأوّل، والصحافة الاستقصائية حول البطش الكليّ وراء قضبان المسالخ البشرية… كلّ هذا جعلني، منذ لقاء “قسم الخليفة”، آخذ موقفاً ثابتاً من عائلة الأسد، فلا خير لفلسطين في طاغية يقهر شعبه، ويجعل وريثُه البلدَ كومةً من خراب.

ظلّ الشجن السوري، بكلّ ذبذباته منذ ذلك الوقت، وبكلّ ما أيقظه عندي منذ ذلك الوقت، يتردّد في داخلي، حياةً مليئة بالألم، وقليلاً من الأمل.

لقد هرب الطاغية، ومع هروبه المخزي، انهالت عليّ الأفكار والصور والأحاسيس، مثل السيل. اليوم وقد انتهى الكابوس، بعد أن سرق حيوات ملايين النازحين والشهداء والناجين، وطال أمدُه كأنّه الأبد، أبارك مع رعشة في القلب، لكلّ السوريّين أينما كانوا، في الوطن والشتات.

* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا

العربي الجديد

——————————-

أما آن للكيماوي أن يستشيط/ زياد بركات

26 ديسمبر 2024

العنوان أعلاه مُقتبس من رسالة شهيرة وجهتها الفنانة السورية رغدة إلى رئيسها المخلوع بشّار الأسد، عام 2014. وبث التلفزيون السوري الرسالة التي كتبتها الفنانة بينما هي مقيمة في القاهرة، بعيدةً آلاف الكيلومترات عن مدن بلادها التي كانت تتعرّض بالفعل للقصف بالأسلحة الكيماوية (مجزرة الغوطة)، لكن ذلك لم يكن كافياً بالنسبة لها، فعلى نظام رئيسها أن يعلّق المشانق ويقصف كل منطقة فيها “إرهابي”. عليه أن يحرق الأرض بمن عليها، وهم مدنيون، كما قالت حرفياً، فعلى سورية أن تتعمّد بالدم كي تجتاز أزمتها، فاقتلوا واسحلوا، ولا ترحموا أحداً قدّم طعاماً أو ماء أو ضماداً أو مأوى أو سلاحاً لهؤلاء، وعلى الكيماوي “أن يستشيط”.

ولا أعرف ما إذا كانت الفنانة، وهي شاعرة أيضاً بالمناسبة، تعرف معنى “يستشيط” عندما كتبتها، لكنها من “شاط”، أي تجاوَز الحد، وهذا من ضمن عدّة معان لها. وبهذا كان إنشاؤها مُحكماً ويعرف مغازيه ومعانيه، ما يقطع الطريق عليها بأثر رجعي، في أنها لم تكن تقصد ربما عملاً بمبدأ أن البقر تشابه علينا.

كانت رسالتها تحريضية بامتياز، بل تقريعية لنظام رئيسها الحبيب، فلماذا هذه الرخاوة في التعامل مع المعارضين؟ ولماذا على رئيسها أن يخيّب آمالها مرّتين: واحدة بتسامحه مع الخارجين عليه والطبطبة على أكتافهم بدلاً من إبادتهم وحواضنهم الشعبية، وأخرى بفراره من سورية، وهي (رغدة) من هدّدته بتصنيفه خائناً لو فعلها وتنحى؟

فعل بشّار الاثنتين معاً وما هو أكثر. لقد ضرب بلاده بالأسلحة الكيماوية والبراميل المتفجرة، وقتل عدداً غير معلوم منذ ثار عليه الشعب السوري، وهو غير شعب رغدة حُكماً، ويتراوح ما بين نصف مليون إلى نحو مليون قتيل، كما شرّد نحو نصف الشعب السوري، نزوحاً ولجوءاً، إضافة إلى عشرات الآلاف ممن أُخفوا قسراً وقضوا في أقبية السجون، وما تسرّب من قصص بعض هؤلاء يكاد يكون غير مسبوق في تاريخ القمع والإفناء عبر التاريخ كله، إذا استثنينا الهولوكست.

سألتها لميس الحديدي، في 2016، في برنامج “هنا العاصمة”، عن رئيسها بشّار، فنفت أن تكون قد استفادت أي شيء منه، ولا أظنها جانبت الصواب، فهي لم تتكسّب من النظام، بل تطوّعت بالوقوف معه بل إلى يمينه، وكان بإمكانها أن تتمتّع بالضيافة المصرية بالغة الكرم مع نجمة سينمائية مثلها، وأن تركن إلى الصمت أو تكتب ذكرياتها مع أحمد زكي الذي تمتّعت بحمايته والتلطي خلف موهبته وشهرته، لكنها لم تفعل ذلك، بل واصلت اندفاعتها العدوانية تجاه شعبها بلا هوادة، ما يجعل المرء في حيرة من أمره في تفسير حالتها الشاذّة التي تستعصي على التحليل، ما لم نلج مفهوم الشرّ وتحوّلاته وتجلياته عبر التاريخ. وفي هذا نلجأ إلى الفلسفة لا علم النفس، ما يؤكد تعقيد حالات بعض مؤيدي الأسد، وقصور أدوات التحليل الراهنة عن فهمهم أو وضعهم على أريكة فرويد بأدوات ومقاربات جديدة كلياً.

أنت تستطيع فهم حالة فنان كبير مثل دريد لحّام وتقلباته وانقلابه على رئيسه بشّار، رغم أنه كان مستفيداً كبيراً من نظام آل الأسد (الأب والابن)، وصولاً إلى فهم حالة باسم ياخور مثلاً، لكنك تقف حائراً على عتبة رغدة التي لم تُقِم في بلادها فعلياً منذ مطلع الثمانينيات، بل في القاهرة، والتي حظيت بحياة رغِدة فعلاً مالاً وشهرة وطبقةً، ما كان يُفترض أن يذهب بها وضعها هذا إلى منطقة أخرى، مثل زميلتها سوزان نجم الدين، حيث على الفنان أن يكون مع الريح وحيث هبّت، خاصة أن كل ما يحوزه من رأسمال هو جمال الخِلقة وحسب. لكن ثمّة ما هو مختلف في حالة رغدة، أشبه بحالة كاليغولا، حيث الغطرسة يخالطها خَبَلٌ وفائضُ جنونٍ وساديةٍ لا يجدي معها فهم ولا تفهم بل ردع بالغ الخشونة.

حسناً فعلت رغدة، حين صمتت، حين سارع كثير من زملائها من مؤيدي رئيسها لتبرير انقلابهم عليه، ولكنه ليس حسناً في أي حال أن يصمت الضحايا أو يتسامحوا دائماً، فما كل الرؤوس سواء، إذ بمقدور أي سوريٍّ الآن رفع دعوى قضائية على رغدة لمحاسبتها على جرائمها بأثر رجعي، وهو ما تبيحه القوانين الوطنية والدولية.

العربي الجديد

————————————–

من دروس المأساة السورية/ محمد أحمد بنّيس

26 ديسمبر 2024

يعيد سقوط نظام بشار الأسد في سورية إلى الواجهة مأزق النظام السياسي العربي ومسؤوليته التاريخية عن تفكّك الدولة والمجتمع وانفراط عقدهما. لقد كشفت الحرب الأهلية هشاشة الدولة السورية وضعف النظام الذي كان يُعدّ أحد أعتى الأنظمة العربية وأكثرها استبدادا وقمعا؛ فلم تحُل بنيته الأمنية والعسكرتارية وتحالفاتُه الإقليمية والدولية دون سقوطه، بعد أن أضحى واجهة مكشوفة لتحكم الطائفة والعائلة في المقدرات الوطنية.

يكاد ينطبق ذلك على النظام السياسي العربي على امتداد الجغرافيا العربية المنكوبة؛ كان أبرز تحدٍّ واجهه هذا النظام خلال النصف الثاني من القرن المنصرم كسب رهانات الإصلاح والتنمية والتحديث. وهو ما كان يعني وضع مقدّرات الدولة ومواردها في خدمة هذه الأهداف بشكلٍ تعود عائداته بالفائدة على المجتمع. كان هذا النظام، بمختلف تشكيلاته العسكرتارية والسلطوية والدينية، يدرك أن جعل الدولة في خدمة المجتمع ستترتب عليه تكاليف سياسية لم يكن مستعدا لدفعها. كان الانخراط في مشاريع إصلاحية كبرى يقتضي تحوّلا عميقا في التركيبة المجتمعية، بما يعنيه ذلك من إعادة النظر في توزيع الثروة والسلطة وتوسيع هوامش الإصلاح ولو ضمن الحدود الدنيا. صحيحٌ أن هذا النظام نجح في إقامة بنيات إدارية ومؤسّسية تدمج بعض موارد الحداثة السياسية الشكلية، لكن ذلك لم يكن ضمن رؤية إصلاحية شاملة، بسبب مخاوفه من إعادة صياغة معادلة الصراع الاجتماعي بشكلٍ يُفضي إلى فقدانه السلطة. لذلك كان الاستقواء بالطائفة والعشيرة والعائلة الرقم الصعب في الهيمنة على مؤسسات الدولة وتسخيرها لخدمة مصالحه، لا سيما بعدما أقام أحزمة تحالف مع القوى الاجتماعية المصطفة حوله، وهو ما فاقم أزمة الشرعية لديه، وغذى أكثر الانقسامات الإيديولوجية والمذهبية والقبلية والعرقية.

إضافة إلى ذلك، شكلت قضيتا فلسطين والوحدة العربية عصب الشرعية لدى بعض تشكيلات هذا النظام (سورية، العراق، ليبيا). وفي وقتٍ كان يُأمل فيه أن تلعب هذه التشكيلات أدواراً طلائعية في تعزيز التضامن العربي، والحفاظ على ما تبقى من حقوق الشعب الفلسطيني، فتحت أبواب الجحيم أمام شعوبها بارتكابها أخطاء استراتيجية قاتلة (الغزو العراقي للكويت مثلاً)، وزرع بذور التفرقة بترك المكونات العائلية والعشائرية والطائفية التي تنتمي إليها تهيمن على المقدّرات الوطنية وتعيث في الأرض فساداً. وتقدّم الحالة السورية أكثر الأمثلة دلالة في هذا الصدد؛ فقد انتهى المطاف بنظام ”حزب البعث العربي الاشتراكي” (الوحدوي) في سورية إلى نظام عائلي/ طائفي قاد البلاد إلى التفكّك والفوضى والاحتراب الطائفي المدمر. لقد حوّل الدولة السورية إلى ”دولة فاشلة” بعدما سقطت شرعيته بإقحام جيشها (العربي السوري!) في الصراع الاجتماعي والأهلي، وفقد السيادة على مساحات واسعة من أراضيها، وأضحى قراره السياسي رهين حسابات حلفائه من القوى المحلية والإقليمية والدولية.

أكبر درس تقدّمه المأساة السورية أن الأوان قد آن لفك الارتباط بين النظام والدولة العربييْن؛ لقد سقط نظام الأسد أخلاقيا حين ساوم الشعب السوري على كيانيته الوطنية والمجتمعية، حين رفع مؤيدوه من الشبّيحة شعار ”الأسد أو نحرق البلد” في ابتزاز طائفي رخيص، كشف السقوط الأخلاقي والسياسي لواحد من أكثر الأنظمة استبداداً وفساداً في المنطقة خلال العقود الخمسة الأخيرة. إن مساومته السوريين على مقدرات الدولة والمجتمع مقابل بقائه في السلطة كشف طبيعته الطائفية والعائلية التي تتناقض مع مقتضيات التعاقد الاجتماعي، الذي يُفترض أن يؤطر علاقة الدولة والمجتمع في مطالع القرن الحادي والعشرين.

على السلطة الجديدة في دمشق استخلاص العبر والدروس من المأساة السورية، بتجنب الخيارات السلطوية التي قد تنعطف بها إلى اجتراح نسخة أكثر سوءا من نسخة حكم الأسد. وهو ما لا يستقيم، من دون إعادة هيكلة مؤسسات الدولة على أساس الولاء للوطن، وليس الولاء للنظام الذي لا يعني في الواقع، غير الولاء للطائفة، وفي مقدّمة هذه المؤسّسات الجيش الذي تضرّرت صورته الوطنية بعدما حوله نظام الأسد إلى جماعات ومليشيات طائفية لقتل السوريين والتنكيل بهم.

العربي الجديد

————————

الاستشراق الإعلامي… هكذا تُسطح الثورة السورية/ سعدية مفرح

26 ديسمبر 2024

في اللقاءات التي يجريها الإعلام الغربي مع قائد هيئة تحرير الشام، وأحد أبرز رموز الثورة السورية أحمد الشرع (المعروف بأبو محمّد الجولاني)، تظهر بوضوح زاوية النظر الاستشراقية التي تهيمن على تناول القضايا العربية الإسلامية. ورغم أهمّية السياق السوري وتشابك أبعاده الإنسانية والسياسية، يختار الإعلام الغربي، في أحيانٍ كثيرة، التركيز في قضايا سطحية وهامشية، متجاهلاً الأسئلة الجوهرية المتعلّقة بالتحرّر، والعدالة، والتنمية.

تطغى على هذه اللقاءات أسئلةٌ مكرّرةٌ عن أمور محدّدة مثل الحجاب، وقوانين المرأة، وشرب الكحول، والأندية الرياضية النسائية… وغيرها، وكأنّها المداخل الوحيدة التي يمكن للغرب أن يفهم من خلالها الشرق (العربي والإسلامي). هذا التوجّه يُغذّي الصور النمطية التي تصوّر ثقافات العرب والمسلمين كياناً غريباً ومختلفاً عن بقية ثقافات العالم، بينما تهمل النقاشات الحقيقية التي تتناول كيف يمكن لشعوب (كالشعب السوري) أن تخرج من تحت ركام الدمار إلى بناء مستقبل جديد. الأسئلة تركّز في المظاهر، لكنّها تتجاهل الجذور العميقة للأزمات، وكأنّ المطلوب ليس فهم الواقع، بل تعزيز سردية محدّدة عن الشرق، عن العرب والمسلمين في هذا الشرق تحديداً.

فعندما يُستضاف أحمد الشرع في حوار صحافي غربي، تُطرَح عليه أسئلة عن تفاصيل الحياة اليومية في مناطق سيطرته، مثل فرض الحجاب أو تطبيق القوانين الإسلامية. لكنّ المحاور غالباً ما يتجنّب الحديث عن الأسباب التي دفعت هذه المناطق إلى احتضان المقاومة، أو عن تأثير الحرب الطويلة في سكّانها. نادراً ما تُطرَح أسئلة عن أثر العقوبات الدولية في الاقتصاد المحلّي، أو عن الدور الغربي في إطالة أمد الصراع من خلال تدخّلاته المباشرة وغير المباشرة.

ليس هذا التوجّه الإعلامي جديداً، بل هو امتداد لتقاليد استشراقية معتادة ترى في الشرق مُجرَّد سلسلة من الرموز والمظاهر التي يمكن تأويلها بمعزل عن الواقع الإنساني. الإعلام الغربي يُفضل غالباً القضايا التي تبدو “غريبة” للجمهور الغربي، لكنّه يتجنب الأسئلة التي قد تحرج السياسات الغربية أو تضعها تحت المجهر. مثلاً، لماذا لا يُسأل الغرب عن دوره في تأجيج الصراع السوري؟ لماذا لا يُطرح الحديث عن مسؤولية المجتمع الدولي في دعم الأنظمة القمعية التي ولّدت الثورة أصلاً؟ لماذا تُغيّب تماماً النقاشات حول العقوبات التي تخنق المدنيين في المناطق المُحرَّرة؟

يذكّرنا هذا النمط الإعلامي بما حدث في أفغانستان بعد سقوط نظام “طالبان”، حين كان الجميع ينتظر نقاشات عميقة عن مستقبل البلاد، وآفاق التعليم والتنمية، ودور المجتمع الدولي في إعادة الإعمار. لكن بدلاً من ذلك، انصبّ تركيز المراسلين في قضايا سطحية. في إحدى التغطيات، وقفت مراسلة غربية في شوارع كابول، لتقول بدهشة: “الغريب أن النساء ما زلن يرتدين الحجاب حتى بعد سقوط طالبان والقاعدة”، وكأنّ الحجاب هو القضية الأكثر إلحاحاً في بلد مزّقته الحروب عقوداً، متجاهلةً أن هذا الحجاب هو جزء من الهُويَّة الدينية والثقافية لنساء البلد. هذه النظرة التي تركّز في المظاهر بدلاً من الجوهر تُظهر عدم قدرة الإعلام الغربي (أو ربّما عدم رغبته) في فهم تعقيد المشهد.

اليوم، وفي حواراته مع شخصيات مثل أحمد الشرع، يُكرّر الإعلام الغربي هذا النمط. يختزل الأزمات الكُبرى في أسئلة صغيرة، بينما يتجنّب بوعي القضايا الكُبرى التي تتعلّق بمستقبل الثورة السورية، أو كيف يمكن لشعبها أن يحقّق التحرّر والتنمية في ظلّ هذا الخراب. يُصوّر الشرق المسلم دائماً من خلال تفاصيل صغيرة تُضخّم لتصبح رموزاً تختزل هُويَّة الشعوب بأكملها، بينما تُغيّب القضايا الإنسانية والسياسية العميقة.

الأكثر إزعاجاً في هذه الحوارات تجاهل دور الغرب نفسه في الأوضاع المتردية التي يناقشها. نادراً ما يطرح المحاور الغربي أسئلةً حول المسؤولية التاريخية للسياسات الغربية في دعم الاستبداد أو تمويل الحروب بالوكالة. بدلاً من ذلك، يوضع الشرق دائماً في موضع المتّهم الذي يحتاج إلى تفسير ممارساته وتقاليده وثقافاته أمام عدسة الغرب. والإعلام الغربي، الذي يفترض به أن يكون وسيلةً لفهم العالم وتحليل تعقيداته، يتحوّل في مثل هذه الحوارات منصّةً لإعادة إنتاج الصور النمطية، حيث تسطّح القضايا، وتحوّل استعراضاً إعلامياً يروق للجمهور الغربي، لكنّه لا يخدم الحقيقة.

ليس الإعلام مُجرَّد ناقل للحقائق، بل صانع للسرديات التي تشكّل وعي المجتمعات. وحين يختار الإعلام الغربي التركيز على قضايا سطحية، فإنه يعيد إنتاج الصور القديمة نفسها عن الشرق كياناً غريباً وغير مفهوم. أمّا إذا اختار التعمّق في القضايا الحقيقية، فإنه يمكن أن يكون جسراً للتواصل الإنساني.

العربي الجديد

—————————

عن سؤال الفن والثقافة في سورية بين الأمس واليوم/ سميرة المسالمة

26 ديسمبر 2024

بعد سنوات من القمع والتشريد والتدمير، ومع السقوط المدوي لنظام الأسد، بات قطاع الفن التعبيري في سورية، بخاصة التلفزيون والسينما والمسرح، في مواجهة مشكلات او تحديات كبيرة مختلفة، في مرحلة ما بعد الأسد. فهو كان طوال عقود من الزمن جزءًا من آلة الدعاية الرسمية للنظام، وأداة للترويج السلطة ولأشخاصها وسياساتها وأيديولوجيتها. وقد شهدنا أن الفنانين الذين حاولوا الخروج عن هذا الإطار تعرّضوا للاستبعاد والتهميش والاضطهاد، وضمنه السجن والخروج من البلد. الآن، مع بداية مرحلة التحرّر والخلاص من النظام السابق، يُطرح السؤال: هل سيواكب الفن السوري المرحلة الجديدة بما تحمله من معاني الحرية والمواطنة وانتهاء عهد الاستبداد، أم سيظل أسيرًا للسلطة الآتية، مهما تكن؟

بديهي أن الواقع الثقافي والفني والإعلامي والأكاديمي في سورية، بكل أشكاله وتعبيراته وأدواته، بعد التحرير، يتطلب إعادة تعريف العلاقة بين الفن والسياسة، أو بين الثقافة والسلطة. ففي ظل سنوات من الحرب، ومع انتشار القمع على جميع الأصعدة، انقسمت توجهات الفن، وانحيازات الفنانين، ففي ضفة المعارضة، وظّف الأدب والفن، في الرواية والشعر والفنون التشكيلية، والتعبيرية، وضمنها المسلسلات والأفلام الوثائقية، للتحريض على النظام وفضح جرائمه، وتوثيق معاناة السوريين، ومقاومتهم الظلم والاستبداد، لكن مع انتهاء الحرب وتحرير البلاد، بات ثمة أوضاع جديدة، تطرح عديد من الأسئلة حول دور الفن والأدب في المستقبل، وهل سيظل يحمل طابع المقاومة أم سيتحول إلى أداة للسلطة الجديدة باعتبارها منتصرة؟

من المعروف أن كل صنوف الفن والثقافة تواجه، في ظل الأنظمة الاستبدادية، قيودًا صارمة. ففي سورية، كما شهدنا، كان الفن جزءًا من آلة القمع، حيث تم توظيفه لتجميل صورة النظام وفرض هيمنته. ففي هذا السياق، كان من سمّوا بفناني النظام السوري يلعبون دورًا مساندًا مهمًا في الحياة السياسية، بحيث لا يمكن إغفال أن بعض الفنانين أسهموا في تعزيز شرعية النظام السوري وتوجيه الرسائل التحريضية ضد الثورة، والتشويش على الرأي العام، فقد استخدم النظام بعض الأسماء “المشهورة” في حملة إعلامية ممنهجة لتحريض الشارع ضد المتظاهرين من جهة، ولتشجيع الناس على مساندة نظام يقتل شعبه.

هؤلاء الفنانون، مثلًا، الذين كانوا في الماضي جزءًا من المشهد الفني السوري المحبوب والمشاهد، تحولوا إلى أدوات دعاية سمجة لنظام الأسد، عبر برامج تلفزيونية ومسلسلات وأغانٍ وتصريحات علنية، حتى إن بعضهم ظهر بين جموع من أفراد الجيش، في اللباس العسكري، لتبرير أعمال القتل والقمع، والترويج للولاء الكامل، ولمحاربة ما كان النظام يسميه “المؤامرة”. هذا التحول في أدوارهم كان جزءًا من استراتيجية النظام لاستخدام الفن والفنانين كأدوات تحريضية، بل ومبرّرة لانتهاكات حقوق الإنسان التي كانت تحدث في تلك الفترة.

“كانت قطاعات الفنون والثقافة والإعلام إحدى أهم أدوات المقاومة في سورية، سواء عبر الرسومات على الجدران التي حملت رسائل الثورة، أو من خلال الأدب الذي نقل آلام الشعب السوري، أو السينما التي وثقت الحرب”

هذا الدور الذي لعبه الفنانون في تحريض الشارع ضد الثورة، وصولًا إلى مساندة الجيش في قتاله لوأد إرادة الحرية والتغيير لدى الشعب السوري، يطرح تساؤلات حول العلاقة بين الفن والسلطة؟ وكيف يمكن للفن أن يتحرّر من الهيمنة السياسية السلطوية بعد التحرير؟ وهل سيظل الفن حليفًا للسلطة مهما كانت، أم أن هناك فرصة حقيقية لإعادته إلى دوره الأصلي كأداة للتعبير عن المجتمع وأحواله وتطلعاته؟

بعد النصر الكبير الذي توّج بدخول فصائل المعارضة السورية المسلحة إلى دمشق (في 2024/12/8) وتحريرها من براثن (الأسد الفارّ) ستكون أمام الفنانين السوريين فرصة كبيرة لإعادة اكتشاف أنفسهم، بعيدًا عن القيود التي فرضها النظام السابق. لكن هذا التحول لن يكون سهلًا، إذ سيحتاج قطاع الفنون (والثقافة والإعلام والتعليم عمومًا) إلى وقت طويل للتعافي من آثار القمع، ولإيجاد سبل جديدة للتعبير عن الواقع السوري وتطلّعاته للمستقبل. وقد يواجه الفن السوري صعوبة في الخروج من ظل السلطة، خاصة في حال لجأت السلطة الجديدة إلى توظيف الفن والثقافة، حسب توجهاتها، أو سعت إلى فرض القيود على حرية التعبير كما فعل النظام السابق، ونأمل ألا يحدث.

في الوقت نفسه، فقد كانت قطاعات الفنون والثقافة والإعلام إحدى أهم أدوات المقاومة في سورية. سواء عبر الرسومات على الجدران التي حملت رسائل الثورة، أو من خلال الأدب الذي نقل آلام الشعب السوري، أو السينما التي وثّقت الحرب، هذه الأعمال الفنية ستكون جزءًا من الذاكرة الجماعية للشعب السوري، وستظل شاهدة على معاناته ونضاله، وستكون هناك فرصة لتوجيه هذه الطاقة الفنية الحرة نحو بناء هوية وطنية جديدة، هوية تتجاوز حدود الانقسام الطائفي والسياسي، وتحتفل بتنوع المجتمع السوري، وتنتقد سلبياته على الأصعدة كافة، الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتشريعية.

من جانب آخر، يمكن للفن والثقافة والإعلام أن يلعب دورًا مهمًا في عملية المصالحة الوطنية، في بلد عانى من حرب صورها النظام كحرب طائفية ومناطقية، ويحتاج إلى إعادة بناء الجسور بين مختلف مكوّنات المجتمع السوري، كي يغدو مواطنين متساوين وأحرار، وكي يصبحوا شعبًا حقا، بغض النظر عن الهويات ما قبل الوطنية. 

هذا يفترض تسليط الضوء على قصص الضحايا من جميع الأطراف، والتي قد تكون صادمة، فحتى عند سماع تصريحات بعض الجنود من جيش النظام الهارب تكتشف عمق المأساة، حيث الخلل النفسي والإعاقات الإدراكية لهؤلاء تجعل من قصصهم مادة حيوية لفهم حقيقة المشهد السوري على اتّساع زواياه، مما يساهم في بناء نوع من التفاهم والتسامح بين السوريين. إن الفن في هذه المرحلة سيكون أكثر من مجرد وسيلة للتعبير، بل سيكون أداة لبناء السلام الاجتماعي والمصالحة.

إذا تمكن الفنانون والمثقفون والإعلاميون والأكاديميون السوريون من الحفاظ على استقلاليتهم وحرية تعبيرهم، يمكن لهم أن يكونوا بمثابة أداة قوية في بناء سورية الجديدة، المتأسسة على قيم الحرية والمساواة والعدالة، ما يتطلب تجاوز إرث النظام السابق، ببناء دولة مدنية حديثة، لا مكان فيها للديكتاتورية أو الفصائلية أو الطائفية أو التعصب، ما يعكس تطلعات السوريين وآمالهم.

في النهاية، يبقى السؤال حول دور الفن والثقافة والاعلام والأكاديميا في سورية بعد التحرير مفتوحًا، وهذا السؤال برسم الإجابة، وعليه تتوقف استقلاليتهم عن كل أشكال الهيمنة السياسية والسلطوية والأيديولوجية، سورية الجديدة تستحق ذلك كي تنهض وتنفض عنها أدران الماضي إلى الأبد.

*كاتبة سورية.

ضفة ثالثة

—————-

خميني آخر في دمشق!/ شادي لويس

الأربعاء 2024/12/25

الاقتباس أعلاه يعود إلى جريدة التايمز البريطانية في شباط/فبراير من العام 1982، تعليقاً على مجزرة حماة التي ارتكبتها القوات المسلحة السورية وسرايا الدفاع بقيادة رفعت الأسد ضد سكان المدينة، وذلك لقمع انتفاضة تصدرتها جماعة الإخوان المسلمين ضد حكومة البعث. المذبحة التي كانت أكثر الأعمال دموية التي ارتكبتها حكومة عربية ضد شعبها، وجدت من يدافع عنها في وسائل الإعلام الغربية. صدمة انهيار حكم شاه إيران وإعلان الجمهورية الإسلامية في طهران لم يمر عليها حينها سوى أعوام قليلة، وبدت سوريا البعثية في بعض التحليلات الغربية شديدة السطحية حائط صد يقف أمام تمدد أيديولوجيا الثورة الإسلامية في الشرق الأوسط. خارجياً كما في الداخل مارس حافظ الأسد عدة استراتيجيات شديدة التعقيد لترسيخ حكمه. داخلياً كان هناك خلط مقصود بين الخطابات العلمانية الجذرية والاشتراكية ومعاداة الامبريالية التي روجها نظام الحكم ومركزية دور الأقلوية الطائفية في تشكيل مؤسساته. لبعض المراقبين من الخارج كان من العسير الجزم إن كان الصراع الدائر هو بين العلمانية والأصولية الدينية أو بين الديكتاتورية وعموم الشعب.

من حيث السياسة الخارجية، تقارب حافظ الأسد مع الاتحاد السوفيتي ودول الكتلة الشرقية وطعّم خطابه السياسي بالكثير من الشعارات الماركسية، وفي الوقت نفسه عقد تحالفاً مصيرياً مع طهران ومع الحركات الشيعية في لبنان المجاور على أسس طائفية. ومد النظام السوري يده إلى الولايات المتحدة مبقياً الباب مفتوحاً أمام الكتلة الغربية. وبينما أدعت دمشق محاربة الملكية الرجعية في الأردن حصلت على تمويلات سنوية من السعودية ودول الخليج الأخرى باسم التصدي لإسرائيل. كان اللعب على التناقضات غريزة النظام الأسدي الأساسية، وعبرها نجح في جمع أكثر التحالفات تناقضاً وتنافراً فيما بينها في سلته. وعبر هذا التلاعب، صار حافظ الأسد الحليف الأقرب إلى إيران الخمينية في المنطقة، هو صمام الأمان لمنع ظهور خميني آخر في دمشق.

الغرض من الرجوع إلى ذلك التاريخ الذي يبدو اليوم ماضياً سحيقاً وهامشياً بعد كل ما جرى في سوريا في العقد الماضي، هو التذكير بأن الأسد الأب كان من رواد توظيف فزاعة الإسلام السياسي لحشد الدعم لحكمه في الداخل والخارج على السواء، حيث وجدت مذبحة مثل التي جرت حماة من يبررها في الصحافة الغربية، تلك المذبحة التي ستصير نموذجاً سيتم نسخة وتوسيعه على رقعة سوريا بأكملها في عهد الأسد الابن. وبالمنطق الانتهازي الموروث نفسه استدعى بشار حزب الله والحرس الثوري الإيراني لمواجهة “الإرهاب” الإسلامي، وبالطبع ما يعنيه الإسلام في هذه الحالة هو إسلام الأكثرية السنية على وجه التحديد. وفي هذا السياق، كان ظهور داعش طوق الأمان الذي أنقذ نظام دمشق ومدد في عمره بضع سنوات إضافية كانت أشد مرارة على السوريين.

في النهاية يظهر خميني آخر إلى دمشق بحسب التعبير المتقادم لجريدة التايمز. يصل متأخراً أربعة عقود وبثمن باهظ ودموي لهذا التأخير، كلف أكثر من نصف مليون قتيل وتدمير شبه كامل لسوريا. لم يكن هذا الظهور حتمياً بلا شك، لكنه حدث بعد أن منحت مذابح النظام السوري الساقط كلمة “العلمانية” وقعاً وحشياً مشيناً ومرعباً. يبقى القول إن الفزاعة الإسلامية ليست من ابتداع نظام الأسد بالكامل، وأن هناك الكثير مما يبرر الخوف من الإسلاميين القادمين على ظهر دبابة، سواء في التاريخ السوري القريب جداً أو في تجارب تاريخية في دول أخرى. اليوم أمام سلطة الأمر الواقع في سوريا فرصة تاريخية لمحو مبررات ذلك الخوف وأسبابه، وأمام عموم السوريين المؤمنين بالعلمانية واجب تطهير تلك الكلمة مما لحق بها من عار.

المدن

———————————-

السجن الانفرادي في “فرع الخطيب”: التهمة صحافي!/ بثينة عوض

الخميس 2024/12/26

الاسم: بشار دريب، المؤهلات العلمية: خريج كلية الإعلام جامعة دمشق، التهمة سابقاً: صحافي سوري تحت سقف الوطن، العمل حالياً: صحافي في “تلفزيون سوريا” في تركيا.

إنها الساعة الواحدة ظهراً في 20 كانون الأول/ديسمبر 2009. كل شيء يسير كالمعتاد، أتابع عملي في موقع “دي برس” السوري الإلكتروني كصحافي استقصائي. وأتبادل المزاح مع زملائي من وراء ستار زجاجي كان يفصل بيننا قبل أن تحل اللعنة غير المنتظرة أو ربما المنتظرة دوماً.

دورية أمن مكونة من ستة أشخاص تقريباً مدججين بالسلاح تداهم المكتب. صمت مطبق في المكان وترقب وخوف لا مثيل لهما. ومن دون حتى ذكر اسمي يتم اقتيادي ووضعي في الصندوق الخلفي لسيارة تابعة  لفرع الأمن الجنائي الكائن في باب مصلى.

التوسل كلمة لم أعرف معناها حرفياً إلا في حينها. ساعتان من الرجاء لمعرفة التهمة الموجهة إلي بلا جدوى، وبدأت تلقائياً أكيل التهم لنفسي قبل أن يتم نقلي في الساعة الثالثة إلى “فرع الخطيب”، أحد أشهر الفروع الأمنية في سوريا بسبب انتشار التعذيب فيه، لتبدأ معاناة لا نهاية لها وأنا معصوب العينين تكال لي كل الشتائم، ويتم إنزالي عنوة إلى درج، تلمست أنه يفضي إلى غرف منفردة.

أنا داخل إحداها كانت أشبه بالقبر، بطول 190 سم إلى مترين، وبعرض 70 سم على ما أعتقد، وارتفاعها لا يتجاوز المترين ونصف المتر. صُممت بحيث تمنع أي خيط ضوء من التسلل إلى داخلها. مرت الساعات الأولى وأنا أحاول أن أقنع نفسي بأن ما حصل هو خطأ لا محالة، وبأنني سأخرج بين ساعة وأخرى، فكل التحقيقات التي عملت على إنجازها كانت تختص الشأن المحلي، أو بعض عمليات الفساد، ونشاطي المعارض على شبكة الإنترنت كان بأسماء وهمية، ومن مقاهي الإنترنت التي كانت منتشرة حينها.

بعد مرور أربع ساعات بدأ الخوف يتسلل إلى داخلي، وحده السجان أخبرني بأنني قد نشرت خبراً عن انتشار حالات لإصابات مرض نقص المناعة المكتسب في منطقة من ريف دمشق. ما الخرق الأمني في ذلك؟ أصبت بالذهول لكون الخبر موثقاً، ولا يمس أياً من الخطوط الحمراء التي طالما تم تلقينها لنا.

مرت الليلة الأولى في تلك الزنزانة، وكأنها الليلة الأولى في القبر، أصوات أنين المعذبين كنت أسمعها تخرج من تحت الأرض، وأعتقد أن الوقت كان قرابة منتصف الليل، وعند الساعة الثالثة ربما، بدأ عدد من السجناء الإسلاميين بتلاوة القرآن، اعتقدت أنه طقس يقومون به بهدف الدعاء والطلب من الله أن يفرج عنهم سجنهم، لكن بعد أن أصغيت جيداً لهم، اكتشفت أنهم يقومون بتحفيظ القرآن لبعضهم عن طريق تلاوته وإعادته، طبعاً الجميع كان في زنازين منفردة، ربما امتلكوا شيفرة معينة بهم يقومون من خلالها بتنظيم الحفظ والدور والتكرار.

لا أعلم كيف انتهت تلك الليلة. صباحاً ضربت على الباب. ليقوم سجان بفتح شباك صغير موجود على الباب من الخارج ويسألني عما أريد، وبكل سذاجة طلبت كتاباً أو صحيفة أو مجلة، ليأتي الرد مباشرة: بأنه سينقل مرض نقص المناعة المكتسب إلى والدتي. حفظت ملامحه ولسانه القذر جيداً، وبكيت، وقد شعرت بأن دنساً مس أمي.

مرت الأيام  في المنفردة وكانت أقل هولاً، فالاعتياد، وكما يقول ممدوح عدوان هو أصعب شيء ممكن أن يحدث للإنسان، وبدأت أحاول أن أجد شيئاً يمكنني من عد الأيام التي أمضيها، ولم أجد إلا الغطاء القذر الذي أتدثر به، كنت أعد خيوطه يومياً، وأخطئ بالعد من أجل أن أبدأ من جديد، ومن أجل معرفة الأيام كنت أسحب خيطاً واحداً كل يوم، لأكتشف بعد خروجي من هذه الزنزانة اللعينة أني قضيت 35 يوماً بين جدرانها. وما بين صوت التعذيب الذي أسمعه ليلاً، وصوت المعتقلين الذين يتلون القرآن يومياً، أمشي جيئةً وذهاباً داخل تلك المنفردة الحقيرة حتى لا يتفسخ جلدي نتيجة الاستلقاء الطويل.

وها أنا أطلب للتحقيق للمرة الأولى في الساعة الثانية ليلاً. عصبت عيناي ومشينا في ممر طويل وطلب السجان مني الانتظار وبدأت أعد الدقائق، وبعد ساعة تقريباً وفقاً لحساباتي أدخلت إلى غرفة المحقق، الذي بدأ بالحديث عن المؤامرة التي تحاك على البلاد وأهمية الصحافة المسؤولة، حينها تشجعت وطلبت منه نزع العصابة، لينادي الحارس الموجود خارجاً ويأمره بنزعها، وإذا به شاب لم يبلغ الأربعين من عمره، وأمامه تلة من الأوراق يصل ارتفاعها قرابة النصف متر.

سألني حينها هل تعرف ما هي هذه الأوراق؟ أجبته: لا، ليقول إنها كل التحقيقات الصحافية التي كتبتها منذ العام 2006، لكنه احتفظ جانباً بتحقيق خاص بضحايا الألغام في مدينة القنيطرة، كنت قد عملت على إنجازه ونشره يحمل عنوان “الألغام من أمامكم والعدو من خلفكم”، إذاً هذه هي التهمة، إنصاف أناس فقدوا أطرافهم وشلت حياتهم، لكن ما الضير في ذلك؟

ثم أكال الضابط لي كل الشتائم بتهمة التجرؤ على مهاجمة عضو في مجلس الشعب يتمتع بالحصانة وجمعية خيرية مختصة بتقديم المساعدات لضحايا الألغام في سوريا، واتهامها بسرقة المساعدات الدولية الخاصة بمن قطعت أطرافهم، لأكتشف أن هذا العضو والجمعية يعملان تحت إدارة “الامانة السورية للتنمية” في الخفاء، التابعة لأسماء الأسد، والتي كانت شريكة بسرقة تلك المساعدات.

بعدها وقف وضرب بيده على الطاولة التي أمامه ورمى التهمة بوجهي: “أنت عميل لإسرائيل”، سنقطع قدميك ونركب لك أطرافاً اصطناعية أسوة بمن كتبت عنهم، وصرخ بالعنصر الموجود خارجاً، وأمره بإعادة العصابة على عيني. وهو ما تم بالفعل من دون أن يتنبه السجان أنني أستطيع أن أرى منها ولو بشكل جزئي، وبعد نزولنا من الدرج استطعت رؤية بعض المعتقلين الذي يعذبون في ساحة السجن، وكان من بينهم شاب أعتقد أنه لم يتجاوز الـ25 عاماً، وكان ينزف من أعلى رأسه.

عدت إلى المنفردة، الخوف يأكلني: “العمالة لإسرائيل”، وها أنا أتلمس قدمي بين الفينة والأخرى. تتالت الأيام وسط خوف شديد كلما أسمع وقع خطوات تقترب من المنفردة، ليصل بي الحال إلى التفكير بالانتحار، لكن حتى الموت كان رفاهية غير موجودة في ذلك السجن.

بعد انتهاء الـ35 يوماً في المنفردة أدخلت  إلى “الجماعية”، وكانت عبارة عن غرفة صغيرة تقدر مساحتها بين الثمانية والعشرة أمتار، وبداخلها 11 سجيناً، وأنا كنت السجين رقم 12.

وذاك الشاب العشريني الذي كان يتعرض للتعذيب غدا صديقي الوحيد كان من محافظة درعا، ومن آل أبازيد، وكانت تهمته الانتماء للتيار السلفي فقط وليس التيار الجهادي. في إحدى الليالي كشف لي عن جرحه، وإذا به حفرة بحجم البيضة داخل رأسه، قال لي حينها، لولا هذه الحفرة ما خرجت من الزنزانة التي عشت بها منذ 3 أشهر.

الغريب أنه في تلك الغرفة اجتمع كافة خصوم النظام السابق، فكان منهم الإسلاميون والشيوعيون والأكراد، باستثناء شخص واحد، كان ضابطاً ادعى حينها أنه تشاجر مع رئيس الفرع، في حين يؤكد بقية السجناء أنه جاسوس دس في المكان، الكل متوجس من الآخر، وأعتقد أنها لعبة النظام القذرة. وفي هذه الغرفة قضيت رأس السنة الميلادية، ودخلنا عاماً جديداً، ولكن من دون أي احتفال، فحتى الغناء الذي حاول بعض السجناء الشيوعيين تأديته، جاءهم صوت من الخارج أمرهم بالسكوت وإلا. لتمر تلك الليلة والجميع يحاول أن يسترجع ما تيسر له من ذكريات.

بعد عشرة أيام من العام الجديد خرجت من هذا الفرع، وتم إيداعي في سجن الشرطة العسكرية، وعلمت في اليوم الأول لي هناك أن محاكمتي ستكون عسكرية، وأنني إما أني سأساق إلى سجن صيدنايا، أو سيطلق سراحي، وبعد 5 أيام حكم القاضي بسجني مدة شهرين بتهمة “نشر معلومات من شأنها أن تعكر الصفاء بين عناصر الأمة”!

لحظة خروجي من السجن ووضع الختم على باطن يدي، لم أكن مدركاً حينها أن شهرين من عمري قد مرا، ولم أكن مصدقاً أيضاً أن هذا الجحيم يمكن له أن ينتهي، وتصبح تلك المنفردة من الذاكرة. لولا رؤيتي لسجاني في إحدى المظاهرات. لحظة درامتيكية لا تنسى، هو يجري وأنا أجري وراءه في لحظة استعدت بها كل الشتائم التي نعتني بها. كنا في حي الميدان الدمشقي، تاه مني بين الطرقات، فقلت في نفسي أنت شجاع في ممرات السجن وفأر في الخارج.

وطيلة تلك الفترة، واصلت العمل مع أكثر من موقع إلكتروني وخصوصاً موقع “سراج برس” التابع للهيئة العامة للثورة السورية، وبقيت فيه طيلة عامين وطبعاً بأسماء مستعارة. وخروجي من سوريا كان على أمل أن لا يستمر أكثر من شهرين إلى ثلاثة أشهر، لكن وبعد 13 عاماً من الثورة، بات لزاماً علينا أن نعمل على نقض سردية النظام بمحاربته للإرهاب، والتأكيد على السردية الأولى للثورة السورية، وأنها خرجت على نظام مجرم.

بعد انطلاق عمليات “ردع العدوان” لم يكن أحد مصدقاً أنها ستتوسع وتصل إلى دمشق، وأكثر ما كان ينتظر منها السيطرة على محافظة حلب، ومع توغل المقاتلين باتجاه الجنوب بدأ الأمل يعود من جديد، وأن العودة إلى دمشق ممكنة.

في الليلة الفارقة في حياتي وحياة كل السويين كنت قد ذهبت للنوم، لكن لم أجد سبيلاً إليه، فقررت العودة إلى المكتب في الساعة الرابعة صباحاً ومواصلة العمل، فالجميع في “تلفزيون سوريا” المعارض كان يعمل كخلية نحل، بدأت بالعمل ومتابعة الأخبار، ولم أكن متخيلاً أن يأتي اليوم وأكتب فيه هذا العنوان: “هنا دمشق.. سقط الأسد”. كتبتها وأنا بكامل قواي العقلية وعانقت لحظتها كل السجناء في “فرع الخطيب”.

المدن

—————————-

العودة إلى دمشق: إرث البعث الرهيب (2)/ يوسف بزي

الخميس 2024/12/26

هي رحلة مؤجلة منذ 20 عاماً إلى المدينة التي وقعت في غرامها وكرهت حالها في آن معاً، منذ زيارتي الأولى عام 1988. آنذاك، كانت المدينة المترامية التي تغلب عليها أناقة الماضي والإلفة والسهولة، تهيمن عليها أيضاً مشاعر قابضة للأنفاس. بعد جزء أول، هنا الجزء الثاني:

كانت عيوننا لا تتوقف عن التحديق في كل الاتجاهات. ونحن الذين كانوا محشورين بين “سوريا الأسد” الممنوعة علينا وإسرائيل المستحيلة لنا، فجأة وجدنا أنفسنا نكتسب مدى يمتد من بيروت إلى اسطنبول شمالاً أو إلى بغداد شرقاً وإلى الأردن والجزيرة العربية جنوباً. كأننا خرجنا من ضيق لبنان إلى جغرافيا بلا حد. بل كأننا ربحنا “عروبة” كان المتشدقون بها أول أعدائها. كل كيلومتر نجتازه أشبه بتحرير للروح والمخيلة. الوصول إلى دمشق كأنه ثأر شخصي يتحقق. فكل لبناني وفلسطيني وسوري نجا من الشرّ الأسدي، لن يرتعد بعد الآن من دخول سوريا. ثم أن نضع على زجاج السيارة الأمامي كلمة “صحافة” لهو أمر سوريالي، في بلاد كانت قبل أيام قليلة تستدعي هذه الكلمة الاعتقال والاختفاء وربما القتل.

أوتوستراد المزة ينبسط أمامنا، نبتسم غريزياً. زميلنا علي لشدة دهشته ولهفته نسي أن يرفع الكاميرا ليصور مدخل العاصمة المحررة. إشارات السير تعمل! حركة صباحية تظهر في كناسة الشوارع، والبنايات التي تتثاءب شرفاتها. سيارات تتجه نحو قلب العاصمة. تتفتح الذاكرة: إنها الأمكنة الأليفة ذاتها. الدكاكين الأنيقة، والأبنية الواطئة المتشابهة، والشجيرات النحيلة عينها. لا مسلحين ولا أي مظهر عسكري، ولا شرطة! ومع ذلك، شعور مفاجئ بالأمان تبرهنه الحركة الواثقة للسيارات والمشاة في هذه الساعات المبكرة.

علم الثورة يغطي أحفورة “مكتبة الأسد” على الواجهة الرخامية الضخمة. ساحة الأمويين بكامل هيبتها وسعتها. الناس لا يزالون منذ 12 يوماً، يقفون في وسطها ويلتقطون “السيلفي”: إشهار فوتوغرافي لـ”ها قد عدنا”. فحتى سكان العاصمة لم يكن لديهم الجرأة أن يتسكعوا هنا في البقعة الأشد حراسة ومراقبة، والمحاطة بمنشآت النظام ومراكزه الحساسة. كاميرات تلفزيونات العالم منصوبة هنا على مدار الساعة. الثورة أيضاً مصدر رزق للباعة المتجولين: الأعلام، الشالات، الاكسسوارات، والبوسترات.

إنه “الشيراتون” إياه، الذي كان منذ تدشينه، أشبه بمقر رجالات النظام وضباطه ومخابراته وضيوفه وأثريائه، ومرتع اللهو لهم، بكل ما يعنيه اللهو -وفق ثقافتهم- من فضائح وتحلل. في التسعينات، دخلت إليه لموعد، فكان مشهد اللوبي بهذا الفندق كلقطة سينمائية مصطنعة تعبّر عن حفلة موبؤة بالثراء المشبوه والاستفزازي. هذه المرة كان اللوبي نفسه حاشداً بالإعلاميين، بعائلات سورية وصلت للتو إلى بلادها، برجالات النظام الجديد، الريفيين المتواضعين.

الفندق أصبح عتيقاً. موظفة الاستقبال تبوح: “الزبائن الآن ألطف. لا علاقة لي بالسياسة، لكني أشعر بالراحة”. ليس الشاب الإدلبي الشديد الخجل، الواقف بسلاحه أمام الفندق هو مصدر تلك الراحة، بل غياب صانعي الرعب.

وفوراً، نفلت من الفندق بتوق لاكتشاف المدينة والتجول فيها. سائق التاكسي الأول من جبلة. متحفظ ومرتبك. سائقو التاكسي هم مزاج المدينة ولسانها. كان النظام يدرك أهميتهم. يجس نبض المدينة بواسطتهم. إنهم آذان وعيون الشارع. رادار للإشارات السيكولوجية عند السكان.

في مكتب سيريتل، تغمرني تلك الضحكة النضرة الطالعة من القلب، ومن الخدود المحمّرة بهجةً للموظفة العشرينية، مجيبة عن سؤالي: “ماذا تغير في 12 يوما؟”. قالت من صميم روحها: “كللللل شي”.

الصالحية هي بالنسبة لي القلب النابض. إنها مرتعي. هي ذاتها لم تتغير. عتقت وتكلّحت. مات مقهى برازيليا، الذي ولا مرة دخلت إليه إلا والتقيت بغير موعد بصادق جلال العظم ومحمد الماغوط وعماد حورية في مكتبته الأنيقة.. وبكثير من الشعراء والصحافيين والمسرحيين. لم يمس أحد تمثال يوسف العظمة الذي يخضع للترميم. مقهى هافانا ليس هو نفسه، معتم وكئيب وقد تبدل رواده. لكنه كمعظم مقاهي دمشق خال من الادعاءات الاستهلاكية، مقهى حقيقي بلا زوائد كاذبة. باتجاه محطة الحجاز، تنكشف أمامي دمشق التي تشغفني: دكاكين الحلويات والسندويشات، البسطات المتواضعة، الشبان والشابات بالآلاف ذهاباً وإياباً، الشحاذون، المتسكعون، اللاهثون إلى أعمالهم. الخليط البشري الحيوي. الازدحام الذي ينظمه متطوعون يرتدون سترات برتقالية، خضعوا لتدريب مكثف وعلى عجل. جسر فكتوريا الرابط بين أجزاء المدينة وتحته الفائر بالعابرين إلى كل الاتجاهات. مبنى البريد المهيب كتحفة معمارية دالة على زمن الدولة السورية في عزها. تبدلت بسطات الكتب ببسطات البضائع الصينية الرخيصة. واليوم، لا باعة سريين لعلب السجائر المهربة، لا سوق سوداء للدولار، لا مجندون فقراء، لا طلاب مدارس بثياب عسكرية. لا سيارات متوقفة لدوريات المخابرات. مدينة متخففة من زمن البعث على نحو مباغت. لكن ما يذكرنا به وبشكل فجائعي وصادم، هو الجدران الممتلئة في كل مكان بملصقات صغيرة لصور مفقودين، ونداءات لمن يعرف عنهم شيئاً: فلان الفلاني اختفى يوم كذا عام 2012. فلان الفلاني اعتقل في تلك محلة عام 2013 ولم يعرف مصيره حتى الآن، من لديه معلومات ليتصل على هذا الرقم. فلان الفلاني، فاقد الذاكرة، لمن يعرفه يتصل على هذا الرقم.

هذه الملصقات، هي الإرث الرهيب والجرح الفظيع والغائر الذي لن يندمل لزمن مديد. هي التعبير المكثف للجريمة الشاملة التي ارتكبت بحق سوريا والسوريين. وكانت تلك الجدران نفسها أشبه بمقابر جماعية شاسعة وزنزانات لانهائية لعشرات ومئات ألوف السوريين. تلك الآلاف من الوجوه الملصقة على جدران دمشق تحدق فينا ككابوس من الشعور بالذنب. هذا هو متحف “سوريا الأسد”.

المذهل هو التحول الفيزيولوجي للغة الجسد السوري. هذه المشية الجديدة المطمئنة للسائرين، هذا الصدر المفتوح لا المنقبض، هذا الرأس غير المطأطئ، هذه العيون غير المواربة والمباشرة النظر، هذا الكلام العلني والأصوات الواضحة. هذه اللامبالاة بلا نظرات التوجس. بل هذه الراحة والشعور بالفرح والزهو، وحرية التجول بعد سنوات من الانحباس الطوعي أو القسري، ومتعة الانغماس بهذه الحشود. الفتاة الدمشقية قالت: منذ خمس سنوات لم أغادر حارتي. سيارات كثيرة لوحات أرقامها من مختلف المحافظات السورية: إدلب، حلب، حمص، درعا.. السوريون أتوا لزيارة العاصمة بعد حرمانهم منها لسنوات طويلة. يتفرجون كسياح على دمشق، هم الذي قضوا أكثر من عقد يتجنبون الخروج من منازلهم أو حاراتهم، بما يعنيه الخروج من محنة المرور على حواجز لا حصر لها، كلها مصدر خوف وخطر وامتحان مرعب، واحتمال مهانة أو اعتقال أو سلب.

كنت مثلهم، أتذوق حرية الذهاب من مدينة إلى أخرى، والمشي أنى شئت والتجول بلا حاجز.

أصل إلى الحمرا، الذي أراه الآن أجمل من حمرا بيروت الذي تشوه على نحو لا شفاء منه. شابات محجبات يتسكعن بمرح، يقفن عند بائع الذرة الذي زيّن عربته بعلم سوريا الحرة. ألقي التحية عليهن وأتذكر عبارة “حرائر الشام” أيام تظاهرات الثورة.

دمشق أنثى خجولة، تبتسم الآن.

(يتبع)

المدن

—————————————

ماذا عن التزامات سوريا الخارجية؟/ ناصر زيدان

الخميس 2024/12/26

أكثَرَ رئيس الإدارة السياسية الجديدة في سوريا أحمد الشرع، من الكلام عن الكيفية التي ستعمل بموجبها المعارضة بعد أن وضعت يدها على مفاصل الحكم في سوريا. ويمكن التأكيد أن نجاحاً نسبياً واضحاً حققته الاطلالات الإعلامية والتدابير الميدانية، لناحية طمأنت الشرائح السورية على اختلافها حول مستقبل البلاد. ولا تعني الاحتجاجات التي حصلت بتجييش له مُبرراته، أو ربما يكون مدروساً، في بعض المدن؛ أن الارتياح سيتبدَّد، حتى أن المكوِّن الكردي الأساسي والذي كان له مخاوف أكثر من غيره، يُبدي إيجابية، وهؤلاء لا يقومون بما يشاكس مسيرة الثورة، وهم يعرفون أن صداقة واضحة تربط بين إدارة سوريا الجديدة وتركيا.

لكن السؤال الذي يتداول به عدد كبير من المتابعين، وأوساط دبلوماسية وسياسية؛ هو ماذا عن التزامات سوريا الخارجية، لا سيما لناحية موقفها من الاتفاقيات الموقَّعة مع بعض الدول؟ وكيف ستتعامل الإدارة الجديدة مع هذه الملفات؟ وهل ستكون سوريا في المستقبل جزء من اصطفاف محوري إقليمي أو دولي، أم أنها ستعتمد ثوابت جديدة خاصة؟

والسؤال الأبرز الذي يُطرح في هذا السياق: ماذا عن مستقبل العلاقة بين سوريا وروسيا؟ خصوصاً لكون البلدان مرتبطان بمعاهدات مختلفة، وأهمها معاهدة استضافة قواعد عسكرية في ميناء طرطوس، وفي مطار حميميم في اللاذقية، وهذه الاتفاقيات لا تنقضي قبل 25 عاماً. بينما البُنية العسكرية واللوجستية للجيش السوري، كما في مرافق أساسية في البلاد، تعتمد على التجهيزات الروسية، وعلى التقنيات الشرقية.

أما فيما يتعلَّق بملفات خارجية أخرى؛ فالأمر لا يقلُّ أهميةً، خصوصاً منها ملف العقوبات الأممية والغربية التي تطال رئيس هيئة تحرير الشام أحمد الشرع شخصياً، او المفروضة على الدولة برُمتها، مثل قانون قيصر الأميركي (الذي يتعلق بمعاقبة مجرمي تعذيب السجناء ويطال منع التعامل مع الدولة)، وكذلك تمدُّد قانون “ماغنيتسكي” الذي يتعلَّق بمحاربة الفساد ليشمل سوريا منذ العام 2020، وقرارات الاتحاد الأوروبي التي تمنع الشركات الأوروبية من التعامل مع الساحة السورية بالكامل، كذلك قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1636/2005، والذي يفرض عدم التعامل مع مؤسسات حكومية سورية مشاركة بعملية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، بناءً على تقرير فريق المحققين. وربما مهم التعريج في هذه العجالة على المطالب التي تتحدث عن مستقبل الأسلحة الكيماوية التي تركها النظام، وهو موضوع يخضع لابتزاز أطراف خارجية أيضاً.

كل هذه العقوبات بطُلَت مُبرراتها بسقوط النظام الذي تسبب بها، ولكن بالوقائع العملية؛ لا بد من معالجة قانونية لها، تلغي مفاعيلها على الدولة السورية ومؤسساتها والأفراد الذين طالتهم من غير وجه حق. ويبدو واضحاً أن الولايات المتحدة – وعلى درجة أقل – الاتحاد الأوروبي، يحاولون مساومة الإدارة السورية الجديدة على رفع هذه العقوبات، مقابل الحصول على امتيازات لهم في البلاد – أو ضمانات وفق اللغة المستخدمة من قبلهم – تمنع عدم تكرار ما حصل، وأساسها إرساء نظام يتلاءم مع الوضع الجديد.

وعلى الجانب الآخر من هذا الملف الخارجي الشائك؛ لم تبرز حتى الآن الكيفية التي ستتعامل بها الإدارة السورية الجديدة مع جامعة الدول العربية، ومكانة سوريا هامة ومُتقدمة في هذا السياق. ويبدو واضحاً أن بعض الدول العربية اندفعت بسرعة للتعامل مع الوقائع الإيجابية الجديدة، كونها تعبر عن إرادة عارمة للشعب السوري، بينما بعض الدول الأخرى ما زالت تترقَّب المستجدات، وربما يكون القليل من هذه الدول؛ لم يرقى له التغيير الذي حصل، أو أنها تخاف من جنوح النظام الجديد نحو نموذج “إسلامي” يشبه ما حصل في مصر قبل العام 2013.

ويبقى الملف المهم في سياق المقاربات السورية الخارجية الجديدة، كيف ستتعامل سوريا مع نظام ايران الذي دعم الأسد بقوة؟ هذا النظام الذي استثمر سوريا في خدمة سياسته الدولية والإقليمية، له مصالح استراتيجية في البلاد، وهناك المئات من الشركات والعقارات التي تمَّ تسجيلها باسم مؤسسات الحرس الثوري الإيراني المختلفة، والإيرانيون يقولون إن لديهم ديون على سوريا تفوق 33 مليار دولار، بينما يطالب المسؤولون السوريون الجُدُد ايران بتعويضات لسوريا تفوق 300 مليار دولار. ولا يبدو أن صدمة قادة طهران مما حصل ستستمر طويلاً.

أما العلاقة مع تركيا؛ فهي تسيرُ بوثيرة متسارعة، لكن العقدة الشائكة تكمن في المقاربات المختلفة حول الملف الكردي، وهي قد تُسبب بعض الإرباكات للبلدين الجارين الصديقين، كما هذه العلاقة المتينة قد تساهم في حلّ المعضلات القائمة، إذا ما قررت أنقرة تقديم تسهيلات استثنائية لحل المسألة الكردية التي تؤرق تركيا بإستمرار، خصوصاً مع وجود فصائل كردية معادية لها على مساحة الشمال السوري.

أسئلة مهمة في سياق علاقات قادة الثورة السورية الجُدُد مع الخارج، تنتظر أجوبة، ويتوقف على مقاربتها مستقبل الدولة الواعدة.

المدن

————————————-

حلقات النار.. ماذا سيفعل أحمد الشرع ورفاقه أمام جغرافيا سوريا الملتهبة؟/ علاء الغربي

26/12/2024

جاء في “معجم البلدان” لياقوت الحموي أن مكان دمشق كان دارا لنوح -عليه السلام-، في حين كان منشأ خشب السفينة في جبل لبنان، وأنّ ركوبه في السفينة يوم الطوفان كان في ناحية البقاع، وقد رُوي عن كعب الأحبار أن أوّل حائط وُضع في الأرض بعد الطوفان حائط دمشق وحرّان.

وكما اتصلت جغرافيا الشام قديما، اتصلت حديثا رغم تقسيمها إلى دول وحدود سياسية، لكنها لم تمنع أن تتردد أصوات التغيير شمالا وجنوبا في خط متصل لا تعوقه الحدود الحديثة، فكان أول حائط ينقض بعد طوفان الأقصى هو حائط دمشق المنيع الذي احتمى به حكم عائلة الأسد طيلة 54 عاما، ليلحق بحائط غلاف غزة الذي انقض صبيحة السابع من أكتوبر ليُفجِّر زلزالا يبدو أنه سيُعيد صياغة هلال المشرق من غزة إلى طهران، وربما أبعد من ذلك مما قد تُسفر عنه الأيام. وتمثل قدرة القائد العام للإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع ورفاقه في صناعة فلك السياسة الخارجية الجديدة والإبحار بها بين جنبات جغرافيا سيّالة مطوّقة بحلقات من نار.

وفي تجلٍّ لظلال الجغرافيا الواسعة التي تغرق فيها الشام، وفي مقابلة مع قناة محلية تركية، قال وزير الخارجية التركي هاكان فيدان إنه أجرى مجموعة من الاتصالات مع نظرائه الروس والإيرانيين لإقناعهم بعدم اعتراض التحرك العسكري الذي بدأته المعارضة السورية.

على ما يبدو فقد كان هذا مفتاحا ضروريا لنجاح الحملة العسكرية التي شنَّتها قوى المعارضة السورية صبيحة السابع والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني، فيمكنك فقط أن تُلقي نظرة على الخريطة السياسية لسوريا قبل ذلك التاريخ لتُدرك مدى أهمية النفوذ الخارجي في حسم مصير سوريا، إذ كانت الحدود الداخلية المرسومة على خريطتها ليست للحدود الإدارية للمحافظات أو المدن، بل كانت لمناطق النفوذ المقسمة بين مجموعات محلية ترعاها أطراف خارجية، على رأسها روسيا وإيران.

ففي حين كان النظام يسيطر على العاصمة دمشق ومحافظات الساحل وبعض مدن الوسط، وتنتشر على أراضيه قوات روسية تضم ضباطا وطائرات وسفن راسية على موانئ طرطوس واللاذقية، بالإضافة إلى قوات من الحرس الثوري الإيراني وعناصر من حزب الله وجماعات مسلحة أخرى قادمة من مناطق مختلفة، تنقسم باقي الأراضي بين المعارضة المدعومة بدرجات متفاوتة من تركيا في الشمال والشمال الغربي، وأخرى مدعومة من الولايات المتحدة في مناطق من الجنوب، وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) المتمركزة في الشرق مع قوات أميركية تدربها وتقدم لها السلاح والمشورة، وأخيرا تتمركز إسرائيل في مرتفعات الجولان التي تحتلها منذ عقود.

قد تبدو الخريطة مشبعة بالوجود الدولي، ومع ذلك فإن هذا النفوذ يُعد أقل كثافة مما كان عليه الحال منذ 2013 حين تشرذمت الخريطة السورية وتمدد تنظيم الدولة الإسلامية وتعددت التدخلات الدولية، وصولا إلى 2020 حين وقَّعت روسيا مع تركيا اتفاق وقف إطلاق النار، لتستقر خريطة سوريا على النحو الأخير الذي انهار سريعا بعد عملية “ردع العدوان”.

تبلغ مساحة سوريا نحو 187 ألف كيلومتر مربع، وتحيط بها تركيا شمالا بحدود تبلغ 900 كيلومتر مربع، ثم العراق والأردن في الشرق بحدود 600 و400 كيلومتر، وإلى الجنوب تتماس مع “إسرائيل” بحدود 83 كيلومترا، ثم لبنان بحدود 400 كيلومتر، ويمتد شريط ساحلي في منتصف الجهة الشرقية منها بطول 190 كيلومترا، يُمثِّل خط اتصالها البحري بالدول الأكثر نفوذا بها، فرنسا سابقا ثم روسيا.

هذه الجغرافيا التي تقع على خطوط التماس الجيوسياسي بين قوى إقليمية وعالمية مَثَّلت عبر تاريخها إحدى أهم ساحات الصراع على النفوذ، فما الذي يميز الجغرافيا السياسية السورية فيجعلها محط أنظار قوى خارجية؟ وكيف أثَّر عامل الجغرافيا في مسار الثورة السورية؟

قدرُ الجغرافيا السورية

بهذه الكلمات المفتاحية العميقة عبَّر المفكر المصري الراحل جمال حمدان عن أثر الجغرافيا في صناعة أحداث التاريخ، ويُنسب للقائد العسكري الفرنسي نابليون بونابرت أنه قال: “الجغرافيا قدر الأمم”، وتلك حقائق متكررة، فلطالما حددت الجغرافيا مصائر أمم وشعوب.

بيد أنه لا توجد نظرية واحدة تشرح التفاعل بين الجغرافيا والسياسة، بل كان هذا السؤال دائما مجالا للجدل الواسع الذي أنتج العديد من التفسيرات والتصورات. ويقدم أستاذ العلوم السياسية فيل كيلي أطروحة تحاول جمع شتات الفرضيات المتعلقة بالجيوبوليتيك في مجموعة من المنصات. والمنصة، بحسبه، هي صندوق افتراضي يضعه المحللون لتوصيف منطقة معينة.

فمثلا تصف منصة “قلب الأرض” المنطقة الوسطى للدولة أو القارة، التي تُمثِّل مركز السيطرة السياسية. وتصف منصة “رقعة الشطرنج” وجود خليط بين أطراف متحالفة وأخرى متصارعة (دول أو جماعات) في منطقة واحدة، ما يعني تميزها بالصراع والانقسام المستمر الذي لا يتوقف إلا بخلق ديناميكية توازن قوى للحفاظ على استقلالية المنطقة أمام التدخل الخارجي.

وتصف منصة “رقعة الشطرنج” عادة نمط العلاقات بين الدول في منطقة ما، لكن عند تطرُّقه لوصف نمط العلاقات بين جماعات محلية داخل إطار الدولة، قدَّم مصطلح “الحزام المتداعي” (Shatterbelt) الذي يميز ديناميكية الصراع في المستوى الداخلي، بسبب الانقسام السياسي أو الطائفي أو الطبقي، الذي قد يؤدي إلى تدخل قوى خارجية.

وعودا إلى سوريا، تُعد العاصمة دمشق بمنزلة “قلب الأرض” في الحالة السورية، وهي وفق الباحث في شؤون الشرق الأوسط آراش رايزنيجاد تظهر في الخريطة كأنها حصن صغير منعزل تربطه طرق متفرقة إلى بقية البلاد، ويحيط بها مجموعة من المناطق المختلفة عنها جغرافيا التي عادة ما ارتبطت تاريخيا بجهات خارجية أكثر من ارتباطها بدمشق.

وتقع حلب في أقصى الشمال، وهي بوابة تجارية طبيعية جاذبة للقوى الخارجية عن طريق البر، مما أكسبها مكانة منافسة لدمشق، وفي الغرب ثمة شريط ساحلي عُدَّ في فترات تاريخية متعددة ملجأً للأقليات الدينية في البلاد، وعادة ما كان نقطة الاتصال مع القوى الأجنبية المهيمنة في سوريا، مثل فرنسا خلال فترة الانتداب ثم روسيا عام 2015. وفي الشرق ناحية نهر الفرات، ارتبطت مناطق الرقة ودير الزور والحسكة تاريخيا بالموصل أكثر من ارتباطها بدمشق.

أما جنوبا فقد كانت الجبال ملجأ أيضا لبعض الطوائف الدينية. هذا التشرذم الجغرافي والهوياتي في آنٍ واحد، فضلا عن وقوع سوريا بين قوى كبرى عبر التاريخ، جعلها -وفق رايزنيجاد- تعاني غالبا من صعوبة في تكوين هوية وطنية شاملة، وسهولة في تعرضها للتدخل الخارجي.

وتقع سوريا أساسا على منصة رقعة الشطرنج، حيث العديد من دول الجوار التي تجد فيها مصالح حيوية تريد الحفاظ عليها، وتحولت لاحقا إلى منصة الحزام المتداعي، حين انفجرت التناقضات الداخلية لفسيفساء المجتمع السوري، المقسمة على أساس ديني وعِرقي بين السنة والشيعة والعلوية والعرب والأكراد والدروز وغيرهم، وخارجيا بتحالفها مع بعض جيرانها في مواجهة إسرائيل، ومشكلاتها مع لبنان، واختلاف نظامها السياسي عن القائم في الأردن، إلى جانب علاقاتها المتأرجحة مع تركيا، خاصة بعد عام 2011، فضلا عن التدخل الإيراني ثم الروسي بعد الثورة.

وهذا ليس مستغربا، فموقع سوريا الجغرافي جعلها منذ ولادة النظام الإقليمي الحديث في أعقاب الحرب العالمية الأولى في موقع القلب من الصراع على الشرق الأوسط.

ثم بعد نشأة النظام العسكري في سوريا في الخمسينيات وإلى سنوات الثورة، كانت سوريا أيضا ساحة صراع دولي وإقليمي على النفوذ، انخرطت فيه في أوقات مختلفة الولايات المتحدة ودول أوروبية والاتحاد السوفياتي ثم روسيا وإسرائيل وتركيا ومصر والعراق وإيران والسعودية والأردن وغيرها.

من الجهات الأربع، ثمة حدود ملتهبة قابلة للاشتعال، في الشمال تشترك تركيا مع سوريا في حدود تفصل بين مناطق تقطنها أغلبية كردية، ومنذ انهيار الدولة العثمانية ورسم الحدود السياسية الحديثة تصاعدت المسألة الكردية، وتنامى نشاط الحركات الانفصالية حتى باتت تُمثِّل مصدرَ توترٍ مستداما لكلا البلدين.

ثم الحدود مع العراق الذي كان في عهد صدام حسين الخصم اللدود لنظام الأسد (الأب)، ثم بعد سقوط صدام أصبحت الحدود بين البلدين في حالة سيولة، تارة أمام الميليشيات الشيعية، وتارة أمام تنظيم الدولة الإسلامية الذي أزالت جرافاته الحدود بين البلدين في ذكرى توقيع اتفاقية سايكس بيكو في يونيو/حزيران عام 2014، ثم الجولان المحتل وخطوط التماس مع إسرائيل، ثم لبنان الذي لم تهدأ علاقاته مع سوريا ولم تبتعد عن عهد التوتر منذ تأسيس البلدين.

الثورة السورية: تفجير التناقضات

في خضم رحلة بشار الأسد لتأمين نفسه ونظام حكمه وتعزيز سلطته، اعتمد سردية مواجهة التدخلات الخارجية لمنح نفسه حق إسقاط كل المحاذير السياسية والقانونية والدولية، فضلا عن الأخلاقية، من أجل الحفاظ على “الدولة”، لكن المفارقة أنه في سبيل ذلك ضحَّى باستقلالية الدولة وبمقدراتها، وبنيتها التحتية، ومنازل المواطنين وممتلكاتهم، وجزء كبير من الشعب نفسه.

وأدى استعمال القتل الوحشي من قِبَل النظام، الذي بلغ حد إسقاط الأسلحة الكيميائية والبراميل المتفجرة على المناطق المدنية، إلى خلق حلقة مفرغة من انعدام الأمن. فممارسة النظام للعنف دفعت بالمعارضة إلى ممارسة عنف مضاد، ثم اتخذه النظام ذريعة إضافية لتصعيد العنف مرة أخرى، وعودة المعارضة للرد بعنف مقابل، نتج عن ذلك تآكل شرعية النظام وتراجع قدراته العسكرية بسبب صعوبة التجنيد أو نفاد الإمدادات، ما مهَّد الأرضية لاستدعاء أطراف خارجية بُغية حسم الصراع لصالح النظام.

واستغلالا للتناقضات المجتمعية لصالحه، اعتمد النظام في استدامة بقائه على نخبة من الأقلية العلوية والبعثيين الموالين له في الأجهزة العسكرية والأمنية، وهو ما كان يحتاج إلى رافعة دولية تعزز نفوذ تلك الأقلية وتُعوِّض تهاوي الدعم الجماهيري الذي كان قائما بفعل القبضة الأمنية المُحْكَمة، منحته إيران بصورة كبيرة هذه الرافعة، كما لجأ إلى ما يسمى دبلوماسية “الأبواب الخلفية”، فعلى سبيل المثال اتخذ من تصنيع وتجارة الكبتاغون، التي قادها ماهر الأسد شقيق الرئيس، أداة للضغط على دول عربية لإعادة تأهيله دوليا وإرجاعه إلى “الحضن العربي”.

المخدرات القادمة من سوريا بين 2011 و2020، لاحظ تصاعد الكمية

وفي مقالة بعنوان “العوامل الجيوسياسية في الحرب الأهلية السورية”، يقول الباحثان كيم هوا تان وأليروبندي بيرودين إن ما حدث في سوريا كان مرتبطا بتداخل عوامل تتعلق بالوضعية السياسية الداخلية وتداخلها مع الأوضاع الإقليمية ثم الدولية، في مزيج معقد ومركب كانت الجغرافيا الفريدة لسوريا عاملا رئيسيا فيه.

فبعد تحول الثورة السورية إلى صراع مسلح، واجه نظام الأسد نقصا حادا في العامل البشري بسبب الإصابات والانشقاقات والتهرب من الخدمة العسكرية. كما أسهم التراجع الحاد للاقتصاد السوري في عدم قدرة النظام على حكم المناطق التي يسيطر عليها وتمويل جهوده العسكرية، ما جعل من الصعب على النظام حسم الحرب لصالحه.

كما أن تصلُّب النظام ورفضه إنهاء الصراع عبر المفاوضات، بوصفه نظام أقلية يرى تسليم السلطة سلميا خطوة انتحارية، إلى جانب تفكك المعارضة وتعدد مطالبها، زاد من تعقيد المشهد الداخلي، ما أطال عمر الصراع وفتح الباب أمام لجوء النظام للاستعانة بالدعم الخارجي لضمان بقائه ومسارعة دول أخرى لإسناد قوى المعارضة، كلٌّ حسب مصلحته.

كما خلط ظهور تنظيم الدولة أوراق الساحة الإقليمية، بوصفه جماعة مسلحة مرتبطة بالصراع في عدة مناطق أخرى بخلاف سوريا، ما شتَّت أهداف بعض الداعمين الدوليين وحوَّل هدفهم الأول من مساندة قوى المعارضة إلى القضاء على التنظيم.

ووجدت هذه الأوضاع الداخلية والإقليمية المعقدة صداها على الساحة الدولية، فإحجام الغرب عن دعم قوى المعارضة والدخول مباشرة في الصراع رغم انتقادهم لمنظومة تحالفات الرئيس السوري يرجع جزء منه إلى الخوف من وقوع أسلحة إستراتيجية بيد مجموعات لا يثق الغرب في موقفها المستقبلي تجاه إسرائيل، مما أنتج في المحصلة انفساح المجال أمام روسيا لتعزيز حضورها في الشرق الأوسط وأمام إيران لاستكمال بناء ما سمّته محور الممانعة.

إيران وسوريا وروسيا

وزير الخارجية الإيراني السابق جواد ظريف (يمين) ووزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف (وسط)، ووزير خارجية سوريا السابق وليد المعلم (رويترز)

سوريا البعيدة عن الحدود القريبة من المصالح

التعقيد الذي فرضته الجغرافيا السورية لم يقف عند بنيتها الداخلية أو حدود دول الجوار، بل ثمة أصداء ترددت حتى بلغ مداها نقاطا بعيدة في جغرافيا العالم، حيث تقع سوريا في القلب من الشرق الأوسط، وهي منطقة تماس بين قارات العالم، من آسيا برا نحو تركيا وأوروبا، وبحرا نحو الساحل الجنوبي لأوروبا وشمال أفريقيا.

كما أنها كانت ولا تزال مركزا تجاريا مهما، يتحكم في ممرات ومضائق بحرية إستراتيجية على طول البحر الأحمر وفي غرب المتوسط. هذه الوضعية الخاصة للشرق الأوسط جعلت الفاعلين الدوليين والقوى العظمي تعتبره مجالا رئيسيا لحسم النفوذ وتسوية الصراعات ومعايرة موازين القوى.

بالنسبة للولايات المتحدة، كانت سوريا أحد أهداف العقيدة الخارجية الأميركية لحفظ أمن إسرائيل عبر دعم حكومة أقلية، أو إشغالها في صراع الهيمنة مع العراق أو مع مصر، وأخيرا بتوظيفها بوصفها منصة لابتزاز الخصوم في المنطقة. وتحركت روسيا بالمقابل من الولايات المتحدة على عدة أصعدة، فلطالما حرصت أن تقدم نفسها “شريكا نزيها” لدول الشرق الأوسط لتحسين سمعتها الدولية، لكن حرصها على مواجهة النفوذ الأميركي في حوض البحر المتوسط الذي تعتبره الخاصرة الجنوبية الرخوة للبحر الأسود دفعها لكسر تلك الصورة والتحرك عسكريا لإسناد النظام السوري.

ويقول أستاذ العلوم السياسية في جامعة ابن خلدون التركية، علي أصلان، إن روسيا كانت تهدف من وراء دعم النظام السوري للوصول إلى المياه الدافئة ومنها إلى أفريقيا، وهو ما يُعد حيويا بالنسبة لها خاصة بعد خسارة حليفها الليبي في شمال أفريقيا، معمر القذافي، إبان ثورة فبراير/شباط 2011.

ويضيف أصلان أن روسيا عرضت على النظام القديم في سوريا حمايته أمام شعبه مقابل حصولها على قواعد عسكرية برية والسماح لقطعها البحرية بالرسو على موانئ الساحل الغربي لسوريا.

أما في إيران، فعلى ما يبدو أن دروس التاريخ لا تزال ماثلة أمام أنظار صناع السياسة الخارجية، فخسائر بلادهم في القرن التاسع عشر لصالح الإمبراطوريتين الروسية والبريطانية تُشكِّل حافزا لاستعادة مكانتها في المنطقة. ومن أجل ذلك صنع النظام الإيراني مزيجا معقدا من الإرث الفارسي القديم والقومية الإيرانية الحديثة إلى جانب السردية الشيعية من أجل التعبئة لاستعادة نفوذها في الشرق الأوسط والقوقاز، كما يقول أستاذ دراسات الشرق الأوسط أمين تارزي.

ومع اندلاع الثورة في سوريا، وتزايد حاجة النظام السوري إلى حلفاء من الخارج، سارعت إيران لملء الفراغ في سوريا وخلق عمق إستراتيجي ووصْل نفوذها في العراق بلبنان عبر سوريا، مما يُسهِّل عملية إمداد الأسلحة إلى حزب الله وتعميق حصارها لإسرائيل من جهة، وتثبيت مكانتها إقليميا من جهة أخرى، دون تصدير حدودها للخطر.

وتقاطعت السياسة الخارجية الإيرانية مع نظيرتها التركية في المنطقة، فقد فرضت الجغرافيا على الدولتين مساحات للتنافس الجيوسياسي تاريخيا، كانت سوريا دائما واحدة منها. يقول أصلان إن السياسة الخارجية التركية تحولت منذ قدوم حزب العدالة والتنمية من العزلة التي فرضتها الأنظمة العسكرية خلال القرن الماضي إلى الانفتاح على محيطها الحيوي ومجالها التاريخي.

وترى تركيا في سوريا مساحة لاحتواء النفوذ الإيراني واحتواء التوسع الإسرائيلي المحتمل في المنطقة نحو حدودها، كما أن عملية الانفتاح التي سعت لترسيخها خلال العقدين الماضيين تقوم أساسا على إيجاد حكومات صديقة، خاصة في سوريا القريبة منها جغرافيا.

تتشابه سوريا إذن في طبيعتها الجيوسياسية بالنسبة للشرق الأوسط مع بولندا بالنسبة لأوروبا، فهي أرض منبسطة دون حدود طبيعية محاطة بمجموعة من الدول الصديقة والعدوة، وتقع في تقاطعات قوى كبرى ترى فيها عمقا إستراتيجيا داخل أوروبا. وحتى تتغلب سوريا على خصائص جغرافيتها السياسية كان عليها دائما الاستعانة بحليف موثوق أو التحول إلى قوة عسكرية تفرض نفوذها بالقوة، وكما كانت الجغرافيا السورية عبئا على نظام الأسد وعلى الثورة، فهي لا تزال عبئا أيضا على السلطة الجديدة وأحد أهم التحديات التي ستواجهها.

المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية

——————————–

ألغام في طريق الحوار الوطني/ عدنان علي

الخميس، ٢٦ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٤

بعيد الإعلان عن تشكيلها حكومة تسيير الأعمال، تصاعدت الضغوط على الإدارة الجديدة في سوريا من أجل الدعوة إلى مؤتمر حوار وطني شامل، يضع الأساس لعملية الانتقال السياسي في البلاد بعد انتهاء حكم آل الأسد، وذلك في إطار مخاوف محلية وخارجية من استئثار “هيئة تحرير الشام” بالسلطة، في ضوء اعتماد الهيئة شبه الكلي على كوادرها في إدلب في تشكيل الحكومة الحالية، وإدارة المرافق المختلفة.

وتركت الاستجابة السريعة من الإدارة الجديدة لهذا المطلب، ارتياحاً عاماً، بوصف ذلك دليل على عدم رغبتها بالاستئثار بالسلطة، وأنها ستتولى فقط إدارة الفترة الانتقالية القصيرة لمدة ثلاثة أشهر، بغية إنجاز بعض المهام المستعجلة، وتتعاون مع الجميع، بعد ذلك لبناء سوريا المستقبل.

ولعل من أولى مهام الحكومة الحالية التخلص من بعض تركة حكومة النظام السابق، وخاصة عناصر الجيش والأمن، الذين قد يشكل تحالف الموالين منهم للنظام خطورة على الحكومة والبلاد، عبر عمليات التسويات التي تجريها لهم، إضافة الى ضبط الأمن ومحاولة تأمين الحد الأدنى من الخدمات والمستلزمات المعيشية.

غير أن الضغوط التي تتعرض لها الإدارة في دمشق لعقد هذا المؤتمر بغية تقديم تطمينات للقوى المتخوفة من الاستئثار، سواء كانت مخاوف حقيقية أم مصطنعة، لا ينبغي أن تكون سببا في عقد مؤتمر مستعجل وغير مستوف لشروط النجاح، إذ تشير تجارب الماضي، وتجارب شعوب أخرى، إلى أن الاستعجال في مثل هذه الحالة، قد تكون له عواقب سلبية كثيرة، وقد لا تصل إلى المؤتمر القوى والشخصيات الجديرة بالوصول، فضلاً عن إمكانية إدراج قضايا أقل أهمية في جدول أعمال المؤتمر، على حساب القضايا الحقيقية، تحت ضغط بعض الأصوات التي تستقوي بالشارع أو بالطائفية أو قوى خارجية، أو ما تثيره من ضجيج عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

وأول هذه الألغام التي أثيرت كانت بشأن تشكيل اللجنة التحضيرية التي ستتولى الإعداد للمؤتمر من يشكلها؟ ومن هم أعضاؤها؟ وهل هي من سيتولى توجيه الدعوات لحضور المؤتمر؟ وما المعايير التي ستعتمد عند توجيه هذه الدعوات؟ وهل سيتم الرضوخ لبعض الضغوط الدولية والداخلية لدعوة ممثلين مقربين من النظام المخلوع بحجة التوازن الطائفي، أو شخصيات معروفة بتطرفها، وتفجيرها لأي حوار أو مؤتمر تحضره، أو شخصيات كان لها حضور في السنوات الماضية، عسكري أو سياسي، لكن ثبت عدم جدارتها، ولا تحظى باحترام في الشارع السوري؟

ولم تحدد الإدارة الجديدة القوى السياسية والمدنية التي سيتم التعامل معها، ولم تتضح تالياً الصورة بشأن كيفية اختيار أعضاء مؤتمر الحوار الوطني ومدى تمثيله لكل السوريين.

وفي حين تطالب قوات “قسد” في شرقي سوريا بأن توجه لها الدعوة كممثل عن الكرد، سارع المجلس الوطني الكردي إلى إرسال وفد إلى الحسكة للتفاوض مع “قسد” من أجل تشكيل وفد موحد للأكراد للتفاوض مع الإدارة في دمشق، وتالياً اختيار مندوبين عن الأكراد، يمثلون كل الطيف السياسي الكردي.

ومثل هذا الأمر يقال عن “الائتلاف الوطني” الذي مثّل الجسم السياسي للمعارضة في المرحلة السابقة، ومعه “هيئة التفاوض”، والذي يريد تمثيلاً قائماً على أساس “سياسي”، وليس فقط القوميات والأديان والعشائر، رافضاً ما صدر عن الإدارة الجديدة بأن الدعوة ستوجه لأعضاء الائتلاف كأفراد، وليس كمجموعة سياسية.

أما الأفراد أنفسهم، وقوى “المجتمع المدني” فهم طيف واسع ومتنوع، ولا يمكن إرضاء الجميع، مهما بذلت جهود في هذا الإطار.

ومن مهام اللجنة التحضيرية للمؤتمر تحديد طبيعة العملية التي ستؤدي إلى انتخاب اللجنة التأسيسية أو “هيئة الحكم الانتقالي” أو أية تسمية أخرى، تمثل كل فئات الشعب السوري السياسية والطائفية والعرقية والجغرافية، تواكب الحكومة المؤقتة التي ستشكل بعد مطلع مارس آذار المقبل، والتي ستكون حكومة كفاءات، وليس حكومة ولاءات، للعمل على وضع مسودة للدستور الجديد ليتم طرحه للاستفتاء، ومن ثم إجراء انتخابات على أساس هذا الدستور، بما يفضي في النهاية للوصول إلى حكومة دائمة ورئيس للبلاد، إلى جانب برلمان وطني، ومجالس إدارة محلية منتخبة، وفق الصلاحيات التي سيحددها لها الدستور، إذ يطالب بعضهم بتوسيع صلاحيات تلك المجالس، خاصة في بعض المناطق، بما يصل إلى مستوى مرتفع من اللامركزية في الإدارة.

وبطبيعة الحال، سوف تتضح في هذه المرحلة هوية الدولة، وتعريفها لنفسها، كدولة ومدنية أو علمانية أو دينية، أو مختلطة بين كل ذلك، وربما يكون النموذج التركي ملهماً هنا لكثير من الأطراف.

والى جانب هذا السيناريو، تضغط قوى دولية وإقليمية لاعتماد القرار 2254 كخارطة طريق للمرحلة الانتقالية، برغم انزياح أحد طرفي الحل، وهو النظام السابق، على أساس أن تحل القوى الأخرى غير الموجودة في السلطة حاليا مكان النظام، ويتلاقى مع هذا الطرح “الائتلاف” الذي يريد أن يضمن له مكاناً في المرحلة المقبلة.

وبطبيعة الحال، فإن الانسياق في هذا السيناريو، سيجعل المرحلة الانتقالية تحت “وصاية دولية”، وهو ما قد يزيد من الإرباك فيها، بسبب تضارب مصالح القوى المتدخلة في الشأن السوري، ومحاولة بعض الأطراف المحلية الاستقواء بقوى خارجية. ومن هنا، ينبغي التمسك بعملية انتقال سورية محضة، من دون تدخلات خارجية، إلا في إطار التيسير والنصح وتقديم الخبرات التقنية، مع إمكانية وجود “مراقبين دوليين” في هذه المرحلة بغية تقديم أقصى ما يمكن من حيادية وشفافية للشعب السوري والمجتمع الدولي الذي يراقب ما يحدث في سوريا عن كثب، وهو ما يساعد على الانفتاح الدولي على سوريا، ورفع العقوبات.

تلفزيون سوريا

——————————-

النصر للشعب كلّه وليس للفصائل فقط/ مصعب الحمادي

2024.12.26

منذ عام 2012 بدأ النخر يدبّ في نظام الأسد فقد نزل معظم الشعب إلى الشوارع مسقطين هيبة المخلوع بشار ووالده وعائلته. كما انشقّ عددٌ هائلْ من جنود وضباط الجيش الشرفاء فشكلوا الجيش الحرّ وحرروا في مراحل مبكرة أكثر من نصف سوريا وساعدوا المعارضة على تشكيل أجسامٍ سياسية والمطالبة بمقاعد النظام في الجامعة العربية والأمم المتحدة.

كل ذلك حصل عام 2012 قبل أن تكون معظم الفصائل العسكرية الحالية – وخصوصاً الإسلامية منها – قد ولدت أو على الأقل قبل أن يكون لها أي وزن عسكري أو قاعدة شعبية. كان معظم قادتها في السجون. وحتى عندما رُفع الغطاء الدولي عن نظام الأسد بفضل صبر السوريين وكفاحهم لثلاث عشرة سنة فقد هرب المخلوع بشار من دمشق من دون معركة ومن دون قتال ففتحت دمشق ذراعيها لاحتضان أبناء سوريا كلهم وليس لهذا الفصيل أو ذاك فقد انقضى عهد الأنانية والإقصاء وولدت سوريا الحرة العزيزة بفضل تضحيات السوريين؛ كل السوريين.

لذلك يجدر بمن وجدوا أنفسهم في دمشق اليوم أن يتواضعوا للسوريين فهم أصل القصة ومعدن الثورة ونبع التضحيات وأصحاب الانتصار الحقيقيين.

ما حصل في سوريا هو في منظور التاريخ هائلٌ وعظيم وأكبر بكثير من أن يتوهم فصيلٌ أو حزب أو جماعة أو أيديولوجية أنه يخصها وحدها من دون غيرها. في سوريا انتصر الشعب على طغمةٍ حاكمة مجرمة ومعقدة التركيب تحالفت مع كل الأشقياء في العالم لذبح السوريين وأخرجت أقبح ما في الطبيعة البشرية من جَورٍ وسادية فأذاقت السوريين ألواناً من الموت عجيبة ودفعت بمن لم يمت منهم إلى لجج البحار ومجاهيل الصقيع والبرد هرباً بأرواحهم، وكثيرٌ من هؤلاء لم ينجُ.

من الصور التي لا تنمحي من ذاكرتي هي صورة ذلك الأب السوري وابنه اللذين عُثر عليهما قبل سنوات جثتين متجمدتين في إحدى غابات دول أوروبا الشرقية وهما في رحلة الهروب من جرائم نظام الأسد. هذا الأب وذاك الولد وغيرهما الملايين من السوريين أمواتاً وأحياءً هم أجدر بهذا النصر اليوم وأحقّ بالأوسمة.

لقد تلقى نظام الأسد أقوى الضربات العسكرية والمعنوية منذ السنة الأولى للثورة وهو في حالة سقوطٍ حرّ منذ ذلك اليوم. وقد شارك في المظاهرات الأولى العلوي والسني، والمسلم والمسيحي، والعربي والكردي؛ باختصار كل السوريين فلا فضل لأبيض على أسود اليوم في سوريا إلا في الثورة والثورة لا دين لها ولا مذهب ولا طائفة ولا إثنية. الثورة كانت غضبة كرامة في وجه الإذلال، وصرخة حرية في نفق القمع، وسيف عدلٍ أُشهر ذوداً عن أمةٍ مظلومة. نعم يوم تدخّلت إيران وميليشياتها المذهبية حصل تحولٌ طفيف في أمزجة الثوار نحو الأسلمة وما كان لهذه الحالة أن تتفاقم لتتصدر المشهد اليوم لولا الدعم الدولي المتأخر الذي فضّل أن يرى السوريين فصائل ومذاهب، لا شعباً مظلوماً وشجاعاً ينهض للمطالبة بكرامته واسترداد بلده.

ما زلت سعيداً جداً لما حصل؛ سعيداً لدرجة عدم التصديق. أنا سعيدٌ خصوصاً لأجل رزان زيتونة ومشعل تمو وعبدالباسط الساروت وفدوى سليمان. إن تضحيات هؤلاء الرفاق وتضحيات الملايين غيرهم من نساء ورجال سوريا لم تذهب سدىً. لكن فرحتي لن تكتمل إلا عندما أرى تمثيلاً حقيقياً لتنوع السوريين في دمشق وخصوصاً في وسائل الإعلام وما تبثّه من مشاهد ومَن تصدّرهم من أشخاصٍ من عاصمة بني أمية، إذ يفترض بعد سقوط النظام الطائفي أن يلمع الوجه الوطني والإنساني لسوريا التي يبلغ عمر حضارتها ثمانية آلاف عام لا أن نعطي الانطباع أن ما حصل هو وصول طائفةٍ للسلطة بدل طائفة، وجماعةٍ بدل جماعةٍ أخرى. لابد من حوارٍ وطني سوري حقيقي يشمل كل السوريين ولا يقصي أحداً فسقوط النظام هو النصف الأول من المهمة ويبقى النصف الثاني هو ما يتعلق ببناء سوريا وولادتها ونهضتها من الصفر تقريباً بعد أن ترك النظام البائد البلاد في حالةٍ مخيفة من الخراب. إن بناء سوريا الجديدة على أسس الدولة الحديثة يحتاج من الكفاءات والمقدرات والخبرات والعزائم ما لا يمكن أبداً أن يتوفر في حزبٍ واحدٍ أو فصيلٍ بعينه من دون الناس أجمعين. لذلك على كافة الفصائل وخصوصاً الإسلامية منها أن تُفسح في المشهد لكل السوريين للاحتفال بحريتهم وامتلاك نصرهم ثم الاتفاق على شكل الدولة ومستقبل سوريا الجديدة التي ستنهض على أنقاض النظام المخلوع. فالثورة كما كانت منذ البداية شعبية، فالنصر الذي تحقق في النهاية هو كذلك شعبي؛ ينتمي للشعب كلّه وليس للفصائل فقط.

تلفزيون سوريا

——————————-

سوريا الجديدة: بين تحديات البناء وآمال المستقبل/ ياسر عبد الرحيم

2024.12.26

بعد سقوط نظام الأسد المجرم وانتصار الثورة السورية، تقف سوريا اليوم على أعتاب مرحلة تاريخية تحمل تحديات كبيرة داخلية وخارجية، وتفتح آفاقًا واسعة لتحقيق آمال الشعب السوري. إنها لحظة مفصلية تستدعي من الجميع التكاتف والعمل الجاد لبناء دولة جديدة قائمة على سيادة القانون، دولة المؤسسات التي تضمن العدالة والحرية والمساواة، وتصون حقوق جميع مواطنيها من دون استثناء أو تمييز.

ولا يمكن تحقيق هذا الهدف إلا عبر نظام سياسي جديد يعبر عن تطلعات الشعب السوري، ويستند إلى دستور يعكس التنوع السكاني السوري، ويضمن الفصل بين السلطات، واحترام سيادة القانون كمرتكز رئيسي.

إن المرحلة القادمة تتطلب إيلاء أهمية خاصة للسلم الأهلي، الذي يُعد أساس استقرار المجتمع السوري. إن انتشار السلاح بين أيدي المدنيين في عدد من المدن والقرى، ولا سيما في حلب وشمال شرقي سوريا وبعض قرى الساحل، يمثل تهديدًا مباشرًا للأمن والاستقرار، وقد يؤدي إلى زعزعة السلم الأهلي إذا لم يتم التعامل معه بحكمة وحزم. ضبط الأمن وإنهاء حالة الفوضى الناتجة عن انتشار السلاح يجب أن يكون ضمن أولويات الدولة العتيدة، مع التركيز على معالجة هذا الملف تدريجيًا لضمان عدم حدوث أي تصعيد أو صدامات داخلية.

في هذا السياق، تأتي أهمية الاتفاق مع قوات شمال شرقي سوريا، حيث لا تزال المعارك مستمرة في بعض المناطق، مع تهديدات متصاعدة قد تؤثر على الأمن الداخلي السوري وعلى الأمن الإقليمي والدولي. ضرورة سحب السلاح من هذه المناطق يجب أن تكون ضمن أولويات المرحلة القادمة، بما يضمن استعادة الاستقرار وتهيئة الظروف لتحقيق سلام شامل ومستدام.

بناء جيش سوري جديد يعتمد على الضباط الأحرار الذين أظهروا إخلاصهم خلال السنوات الـ 14 الماضية، هو خطوة أساسية للحفاظ على وحدة سوريا وحمايتها من أي تهديدات داخلية أو خارجية. إنهاء الحالة الفصائلية ودمج مختلف القوى العسكرية في إطار جيش وطني موحد يُعد ضرورة حتمية. تحقيق ذلك يتطلب رؤية متوازنة وشجاعة لبناء الثقة بين جميع الأطراف، مع ضمان التدرج في تنفيذ هذه الخطوة الحساسة.

على الجانب الآخر، لا يمكن لأي تحول سياسي وأمني أن ينجح من دون اقتصاد وطني قوي. إعادة بناء الاقتصاد السوري ليست مجرد حاجة ملحّة لتأمين حياة كريمة للسوريين، بل هي ركيزة أساسية لاستدامة السلم الأهلي. يجب أن تتم عملية إعادة الإعمار وبناء الاقتصاد على أسس صحيحة، بمشاركة جميع الأطراف السورية في الداخل والخارج، بعيدًا عن عقلية الحزب الواحد التي هيمنت على الدولة خلال حكم النظام المخلوع.

ولتحقيق ذلك بسرعة وكفاءة، يجب أن تسيطر الحكومة السورية الجديدة على كامل مقدرات وثروات سوريا، وخصوصًا النفط والغاز والفوسفات، لضمان توفير الموارد اللازمة لبرنامج إعادة الإعمار ودفع معاشات محترمة لموظفي الدولة السورية الجديدة.

إن المرحلة القادمة تتطلب نهجًا جديدًا يقوم على التشاركية والشفافية، وتجاوز عقلية الإقصاء والاستبداد التي أضرت بسوريا لعقود. علينا العمل على إشراك كافة الهيئات الوطنية السورية التي أسهمت في نضال الشعب السوري طوال السنوات الماضية، وضمان أن تكون هذه المؤسسات جزءًا من عملية بناء الدولة. تحقيق هذا الهدف يتطلب الالتزام بحوار وطني شامل يشمل جميع المكونات السورية من دون استثناء، بما يضمن تأسيس دولة تحتضن الجميع وتحترم اختلافاتهم.

في ظل هذه التحديات، يتحمل المجتمع الدولي مسؤولية دعم الشعب السوري في تحقيق انتقال سياسي شامل. هذا الدعم يجب أن يرتكز على احترام سيادة سوريا، مع توفير الموارد والخبرات اللازمة لإعادة الإعمار وتعزيز مؤسسات الدولة على أسس سليمة.

إن الثورة السورية لم تكن مجرد انتصار على نظام استبدادي، بل هي بداية لعهد جديد يجب أن يقوم على قيم الحرية والعدالة والمساواة. النصر الذي تحقق على نظام الأسد هو ملك للشعب السوري بأسره. ومع ذلك، الحفاظ على هذا النصر ومنع سرقته أو انحراف مساره يتطلب منا جميعًا العمل بحذر ويقظة. هناك مخاطر عديدة تهدد هذا الإنجاز، بما في ذلك الفوضى الأمنية، والخلافات الداخلية، أو محاولة احتكار السلطة من قِبل طرف من دون آخر.

سوريا الجديدة تحتاج إلى تضافر جهود جميع أبنائها، في الداخل والخارج، لبناء وطن حر ومستقر يتسع للجميع. بناء الدولة على أسس قوية تضمن سيادة القانون والسلم الأهلي، ومواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية، هو مسؤولية تاريخية يجب أن نؤديها بأمانة وإخلاص. ومعًا، سنرسم مستقبلًا يليق بسوريا وشعبها العظيم.

تلفزيون سوريا

——————————–

المحكي واللا محكي في خطاب أحمد الشرع/ ساري حنفي

2024.12.26

رغم أنني أراقب يوميًا، ساعة بساعة، ما يجري في سوريا ما بعد الأسد، وخاصة فيما يتعلق بأداء القيادة السياسية والعسكرية والحكومة، أرى أن هناك أمورًا واضحة في أقوال وأفعال هذه القيادة، وأخرى غامضة وملتبسة. ولعل مقابلة تلفزيون “بي بي سي” مع أحمد الشرع، قائد هيئة تحرير الشام، قد أوضحت بعض الأمور، لكنها في الوقت ذاته تركت أمورًا أخرى مبهمة، بعضها بين السطور وبعضها غير مطروح للنقاش (لا محكي به). في هذه المقالة، أود تناول قراءتي لما هو محكي ولا محكي. موضحًا في البداية أن المفاجآت السارة كانت أكثر بكثير من غير السارة، أو على الأقل من تلك التي تحتاج إلى تطوير.

تحدث أحمد الشرع عن رؤيته الشاملة للانتقال المدني السوري، مؤكدًا أنه سيدعو إلى مؤتمر وطني سوري يمثل جميع مكونات الشعب السوري. وواضح هنا أنه يقصد المكونات الأيديولوجية والدينية والإثنية. سينبثق عن هذا المؤتمر لجنة لتحضير الدستور، ومن ثم إجراء انتخابات لتشكيل برلمان وانتخاب رئيس. تحدث الشرع عن “سوريا الجديدة” التي لن تشكل أي تهديد لجيرانها، وأشار إلى أن جميع الخلافات مع الجيران أو القوى العظمى سيتم حلها عبر الضغط الدبلوماسي والعودة إلى المجتمع الدولي. وأعطى مثالًا على ذلك الرسائل الموجهة إلى الأمم المتحدة خلال الأسبوع الفائت حول الانتهاكات الإسرائيلية لخط الهدنة المتفق عليه منذ 1974.

عندما سئل عن استخدامه للعنف في إدلب لبسط سيطرة هيئة تحرير الشام، لجأ إلى لغة قانونية، مبينًا أن العنف الذي مورس كان قانونيًا بسبب التعدي على المؤسسات العامة هناك. وعندما سئل عن الفرق بين ما قامت به طالبان وما قامت به هيئة تحرير الشام في إدلب وما ستقوم به في سوريا الجديدة، أجاب بأن هناك اختلافًا سوسيولوجيًا وثقافيًا بين البلدين، موضحًا أن أفغانستان تتألف من قبائل، بينما يغلب الطابع الحضري المديني على سوريا.

وأثار انتباهي تواضع الشرع في هذه المقابلة؛ فقد أجاب أكثر من مرة بأنه لا يستطيع الإفتاء في أمور معينة، وأن رأيه الشخصي غير مهم، وأن القرار يعود للقانونيين والشعب والدستور. وفي الوقت ذاته، أبدى اعتزازًا بالنفس، قائلًا مرتين إن ما يهمه هو أن يقتنع السوريون ويصدقوه، بغض النظر عما إذا كان الآخرون خارج سوريا سيصدقونه.

أنا مهتم هنا بالتعليق على ما ظهر من أجندة اجتماعية مستقبلية لسوريا. ففي حديثه، لم يستخدم الشرع ولا مرة واحدة مفهومي “الشريعة” أو “الدولة الإسلامية”. تعامل مع الصحفي بلغة أقرب إلى “العقل العمومي”، كما يسميها الفيلسوف الأميركي جون رولز، أي لغة ومحاججة أخلاقية مشتركة بين جميع السوريين، وحتى يمكن للصحفي البريطاني فهمها. وعندما سُئل عما إذا كانت سوريا الجديدة ستحترم حقوق المرأة، تهرب من السؤال واستهجنه، مذكرًا الصحفي بأن الأولوية اليوم هي بناء سوريا لكل مكوناتها رجالًا ونساءً، وإعادة منح الجنسية للمحرومين منها لأسباب أمنية، بما يشمل العديد من العائلات السورية المقيمة في الخارج. رغم ذلك، أثار انتباهي خطابه التصالحي مع الغرب؛ فلم يتوجه للصحفي بانتقاد مباشر بشأن ازدواجية المعايير، مثل إرسال الأسلحة إلى دولة الإبادة الجماعية إسرائيل لقتل النساء والأطفال في غزة، بل اكتفى بإجراء مقارنات سورية-سورية.

عندما سئل الشرع عن القضايا الاجتماعية والرؤية السياسية، استخدم تعبيرات مثل “الدستور”، و”القانون”، و”العودة إلى الشعب”، و”الشعب يقرر”، وكلها تعبيرات تنتمي إلى ملف “الديمقراطية الليبرالية”، لكنه تجنب ذكر هذا المصطلح بشكل صريح. يبدو واضحًا أن الشرع ينتمي إلى مدرسة فكرية إسلامية لا تريد العودة إلى مشتركات كونية وإنما استخدام تعبيرات هي أقرب إلى الحقل التداولي العربي الإسلامي أو حسب التعبير فرانسوا بورغا، استخدام المفردات المعجمية الإسلامية (parler musulman). وأنا أتفق مع بورغا بأنه يجب ألا نعترض على استخدام معجم محلي بدلا من استخدام معجم كوني. فالمهم في هذا الموضوع هو المضمون وليس المفردة. وعندما سُئل إن كان يؤيد دولة ديمقراطية سورية، رفض استخدام كلمة “ديمقراطية”، واستبدلها بمفهوم “دولة القانون والدستور والمساواة بين السوريين”. وعندما طُرح عليه أسئلة حول قضايا مثل السماح ببيع الكحول أو لباس المرأة، هرب أو تهرب من الإجابة، مشيرًا إلى أن القرار متروك للقانونيين. كان من الأحرى أن يقول إن الحريات العامة مكفولة، وليس للدولة التدخل في تدين الناس، والباقي يحدده القانون.

الإيجابي في هذا الموضوع أن الشرع يؤمن بشكل ما بالتمايز بين الديني والسياسي. وهو يستخدم مفهوم الدولة المدنية. فالسياسي يقرره القانون بينما الديني يقرره الداعية. فالشرع وضوحًا تجنب استخدام مصطلحات ليبرالية كونية مثل ديمقراطية، مواطنة، حرية التعبير، حرية تشكيل التنظيمات السياسية، حرية فردية، علمانية. ربما يعود إلى نظره أن هناك معايير مزدوجة لدى الليبراليين لاستخدام بعض هذه المفردات مثل “الديمقراطية” أو استخدام استبدادية سيئ الصيت لأخرى مثل “العلمانية”. وبينما يظهر في خطاب الشرع رؤية واعدة لنظام حكم سياسي قانوني يمثل جميع السوريين، إلا أن هذا الخطاب يترك قضايا أخلقة الفضاء العمومي مبهمة.

هو لا يدرك مدى أهمية هذه القضية بالنسبة لمجموعات كبيرة من السوريين الذين لا يثقون تاريخيًا بالإسلاميين بسبب مواقفهم الملتبسة تجاه الأخلاق العمومية، في أجواء من الاستقطابات الحادة بين الإسلاميين والعلمانيين التي أفشلت الربيع العربي. هذه الشكوك مشروعة، إذ يوجد خطاب حقيقي لدى بعض الإسلاميين المتزمتين الذين يتماهى عندهم الداعي مع السياسي. هناك فرق كبير بين داعية يدعو إلى تحريم تناول الكحول وفرض الحجاب على المرأة، وبين سياسي يجب أن يراعي تعدد مفاهيم الخير لدى المواطنين. كل ما يفضله الفرد في مأكله ومشربه وملبسه وأسلوب حياته هو جزء من تصوره الخاص للخير. لذا، أعتقد أن خطاب الشرع في هذا الجانب لم يكن حكيمًا، نظرًا لما تركه من غموض وعدم وضوح.

الفصل بين مفهوم العدل، الذي ينبغي أن يجمع جميع السوريين، وبين تصورات الخير المتعددة أمر بالغ الأهمية. كان من الأفضل أن يوضح الشرع رؤيته لمستقبل سوريا في هذا السياق، بدلًا من الاكتفاء بالقول إن الدستور والقانون هما من سيحسمان الأمر. هذا الغموض في الخطاب هو ما دفع بعض المشككين إلى اعتبار تصريح القيادة العسكرية قبل أسبوع، بشأن عدم المساس بأي مدني في الفضاء العام بسبب لباسه أو تصرفاته (في إشارة إلى عدم التحرش بالمرأة غير المحجبة)، مجرد خطوة تكتيكية لا تعكس توجه القيادة الجديدة لسوريا. رغم بعض النقد الذي يمكن أن يوجه لخطاب الشرع، أرى أنه بسبب تواضعه وخبرته الغنية في “دويلة” إدلب، يبدو كشخص يتغير ويعدل أفكاره تبعًا للسياق. فما أسوأ الشخص الذي يدعي أنه لا يتغير. بلغة علم الاجتماع، يمكن وصف الشرع بأنه شخص انعكاسي (reflexive)، وهذه صفة مهمة. نجد هذا النمط كثيرًا بين الحركات الإسلامية الجديدة التي تغيرت إيجابيًا بعد دخولها معترك السياسة.

ما أثار سروري هو أن وفدًا من حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم زار الحكومة والقيادة السياسية، وترك بعض أعضائه في دمشق للمساعدة في استفادة النظام الجديد من التجربة التركية. هذه التجربة توضح كيفية تحقيق التمايز بين الديني والسياسي، وضمان حيادية الدولة في الحد الأدنى تجاه تعدد وتعارض تصورات الخير في المجتمع.

تكمن المشكلة في استخدام المفردات المعجمية المحلية أو الإسلامية حصريًا، حيث إنها لا تخلق فضاءً فكريًا وسياسيًا مشتركًا مع الآخر الكوني. أحمد الشرع يدرك أن سوريا، التي تنهض من رمادها كطائر الفينيق، بحاجة ماسة إلى دور المجتمع الدولي في إعادة إعمارها. مع ذلك، يمكن اعتبار أنه يستخدم مفهوم التضامن بمعناه الكوني، لكنه يتجنب استخدام مصطلحات أخرى من المفردات المعجمية الكونية والمرتبطة بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان وما نضج في الإنسانية مثل الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وحقوق المرأة، وحريتي التعبير والتنظيم. هذا أمر مؤسف.

تلفزيون سوريا

————————————–

يوميات التغيير الدمشقية: ملفات شائكة وطوابير ولا حلول في الأفق/ ملاذ الزعبي

26.12.2024

جسر الفكرية والنفسية والاقتصادية بين السوريين، سيكون من المهمات العسيرة أمام أي حكم جديد للبلاد.

على مدخل ما يُعرف بالمربع الأمني في وسط العاصمة السورية دمشق، أكد لي قائد مجموعة الحرس، أنه لن يكون بإمكاني سوى مشاهدة الزنازين في الفرعين الأمنيين ٢١٥ و٢٤٨، من دون أن يُسمح لي، كصحافي، بالصعود إلى الطوابق العليا الملآى بالوثائق التي خلّفها قادة الفرعين وموظفوه خلفهم. وعلاوة على ذلك، رافقني عنصر من المجموعة طيلة زيارتي الزنازين في الداخل، كي يراقب امتثالي لهذه الإجراءات.

رائحة العفن والرطوبة والأمراض والدماء التي تميز المعتقلات السورية المكتظة والرهيبة ما زالت بقاياها في المكان. في الطابق الأرضي، ما زالت بعض أدوات التعذيب موجودة في قاعة فسيحة كانت تُستخدم للتحقيق والتعذيب.

أما الشواهد المتبقية في الزنازين والمنفردات، فهي بشكل أساسي ما حفره المعتقلون على الحائط: أسماءهم والمناطق التي ينحدرون منها، تواريخ اعتقالهم، إشارات وخطوطاً لمحاولة حساب الأيام، رسومات بسيطة، أمثالاً شعبية وحكماً، تعابير دينية، عبارات أشواق لأحبة وأقارب خارجاً.

أما الرسم الأكثر إثارة للذهول، فكان خريطة للعالم بتقسيم شبه دقيق للحدود بين الدول.

في المقابل، كان فرع فلسطين الأمني يشهد بعض الفوضى المستمرة، إذ ما زال متاحاً للصحافيين التجول بين المكاتب بدون أي رقابة. كانت هذه زيارتي الثانية للفرع خلال ثلاثة أيام، ولاحظت اختفاء ملفات حساسة، كنت قد شاهدتها خلال زيارتي الأولى. ولم أتعرض لأي تفتيش خلال مغادرتي، برغم أنني كنت أحمل حقيبة ظهر، أستطيع إخفاء بعض الوثائق فيها.

تمتلئ وسائل التواصل الاجتماعي بدعوات ونداءات، لحفظ ما يمكن حفظه من وثائق أجهزة النظام السابق ومقرات اعتقاله، بعد مشاهد العبث بها منذ ساعات هرب بشار الأسد الأولى.

عند البوابة الخارجية، ما زالت بعض الأسر المنكوبة تزور مقرات الفروع بحثاً عن أي معلومة عن مصائر أبنائها المفقودين. شاهدت عائلة رقّاوية تتحدث مع الحراس، قالت الأم المسنة التي ترتدي ثوباً تقليدياً إنها فقدت “ولديها الاثنين ماجد وثامر”، سألها الحارس عن تاريخ اعتقالهما فأجابت “من ١٠ سنوات أو أكثر… والله ما أذكر”، ثم انخرطت في بكاء خفيض الصوت.

على بعد دقائق بالسيارة من الفرع، يقع حي التضامن الذي بات اسمه مرتبطاً بالمجزرة التي خرجت تفاصيلها إلى العلن عام ٢٠٢٢. في شارع “نسرين” ذي التركيبة الطائفية المختلطة، بدت الحياة طبيعية. ذهبت لاستطلاع وضع شقة يملكها والدي في المساكن مسبقة الصنع وسط الحي. المنزل تقطن فيه عائلة لا نعرفها، ولم يصادف وجود أحد منهم وقت زيارتي، ولم أستطع أن أعرف وضع المنزل. أخبرني أحد الجيران أن الأسرة التي تقطن في الشقة حالياً خسرت منزلها في مخيم اليرموك إثر قصف لقوات النظام السابق. أحد الملفات الشائكة في سوريا الجديدة سيكون وضع العقارات والأملاك، إذ شهدت البلاد على مدى السنوات الفائتة دماراً عمرانياً هائلاً وتهجيراً قسرياً للملايين وحالات نزوح داخلي، وحرائق في بعض الدوائر الرسمية وعمليات مصادرة  للممتلكات وتزوير لوثائق الملكية.

تناولت الغداء مع زميلتين صحافيتين في مطعم “ستة إلا ربع” الديري، اسم المطعم مستمد من اسم شارع تجاري شهير في مدينة دير الزور، ووجوده في دمشق ما هو إلا نتيجة جانبية للدمار الكبير، الذي شهدته تلك المحافظة الحدودية مع العراق، والنزوح الداخلي للعديد من سكانها باتجاه دمشق وحلب ومناطق أخرى. تحدثنا عن الملف الصعب بخصوص الملكيات العقارية، كما سمعت منهما، هما المقيمتان في دمشق وضواحيها، تفاصيل عن عائلات من انتماءات دينية وطبقية متنوعة ما زالت لا تغادر منازلها خوفاً من “الوضع الجديد”، على الرغم من الازدحام الشديد الذي تشهده العاصمة.

توجهنا إلى المدينة القديمة لمواكبة انطلاق مبادرة “مدنية” من دمشق. على الطريق، يمكن رؤية طوابير طويلة من المواطنين، على أفران الخبز، أو منافذ تصريف البنك التجاري السوري، أو أمام إدارة الهجرة والجوازات.

“مدنية” هي تجمع انطلق صيف العام الماضي، ويضم أكثر من 200 مؤسسة مجتمع مدني سورية داخل البلاد وخارجها. المقر الجديد للمبادرة يقع في قصر الفارحي، وهو ثاني أكبر قصور دمشق اليهودية، وما زالت بعض الكتابات بالعبرية مرئية على الجدران في الداخل. اليوم، لم يعد ثمة يهود في دمشق، أما المنزل فيملكه اليوم رجل الأعمال السوري المقيم في لندن أيمن الأصفري، وهو من مؤسسي “مدنية” وأحد أهم داعميها. العشرات من الناشطين والفاعلين في الشأن العام والعاملين في المنظمات، بعضهم عاد للتو إلى سوريا بعد سنوات طويلة من الغياب، تجمعوا للمشاركة في مؤتمر الإطلاق. لكن، وبالتوازي مع الحراك المدني المتنوع والنشط في مدن سورية عدة، لا بد من استرجاع رأي إحدى الزميلتين اللتين شاركتاني الغداء، إذ ترى أنه من الملحّ، إلى جانب نشاط المجتمع المدني، وجود حراك سياسي واضح وتشكيل أحزاب وأجسام سياسية جديدة واستئناف عمل القديمة منها. في المؤتمر الصحافي، قابلت الزميلة والأستاذة سعاد جروس بعد انقطاع دام أكثر من اثني عشر عاماً، قالت لي مازحة: “الآن فقط أستطيع أن أضع إشارة إعجاب على منشوراتك على فيسبوك”.

قبل مغادرة شوارع المدينة القديمة، شاهدت تجمهراً صغيراً أمام أحد المطاعم، كانت الفنانة السورية منى واصف محاطة بمجموعة من المعجبين لالتقاط الصور التذكارية، اقترب منها فريق تلفزيوني على أمل استخلاص تصريح منها حول التحولات الجارية، رفضت بأدب جم، ثم بارك لها أحد المارة، متمنياً عودة ابنها المعارض عمار عبد الحميد “بالسلامة”، فشكرته وتابعت طريقها.

عندما وصلتُ إلى مسرح القباني لحضور مسرحية “اللاجئان” للتوأمين محمد وأحمد ملص، كان المسرح مغلقاً والشارع معتماً كالأغلبية الغالبة من شوارع العاصمة، أخبرني فتى يافع يقف متكئاً على سيارة، أن العرض انتقل إلى مسرح “الخيام” القريب.

كان المسرح ممتلئاً تقريباً. العشرات أتوا احتفاء بالحدث وبفكرة إقامة أول عرض مسرحي بعد أيام على سقوط نظام الأسد، أكثر من احتفائهم بالمسرحية نفسها. قال الأخوان ملص، اللذان غادرا سوريا قبل أكثر من ١٢ عاماً هرباً من البطش، في تقديم موجز قبل بداية العرض، إن مسرح القباني أُغلق في وجهيهما وشكرا إدارة مسرح الخيام على الأخذ بالمبادرة، وأضافا أن “الأخوين بشار وماهر الأسد هاربان، بينما الأخوان ملص قد عادا إلى سوريا”، فاشتعل المدرج بالتصفيق. وقال مدير المسرح إنه بإمكان المتفرجين، وبشكل استثنائي، التصوير وحتى فتح البث المباشر عبر تطبيقات النيو ميديا.

تنوعت بالطبع ردود الفعل على المسرحية التي تتمحور حول قصة لاجئين سوريين في فرنسا، يعانيان من الاغتراب وصعوبة الاندماج في مجتمع جديد وشوقهما إلى حياتهما السابقة، لكن كان ثمة إجماع على جو جديد من التفاؤل والقدرة على المبادرة والعمل من دون رقابة، وسط تساؤلات ما إذا كان هذا الجو سيعمّر طويلاً.

في مقهى الروضة الشهير والقريب في شارع العابد، كانت غالبية الزبائن من العائدين حديثاً من دول المنفى واللجوء، أو المناطق الخارجة عن سيطرة نظام الأسد سابقاً في إدلب وريف حلب، بعضهم ممن شاركوا في مؤتمر إطلاق “مدنية”. تحدثت إحدى العاملات في وحدة دعم وتمكين المرأة عن “اغتراب” السوريين عن بعضهم بعضاً، هي، العائدة إلى الغوطة بعد إقامة لسنوات عدة في إدلب، شعرت باختلاف هواجسها وهمومها وخبراتها الحياتية عن هواجس السوريين الموجودين في دمشق ومحيطها، بينما لم تتشارك العديد من الأفكار مع السوريين القادمين من دول غربية.

جسر هذه الهوّات الفكرية والنفسية والاقتصادية بين السوريين، سيكون من المهمات العسيرة أمام أي حكم جديد للبلاد.

درج،

—————————

سقطت الدولة المتوحشة/ رولا الركبي

26.12.2024

نحن أبناء الوطن السوري وبناته، بكل تنوعه الإثني والجغرافي والثقافي، سوف نساهم في بناء بلدنا، انتهى حكم اللون الواحد، وعلينا تقع مسؤولية بناء التعددية العادلة

سقطت الدولة المتوحشة (l’ETAT DE BARBARIE) كما وصفها الباحث الفرنسي ميشيل سورا.

انتهى الكابوس الذي حكم سوريا طوال 54 عاماً.

يمكن اختصار ذاكرة طفولتي وشبابي عن أبي بجملتين: معتقل أو هارب، أنا ابنة جيل نشأ وترعرع تحت نير الحكم الواحد، و”الحيطان لها آذان”، الرعب الذي سيطر على عقول غالبية جيلنا، له ما يبرره من ممارسات قمعية رافقت نظام الحكم طوال فترة حكم الأب والابن، والدليل نراه اليوم بأكثر الصور بشاعة ووحشية في السجون المحررة: مقابر جماعية، مناشر للأعضاء البشرية وغيرها من الفظائع التي يعجز العقل البشري عن تخيلها.

تحطمت “مملكة الصمت” حسب قول المناضل السوري رياض الترك، وكذلك مقولة “الأسد أو نحرق البلد”، التي حكمت البلد منذ حماة 1982 حتى بداية الثورة السلمية في 2011، والتي قوبلت بأعنف أدوات البطش، وحولت سوريا الى سجن كبير، صادر القرار السياسي وحياة الناس.

أنا ابنة حماة، وذاكرتي مثقلة بصور عذابات الناس: القتل الجماعي، الاعتقال التعسفي، اغتصاب النساء، وهدم المدينة وحارة الكيلانية، المعلم الأثري العريق، المقابر الجماعية، ومن ثم تهميش المدينة القسري كعقاب جماعي لها. بقيت أحداث ال 82 جرحاً مفتوحاً في ذاكرة أبناء المدينة، عاش الكثير منهم في وهم كاذب، مفاده أن أبناءهم ما زالوا أحياء، برغم عدم تمكّنهم من رؤيتهم طوال عشرات السنوات، واليوم نرى تكرار هذا السيناريو مع أهالي المعتقلين ومعاناتهم في البحث عن أثر لأحبتهم.

هي ولادة جديدة صنعتها دماء الشهداء وآلاف المعتقلين والمعتقلات في السجون الأسدية، والآلاف من السوريين الذين ناضلوا من أجل البقاء داخل الأرض السورية، برغم الخطر والصعوبات المعيشية المرعبة، والآلاف من الضحايا في لجة الأزرق الكبير، ومن تشردوا وتبعثروا في أصقاع الأرض.

هو نصر سوري لم يأتِ على دبابة أميركية، برغم وجود قرار دولي متأخر بإنهاء حكم الأسد، وبالتالي مشاركة دولية باستمرار معاناة الشعب السوري من خلال تجاهل المجتمع الدولي للثورة، وخلط الأوراق بين الحراك السلمي و”داعش”، وما تلاه من مكافحة الإرهاب حسب تسميتهم. إنها فرصة أمامنا وأمام شعوب المنطقة، من أجل إعادة بناء المنظومات الحاكمة، سوريا الجديدة تتسع للجميع، وعلينا أن نبنيها على أساس التعددية السياسية وليس الطائفية، نحن أبناء الوطن السوري وبناته، بكل تنوعه الإثني والجغرافي والثقافي، سوف نساهم في بناء بلدنا، انتهى حكم اللون الواحد، وعلينا تقع مسؤولية بناء التعددية العادلة، ترسيخ قيم الديمقراطية، وعدم السماح باستبدال نظام القمع، بأي نظام إقصائي آخر. يستحق هذا الشعب حكماً ديمقراطياً يحافظ على وحدة هذه الأرض الجميلة.

المسار طويل وصعب، ولا يمكننا الحكم عليه الآن، لكن العقبة الأولى تلاشت، وهي نظام القمع الأسدي، بقي أمامنا الكثير من العقبات، والبداية تكون بالحفاظ على الأمن وتأمين الاحتياجات الأولية للشعب السوري. بعد ثلاثة عشر عاماً من الحرب، خرجت سوريا منهكة، منهوبة الموارد، بناها الاجتماعية والعائلية مفككة، مدنها مهدمة، وذاكرتها بلون الدم.

كيف نلملم أوجاعنا، ونداوي جروح ذاكرتنا؟

بداية، من خلال مسار عدالة انتقالية وليس انتقامية، الكثيرون كان يمارس عليهم ضغطاً قسرياً، والكثيرون كانوا أدوات لا قرار لهم فيما تم اقترافه. جرح مدينة حماة لم يندمل بسبب عدم الاعتراف بما جرى يومها، والاعتذار عن الجرائم التي ارتُكبت، ومحاكمة مجرمي الحرب حتى لا يرتكبوا جرائم مماثلة، معرفة مصير المغيبين والمغيبات قسراً، الحفاظ على المؤسسات وبناء مؤسسات جديدة، وجيش قوي موحد يضمن السيادة الوطنية، ويساهم في تحرير الأراضي السورية المحتلة، ودستور مدني حديث يعتمد شرعة حقوق الإنسان والمواثيق الدولية تكون مرجعاً له، وتشارك في صياغته هيئة تأسيسية من أطياف الشعب السوري كافة، مؤتمر وطني جامع يكون للنساء فيه حضور مساوٍ للرجال، من دون الرجوع إلى مصطلحات مثل الأقلية والأكثرية، نحن؛ رجالاً ونساء، شركاء في المواطنة، ومفهوم الأقلية والأكثرية ينطبق على صناديق الاقتراع والانتخاب، للنساء الحق في الوصول إلى مراكز صنع القرار السياسي، ومشاركتهن هي أساس الحكم الديمقراطي.

وكما قال صديقي زياد ماجد: “لنا الحق في أن نفرح”، نعم، فرحتنا لن تتأثر بصعوبة الواقع، وغباشة المشهد، وهذا الفرح هو ما يجب أن يدفعنا إلى العمل من دون انتظار، ورفض كل ما يخالف مبادئ الديمقراطية والعدالة، قد يلزمنا الوقت لاستقرار الأمور المعيشية والأمنية، لكن الوقت ليس مبكراً لوضع النقاط على الحروف، وإبداء الرأي في أي ممارسة إقصائية.

سقط الأبد وعاشت سوريا.

درج،

——————————

لماذا حزن الإعلام الرسمي المصري على سقوط بشار الأسد؟/ حنان الجوهري

26.12.2024

في مصر انعكس سقوط نظام الأسد صدمة. وقلقاً على الإعلام التابع للنظام المصري..

في مصر كان سوريون  يحتفلون بسقوط نظام بشار الأسد وهروبه خارج البلاد، وأثناء توزيع اللاجئين السوريين الحلوى في شوارع القاهرة تعبيراً عن سعادتهم، وتوجيه المصريين على مواقع التواصل الاجتماعي عبارات طريفة للسوريين، بألا يخرجوا من مصر بدون وصفة الثومية السرية، كان الإعلام المصري يعبّر عن مشاعر أخرى، غير الفرحة بحرية شعب وتفكيك قبضة حزب “البعث” عن مقاليد أمور هذا الشعب، مشاعر تحفظ وتشاؤم وترقّب لما هو أسوأ.

بعد انتشار الخبر بساعات، بدأت حملة إعلامية، بدت للمتابع أنها ممنهجة سخفت فرحة السوريين، وسعت لبث الخوف والقلق من المستقبل الذي ينتظرهم تحت قيادة “هيئة تحرير الشام”، أو أكثر دقة، لتطمين الشعب المصري بأننا لا نزال أحسن من سوريا والعراق وهو الشعار الذي دأب النظام المصري على ترديده لامتصاص النقمة الشعبية ضد سياساته.

كل يودع بشار على طريقته

تنوعت طريقة إعلاميين مصريين معروفين بانحيازهم للنظام المصري في التعبير عن قلق النظام مما يجري في سوريا.  أحدهم وصف أن ما حدث ليس بثورة، وإعلامي ثانٍ لم يستح أن يتمنى استمرار حكم عائلة الأسد، وثالث بكى بشار.

الصحافي  إبراهيم عيسى ذهب إلى الهدف بشكل واضح وصريح، عندما قال  إنه لا توجد ثورة في سوريا، حتى إن خروج الشعب السوري في 2011 هو انتفاضة شعبية سلمية وواضحة، ولكنها لم تكتمل ولم تصبح ثورة، فقد استغلتها جماعات الإسلام السياسي، وبدأت بمعاركها الخاصة مع جيش النظام السوري/ جيش بشار: “نوع من الهرتلة والهذيان أن نتكلم عن ثورة في سوريا، فما حدث منذ أيام ليس بقريب أو بعيد ثورة، وما جرى لا علاقة له بالثورة ولا رائحة الثورة، وما حدث في عام 2011، كان انتفاضة شعبية ضد ديكتاتور ظالم، وسرعان ما تحول إلى صراعات ميليشياوية وتحولت سوريا إلى مناطق نفوذ مختلفة، كانت انتفاضة قصيرة أُجهضت من قبل الجيش السوري، وأيضاً من قبل الميليشيات المسلحة”.

ليلة هروب بشار الأسد، تحدث  الإعلامي مصطفى بكري المعروف بانتمائه القومي، عن ما وصفه بتقطيع أوصال سوريا، وتخوف من أن ما يحدث، هو بداية استهداف لدول المنطقة بتوافق إسرائيلي أميركي، قائلاً: “كلنا مستهدفون، لن يقف الأمر عند حدود سوريا”.

بكري في اللحظات الأخيرة، قبل هروب الديكتاتور بساعات، كان يأمل أن يستعيد بشار سيطرته على الوضع العسكري، وأكد حينها؛ وقت إذاعة الحلقة، أن هناك خيارين: “إما أن يستطيع جيش سوريا التصدي للجماعات المسلحة/ الإرهابية، وإما أن تنهار المنطقة كلها تباعاً”، ووجه كلماته للفرحين تحديداً: “الذين يظنون أن أبو محمد الجولاني الإرهابي الذي قتل المئات سيتحول إلى سياسي واهمون، من يظن أن بقية الفصائل مثل النصرة ستحكم بديمقراطية وتعدّ لانتخابات حرة ومجلس شعب هم واهمون، أذكركم بالإخوان في مصر، حين حكموا وسيطروا وأقصوا الجميع وكان من الممكن أن تتحول مصر إلى حرب أهلية… أنا مستغرب لماذا يصمت المجتمع الدولي؟”، حتى أنه استغرب: “لماذا لم يُطلق الجيش العربي السوري طلقة واحدة؟ لماذا ينسحب؟”، فكيف كان يتمنى إطلاق نيران وحرب أهلية ونزوح داخلي لسوريين من أماكن سكنهم مجدداً؟.

بعد هروب بشار الأسد إلى موسكو، ظهر بكري حزيناً على مصيره وعاتبه قائلاً: “ليتك بقيت للنهاية بدلاً من ان تُسلم شعبك لهؤلاء الإرهابيين”، لم يحاول أن يُجمل كلامه، أو أن يُقر ببطش بشار بشعبه، ويتمنى أن تتغير الأوضاع السياسية في سوريا، لم يفعل حتى مثل إبراهيم عيسى الذي قال إن بشار مجرم وديكتاتور، وإنه لا خير في حكم ميليشيات متعددة، بل شطحت به الحماسة إلى  أن يؤيد مجرم حرب قتل أهله، ووجه حديثه إلى بشار: “أنا كنت أتمنى تقاتل للحظة الأخيرة وتبقى في سوريا تموت على أرضها، وألا تترك البلد بهذه الطريقة، كنت أتمنى أن تكون الصورة مختلفة، لأنك لم تخذل الشعب السوري، أنت خذلت كل القوميين العرب… أنا شخصياً مصدوم، كيف لا يرد الجيش ولا يقاتل؟ كيف يترك الرئيس بشار البلد هارباً؟”.

الإعلامي أحمد موسى، أكثر إعلاميي النظام ولاء ودفاعاً عنه،  ركز في برنامجه «على مسؤوليتي» الـذي يُذاع  علي قناة “صدى البلد” على التخوف من تعمق دولة الاحتلال/ إسرائيل في الأراضي السورية، وأن هدفها هو تقسيم الأراضي السورية لعدة دويلات… وكرس عدة حلقات تالية للحديث عن التقسيم والإرهاب المحتمل في سوريا.

عمرو أديب وعلى طريقته في المبالغة، بكى بشار يوم هروبه في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر، وكبقية زملائه، تخوف من التقسيم، وركز على أن الأمور لن تتحول إلى الأفضل، وأشار بشكل مباشر إلى أن السوريين أحرار، مثلما كان المصريون “أحرار في فترة اختيارهم لحكم الإخوان المسلمين”، هذا التشبيه الذي ربط بين الحالتين يحول بشكل مباشر عقول المصريين إلى طريقة ارتباط الحالة الشرطية، فحين نقول إنهم أحرار مثلما اختار المصريون الإخوان للحكم، ففوراً تتداعى مشاهد حكم الإخوان وتخبّطهم وغرورهم وتفرّدهم بالقرارات إلى العقل الجمعي المصري، وتناسى أديب أن حالة سوريا الآن مختلفة تماماً عن حالة مصر منذ 11 عاماً، أثناء الانتخابات الرئاسية التي أفضت إلى فوز الرئيس السابق محمد مرسي ممثلاً لجماعة “الإخوان المسلمين”.

الندب واللطم ساعة الفرح

«سيبوا الفرحة تخش/ تدخل التاكس»، هي عبارة مصرية شهيرة تُقال للذين يندبون الحظ ويبكون شيئاً، بينما الموقف لا يدعو إلا إلى الفرح ولو حتى في اللحظة الآنية، هذه المقولة ربما وقتها الآن أن تُقال لهؤلاء من شريحة الإعلاميين والناشطين الذين أفجعهم سقوط نظام الأسد.

فالناشطون السياسيون في مصر، قد تخوفوا أيضاً من سقوط بشار، وائل عباس، الذي كان من أبرز ناشطي “ثورة يناير”، وذاع صيته قبل ذلك بسنوات مع نشره مقاطع عن التعذيب في أقسام الشرطة،كتب: “ليس معنى أن من وصل إلى السلطة في سوريا مجرمون، أن بشار كان كويس (جيداً)… وليس معنى أن من وصلوا إلى السلطة في سوريا خرجوا (أطلقوا) المعتقلين أنهم مش ها يدخّلوا معتقلين جدد بدالهم (لن يعتقلوا آخرين)”.

الناشط الحقوقي البارز جمال عيد، كتب منشوراً على فيسبوك: “الفرحة بسقوط المجرم بشار. فرحة مجروحة، بضبابية خلفية المعارضة، هل ستدشن حكماً ديمقراطياً؟ أم ستدشن حكماً دينياً قمعياً بديلاً عن حكم الأسد الدكتاتوري؟”.

والصحافي المصري حافظ المرازي، نشر على فيسبوك، قائلاً: “ما حدث سابقاً في مصر يثير الخوف مما قد يحدث في سوريا، لكن هناك ما يدعو للأمل، وهو أنهم تعلموا من أخطاء غيرهم”.

وجاء في تعليق آخر لمصرية تقول إنها شاركت في مظاهرات يناير: ” أنا من ساعة ثورة يناير وأصبح عندنا تروما (صدمة) لا أفرح كثيراً دون أن أفهم ما يجري. ما هي إيديولوجية المعارضة السورية؟ ومن الجماعات أو البلاد الداعمة لها؟”.

تخوف الناشطين المصريين جاء من منطلق أن تتماثل التجربة السورية مع تجربة “ثورة يناير” 2011، التي أطاحت بنظام الرئيس الراحل مبارك، وقلقهم خرج في عبارات تحذيرية لإخوتهم السوريين بألا ينقادوا للشعارات، وأن يُبقوا على الدولة مدنية، ويختاروا رئيساً بانتخابات رئاسية سليمة، وأن يحافظوا على وحدتهم، كان قلق الناشطين مختلفاً عن قلق النظام المصري، فالناشطون يريدون للثورة السورية أن تتفادى أخطاء الثورة المصرية.

موقف رسمي محايد

 الموقف الرسمي حاول عدم التورط مع النظام الجديد، من خلال  البيان الرسمي لوزارة الخارجية المصرية على حسابها  الرسمي على موقع فيسبوك، الذي جاء متحفظاً “إن مصر تتابع باهتمام كبير التغير الذي شهدته سوريا، وتؤكد وقوفها إلى جانب الدولة والشعب السوري ودعمها لسيادة سوريا ووحدة وتكامل أراضيها”.

ودعت الخارجية المصرية “جميع الأطراف السورية بكافة توجهاتها إلى صون مقدرات الدولة ومؤسساتها الوطنية، وتغليب المصلحة العليا للبلاد، وذلك من خلال توحيد الأهداف والأولويات، وبدء عملية سياسية متكاملة وشاملة تؤسس لمرحلة جديدة من التوافق والسلام الداخلي”.

وأكدت مصر استمرارها في العمل مع الشركاء الإقليميين والدوليين، لتقديم يد العون والعمل على إنهاء معاناة الشعب السوري الممتدة.

وكانت الخارجية المصرية نفت في وقت سابق، بشكل قاطع، ما أوردته صحيفة “وول ستريت جورنال” أن مسؤولين مصريين حثوا الرئيس السوري على مغادرة البلاد وتشكيل حكومة في المنفى.

لا احتفالات للسوريين في الشارع

في الشارع كان الأمر مختلفاً، حيث ألقت قوات الأمن المصرية القبض على بعض السوريين في منطقة مدينة 6 أكتوبر التابعة لمحافظة الجيزة، وذلك؛ حسب ما قالت المصادر الأمنية، لتجمهرهم بدون تصريح أمني، ولعل هذه الحركة تعد استباقية لفض أي تجمعات قد يندمج به المصريون، أو تتحول إلى مظاهرة تضامنية مع السوريين لاحتفالهم بسقوط  نظام ديكتاتوري، الأمن والنظام  لا يريدان أي مشهد يُذكر المصريين بمظاهرات “ثورة يناير” وما تلاها من مظاهرات أخرى، كان يعبّر من خلالها الشعب عن رأيه، وهو ما حُرم منه على مدار العشر سنوات الأخيرة، فلا توجد أي قناة للتعبير عن رأي الناس في الشارع، وبالتالي فخروج السوريين قد يحفز هذه المشاعر لدى المصريين، وهو ما لن تسمح به قوات الأمن ممثلة النظام.

أعداد السوريين اللاجئين في مصر حسب المفوضية الأممية للاجئين  158 ألف سوري، أما حسب الحكومة المصرية والإعلام المصري فتقترب أعدادهم من 2 مليون لاجئ، ما يعني أن هناك مئات الآلاف غير مقيدين بمفوضية اللاجئين بالقاهرة.

في كانون الثاني/ يناير الماضي، قدّر وزير الصحة والسكان المصري خالد عبد الغفار، أعداد اللاجئين بتسعة ملايين مهاجر ولاجئ يعيشون في مصر من نحو 133 دولة، 50.4% منهم من الذكور ويمثلون 8.7% من حجم سكان مصر.

وأضاف الوزير، وفقا لبيان مجلس الوزراء، أن 56% منهم يقيمون في 5 محافظات هي القاهرة والجيزة والإسكندرية والدقهلية ودمياط، كما أن 60% من المهاجرين يعيشون في مصر منذ حوالي 10 سنوات، و6% يعيشون باندماج داخل المجتمع المصري منذ نحو 15 عاماً أو أكثر، بالإضافة إلى أن هناك 37% منهم يعملون في وظائف ثابتة وشركات مستقرة.

وفي آخر تقرير عن اللاجئين السوريين ومن الجنسيات الأخرى في مصر، قالت المنظمة الدولية للهجرة إن نتائج إحصائية أجرتها تشير إلى وجود 9 مليون لاجئ في مصر، مضيفة أن السودانيين يأتون في المرتبة الأولى بنحو 4 ملايين، يليهم السوريون 1.5 مليون، واليمنيون والليبيون مليون واحد لكل منهما.

ويوضح التقرير أن الجنسيات الأربعة تشكّل نحو 80 % من المهاجرين المقيمين حالياً في مصر، فيما هناك 5.5 ملايين مهاجر يعيشون في مصر منذ أكثر من 10 سنوات.

درج،

—————————-

ملف الجولاني في “فرع فلسطين”: الماكر يراوغ مخابرات النظام / حازم الأمين – هلا نصرالدين

26.12.2024

كيف رصدت المخابرات السورية التابعة لنظام الأسد المخلوع ملف أبو محمد الجولاني؟ بعض الوثائق التي تركتها المخابرات السورية في فرع فلسطين في دمشق والتي اطلع “درج” على بعضها تكشف بعضاً من تلك التفاصيل.

ساهم في إعداد هذا الموضوع والتنقيب عن الوثائق الزميلان زاهي ندّور وجنى بركات.

“درج” اطّلع على ملف أحمد حسين الشرع (أبو محمد الجولاني) في فرع فلسطين سيئ الصيت في دمشق. و”درج” إذ ينشر قصة أحمد الشرع كما وردت في ملف فرع فلسطين، لم يتدخل في تدقيق المعلومات ومقاطعتها، بل آثر عرضها كما وردت في الملف، وهو ينشرها لأهمية الاطلاع على كيف تعقبت مخابرات الأسد عدوها الذي صار اليوم حاكماً لسوريا، في المرحلة الانتقالية على الأقل.

 يبدو أن مخابرات النظام السوري السابق لم تحسم أمر الهوية الحقيقية لـ”أبو محمد الجولاني” حتى العام 2016، وأنها كانت حائرة بين أحمد حسين الشرع المطلوب من قبلها، وبين أكثر من أربعة جهاديين أدرجت أسماءهم في الملف الذي أعده “فرع فلسطين” في دمشق عن أمير “حركة النصرة”، الذي تمكن “درج” من تصوير صفحاته لدى زيارة فريقه الفرع المذكور. والانطباع الأول الذي يخلّفه تصفح الملف أن “الجولاني” كان أذكى من متعقبيه من رجال مخابرات النظام السابق، والأخيرون هم جزء من آلة بيروقراطية وغير احترافية، وهم امتداد لخطاب النظام الذي يفترض المرء أن جهازه الأمني يجب أن يستبعدها في مجاله المهني!

صورة الجولاني مراهقاً كما وردت في ملفه في فرع فلسطين – خاص “درج”

يستعرض معدو الملف من الجهاز البيروقراطي للفرع الأمني السيئ السمعة عدداً من الأسماء التي يُرجح أن يكون اسم الجولاني من بينها. وللمفارقة يرد اسم الشرع في آخر اللائحة. في أول اللائحة اسم أنس خطاب (عراقي الجنسية) يليه اسم أسامة الحداوي وهو سوري من بلدة الشحيل، ثم يشير التقرير إلى احتمال أن يكون الجولاني أحد أقارب الأردني أبو مصعب الزرقاوي، وكان في الكويت قبل أن يلتحق بتنظيم “القاعدة”. وفي آخر الاحتمالات يرد اسم أحمد الشرع. وما يعزز الاعتقاد بجهل المخابرات السورية بهوية الجولاني، التفاوت في المعلومات عنه بين مقدمة التقرير الأمني وبين متنه، ففي المقدمة نعثر على معلومات غير دقيقة عن الشرع، كأن يذكر التقرير في مقدمته أنه من مواليد العام 1983، ثم يعود ليصوب تاريخ الميلاد ويذكر أنه في العام 1982، وذلك بعد أن استحصل معد التقرير على شهادة ميلاد الرجل من دائرة النفوس.

تصفح التقارير في فرع فلسطين يولد انطباعاً أن آلة بيروقراطية كبيرة تتولى مهمة إعداد ملفات المطلوبين والمعتقلين لدى الفرع. ملف الجولاني يتألف من نحو مئة صفحة. الأخطاء اللغوية نادرة، وترتيب الصفحات يوحي بأن نظاماً صارماً في بنيته، يتقدم في الأهمية على دقة المعلومات. رجال المخابرات السورية أصابهم ما كان قد أصاب معظم إدارات الدولة من ترهل، فاقتصرت الدقة في عملهم على القتل أولاً، ثم على الالتزام بقواعد عمل من المرجح أنها لا تخدم المهام الجديدة. هذا على صعيد المعلومات، لكن الفصل المتعلق بتحليل المعلومات في الملف يُظهر قدرة عادية لدى المخابرات على رصد التحولات، التي شهدتها سيرة أحمد الشرع من تنظيم “داعش” وصولاً إلى “هيئة تحرير الشام”، وشخصيته البراغماتية التي ساعدته على كل الانشقاقات التي أقدم عليها.

في التقرير ما يوحي بأن الجولاني تمكن من مراوغة المخابرات السورية، فخلطت في المعطيات التي تملكها عن جماعته بينه وبين “جهاديين” آخرين. ففي التقرير ما حرفيته: “عام 2006 غادر الجولاني العراق إلى لبنان وأشرف على تدريب تنظيم جند الشام المرتبط بتنظيم القاعدة، عاد بعدها إلى العراق فاعتقلته القوات الأميركية وأودعته في سجن بوكا وأطلقت سراحه في العام 2008…”.

الشرع لم يدخل إلى لبنان. هذا ما يُجمع عليه متعقبو سيرته، لكن إيراد هذه “الواقعة” في الملف من المرجح أن يكون بسبب مكره الذي تمكن عبره من إخفاء هويته، ويبدو أن قناة |الجزيرة” القطرية ساعدته على تظهيره، فقد سبق إيراد هذه المعلومة في التقرير: “معلومات عرضتها قناة الجزيرة الفضائية القطرية كشفت خلالها للمرة الأولى منذ الإعلان عن تشكيل الفرع الشامي من تنظيم القاعدة الإرهابي في مطلع عام ٢٠١٢، عن الهوية الحقيقية للإرهابي أبو محمد الجولاني (زعيم تنظيم جبهة النصرة الإرهابي) بعد أن سمح الإرهابي المذكور بكشفه، بأنه الإرهابي أسامة العبسي الواحدي من مواليد عام ١٩٨١ دير الزور – الشحيل من عائلة أصلها من محافظة إدلب انتقلت إلى دير الزور، التحق المذكور بجامعة دمشق كلية الطب البشري لمدة سنتين، ثم غادر إلى العراق وهو في السنة الجامعية الثالثة، لينضم إلى فرع تنظيم القاعدة الإرهابي في العراق بعد الغزو الأميركي في عام ٢٠٠٣، حيث عمل تحت قيادة الإرهابي المقتول أبو مصعب الزرقاوي، وأعلن تبعيته لأسامة بن لادن. بسرعة أصبح من القياديين في صفوف التنظيم ومن الدائرة المقربة من الزرقاوي، وبعد قتل الأخير في غارة أميركية في عام ٢٠٠٦، غادر الجولاني العراق إلى لبنان وأشرف على تدريب جند الشام المرتبط بتنظيم القاعدة…”. إذاً من قدم إلى لبنان هو أسامة العبسي الواحدي، وليس أحمد الشرع الذي لم تكن مخابرات النظام السوري قد حسمت هويته بعد.

ولكن في مراحل سابقة، ومع بداية “الجهاد” في العراق، كان للشرع ملف لدى المخابرات السورية، ولم يكن في حينها قد صار الجولاني: “أحمد حسين الشرع والدته وداد، وهو من مواليد 1982 كان يقيم في دمشق – المزة- فيلات شرقية- ملتحٍ، سافر إلى العراق بقصد الجهاد أثناء الحرب الأميركية، وبقي لعشرة أيام وعاد بعدها إلى القطر وحصل خلاف بينه وبين والده، وعلى أثره غادر المنزل ولم يعد، وغير معروف عنه أنه داخل سوريا أو خارجها (معلومات 2005) وهو طالب جامعي”.

تقليب أوراق الملف يكشف أن مخابرات نظام الأسد تتعقب رجلاً أشد مكراً منها. رجل بأسماء ووجوه وأماكن لا يمكن ضبطها، حتى بعد تحديد الهوية الأخيرة للرجل، فالريبة بمساره ترافق كل مراحل التحليل الذي يجريه ضباط المخابرات لانعطافات الشرع. ثم إن الملف يضم صوراً لوجوه المحيطين به بعد أن قُتِلوا مذيلة بأسمائهم، وأنت إذ تقلب بالصور يحضر تساؤل عن سر نجاة الرجل من كل هذا الموت المحيط به؟.

لكن في الملف فصول توحي بأن مخابرات النظام السوري السابق كانت ترصد ومنذ العام 2016 تحولات الجولاني، لكنها خلطت على نحو غير احترافي بين جهات قالت إنها تدعمه: “من المؤكد أن جبهة النصرة الإرهابية ستسعى في الفترة اللاحقة إلى تغيير جزء من سلوكياتها مع المجتمع المحلي، ومحاولة التقرب منه سواء عبر تقديم الدعم العسكري للفصائل الأخرى، أو عبر توسيع مجالات نشاطاتها الإغاثية… كما ستسعى إلى التقرب من القوى الإقليمية (السعودية وتركيا وقطر) بشكل أكبر من ذي قبل، مع تقديم تأكيدات شفهية عن فك ارتباطها بتنظيم القاعدة الإرهابي”.

في هذا السياق، يقول الباحث السوري حسام جزماتي لموقع “درج” إنه من الواضح من التقرير “إنهم لم يكن لديهم أي فهم في ذلك الوقت لشخصية الجولاني أو الأسباب التي دفعته إلى التصرف بهذه الطريقة. الجولاني فك ارتباطه بتنظيم القاعدة لأن التنظيم انتهى دوره بالنسبة إليه. هو في الأصل لم يلجأ إلى الارتباط بالقاعدة إلا مضطراً، كما نعلم جميعاً، من أجل الحصول على شرعية في مواجهة دولة العراق الإسلامية. وبمجرد أن شعر أنه تجاوز هذه المسألة، سعى فوراً للتحرر من هذا الارتباط، بالإضافة إلى أسباب أخرى”.

مضيفاً أن “الجولاني كان يسعى منذ البداية إلى الاستقلال بتنظيمه الخاص. وعندما تزامن إعلان فك الارتباط مع ظهوره بوجهه علناً، كان ذلك بمثابة إعلان عن نفسه وعن تنظيمه، مؤكداً أنه لا يريد أي سلطة فوق رأسه. حتى علاقته مع القاعدة كانت تتم من دون تنسيق مع الظواهري، وفك الارتباط تم أيضاً من دون أي تنسيق معه. وخلال فترة العلاقة التنظيمية، لم يكن الجولاني يستجيب لتوجيهات الظواهري أو يرسل تقارير أو يلتزم بأي التزامات تنظيمية”.

من ملف الجولاني في ملفات فرع أمن فلسطين – خاص “درج”

الهوية النهائية التي يخلص إليها الملف لأبو محمد الجولاني هي التي صرنا نعرفها كلنا، مضافاً إليها لحظة تجنيده في أحد مساجد منطقة المزة (فيلات شرقية) “على يد المدعو ليث محمد عصام العباس (والدته فضة، وهو من مواليد العام 1978 وكان يقيم في دمشق في شارع المزة بجانب دار البعث وسبق له السفر إلى السعودية بقصد العمل … وكان يسعى لاستقطاب بعض الشباب لصالح الحركة الوهابية في منطقة القريتين، وهو متورط بعلاقات تنظيمية مع ماهر مروان إدلبي في مجال تسهيل وصول متطرفين إلى العراق”.

الشرع الذي ضلل مخابرات النظام السابق، استعان على ما يبدو بخبراته هذه لتضليل “داعش” وبعده “القاعدة”، ويبدو أن أجهزة النظام السابق رصدت متأخرة هذه الكفاءة التي يملكها، فراحت ترصدها عندما بدأت تصيب جماعته من الجهاديين في التنظيمين. هذا على الأقل ما تكشفه أوراق الملف.   

المفارقة أن الشرع نفسه كان قد تم التحقيق معه في عام 2003. فهو سبق أن راجع فرع 235 “بتاريخ ۲۰۰۳/۱۱/۱۰ للتدقيق معه حول مغادرته القطر إلى العراق بصورة غير مشروعة بقصد الجهاد ضد الاحتلال الأميركي… تم التحقيق معه من قبل الفرع ٢٤٣ لدخوله القطر بصورة غير مشروعة، وعن كيفية مغادرته إلى العراق بقصد القتال إلى جانب الشعب العراقي، ومن ثم أُخلي سبيله نافياً انتسابه إلى أية أحزاب سياسية أو تنظيمات دينية متطرفة”.

يقول الباحث الأردني المتخصّص في شؤون الجماعات الإسلامية حسن أبو هنية، في مقابلة لموقع “درج”، “الجولاني كان شخصية غير معروفة إلا لعدد قليل من الناس. حتى الاستخبارات العراقية لم تكن تعرف هويته الحقيقية، برغم أنه اعتُقل لديهم لسنوات طويلة. عندما أُطلق سراحه في 2011، كان قد اعتُقل بهوية شخص عراقي يُدعى عدنان علي الحاج، ولهذا السبب رجّحوا أن يكون هذا اسمه الحقيقي”.

السوريون أيضاً لم تكن لديهم معلومات دقيقة عنه. كانت الأسماء التي يتم تداولها مثل أسامة العبسي تشير إلى أنه من الشحيل، لكن لم يكن هناك معرفة حقيقية بشخصية أبو محمد الجولاني. أحياناً كانوا يعتبرونه شخصية خيالية وغير موجودة أصلاً.

بعض من ملف “الجولاني” في فرع فلسطين

عائلة الجولاني

والد أحمد الشرع هو حسين علي الشرع، كان موظفاً في رئاسة مجلس الوزراء في دمشق، وفي عام 1980 غادر إلى السعودية حيث عمل هناك في وزارة النفط، وعاد عام 1995 إلى سوريا حيث التحق بعمله السابق في رئاسة مجلس الوزراء، ولكن إثر خلاف مع رئاسة المجلس، انتقل للعمل في وزارة التخطيط. وفي عام 1999 قدّم استقالته وافتتح مكتباً عقارياً في مدينة دمشق – حي المزة.

بعد عودة أحمد الشرع من العراق حصل خلاف بينه وبين والده، وعلى إثرها غادر المنزل ولم يعد، أما الوالد فأيضاً لا يُعرف مكانه بحسب التقرير.

للجولاني عدد من الأشقاء والشقيقات، من بينهم شقيقه ماهر الشرع الذي درس الطب النسائي في روسيا، وهو متزوّج من روسية، وجدنا في الملف طلباً من “الأصدقاء الروس” بمعرفة تفاصيل أكثر عنه. أما صهره خالد حشيش سلامة، زوج شقيقته شاهندا، فكان موظفاً في فرع الحزب في درعا “أُوقف من قبل الفرع (٢٦٥) لحيازته كمية من الذخيرة الحربية وأُخلي سبيله بتاريخ ٢٠١٣/٤/١، ووردت عنه لاحقاً معلومات تُفيد بأن مجموعة إرهابية مسلحة قامت بخطفه بتاريخ ۲۰۱٤/۲/۲۸ ولم يُعرف عنه بعد ذلك أي شيء”.

شخصيات أردنية محورية!

ورد في ملف الجولاني في فرع فلسطين الذي اطّلع عليه “درج” اسمان لمواطنين أردنيين، كان دورهما محورياً مع الجولاني، ولكن مع بدء “جبهة النصرة” بإعادة تنظيم صفوفها “قامت بنقل وعزل أهم قادتها العسكريين والشرعيين في المنطقة الجنوبية درعا – القنيطرة”، فعزلت ونقلت الشخصين الأبرز في المنطقة الجنوبية، وهما:

أ. القاضي الشرعي العام ل”جبهة النصرة”: الدكتور سامي العريدي.

ب. الأمير العسكري: إياد الطوباسي، الملقب أبو جليبيب، أردني الجنسية”.

وذكر التقرير أيضاً، الأردن كإحدى الدول التي تستطيع تقديم الدعم المباشر ل”جبهة فتح الشام” بعد فكّ ارتباطها مع “القاعدة”، مما يشير إلى العلاقات المتوترة وانعدام الثقة بين الأردن والنظام السوري السابق.

في مقابلة لموقع “درج”، يقول الباحث الأردني حسن أبو هنية: “أبو جليبيب كان من أوائل المنضمين إلى تنظيم الدولة، حيث التحق به مباشرة في عام 2011، وكان من أوائل الأشخاص الذين عملوا مع أبو محمد الجولاني. تسلّم إمارة الجنوب واستمر في هذا المنصب لفترة طويلة. أما سامي العريدي، فلم يكن ضمن تنظيم القاعدة أو تنظيم الدولة في البداية، بل كان في الأردن، ثم التحق بهم في الجنوب، كما انضم إليهم في الأردن أيضاً أبو أنس الصحابة، واسمه الحقيقي مصطفى صالح عبد اللطيف، الذي كان المسؤول العسكري لجبهة النصرة بالكامل. ولكن بعد الخلاف مع تنظيم الدولة، انضم أبو أنس الصحابة إلى تنظيم داعش، بينما بقي أبو جليبيب وسامي العريدي مخلصين لتنظيم القاعدة”.

“في عام 2018، قُتل أبو جليبيب أثناء محاولته العودة إلى الجنوب لتأسيس شيء جديد للقاعدة هناك. يُقال إنه قُتل على يد القوات السورية، بينما تشير بعض الروايات إلى أن الجولاني هو من تخلص منه بسبب رفضه فك الارتباط مع القاعدة. عائلته اعتُقلت بعد ذلك. أما سامي العريدي، فقد اعتُقل أيضاً لكنه خرج لاحقاً، ولا يزال حياً ويعمل ضمن تنظيم “حراس الدين”، بحسب أبو هنية.

رفض الجولاني لـ “داعش”

ذكر التقرير أيضاً خلاف الجولاني مع “داعش”، بحيث رفض الشرع إعلان أبو بكر البغدادي حل “جبهة النصرة”، واندماجها في تنظيم واحد أسماه (الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) “ويُرجح أن إعلان الجولاني البيعة لزعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري، كان يعدّ المخرج الوحيد للنصرة في مواجهة دعوة البغدادي، ومهرباً للجولاني من استنساخ الدولة الإسلامية في العراق في سوريا”.

لم يغفل التقرير عام 2016 تحليل تحوّلات جبهة النصرة (التي أصبحت آنذاك جبهة فتح الشام) معتبراً أن “لدى الجولاني استيعاب لخصوصية بلاد الشام وتمايزها عن ساحات الجهاد الأخرى، وأن لدى النصرة مرونة في تطبيق المصالح والأحكام الشرعية، كما أنها لا تسعى لأخذ البيعة أو فرض سيطرتها ع باقي الكتائب، وأن الجولاني سعى لإنشاء مجلس شورى المجاهدين، لمنع حصر قيادة الجبهة بشخص واحد هو (الأمير) على التنظيمات الجهادية التقليدية”.

إلا أن النظام رغم توقعه مرونة “جبهة فتح الشام”، لم يتوقع أن تصل الجبهة إلى المرحلة التي وصلت إليها، معتبراً أن “الحديث عن جبهة جديدة مختلفة كلياً فكراً وتوجهاً عن الجبهة السابقة يبدو أقرب إلى المستحيل… من المؤكد أن جبهة النصرة الإرهابية (جبهة فتح الشام ستسعى في الفترة اللاحقة إلى تغيير جزء من سلوكياتها مع المجتمع المحلي والمواطنين والفصائل الأخرى) ومحاولة التقرب منهم، سواء بتقديم دعم عسكري محدود لبعض الفصائل، أو بتوسيع مجالات نشاطاتها الإغاثية، أو تخفيف قيودها الدينية عن السكان، كما ستسعى إلى محاولة التقرب من القوى الإقليمية (السعودية وتركيا وقطر) بشكل أكبر من ذي قبل، مع تقديم تأكيدات شفهية عن فك ارتباطها عن تنظيم القاعدة الإرهابي. إلا أن طبيعة البنية التأسيسية الفكرية والتنظيمية للجبهة، ستشكل عائقاً أمامها للاستمرار في نهج التقارب وتقديم التنازلات للأطراف الأخرى الفصائل الإرهابية، عدا أن طبيعتها الدينية ستمنعها من قبول ممارسات تعتبرها في الأساس كفراً أو شركاً، ولن يطول الأمر قبل أن تعود إلى التصادم مع السكان والفصائل الإرهابية الأخرى من جديد، خصوصاً وأن مسيرتها السابقة شهدت صدامات مسلحة كان بعضها عنيفاً، وذهب ضحية سلوكياتها الكثير من المدنيين والإرهابيين من الفصائل الأخرى، وأُسِر على يدها الكثير كذلك”.

الدور التركي

رأى النظام في تقريره آنذاك أن تركيا دفعت إلى إعلان فك ارتباط “الجبهة” مع “القاعدة” كرد فعل “على محاولة الانقلاب الفاشلة التي جرت على أراضيها، وبالتالي السعي إلى تصعيد ملفاتها الإقليمية بعد حجم الخذلان الذي شهده أردوغان من الحلفاء الغربيين، بغية تأكيد دوره وقوته الإقليمية وقدرته على التأثير في مجريات الأحداث، إضافة إلى جملة من التفاهمات بين القوى الإقليمية الداعمة للفصائل الإرهابية في سوريا (السعودية وتركيا وقطر) وإجبار النصرة على الانخراط فيها، حتى يستطيع الدفع بتوجهات جديدة في سوريا من قبل تلك القوى يمكن أن تلقى تأييداً دولياً”، ولكن يبقى الهدف الأبرز، بحسب التقرير، توجيه رسالة إلى القوى الخارجية “برغبة الجبهة الانفتاح على علاقات جديدة تشرعن وجودها في سوريا”، وهي بالفعل الاستراتيجية التي اتّبعها الجولاني منذ ذلك الوقت، وصولاً إلى الإطاحة بنظام بشار الأسد، بصفته قائداً للعمليات العسكرية ول”هيئة تحرير الشام”.

درج،

————————————

حافظ وليس بشار/ عبد الرحمن الراشد

تحديث 26 كانون الأول 2024

كثيرٌ ظهرَ وقيلَ عن سجونِ بشارِ الأسد. هناكَ نحوُ مائتي ألفِ سجينٍ ومختفٍ، لكنَّ الحقيقةَ هو أنَّه لم يكنْ من بدأ العنفَ سياسةً للسيطرة، بل ورثَ الفكرةَ والوظيفةَ والمؤسساتِ من والدِه.

فقد اعتمدَ الأبُ، حافظُ الأسد، على علاقةٍ استراتيجيةٍ مع الاتحاد السوفياتي، ساعدتْه، مع ألمانيا الشرقية، ونقلتْ إليه تقنيةَ القمعِ الممنهج.

ليسَ صدفةً أنَّ نظامَ الأسدِ الحديديَّ كانَ مشابهاً لنظامِ صدام حسين، رئيسِ العراق الأسبق. فكلا النظامين كانَ بعثياً، ووصل الرجلان الحكمَ عبرَ انقلابين على حزبيهما، وقامَا بتصفيةِ رفاقِهما. صدام وحافظ عاشَا في القاهرةِ وتأثَّرا بعبدِ النَّاصر. عُرف النظامانِ بالقمعِ والقسوةِ، وماتَ مئاتُ الآلاف في سجونِ النظامين البعثيين.

هناكَ كثيرٌ من الأقوالِ ونظرياتِ المؤامرةِ حول وصولِ الأسدِ للسلطة. فقد ترقَّى سريعاً إلى رتبةِ لواء، ثم صارَ قائداً للقوَّةِ الجوية، ووزيراً للدفاع ووقعتْ هزيمةُ 1967، والجيشُ تحتَ إمرتِه. كيفَ صارَ رئيسَ وزراء ثم رئيساً رغم أنَّه المسؤولُ عن الهزيمةِ، في حين أنَّ نظيرَه المصريَّ المشيرَ عبد الحكيم عامر، انتحرَ، والأرجحُ أنَّه قُتلَ في زنزانةٍ بعدَ الهَزيمة.

كثيرٌ من الوثائقِ السّريةِ الغربيةِ حول تلك الحقبةِ أصبحت متاحةً، لكن لم نجدْ فيها ما يؤيّدُ النَّظريةَ التي تقول إنَّ حافظَ وصلَ للحكم بدعمٍ من الإسرائيليين أو الغرب. لكنَّ النّظامَ نفسَه اخترق على مستوياتٍ عليا، وأشهرُها قصَّةُ الإسرائيليّ إيلي كوهين الذي بدأ نشاطَه، تحتَ اسم كامل أمين ثابت، في العام نفسِه الذي صارَ حافظ رئيساً وبعدَ أربعِ سنواتٍ تمَّ اكتشافُه وإعدامُه.

على المستوى السّياسيّ لعبَ الأسدُ دورَه في معسكر السوفيات خلالَ الحربِ الباردةِ في مواجهةِ النفوذ الأميركي. سهَّل بناءَ شبكةٍ معقَّدةٍ لتنظيماتٍ إرهابيةٍ باسم تحريرِ فلسطين، كانتْ معظمُ عملياتِها موجهةً للأميركيين، واستهدفتِ القياداتِ الفلسطينيةَ المضادةَ والعربَ القريبين من واشنطن. الأسدُ كانَ خلفَ اغتيال ممثلي منظمةِ التحرير الفلسطينية في لندن وباريس وبروكسل، وحاولَ اغتيالَ ياسر عرفات عام 1974.

في رأيي لم يكنِ الأسدُ الأبُ مرتبطاً بالإسرائيليين، لكنَّه كانَ يحسب حسابَ قوتِهم، ولم تُطلق رصاصةٌ واحدةٌ من حدودِه على إسرائيل، لماذَا، وقد كانَ هو أكثرَ الأنظمةِ ادعاء بالعداءِ لإسرائيل؟ إمَّا أنَّ هذا كان اتفاقاً معهم بما هو أبعدُ من فكّ الاشتباك الذي هندسه الوزيرُ الأميركي هنري كيسنجر، وإما أنه كانَ يدرك أنَّ الإسرائيليين يستطيعونَ دخولَ دمشقَ وإسقاطَ نظامِه في ساعةٍ واحدة، وهي مسافةُ الطريقِ من حدود الجولان إلى العاصمة.

قضَى معظمَ عمرِه يخدم مشروعاً واحداً فقط، هو الحفاظُ على الحكمِ بكل السّبل بما فيها المزايدةُ على القضيةِ الفلسطينية، وأفشلَ مساعيَ الفلسطينيين في إقامة دولتِهم بالاغتيالات والدعايةِ ضدهم. لكنَّه قُبيل وفاتِه مهَّد الطريقَ لمشروعِ سلامٍ تمَّ التفاوضُ عليه في جنيف، وعندمَا تسلَّم بشار الحكمَ تراجع الإسرائيليون لعدمِ ثقتهِم به.

حافظ عُرفَ بدهائِه في علاقاته الخارجية وكانَ أكثرَ وعياً بالحساباتِ الإقليمية والدولية. صدام عُرف بجهلِه وحبِه لاستعراض قوتِه ضد خصومه. قامَ مرة بإرسال فيديو عمليةِ تصفيةٍ شهيرة ضد رفاقه في الحزب إلى الأحزاب والسفاراتِ عام 1979.

بشارُ الأسد ورثَ عن والدِه نظامَ حكمٍ بائس. دامَ رئيساً نحو ربعِ قرنٍ دون إنجازات تنموية أو إصلاحات إدارية. ارتكب قراراتٍ كارثيةً في سياساته الداخليةِ والخارجية. والسؤالُ الذي لم أجد له إجابة شافية هو حول تحالفِه مع إيران؟

لماذا ومنذُ متَى بدأتِ العلاقة؟ ودورُه في عمليات الاغتيالِ الواسعةِ في لبنانَ لصالحِ «حزب الله»؟ للحديث صِلة.

الشرق الأوسط

————————————

أناقة دولة الجريمة المنظمة

داخل قصور الحاشية في «قرى الأسد»

دمشق: بيسان الشيخ

شجرة ميلاد غير مكتملة التزيين تنتصب وسط الصالون الكبير في قصر اللواء الركن كمال علي حسن، رئيس شعبة المخابرات العسكرية لدى الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد، توحي بأن العائلة رحلت على عجل قبل الانتهاء من مهمة التزيين.

زارت «الشرق الأوسط» المنزل بعدما أصبح بعهدة أحد الفصائل المسلحة التابعة لإدارة العمليات العسكرية في القيادة العامة التي تقودها «هيئة تحرير الشام»، وذلك بعد نحو 4 أيام على دخولها دمشق.

ويقول قائد المجموعة (مفضلاً عدم ذكر اسمه): «تم تفريغنا لمهمة حماية الممتلكات والقصور في هذه المنطقة (قرى الأسد) لأنها تعرضت للسلب والنهب فور هروب أصحابها».

وفي حين أن معظم المنزل متروك على حاله، ينام المسلحون على فرشات إسفنجية في الصالون قرب موقد الحطب، ويستخدمون المطبخ لأداء حاجياتهم، بينما يقضون النهار في الخارج بالحراسة.

وبدت علامات السلب والنهب التي سبقت وصول المجموعة واضحة للعيان؛ فلا شاشات تلفزيون أو غسالات، كما اختفت غالبية الأدوات الكهربائية.

شعار القيادة العامة للعمليات العسكرية في صالون منزل رئيس الاستخبارات العسكرية الهارب

شعار القيادة العامة للعمليات العسكرية في صالون منزل رئيس الاستخبارات العسكرية الهارب

ولا تبدو على المسلحين أي علامات اهتمام بالتفاصيل الفاخرة من ثريات كريستال إيطالي أو أثاث أو ستائر حريرية أو أسرّة وثيرة أو مستودع المشروب المستورد، وبعضه صناديق من النبيذ الفاخر الذي يناهز سعر زجاجة منه 2800 دولار.

كل ذلك بالنسبة إليهم دليل إضافي على حياة البذخ التي عاشها رجال السلطة المنهارة على حسابهم.

ويقول أحدهم: «عندما يدخل جيشهم إلى منزلنا ومناطقنا لا يتركون أبواباً أو بلاطاً أو حديداً أو شرائط كهربائية داخل الجدران. يقومون بالتعفيش المنهجي فلا يبقى من بيوتنا إلا هياكل عظمية… هل كانوا فعلاً يحتاجون ذلك؟».

يطرح سؤاله الأخير وهو يشير إلى فخامة منزل حسن الممتد على 4 طوابق يمكن التنقل عبرها بواسطة مصعد كهربائي وتتضمن أجنحة نوم ومعيشة متفرقة، إضافة إلى قاعة رياضة خاصة وحديقة ومسبح كبيرين، كما يظهر في هذا الفيديو.

داخل منزل كمال علي حسن

ولمن لا يعرف كمال علي حسن، فهو بالإضافة إلى حمله رتبة لواء ركن، كان يُطلق عليه معارضون أوصافاً كثيرة، منها «مهندس المهمات القذرة» و«ملياردير الأمن» و«راعي الشبيحة»، وغير ذلك من نعوت تعكس نفوذ الرجل الذي تلاحقه اتهامات الفساد والتنكيل.

وجاءت ترقيته العسكرية إلى لواء ركن قبل نحو عام، على رغم إدراجه على لائحة العقوبات الأميركية. ومن أبرز المهام التي أشرف عليها حسن عمليات التعذيب التي نُفذ جزء كبير منها في فرع أمني بقيادته ووثّقته صور عُرفت بـ«ملفات قيصر».

أما كونه مليارديراً؛ فلأنه شكّل، بحسب اتهامات المعارضة، «عقدة رئيسية» في حلقة التخادم الاقتصادي الضيقة المرتبطة بالأسد، إضافة إلى ممارسة الابتزاز على نطاق واسع لا سيما لأهالي المعتقلين.

ولعب حسن دوراً في رعاية عدد من الميليشيات والعصابات الناشطة عبر الحدود اللبنانية – السورية، المختصة بالخطف مقابل فدية والابتزاز الجنسي وجمع الأتاوات وأبرزها عصابة شخص يدعى «شجاع العلي».

و«قرى الأسد»، حيث يقع قصر كمال علي حسن، هي كما يعفور المجاورة، تجمع للقصور والفيلات التي تملكها حاشية بشار وأسماء الأسد من رجال أعمال وقادة أمنيين وعسكريين برتب رفيعة.

وتقع عند هضبة مرتفعة في ريف دمشق الغربي، على بعد نحو نصف ساعة من العاصمة ومثلها من الحدود اللبنانية التي فروا عبرها لحظة هروب قائدهم، تاركين خلفهم كل شيء إلا أموالهم وذهبهم.

وتردد أن مُسيّرة إسرائيلية كانت استهدفت ماهر الأسد، شقيق الرئيس المخلوع والرجل الثاني في نظامه، في أحد قصوره بهذه المنطقة، نهاية سبتمبر (أيلول) الماضي.

وفيما تشير لافتات صغيرة إلى أزقّة تؤدي إلى بعض الفيلات والمزارع الخاصة، إلا أن قصور الدائرة الضيقة من الحاشية تنتصب خلف أسوار عالية فلا يظهر منها للعيان إلا أسقفها أو أشجار الحدائق المنمَّقة فيها، ويحتاج التعرف إليها مقاطعة دقيقة للمعلومات مع أطراف متعددة.

ومثال على ذلك مجمَّع القاطرجي الفخم، الذي يعود لرجل الأعمال السوري المقرب من الأسد محمد براء قاطرجي الذي كان مدرجاً على لائحة العقوبات الأميركية، ويُعتقد أن إسرائيل قتلته بغارة استهدفته في هذه المنطقة منتصف يوليو (تموز) الماضي.

ويعاكس بياض أسوار هذه القصور المزينة بأشجار عالية وزرع منمّق ومجسَّمَيْن على شكل أسدَيْن وُضِعا من جهة وأخرى للبوابة الضخمة، المساحات القاحلة والمهملة المحيطة به.

ويتوزع المجمع على طرفَي الطريق المعروف بين السكان بـ«شارع القاطرجي». ويبدو أن مزيداً من أعمال البناء كانت تجري فيه حتى وقت قريب، كما يُظهِر هذا الفيديو.

ويقول قائد المجموعة المكلفة حماية المكان لـ«الشرق الأوسط» إن «غالبية القصور التي هرب أصحابها فُرّغت من كل ما يمكن حمله والاستفادة منه. فالقرى السورية المحيطة لقرى الأسد، وإن كانت على عهده، لكنها تعيش فقراً مدقعاً».

وإذ تبدو «قرى الأسد» أو منطقة القصور، كما تُسمَّى، بقعة خارجة عن السياق العام لجهة حسن التنظيم المدني، وتسلسل القصور والمنازل الفاخرة وترقيمها، والأشجار والنبات الكثيفة والنظافة العامة، تصدمك المناطق والقرى الملاصقة لها بكونها أحزمة بؤس فاقع بكل المعايير.

فحتى الكهرباء التي كانت تغذي تلك المنطقة الثرية بـ«خط ذهبي» لا ينقطع، لم تشمل هؤلاء الجيران المعدَمين الذين شكّلوا قاعدة صلبة للنظام، على أرضيات طائفية في معظم الحالات.

وفي وقت يستوقفك مقر شرطة ببناء حديث عند مدخل القرى، بعكس أفرع الشرطة والأمن في بقية مناطق العاصمة، تعلم أن أمن المنطقة لا يتوقف عليه، وإنما على مقار «الفرقة الرابعة» الممتدة على طول الطريق السريع المؤدي إليها، والحواجز العسكرية الكثيرة التابعة لها، التي تسلَّمتها اليوم فصائل من القيادة العامة لـ«هيئة تحرير الشام». لكن دبابات هذه الفرقة لا تزال على جانبي الطريق، كما يُظهِر هذا الفيديو.

وبينما تجول بنا السيارة بين القصور المختبئة خلف أسوار عالية، يشير مرافقي إلى موقع وُجِد فيه قبل يومين مخزن لـ«الكبتاغون»، وقال: «وصلت إلينا إخبارية عن معمل (كبتاغون) هنا بين هذه القصور. توجهت قوة مسلحة لمداهمته، لكنه كان فارغاً، ولم يبقَ منه إلا آثار لأكياس وطرود».

وأضاف أن «غالبية المخبرين والوشاة الذين كانوا يعملون لدى النظام سابقاً رفعوا العَلَم الجديد، وأصبحوا يتوددون إلينا ويريدون العمل لدى الهيئة الآن، ولكن لا يمكن الوثوق بهم كثيراً». وأضاف: «أفضل ما يقومون به هو الوشاية عن سرقة، أو دخول أحد الأشخاص إلى قصر لإحراق أدلَّة وإخفاء وثائق».

وبالفعل، بعد أيام من البحث عن قصر يسار إبراهيم، الذراع المالية لأسماء الأسد، الذي ذكرت تقارير أنه رافق بشار إلى موسكو يوم الهروب، جاءت إخبارية بأن ثمة حريقاً في حديقة القصر.

يسار إبراهيم

توجهت مجموعة من مسلحي الهيئة، فإذا بسيدة تعمل لدى عائلة إبراهيم يرافقها عنصر من الحرس الجمهوري، بحسب هويته التي اطلعت عليها «الشرق الأوسط»، يقومان بحرق المستندات والوثائق المتروكة في المنزل كافة. أُصيبا بهلع شديد وسلَّما ما بقي من أوراق وسيارتهما وسلاح للمسلحين.

واللافت أن كثيراً مما عاينته «الشرق الأوسط» بين الوثائق والأوراق المضبوطة مرتبط بلبنان؛ من خرائط لمناطق معينة وقصاصات صحف تفصيلية للتغطيات الصحافية لاغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، وتداعياته.

ويسار إبراهيم هو رجل أعمال تُتهَم أسماء الأسد بـ«اختراعه» لإطاحة إمبراطورية رامي مخلوف، ابن خالة بشار؛ فكان الواجهة الاقتصادية والمالية للإمبراطورية الجديدة للعائلة الحاكمة.

وبدأ إبراهيم مساره بأن أنشأ شركة اتصالات يمتلك «الحرس الثوري» الإيراني جزءاً كبيراً منها، ثم استولى على شركتي الاتصالات الرئيسيتين في سوريا، وهما «إم تي إن» و«سيريا تل» (وكانت من حصة مخلوف). كما أنشأ عدداً من الشركات في ملاذات ضريبية للالتفاف على العقوبات الدولية وإدارة الأموال المتأتية من تجارة «الكبتاغون».

تتساءل: لماذا قد يحتفظ رجل من عيار يسار إبراهيم بقصاصات صحف عن اغتيال الحريري وخريطة لمرجعيون وحرمون اللبنانيتَيْن، مؤرشفة بدقة وعناية، مع ملاحظات بخط اليد أعلى الصفحات؟ وماذا يخبِّئ ما أُتلف من أوراق ومستندات أو ما لم يُكتشف بعد؟

أسئلة كثيرة قد لا تتم الإجابة عنها إلا بملاحقة هؤلاء الرجال والنساء وإحالتهم إلى محاكمات يكشفون فيها ماضيهم وماضي بلدَيْن ارتبط مصيرهما بالرغبة حيناً، وبالإكراه أحياناً.

احتمال بعيد. على الأقل في الوقت الحالي.

الشرق الأوسط

—————————–

شروط واشنطن لقبول الإدارة الجديدة في دمشق/ وائل علوان

تحديث 26 كانون الأول 2024

إن ما يحسب للقائد العام للإدارة السورية الجديدة، أحمد الشرع أنه لم يكن ليتحرّك في قيادة الفصائل المسلحة من إدلب إلا بعد أن قرأ الموقف الأميركي بشكل صحيح، وأنه يعلم بدقة متى يتحرك؟ وكيف؟ وأين؟ ومع ذلك فإن أحدًا لم يكن يتوقع أن ينهار نظام الأسد بهذا الشكل، وبسرعة كبيرة، وصولًا إلى السقوط والانهيار في دمشق التي دخلتها الفصائل بقيادة هيئة تحرير الشام.

كان الشرع قد التقط مؤشراتٍ تدعم تحركه، وتشكِّلُ الغطاء الغربي له بشكل مضمون وفعَّال، ما دام أنه يتحرك تحت العنوان العريض الذي رسمه المجتمع الدولي بقيادة واشنطن للمنطقة، وهو “إخراج إيران من سوريا”، وبصرف النظر عما إن كان متوقعًا أو غير متوقع فإن هيئة تحرير الشام أصبحت الجهة التي تحكم دمشق، وأبو محمد الجولاني عاد لاسمه الحقيقي “أحمد الشرع” الذي يقابله المسؤولون الأميركيون ويخططون معه لمستقبل سوريا الجديد.

ماذا عن التصنيف على قوائم الإرهاب؟

من المتوقع أن يكون رفع الهيئة وزعيمها عن قوائم الإرهاب هو أحد أهم الأوراق التفاوضية التي ستضمن بها واشنطن انضباط الإدارة الجديدة في دمشق بما يناسب سياساتها في المنطقة.

وهذا الأمر لا يشترط أن يحصل سريعًا، حيث تستطيع الدبلوماسية الأميركية إجراء اللقاءات والتفاعل السياسي مع السلطة وليس مع الهيئة، والمثال القريب لذلك أن منظمة التحرير الفلسطينية كانت تطالب الولايات المتحدة برفعها عن قوائم الإرهاب حتى عام 2022، علمًا أنها تسلّمت السلطة في الضفة والقطاع وأصبح لها تمثيل في المؤسسات الأممية.

الابتزاز برفع العقوبات

لا تقتصر الأوراق التفاوضية أو يمكن تسميتها بأوراق الضغط على رفع التصنيف، بل إن التحكم الأكبر ،للغرب عمومًا وللولايات المتحدة على وجه الخصوص، يتوقع أن ينطلق من ملف العقوبات، ليس على الأشخاص فقط، وإنما على القطاعات بما في ذلك مؤسسات الدولة ومصارفها.

كل ذلك تتعامل العواصم الغربية معه وفق مبدأ التحكم البعيد والفاعل، تمامًا كما هو الأمر حاليًا في العراق الذي سقط فيه النظام الذي تمت معاقبته منذ عام 2003؛ لكن العقوبات ما تزال أداة واشنطن الرادعة والضابطة لتبقى الحكومات المتعاقبة في بغداد تحت رحمة تمرير المبالغ النقدية يدًا بيد (حقائب الكاش) التي قد تتأخر أو تنقطع إذا ما أرادت الإدارة الأميركية التنبيه أو العقاب.

ماذا تريد الإدارة الأميركية من الإدارة في دمشق؟

هناك مجموعة واسعة من الشروط المعلنة التي ستبقى محل تفاوض وسجال بين الغرب وبين الإدارة الجديدة في دمشق، منها حماية الأقليات الدينية والطائفية والإثنية، وضمان حقوقهم، وإشراك جميع المكونات والشرائح والأطياف في حكم سوريا، وعدم اضطهاد المرأة وحرمانها من حقوقها، وتوفير الحريات واحترامها.

يُعتقد أن هذه شروط شكلية، بينما هناك شروط أهم وأكثر حساسيّة، وهي محل اختبار الدول، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، للإدارة الجديدة في دمشق، ويمكن تلخيص هذه الشروط كما التالي:

إيران لن تعود إلى سوريا

لم تخفِ واشنطن أن إدارة العمليات العسكرية نجحت نجاحًا مرحبًا به في إخراج إيران من سوريا، كما لم تخفِ أنها ستعمل مع أي إدارة سورية قادمة تضمن عدم عودة إيران، ليس فقط في نفوذ عسكري وأمني، وإنما حتى العودة السياسية أو الاقتصادية، أو أي نوع من الامتداد الخشن أو الناعم في المنطقة، ليكون ذلك إنهاء لجغرافيا واسعة كان يمتد بها مشروع “محور المقاومة والممانعة”.

العلاقة مع إسرائيل

لا يتوقع أن تقبل واشنطن وحلفاؤها من النظام الجديد الذي سيحكم دمشق ما كانت تقبله من نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد تجاه إسرائيل، لكن الأمر بات أكثر تعقيدًا مع تقدم الجيش الإسرائيلي وسيطرته على مناطق جديدة جنوب سوريا، ضمن المنطقة منزوعة السلاح وفق اتفاقية 1974، وفي مناطق تجاوزت فيها إسرائيل هذه المنطقة إلى قرى وبلدات أخرى.

أبدى الشرع من دمشق موقفًا سريعًا وواضحًا من أن سوريا لن تتجه إلى أي مواجهة مع دول الجوار، أو مع أي جهة، فضلًا عن أن تكون قادرة على ذلك، وكان الجيش الإسرائيلي في ذلك الوقت قد دمر معظم القدرات العسكرية، بما يجعل سوريا عمليًا دولة منزوعة السلاح، ومع ذلك فإن رسائل الجيش الإسرائيلي ونتنياهو من قمة جبل الشيخ تؤكد أن إسرائيل لن تخرج في وقت قريب من المناطق التي سيطرت عليها بالتزامن مع سقوط نظام الأسد.

هذا الأمر سيعقد شكل العلاقة بين الإدارة الجديدة في دمشق وبين تل أبيب، فضلًا عن ملفات أخرى قد تساهم أيضًا في تعقيد العلاقة، مثل العلاقة بين من يحكم دمشق، وبين القوى الإقليمية في المنطقة ومنها تركيا.

السلاح الكيماوي

متصلًا بأمن إسرائيل وأمن المصالح الغربية في المنطقة فإن واشنطن ومن ورائها تل أبيب ستعمل سريعًا على ضمان تعاون من يريد حكم دمشق في تسليم جميع الأسلحة الكيماوية لإتلافها، الأمر الذي راوغ فيه النظام المخلوع كثيرًا، وبقي يشكل هاجسًا كبيرًا في إسرائيل.

صحيح أن الجيش الإسرائيلي دمر البنية العسكرية لسوريا، إلا أنه يعتقد أن المخزون الكيماوي من الخطر جدًا أن يتم التخلص منه، كما يتم التخلص من باقي أنواع الأسلحة التي دمرتها إسرائيل في مستودعاتها، لذلك لا بد من تعاون جاد وحقيقي من الإدارة الجديدة في هذا الملف، الأمر الذي يتوقع أن تتابعه الولايات المتحدة، وتبدي فيه الإدارة الجديدة مرونة عالية.

اختبار القدرة على فرض الاستقرار

كانت واشنطن خلال عقد من الزمن تتعامل مع الملف السوري من بوصلة المصالح الإسرائيلية وتأثير تل أبيب على القرار الأميركي في الشأن السوري، والذي كان يتجه إلى توازن الضعف بين فرقاء مختلفين في سوريا، يتفاعلون ضمن صراع مضبوط ومتحكم به.

حاليًا وبعد هذا التغير الواسع الذي ستمتد تأثيراته على الشرق الأوسط كاملًا، فإن إدارة ترامب ستتجه إلى حل النزاعات في العالم، وبشكل خاص في منطقة الشرق الأوسط وشرق أوروبا، ربما هذا سيتطلب بعض الفوضى الموجهة للوصول إلى طاولة مفاوضات تنتج حل النزاعات وضمان الاستقرار، لكن بشكل عام فإن الهدف النهائي هو توقّف الحروب.

في الشرق الأوسط هناك فرص كثيرة للاستثمار في الهدوء والاستقرار، والجيوسياسي السوري يجعل دمشق محورًا هامًا يجب أن تستطيع إدارتها أن تضبط الحكم، بما يتوافق مع توجه المصالح الأميركية، ومصالح حلفائها في المنطقة.

——————————————-

التشبيح في سوريا والمساءلة المجتمعية والقانونية/ حسن الخطاف

26/12/2024

لقد منّ الله على المستضعفين -أكثر من غيرهم- في سوريا بالتخلص من أقسى نظام عرفته البشرية في العصر الحديث.

قام هذا النظام العائلي الطائفي منذ تسلم الأب حافظ الأسد السلطة سنة 1970، وخاصة بعد أحداث حماة 1980-1982، بحكم المعارضين له بالترهيب (قتل، سجون، إبعاد، تشريد، منع السفر، مصادرة الأموال، حرمان من الحقوق المدنية، تركيب اتهامات باطلة للمعارضين بتخريب الأمن أو بتجارة المخدرات..)؛ وبالترغيب للموالين له بـ (تسليم أراضٍ عامة، وظائف عالية من غير كفاءة، السماح بالاستيراد كوكيل حصري لبعض المستوردات كالآلات والسيارات، السماح بتجارة المخدرات والممنوعات والتهريب، إعطاء تنفيذ مشاريع كبرى كتنفيذ الطرقات والمشافي..).

بعد أن هب الربيع انطلقت المظاهرات في سوريا سنة 2011، فقابلها بشار الأسد بالمشاركة مع روسيا وإيران بأقصى وأقسى ما يمكن أن يستخدم ضد الشعوب، وتجاوز بذلك نهج أبيه، ووصل الأمر إلى استخدام الكيماوي ضد شعبه، وصار أكثر من نصف الشعب بين مهجر ومفقود ومقتول ومعاق.

ومن أكثر المظاهر وحشية ما كشفته 55 ألف صورة سربها قيصر، وهو اسم مستعار لمصور سابق برتبة ملازم في الشرطة العسكرية التابعة للنظام في سوريا، كان انشق عن النظام عام 2013 حاملًا معه هذه الصور، التي تُظهر التعذيب والانتهاكات في السجون السورية، مستعينًا بزميل آخر له أطلق على نفسه اسم سامي؛ خوفًا من بطش النظام.. والسجون التي اكتشف العالم جزءًا منها بعد سقوط النظام هي خير شاهد على ذلك.

وفي محاولة لكسر إرادة الشعب ظهر ما يسمى بالتشبيح.. فما هو التشبيح؟ وما أنواعه؟ وكيف يقاضى القائمون به؟

التشبيح (النشوء، المفهوم، الغايات، التصرفات)

نشأ التشبيح في عهد حافظ الأسد، وخاصة بعد مجزرة حماة التي حدثت في فبراير/ شباط 1982م وما بعد، وارتبطت بدايات النشوء بركوب سيارات سوداء، نوافذها مظللة تظليلًا أسود لتخفي من فيها، وارتبط هذا إلى حد ما بلبس أسود ونظارات سوداء، وهذه السيارات لها رمزية مخيفة في أذهان السوريين، فغالب من يركبها هم عناصر الأمن والمرتبطون به.

ولصعوبة ضبط المراد من التشبيح على وجه الدقة، يمكن القول إن التشبيح هو مفهوم أكثر منه مصطلحًا، وهذا هو الفارق بين المفهوم وبين المصطلح، فالمصطلح يكون عادة محل توافق بين متداوليه بخلاف المفهوم، ولذا فليس هناك من سبيل إلى تعريف التشبيح من حيث الغاية والتصرف، ويمكن القول إن التشبيح هو السعي للمحافظة على بقاء نظام الأسد باستخدام العنف، فالغاية التي يسعى لها الشبيح هي المحافظة على نظام الأسد بكل الوسائل.

والتشبيح أكثر ما يكون من الموالين لطائفته داخليًا، أو من العناصر التي دخلت من خارج الحدود المرتبطة به طائفيًا، ولكنه ليس خاصًا بهم؛ فبعض التشبيح تمت ممارسته حتى من أهل السنة على أهل السنة، إلا أن التشبيح المنظم والبارز والأشد كان من الموالين لطائفته، ومن الذين قدموا من الخارج. ويمكن أن يكون التشبيح فرديًا أو جماعيًا، وليس هناك سقف محدد أو ممنوع من الممارسة، فيطلق لهم عنان التصرفات.

يبدأ التشبيح في أدنى صوره من الموالاة، ورفع صور الأسد، واتهام المعارضين بالإرهاب والارتباط بجهات خارجية والحصول على التمويل الخارجي، وليس له نهاية من حيث التصرف، وقد يكون القتل في بعض الحالات أسهل أنواعه، ولكن دون أن يسلموا جثة الضحية.

ومن تلك الممارسات أيضًا قلع الأسنان، وسمل العيون، وربط المسجون على كرسي حديدي مثبت على الأرض وهو عارٍ، وتحته شمع ملتصق بالمؤخرة وهو يصرخ ألمًا واستغاثة حتى يقطر اللحم على الأرض.. إلا أن أصعب أنواع التشبيح هو اغتصاب الفتاة أمام أبيها أو إخوتها، واغتصاب المرأة أمام زوجها أو أولادها، ومثل هذه المسائل شبه متواترة الأخبار عن شبيحة النظام، فشيوعها وانتشارها يغني عن البحث في مصادرها.

مصير الشبيحة بعد سقوط النظام

غاية الشبيح هو الوصول إلى المكاسب أيًا كانت، وأبرز هذه المكاسب هو الدفاع عن الطائفة في تصوره، فقد زرع النظام في طائفته أنه إن ذهب فسيُقتلون، وبالتالي بدا لهم من خلال التشبيح كأنهم يدافعون عن أنفسهم بسلوك كل التصرفات، وهم حتى في حالات السلم يمارسون التشبيح كنوع من الإذلال والتهميش والإفقار، وغاية النظام الاستفادة من هذا الشبيح.

وبناء على ذلك قد تختلف المصالح وتتغير الأولويات، فمن الممكن أن يتخلى الشبيح عن تشبيحه إذا وجد من يدفع له أكثر (منصب، مال…)، وهذا غالبًا يحصل من غير أبناء الطائفة، أما أبناء الطائفة فلا ينتقلون إلى جهة أخرى ليدافعوا عنها.

وبناء على هذا نجد نظام الأسد يتخلص من بعض أتباعه عندما تكون له مصلحة قوية، فالسوريون يرون أن كثيرًا من عمليات القتل التي حصلت في سوريا أثناء الثورة وقبلها كانت للتخلص من الأتباع، ومن الأمثلة على ذلك التخلص من الضابط السوري غازي كنعان، الذي شغل منصب وزارة الداخلية ورئاسة الأمن السياسي، وكان الضابط رقم واحد الذي يدير الملف اللبناني، وقد تم التخلص منه بعد اتهامه من قبل لجنة التحقيق بمقتل رفيق الحريري، وذلك لطمس معالم التورط السوري في هذا الملف، وادُّعي أنه انتحر.

فالشبيح يتلوّن ويغير من نفسيته بحسب الأوضاع، وهذا ما نراه بعد سقوط نظام الأسد؛ حيث ظهر البعض من إعلاميين وفنانين ورجال أعمال وأساتذة جامعات وشيوخ وخطباء، وقد تلونوا وغيروا من لهجتهم من أجل التخلص من تاريخهم، فبعضهم مسح الصور الموجودة على وسائل التواصل، وبعضهم رفع العلم السوري الجديد.

وينبغي ألا ننسى أن الشبيح يحتاج إلى مظلة قانونية ومظلة اجتماعية.. أما المظلة القانونية، فتطلق لهم العنان في كل تصرف؛ لأن الغاية عندهم تبرر الوسيلة، بل يكونون موطن تكريم، وزيادة في التكريم تمنح لهم مناطق كاملة في السرقة والنهب، وقد رأينا نماذج كثيرة لما يسمى بالتعفيش، حيث يتقاسم هؤلاء الشبيحة ممتلكات الأحياء التي يدخلونها، ووصل ذلك حتى سرقة الدجاج.

وأما المظلة الاجتماعية، فتمثلت بدفع النظام بعضًا من أبواقه على مستوى الإفتاء الشرعي والتوجيه الديني والتدريس الجامعي وإقامة المؤتمرات لشيطنة الثورة، والرفع من منزلة الواقفين ضدها من جيش وشبيحة .

المساءلة المجتمعية والقانونية للشبيحة

على المجتمع القيام بدروه في محاسبة من ثبت تورطه من الشبيحة، وعدم انتظار الجزاء القانوني، ولنا هنا أسوة في منهج النبي – عليه الصلاة والسلام – في تفعيل دور المجتمع في معاقبة المؤيدين للنظام؛ فقد طلب النبي – عليه الصلاة والسلام – من الصحابة ألا يكلموا الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك لمدة خمسين يومًا، بل وصل الأمر إلى الطلب من الزوجة الابتعاد عن زوجها، مع أنهم تابوا (رضي الله عنهم)، ولم يكن جرمهم كجرم هؤلاء الشبيحة الذين ناصروا النظام.

وينبغي أن تزداد هذه المحاسية المجتمعية مع ظهور الجرائم التي كانت ترتكب في السجون تحت تسميات مكافحة الإرهاب وصيانة الدولة، فالمعاقبة المجتمعية أشد من عقاب الدولة في كثير من الأحيان.

وتتمثل المعاقبة المجتمعية بصور كثيرة، منها عدم تكليم الشبيحة – ولو كانوا إخوة أشقاء- ولامجالستهم، ولا البيع ولا الشراء، وإذا خطب الشبيح خطبة الجمعة مثلًا فالمطلوب هو الخروج من المسجد، وإذا أعطى محاضرة فليخرج الطالب من القاعة.. حتى يشعروا بجريمة تصرفهم.

ولا ينبغي الاعتراض هنا بأن هذا الصنيع يؤدي إلى الهجران المنهي عنه في حديث النبي – عليه الصلاة والسلام- الذي جاء في صحيح البخاري: “لا يحل لرجل أن ‌يهجر ‌أخاه فوق ثلاث ليال”.. أقول: لا يُعترض بهذا الحديث على ما ذكرنا؛ لأن الهجر الممنوع هو ما كان في المصالح الدنيوية، أما ما كان في القيم والأخلاق فإن الهجران رادع من الروادع.

يقول ابن رجب الحنبلي في “جامع العلوم والحكم”، في عدم تجويز الهجران: “وكل هذا في التقاطع للأمور الدنيوية”؛ ويقول ابن الجوزي في كتابه “كشف المشكل من حديث الصحيحين”: “فأما إذا كان الهجر لأجل الدين فإن هجر أهل البدع ينبغي أن يدوم على مرور الزمان ما لم تظهر منه توبة ورجوع إلى الحق، وكذلك المبارزون بالمعاصي”.

ولئن كانت هذه المساءلة والمعاقبة المجتمعية مطلوبة، فهي لا تغني مطلقًا عن مساءلة القانون، فالقانون له إجراءات ووسائل إثبات مختلفة، كما أنه لا يمكن له أن يعاقب على كل تصرف.. وزيادة على كل ما تقدم، الوضع الراهن في سوريا قد يستغرق وقتًا طويلًا لمحاسبة الشبيحة؛ إذ لابد أولًا من الاستقرار الأمني وتشكيل المحاكم.

هل تتعارض المساءلة المجتمعية والمعاقبة القانونية مع تحقيق السلم الأهلي؟

هناك من يطرح قضية العفو والمسامحة والمصالحة، وهذه لا بد منها خاصة في مجتمع متعدد التركيبات الأيديولوجية في سوريا، لكن هذا يتم في حال كانت الأخطاء المرتكبة ضد الناس قليلة، أما في الحالة السورية فالقضية ليست حقوقًا شخصية خاصة يمكن التسامح فيها، بل هي دماء وأعراض وظلم.

وقد رأينا نماذج من ذلك من خلال السجون السورية، والصفح في مثل هذه الأحوال هو نوع من الانهزام، وقد يُفهم على أنه تخلٍّ عن مبادئ الثورة، فالذي اغتُصب عرضه، أو قُتل أبوه أو أخوه يريد القصاص من القاتل، ولا يُشفى غليله إلا بذلك، وبذلك ينعم المجتمع وتتحقق العدالة. يقول سبحانه وتعالى: {ولكم في القصاص حياةٌ يا أولي الألباب لعلّكم تتقون} [البقرة: 179]. والحياة هنا هي حياة الاطمئنان والشعور بالأمان، وإذا حصل هذا حصل العمران وقامت التنمية.

—————————

دانتي” والصهريج المقلوب و”سوريا الأسد”/ مالك داغستاني

2024.12.26

هل قرأ أحدٌ ما على مسامع الأسد الأب ومن بعده الابن، عبارة الأديب الإيطالي “دانتي أليغيري” مؤلف الكوميديا الإلهيّة: “أيها الداخلون هنا. تَخَلّوا عن أي أمل” التي تخيّل أنها كُتِبت على بوابة الجحيم؟ لست متأكّداً. لكن ما هو غير قابل للشك لديّ، أن كليهما كتبا تلك العبارة، أو مايشبهها على بوابة “سوريا الأسد” منذ نصف قرن، ولم تتحطم حروفها سوى قبل أسبوعين.

قبل سنوات، في يومي الجامعيّ الأول، في كلية الاقتصاد، وبّخنا الدكتور (سيصبح بعد سنوات وزيراً) أنا وعشرات الطلاب الجدد، مع بداية محاضرته الأولى، لأن أي أحد منا لم يرفع يده، عندما فاجأنا بالسؤال: من منكم قرأ الدستور السوري؟ متسائلاً باستنكار شديدٍ بعدها: أي مواطنين سوف تكونون، بينما لم تقرؤوا دستور بلدكم!

اليوم بعد انتظار طويل، سقط نظام الأسد، ومن بين آلاف الأشياء التي سقطت معه، كان الدستور. الدستور الذي لم ينتفع السوريون منه، رغم أن رأس النظام لم يقرأه وحسب، بل وفصّله بنفسه، لكنّه لم يطبق أياً من مواده، لا خلال السنوات الدموية الماضية، ولا حتى خلال عقود حكم الأب. سوريا التي كانت تسير بدستورٍ أقل ما يمكن وصفه بأنه مجرد حبر على ورق. يجب ألا تتعجّل اليوم باعتماد دستور كيفما اتفق. بل دستور يقرّه السوريون ويكون لهم رأي فيه، وهذا يحتاج إلى نقاشات طويلة, وقد يكون من المناسب اليوم إقرار بعض المبادئ الدستورية المؤقته المُتوافق عليها، ريثما يتم إقرار الدستور المنشود بعد سنتين.

في لحظات الولادة الجديدة التي تعيشها سوريا، نحتاج أكثر من أي وقت آخر لتثبيت أمر احترام إرادة السوريين. عبر تعزيز فكرة بالغة الأهمية وهي أن هذه الإرادة لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال أصوات السوريين، وعبر انتخابات دورية، مع احترام التمثيل الذي ينتج عن صندوق الانتخابات، وبالتأكيد مع وجود دستور لا يغفل حقوق الذين لن يمكّنهم صندوق الاقتراع من إنتاج أكثرية قادرة للوصول إلى السلطة. إضافة لاحترام الحريات والحقوق الأساسية للأفراد والجماعات التي نصت عليها المواثيق الدولية. ومن دون ذلك، فلا شرعية لمن يمكن أن يدّعي أنه يمثل المصالح الوطنية العليا، أو حتى أنه يمتلك الحق الإلهي للحكم. حسناً، أنت تعطي لنفسك هذه المشروعية، ولكن على الناخبين أن يؤيدوها.

مئات الملفات الشائكة الآن بانتظارنا بعد سقوط النظام، اقتصادية واجتماعية وسياسية، ولكن أهمها اليوم ملف الأمن والسيطرة، بهدف عدم الذهاب بعيداً بأية حالات انفلات عنفيّة، قد تعمق الجرح السوري الدامي أصلاً، وبما يقنع جميع السوريين المجروحين بترك سلاحهم، فالعدالة لا الثأر والانتقام هي ما سوف تعيد لهم حقوقهم، ولو معنوياً على الأقل. عبر الاقتصاص من القتلة واللصوص، وترسيخ مبدأ أن لا أحد بمنأىً عن العدالة، وكل سوري مهما بلغ شأنه، سوف يكون تحت سقف القانون، ما يمهّد الطريق لتحويل أحلامنا عن سوريا إلى واقع.

على المدى الطويل يجب تفعيل آليات تجعل السوريين يتخلصون مع الوقت من كل رواسب النظام ومفاسده، بدءاً من أخلاقيات العمل، وصولاً إلى حس الانتماء الوطني الحقيقي، وإلى جعل مبدأ المساءلة جزءاً من ثقافة المجتمع. والمساءلة هنا لا تعني الشكل الاتهامي بقصد المحاسبة، وإنما بصفتها سلوكاً طبيعياً، يقدِّم فيه من هو في موقع المسؤولية بشكل شفاف المعلومات عن عمله وكيفية إدارته، مع شعور السوريين جميعاً أن هذا من حقهم، وهم ينتقلون من دولة المافيا والإقطاعة والمزرعة إلى دولة المؤسسات. كي لا نعود لمشاهدة الصور التي نشاهدها اليوم.

تدوالت مواقع إخبارية سورية قبل أيام، مقاطع مصورة لسوريين يجمعون مادة المازوت من الأرض، بواسطة قطع القماش والإسفنج، ويحاولون تجميعها في أوعية بلاستيكية. كان الخبر أن صهريجاً للوقود انقلب على مداخل دمشق. لم يخطر في ذهني، وأنا أشاهد تلك الصور المُحزنة، سوى أنني أرى كامل “سوريا الأسد”، وقد تركها المجرم بعد أن أوصلها إلى حال يتطابق تماماً مع ذاك الصهريج المحطم والمقلوب. وأن السوريين الذين تركهم المجرم للفقر وحتى للجوع، هم هؤلاء الذين يحاولون جمع بقايا ما سُفح من الوقود على الأرض، ليدفئوا به أولادهم، أو ربما ليبيعوه، فيطعمون أولئك الأبناء.

ومن بين كثير من الصور، تابعتُ الأمهات اللواتي يبحثن عن أبنائهن بدموعهن في سجن صيدنايا. ظهر مقطع مصور لامرأة عجوز كانت تأمل أن تجد أبناءها الأربعة في ذاك السجن الإجرامي، ولمّا خاب أملها، حملت عل كتفها واحداً من حبال المشانق التي خلّفها القتلة هناك، لتعود به مع صور الأبناء في يدها إلى البيت، بدلاً عن أبنائها الذين ابتلعتهم مع عشرات الآلاف، وحشية سجون الأسد. كانت تردّد “شايفين مشنقة السوريين؟ هاي مشنقة ولادنا”. هذه التراجيديا التي تضاهي أي خيال روائي أو سينمائي يمكن أن يخطر على البال، هي سوريا التي سيحاول السوريون اليوم إعادة بنائها وإخراجها من هذا القاع المريع.

بالعودة إلى الأستاذ الذي وبخني في يومي الجامعي الأول، فقد سرَت كثير من الأقاويل بعد أن أصبح وزيراً، بأنه كان فاسداً كمعظم وزراء الأسد. أما عني شخصياً، وبعد شعوري المؤقت بالخجل لتقصيري بمعرفة دستور بلادي، فإنّي تعافيت سريعاً، بعد أن قفز إلى ذهني السؤال الأهم: لماذا سأقرأ دستوراً لم يحترمه ولم ينفذ بنوده واضعوه؟

تلفزيون سوريا

——————————

عن العلمانية في سوريا ما بعد الديكتاتور/ عبدالوهاب عزاوي

25 كانون الأول 2024

أثار التجمّع الذي حصل في ساحة الأمويين في دمشق في ١٩ كانون الأول يناير ٢٠٢٤ والذي رفع شعارات مدنية وعلمانية جدلًا في الفضاء السوري العام. الطبيب والرسّام والشاعر، عبدالوهاب عزاوي، يقدّم نقده لبعض الأفكار التي تمّ التعبير عنها، وأيضًا رؤيته لواقع سوريا اليوم، وموقع العلمانية ضمن هذا الواقع.

حالة استقطاب شديد يعيشها المجتمع السوري حاليًا، بسبب الاختلاف حول شكل الدولة القادمة ما بين دولة إسلامية ودولة علمانية. شهدت الأيّام السابقة، بُعيد التجمّع المُطالب بالعلمانية في ساحة الأمويين في دمشق (19/ كانون الأول/ يناير ٢٠٢٤)، هجومًا شديدًا ضدّ العلمانية من قبل العديد من الأطياف. لم يأتي ذاك الهجوم من الإسلاميين فحسب، بل أيضًا من أشخاص محسوبين على المعارضة العلمانية، ربطوا بشكل غير مباشر بين العلمانية و”الفلول” والنظام السابق، وكأنّ هدف العلمانية شقّ الصف السوري وتخريب منجزات الثورة وصولاً إلى اعتبارها بابًا لعودة النظام السابق عبر المقارنة بما حصل في مصر، واستغلال الجيش المصري لحركة “تمرّد”، لبناء ديكتاتورية جديدة. المنتقدون/ات يتناسون ربما أنّ الإخوان في مصر ركبوا الثورة ولم يساهموا فيها، كما وصلوا السلطة عبر انتخابات وليس عبر السلاح، والجيش في مصر هو من قاد الانقلاب على السلطة المُنتخبة في حين إنّ الجيش السوري تمّ تدميره فِعلياً.

بالنسبة لي، هذه المقارنة عبثية ولا تملك أيّ مبرّرٍ فعلي. ولابُدّ من الإشارة هنا أنّ هناك طرفاً آخر أقل تهجّمًا يتحدث عن الإسلاموفوبيا والعلمانوفوبيا مقدّماً منطق تعالوا “نحبّ بعضنا البعض ونثق ببعضنا البعض”. حول هذا الخلاف أودّ مقاربة بعض النقاط الأساسية:

أولاً، من منا ضدّ أن نحبّ بعضنا؟، لكن الفكرة بغضّ النظر عن عاطفيتها تبقى سطحية فعلًا. فالحبّ، ورغم أهميته، لا يبني دساتيرًا ولا يصوغ قوانينًا. كما أنّ مساواة المتدينين مع العلمانيين غير منطقية، فهناك طرف كان جزءًا من تنظيم القاعدة، ويمتلك السلاح فيما الطرف الآخر أعزل. بالتأكيد، تُمتدح وتُشكر سلطة الإسلاميين الآن من ناحية الحفاظ على السلم الأهلي، السماح بحرية التعبير وإخلاء السجون في سوريا (ما عدا السجون في إدلب!). ولكن هذا لا يعني أنها ستصوغ القوانين مستقبلًا بصيغة تشاركية تضمن احترام كلّ المكونات والحريات في المجتمع السوري. ما يمكن اعتباره والأخذ به هو الأفعال فقط، وليس الأقوال أو الوعود.

ثانيًا، بالفعل كنّا أقلية، حتى يمكن وصف العلمانيين من قبيل المزاح ب”الطائفة” الأقل عددًا في سوريا، لكننا اليوم نتحدّث عن السوريين في الداخل والخارج، وفي ظلّ غياب مشروع وطني جامع يحدّد تعريف الناس لذواتها خارج الأقليات والانتماءات ما تحت الوطنية. ومع هذا التقسيم “المُسيء” لسوريا على أنّها سنة ومسيحيون وعلوية ودروز وإسماعيليون وأكراد ومرشدية، تغدو العلمانية اليوم أكثر أهمية لأنّها ترتبط بمفهوم المواطنة، وترتبط بالديمقراطية وبناها المؤسسية، وتتقل البشر إلى اعتبارهم مواطنين/ات متساويين/ات في الحقوق والواجبات وليس أقليات وأكثريات، دينية وقومية. ومن المهم فهم أنّ قسمًا من الأقليات الدينية متعاطف بشدّة مع الإسلاميين ومؤمن بأنهم سيكملون برنامجهم لبناء ديمقراطية ما في سوريا. ولكن هناك قسمًا من السنة أيضًا، في المدن الكبرى بشكل خاص، قلقون من تاريخ التطرْف الإسلامي أيضًا.

ثالثا، الشعب السوري عاش عقودًا تحت القمع والخوف، وهذه هي المرة الأولى التي يمتلك فيها الناس فعلًا إمكانية التعبير عن أفكارهم وهواجسهم دون خوف، وأخذ الاعتقال في الحسبان. وبالتأكيد، إنّ دعاة العلمانية ليسوا من مشربٍ واحد، فالعلمانية ليست حزبًا أصلًا، فهناك قوميون سوريون علمانيون وهناك أحزاب قومية علمانية وهناك أكراد علمانيون وهناك مسيحيون مثلاً يطالبون بالعلمانية خشية الدولة الإسلامية التي يكونون فيها مواطنين من الدرجة الثانية، وهناك بالتأكيد فئات لا تمتلك تصوّرًا واضحًا ولكنها تخشى من العنف الإسلامي. إذًا، المشاركون لا ينتمون لتيارٍ واحد ومطالبتهم بالتنظيم السريع تحمل نفس فوقية المثقفين التي مورست تماماً على الشعب السوري سابقًا. لا بُدّ من فهم أنّ المجتمع يحتاج وقتاً لهضم الأفكار وإعادة بلورتها، وأنّ الناس بحاجة لبعض الوقت للتعلّم، وذلك لا يعني أبدًا عدم نقد الحراك، كأن تتم أولاً المطالبة بالمحاسبة عبر المؤسسات القانونية لكلّ من تلطخت يداه بالدم بشكل مباشر أو غير مباشر، والـتأكيد على قيم الحرية والديمقراطية كبنيةٍ مؤسّسيّةٍ في وجه أيّة ديكاتورية سابقة أو لاحقة. بمعنى آخر هناك حراكًا مضطربًا في سوريا التي عاشت طويلًا في مستنقع القمع، المياه تتحرّك بقوّة في كلّ الاتجاهات، لكن لا توجد خبرات أو أحزاب أو مشاريع وطنية تضبط هذا الجريان. لذلك تمارس الناس ما عرفته سابقًا وهو المظاهرات التي كانت في دمشق تحديدًا مظاهرات طيّارة لا أكثر.

لا بُدّ من إدراك أنّ الضغط الواضح في المجتمع من طرف العلمانيين، والمقربين منهم، يشبه خطّ دفاع أو رقابة من الشعب على ممارساتِ الإسلاميين، وهذه الرقابة هي الضامن الثاني والأهم للحدِّ من إمكانية تسلّطهم على المجتمع، على اعتبار أنّ الضامن الأوّل هو للأسف القوى الخارجية الدولية مثل تركيا وأميركا. ولعلّ نتائج الثورة الإيرانية مازالت حاضرة بقوّةٍ في أذهان السوريين، لذلك تأتي التهم المُعدّة ضدّ العلمانيين واتهامهم بالعمالة للنظام الديكتاتوري سلوكًا ديكاتوريًا وقمعيًا. ويشبه اتهام الحراك بالعمالة وبأنّه غير وطني، لانضمام بعض المؤيدين لنظام الأسد إليه، باتهام نظام الأسد المتظاهرين بالعمالة، وتسميّتهم بالمندسين والمخربين أيّام الثورة السورية. إنه نفس المنطق الإلغائي القمعي. ولابُدّ من التأكيد على أنّ العلمانية في هذا السياق شرط لازم، لكنه غير كافٍ، لمنع حرب أهلية، وبناء ديمقراطية، فالحزب النازي في ألمانيا كان علمانيًا، لكنه أباد عشرات الملايين من البشر. العلمانية المُرتجاة هنا تتكامل مع الديمقراطية وحقوق الإنسان.

رابعاً، أتفهم، وبقوّة، ضرورة اقتراب مكوّنات المجتمع من بعضها وتقديم تنازلات، ضمنًا، من كلّ الأطراف، ومن الممكن استقدام كلمات (بلا معنى واضح) مثل “الدولة المدنية” والتوافق الصريح على تعريف واضح لها، وخلق نوع من التوافق المجتمعي حولها. هذا يجب أن يتم في هدوء ووضوح، وهو في مصلحة الجميع، بما فيهم الإسلاميون إن أرادوا أن يبقوا في الحكم وعدم خسارة التوافق الدولي على التصالح والتعامل معهم.

خامساً، مشكلتي مع المتدّينين (من كلِّ الأديان) أنّ الحوار الشخصي معهم معقد لأنّه ينطق بالمطلق. هذا لأنّ مرجعيته لا تقبل الخطأ وإلا انتفت صفة القدسيّة عن المطلق، وهذا ينطبق على موقف الأديان من المرأة وكفاءتها وضرورة ارتدائها الحجاب مثلًا. هذا لا يلغي ضرورة الحوار معهم بالمعنى السياسي على أساس تسويات وتوافقات تُتيح لسوريا الاستقرار، ولكن من المهم إيضاح أنّ المرجعية الدينية لا تَقدُر ولا تملك حقّ احتكار القرار باعتبارها المرجعية الوحيدة للمجتمع. وأقصى أملي أن تكون حقوق الإنسان مثلًا جزءًا مهمًا من أيّ دستور قادم، على الأقل نحن متساوون في الحقوق بحسب حقوق الإنسان باعتبارها حقوقًا مُكتسبة، ولا توجد منة لأيّ إنسان في منحها، بل ذلك واجب ينطبق علينا جميعاً. جميعنا يعلم أنّ الإسلاميين سيفوزون ربما بأيّ انتخابات قادمة، وعلينا جميعاً أن نقبل بما ستأتي به الانتخابات مع كامل الانتقاد لانتخاباتٍ تأتي على أساس طائفي، وليس على برامج سياسية واضحة لتحسين الاقتصاد والصحة والبنى التحتية مثلًا. لكن الحفاظ على الديمقراطية وعدم السماح بأسلمة القوانين والدستور هو الأولوية التي قد تُعطي فرصة لإزاحة الإسلاميين بشكلٍ سلمي في الانتخابات التي ستليها. وبالمناسبة، لو جاء الإسلاميون بحكومة تكنوقراط تنقذ البلد، لا بحكومة من طرفهم فقط، وسمحوا بدستور مرن يحافظ على حقوق الجميع وقبلوا بالحفاظ على الديمقراطية سيزول هذا التناقض الحاصل أصلًا وسيتلقون دعم غالبية المجتمع، ولن يجدوا نفس المعارضة التي نشهدها الآن.

حكاية ما انحكت

——————————

=====================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى