سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 27 كانون الأول 2024
لمتابعة التغطيات السابقة
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 26 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 25 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 23 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 22 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 21 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 20 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 19 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 18 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 17 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: المصاعب والتحديات، مقالات وتحليلات 16 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مهام اليوم التالي، مقالات وتحليلات 15 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 14 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: سقوط الديكتاتور الفار بشار الأسد مقالات وتحليلات
—————————————-
بدأ اليوم التالي: رؤية للمرحلة الانتقالية في سوريا الجديدة/ وائل السواح
تتباين المواقف إزاء المستقبل في سوريا، وتنقسم بين متفائل ومتشائم ومتشائل
2024-12-26
بينما يحتفل السوريون من مختلف الألوان والخلفيات والآراء بسقوط النظام الفاشي في دمشق وهروب رئيسه المذل، في زمن قياسي، تتباين المواقف إزاء المستقبل، وتنقسم بين متفائل ومتشائم ومتشائل (إذا ما جاز لنا أن نستعير عبارة إميل حبيبي). وثمة بيننا، نحن السوريين، من يدعم قائد هيئة تحرير الشام، الذي تقلّد مسؤولية الحكم في دمشق، تأييدا لا شيّة فيه ومن دون تحفظ. وبيننا من يدعم الرجل بقليل أو كثير من التحفظ. ثم بيننا من يرفضه جزئيا ومن يرفضه جملة وتفصيلا.
وهذا كلّه حسن فلا بأس في الخلاف والتباين. ما ليس حسنا هو الاكتفاء بالقول دون الفعل، من جانب شريحة كبيرة ممن يرفضون أحمد الشرع وصحبه (وما أبرؤ نفسي).
خير ما يمثلنا، نحن معشر السوريين من دعاة الدولة المدنية والعلمنة والديمقراطية وحقوق الإنسان عبارة “ظاهرة صوتية” التي اجترحها في السبعينات عبد الله القصيمي. اعتبر القصيمي أن الخطاب العربي ينوء تحت وطأة الشعارات والمفردات الرنانة التي تعبّر عن القوة والطموح، ولكنه يفتقر إلى الممارسات العملية أو القدرة على تحويل الأفكار إلى واقع. وبينما لم يكن القصيمي طبعا يخص المثقفين العلمانيين، ولكن هذا الوصف هو خير ما يميز العلمانيين.
لا يكفي أن نقول هذا خطأ، فالمهم أن نذكر الصواب، كما نراه. ولا يكفي التردد في سلوك سبيل معين، فالواجب طرح السبيل الآخر. العلمانيون السوريون، معظمهم، يكتفون بالانتقاد، دون أن يطرحوا بديلا أو سبيلا سوى السبيل المطروح أمامنا. وفي محاولة للخروج من هذه السلبية، سأحاول أن أستعيد هنا بعضا مما حاولت ثلة من العلمانيين السوريين بناءه ونشره في السنوات السابقة، وكنت شخصيا جزءا من هذا الجهد.
نافذة تاريخية
فتحَت التطورات غير المسبوقة الأخيرة في سوريا نافذة تاريخية لإعادة تشكيل مستقبل الأمة. وبصفتنا قادة في الشتات السوري، فإننا نحمل مسؤولية عميقة للدعوة إلى العدالة والديمقراطية والاستقرار في هذا المنعطف الحاسم. لا تمثل هذه اللحظة أهمية بالغة للسوريين فقط، بل تشكل أيضا نقطة تحول للمنطقة بأكملها. معا، يجب أن نستغل هذه الفرصة لبناء أساس لسوريا ديمقراطية وشاملة تضمن المساواة والحرية للجميع.
إن انهيار نظام الأسد نقطة تحول هائلة في تاريخ سوريا، ولعله – بالنسبة للسوريين من جميع الخلفيات، بمن في ذلك العديد ممن كانوا يدعمون النظام سابقا – يكون فرصة لتجاوز عقود من الاستبداد والقمع، ويتطلب منا ذلك أن نكرم تضحيات المقاتلين والمدنيين الذين قاوموا الطغيان ومهدوا الطريق لهذا الانتصار، لأن شجاعتهم هي التي وضعت الأساس لفصل جديد في تاريخنا المشترك.
لقد نصّب الحكم الجديد في دمشق حكومة انتقالية دون أن يستشير أحدا، ولا فائدة الآن في انتقاد هذه الخطوة، على الرغم من وجود أسباب كثيرة لنقدها. المهم بالمقابل التأكيد على وجوب تقيد الحكومة بصرامة بالفترة الوطنية المعطاة لها، وهي ثلاثة أشهر، لتجنب ترسيخ السلطة. وسيكون من المهم بعدها تشكيل إدارة تكنوقراطية يجب أن تشمل الجميع وتمثل التنوع الديني والإثني في سوريا، وتعطي الأولوية للكفاءة – لا الولاء – لمعالجة التحديات الملحة في الحوكمة. يجب أن يكون ذلك الخطوة الأولى من مشروع تطبيق قرار الأمم المتحدة رقم 2254، وهو الإطار الذي لا يزال حجر الزاوية في مسيرة الانتقال السياسي في سوريا، مع التأكيد على السيادة وسلامة الأراضي وعملية يقودها السوريون نحو السلام والديمقراطية.
في قلب هذا الانتقال، تكمن حماية الحريات الأساسية وترسيخ سيادة القانون. يجب ضمان حرية الاعتقاد والتعبير والصحافة، إلى جانب حقوق التجمع السلمي والتظاهر والإضراب. يجب السماح بنشاط المنظمات المدنية والسياسية دون قيود لتعزيز المشاركة الديمقراطية. سيوفر إطار قانوني يستند إلى إعلان دستوري انتقالي أساسا لمجتمع عادل ومنصف.
وفي الوقت نفسه، يشكل دور سلطات الأمر الواقع في دمشق تحديا معقدا، إذ لا تزال الحكومة المؤقتة ومَن وراءَها مدرجين على قوائم الإرهاب والعقوبات، على الرغم من وجود رغبة متزايدة لدى بعض الحكومات الغربية في مراجعة هذه التصنيفات. وبينما نعتقد أن رفع هذه العقوبات أمر أساسي وضروري، لا بدّ أن يترافق ذلك مرتبطا بإجراءات تظهر التزاما حقيقيا بالتشاركية والحوكمة الرشيدة وسيادة القانون.
دافع هذا المقال الدفاع عن رؤية لمستقبل سوريا تتمثل في الوحدة والمساواة والديمقراطية. يجب ضمان حقوق المواطنة الكاملة لجميع الأفراد المولودين من والدين سوريين، دون تمييز على أساس العرق أو الدين أو الجنس أو الجنسية أو اللغة. هذه الرؤية تفترض أن تنتقل الدولة إلى نظام ديمقراطي بالكامل، حيث تُنقل السلطة من خلال انتخابات حرة وسرية ومباشرة وفق مبدأ “مواطن واحد، صوت واحد.” يجب أن تتبنى الدولة التنوع كمصدر للقوة، مع البقاء محايدة في القضايا العرقية والدينية، لضمان أن تصبح سوريا وطنا لجميع مواطنيها. من خلال الالتزام ببناء دولة قوية ومستقلة وديمقراطية تتمسك بالحرية والعدالة والمساواة، يمكننا أيضا إنشاء دور إقليمي ودولي بناء لسوريا.
تحديات إنسانية
كان السقوط السريع لدمشق وفقدان نظام الأسد السيطرة على مدن رئيسية مثل حلب وحماة وحمص في غضون أقل من أسبوعين صدمة للسوريين والمجتمع الدولي على حد سواء. حدث هذا الانهيار دون تدخل كبير من روسيا أو إيران، مما يعكس مشاكل حقيقة كانت موجودة داخل معسكر النظام، ويؤكد ما كنا نعرفه من حجم الانهيار الاقتصادي والإرهاق المجتمعي ورفض النظام السابق في الانخراط في حلول سياسية. هذه اللحظة تؤكد الحاجة الملحة لاستراتيجية موحدة لمعالجة التحديات الإنسانية والاقتصادية المقبلة، بما في ذلك عودة اللاجئين، وحل قضية المفقودين، وإعادة بناء الاقتصاد السوري. يجب رفع العقوبات بمسؤولية، وربط ذلك بإصلاحات حقيقية ومساءلة، لضمان أن يعزز الانتقال الاستقرار بدلا من استمرار الضرر.
يجب أن تركز الترتيبات الانتقالية على الاستقرار والتشاركية، مما يخلق أساسا لإطار دستوري جديد. على الصعيدين الإقليمي والدولي، يعتبر استقرار سوريا أمرا ضروريا لتحقيق السلام ومنع المزيد من أزمات اللاجئين، ولذلك سيكون ضروريا العمل الجماعي من قبل الفاعلين الدوليين لدعم تعافي سوريا مع محاسبة منتهكي القانون الدولي.
إن انهيار نظام الأسد والفترة الانتقالية اللاحقة يمثلان فرصة لا تتكرر إلا مرة واحدة في كل جيل لسوريا. كأعضاء في هذا المجلس، لدينا التزام أخلاقي بالدعوة إلى نهج شامل ومبدئي يضمن العدالة والشمولية والاستقرار. أحثكم على الانضمام إليّ لتأييد هذا الموقف والعمل معا لتعزيز تأثيره بين شركائنا والمجتمع الدولي. معا، يمكننا المساعدة في تشكيل مستقبل أكثر إشراقا لسوريا.
اليوم التالي 2012 و2024
مرت اثنتا عشرة سنة منذ أن أطلقنا مشروع اليوم التالي، والذي كان سباقا ورائدا يومذاك، عندما كنا نعتقد أن سقوط النظام كانت مسألة أشهر أو أسابيع وكنا نسابق الزمن لوضع خطة انتقالية لسوريا الجديدة، فأطلقنا مشروع اليوم التالي في عام 2012 بهدف وضع تصور شامل وخطة استراتيجية للانتقال السياسي في سوريا من الحكم الاستبدادي إلى دولة ديمقراطية وشاملة للجميع، وقد جمع طيفا متنوعا من أصحاب المصلحة السوريين، بمن في ذلك قادة سياسيون وحقوقيون وناشطون وأكاديميون وأعضاء من المجتمع المدني، يمثلون مختلف شرائح المجتمع السوري. هدفَ المشروع إلى ضمان أن تكون الاستعدادات لمرحلة ما بعد الأسد شاملة وتعتمد على مبادئ العدالة والديمقراطية والاستقرار.
جاء إطلاق مشروع اليوم التالي استجابة لحاجة ملحة للتخطيط الاستراتيجي في ظل مرحلة بالغة التقلب، وكنا ندرك أن انهيار الأنظمة الاستبدادية غالبا ما يخلف فراغا في السلطة، يؤدي إلى حالة من عدم الاستقرار والصراع، كما حدث في أجزاء أخرى من المنطقة.
وقد ركز المشروع على تصميم إطار عمل يدعم الانتقال السلمي في سوريا، من خلال معالجة مجالات حيوية تشكل أساسا لمستقبل مستقر وديمقراطي، وهي:
– سيادة القانون: إنشاء إطار قانوني يضمن العدالة والمساواة والمساءلة.
– العدالة الانتقالية: معالجة مظالم الماضي وتعزيز المصالحة والتعافي المجتمعي.
– إصلاح قطاع الأمن: ضمان خضوع الجيش والشرطة للرقابة المدنية والالتزام بالمبادئ الديمقراطية.
– الإصلاح الانتخابي: تطوير آليات لإجراء انتخابات حرة ونزيهة تمثل جميع مكونات المجتمع.
– التصميم الدستوري: صياغة دستور يعكس التنوع السوري وتطلعات الشعب.
– السياسات الاقتصادية والاجتماعية: تعزيز جهود التعافي وإعادة الإعمار والتنمية العادلة.
وأسفر الجهد عن إعداد خارطة طريق شاملة بعنوان “اليوم التالي: دعم الانتقال الديمقراطي في سوريا.” وقد قدمت هذه الوثيقة استراتيجيات وتوصيات مفصلة تهدف إلى توجيه عملية الانتقال في سوريا، مع التركيز على مبادئ الشمولية واحترام حقوق الإنسان وتعزيز الحوكمة المستدامة.
واليوم، بعد أكثر من اثنتي عشر سنة عجاف، فقدَ اليوم التالي الكثير من راهنيته وتفصيلاته، ولكنه لا يزال معلما أساسيا ونقطة مرجعية أساسية في النقاشات حول مستقبل سوريا، يعكس المشروع أهمية التخطيط الاستباقي في ظروف النزاع وما بعد النزاع، كما يبرز دور السوريين في صياغة مستقبل بلادهم وبناء رؤية مشتركة قائمة على العدالة والديمقراطية والاستقرار.
اليوم التالي 2024
منذ سقوط النظام السابق، تسابق عدد من المجموعات السورية المدنية والعلمانية لإصدار مواقف سياسية. ولعل البيان الذي أصدرته أصدرت مجموعة السوريين الأمريكيين للميثاق الوطني في واشنطن يختصر أهم الرؤى المطروحة من هذه الزاوية. وأكدت المجموعة أن التغيير المطلوب لا يقتصر على الأشخاص أو الرموز، بل يجب أن يمتد إلى تغيير جذري في بنية الدولة السياسية والاجتماعية، وشددت على أهمية الوحدة الوطنية خلال هذه الفترة الانتقالية للدفاع عن حقوق الإنسان السوري وكرامته وضمان استقرار الوطن. واقترح.
وهنالك أيضا مجموعة القاهرة التي أصدرت نسخة محدثة من العهد الوطني الذي كان أطلقت نسخته الأول أيضا في عام 2012. في نسخته الحديثة يقدم العهد رؤية شاملة لمستقبل سوريا، ترتكز على قيم الحرية والعدالة والمساواة، وتعتبر الدولة كيانا تاريخيا يعكس الوعي الحضاري للشعب السوري، قائما على المواطنة المتساوية والشراكة الفاعلة بين جميع مكوناته. الدولة الديمقراطية المنشودة تعتمد على سيادة القانون، حيث تضمن حقوق المواطنة الكاملة دون تمييز، وتحمي الحريات الفردية والجماعية، بما في ذلك حرية التعبير والصحافة والتجمع السلمي، مع تمكين المجتمع المدني من تنظيم نفسه بحرية لتعزيز المشاركة الديمقراطية.
تسعى الدولة إلى إعادة بناء المؤسسات العسكرية والأمنية لتكون مستقلة عن التدخلات السياسية وتحت رقابة مدنية، وذلك بالتوازي مع عملية نزع السلاح تحت إشراف مجلس عسكري سوري يضم ممثلين عن مختلف الفصائل. كما تؤكد على أهمية وحدة الأراضي السورية وسيادة الشعب، مع الالتزام بالنضال المشروع لاستعادة الأراضي المحتلة والعمل مع المنظمات الدولية لضمان حماية السيادة والاستقرار الإقليمي.
يشدد العهد على المساواة في الحقوق بين جميع المواطنين، مع التركيز على المساواة المطلقة في الحقوق بين الرجال والنساء. كما يكرس العهد حماية الملكية الخاصة والعامة، ويؤسس لنظام اقتصادي عادل يعزز التنمية المستدامة، ويضع خطة شاملة لإعادة الإعمار، تشمل معالجة البطالة، ودعم عودة اللاجئين والنازحين بكرامة، ومكافحة الفساد من جذوره.
في المجال الدستوري، يضمن العهد الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، ويؤسس لنظام ديمقراطي يتيح انتخابات حرة ونزيهة، تعكس تمثيلا عادلا لكل أطياف الشعب. كما يضع إطارا قانونيا يحمي كرامة المواطنين وحقوقهم، ويصون التنوع الثقافي والديني كمصدر قوة للشعب السوري.
وأخيرا، تؤكد الدولة على دورها الفاعل في النظام الدولي كعضو مؤسس في الأمم المتحدة، ملتزمة بتعزيز السلام العالمي والعمل لتحقيق نظام دولي عادل قائم على التعاون وتبادل المصالح. تشدد هذه الرؤية على أن سوريا وطن لجميع أبنائها، بعيدا عن الطائفية أو الإقصاء، مع السعي لبناء دولة حديثة تكرم تطلعات شعبها وتضمن حقوقهم وحرياتهم.
أخيرا، يبقى هذا الكلام كلّه حبرا على ورق ما لم يقترن بالفعل السياسي والضغط على الأرض، والأجدى أن يتم ذلك على الأراضي السورية، وليس في المنفى.
———————————————-
تناقض ديمقراطي: ما ثقافة «الشعب المسلم»؟/ محمد سامي الكيال
تحديث 27 كانون الأول 2024
تحوي أغلب الدساتير العربية بنوداً، قد تكون محيّرة بعض الشيء لفقهاء القانون الجديين، تتراوح بين «الإسلام دين الدولة»، أو «دين رئيس الجمهورية»؛ وصولاً لاجتهادات مستحدثة، مثل الدولة «جزء من الأمة الإسلامية، وتعمل على تطبيق مقاصد الإسلام الحنيف»، كما في الحالة التونسية. وبالطبع، الفقه، أو الشريعة، مصدر أساسي للتشريع، أو مصدره الأساسي. كُتبت مئات الدراسات عن مثل هذه البنود، وكانت مثاراً لصراع سياسي وثقافي، لم ينقطع يوماً في أغلبية دول المنطقة، ولكن يبدو أن هناك مسألة يثق بها المشرّعون والحكّام بشدة، ولا ينكرها حتى معظم معارضيهم، وهي أن الشعب مسلم، وغالباً جزء من أمة هي «الإسلام»، ولكن ماذا يعني هذا حقاً؟
قد يكون المعنى أن هناك كتلة بشرية، هي الأغلبية المطلقة من السكّان، الإسلام أهم ما يعرّف ثقافتها، وبالتالي فعلى الدول أن تضع هذا بعين الاعتبار في دساتيرها، لتؤكد تلك الثقافة على مستوى السلطة التنفيذية (دين رئيس الدولة)، وكذلك على مستوى السلطتين التشريعية والقضائية (الفقه الإسلامي مصدر رئيسي للتشريع)، كذلك يجب على الدولة أن تعيد إنتاج «الإسلام»، عبر أغلب أجهزتها ومؤسساتها، بما في ذلك التعليم والإعلام والثقافة الجماهيرية، بدرجة تتراوح طبيعتها وشدتها بين بلد وآخر، وتتصارع حولها القوى السياسية، والسلطة والمعارضة. قد يكون هذا تعريفاً بسيطاً للإسلام السياسي، فقد تحوّل الدين الإسلامي، الذي يصعب تحديد ماهيته الدقيقة، أنثروبولوجياً وعقائدياً، إلى مُعرّف لمجموعة سياسية حديثة، هي «الشعب»، ومرشد لعمل أجهزه سلطوية مركزية، هي أجهزة الدولة القومية.
إلا أن التناقض في هذا المنظور، وربما في الإسلام السياسي كله، هو أن ذلك يعني «علمنة» الدين الإسلامي، أي جعله أيديولوجيا مرتبطة بالسيادة الحديثة، تُعنى بتحديد ما اهتم به المفكرون القوميون حول العالم، أي السيادة والشعب والأمة وهوية الدولة، ولا علاقة كبيرة له بالشؤون الفقهية والتعبديّة التقليدية؛ الأهم أنه يجعل «الشعب»، وليس الله أو الكنيسة أو الحاكم المتغلّب، صاحب السيادة نظرياً، ولكن بعد أن يؤكد أنه «شعب مسلم»، أو جزء من أمة إسلامية. ولكن، ماذا إذا لم يعد «الشعب» يرى نفسه «شعباً مسلماً»؟ هل هذا الخيار مطروح أصلاً؟
الإجابة غالباً «لا»، فالإسلام، بوصفه هويةً أو روحاً، أمر مترسخ وأبدي في «الشعب»، الذي لا يمكن أن يكون إلا مسلماً، حسب المنظور نفسه. أما خارج هذا المنظور، وبعيداً عن الأرواح، فـ»الشعب» لا خيار له سوى أن يكون مسلماً من الناحية السياسية، لأن هنالك مؤسسات دولة مركزية، تعلّمه، وتحاكمه، وتربيه، وتنظّم شؤونه الشخصية والحيوية، وتمنع ارتداده، بناء على النسخة التي اعتمدتها من «الإسلام».
مرة أخرى، قيام الدولة القومية الحديثة بإدارة الدين، بوصفه من شؤونها السيادية والسياسية؛ وتثبيت نسخة منه في مدوّنة قانونية موحّدة ومركزية، هو شكل من أشكال علمنة الإسلام.
أكثر من انتبه لكل هذه التناقضات هم منظرو الحركات الإسلامية الأكثر راديكالية، من سيد قطب، مروراً بالخميني، وصولاً إلى المنظّر «الإصلاحي» في نتظيم القاعدة مصطفى ست مريم (أبو مصعب السوري). فالحاكمية لله، وجعلها بيد «الشعب»، حتى لو كان مسلماً، هو نوع من الشرك. كيف تترك شؤون الشرع، والحكم به، بيد العامة؟ وما الذي يضمن أن يبقى «الشعب» مسلماً، أو حتى أن يكون إسلامه صحيحاً؟ ماذا إذا ابتعد عن الدين، لدرجة أن يطالب بتشريعات وسياسات تحوي بدعاً، أو حتى كفراً بواحاً؟
فلنسأل أسئلة الإسلاميين الراديكاليين نفسها، فهذا قد يعيننا على فهم كثير مما يحدث في بلداننا، خاصة بعد سيطرة التنظيمات الإسلامية على دمشق، وسعيها لإنتاج «نموذج»، قد يؤثر في المنطقة، وكل حركات الإسلام السياسي حول العالم.
المكوّن الأبرز
التركيز على أن الإسلام «المكوّن الثقافي الأبرز في حياة الأمة»، ليس مجرد مقولة إنشائية، بل هو طرح سياسي مركزي في أيديولوجيات معظم الحركات الإسلامية، بل حتى بعض حلفائها، ممن يسمّون أنفسهم «مدنيين»، أي تيارات يسارية وليبرالية، دخلت في تحالف أو توافق طويل، لا ينتهي، مع الإسلاميين. مشكلة هذه المقولة/الطرح أنه من الصعب استخلاص أي معنى منها، فمدى اتساع دلالة مفردات مثل «الإسلام» و»الأمة»، قد يعني أنه يمكن تمرير أي مشروع، أو ممارسة سياسية، بمجرد أن نلصق عليها مظهراً إسلامياً ما، فتصبح «مكوّناً أبرز».
المعنى الجدي الوحيد، ربما، هو محاولة إنتاج جماعة سياسية، تؤسس خطابها الأيديولوجي، وروايتها التاريخية، على أنها «المكوّن الأبرز»، أي تجعل نفسها الجماعة المهيمنة، عبر طرح نفسها ممثلاً لثقافة «الأمة». في المجتمعات متعددة الطوائف بالذات، يؤسس هذا لإنتاج الطائفة المسيطرة سياسياً، والتي لا تعترف أنها طائفة بين طوائف، بل «الأمة» بحد ذاتها. يؤدي ذلك أيضاً إلى نوع من التمثيل الهرمي، فـ»الإسلام»، وهو الأبرز في الأمة، تمثّله الطائفة الأكبر؛ والطائفة تمثلها قوة إسلام سياسي ما، تلطف هيمنتها بجمع «مدنيين» حولها. كل هذه آليات كلاسيكية لإنتاج «الأغلبية»، مارستها الحركات القومية في الغرب والشرق، منذ القرن التاسع عشر، وارتبطت بإجراءات كثيرة، من إعادة إنتاج لغة وتقليد وثقافة «الشعب»، لتتناسب مع «روح الأمة»، وصولاً لإقصاء أو عزل فئات معيّنة، لعدم اتفاقها مع هوية الأغلبية. وفي الحالات الأكثر تطرفاً، إلغاء «الأقليات» الناتجة عن صناعة «الأغلبية»، ثقافياً، أو حتى ديمغرافياً.
في حالة الحركات الإسلامية فإن إعادة إنتاج «ثقافة الأمة» لا يمكن أن تمرّ إلا عبر الأسلمة، أي صياغة القوانين، التي من المفترض أنها إسلامية، وتسييد الرموز والمظاهر الإسلامية على الحيز العام. إذا سألنا: ما الإسلام الذي يتحدث عنه كل هؤلاء الإسلاميين؟ فربما الإجابة الأدق: إنه نتاج سياستهم الخاصة في الأسلمة، سواء بواسطة المؤسسات التي تملكها قواهم السياسية، أو عبر جهاز الدولة، في حال وصلوا إلى الحكم. وهذا يعني أن الأسلمة تحدد «الإسلام»، وليس العكس.
سبق لأحمد الشرع، قائد «هيئة تحرير الشام»، الحديث عن رغبته بـ»كيان سني»، عندما كان حكمه مقتصراً على أجزاء من محافظة إدلب، إلا أنه صار الآن مسيطراً على ثلثي الأراضي السورية على الأقل، وهي مساحة مليئة بالطوائف والإثنيات، ولذلك فإنه ليس مضطراً لذلك الكيان بعد اليوم، فقد بات بإمكانه أن يصبح «المكوّن الأبرز»، أي صاحب الدولة، القادرة على الأسلمة، وإنتاج الجماعة السياسية المتغلّبة؛ ومؤسِّساً لـ»نظام أقليات» في ذمته. ولكن هل يمكن للشرع، حتى لو حقق كل هذا، تجاوز تناقض «الشعب المسلم»؟
الحوكمة والسيادة
لم يهتم تنظيم «القاعدة»، في جيله الأول، بإنتاج أي «شعب»، أو جماعة سياسة شعبية، كان جهاده معولماً، عابراً لكل الحدود، ويلاحق العولمة الأمريكية من بلد إلى بلد، كشبح أو مسخ، ناتج عن تلك العولمة نفسها. تكفيه مجموعة من الجهاديين والاستشهاديين، لنصرة أمة غير متعيّنة، تمتدّ بلا حدود. إلا أن تجارب «القاعدة»، من الشيشان حتى العراق وسوريا، طوّرت من فكرها تدريجياً: هنالك مجتمعات، لا بد من التعامل معها، ولكل منها ظروف مختلفة جداً، وبالتالي فعلى جماعة المجاهدين، إما أن تقمع تلك المجتمعات، وهي تقاتل عدوها في الوقت نفسه؛ أو أن تجد طريقة للتفاعل معها، دون أن يحرفها ذلك عن الهدف الجهادي الأسمى.
هنا يقدّم مصطفى ست مريم اقتراحاً مهماً: يجب أن يكون المجاهدون محليين أكثر، متفهمين لأوضاع مجتمعاتهم، لا مقاتلين أممين يفرضون أنفسهم عليها. يجب بالأحرى مراعاتها، ولكن دون الاندماج بها تماماً، أو الخضوع لسيادتها. والحل هو مأسسة العمل الجهادي داخل المجتمعات المحلية، وصولاً لتحقيق أهداف سياسية وحربية معيّنة. لا سيادة شعبية هنا، ولا تحكيم للعامة في شؤون الشريعة والجهاد، وإنما إنتاج مؤسسات قادرة على تجذير العمل الجهادي في بيئات متعددة، عبر استيعاب الناس، وإعادة تربيتهم على الإسلام الحقيقي. يبدو أحمد الشرع تلميذاً نجيباً لست مريم، فهو لم يذكر مفردة «ديمقراطية»، أي سيادة العامة، أي مرة، بل تحدث كثيراً عن «إعادة بناء المؤسسات»، ربما لأن «الشعب المسلم» قد لا يجد نفسه في «ثقافة الأمة» التي يعتقد بها الشرع، ويراها «المكوّن الأبرز». رغم هذا فإن قائد «هيئة تحرير الشام» يتعرّض لضغوط من حلفائه والمجتمع الدولي، ويحتاج إلى اكتساب نوع من الشرعية المعلمنة، ولن يستطيع التهرّب من الحديث عن انتخابات، ودستور، و»توافق السوريين»، ما سيجعله، مرة أخرى، تحت ضغط تناقض «الشعب المسلم»، الذي قد لا يكون مسلماً للدرجة التي يتمناها.
تصعب معرفة الطريقة، التي سيتعامل بها المسيطر الجديد على دمشق مع ذلك التناقض، هنالك عدة احتمالات، من بينها أن يسعى لانتخابات أقرب للمبايعة، باعتباره «المحرر»؛ ويعمل على إقامة «نظام حماية أقليات»، حسب تعبير وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، في المؤتمر الصحافي الذي عقده مؤخراً مع الشرع. ومزيج المبايعة ونظام حماية الأقليات، لا يبدو غريباً عن سوريا، فهو كان أساسياً في نظام الأسد الأب، أما «الحوكمة» فكانت من اختصاص الأسد الابن، في أول سنوات حكمه. هنالك احتمالات أسوأ أو أفضل بالتأكيد، ولكن تناقض «الشعب المسلم»، الذي كان «شعباً عربياً»، دولته مسلمة، في زمن البعث، قد لا ينتج أكثر من هذا.
ربما يحلم الشرع بحل التناقض نهائياً، على طريقة بعض أبناء جيله من الإسلاميين الراديكاليين، أي «الحوكمة» الإسلامية بديلاً تاماً عن السيادة الشعبية، ويسعى جديّاً لذلك؛ وربما ينهار حكمه، وينحل إلى حروب ميليشياوية لا تنتهي. في كل الأحوال فإن نموذج الشعب الواحد، المكوّن من «أغلبية» تعتبر ثقافتها «المكوّن الأبرز في الأمة»، لدرجة الحد من أبسط أساسيات حرية المعتقد والتعبير والعمل السياسي، لا يعد بكثير من التغيير. ومن البعث إلى «القاعدة»، بكل مسيرات «التطوير والتحديث» التي عرفاها، ما زلنا في المأزق نفسه. وربما كان لا بد من كسر هذه الدائرة المفرغة: إما إلغاء مفهوم «الشعب» وسيادته، على طريقة الإسلاميين الأكثر راديكالية؛ أو تجاوز الإسلام السياسي نفسه، أي مفهوم الدولة ذات الروح والدين.
كاتب سوري
القدس العربي
——————————–
مشروع خطة العبور إلى الدولة المرحلة الانتقالية في سورية الجديدة/ محمد صبرا
2024.12.27
كان يوم 8/كانون الأول، يوما مفصلياً في حياة السوريين، فهذا اليوم لم يشهد سقوط نظام التوحش والقتل والاستبداد الذي دام لطيلة خمسة عقود ونيّف، بل إنه يمثل الفرصة التاريخية الثانية التي تتاح للسوريين بعد مرور قرن من الزمن، لبناء دولتهم وإعادة إنتاج اجتماعهم السياسي، ومن هنا فإن المرحلة الانتقالية، يجب أن تكون مدروسة بعناية كبيرة، لأن ضياع هذه الفرصة، يعني التفريط بمائة عام من المعاناة والنضال والإخفاقات والنجاحات، فضلا عن التفريط بكل التضحيات التي قدمها السوريون منذ اندلاع ثورة الحرية والكرامة في عام 2011.
وهذا المشروع الذي أقدمه للسوريين بكافة مشاربهم، هو رؤية شخصية محكومة بالتجربة السياسية التي خضتها منذ التسعينات في القرن الماضي، وعلى وجه الخصوص تلك التجربة التي بدأت في عام 2011، والتي أدت لتغيير في كثر من المفاهيم التي كنت أتبناها، ولذلك كأي نص فإنه يحتمل الخطأ والصواب ، وأتمنى أن يكون مادة للنقاش بين السوريين ممن يمتلكون رؤية مختلفة حول طريقة إدارة العملية الانتقالية، فكل منا مقاربته الخاصة للحدث السوري، وتحليله للسياق التاريخي الذي مرت به سورية منذ ولادتها، ولأسلوب العبور إلى المستقبل.
الأسباب الموجبة
يعتز السوريون بتاريخهم ويتحدثون بكثرة عن وطن الأوليات، فوطنهم احتضن أول مستوطنة زراعية، وأول أبجدية مكتوبة، وأول تدوين موسيقي معروف، وأول مكتبة مؤرشفة، وعاصمتهم أقدم عاصمة ما تزال مأهولة، ورغم ذلك كله فإن الجميع يغمض عينيه عن حقيقة أن الاجتماع السياسي السوري حديث النشأة، وأن تاريخ الكيانية السورية، لا يكاد يتجاوز عمره مائة عام، فسورية التي نتحدث عنها جميعاً، ونتغنى بأمجادها هي فضاء حضاري وإنساني وثقافي أكثر منه جغرافية ثابتة، ولذلك فشلت الكيانية السورية بإنتاج اقتصاد سياسي موحد، أو هوية وطنية متعينة في الواقع ومتمحورة على الذات، حيث بقيت أغلب مناطق سورية تعيش ضمن مناخات تستطيل إلى خارج الحدود الوطنية، فحلب ترتبط ارتباطا كبيرا بسهل الأناضول وعيونها تتطلع دوما نحو شرقها الذي تراه يمتد إلى الموصل، بينما دمشق تلتفت غربا باتجاه بيروت وجنوبا باتجاه الحجاز، وكذا مناطق الجزيرة السورية وامتداداتها سواء في الشرق أو في الشمال.
وقد نتفق جميعنا على تحديد أطر هويتنا بالقول إننا “سوريون” لكننا نكاد لا نتفق على تحديد ماهي الـ” سورية” التي نريدها، وما هي حدودها الجغرافية والبشرية وأسس هويتها الجامعة، فسورية في العقل الجمعي السوري هي تلك المنطقة الممتدة من جبال طوروس شمالا وحتى سيناء جنوبا، بين هذين الثابتين الجغرافيين احتار السوريون في تعريف وطنهم الذي بقي طموحا يسعون إليه أكثر من كونه حالة ثابتة ومستقرة يعيشون فيها وينتجون سلم قيمهم وعوامل اجتماعهم السياسي.
وأسهمت التيارات الفكرية والسياسية التي سادت في سورية خلال القرن العشرين في تغذية قلق الجغرافيا والهوية عند السوريين، وتكاد تُجمع التيارات الرئيسية الأربعة أي القومي العربي والقومي السوري والتيار اليساري والإسلامي على شيء واحد فقط، وهو أن الوطن السوري الحالي -أي سورية في حدودها الانتدابية- هي وطن مرذول نشأ عن مؤامرة استعمارية فرنسية بريطانية “سايكس بيكو” – وهذا ما يتعلمه السوريون في مدارسهم- وأن حركة السوريين ونضالهم يجب أن تنصب على السعي لتجاوز هذا الكيان السوري المرذول باتجاه المشروع الأسمى، بالنسبة للقوميين العرب الدولة العربية الواحدة، وبالنسبة للقوميين السوريين سورية الطبيعية مضافا إليها قبرص وفي أحيان العراق والكويت، وبالنسبة للإسلاميين استعادة الدولة الإسلامية العصية على التحديد الجغرافي والمرتكزة على تعريف متعالي لهوية مفترضة مفارقة للزمان والمكان.
كل هذه المشاريع أو الطموحات متعالية على الوطن السوري الذي يعيش السوريون فيه، بل إن الدساتير السورية المتعاقبة منذ صعود حزب البعث إلى السلطة، وحتى دستور بشار الأسد عام 2012، لا تعترف بوجود شعب سوري، بل تكتفي بإشارة عابرة للشعب العربي في سورية، أي الشعب العربي الذي يقطن في تلك البقعة الجغرافية المسماة سورية، وبهذا تصدر الأحكام القضائية معنونة “باسم الشعب العربي في سورية”، وهذه مفارقة عجيبة فالدستور الذي يفترض أنه التجلي القانوني للعقد الاجتماعي الأسمى بين السوريين لا يعترف أصلا بسوريتهم، أو بأن وطنهم وطن نهائي وثابت.
ولو تجاوزنا لحظة التأسيس للكيانية السورية الحديثة بين عامي 1918-1920 والتي تُوجت بإعلان الاستقلال السوري في 8 آذار عام 1920 من قبل المؤتمر السوري العام وإعلان المملكة السورية بحدودها الممتدة التي تشمل كل أجزاء سورية الطبيعية “سورية الحالية إضافة للبنان والأردن وفلسطين”، فإن النخبة السياسية والفكرية السورية، لم تنتج أي نتاج نظري يؤسس للحظة اجتماع سياسي سوري على وطن متفق عليه ومحدد المعالم، وربما ترك انهيار مشروع المملكة السورية بسبب عامل التدخل الخارجي والرفض الفرنسي والبريطاني له، أثره في الذات السورية التي بقيت رهينة اللحظة التاريخية، تدور في إطار توصيف “المؤامرة على الوطن المُشتهى” وكيفية استعادة الحلم المفقود، حتى أن السؤال الأكثر إلحاحا على العقل السياسي السوري والذي ما زال يشغل حيزا كبيرا من النقاش العمومي كان سؤال ” كيف نتحرر” في تغييب كامل لسؤال “كيف نتقدم وكيف نبني وطنا نعيش فيه كأمة”، ورغم مرور مائة عام أو يزيد عن هذه اللحظة، ما نزال واقفين عند سؤال التحرر من دون أن نتجاوزه إلى سؤال الحرية، والفارق شاسع بين التحرر الذي يعني التخلص من قوى الكبح، سواء كانت محلية “الاستبداد” أو خارجية “الهيمنة أو الاستعمار”، وبين الحرية التي تعني قدرة الأفراد على التعاقد السياسي الحر لإنتاج منظومة اجتماعهم السياسي، وفق ما يرون أنه يمثل مصلحتهم العليا، ويضمن لهم تحقيق شرطهم الإنساني الذي يريدونه.
ضمن السياق التاريخي السابق جاءت الثورة السورية كانتقال كبير ونوعي في نسق التفكير السوري، حيث إنها شكلت أول فعل اجتماعي عام يتمحور حول سؤال التحرر والحرية معا، فهي من جهة حركة تمرد اجتماعي واسعة النطاق تريد أن تتحرر من نظام استبدادي انتهك حقوق الأفراد واحتل الدولة وتغوّل على المجتمع، وفكك بنيته التقليدية من دون الانتقال إلى بنية حداثية، ومن جهة أخرى هي ثورة تريد أن تعيد إنتاج الاجتماع السياسي السوري على أسس الحرية بمعناها الفردي والجمعي “حرية الفرد والأمة معا”.
من هنا نفرق بين التمرد الاجتماعي الذي يهدف للتحرر من الاستبداد وبين الثورة التي تهدف لإعادة بناء الاجتماع السياسي بكامله على أسس جديدة تضمن الحرية بمعنييها الضيق ” السياسي والقانوني” والأشمل ” الاجتماعي الثقافي والعقدي”.
مراحل العبور إلى الدولة
نتيجة الظروف التي أحاطت بسقوط نظام التوحش في سورية، وبمجمل التعقيدات السياسية والاجتماعية التي يمر بها الوطن السوري، فإن مرحلة العبور إل الدولة تنقسم إلى ثلاث مراحل:
1. المرحلة التحضيرية:
وهي المرحلة الحالية، والتي بدأت في 8/12/ 2024، وتنتهي حكماً في 1/3/ 2025.
2. المرحلة الانتقالية:
وهي المرحلة التي تبدأ في 2/3/2025، وتستمر حتى 3/3/2028، وهي مقسمة لثلاثة أقسام كما سيأتي لاحقاً.
3. المرحلة الدائمة:
وهي المرحلة التي تبدأ في 3/3/2028، بعد وضع الدستور الدائم للدولة السورية، وبعد انتخاب مؤسسات الحكم، سواء المحلية أو الوطنية، بكل مراتبها.
أولاً: المرحلة التحضيرية
الإطار الزمني:
تبدأ هذه المرحلة منذ 8/12/2024، وتنتهي في 1/ 3/2025.
أهداف المرحلة التحضيرية:
1. ضبط الاستقرار الأمني ومنع الانزلاق إلى الفوضى.
2. البدء بعملية جمع السلاح.
3. ضمان عمل استمرار المؤسسات العامة، وتقديم الخدمات للمواطنين.
4. الحفاظ على الوثائق والأدلة المتعلقة بنظام التوحش الساقط، والتحفظ على المشتبه بارتكابهم جرائم ومنع إفلاتهم من العقاب.
5. الحفاظ على الملكيات الخاصة والعامة، وحماية السجلات والوثائق المثبتة لذلك.
6. ضمان البيئة الآمنة التي تتيح للسوريين التنقل والتعبير عن آرائهم، وتوفير متطلبات إدارة المرحلة الانتقالية.
7. الإعداد لإطار قانوني ناظم للمرحلة الانتقالية.
8. وضع أسس ومعايير مؤتمر الحوار الوطني.
الإطار القانوني للمرحلة التحضيرية:
بسبب طبيعة المرحلة التحضيرية فإن قرارات إدارة العمليات العسكرية ستشكل المرجع القانوني الناظم لهذه المرحلة، شريطة ألا تؤسس هذه القرارات لأوضاع دائمة لا يمكن الرجوع عنها، وألا تعيق هذه القرارات سلاسة الانتقال إلى المرحلة الانتقالية.
الجهة التي تدير هذه المرحلة:
إن طبيعة الأهداف التي يجب تحقيقها خلال المرحلة التحضيرية، تجعل من الأنسب أن تتولى إدارة هذه المرحلة إدارة العمليات العسكرية والحكومة التي شكلتها، لأن أي مشاركة سياسية في الوقت الراهن قد تؤدي لسلبيات كثيرة، ربما تكون أكبر من الإيجابيات التي نتوخاها من وراء المطالبة بضرورة المشاركة السياسية وعدم الانفراد في السلطة.
ثانياً: المرحلة الانتقالية
الإطار الزمني:
تبدأ هذه المرحلة في 2/3/2025، وتنتهي في 3/3/2028، وهي بمجملها 36 شهراً، مقسمة لثلاثة أقسام هي:
1. القسم الأول من المرحلة الانتقالية:
مدته 12 شهراً تبدأ في 2/3/2025، وتنتهي في 3/3/2026.
2. القسم الثاني من المرحلة الانتقالية:
مدته 12 شهراً تبدأ في 3/3/2026، وتنتهي في 3/3/2027.
3. القسم الثالث من المرحلة الانتقالية:
مدته 12 شهراً، تبدأ في 3/3/2027، وتنتهي في 3/3/2028.
الأهداف العامة للمرحلة الانتقالية:
1. توفير الأمن واستكمال سحب السلاح وحصره بيد السلطة.
2. حل جميع الفصائل العسكرية والميليشيات المسلحة.
3. بناء المؤسسة الأمنية وفق المرجع القانوني الذي سيتم الإعلان عنه في بداية المرحلة الانتقالية.
4. إعادة تشغيل عجلة الاقتصاد السوري.
5. توفير الشروط اللازمة لعودة اللاجئين السوريين في دول الجوار، وتسهيل عملية عودة النازحين السوريين إلى أماكن سكناهم الطبيعية.
6. الدعوة لعقد مؤتمر الحوار الوطني وتوفير الشروط اللازمة لنجاحه.
7. التحضير لانتخاب الهيئة التأسيسية التي ستضع دستور البلاد، وذلك بناء على مخرجات مؤتمر الحوار الوطني.
8. إجراء انتخابات الهيئة التأسيسية التي ستضع دستور البلاد في الأشهر الستة الأولى من القسم الثالث من المرحلة الانتقالية، أي بين 3/3/2027 إلى 2/3/2027، وعرض هذا الدستور للاستفتاء العام.
9. التحضير للانتخابات البلدية والتشريعية وانتخابات السلطة التنفيذية، وفق الدستور الدائم للبلاد، والتي يفترض أن تتم في الأشهر الستة الأخيرة من المرحلة الانتقالية أي بين 1/9/2027، وحتى 2/3/2028.
الإطار القانوني للمرحلة الانتقالية:
إن كفاءة أي نص قانوني تتجلي في قدرته على معالجة الحاجات الحقيقية، والتغلب على المصاعب التي يمر بها الوطن خلال الفترة الانتقالية، ولأن القانون غائي بطبيعته، أي أنه يأتي لتحقيق أهداف محددة، فإنه من الضروري أن يكون كل تركيزنا على القانون الملائم لحكم هذه المرحلة، ولذلك أقترح أحد سبيلين:
1. إصدار إعلان دستوري مؤقت في 1/3/2025، وهذا الإعلان يجب أن يكون إجرائياً، ومقتضباً ويحكم مجالين فقط، هما مجال السيادة الشعبية والحريات، وهو المجال المتعلق بضوابط عمل السلطة الانتقالية، وصلاحياتها وحدود ممارستها لهذه السلطة، ومسؤوليتها عن تبعات ممارستها لهذه السلطة، إضافة للحريات والضمانات اللازمة للمواطنين في الاجتماع والتعبير عن الرأي والعقيدة في ظروف يكفلها القانون، والمجال الثاني هو مجال حفظ الحقوق الخاصة سواء حقوق الملكية أو الشخصية، وحقوق المتضررين من جرائم نظام التوحش الساقط، وضمانات التقاضي، واستقلال القضاء، وحقوق وضمانات المتقاضين.
ولذلك يجب أن يخلو الإعلان الدستوري من أي نص يتحدث عن طبيعة الدولة أو مرجعيتها أو شكل نظام الحكم، لأن هذه القضايا من اختصاص الدستور الدائم الذي ستضعه هيئة تأسيسية منتخبة، بناء على مخرجات الحوار الوطني.
2. اعتماد دستور عام 2012 بعد تعديل بعض فصوله ولا سيما المتعلقة بآليات عمل السلطة التنفيذية والتشريعية، وذلك بشكل مؤقت للسماح بانسيابية عمل مؤسسات الدولة الإدارية والخدمية، وفي نفس الوقت الحفاظ على الهيكل الإداري للدولة ومنع التناقض بين هذا الهيكل وبين القرارات التي يمكن أن تصدر في المرحلة الانتقالية.
أهداف أقسام المرحلة الانتقالية:
القسم الأول من المرحلة الانتقالية:
ومدتها 12 شهراً، وخلال هذه المدة يجب إنجاز الأهداف التالية:
1. إنجاز جمع السلاح وحل جميع الفصائل العسكرية والميليشيات المسلحة.
2. تشكيل المؤسسة الأمنية، وتفعيل دورها في حماية السلم الأهلي.
3. الدعوة لعقد مؤتمر الحوار الوطني، والذي يجب أن يناقش المواضيع التالية:
· مسار العدالة في سورية لمحاسبة المجرمين عن كل الجرائم المرتكبة منذ 15/3/2011، وحتى الآن، وتحديد المعايير اللازمة لذلك وهل سيتم الاعتماد على نظام العدالة الناجزة أي محاسبة كل المجرمين مهما بلغ عدده، أم اعتماد مبدأ العدالة الانتقالية، والاكتفاء بمحاسبة كبار المجرمين واتخاذ إجراءات أخرى تكميلية مثل جبر الضرر والمصارحة والحقيقة وتخليد الذكرى وسواها من إجراءات في نظام العدالة الانتقالية.
· معايير النظام الانتخابي الذي يجب اتباعه في سورية، والاختيار بين نظام الدائرة الصغرى، أو الدائرة المتوسطة على مستوى المحافظة، أو نظام القائمة النسبية وتكون سورية بكاملها دائرة انتخابية واحدة، أو النظام الانتخابي المختلط الذي يجمع بين عدة أنظمة انتخابية.
· العقد الاجتماعي المؤسس بين السوريين، وطبيعة الاجتماع السياسي السوري.
· التحضير لانتخابات الهيئة التأسيسية التي ستضع دستور البلاد الدائم، ووضع معايير النظام الانتخابي، وتقسيم الدوائر الانتخابية لانتخاب أعضاء الهيئة التأسيسية، وعددهم.
· وضع الحلول لمشاركة السوريين جميعا في انتخابات الهيئة التأسيسية سواء الذين خارج البلاد، أو الذي يقيمون في أماكن خارج مناطق سكناهم الطبيعية.
· مناقشة المشاركة السياسية في السلطة الانتقالية، ووضع أسسها وإطارها العام.
· يبقى مؤتمر الحوار الوطني في حالة انعقاد دائم، ويكون بمثابة هيئة استشارية للسلطة الانتقالية.
الجهة التي تتولى إدارة القسم الأول من المرحلة الانتقالية:
في هذه المرحلة والتي تبدأ في 2/3/2025 وتنتهي في 3/3/2026، تتولى هذه المرحلة حكومة انتقالية يتم تشكيلها بإشراف إدارة العمليات العسكرية، بحيث تؤسس فريق عمل يستطيع تنفيذ أهداف هذا القسم من خلاله، وقد يكون من المفيد ضم بعض التكنوقراط لهذه الحكومة الانتقالية للاستفادة من خبراتهم.
القسم الثاني من المرحلة الانتقالية:
مدة هذه المرحلة 12 شهراً تبدأ في 3/3/2026 وتنتهي في 3/3/2027، وفي هذه المرحلة يجب إنجاز الأهداف التالية:
1. توسيع المشاركة في الحكومة الانتقالية، وفق مخرجات مؤتمر الحوار الوطني.
2. ضمان البدء بمسار العدالة والمحاسبة عن الجرائم المقترفة منذ آذار 2011، وذلك وفق مخرجات مؤتمر الحوار الوطني.
3. البدء بعملية إعادة الإعمار، وتشغيل عجلة الاقتصاد السوري.
4. البدء بعملية بناء الجيش الوطني وفق الأسس التي يتم الاتفاق عليها في مؤتمر الحوار الوطني.
الجهة التي تدير هذه المرحلة وضوابط عملها:
ستكون الحكومة الانتقالية بعد توسيع المشاركة السياسية فيها هي الجهة التي تتولى إدارة هذه المرحلة، ويتحول خلالها مؤتمر الحوار الوطني إلى هيئة تشريعية مؤقتة لإصدار القوانين والصكوك القانونية المؤقتة اللازمة لإدارة المرحلة الانتقالية، وعلى وجه الخصوص العملية الانتخابية للهيئة التأسيسية التي ستضع الدستور الدائم للبلاد.
لا يمكن لمؤتمر الحوار الوطني بعد تحوله لهيئة تشريعية مؤقتة، إصدار قوانين تمس شكل الدولة أو شكل نظام الحكم فيها في المرحلة الدائمة، كما يمنع عليه المصادقة على أي اتفاق أو معاهدة دولية ترتب على الدولة السورية أي التزامات مالية أو قانونية تتعلق بالحدود أو الإقليم أو الإعفاء من الديون أو التفريط بأي حق للدولة السورية، كما يمنع على الهيئة التشريعية المؤقتة وعلى سلطات المرحلة الانتقالية إصدار أي قوانين عفو عام عن الجرائم المرتكبة منذ عام 2011 وحتى الآن.
القسم الثالث من المرحلة الانتقالية
مدة هذا القسم 12 شهراً، تبدأ في 3/3/2027، وتنتهي في 3/3/2028.
وفي هذا القسم يجب إنجاز الأهداف التالية:
1. استكمال مسار العدالة.
2. استكمال مسار عودة اللاجئين السوريين في الخارج، وعودة النازحين السوريين إلى أماكن سكناهم الطبيعية.
3. تنظيم السجلات المدنية اللازمة، للقيام بالعملية الانتخابية.
4. الإشراف على انتخابات الهيئة التأسيسية وفق مخرجات مؤتمر الحوار الوطني، ويمكن الاستفادة من مساعدة الأمم المتحدة لتقديم العون اللوجستي اللازم لإنجاز هذه المرحلة.
5. بعد وضع الدستور الدائم للبلاد، تنظيم الانتخابات البلدية والتشريعية وانتخابات السلطة التنفيذية، وفق الدستور الدائم للبلاد.
6. تنتهي هذه المرحلة في يوم 3/3/2028، وذلك بتسليم السلطة للهيئات المنتخبة، حيث يتم الإعلان عن دخول سورية عهد الاستقرار السياسي الدائم.
المرحلة الدائمة
وهي التي تبدأ في 3/3/2028 بعد انتخاب جميع الهيئات البلدية والتشريعية والسلطات التنفيذية في البلاد، وفق الدستور الدائم الذي تم إقراره.
———————————-
واقع السوريات في ظل تحول أبو محمد الجولاني إلى أحمد الشرع!/ ميسا صالح
27.12.2024
إذا كانت سوريا اليوم أمام فرصة تاريخية للتعافي وتحقيق العدالة في كل ما حدث خلال السنوات القاسية والمتوحشة الماضية، فعليها ألا تجعل من تجربة انتهاك أجساد النساء السوريات وتجريدهن من حريتهن وكرامتهن وحقوقهن، حدثاً تفصيلياً يمكن تجاوزه، وجسراً يتمختر عليه “أبو محمد الجولاني”
عشتُ صراعاً داخلياً عميقاً قبل كتابة هذا المقال.
جزء مني كان مغموراً بالشعور الجمعي بالفرح والانعتاق والخلاص من عائلة الأسد ونظامها المتوحش، والفرصة التاريخية التي فُتحت أمام السوريات والسوريين لمحو الأبد والاستبداد، وجزء آخر واعياً لكف العفريت الذي وُضعت عليه سوريا اليوم، وجزء يملأه الأسى والرعب من هيمنة أبو محمد الجولاني وما يمثله على المشهد، والسرعة التي تُبنى فيها سردية مناقضة تماماً للدور، الذي لعبه هذا الرجل منذ بداية ظهوره في الصراع السوري إلى اليوم.
سردية تحاول التكتم على جرائم عديدة شاركت فيها التنظيمات، التي بايعها أو أسّسها وتبناها أيديولوجياً -وما يزال – أبو محمد الجولاني خلال رحلة تحوله إلى أحمد الشرع.
سردية مغلفة “بغسيل وردي” تريد منا كنساء، أن نتسامح ونعفو عن الفصائل والتنظيمات التي تسببت بأذية وحشية نهشت كرامتنا، حد بيع أجسادنا في سوقٍ للسبايا زمن تنظيم “داعش” عام 2015، انتهاكات ما نزال لليوم مُحاطات بالرعب لمجرد التفكير بها، وأن هذا حقاً حدث في زمننا ولم يستطع أحد منع حدوثه.
تتغير سرديتنا اليوم، ويُطلب منا مرة أخرى أن ننسى ونعفو ونصبر ونقف متفرجات، وكأن هذا لا يمكن أن يتكرر، وكأن الحقائق حول واقع النساء وقيمتهن وموقعهن، خلال كل تحولات “الجولاني” وما مثّله، ليست واضحة ولا تستدعي رعبنا، سردية تضعنا مرة أخرى أمام تنظيرات “عطوه وقت”، و”حقوق النساء ليست أولوية”، “وخطأ فردي”، تحت ذريعة الخوف من ردود فعل عنيفة تفكك “السلم الأهلي”.
البيعة الأولى
عندما بدأت الثورة السورية عام 2011، لم يكن “الجولاني” مشاركاً فيها، ولم يكن مقيماً في سوريا قبلها بسنوات، وعلى الرغم من أن الحراك في سوريا كان ينفجر بالأحداث، وكانت سوريا تغلي على المستوى العسكري والاجتماعي والسياسي، وهناك معارضة سياسية وأحزاب و”جيش حر” ومجموعات مقاتلة محلية وتنسيقيات وغيرها.
ضمن كل ما سبق، اختار الجولاني أن يدخل الصراع مبايعاً نهاية عام 2011 تنظيم “داعش”، مع شريكه الجهادي “أبو محمد العدناني”، بهدف نقل هذه التجربة إلى سوريا، ليساهم في تأسيس “دولة الخلافة” فيها، التنظيم المتشدد، الذي وُثّقت انتهاكاته على مدار أعوام، خصوصاً تلك التي تستهدف النساء، وتُقدّر الشبكة السورية لحقوق الإنسان عددهم بـ 8,143 مغيب/ة قسرياً على يد هذا التنظيم، ومن بينهم أختي سمر صالح، التي تم خطفها على يد تنظيم “داعش” مع شريكها محمد العمر من مدينة الأتارب في الشمال الغربي لسوريا، وإلى اليوم لا نعرف عنهما أي معلومة.
انتهى تنظيم “داعش”، لكن معسكرات الاعتقال التي تحوي بعض المقاتلين ونسائهم وأطفالهم، هذه إلى اليوم “قنبلة موقوتة”، بسبب احتمالات اندلاع حروب بين قوات “أبو محمد الجولاني” والفصائل المقاتلة معها، وبين “قوات سوريا الديمقراطية” بدعم كامل من تركيا. إذا ما تم التعامل معها من قبل مقاتلي “الجولاني” كما تم التعامل مع السجون والفروع الأمنية خلال عملية “ردع العدوان”. أو إذا ما تم استخدامها من قبل أي طرف في الصراع المسلح، كتهديد شديد الخطورة في ظل الواقع الهش الذي تعيشه البلاد.
الأمر الذي قد يشكّل خطراً وجودياً حقيقياً على حياة الكثير من النساء والفتيات السوريات، اللواتي قد يتم تعريضهن إلى تجارب مشابهة للسابقة، في حال الإفراج عن آلاف المقاتلين من التنظيم، وغيرهم ممن لم يتم التعامل معهم بشكل قانوني عادل، لحل قضاياهم خلال السنوات الماضية.
التحول الثاني إلى “أبو محمد الجولاني”… تأسيس “جبهة النصرة”
برز اسم أبو محمد الجولاني للمرة الثانية خلال الثورة السورية، عندما أعلن التخلي عن “داعش” لإنها “متشددة”، برغم أنه من مبايعي هذا “التشدد” ومن قادته ومؤسسيه في سوريا. ومرة أخرى عندما تاب “الجولاني” أحمد الشرع وقرر الابتعاد عن “تشدد داعش”، لم يلجأ إلى الاندماج مع سلطات الأمر الواقع الموجودة وفصائله، وقرر بدء تجربة مغامرة سلطوية جديدة بتأسيس “جبهة النصرة”، كفرع ل”تنظيم القاعدة” الإرهابي في سوريا.
خاضت “جبهة النصرة” هذه المرة من الشمال الغربي لسوريا معارك طاحنة، صفّت فيها قادة في “الجيش الحر”، وفرضت سيطرتها على قرى حكمتها بالسيف والنار والترهيب، سيطرت “جبهة النصرة” كما “داعش” على حياة النساء وفرضت عليهن الحجاب والخمار، وحاصرت وخنقت حريتهن، واغتالت ناشطين/ات وصحافيين/ات، وأقصت وأبعدت آخرين/ات ودفعتهن/م إلى الهرب، رجمت “جبهة النصرة” نساء اتّهمتهن بالزنا، بسلوك يشبه سلوك “داعش”، وثّقه أيضاً المرصد السوري لحقوق الإنسان.
أُقصيت النساء من الفضاءات العامة، ووضعت شرطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -وحلتها في تحولات أخرى- ثم أعادتها مرة أخرى تحت مسمى “سواعد الخير”، التي أصدرت عدداً من القوانين كلها تخص حياة النساء والسيطرة على حقوقهن، وشكل حضورهن في الحياة العامة. حسب تقرير المرصد السوري لحقوق الإنسان. كما تبنت الجبهة أكبر تفجيرات في دمشق ومدن أخرى راح ضحيتها عشرات المدنيين/ات.
التحول الثالث… “جبهة تحرير الشام” و”حكومة الإنقاذ”
التحول التالي ل”أبو محمد الجولاني” أحمد الشرع هو الانفصال عن “القاعدة”، وابتعاده عن الجهاد الإسلامي السلفي العالمي، وإظهار نفسه على أنه يمثّل الجهاد السلفي المحلي، من خلال تغيير الاسم لا الفعل، إلى ما يعرف حتى اليوم ب “هيئة تحرير الشام”، والبدء بتبني خطاب إسقاط النظام، على الرغم من أنه منع علم الثورة من كل أماكن سيطرته، وفرض علم الجهاد الإسلامي، واعتقل وعذب عناصر من “الجيش الحر”، ومنع منظمات مجتمع مدني معارضة من العمل ودفعها للخروج من سوريا، وبدأ بتأسيس دويلة إسلامية عيّن لها حكومة أسماها “حكومة الإنقاذ”، التي بدورها كانت ظلاً “مدنياً” سياسياً لطموحات الخلافة الإسلامية وفرض شريعة الإسلام.
منعت “حكومة الإنقاذ” عمل المنظمات المدنية، التي تشكّل تهديداً لمشروعها الإسلامي، واستولت بالتالي على جميع المؤسسات وأدمجتها بنظام وقوانين متشددة على جميع المستويات، بخاصة على مستوى التعليم، حيث فرضت مناهج جهادية وأسست “اتحاد طلاب سوريا” الذي تنحصر رئاسته بأعضاء من “هيئة تحرير الشام” فقط.
وفي تحقيق نُشر هذا العام على موقع “تلفزيون سوريا”عن واقع الجامعات في مدينة إدلب، ذكر أن “هيئة تحرير الشام تركز هيمنتها أيضاً على الهيئات الطلابية للكليات العلمية الرئيسية كالكليات الطبية والهندسية، بالإضافة إلى كليات الشريعة والحقوق والعلوم السياسية والإعلام والاقتصاد والإدارة، ويقوم أعضاء الاتحاد بدور الرقابة على الطلاب وأنشطتهم داخل الجامعة وعلى وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بالكليات، فيدير أعضاء الهيئات الطلابية في الكليات الصفحات غير الرسمية التي تحمل أسماء الكليات، ومجموعات التواصل الاجتماعي الخاصة بالكليات، ومن مهامهم مراقبة عدم إنشاء مجموعات جديدة، وفصل الذكور عن الإناث في مجموعات الواتساب، والرقابة والمسؤولية عن كل ما يُكتب ويُنشر في تلك المجموعات”.
هيمنت “هيئة تحرير الشام” وما يسمى ب “حكومة الإنقاذ” على القضاء والمؤسسات الحقوقية والقانونية بالطريقة نفسها، تحكمها دينامية سلطة ذكورية وأبوية وإسلامية متشددة بالمطلق، على كافة الأمور التي تخص البشر في مناطق سيطرتها.
فرضت “حكومة الإنقاذ” الحجاب والخمار على النساء والطفلات في المدارس والجامعات، هيمنت على الحريات الشخصية وقمعتها، حددت شكل حضور النساء في الأوساط العامة.
وأحاط “الجولاني” نفسه بجيش من إعلاميين وصحافيين، لا يشكلون أي تهديد لطموحاته السلطوية، وخنق ومنع عمل أي صحافية أو صحافي يسلط الضوء على سواد مملكته.
حاربت “حكومة الإنقاذ” المؤلفة بشكل كامل من ذكور متشددين يطمحون ل”دولة الخلافة الإسلامية” النساء والمنظمات النسوية والنسائية بكل قوة، مما شكّل خطاباً موحداً لكل الهيئات الإسلامية المتحالفة معها.
وتذكر النساء السوريات، بخاصة النسويات، خطاب التحريض والكراهية في الخطبة المشهورة التي ألقاها الشيخ أسامة الرفاعي رئيس “المجلس الإسلامي السوري” خلال زيارته إدلب، مما شكّل تهديداً حقيقياً لأي محاولة للمشاركة الاجتماعية والسياسية.
كما نشرت “حكومة الإنقاذ” لافتات في الشوارع، حددت فيها السلوكيات المقبولة للنساء في مناطق سيطرتها، حاصرت حكومة الإنقاذ عمل الصحافيات وحرمتهن من التصريحات لممارسة عملهن.
اقترحت وزارة الداخلية في “حكومة الإنقاذ” وثيقة “قانون الآداب العامة” تشمل قوانين تهدف إلى السيطرة على المجتمع وتحدد طريقة عيشه، وخصّت الكثير منها، لمراقبة سلوك النساء ولباسهن وحركتهن والسيطرة على أجسادهن وطريقة حضورهن في الأماكن العامة.
لماذا لم يكن هناك خيار آخر في عملية تحرير سوريا؟
منذ نشأة “هيئة تحرير الشام” وحكومتها التي غرست أنيابها بشراسة في عمق المجتمع المدني، ومحاولة تحويله إلى مجتمع إسلامي متشدد يخضع للشريعة الإسلامية في بنيتها ومؤسساتها، وهيمنتها على التعليم والقضاء والاقتصاد والسياسة والثقافة، حرصت على إضعاف أي جهة أو تنظيم يمكن أن يتحداها، لم يكن من الصعب على “الجولاني” أحمد الشرع، أن يضحي حتى برفاق الجهاد وشركاء مشاريعه وطموحاته، سجنهم وعذبهم واغتال منهم المقربين في سبيل الوصول إلى السلطة والتفرد بها.
ساهم بشكل كبير في تعزيز سلطة “الجولاني” أحمد الشرع، الدعم المتوحش الروسي والإيراني و”حزب الله” لحماية عائلة الأسد. ارتكبوا خلالها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، أدت إلى انهزام مدوٍ للثورة السورية بشقيّها السياسي والعسكري.
كما ساهم المجتمع الدولي والدول الفاعلة بالقضية السورية بتقويض الحل، من خلال عدم قدرتهم على حماية السوريات/ين والوقوف بوجه إجرام بشار الأسد وحلفائه، والتعامل مع القضية السورية ببرود وإهمال، والبدء بسحب التمويل من بعض منظمات المجتمع المدني السورية، وأوقفت الكثير من الدول دعمها للحراك المسلح، بسبب هيمنة الإسلام المتشدد عليه، ووُضع “أبو محمد الجولاني” أحمد الشرع و”هيئة تحرير الشام “على قوائم الإرهاب، ساهم هذا الواقع في تفتيت وتمييع وتجميد أي فرصة لحل سياسي، واستمر لسنوات من دون أي أمل وأفق للحل.
دُعم “الجولاني” من قبل أنقرة والفصائل الموالية لها، التي بدورها سبق أن قادت حروباً ضد السوريات والسوريين الكرد، الذين هُجروا واُقتلعوا من بيوتهم وأراضيهم، فتغيرت ديموغرافية المنطقة كلها، لتصبح مكاناً آمناً “للجولاني” أحمد الشرع وتمدد مشروعه واستقراره، وليصبح القوة الوحيدة “المنضبطة” التي يمكنها أن تقود عملية “ردع العدوان” الأخيرة، التي تمت باتفاق عدد من الدول، بعد وضوح هشاشة النظام السوري، والأذى الذي لحق بحلفائه.
ما الحل؟
مثّلت مسيرة هذا الرجل من “أبو محمد الجولاني” إلى أحمد الشرع شخصية وصفها الكثير من الخبراء/ات في دراسة المجموعات الإرهابية والإسلامية الجهادية بالشخصية “البراغماتية”، وتعدّ من بين أكثر المجموعات وحشية في تاريخ الثورة السورية، ارتكبت جرائمها أمام أعين العالم، من قطع الرؤوس، والكراهية والعدائية المتوحشة تجاه النساء والطفلات، واستعبادهن جنسياً. خلال سلسلة تطوراته من “داعش” إلى “القاعدة” (جبهة النصرة) إلى “هيئة تحرير الشام” و”حكومة الإنقاذ” الخاصة بها، حتى وصوله إلى دمشق كبطل يمنح عفواً ومسامحات ويطالب بالعقاب يميناً ويساراً، من دون حتى أن يعتذر عن جرائم “داعش” التي بايعها في سوريا، وجرائم “القاعدة” و”جبهة النصرة” التي أسسها في سوريا، ولا عن جرائم “هيئة تحرير الشام” وانتهاكاتها التي ما تزال مستمرة.
لم يعتذر “الجولاني” ولن يعتذر من النساء السوريات والعراقيات وخاصة الأيزيديات، على تعريضهن للعبودية الجنسية وبيع أجسادهن في سوق للسبايا، لم يعتذر “الجولاني” من عائلات المخطوفات والمخطوفين على يد “داعش”، ولن يسهّل عملية معرفة مصيرهن/م ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم، التي ارتكبتها التنظيمات التي بايعها و أسسها وقادها بنفسه خلال الثورة السورية.
اليوم لا خيار أمامنا كنسويات ونساء سوريات في هذا الصراع الوجودي، إلا الدفاع عن سرديتنا والوقوف بوجه “الغسيل الوردي” والتعويم السياسي، الذي يضع وجه “أبو محمد الجولاني” أحمد الشرع والتطبيع معه، على أساس “مخلّص” سوريا من عائلة الأسد و”محرر” سوريا.
إذا كانت سوريا اليوم أمام فرصة تاريخية للتعافي وتحقيق العدالة في كل ما حدث خلال السنوات القاسية والمتوحشة الماضية، فعليها ألا تجعل من تجربة انتهاك أجساد النساء السوريات وتجريدهن من حريتهن وكرامتهن وحقوقهن، حدثاً تفصيلياً يمكن تجاوزه، وجسراً يتمختر عليه “أبو محمد الجولاني”، خلال كل تحولاته الأيديولوجية و”مراجعاته الجهادية” و”تغيراته الفكرية”، في صراعه على السلطة في كل التنظيمات التي شكّلها وقادها.
يجب أن يكون هذا من النصوص الواضحة والأساسية في دستور سوريا الجديد، لتكون سوريا مكاناً آمناً للنساء، ولكل الفئات المهمشة والضعيفة، التي لا تمتلك الأدوات ولا المساحات للتفاوض على حقوقها، للعيش في بلد تُصان فيه كرامة الجميع من دون استثناء.
درج
——————————–
أحمد الشرع… متوالية براغماتية مفيدة وأسئلة مفتوحة/ سمر يزبك
27 ديسمبر 2024
منذ ظُهوره أخيراً بلباسه المدني للمرّة الأولى (توقّفت الكاتبة عنده في مقالها “الجولاني… أحمد الشرع الذي عاد سوريّاً”، “العربي الجديد”، 16/12/2024)، لا يتوقّف التقدّم السريع في تحوّلات صورة أحمد الشرع وجماعته، وكأنّها لا تقاس مجازاً إلّا بسرعة الضوء. لقد مرّت على ذلك الرجل تحوّلاتٌ كثيرة، بنى تحتها إشارات كثيرة، ومن ثمّ فجأةً، تقدّم ليحتلّ المساحة الأكبر من الحيّز العام. تلك التحوّلات لا تُعطِي حكم قيمة لما جرى ويجري، بل تحاول تفسير المعجزة التي حصلت في سورية (سقوط النظام الأسدي) من خلال ملاحظة صورة المسيطرين الجدد على الحكم.
يرتبط تقليب أوجه تلك التحوّلات ومعانيها بشكل ما بتغيير خريطة تقاسم المصالح الدولية في الأرض السورية. الشرع (بما يمثّله) لا ينفصل عن رؤيةٍ جديدة تتبنّاها الدول، وتسعى من خلالها إلى إحداث قطيعةٍ مع الجهادية وإعادة تدوير التطرّف في المنطقة. هذان عاملان أساسان في ما حدث. ورغم ذلك، لا يمكن إغفال دور هيئة تحرير الشام، خصوصاً بعد أن كشفت الأيّام الماضية (عبر مصادر مطّلعة منهم) أنّ الدخول إلى دمشق لم يكن وارداً، وأن نيّتهم كانت التوقّف في حلب. إلّا أن وهج النصر الذي قادهم إلى مدينة حماة، حيث تحضر ذكريات مجزرتها المهولة، دفعهم إلى التقدّم من دون تفكير في التوقّف، حتى الوصول إلى دمشق.
خلال أسبوعين فقط، حدث الكثير. ستظلّ تحوّلات أحمد الشرع مثار دهشة وحيرة، إذ يبدو أنّه (ومنذ بداية حياته) منفتح على التغيير. بهذا المعنى، لا يظهر الشرع رجلاً جامداً أو أفقياً، بل متحرّكاً، ومساره مفتوح، سواء في قيادة العمليات في الأرض أو في العمل الدبلوماسي. إضافة إلى جميع الظهورات التي تبعت ظهوره الأول، يبدو أحمد الشرع حريصاً على الحضور الإعلامي، ويتعامل بأريحيةٍ مع صور “السيلفي”، وكأنّه يقول: “أنا متاح للجميع، أنا جزءٌ منكم”. هذه النقطة تحديداً تمثّل جوهر هُويَّته متبدّلة الإشهار. كان هذا التحوّل الأبرز، إذ قلب الطاولة على ماضيه الذي لطالما أخفاه وراء وشاحٍ جهاديّ في لقاءاته السابقة. ظهوره في مقابلة مع قناة “بي بي سي” من قصر الشعب (الرئاسي)، وبحضور وسيلة إعلام عالمية شهيرة، لم يكن مُجرَّد ظهور إعلاميّ، بل خطوة أبعد نحو تجاوز الإشهار وطمأنة الداخل والخارج. في تلك اللحظة، رسم الشرع حدود شخصية جامعة أراد للسوريين أن يروها. تحدّث عن دولة تمدّ يدها لجيرانها، لكنّه (في المقابلة نفسها) أعلن نفسه رجلاً دبلوماسياً بمرونةٍ مكيافيلية، يُتقن لغة المصالح كما يُتقن لغة المعارك.
في العموم، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ المقابلة التي بثتها “بي بي سي” تشكّل نموذجاً مثالياً للحديث عن النظرة الاستعلائية والنمطية تجاه العالم العربي. برز هذا بوضوح في الأسئلة التي طُرحِت بشّأن حقوق المرأة والتعليم والحجاب والأقلّيات والحقوق الفردية مثل منع الكحول. كلّ إجابات أحمد الشرع عن هذه المواضيع استندت إلى مسألتَين أساسيتَين. أوّلاً، عدم تبني أيّ رأي مباشر بشأنها، وأنّ التعليم سيكون متاحاً للنساء. أمّا باقي التفاصيل، فقد أحالها إلى الدستور وآراء السوريين التي ستحدّد طبيعة هذه القوانين. كلامٌ غائم، ولكنّه مُبشِّر. وقد أصرّ الشرع على التفريق بين آرائه الشخصيّة وما سيكفله الدستور من حرّياتٍ وحقوق، لكنّ السؤال الذي ظلّ معلّقاً: من سيضع هذا الدستور؟ ولماذا الهروب المستمرّ؟
في تلك اللحظة، لم يكن الشرع رجلاً أيديولوجياً بقدر ما بدا رجل دولة براغماتياً يوازن بين ضرورات الداخل وضغوط الخارج، محاولاً أن يُبقي الأبواب كلّها مفتوحةً من دون أن يغلق أيّاً منها بإجابة قاطعة. لم تكن هناك إجابةٌ واضحة في ردّه على هذه التساؤلات. الصورة المنقوصة رممتها لاحقاً قرارات وإجراءات أخرى كما قد يظنّ بعضهم، فعلى صعيد قضايا النساء، عيّنت سيدة خاصّة في مكتب شؤون المرأة، صرّحت في لقاء تلفزيوني بأنّ النساء سيكون لهنّ دور فعّال اجتماعياً، سياسياً واقتصادياً، مشدّدةً على أنّ هذه المشاركة ستشمل جميع الطوائف. الصورة التي حاول الشرع تفادي استكمالها جاءت إدارة الشؤون السياسية لتسدّ فراغاتها، إذ تبيّن أنّ وزير الخارجية الجديد أسعد الشيباني كان المحرّك وراء تأسيس هذه الإدارة. وباستثناء السيدة المعنيّة بشؤون المرأة، تبقى النساء مُغيّباتٍ بالكامل عن حضور أيّ من الأنشطة أو اللقاءات والفاعليات السياسيّة أو الحكوميّة حتّى الآن. لا يريد الشرع خسارة قاعدته الشعبية من الإسلاميين، ولهذا على الأرجح لن يتحدّث مباشرةً عن مفردات يردّدها الغرب مثل “الديمقراطية” و”حقوق المرأة”… لكنّه هنا يقدّم إجابات تلتفّ حول السؤال، ويجيب غالباً بسؤال آخر، عبارته المفضلة هي “الشعب يقرّر”. ويظلّ يكرّر: “الدستور هو الحكم”.
لم ينس الرجل خلفيته التي نقلته من مقاتلٍ في “القاعدة” إلى قائدٍ في قصر الشعب بدمشق، لكنّه في الوقت نفسه يسعى لمحوها تدريجياً، أو بالأحرى إعادة تشكيلها بما يحفظ له قاعدته الجماهيرية ومحبّة أنصاره، إنّه رجلٌ يعرف كيف يمسك لسانه جيّداً، فيما تبقى عينٌ على قاعدته الشعبية وعلى المزاج العام (الذي لا يُمكن إنكار طابعه الإسلامي) في سورية والعالم العربي، وعينٌ أخرى تتبع أسلوباً دبلوماسياً براغماتياً في التعامل مع الغرب. وفي حديثه عن موضوع الأقلّيات (الكليشيه المحبّبة لدى الغرب)، يكرّر أحمد الشرع الجملة نفسها تقريباً “سورية منذ آلاف السنين تعيش بطوائفها، ولا أحد يستطيع أن يلغي الآخر”. يضرب مثالاً بالدخول العسكري للفصائل إلى قرى ومدن من أقلّيات متنوعة، مشيراً إلى أنّ هذا الدخول السلميّ أشبه بمعجزة تستحقّ الدراسة والتأمّل. كيف تمكّنوا من فعل ذلك؟ هذا المثال يوقف المذيع قليلاً، وكأنّ الحدث نفسه خارج عن المنطق المعتاد، فيعود بعدها إلى الصورة النمطية للرجال الملتحين والمسلحين والغارقين في الغموض. هنا، يعيد المذيع طرح سؤال المجتمع الدولي المتكرّر: “ألا يخشى العالم من ارتباط الشرع السابق بتنظيم القاعدة؟ ألا يوجد تخوّف من أن تتحوّل سورية أفغانستان أخرى؟
بهدوء، يجيب الشرع، لكن هذه المرّة بلغة تحليلية، “العالم اختلف، وسورية ليست أفغانستان. الظروف التي رافقت ظهور طالبان كانت مختلفة تماماً”. يرسل رسالته بشكل غير مباشر: “العالم لم يعد يريد الجهادية، فلماذا يُطرح هذا السؤال؟”. وكعادته، وبلغة جسديّة واثقة لا تعكس أيّ اضطراب، يُعلِن الشرع بوضوح: “سورية لن تكون مثل أفغانستان”، مرّة أخرى. ومع ذلك، يعيد المذيع الكرّة، ليطرح الأسئلة نفسها عن الحجاب والنساء والأقليات والكحول، وكأنّ مشكلات سورية تنحصر في هذه الكلمات السحرية. الشرع (بابتسامة باردة) يردّ العبارة نفسها: “هذه أجوبة محلّها الدستور، ولست أنا من يحدّدها”. ليس هناك مكيافيليّ أكثر دهاءً من ذلك. فالرجل، الذي يُقال إنّه أفلت من قبضة المخابرات السورية، وأوحى للعراقيين في أثناء سجنه في العراق بأنّه مواطن عراقي لا سوريّ، هو نفسه الذي اجتاز اختبار اللغة في السجن وكأنّه ابن البلاد، لن يعجز عن التملّص من أسئلة نمطيّة كهذه. إنّه يعرف متى يتحدّث، وكيف يجيب، من دون أن يمنح السائلَ فرصةً للقبض عليه بكلمة واحدة. الحرج الذي وضعه فيه المذيع عند الحديث عن قضايا تمثّل مرجعاً حسّاساً في الوجدان الشعبي السوري (كالتدخّل العسكريّ الخارجي، وإسرائيل، والعلاقة مع دول الجوار) لم يبدُ أنّه زعزع ثقته. كان الرجل واضحاً: “سورية منهكة.” لم يقل صراحةً إن سورية لن تحارب إسرائيل، لكنّه أشار بعبارات دقيقة “لسنا بصدد شنّ حرب على أحد”، رغم أنّ إسرائيل لا تزال تحتلّ وتتقدّم في الأراضي السورية، إلا أنّه تجاهل التوسّع الإسرائيلي المباشر مفضّلاً التركيز في “أهمية بناء البيت من الداخل”، بلدٌ مدمّر يحتاج (في أكثر السيناريوهات تفاؤلاً) عشرات السنين لإصلاح خرابه. أمّا في ما يتعلّق بالتدخّل الخارجي، متجنباً إثارة أيّ قلق أو غضب من الأطراف الفاعلة، لم يُظهِر أيَّ تنازل عن موقع سورية وسيادتها. أقرَّ بأنّ الإيرانيين خرجوا، وهذه حقيقة. لكنّه لم ينسب ذلك إلى نفسه، بل أشار إلى أنّ “جماعته” كانت وراء الأمر (في تجاوزٍ مُستمرٍّ لحقيقة أنّ عملية ردع العدوان كانت الحلقة الختاميّة لنضالات السوريين المستمرّة وتضحياتهم منذ بداية الثورة السوريّة). أمّا الأتراك، فوصفهم بـ”الأصدقاء” الذين جاءوا لمساعدة الشعب السوري، بينما روسيا، ورغم أنّها كانت تاريخياً “حليفةً استراتجيةً لسورية وستبقى”، لكنّه شدّد على ضرورة “إعادة قراءة العلاقة معها”.
يمدّ يدّه للجميع، ويسعى إلى طمأنة دول الجوار بأنّ “سورية ستكون جارّة مستقرّة، ولن تصدّر مشكلاتها إلى الخارج”. إنه ينسج الخيوط بدقّة، كما يفعل في الداخل عبر تحريك الفصائل وترتيب الصفوف. هذا ليس قائداً عسكرياً فقط، بل سياسيٌّ بارع. لنأتِ إلى الأمر المُلِحّ؛ في حال تأخّر دفع الرواتب وسط الانهيار الاقتصادي الحادّ، فسنكون أمام مجاعة حقيقية في سورية. رغم كلّ شيء، الناس في النهاية تريد الخبز، تريد أن تأكل. الشرع شدّد في مختلف إطلالاته على “أهمية رفع العقوبات الاقتصادية.” يدرك تماماً أنّ رفع العقوبات سيغيّر موقع سورية في المعادلة، وهو يعلم أنّ نشاطه كلّه، والجهد الهائل الذي بذله للوصول إلى هذه النقطة، قد يتعثّر. الصورة التي يسعى إلى بنائها قد تنهار سريعاً أمام واقع الجوع واليأس، عدا التحدّيات الأخرى الهائلة.
في ظهوره أخيراً مع رجال الأعمال، بدا كأنّه واحد منهم، رجل أعمال يجمع من حوله الطبقة الاقتصاديّة. وفي اليوم التالي، بعد انتشار الحديث عن احتمال اندلاع اقتتال بين الفصائل، ظهر محاطاً بهم، قائداً عسكرياً يتوسّط حلقاتهم، يفرض حضوره بينهم. في الجامع، يظهر داعيةً مسلماً. في الشاشات، وفي الصحف، وفي مواقع التواصل الاجتماعي، تتوالى صوره ورسائله المشفّرة والواضحة، لكنّها دوماً تحافظ على هيبته. إلّا أنّ النقطة الفاصلة كانت صورته أخيراً مع وزير الخارجية التركي والزعيم اللبناني وليد جنبلاط، لقاءٌ بروتوكوليّ حمل دلالات زعامته. بدا المشهد رئاسياً بكلّ تفاصيله، الرجلان (التركي واللبناني) ينادياه بـ”القائد والرئيس”. صورته مع الوزير التركيّ، بينما علم الثورة والعلم التركي جنباً إلى جنب، وفي تساوٍ ونديّة، كانت الأوضح في تكريس صورته زعيماً. بينما مع الوفد اللبناني، كان يتوسّطهم جالساً في المقعد الأكبر في الصدارة في إشارةٍ واضحة. لا أحد يُنكر أنّ الشرع يعلن نفسه قائداً، حتّى لو نفى ذلك مراراً، حتى لو قال إنّ الشعب هو الذي سيقرّر. لكن…
تحوّلات أحمد الشرع لا تتوقّف، لكن تمكن قراءتها من زاويةٍ تعود إلى جذوره وطفولته، فهو ابنٌ لرجلٍ نازحٍ من الجولان السوريّ المُحتلّ، والده حسين الشرع، الأكاديميّ القوميّ القريب فكريّاً من الناصرية. عاد إلى حيّه ومدرسته واستعاد بيت عائلته في دمشق، في مشهدٍ يعكسُ رمزية “نهاية المنفى”. تنحدر عائلته من بلدة فيق، لكنّه وُلد في السعودية عام 1982، في ذروة الصراع بين نظام الأسد والجماعات الإسلامية، وفي أعقاب مجزرة حماة، حين كان المحافظون يتصدّرون المشهد السياسي في العالم؛ الخميني ورونالد ريغان ومارغريت تاتشر، مع صعود الإسلاميين في العالم العربي قوّةً بديلةً في فراغ المشروع التقدّمي اليساري. نشأ في حيٍّ من أحياء الطبقة الوسطى، لكنّه ظلّ يحمل هُويَّة النازح، الذي ينظر إليه بعض المجتمع السوريّ نظرة استعلائية. هذا النظام الاجتماعيّ الذي بنته عائلة الأسد ليس طائفياً أو دينياً فقط، بل طبقيٌّ وعنصريٌّ أيضاً. كان الشرع، منذ طفولته، ابناً لمجتمع يعاني من التميّيز. ومن المفارقات أنّ أحد أهمّ شعارات الثورة السورية في 2011 كان “أنا شاوي”، تعبيراً عن مطالب المساواة وإنهاء التصنيفات الطبقيّة بين السوريين. فالنازحون في سورية عاشوا حالةً دائمة من المنفى الداخليّ، وواجهوا استعلاءً اجتماعياً.
كان أصغر إخوته الذكور، وفي لحظة صُعود المزاج الشعبي الرافض الغزوَ الأميركيّ للعراق، وجد نفسه مُنجذباً إلى التيّار الأكثر غضباً، حين كانت فكرة مُقاومة المحتلّ الأميركي سائدةً في أوساط الشباب بكامل تيّاراتهم الفكريّة اليساريّة والقوميّة والإسلاميّة. في تلك الفترة، دفعت المخابرات السوريّة شباباً كثيرين للقتال في العراق تحت شعارات مقاومة الاحتلال الأميركيّ. إحدى الشهادات التي توثّق هذه المرحلة كانت من آمنة الخولاني، المنتمية إلى حركةٍ إسلامية لاعنفيّةٍ في داريا تُعرف بـ”الأكرميين”، روت لكاتبة هذه السطور حادثةً عن الشيخ عبد الأكرم السقّا (الذي قضى في سجون النظام الأسدي)، وكيف كان يحثّ الشباب على الجهاد في مدينتهم وتنميتها بدلاً من الذهاب إلى القتال في العراق. لكن، في الوقت الذي دعا فيه الشيخ السقّا إلى التنمية والعمل المُجتمعيّ محلّياً، كانت منابر أخرى تحت سيطرة شيوخ يتبعون المخابرات تحثّ الشباب على الجهاد تحت شعار “دحر الغزاة الأميركيين.” كانت تلك المرحلة تحمل تناقضاً واضحاً، إذ يُدفع الشباب إلى القتال بأوامر النظام نفسه. كان الأسد (الأب) قد أتقن لعبة إدارة المجموعات الجهاديّة، وورّثها لابنه واحدةً من أدوات التحكّم في توازنات المنطقة.
ليست قصّة أحمد الشرع قصّة صعود رجل فقط، بل حكاية جيلٍ بأكمله ارتطم بمصالح القوى العظمى من جهة، وبمصالح الطغاة المستبدّين بشعوبهم من جهةٍ أخرى، وحوّلهم أفراداً غير فاعلين في تشكيل حيّزهم المكانيّ الأصليّ، جيل وقع ضحيّةَ مشاريعَ أكبر من أحلامه، ودُفِع إلى خطوط النار ليصبح لاحقاً جزءاً من إعادة تشكيل الخريطة السياسيّة والعسكريّة للمنطقة. من السجن في العراق، إلى العلاقة الوثيقة بتنظيم القاعدة، ثمّ إلى التمرّد على قادته الذين تأثّر بهم، وتشكيل هيئة تحرير الشام، يرسم الشرع مسيرةً غير اعتيادية. من ذلك الفقدان كلّه ربّما جاءت تلك الرغبة بالزعامة.
لا يُمكن لأحدٍ أن ينكر تمثّلات العظمة التي تظهر في شخصيته، ولا يستطيع أحدٌ تجاهل نظرته إلى نفسه قائداً. خلف كلّ مظاهر التواضع والهدوء ولياقة الحديث، يبرز إصرارٌ وعزيمةٌ واضحة لتجاوز الحدود، والمخاطرة والمجازفة رجلاً طموحاً، دائم التحرّك والتبدّل. غير أن هذا التبدّل، وإن كان يسير إلى الأمام، لا يجعلنا نخشى منه شخصاً متشدّداً. يبدو واضحاً أنّه قد قطع مع الجهادية التقليدية، لكن ما يقلق هو شكل الحكم القادم الذي ينطق باسمه، وصياغة الدستور، وعملية الانتقال السياسي في سورية. ومع ذلك، لا يعني هذا أنّه تخلّى عن صورته عن نفسه قائداً محاطاً بهالة العظمة، فقد تكاتفت الظروف والمعطيات (محلّياً ودولياً) لتجعله في موقع الفاتح والمبشّر بعهدٍ جديد، يريد السورييون أن يبنوا فيه وطنهم شعباً واحداً، وبإرادةٍ جماعيّة بعد نصف قرنٍ من حُكمٍ فردي لعائلة إجراميّة. لعلّ الأيام المقبلة تحمل إجاباتٍ أكثرَ وضوحاً.
مع دخولنا في الأسبوع الرابع لسقوط النظام وهروب الأسد، نحتاج فعلاً وأكثر من أيّ وقتٍ مضى إلى القيام بخطواتٍ جديّة وعمليّة وواضحةٍ نحو عملية انتقالٍ سياسيٍّ ديمقراطيّ، حتّى لو كان من الصّعب على الحكومة المؤقّتة ممثّلةً بقائدها لفظُ هذه العبارة. فرُغم الغموض والمخاوف، لن تكون هذه الأيّام أسوأ ممّا عاشته سورية تحت حكم الأسديّين. تلك الأيام التي عاشت فيها “سورية فوق الأرض” مكبّلة ومكمّمة الأفواه، بينما امتلّأت “سورية تحت الأرض” بأجساد المعتقلين والشهداء. سورية المدفونة التي تكسّر صمتها اليوم لتكشفَ المقابر الجماعية والسجون، بينما سورية فوق الأرض تُحاول أن تنهضَ وتعيش.
بانتظار الأيّام المقبلة…
العربي الجديد
——————————-
سوريا 2024: منعطفات سبقت العاقبة الماحقة/ صبحي حديدي
تحديث 27 كانون الأول 2024
بدأ عام 2024 السوري بقرار «برنامج الأغذية العالمي» إنهاء برامج المساعدات التي كان يقدمها إلى سوريا، بصرف النظر عن خرائط قوى السيطرة الفعلية على الأرض، وكان سبب التوقيف المعلن (الوحيد، تقريباً) هو تقلّص الميزانيات اللازمة للاستمرار في العام المقبل 2025. لكن معطيات البرنامج الخاصة بسوريا ظلت، من جانبها، تعلن أنّ كان أكثر من نصف سكان سوريا ـ 12.9 مليون شخص ـ يعانون انعدام الأمن الغذائي، وأنّ 3 ملايين شخص يعيشون ظروف جوع حادة، وأكثر من 90٪ من السكان هم فعلياً تحت خط الفقر المعرّف أممياً، ويحتاج 70٪ منهم إلى مساعدات إنسانية متفاوتة النوعية والحجم.
كان هذا القرار بمثابة مؤشّر أوّل مبكّر على منعطف، اقتصادي ومعاشي حاسم، سوف يتكفل بانطواء 54 سنة من نظام «الحركة التصحيحية» الذي دشنه الأسد الأب في انقلاب 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 1970، وتابعه وريثه الأسد الابن، وحفنة من أًسَر النهب المافيوزية أمثال آل مخلوف وآل شاليش وآل خدام وآل الأخرس. نظام أقعد الاقتصاد السوري عقداً بعد آخر، صورته الأوضح كانت هبوط الليرة السورية إلى درك مريع بمعدّل 141٪ مقابل الدولار الأمريكي، وارتفاع تضخم أسعار المستهلكين بنسبة 93٪..
وجهة أخرى في النظر إلى القرار ذاته تفضي إلى كيل الأمم المتحدة بأكثر من مكيال، غير شرعي وغير أخلاقي، في توزيع المساعدات وتمرير الكثير منها عبر أجهزة النظام، التي لم تعد رهينة الفساد وحده بل احتكار النهب واقتصاره تدريجياً على بيت السلطة الأوّل، عبر شبكات زوجة الأسد أسماء الأخرس، مثل «الأمانة السورية للتنمية» أو حتى الهلال الأحمر السوري؛ أو عبر ميليشيات في منطقة الساحل السوري وبادية حماة وتدمر، مثل «الدفاع الوطني». الأرقام تشير إلى أن المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، أو منظمة الصحة العالمية، أو اليونسيف، أو صندوق الأمم المتحدة للسكان؛ تعاملت مالياً مع، بمعنى أنها منحت مساعدات مالية إلى، أزلام النظام ورجال الأعمال المرتبطين بشبكات الفساد والنهب.
وجهة ثالثة هي أنّ لعاب أجهزة النظام أخذ يسيل على ملايين المساعدات الأممية لأنّ منابع النهب ما فتئت تجفّ وتنحسر وتتضاءل، الأمر الذي ظلّ يدفع الفرقة الرابعة وحلفاء التهريب أمثال «حزب الله» والفصائل المذهبية العراقية إلى حدود قصوى في تهريب الكبتاغون؛ ليس عبر ميناءي اللاذقية وطرطوس والقلمون وريف درعا ونسب واللجاة فقط، بل كذلك باعتماد طرق تهريب في البوكمال شمال شرقي سوريا وخطوط العراق نحو دول الخليج العربي. لكنّ عشرات المليارات التي ظلت تجارة الكبتاغون تدرّها على النظام وتجاوزت بكثير كلّ ما تبقى للبلد من مداخيل وصادرات، توجّب موضوعياً أن تكبّل جهود أنظمة عربية سعت إلى إعادة تأهيل نظام الأسد بعد استئناف عضويته في الجامعة العربية، وأقنعت الأخير بتفضيل تصدير المخدرات على استقبال ما أسماه بعض المطبّعين «شريان حياة» لا يتجاوز حفنة مليارات.
في مطلع نيسان (أبريل) 2024 وُضعت على المحك سياسة نأي بالنفس، عن حرب الإبادة الإسرائيلية ضد قطاع غزة، اعتمدها النظام منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، هازئاً بالأبواق التي ظلت على الدوام تصنّفه ضمن صفوف ما يُسمى «محور الممانعة». ولسوف ينتهي ذلك المنعطف إلى ما لا تُحمد عقباه في حسابات النظام، لأنها دشنت أولى الصدوع العميقة في العلاقة مع إيران و«الحرس الثوري» و«حزب الله» والميليشيات المذهبية المقاتلة معه. كسرت دولة الاحتلال الإسرائيلي معادلة الأسد تلك حين قصفت مبنى ملحقاً بالقنصلية الإيرانية يجاور سفارة طهران، وأسفر الاعتداء عن مقتل 16 شخصاً، في عدادهم العميد محمد رضا زاهدي القائد الكبير في «فيلق القدس» و«الحرس الثوري» الإيراني.
العواقب سوف تكون وخيمة، في إجبار النظام على سداد أثمان رأت دولة الاحتلال أنها جزاء وفاقاً على فتح أراضي سوريا على مصراعيها أمام نفوذ إيران العسكري والسياسي، من جهة أولى؛ كما ستُلزم الأسد بتقديم إجابات واضحة لأنظمة عربية عرضت عليه أكثر من طوق نجاة، فتملّص من استحقاق وقف إنتاج الكبتاغون وتصديره، ولم يكن أمامه من خيار آخر سوى الإبقاء على الحاضنة الإيرانية في قلب نظامه كما في الأطراف. بيد أنّ الأمر من جهة الراعي الإيراني لم يتخذ وجهة الاكتفاء بمراقبة الحفاظ على الهيمنة الإيرانية، لأنّ تزايد المؤشرات على أصابع أجهزة النظام خلف الاختراقات الأمنية الإسرائيلية الفادحة التي أوجعت أذرع إيران في سوريا، و«حزب الله» خصوصاً؛ ألزمت طهران بطراز من تدخّل أعلى في محاسبة ضباط الأسد، ومرشدي دولة الاحتلال أو موسكو أو أنقرة أو واشنطن داخل أجهزته.
لونة الشبل كانت، أغلب الظنّ، مجرد بيدق صغير في هيكلية التحقيقات الإيرانية؛ لأنّ الآتي الأعظم سوف يتعاقب سريعاً، إلى حيث الضربة القاصمة في تمكّن دولة الاحتلال من اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله، بعد عملية الـ»بيجر» وليس بمعزل عن اغتيال إسماعيل هنية في قلب طهران. صحيح، بالطبع، أنّ «حزب الله» واصل سداد أثمان تورّطه في القتال إلى جانب الأسد، وانكشاف الكثير من اسراره أمام أجهزة النظام السوري غير المحصنة أبداً أمام سطوة الاستخبارات الإسرائيلية؛ إلا أنّ الصحيح الآخر هو الرقص الذي ظلّ بشار يحلم بأدائه على حبال إيرانية وروسية وأمريكية (ثمّ إسرائيلية، ضمناً واستطراداً) حفاظاً على بقاء نظامه.
وفي ملاقاة مساعٍ عربية لاسترجاع النظام و/ أو ترويضه؛ واصل الأسد ذرّ الرماد في أعين الواهمين حول اجتذابه أو إرضائه، وذلك عبر منعطف أقرب إلى مسرحية هزلية سبق أن تكررت واستُهلكت وكفّت حتى عن صناعة خبر كوميدي: انتخابات جديدة لما يُسمى بـ«مجلس الشعب» أو رهط المنافقين الكذبة الناعقين الذين يؤمنون بأنّ سوريا قليلة على الأسد الابن، وينبغي له أن يحكم العالم طولاً وعرضاً. لم يكترث الأسد حتى بإدخال تحسينات تجميلية على الوجوه القبيحة ذاتها، وبقيت على حالها «كوتا» ممثلي الأجهزة وشبكات النهب والفساد ومجرمي الحرب من الضباط المتقاعدين والمدرجين على لوائح العقوبات الغربية، ولم يتبدّل أيّ تقاسم ديني أو طائفي أو مذهبي أو مناطقي. ومع ذلك، رغم المرارة والضنك والانكسار، امتلك السوريون فرصة إضافية للضحك على هذا المجلس حين أسقط عضوية محمد حمشو، أحد ذئاب الفساد ممّن مُحقت أقدارهم في دهاليز بيت السلطة؛ بذريعة أنه… يحمل الجنسية التركية!
وليس عجباً أنّ منعطفاً، أوروبياً هذه المرّة، لعب للمفارقة دوراً في تسريع انهيار منظومة شبكات الأسد الابن، ونظام «الحركة التصحيحية» بأسره؛ تمثّل في مسعى للتطبيع مع الأسد تولاه ثمانية من وزراء الخارجية الأوروبيين، إيطاليا والنمسا وكرواتيا وسلوفاكيا وسلوفينيا واليونان وقبرص، في رسالة بهذا المعنى رُفعت أواسط تموز 2024 إلى جوزيب بوريل مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي. صحيح أنّ هذه الدول ليست ألمانيا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال، لكنّ وجود الوزيرين الإيطالي والنمساوي ضمن اللائحة كان يفضح قسطاً غير قليل من احتمال رضا «كبار» أوروبا.
والحال أنّ أقلّ من خمسة أشهر لاحقة كانت كافية لتسفيه تقدير الوزراء الثمانية بأنّ سلطات الأسد قد استعادت السيطرة على 70٪ من أرض سوريا، لأن الانهيار الدراماتيكي السريع لأجهزة النظام وما تبقى من جيشه يوم 8 كانون الأول (ديسمبر) 2024، وفّر البرهان الساطع والصاعق على هشاشة تلك السيطرة المزعومة؛ حيث خاتمة النظام الكبرى، والعاقبة الماحقة.
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
القدس العربي
——————————
سوريا: دليل المطمئن في الليالي القلقة/ يعرب العيسى
الجمعة 2024/12/27
عليّ أن أجيب على هذا السؤال إذاً، فالجميع يكرّره علي من دون توقف: لماذا تبدو هادئاً ومتفائلاً؟
أمضيت 35 عاماً من حياتي أحاول فهم سوريا، وقررّت منذ 13 عاماً أنها اختصاصي الوحيد، وأنها الموضوع الذي يستحق إنفاق حياتي لدراسته. وحصيلة ما عرفته عنها يجعلني أميز المؤقت عن الدائم فيها، العميق عن السطحي، هدوؤها في تلقي الهزات الكبرى، الوقت الذي تحتاجه لتمتصها وتستوعبها، براعتها في هضم الجديد واستقلابه.
واكبت يوماً بيوم، ما الذي فعلته بأبناء فلاحين جاؤوا دمشق في الستينات ضباطاً محمولين على أفكار يسارية راديكالية، وحوّلتهم خلال عقدين إلى تجار موبايلات ومرتديلا ولوحات إعلانية. ثم كبتاغون حين شحّت سوق الاتصالات.
قرأت وسمعت من أساتذتي الأكبر سناً عن العاطفة الجامحة التي أوقعت السوريين في غرام عبد الناصر بعد حرب السويس، ثم عرفت أنه أنفق كل ذلك الرصيد خلال ثلاث سنوات من الاحتكاك المباشر معهم.
يمكنني ذكر مئات الكتب والأشخاص الذين ساعدوني في الوصول لهذه القناعة، لكن لمن يريد أن يمتلك نصف تفاؤلي فقد يفيده هذا الدليل (الأمثلة):
ـ اقرأ أي كتاب جيد عن تاريخ الدولة الأموية.
ـ اقرأ كتاب “دمشق في عصر المماليك” لنقولا زيادة.
ـ اقرأ كتاب سياسة علماء دمشق (1516 -1916) لحسان القالش، وهو من أفضل الكتب التي قرأتها عن سوريا في العصر العثماني.
ـ اقرأ كتاب “بلاد الشام في مطلع القرن العشرين” لوجيه كوثراني.
ـ تحدّث إلى شخص من آل الشلاح (فعلتها مع ثلاثة أجيال منهم، بدر الدين وراتب وعمر). وإن لم يتح، فأي عائلة تجارية دمشقية أو حلبية تفي بالغرض، بشرط ان تكون محافظة على المهنة ذاتها لثلاثة أجيال على الأقل.
ـ اقرأ مقالاً أو فصلاً من كتاب لحسين الشرع.
ـ اقرأ تقريراً (لأي سنة كانت) لمركز أوبسالا لبحوث الصراعات والحروب الأهلية.
ـ لا تقارن سوريا بأفغانستان ولا بالعراق، وبالطبع لا بمصر ولا تونس.
ـ قم ببضع زيارات للمسجد الأموي في دمشق، وتأمل في تفاصيله.
ـ قم بزيارة لقبر محي الدين بن عربي، ولمقبرة باب الصغير، ولحديقة مدرج جامعة دمشق في موضع قبر ابن تيمية (المختفي منذ ست سنوات).
ـ حاول البحث عن قبر معاوية الثاني ابن يزيد (في زقاق ضيق بتفرع عن سوق البزورية).
ـ ارجع بأرشيف الصحافة بضع سنوات للوراء، وحاول فهم خريطة العلاقة بين الفصائل التي تشاركت إنجاز الحلقة الأخيرة من إسقاط نظام الأسد.
ـ إذا بقي لديك بعض الوقت، ابحث عن إمكاناتها الحقيقية من حيث العدد والعدة.
ـ حاول تذكّر طريقة الأميركيين في التعامل مع قوى الأمر الواقع في الأحداث الكبيرة في دول العالم، والمدة الوسطى للانقلاب على وعودها.
ـ أجرِ بعض التجارب الاجتماعية مثل: اطلب مساعدة من حموي، تناول طعاماً في حلب، ابتسم في وجه فلاح علوي، اسأل كردياً عن أغنية…
ـ أغلق الفيسبوك لأسبوع، أو لا تأخذ منشوراته بجدية.
ـ احذف من سجل ذاكرتك كل ما يتبين أنه خبر مزيف.
ـ ابحث عن جواب لهذا السؤال: “بعد فوزها في انتخابات 1943 كان أول قرار اتخذته الكتلة الوطنية بالإجماع هو تعيين محافظ لدمشق، من كان ذلك المحافظ؟” أو لا تبحث سأخبرك بذلك: عزيز بيك الهواش.
وبطريقك، اسأل عن أسماء من رفضوا أن يكونوا رؤساء دويلات مقابل وحدة سوريا.
يمكنك أن تضيف إلى هذا الدليل أي تجربة تخص الحواس العارية، من قبيل التجوال في الشوارع، تشمم رائحة الأحياء، سماع أصوات الحياة في أي سوق، النظر في قعر عيون الناس، تلمّس أي جدار بين الباب الشرقي وباب الجابية، وهكذا.
نعم أنا سعيد بانزياح تلك الصخرة من طريق سوريا، ولست قلقاً من المطرقة التي هوت بالضربة الأخيرة عليه، أو على الأقل لست قلقاً بما يكفي للتشاؤم.
ولو أردت جواباً مناكفاً مباشراً بسيطاً فسيكون: أنا لا أعرف أحمد الشرع؟ ربما، لكنني أعرف سوريا.
المدن
—————————–
مخاطر الفوضى السورية/ حسام كنفاني
27 ديسمبر 2024
بعد نحو ثلاثة أسابيع على سقوط نظام بشّار الأسد، لا بد اليوم من وقف مظاهر الاحتفال والالتفات إلى المخاطر التي بدأت تحيق بسورية، سواء سياسياً أو جماهيرياً، والعمل بشكل سريع على ضبط مظاهر الفوضى قبل فوات الأوان، ودخول أطراف متضرّرة من سقوط النظام السوري على الخط لتأجيج الأوضاع.
هناك عديد من مشاهد الفوضى التي بدأت بالظهور، نتيجة عوامل كثيرة رافقت انتصار الثورة وفرار قوات الجيش السوري. فرار أفرغ الثكنات العسكرية من أفرادها بشكل كامل، وهو ما دفع السكان في مناطق كثيرة إلى الدخول إليها والاستيلاء على ما خلفه الجنود من أسلحة وعتاد. أحدث هذا الأمر حالة تسلح جديدة في الأراضي السورية، فمعروف أن هناك مناطق عدة، وتحديداً في الساحل السوري، يحمل أهلها السلاح، إلا أن الأمر اليوم بات منتشراً في معظم المحافظات السورية.
وجود هذا السلاح، مع الضغائن المتراكمة منذ ما قبل سنوات الثورة بين السوريين الذين عانوا من ممارسات النظام وأتباعه، تسبب بحالات انتقام لا يمكن إحصاؤها، خصوصاً في المناطق الريفية البعيدة عن الكاميرات الإعلامية المشغولة باحتفالات دمشق واستقبالات قائد “هيئة تحرير الشام”، أحمد الشرع، للمبعوثين العرب والدوليين والنشطاء السوريين وقادة الفصائل.
هذه الممارسات تضاف إلى الخلافات التي لا تزال قائمة بين الفصائل المسلحة السورية، والتي لم تجتمع كلها في اللقاء الذي استضافه الشرع في قصر الشعب قبل أيام. فالفيلق الثامن، والذي بات يُعرف بغرفة عمليات الجنوب ويترأسه أحمد العودة، والذي كانت قواته أول الداخلين إلى دمشق يوم الثامن من ديسمير/ كانون الأول الماضي، لم يكن حاضراً في الاجتماع، ولا يزال رافضاً تسليم سلاحه.
الأمر نفسه بالنسبة إلى قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، والتي لا يزال من غير الواضح كيف سيكون تعاطي الإدارة الانتقالية معها، لكن المعارك التي تخوضها حالياً مع “الجيش الوطني” المدعوم من تركيا تؤشر إلى مرحلة تصعيد آتية على هذه الجبهة. تصعيد من شأنه إعادة الأطراف الخارجية إلى الساحة السورية، وتحديداً إيران، في حال طبق الرئيس الأميركي الجديد، دونالد ترامب، وعوده بسحب القوات الأميركية من شرق سورية.
وفعلياً، بدأت الشائعات عن دخول عناصر من الحرس الثوري إلى المناطق التي تسيطر عليها “قسد”. ورغم أن هذه المعلومات لم توثق بعد، إلا أنها غير مستبعدة، وخصوصاً مع تصاعد التصريحات التي يطلقها المرشد الإيراني علي خامنئي، والتي يمكن اعتبارها تحريضاً على القيادة السورية الجديدة، وتحفيزاً لأنصار النظام السابق على المواجهة. الأمر الذي انعكس على الأرض في حمص وبعض مناطق الساحل السوري، حيث خرجت تظاهرات وأطلقت شعارات طائفية ومذهبية، قد يؤدي تطورها إلى ما لا تحمد عقباه.
وفوق هذا كله، برزت ظاهرة انتشار المخدرات بين السوريين، بعدما دخل سكان كثيرون في مناطق عدة إلى مصانع الكبتاغون التي كان يرعاها النظام السابق، واستولوا على ما فيها من حبوب مخدرة، والتي أصبحت تجارة رائجة حالياً بين السوريين.
من المعلوم أن إدارة العمليات العسكرية لا تملك العديد الكافي لضبط الأوضاع، رغم أنها بدأت فعلياً ببعض الإجراءات في مناطق عدة. فاحتواء هذه المظاهر أصبح ضرورة ملحة، ويجب أن يكون من أولويات الإدارة السورية الجديدة، والتي عليها أن تسارع إلى إعادة تشكيل القوى الأمنية من جيش وشرطة ونشرها على كامل الأراضي السورية. أولوية لا بد أن تكون سابقة للمؤتمر الوطني والإعلان الدستوري والحكم الانتقالي وكل العناوين السياسية للمرحلة المقبلة، والتي ستكون فارغة من مضمونها في حال خرجت الأمور عن السيطرة
العربي الجديد
————————————
(تيار) سورية الجديدة: لا حرب أهلية، لكن…!/ حسام الدين درويش
اعتقد كثيرون، حديثًا وقديمًا، أن إسقاط (نظام) الأسد سيترافق مع حرب أهليةٍ و/ أو طائفيةٍ. ومع بدء عملية ردع العدوان، وتقهقر النظام الأسدي، رأى كثيرون أن الحرب المذكورة آتيةٌ، لا ريب في ذلك، وقدموا رؤيتهم في صيغة تبشيرٍ بكوارث يستحقها المشاركون في الحراك العسكري المسلح ضد النظام، والمؤيدون له أو المستبشرون به والمعتقدون بإمكانية تحقيقه نتائج إيجابية، قد تصل إلى إسقاط النظام الأسدي ذاته. وعلى الرغم من أن معظم العناصر المطلوبة لحصول حرب أهليةٍ/ طائفيةٍ – فراغٌ في السلطة وغيابٌ أو تغييبٌ لمؤسسات الدولة ومؤسسات إنفاذ القانون، تاريخٌ طويلٌ وحاضرٌ معقدٌ من التوترات والاحتقانات الإثنية والطائفية والدينية والاجتماعية والمناطقيةٌ، أوضاعٌ اقتصاديةٌ مزرية، انقلابٌ سريعٌ ومفاجئٌ في موازين القوى … إلخ – كانت متوفرة في الوضع السوري الأسابيع الثلاثة أو الأربعة الماضية، لم تحصل تلك الحرب، وكانت الاعتداءات وحالات انفلات الأمن التي حصلت ضئيلةً جدًّا عمومًا، وأقل بكثير من المنتظر أو حتى المتوقع في مثل تلك الظروف. فلم تحصل أي اشتباكاتٌ جماعاتيةٌ بين الأهالي، رغم المخاوف والتوجسات الكبيرة في هذا الخصوص.
مع أخذ ما سبق في الحسبان، ينبغي عدم الاستهانة بالنتائج الكارثية المهولة لحكمٍ أسديٍّ كان لاستبداده أبعادٌ طائفيةٌ وإثنيةٌ ومناطقيةٌ واقتصادية واجتماعية فظيعةٌ وهائلةٌ. ومن المأمول أن يتجاوز وعي النخب السورية الأبعاد المذكورة والانقسامات المرتبطة بها أو الناتجة عنها، على طريق تأسيس وعيٍّ إنسانيٍّ أخلاقيٍّ بالدرجة الأولى، ووطنيٍّ عابرٍ للهويات الفرعية والانتماءات الهوياتية الضيقة، بالدرجة الثانية، بعيدًا عن تسييس هذه الهويات وتلك الانتماءات، بطريقةٍ تجعلها قاتلة، رمزيًّا على الأقل، ليس للهويات الأخرى فحسب، بل لذاتها ولما تتضمنه من تنوعٍ أيضًا. لكن، ما كل ما تأمله المرأة تدركه، فقد تهرول نسمات النخبة السورية بما لا تشتهيه القوارب.
منذ يومين، كتب أحد الأصدقاء على صفحته الفيسبوكية ما يلي: “كنت في مساكن الحرس الجمهوري بين قدسيا ومشروع دمر بمدينة دمشق قبل قليل، استوقفني أحد السكان (من الساحل)، لأوصله على طريقي وعادتي أن لا أرد من يطلب مني ذلك منذ 25 عاما، قلت لهذا الشخص من واجبي أن أعيش معك وأحترم حقوقك، ومن حقي أن لا أحبك ولا أساعدك، أعتذر منك”. وفي معرض دفاعه عن “فعلته”، بعد مواجهته لبعض الاعتراضات المستغربة والمستهجنة، ميز الكاتب بين التعاقد الوطني الملزم للجميع والتعاطف الوطني غير الملزم لأحد، ورأى أنه غير ملزم بذلك التعاطف، وأعلن انتهاء “حقبة المجاملات الوطنية”، التي “دفعنا كلفتها الكثير”. وشدد على أنه من حقه وحق غيره أن يشعر ما يشعر هو به، ويعبر عنه قولًا وفعلًا، بالطريقة التي عبر هو نفسه عنها. وانطلاقًا من تنظيره لذلك الحق، وتسويغه له أو دفاعه عنه، بدا أنه حقٌّ ينبغي لنا جميعًا الاستمتاع به وبتنفيذه، وواجبٌ ينبغي لنا الالتزام به لأن “الجرح كبير والبعض يتكلم معنا بورع وطني بارد”.
انتابتني مشاعر كثيرة عند قراءتي لمثل هذا الكلام. ولوهلةٍ أولى، رأيت في المنشور مجرد نتيجةٍ للحكم الأسدي، لكنني تراجعت سريعًا لأنني أدركت أن مثل هذا التفسير يختزل الشخص المذكور في كونه مجرد موضوع وضحية للنظام الاستبدادي، وينفي بذلك كونه ذاتًا واعية ومسؤولة عما تقوله وتفعله. ومما عزز اعتقادي بوجوب التعامل معه بوصفه ذاتً ومسؤولًا، وليس مجرد موضوعٍ وضحيةٍ، هو أن الشخص المذكور مسؤول بارزٌ في أحد الأحزاب السياسية المؤسسة حديثًا، وهذا يعني إمكانية ووجوب أخذ أقواله وأفعاله بمنتهى الجدية. وسأقتصر في ما يلي على مناقشة بعض أبعاد مضمون منشوره وما يحتويه أو يحيل عليه من أقواله وأفعاله.
المسألة الأولى التي ينبغي إبرازها والتشديد عليها هي وجوب التمييز أو إدراك التمايز الموجود بين أن يكون “من حقنا” فعل أو عدم فعل أو قول شيءٍ ما، من جهةٍ، وأن نكون على حق في قيامنا أو عدم قيامنا بهذا الفعل أو القول. فأن يكون أمرٌ ما من حقنا لا يعني أنه معنا حق في فعلنا لها. فالحق الأول قانوني والثاني أخلاقي. والحق القانوني ليس واجبًا (بالضرورة). فمن حق الإنسان ألا يقول صباح الخير لجاره، لكن فعله لذلك قد يكون أمرًا غير محقٍّ من الناحية الأخلاقية. وينبغي أن نتوقع وننتظر من النخب (السياسية) السورية أن تلتزم لا بمجرد الحق القانوني، وهو الحد الأدنى، بل بالحق الأخلاقي أيضًا. ويبدو أن الشخص المذكور لديه سقف منخفضٌ جدًّا حيث يرى أنه واجبه، في هذا السياق، يقتصر على القيام بما هو واجب عليه وفقًا لما أسماه ﺑ”التعاقد الوطني الملزم”، أما التعاطف الوطني، وهو مجتمعي وثقافي، فهو غير ملزمٌ له، ويمكن له تجاهله وعدم ممارسته. ما لم يدركه هذا الشخص أنه حتى في الدول ذات الأنظمة الديمقراطية والتي يتقاطع فيها القانون والأخلاق، تشكل مخالفة الأخلاق العامة المعيارية في مجتمعٍ ما فضيحة يصعب على أكبر السياسيين مقاومة تأثيراتها السلبية، فيضطر كثيرون للاعتذار والاستقالة، رغم أن ما فعلوه هو من حقهم، من المنظور القانوني، لكنه ليس من حقهم، بوصفهم شخصيات عامةً، ينبغي لها أن تتصرف، بطريقةٍ نموذجيةٍ قدر المستطاع، بحيث تراعي لا “التعاقد الوطني الملزم”، فحسب، بل “التعاطف الوطني، المجتمعي والثقافي”، أيضًا.
المسألة الثانية مرتبطة بالمسألة الأولى، وكانت أول ما خطر لي، عند قراءتي للمنشور المذكور. يمكن لي أن أفهم وأن أتفهم عدم سيطرتنا على مشاعرنا ووجود مشاعر غير مناسبة لدينا. كأن نشعر بالنفور من شخصٍ طرفٍ ما، من دون أن يكون شعورنا مسوَّغًا أو منصفًا. ويمكن لي أن أفهم جزئيًّا تصرفنا على أساس المشاعر المذكورة، بطريقةٍ ضمنيةٍ ومستترةٍ، لكن ما لم أستطع تفهمه، وحتى فهمه، عند قراءتي للمنشور المذكور هو ألا يرى الشخص مشكلةً في إعلانه على الملأ ما فعله مع الشخص “العلوي/ من الساحل”، وما قاله له، لمجرد أنه “علوي”. هذه الجرأة في الإعلان هي أكثر ما استفزني، لأنها تعني أن المعايير الأخلاقية العامة الناظمة للمجال العام عمومًا، ولا سيما لسلوك الشخصيات العامة والنخبة السياسية في هذا المجال وفي خصوص مثل هذه المسائل يمكن أن تنخفض أو تتدهور وتنحط إلى مثل هذا القاع السحيق، عند بعض الأشخاص. فإذا كان الشعور بالنفور من فرد ما لأنه ينتمي إلى طائفةٍ ما مصيبةً، وكان التصرف على أساس ذلك الشعور كارثةً، لا سيما عندما تقوم به شخصية عامةً تنتمي إلى نخبةٍ سياسيةٍ، فإن الإعلان عنه بطريقةٍ مضمخةٍ بروح دعوية وتفاخرية أكثر سوءًا بكثير من المصيبة والكارثة المذكورتين. وارتأيت ضرورة أن يقول شخصٌ ما لصديقي كاتب المنشور ما قاله الإعرابي للشخص الذي حاول أن يسرق حصانه بعدما حاول ذلك الإعرابي مساعدته: “لا تروِ هذه الحادثة لأحد، كي لا تنقطع المروءة عند العرب ولا ينقطع الخير بين الناس”. ولم أفهم عن ماذا يعتذر كاتب المنشور في نهاية منشوره، إذا كان يعتقد أنه محق في فعل ما فعله وقول ما قاله، ولم يخطئ مطلقًا في ذلك!
لكن هل ثمة ما يخالف المروءة في ما قاله وفعله الشخص المذكور؟ ثمة عشرات التعريفات للمروءة، ومن وجهة نظري ليس من بينها ما يمكن أن يستوعب أو يتقبل أو حتى يقبل ما قاله وفعله الشخص المذكور. فليس من المروءة الامتناع عن مساعدة شخصٍ ما، من دون مسوِّغٍ كافٍ. وليس من المروءة التعامل السلبي مع شخصٍ ما انطلاقًا من نسبٍ ليس له يدٌ فيه، وليس من المروءة نشر الكراهية تجاه طائفةٍ ما، وتبرير عدم التعاطف معها، والتفاعل السلبي مع كل فردٍ من أفرادها، لمجرد أن عددًا (كبيرًا) من أفرادها متهم بارتكاب أخطاء أو خطايا أو جرائم.
ولكي يكون النقد محايثًا أو داخليًّا وليس خارجًا أو برانيًّا، يمكن إدانة ما قاله وفعله الشخص المذكور انطلاقًا من الشعارات أو المبادئ التي يتبناها الحزب الذي يشغل فيه الشخص المذكور منصب نائب الرئيس للشؤون السياسية. فذلك الحزب يعرِّف نفسه بأنه “كيان سياسي وطني محافظ يلتزم بمبادئ العدل والحرية والكرامة”. وأجد أن الفعل المذكور يتنافى مع كل القيم المعلنة في التعريف المذكور: فليس من السياسة قطع العلاقة مع شريحة واسعة من الناس بهذه الطريقة المنفرة وغير المسوغة، والتي تفتقر إلى “التعاطف الوطني الأخلاقي”. وليس من العدل الحكم على شخصٍ ما والتعامل معه بهذه السلبية، بناءً على نسبه. وانطلاقًا من البعد الديني المحافظ، يمكن الاستناد إلى القول “ولا تزر وازرة وزرة أخرى”. وانطلاقًا من قيمة الحرية، يمكن القول إن الإنسان غير مكرهٍ على التصرف بهذه الطريقة مع الآخرين، وينبغي له أن يفترض أن الآخر حرٌّ أيضًا وليس مجرد فردٍ في قطيعٍ متماثل الأعضاء. ويمكن المحاجة بأن مثل ذلك المنشور، بما يتضمنه ويحيل عليه من أقوال وأفعالٍ، ينتمي إلى “حماقات بعض متصدّري الشأن السياسي”، التي سبق لكاتب المنشور نفسه أن أشار إلى أن تيار سورية الجديدة يحاول أن يتجنبها ويسير في اتجاهٍ مغايرٍ لها.
وإذا أخذنا المبادئ الخمسة التي يتأسس عليها ذلك التيار في الحسبان، يمكن القول إن ذلك المنشور يتناقض مع كل تلك المبادئ، جملةً وتفصيلًا: فهو ينطلق من رؤية فكرية ضيقةٍ ويتماهى مع الخطاب الأيديولوجي الذي يرفضه، ويعرقل عملية بناء التصور الوطني الحقيقي والشامل، ويخلق مشاكل زائفةً بدلًا من إيجاد حلول حقيقية لمشاكل حقيقية، ولا يراعي الظروف المرحلية في التخطيط والعمل، ولا يعمل على بناء الشرعية والأدوات اللازمة لمحاولة التأثير (المناسب) في الحل السياسي.
قد لا يكون ضروريًّا القول إن النقد موجه لقول وفعل الشخص المذكور وليس لشخصه، وله بوصفه شخصيةً عامةً وأحد أفراد “النخبة السياسية”، وليس بوصفه فردًا عاديًا وصديقًا لطيفًا وودودًا. سورية في حالة مخاضٍ الآن، وينبغي لنا جميعًا الإسهام في أن تكون سورية الجديدة مولودًا معافىً بعيدًا عن تشوهات مرحلة “سورية الأسد”. ويقتضي ذلك الإسهام أن نناقش كل المسائل بأعلى درجات الود الصريح أو الصراحة الودية. وهذا ما أزعم أنني حاولت فعله، في هذه التدوينة. وأترك للآخرين الحكم على نجاحي في محاولتي المذكورة.
العربي الجديد
—————————–
معضلتان لا بد من حلهما في سوريا!/ يحيى الكبيسي
تحديث 27 كانون الأول 2024
تبنّت الدول التي يُطلق عليها «الدول الوطنية» في العالم العربي، أنموذجا شموليا في الحكم، على اختلاف درجاته، وكان أحد أبرز مظاهرها التداخل التام بين الحزب الحاكم والدولة إلى حد التماهي بينهما. وكان العراق وسوريا، تحت حكم حزب البعث العربي الاشتراكي، المثال الأكثر تطرفا لهذا التماهي.
تحولت مؤسسات الدولة في هاتين الدولتين، تحديدا المؤسسات العسكرية والأمنية، إلى كيان حزبي. فلم يعد يسمح مثلا لغير المنتمين إلى الحزب، الدخول إلى الكليات العسكرية أو كليات الشرطة أو الكليات الأمنية الأخرى دون الانتماء إلى حزب البعث.
في العراق صدرت قوانين تعاقب بالإعدام أي عسكري يمارس نشاطا سياسيا باستثناء النشاط السياسي لحزب البعث، سواء كان مستمرا في الخدمة أو خارجها أو متقاعدا! وقد تداخلت العلاقة بين الحزب من جهة، والبنى المذهبية والجهوية والقرابية في البلدين، وهو ما أنتج تداخلا لاحقا بين الدولة وهذه البنى. في العراق كانت البنية السنية والتكريتية (أو المرتبطة بعشيرة البوناصر/ البيجات) تحكم الدولة ومؤسساتها العسكرية والأمنية. وفي سوريا، تشكلت بنية الدولة من الطائفة العلوية والساحلية، أو المرتبطة بعائلة الأسد الممتدة التي حكمت الدولة ومؤسساتها العسكرية والأمنية.
بعد الاحتلال الأمريكي للعراق أصدرت سلطة الائتلاف المؤقتة الأمر رقم 2 في 23 أيار/ مايو 2003 (أي بعد يوم واحد فقط من تسلم سلطة الائتلاف المؤقتة مسؤوليتها كسلطة احتلال بموجب قرار مجلس الأمن المرقم 1483 الصادر في 22 أيار/ مايو 2003) بعنوان «حل الكيانات العراقية» والذي قضى بحل كل من وزارة الدفاع، ووزارة الدولة للشؤون العسكرية، وجهاز المخابرات العامة، ومكتب الأمن القومي، ومديرية الأمن العام، وجهاز الأمن الخاص، الجيش العراقي، الحرس الجمهوري، الحرس الجمهوري الخاص، ومديرية الاستخبارات العسكرية، فضلا عن تشكيلات عسكرية أخرى (جيش القدس وقوات الطوارئ). وقد كان هذا القرار أحد الأسباب الرئيسية في ظهور حركة المقاومة العراقية (السنية).
ثم اتخذت سلطة الائتلاف المؤقتة، في مرحلة لاحقة، القرار رقم 91 لسنة 2004 بعنوان «تنظيم القوات المسلحة والميليشيات في العراق» والذي قضى بدمج العناصر المؤهلة التي كانت ضمن الميليشيات التابعة للأحزاب السياسية، في القوات المسلحة والقوات الأمنية، وشمل هذا القرار كلا من منظمة بدر، والحزب الشيوعي العراقي، وحزب الله فرع العراق، والحزب الإسلامي العراقي، وحركة الوفاق الوطني، وحركة المؤتمر الوطني (طبعا لم يكن لا للحزب الشيوعي ولا للحزب الإسلامي ميليشيات، لكن كانت طريقة للتغطية على الميليشيات الشيعية التي شكلت نواة المؤسسة العسكرية والأمنية العراقية) فضلا عن القوات المسلحة التابعة للحزبين الكرديين الديمقراطي والاتحاد الوطني. وقد نتج عن هذا الدمج، قوات عسكرية وأمنية غير مهنية، ساهمت بقوة، ولاتزال، في فشل الدولة العراقية، حيث لم تتمكن الدولة فعليا من دمج القوات التابعة للحزبين الكرديين،مثلا، وظلت هذه القوات تأتمر بأوامر أحزابها. كما تحولت مؤسسات أخرى الى مجرد واجهة للميليشيا الأصلية، فالشرطة الاتحادية في العراق هي عمليا ميليشيا بدر وهي تأتمر بأوامر زعيمها وكذا سائر الفصائل.
ولعل المظهر الأكثر كارثية على الدولة العراقية، هو التداخل بين المؤسسة العسكرية والأمنية، والبنى الطائفية والحزبية لهذه الميليشيات، لاسيما بعد تشكيل ما سمي «هيئة الحشد الشعبي» الذي ضم ميليشيات لا تزال مرتبطة بمرجعياتها وزعاماتها، ولم تكن في أي مرحلة من مراحل «اندماجها» مؤسسة رسمية تتبع الدولة، أو تتبع القائد العام للقوات المسلحة (السيد مقتدى الصدر مثلا هو صاحب الكلمة العليا على فصيل سرايا السلام التابع بعضه «شكليا» الى هيئة الحشد الشعبي، وهو يصدر أوامر علنية تخالف ما نص عليه قانون الهيئة). استتبع ذلك احتكار المناصب العسكرية والأمنية بشكل كامل لصالح الشخصيات الشيعية (وهذا تطلب تحييد منصب وزير الدفاع الذي يتولاه عادة شخصية سنية يختارها الفاعل السياسي الشيعي نفسه، ليتحول المنصب إلى منصب إداري بحت واحتكار القرار العسكري بيد القائد العام للقوات المسلحة الشيعي، ورئيس الأركان الشيعي)!
وبالرجوع الى الوضع في سوريا، فإن السوريين يواجهون، اليوم، المعضلتين نفسيهما؛ كيف سيتعاملون مع المؤسسة العسكرية والأمنية التي كانت نتاج دولة البعث السوري، بما تحمل من بنى جهوية وطائفية وحزبية؟ وكيف سيتعاملون مع إرث الفصائل/ الميليشيات التي تشكلت في سياق الثورة السورية بين عامي 2011 و2024، بكل ما تحمل هي كذلك من بنى ايديولوجية وجهوية وطائفية؟
فباستثناء التصريح حول حل الفصائل/ الميليشيات ودمجها في وزارة الدفاع، لا وجود لأي قرار نهائي معلن حتى اللحظة بصدد هاتين المعضلتين الجوهريتين.
لا يمكن أن تتجاهل الإدارة السورية الجديدة موضوع ضباط وأفراد الجيش السوري النظاميين، والمؤسسات الأمنية طويلا، فاستحقاقات الرواتب ستكون ضاغطة على الطرفين معا، ويجب أن تكون هناك حلول سريعة لها، بدلا من أن تفلت عن السيطرة، وحتى في حال اتخاذ قرار خاطئ بحلهما مثلا، لن تحل هذه المعضلة بل ستتفاقم. ولا يمكن ترك هذه الآلاف من المدربين والمسلحين من الذين يمتلكون القدرة على التنظيم، دون إيجاد حلول حقيقية، خاصة في سياق الحالة السورية، حيث شكل العلويون نواة صلبة لهذه المؤسسات على مدى السنوات الـ 54 الماضية، وفي الوقت الذي يشكلون فيه أقلية ديمغرافية، ولكنهم يملكون «حيزا جغرافيا» خاصا بهم على الساحل السوري، وشرقي حماه وحمص. وهذه العوامل الثلاثة تشكل قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أي لحظة، مع سياق وضع إقليمي يسمح باستخدامهم ضد الوضع الجديد في سوريا!
في الوقت نفسه لا يمكن التعامل مع فكرة تشكيل جيش جديد، وقوات أمنية جديدة، اعتمادا على فصائل/ ميليشيات ذات بنى إيديولوجية وطائفية وجهوية، والقول في إمكانية فك ارتباطها بمرجعياتها الأصلية هو محض وهم! لاسيما أن تمكن زعماء وأمراء هذه الفصائل/ الميليشيات من الحصول على مواطئ قدم سياسية لهم، سوف يتيح لهم إدامة دورهم في السلطة واستخدام أدوات الدولة.
تحدثنا في مقال سابق عن ضرورة أن يتعلم السوريون من الدرس العراقي، وأن يعمدوا إلى تجنب كل المقدمات التي حولت العراق إلى دولة فاشلة بامتياز، فبناء انظمة الحكم ومؤسسات الدولة، بعد انقلابات عنيفة وجذرية، لا يمكن أن يخضع للرغبات الشخصية، أو حسن النوايا، والأوهام!
كاتب عراقي
القدس العربي
———————————-
أحمد الشرع بين الواقعية والأيديولوجية/ أسامة عثمان
27 ديسمبر 2024
بالرغم من تحوّلات القائد الأعلى لهيئة تحرير الشام أحمد الشرع، إلّا أننا لا نستطيع إغفال خلفيّته الفكرية الدينية، فهو آتٍ من فكرتي تحكيم الشريعة، والدولة الإسلامية. لكن هذه “الدولة الإسلامية” هي دولة أوّلاً، لتكون قادرة على اختيار الدستور والقوانين الناظِمة للمجتمع وللعلاقات الخارجية، فلا بدّ أن تستند إلى سلطة، والسلطة هنا ليست مُجرَّد القوّة المادية، وإنْ كانت تلك القوَة ركيزتها الأساسية، وصُلْبها، وهي التي ميّزتْ أحمد الشرع (وتميِّزه اليوم) من سائر القوى السياسية الطامحة إلى المشاركة في إعادة بناء سورية، وتوجيه هُويَّتها، وأحدَث الدلائل على تفوّقه الواقعي نجاحه في قيادة الفصائل المسلَّحة، وحملها على الانضواء تحت المؤسّسة العسكرية للدولة، إذ توصَّل إلى اتفاق مع قادة الفصائل الثورية، حلَّت نفسها بموجبه، واتُّفِق على دمجها تحت مظلّة وزارة الدفاع، وهو ما يُعزِّز سلطته الفعلية، ويترك انطباعاتٍ ثقة وارتياحاً أكبر (في الداخل والخارج) بأن البلد ينتقل من الثورة إلى الدولة، ومن احتمالات الاختلاف والتنازع إلى مسارات التنظيم ووحدة المرجعية.
ولا يخفى على متابع أقوال أحمد الشرع وأفعاله تخلّيه عن الاعتبارات الخاصّة لصالح اعتبارات أوسع تتماهى (أو تُقارِب كثيراً) مع الحالة السورية العامَّة بتنوّعها الفكري والاجتماعي، وبمكوِّناتها وانتماءاتها المختلفة، تحت الانتماء الوطني الأعلى. والسؤال: إلى أيّ مدى يستطيع الشرع الاتساق مع خلفيته الدينية، التي تفترض أولوية الشريعة على سائر الشرائع الوضعيّة؟… في هذا السياق، نلحظ آليّة الاحتواء، التي ظهرت في صيرورة هيئة تحرير الشام، تشكيلاً ثورياً يتألَّف (ثمّ يتآلف) من خمسة فصائل سورية ثورية هي جبهة فتح الشام، وحركة نور الدين زنكي، ولواء الحقّ، وجبهة أنصار الدين، وجيش السنّة. كانت أوضح علامات التحوُّل أن الهيئة لم تُعلِن بشكل رسمي تبنّي خطٍّ أيديولوجي واضح، بل حرصت على التأكيد أنها كيان مستقلّ لا يمثّل امتداداً لتنظيمات وفصائل سابقة، وأن تشكيلها يمثّل خطوةً ذابت فيها جميع التسميات، وطُوِيت فيها جميع الخلافات. وهذا التخفُّف الأيديولوجي استدعته أولويةُ إسقاط نظام الأسد.
وبالرغم من الفارق في درجة التبايُن بين مكوِّنات الهيئة من جهة، والمكوِّنات السورية بأحزابها وطوائفها وأديانها، من الجهة الأخرى، إلّا أن إدراك الشرع لمعنى الدولة يحمله على القبول بمتطلّبات احتواء أكبر، يستبقي من الإسلام (بحسب فهمه وتفسيره)، القواعدَ الأولى أو الأولويات الضرورية. وفي الإسلام، بحسب فقهاء مُعتبرَين، مقاصدُ عامّة؛ حِفْظُ الدِّين والعقل والنسل والمال والنفس، كما أنه لا بدَّ أن يُسترشَد بشرط القدرة والاستطاعة، وهو شرط كُليٌّ حاكم تندرج تحته قابليةُ المجتمع، والظروفُ الدولية والإقليمية، وإلحاحُ الحاجات الإنسانية والاجتماعية من ضروريات الحياة الأولية، بتوفير الطعام والأمن والمسكن والعلاج وغيرها.
وما دام أحمد الشرع قد مضى في طريقه نحو الحكم، بـ”واقعية”، فلا بدّ أنه يعي تجارِب حُكم الإسلاميين في المنطقة العربية، ولعلّ أبرزها تجربة الإخوان المسلمين في مصر، حين تضافرت عوامل خارجية وداخلية على إسقاط الرئيس السابق محمّد مرسي، ثم تقبّل العالمُ الحاكمَ المُنقلِب، عبد الفتّاح السيسي، وغضّت الدول الفاعلة (في رأسها أميركا)، الطّرف عن الثمن الباهظ الذي توسّله للقضاء على حُكم “الإخوان” في مجزرة رابعة (14 أغسطس/ آب 2013)، التي راح ضحيّتها، وفق منظّمة هيومن رايتس ووتش، أكثر من ألف قتيل، مع الأخذ بعين الاعتبار الجثث مجهولة الهُويَّة والمفقودين وشهادات الناجين.
ومع أن الجيش في سورية لم يعد يحوز تأثيراً كتأثير الجيش في مصر، ومع أن التقبّل الشعبي للتخلُّص من نظام بشّار الأسد يمثّل رصيداً لا يُستهان به لصالح الشرع، والفصائل التي شاركت في تفكيك نظام الأسد، إلّا أنه لا التفاف شعبيّاً وحزبيّاً حاسماً حول هيئة تحرير الشام، لأصولها ومنابتها الفكرية ذاتها. لهذا الدرس المستفاد من تجربة “الإخوان” في مصر، يبدو الشرع ماضياً إلى مسافة أبعد في الدولة المدنية، والظاهر أنه يستضيء بالنموذج التركي الأردوغاني في الحُكم في الفحوى، وليس بالضرورة في المطابقة التامّة، والوضوح العَلماني الراسخ، وهو الأمر الذي لم تستجيزه جماعة الإخوان في مصر.
ويمكن القول إن الشرع (والفصائل والقوى المتحالفة معه)، يهمُّه أنْ يفارق (وأن يبدو مفارقاً)، الفكر الجذريّ الانقلابيّ، وأنه بقدر الإمكان يحاول أن يستبقي ما يمكن استبقاؤه من اعتيادات الحياة السورية، في مفاصلها المُتعدِّدة، في الدولة وفي المجتمع، وفي التنظيم الداخلي، وفي جوهر العلاقات الخارجية، في ما يتعلَّق بالاحتكام إلى القانون الدولي، والتواضُعات العربية الرسمية والإقليمية، من دون أن يعني ذلك الحفاظ على تحالفات النظام السابق، كالعلاقة الخاصّة بإيران. فهو سائر نحو دولة عادية تقترب (بصفة عامّة)، من تصفير الأزمات مع المحيط ودول العالم، حتى مع روسيا، التي كان لها الفضلُ الأكبر في إطالة عُمْر نظام الأسد ومنحه مزيداً من الفرص للإجرام الفظيع بحقّ شعبه وبلده.
وفي المجمل، وفي عُمْق تكوين الفصائل الثورية السورية، فإن الباعث على تكوين تلك القوى لم يكن الإسلام فكريّاً، وإنْ كان هو في مرحلة من المراحل القوتان التحشيدية والتَّعْبوية، فتلك الفصائل ذات الطابع الإسلامي كانت ردَّة فعلٍ على ظلم نظام الأسد وعطالته، فهي كيانات أفرزتها ثورةُ الشعب السوري، كما أفرزت غيرَها من خلفيات فكرية مغايرة، وعنوانها الجامع التخلُّص من الأسد واسترداد البلد والشعب.
وعلى ذلك، ينقاد الشرع في هذه المرحلة الانتقالية ليقود؛ ينقاد للأعراف الجارية داخلياً وخارجياً، ليحوز فرصةَ اجتراح نتائج عملية فارقة، بفريق حُكمٍ من مُقرَّبيه، يكون نجاحُهم المأمول في هذه اللحظة المتوهّجة من تاريخ سورية أكبرَ الأرصدة، وأجلب دواعي الثقة الواسعة.
العربي الجديد
————————————
عن العلمانية أيضاً/ ممدوح عزام
27 ديسمبر 2024
باتت الثقافة، اليوم، أكثر مسؤولية تجاه مهامها الدائمة والعاجلة، كما باتت مشغولة بقضايا كثيرة لم يكن مسموحاً من قبل بالاقتراب منها، أو لم يكن بوسع المثقّف أن يُقاربها لأنّ السلطة استولت عليها، أو ادّعت تبنّيها، ومنعت النقاش الخاص أو العامّ حولها.
العلمانية، مثلاً، هي واحدة من القيم التي كان المثقّفون السوريّون، والسياسيّون خارج السلطة، يناقشونها قليلاً، من دون أن يتعمّقوا في معانيها، أو أشكال تطبيقاتها في المجتمع. ولم تكن الكتب الكثيرة التي صاغها المفكّرون العرب، أو تلك التي تُرجمت إلى العربية قد نالت شعبية في القراءة. واللافت، في غياب أيّ إمكانية واقعية لتجربة العلمانية من قبل، أن يقتصر نقاش النخَب السورية، في هذا المجال على الجدل الشفوي حول وضع الحركات في كلمة العلمانية، فهل هي عَلمانية بفتح العين، أم هي عِلمانية بكسرها؟ دون أن يذهب أحد إلى الدلالات.
وهكذا غاب كتاب عزمي بشارة الذي صدر في ثلاثة أجزاء، “الدين والعلمانية في سياق تاريخي”، وكتاب عزيز العظمة “العلمانية من منظور مختلف”، وكتاب صادق جلال العظم “الإسلام والنزعة الإنسانية العلمانية”، وكتاب فرج فودة “حوار حول العلمانية”، وكتاب كمال عبد اللطيف “التفكير في العلمانية”، وكتاب صقر أبو فخر “أعيان الشام وإعاقة العلمانية”. وكلّ واحد من بين هؤلاء المفكّرين لا يقول إنّ العلمانية مُلحدة، أو إنّها ضدّ الدين، كما في التبسيط المُخلّ، والعِدائي، الذي يتسلّح به، بالمعنى الحَرفي للسلاح، وأضراره، أعداء العلمانية الجُدد الذين ظهروا في ساحات التواصل الاجتماعي في سورية بعد سقوط النظام.
ولعلّ كلا الطرفين اللذين يبدوان متعاديَين اليوم (أي أنصار العلمانية، وأعداءها، في سورية) أكثر من أي زمن مضى ـ ذلك لأنّ استحقاقات بناء الدولة أضحت أمامنا في البيت والشارع والوزارة وكرسي الحُكم ـ لم يطّلعا على تجارب العلمانية في العالم، فتطبيقات العلمانية ليست واحدة في جميع الدول، وهناك تجارب متباينة، ومتنوّعة، وغنيّة بالفوائد في أكثر من بلد في العالم.
واللافت أن يتبنّى أعداء العلمانية اليوم المقولات الغربية عن أنّ الإسلام يُعادي العلمانية، والمعلوم أنّ العلمانية لا يمكن أن تُطبَّق في أيّ مجتمع في غياب الديمقراطية، وهذا يعني أنه يُعادي الديمقراطية أيضاً. ولهذا يبدو الأمر مشبوهاً للغاية، حين يشنّ هذا الخليط العجيب من الناس حملة بشعة ضدّ العلمانية، وأن يتّهم كلّ من يرفع شعار الدولة المدنية بأنّه من “فلول النظام البائد”، وهو عَرَض آخر مغرض من أعراض العداء للديمقراطية، إذ لم يكن النظام السوري علمانياً في أيّ يوم، حتى لو حاول أن يظهر كذلك، أو حاول دُعاته من مثقّفين تابعين، ولهُم الدور الأوّل في تشويه المصطلح وتزييفه، أن يؤكّدوا ذلك، لأنّه كان نظاماً قمعياً، استبدادياً، معادياً للديمقراطية، ولا علمانية بدون ديمقراطية. كما لا يمكن للديمقراطية ألّا تكون علمانية، تمنح حرّية الاعتقاد للجميع، ولا تجعل من أيّ دين سلطة، بل إيماناً وعلاقة روحية بين الإنسان وربه.
لا يلاحظ المتحمّسون ضدّ العلمانية، بينما نسعى معاً لبناء الوطن الجديد، أنّهم يستعيدون أسوأ تقاليد السلطة القديمة البالية، أو سياسات حزب البعث الشمولي، في قمع الفكر، أو الحجر على حرّية التعبير.
* روائي من سورية
العربي الجديد
—————————————–
مطبّلو المرحلة… متى ستنتهي هذه العقلية؟/ رشا عمران
27 ديسمبر 2024
في لقاء معه قبل عشر سنوات تقريباً، سئُل الفنّان السوري المُعارِض، جمال سليمان، عن إمكانية ترشّحه لمنصب رئيس الجمهورية فيما لو سقط نظام الأسد، فأجاب إن هذا وارد جدّاً، فهو سوري ومن حقّ أيّ مواطن سوري الترشّح لهذا المنصب، أسوة بالأنظمة الديمقراطية. بعد سقوط نظام الأسد، عاد السؤال نفسه ليُطرَح على سليمان، ولم تختلف إجاباته في كلّ مرة عنها في المرّة الأولى: “الترشّح لمنصب الرئاسة حقّ من حقول المواطن السوري، ونحن نريد بناء دولة ديمقراطية منصب الرئيس فيها يُتداول سلمياً عبر الانتخابات الحرّة والنزيهة”. ولا كلمة ممّا قاله الفنان المعروف، في لقاءاته كلّها، عن هذا الأمر يمكن أن تدينه. على العكس، هو يقول ما نحلم به جميعاً، نحن الذين نريد أن نرى بلادنا حرّةً وديمقراطيةً وعادلةً مع جميع مواطنيها.
لكن فجأة، بعد تصريح له أخيراً عن هذا الشأن، إثر حوار له مع نقابة الصحافيين المصريين حول الأوضاع في سورية، قامت قيامة جزء من السوريين على جمال سليمان كما لو أنه ارتكب إثماً عظيماً. وبدأ الذباب الإلكتروني بتنظيم حملة في مواقع التواصل تستهدفه، وتسيء إليه وتشتمه، شارك فيها (للأسف!) مثقّفون سوريون، وعاملون في وسائل إعلامية سورية يُفترض أنها تُعنَى بالسوريين على اختلاف آرائهم. من حقّ الجميع الاعتراض على أيّ تصريح أطلقته شخصية عامّة مثل جمال سليمان، وتفنيد هذا التصريح أو ذاك، في سياقات النقاشات السورية بشاًن مستقبل سورية، لكن ليس من حقّ أحد التخوين أو التعرّض لسمعة أحد أو الإساءة له، لمُجرَّد أنه يتحدّث عن حقّ من حقوق السوريين.
في زمن الأسدَين (الأب والابن)، كان الحديث عن منصب رئيس الجمهورية بمثابة الجُرم الذي يستحقّ صاحبه العقاب والاعتقال والاختفاء وتشويه السمعة والتاريخ، وحرمان صاحبه من حقوقه المدنية. كان من أهداف نضال السوريين خلال الثورة السورية، وعبر ما يقارب 14 عاماً، الوصول إلى لحظة يتمكّن فيها أيّ سوري من الحديث عن هذا المنصب كما يشاء، ومن انتخاب من يشاء له، ومن أن يحلم أيّ سوري أو سورية بالوصول إلى كرسي الرئاسة من دون أن يخاف من ذلك. لكن ما يظهر من “تشبيح” على كلّ من يفكّر خارج المتوفّر يصيب باليأس حقّاً، ذلك أن هذه الحملات التي تُشنّ ضدّ أشخاص دفعوا أثماناً باهظةً نتيجة موقفهم المؤيّد للثورة، لكنّهم لم يطبّلوا للسلاح والأسلمة طوال الفترة الماضية، وظلّوا محافظين على خطّهم السلمي والديمقراطي، تطلب من الجميع الولاء لسلطة الأمر الواقع بأيديولوجيتها كلّها، وكأنّها قدر آخر سوف يُفرَض على السوريين، وكأنّ زمن الأسد سوف يستعيد نفسه في حلّة أخرى.
هل تلك الأثمان كلّها، التي دفعها السوريون، كانت لاستبدال نظام شمولي مستبدّ محاط بشبّيحة تقتل كلَّ من تسوّل له نفسه التفكير بالاعتراض بنظام آخر، لديه شبّيحة يقتلون معنوياً كلّ من تسوّل له نفسه الاعتراض؟ هل يدرك هؤلاء المطبّلون لهيئة تحرير الشام وحكومة إنقاذها ماذا يفعلون، وأيّ نهج يكرّسون في سورية، التي دمّرتها منظومة مشابهة لم تجلب سوى الخراب والموت والفقر والظلم. لست هنا بصدد الدفاع عن جمال سليمان، فهو لم يقل ما يستوجب دفاعاً عنه، لكن من واجبنا جميعاً التنبيه إلى ضرورة بتر هذه الذهنية التشبيحية، التي تعمل بقصد أو من دون قصد لتكريس استبداد جديد.
في واحدة من أجرأ حلقات المسلسل السوري الشهير “بقعة ضوء”، تستدعي مديرة مدرسة ابتدائية والد طفل سألته معلّمته عن طموحه للمستقبل، فيجيبها بأنه يحلم أن يصبح رئيس جمهورية. تقوم قيامة المعلّمة وإدارة المدرسة ووزارة التربية، ويُستدعى والد الطفل ويُوبَّخ، ويُطلَب منه معاقبة ابنه وإعادة تربيته تربية صالحة خاليةً من الطموح السياسي. … هل ستعود هذه السردية لتكون الوحيدة في المجتمع السوري؟ هل سنعود إلى الخوف من طرح آرائنا وأفكارنا ومخاوفنا وأحلامنا وغضبنا ممّا نرى ونعيش، كي لا نثير حفيظة الحكّام الجدد وشبّيحتهم، أم أن هؤلاء سوف ينتبهون قريباً إلى طريقتهم في تدمير منجز النصر والثورة ووأد الحرية الوليدة، قبل أن تتمكّن سورية من التقاط أنفاسها؟
العربي الجديد
—————————————–
في ضرورة نبذ “المكوّعين” ومرتزقة المواقف/ أسامة أبو ارشيد
27 ديسمبر 2024
تؤكّد الدراسات البيولوجية الحديثة أن الفكرة السائدة بأن بعض الحرابيَّ (من حرباء) تُغيّر لونها طوعياً لتتماهى مع محيطها، فيصعب تمييزها، ليست قاعدةً مطلقةً بالضرورة، بل إنها الاستثناء لا الأصل هنا، وأن ثمَّة أسباباً فيزيائية وفيزيولوجية أخرى تفسّر تلك الظاهرة. ليس الهدف من هذا المقال الغوص في علم الأحياء، وهو مجال على أيّ حال خارج تخصّص كاتب هذه السطور، إذ تكفينا المعلومة، إمّا للبناء عليها أو لإسقاطها على تجربتنا وخبرتنا البشرية السلوكية، لا البيولوجية طبعاً. من ذلك ما نشهده من سيل جارف في تبدّل مواقف فنّانين ورجال دين وسياسيين ومثقّفين في سورية، من النقيض إلى النقيض، منذ الثامن من ديسمبر/ كانون الأول الماضي، أيّ يوم انهيار نظام بشّار الأسد، وهروب “الزعيم الممانع” خارج البلاد ناهباً ما استطاع من أموال وذهب، تاركاً وراءه مجرمي “الأسد أو نحرق البلد” في مواجهة مصيرهم المحتوم.
يطلق السوريون على هذه الحالة “التكويع”، وهي لمن كانت عنده بقايا كرامة ذلٌّ ومهانةٌ لا يقدر على التعايش معهما إلّا من استمرأهما. ولا نعلم ما إذا كانت تلك الشريحة من “المكوّعين” تصدّق أكاذيبها التي تطلقها ألسنتها عن أنهم إما كانوا ثواراً مُتخفّين، أو أنهم كانوا رهائنَ الخوف، أو أنهم كانوا من المُغرَّر بهم، إذ إنّنا نتحدّث عن كثير منهم، ممّن أتقن ومارس “فنَّ التشبيح”. نعلم أن الناس لا تصدّقهم، ولكن بعضاً من “المكوّعين” أو “الشبّيحة” ربما يكون قد وصل لحالة من التماهي مع الكذب فأصبح يُصدِّق كذبَه، ويعيشه واقعاً لا وهماً فحسب، وهم بذلك يتفوّقون على الحرباء التي يتغيّر لونها رغماً عنها بيولوجياً، في حين تتغيّر ألوانهم ومواقفهم عن وعيٍّ وسبق إصرار وترصّد. ومع ذلك، ينبغي أن نلاحظ هنا أن الحرابيَّ أذكى منهم، إذ إنّها لا توهم نفسها بأن محيطها يُصدِّقها عبطاً وتياسةً.
يقارب القرآن الكريم ظاهرةَ تغيّر مواقف بعض من رضوا واستطابوا حياة الذلِّ والتبعية والتواطؤ والشراكة في الجريمة، ومحاولتهم تبديل ألوان جلودهم، لا من منطلق القناعة بل لأنهم مرغمين كارهين، على أنه إعلان براءة كاذبة: “وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ. إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ. وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا ۗ كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ” (البقرة: 165-167). في السياق الربانيّ الأخرويّ لن تكون لهؤلاء كرّة أخرى. لكن، في سياق خبرتنا العربية المعاصرة نعلم أن كثيراً من “المكوّعين” الذين خرجوا في شاشات التلفزة في خضمّ “الربيع العربيِّ” الموءُود، ذارفين الدمع أنهم كانوا مرغمين (أو مكرهين) على مولاة الطاغية، أو حتى مُغرَّراً بهم، أنه حينما أتيحت لهم كرّة أخرى عادوا أكثر لؤماً وانحطاطاً وتشبيحاً وتحريضاً على القمع والفساد وسفك الدماء. راجعوا كثيراً من مواقف هؤلاء في مصر وتونس وغيرهما من الدول، ما بين عهود أنظمة القمع، فالثورة عليها، ثمَّ الثورات المضادة.
هذا من حيث التوصيف والتقويم، ولكن، يا ترى، ماذا عن الطغاة وما ينبغي لهم أن يتعلّموه، إن كانوا يتعلّمون أصلاً؟ كيف يمكن لطاغية أن يثق بمن يتملقونه طمعاً بذهب السلطان أو خوفاً من سيفه، وهو يعلم أنهم جاهزون للانقلاب عليه مع أوّل تغيّر في موازين القوى؟… لقد خَبِرَ زين العابدين بن علي ذلك من قبل. وخبره أيضاً حسني مبارك، وعلي عبد الله صالح، ومعمّر القذافي، ثمَّ لحق بهم بشّار الأسد. وقد خبره قبلهم كثيرون، وقطعاً سيتجرع سُمَّه آخرون بعدهم. ترى، لو أتيحت الفرصة لمن فقد سطوته وصولجانه أن يعود إلى الحكم مرّة أخرى ماذا تراه كان فاعلاً بـ”المكوّعين”؟ وإذا كانت المصلحة تقضي بالحفاظ عليهم، فكيف سيعاملهم؟ مرّة أخرى، إن الطاغية لا يَعتبِر من قدرة سكرة السلطة في إعمائه عن رؤية الحقائق.
أمّا من زاوية “الشبّيحة” أنفسهم، و”المكوّعين”، سواء كانوا رجال دين، أم مفكّرين، أم سياسيين، أم فنّانين… إلخ، أترى تكون رسالة الدرس السوري وصلتهم أم لا؟ يشكّ الكاتب في ذلك، فحتى هؤلاء هم في سكرتهم يعمهون. إن الذي لديه قابلية أن يُطوِّعَ ما يراه ديناً أو مبدئاً أو موقفاً في سبيل مصلحته ومنفعته ينطلق من سجيّته الحقيقية وغريزته الطبيعية، ومن ثمَّ فهو سيبقى يتقلّب ويتلوّن حسب المعطيات المُستجدِّة مُتكيّفاً مع أيّ بيئة جديدة.
يقودنا هذا إلى موقفنا نحن الشعوب. التسامح لا يعني دوماً العفو والنسيان، والانتقام لا يعني دوماً البطش، بل قد يكون في الإهمال والازدراء والنبذ. لا تنخدعوا مرّة أخرى بـ”المكوّعين”، ولا تسمحوا لقنوات تلفزيونية، معروف من يقف وراءها في معسكر الثورات المضادّة، أن يلّمعوهم في وعيكم وضمائركم من جديد. لا ترفعوا لـ”مكوّع” خسيسته، ولا تقيلوا لاعتذاريٍّ عن نظام مجرم عثرته. دعوهم يختنقون بعار ذلّهم وانكسارهم، ولا تصدّقوا مزاعم توبتهم ولوا رأيتموهم متعلّقين بأستار الكعبة. ربّهم أعلم بنواياهم، إن أراد أن يغفر لهم في الآخرة أم لا فهذا شأنه، وأمره جلَّ وعلا، أمّا نحن فلا نحكم إلا على ظاهر أفعالهم، وكما تمتّعوا بشراكتهم مع الطغاة، فليدفعوا الآن، أو حين يحين السداد، ثمن جرائمهم.
العربي الجديد
—————————–
سورية ملعباً تركيّاً؟/ معن البياري
27 ديسمبر 2024
ذاع وصفُ تركيا في الأسبوعين الماضيين أنها الرابح الأكبر في سورية بعد إطاحة نظام الأسد وهزيمته الكاملة أمام فصائل المعارضة المسلحة، وشاع عن إيران أنها الخاسرُ الأكبر هناك. ولأن في القوليْن صحّةً ووجاهةً، فإن مََراراً يختلج في حشايا المواطن العربي، مردُّه أن سورية، البلد الذي ظلّ يوصف مركزياً في الأمة العربية، وفي صراعها مع المشروع الصهيوني، بل وفي رهانها الحضاري البعيد أيضاً، صار، منذ سنوات، ساحةً لرابحين وخاسرين، ملعباً تتبارى فيه دولٌ في الجوار والإقليم وفي أبعد منهما، بجيوشٍ ومليشياتٍ ومخابرات، وباستباحات سلاح الجو الإسرائيلي شبه اليومية. ولم يكن شيءٌ من هذا كله ليكون لو حصّن الأسد الأب الدولة التي بناها، أو أعاد بناءها على مقاسات أجهزته وخياراته، بمقادير من العدالة والرّشد والحكامة واحترام آدميّة السوريين، ولم يشكّلها جمهورية خوف، ولو أدرك نجلُه، سيما بعد لحظة 2011، أن الدولة التي فرض على السوريين رئاستَها ليس في مكَنتها أن تستمرّ، فيما اهتراءُ دواليبها العسكرية المهنيّة المؤسّساتية، وتآكل منظوماتها العامّة، لا ينفكّان يُسرعان، إلى مدىً فوجئنا بهوْل فداحته، لمّا تكشّف، على الهواء مباشرة على الشاشات، أن جيش الدولة لم يعُد جيشاً، وأن الأخيرة ليست دولةً تماماً، فهبط عسكر هيئة تحرير الشام ومن معهم إلى دمشق من حماه وحمص منتصرين على لا أحد، فصار صحيحاً قول عزمي بشارة إن الجيش شريكٌ في خلع نظام الأسد، عندما لم يُحارب هؤلاء. وأيضاً، لمّا دلّت الأيام العشرون الماضية على أن النظام المُنصرف لم يترك وراءَه دولةً عميقة، على ما صحّ قولٌ آخر لبشارة.
كان طبيعيّاً أن تخلو سورية، الملعب، من الخاسرين، من إيران ومليشياتها وأذرعةٍ لها، من بقايا حزب الله، وأن يغادر الروس إلى ليبيا وغيرها. وكان بالغ السفالة، وساطع الدلالة على هوانٍ عربيٍّ بلا قيعان، أن يُجهِز سلاح الجو الإسرائيلي، في أنشط عملية له منذ 1967، على قدرات الجيش السوري. ولمّا كان من البديهيّ، ربما، أن تزهو تركيا بالمشهد السوري الجديد، إذ يجعلها “رابحاً أكبر” فإن أكثر من نقطة نظام ستطلّ في الأثناء، لا تتعلق أيٌّ منها بالبهجة التركية المنظورة، ولا ببحث أنقرة عن مصالحها الحيوية في سورية ما بعد الأسد، فهذا وتلك من طبائع الأمور. وإنما لأن ثمّة إحساساً، له ما يبرّره، بأن أنقرة تعمل على ما يتجاوز المصالح الطبيعية إلى دورٍ نافذٍ على السلطة السياسية قيد البناء في البلد. وإذا صحّ أن الرئيس أردوغان ينوي زيارة دمشق بعد أيام، فيصلي في الجامع الأموي، فستكون زيارةٌ مبكّرةٌ من هذا النوع رسالة تُبلغ الإقليم والجوار إن لتركيا حصّةً وازنةً في سورية المرتبكة الغامضة حاليا، المأمول أن تكون، لاحقاً، مستقرّة وواعدة ولكل ناسها. وذلك مع التسليم المؤكّد بصدق النيات التي عبّر عنها أردوغان، الثلاثاء الماضي، ومنها أن بلاده سقدّم كل عوْنٍ للشعب السوري. والمحسوم أن هذا الشعب يحفظ امتناناً خاصّا لما أسعفتهم به الدولة التركية، وهي الجارة القوية والناهضة، في سنوات محنتهم الأربع عشرة الماضية، كما أن نُخبَه في قوى المعارضة لن تنسى الدور الخاص لتركيا في إسنادها سياسياً وإعلامياً.
ولا يجانب واحدُنا الصواب لو جهر باسغرابه (ودهشته ربما) من مسارعة تركيا، على لسان وزير النقل والبنية التحتية، عبد القادر أوزال أوغلو، إلى إعلان أن بلادَه تعتزم بدء مفاوضاتٍ مع سورية لترسيم الحدود البحرية. ولئن يذهب الاستغراب إلى ما قد ينمّ عنه هذا القول من “لهفةٍ” إلى هذا الترسيم الذي يُجيز لسائلٍ أن يسأل عن السبب الذي جعل أنقرة تعتصم عن مفاوضة نظام الأسد بشأنه، إبّان كان الأخيران (الأسد ونظامه) صديقيْن لتركيا في العقد الأول من الألفية الراهنة. بل وكان في الوسع أن تفاوضه في سنوات التوتّر المعلومة التالية، سيّما وأن الوزير أوضح أن أيّ اتفاقٍ في هذا الخصوص مستقبلاً سيكون متوافقاً مع القانون الدولي. … أيقظ غضب اليونان من هذا الكلام مخاوف “تقليدية” من نزوعاتٍ تركيةٍٍ في المنطقة، سيّما وأن الإرث بين البلدين غير طيّب. ومع افتراض الجانب السوري حُسن النية في الجهر التركي بهذا الأمر، إلا أن للمعلّق أن يطرح بعض أسئلةٍ استفهاميةٍ (وغير استفهامية؟) بشأن الصورة التي ستكون عليها العلاقات السورية التركية، في المستقبليْن، المنظور والقريب، سيّما وأن زمناً ليس قصيراً سيحتاجه بناء الدولة السورية المشتهاة، والتي يُؤمل أن لا تبقى ملعباً، لا لرابحٍ أكبر ولا لغيره.
العربي الجديد
——————————
سنة التحولات الانقلابية/ عارف العبد
الجمعة 2024/12/27
لو ان السؤال طرح في نهاية العام 2023، عن ما يمكن ان يحمله العام المقبل- الراحل 2024، فمن المؤكد، انه ما من أي فرد او عقل او مركز للدراسات، او الأبحاث، كان قادرا على استشراف وتوقع حدوث ما وقع من احداث مهمة، ومفصلية واساسية في العام الماضي.
فما من شك، ان السنة الماضية في احداثها ووقائعها، على مستوى لبنان والمنطقة، حملت وقائع هائلة، وكاملة الصفات الثورية الانقلابية، لناحية كمية التغيير التي أصابت بسببها المشهد العام ومكوناته الاجتماعية السياسية وعلى وجه الخصوص في لبنان وسوريا وفلسطين، مما قد يفتح أبواب التغيير في المنطقة على معطيات ومعادلات جديدة.
عمليا أصاب الانقلاب الكامل، لبنان وسوريا وفلسطين بشكل دراماتيكي. ونحن في قلب احداث لم تنته فصولا، بل في بداية مرحلة جديدة كاملة الجدة، والتحول في اتجاهات لا احد قادر على تحديدها وتوجيهها، ولو ان معالمها وسماتها قد ظهرت وارتكزت على اندفاعة في توسع نفوذ المشروع الاميريكي الاسرائيلي بتوجهاته الصهيونية، في لبنان وفلسطين وسوريا الجولان المحتل، بالتوازي مع تلقي ايران والقوى الحليفة لها ضربات متتالية اعادتها عشرات السنوات الى الوراء.
لبنان الذي كان يخضع للوصاية الايرانية باشراف وادارة امين عام حزب الله السيد حسن نصرالله، تحول الى منطقة نفوذ امريكية تشرف عليها لجنة امنية دولية برئاسة ضابط اميريكي مقيم في بقعة عوكر بدلا من عنجر، قادر على تحريك وامرة كل صنوف الأسلحة الإسرائيلية الجوية والبرية والبحرية القابلة للاستخدام ساعة يريد ويرى ذلك ضروريا.
واذا كانت الموجة السياسية الايديولوجية التي ولدها وصول الامام الخميني، الذي قبض على السلطة في ايران في العام 1978، انطلقت وانتشرت وتوسعت بتاثيرها المباشر في دول عديدة في المنطقة، لاستعادة مجد امبراطورية فارسية غابرة. فان ايران باحلامها لاستعادة امجادها الامبراطورية، كانت قد تحكمت باربع عواصم عربية، وصولا الى مواقع نفوذ وضغط وتاثير على شاطئ شرقي البحر الأبيض المتوسط وحوضه، بما فيها رمال جزيرة قبرص، فان ما جرى خلال الأشهر الماضية قد يكون بداية انحسار موجة الخميني ولاية الفقيه خارج حدود ايران، وعودتها مع تاثيراتها، الى داخل طهران وقم وليس خارج اسوارها، مع ما يعني ذلك من ارتدادات وتاثيرات ومفاعيل.
اهمية التطورات التي شهدها ويشهدها لبنان، في هذه الفترة تمت وتتم، بالتوازي مع تقهقر العهد الأميريكي الديمقراطي، ممثلا بالرئيس الصهيوني الهوى جو بايدن حسب إعلانه، ووصول الرئيس المساند لاسرائيل التوسعية ايضا، لكن صاحب التصرفات الغريبة والراديكالية والمصافحات والخطوات الغير متوقعة دونالد ترامب.
صحيح ان إسرائيل لم تتمكن، ولن تتمكن بسهولة اذا ما ارادت من القضاء على حزب الله في لبنان. لكنها بالتأكيد قد اعادت الحزب كذراع ايرانية سنوات الى الوراء. وعطلت إمكانية ان يتحكم الحزب عبر صواريخه الدقيقة وبعيدة المدى، بخطوط الملاحة و تبادل وإنتاج النفط والغاز والثروات في حوض البحر المتوسط نيابة عن ايران ولاية الفقيه.
لقد نجحت إسرائيل، في توجيه ثلاث ضربات استراتيجية وعميقة في بنية حزب الله خلال الحرب الماضية .
الأولى : تمكنها من اغتيال قائد محور أذرع المقاومة المدعومة من إيران في المنطقة، عبر اغتيال امين عام حزب الله السيد حسن نصرالله ووريثه الذي كان معدا، السيد هاشم صفي الدين، وعدد كبير من قيادات الحزب وكوادره العسكرية في الصفين الأول والثاني.
ثانيا: كشف واختراق اغلب أوجه وطبقات تركيبة الحزب التنظيمية والقيادية بدليل فداحة وعمق ما خلفته ومثلته عملية شراء وتسويق وتفخيخ أجهزة البيجر وأجهزة اللاسلكي وتفجيرها، وما تركته من اثار مباشرة عملية ونفسية في الحزب. إضافة الى تدمير قسم كبير من مراكز ومخازن ومستودعات الحزب العسكرية وملاحقة واغتيال عدد كبير من كوادر النخبة المتقدمة، واختراق صفوف الحزب وصولا الى اختراق وكشف أغلب المنظومة التنظيمية.
ثالثا : قطع طريق امداد السلاح والذخيرة بالطرق الوسائل السهلة واليسيرة والوافرة، عبر قطع طريق الامداد من طهران الى العراق، مرورا بسوريا وصولا الى لبنان.
من المؤكد ان الحزب، سيتمكن من تهريب كميات جديدة من الأسلحة، لكن الكميات الكبيرة بالامكانات الوفيرة، والمفتوحة السابقة، لم تعد ممكنة او متيسرة.
جوهر الضربات، التي وجهتها اسرائيل لحزب الله، تكمن في اسقاطها منطق وخطاب الردع والحماية للبنان. فلا اسرائيل باتت مرتدعة، عن العدوان، ولا لبنان والجنوب باهله، محمي من سلاح الحزب.
العامل الاساسي والكبير، الذي احدث فرقا بين معارك الامس واليوم، ان الحزب خاض معركته بذهنية العام 2006 ، فيما خاضت اسرائيل حربها وتخوضها، بذهنية وادوات العام 2030.
لقد غيرت اسرائيل عقيدتها الحربية والقتالية في لبنان والمنطقة، فيما الحزب استمر على عقيدة الماضي، بما يحمله من تاثيرات غيبية محدودة ومتصلة بماضوية ضيقة، قاصرة عن مواكبة المستقبل والقادم من الايام.
التغيير والتحول الأكثر دراماتيكية، تمثل، بالتغيير الأكبر والافدح والاعمق، عبر سقوط نظام ال الأسد الاجرامي بما يعنيه من صيغة سياسية حاكمة، وطائفية متحكمة ومسيطرة، على عاصمة الامويين، بعد فرار رئيسه وبعض أعوانه مع اموالهم ومنهوباتهم الى خارج سوريا.
ان وصول احمد الشرع، بعد انقلابه على “ابو محمد الجولاني”، على رأس إدارة فصائل “هيئة تحرير الشام” الى قيادة المرحلة الراهنة في سوريا، بلحية مشذبة وربطة عنق مدروسة اللون، يفسح المجال لافتراضات متعددة بما قد تحمله الأيام المقبلة في حال استمرار نجاحها وتقدمها واحكام سيطرتها على سوريا الجديدة في المستقبل.
ان هذا الاتجاه المنطلق من دمشق، من شانه ان يفتح باب التغيير الواسع والإيجابي في المنطقة ككل، ولبنان على وجه التحديد. الى حدود غير معروفة وغير مسبوقة، من التطور والاحتمالات المتعددة على مختلف المستويات، والذي لم يسبق ان خبره او عرفه بلدنا، عبر مراحل تاريخه السياسي القديم والحديث.
ماذا سيحدث في سوريا وكيف ستستقر الامور، بعد هذا التحول الانقلابي الكبير، وما هو الانعكاس على المنطقة ولبنان في المسقبل؟
هذا ما سننتظره ونتابعه بفارغ الصبر والتلهف في القادم من الايام!
المدن
———————————
مهند قطيش في سجن صيدنايا: فنانو سوريا كضحايا للاستبداد/ مصطفى الدباس
الجمعة 2024/12/27
بعد حوالى عشرين عاماً من اعتقاله لثلاثة سنوات بين العامين 2002 و2005 في “سجن صيدنايا العسكري”، خرج الممثل السوري مهند قطيش عن صمته وتحدث بالتفصيل عن تجربته القاسية مع الاعتقال في مقابلة مع قناة “المشهد” المصرية، في وقت يغيب فيه الفنانون المعارضون عن معظم الشاشات العربية، التي تفضل استضافة ممثلين كانوا داعمين لنظام الأسد ولمعوا صورته، بدلاً من تقديم القصص الصحافية الحقيقية التي تستحق تسليط الضوء عليها اليوم، كقصة قطيش.
وكشف قطيش أن السبب الحقيقي لاعتقاله كان مقالات صحافية كتبها وانتقد فيها نائب الرئيس السوري السابق عبد الحليم خدام، حينها. كما كتب قطيش مقالات تحت اسم مستعار تناول فيها مسائل حساسة، مثل حياة مجد الأسد، شقيق الرئيس المخلوع بشار الأسد. وأوضح قطيش أن النظام عمد إلى تسريب شائعات كاذبة تدعي أنه يعمل جاسوساً لإسرائيل لتبرير اعتقاله أمام الرأي العام، وهي شائعة انتشرت حينها بشدة بين السوريين، بشكل يظهر كيف كانت المخابرات والأجهزة الأمنية تعمل على التحكم بالرواية، حتى على الصعيد الشفهي، لأن قصته حينها لم تنشر حتى في وسائل الإعلام الرسمية، مثلاً.
لم يعرف قطيش بهذه التهمة الملفقة إلا بعد تحويله إلى “سجن صيدنايا”، حيث أخبره السجناء هناك عنها. وكان هدف النظام من تسريب وترويج تلك الشائعات منع أي تعاطف شعبي مع قطيش، بالإضافة إلى محو اسمه وتدمير مسيرته المهنية بشكل كامل، بالتوازي مع تقديم النظام لبطشه الأمني كأسطورة شفهية تخلق الرعب من دون وجود حتى إثبات بشأنها.
وأوضح قطيش أنه مع تولي بشار الأسد السلطة العام 2000 ووعوده بالإصلاح، صدق مع زملاء له أن زمن الحريات قد أتى. لكنهم صُدموا بأن التغيير اقتصر على الشكل الخارجي لرجال الأمن الذين بدوا أكثر أناقة، بينما أصبحوا أكثر قسوة وعنفاً، في إشارة للانفتاح النسبي الذي حاول النظام بعد وفاة حافظ الأسد تقديمه، وإتاحة المجال للإعلام الخاص بالعمل، وغيرها من الوعود التي قدمها بشار في خطاب القسم ووعوده للمجتمع الدولي، التي تبددت كلها في غضون أشهر قليلة، مع القمع الذي طال المثقفين والحريات، فيما أطلق يد الجهاديين والإسلاميين حينها وسمح بحرية تنقلهم إلى العراق لـ”الجهاد” هناك، مع خوفه من أن يكون التالي على لائحة الطغاة الذين تريد واشنطن إسقاطهم في الشرق الأوسط بعد زميله في الدكتاتورية صدام حسين.
وقصة قطيش محزنة فعلاً، ويمكن تلمس القهر والانكسار في صوته المرتجف خلال اللقاء وعيونه التي تخلو من الحياة، مع تذكره تفاصيلاً مروعة عاشها طوال 33 يوماً في فرع المخابرات، حيث وصف التعذيب الوحشي الذي تعرض له، موضحاً أن التحقيق كان يتم على يد أربعة ضباط، كانوا يتناوبون في سؤاله في الوقت الذي يقوم السجان بعد تلقي الأوامر منهم بتعذيبه. وأشار إلى الأساليب اللاإنسانية في التعذيب وذكرياته عن تعذيب المعتقلين الآخرين الذين كانوا يجبرون على الركض في بهو السجن لمنع احتباس السوائل في أرجلهم بسبب الضرب الشديد، لأن النظام لم يكن يريد أن يقتلهم بل كان يريد فقط إطالة أمد التعذيب الوحشي بحقهم لأقصى فترة ممكنة، قبل تحويلهم إلى المحاكم العسكرية التي تقضي بإحالتهم إلى السجون سيئة السمعة حيث يصبح التعذيب هناك ممنهجاً أيضاً.
وتحدث قطيش عن الخوف الشديد الذي كان يشعر به عند سماع أصوات السجناء يتعرضون للتعذيب، وروى كيف تم استجوابه من قبل العميد أنور رسلان المدان في ألمانيا بالسجن المؤبد بسبب جرائم التعذيب وجرائم الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان في سوريا، في فرع أمن الدولة، حيث كان يناديه باسم “سلمة”، وهو اسم شخصية سلبية، أداها قطيش في مسلسل “الزير سالم” التاريخي الشهير.
وتحدث الممثل الذي شارك في بطولة مسلسلات نالت شهرة عربية واسعة أواخر التسعينيات ومطلع الألفية، عن كيفية تشويه النظام لسمعته بشكل ممنهج، حتى أصبح الناس يخشون ذكر اسمه، وأوضح أن تحويله إلى “سجن صيدنايا” ومحاكمته أمام محكمة أمن الدولة كانا جزءاً من محاولات النظام لاستخدامه كعبرة لأهالي السويداء التي ينحدر منها، ولغيره من الفنانين أيضاً.
وطوال عقود، اشتهر النظام السوري باستخدامه الممنهج للفن والفنانين كوسيلة لتلميع صورته أمام الداخل والخارج. كان الفنانون إما أداة دعاية في يد النظام أو أهدافاً للقمع إذا ما تجرؤوا على الخروج عن النص الرسمي، وكان عليهم تقديم فروض الطاعة في كافة المناسبات الوطنية، بما في ذلك التقاط الصور التذكارية مع الأسد “راعي الفن” والويل لمن يرفض الدعوات التي كانت ترسل إليه للتوجه إلى القصر من أجل لقاء الرئيس المخلوع، مع تحويل المسلسلات إلى أداة ناعمة في يد السلطة، لإيصال الأفكار للشعب وتحديد السردية المطلوب تبنيها في لحظة معينة، أو الإيحاء بوجود مناخ للحريات عبر مسلسلات ناقدة يتم التحكم فيها أصلاً.
وكان النظام ماهراً في استغلال الإعلام والفن لتشكيل وعي محدد لدى الجماهير، عبر روايات مضللة، صورت المعارضين أو الناقدين للنظام وأتباعه كخطر على الأمن القومي، وتم ربط النقد بالخيانة. هذا التلاعب لم يعزز فقط ثقافة الصمت والخضوع، بل جعل من القمع أداة مقبولة ضمنياً لدى البعض، بحجة الحفاظ على “الوطن” بوصفه قيمة مقدسة، وهو مفهوم سام ومؤذٍ ولا يتواجد أصلاً في الدول التي تتواجد فيها حقوق المواطنة للجميع، لأن الوطن بالمفهوم الدكتاتوري يفقد معناه ومضمون اسمه ويتحول إلى مزرعة يعيش فيها السادة والعبيد جنباً إلى جنب، لا أكثر، كحال سوريا الأسد تماماً.
وتحكم الأسد المخلوع بشكل كامل في كافة مفاصل الإنتاج التلفزيوني، ولم يمر أي عمل درامي أو إنتاج فني من دون موافقة الأجهزة الأمنية، التي كانت تعمل كرقابة مشددة على الممثلين والكتاب، لضمان عدم خروج أي عمل عن سيطرة النظام. وحتى الممثلون الموالون للنظام كانوا يعانون من تلك الرقابة. وحتى الممثل الأول للنظام دريد لحام قال في تصريحات صحافية مؤخراً: “في أحد المسلسلات كتبتُ حواراً بين حمارٍ وإنسان يشكو فيه الحمار من أنه مظلوم ويعمل كثيراً لينال القليل من التبن، فيما الحصان يركض ربع ساعة ويحصل على الدلال والاهتمام”، في إشارة لمسلسل “عودة غوار” الشهير، مضيفاً: “الرقيب منع تلك المقارنة بين الحمار والحصان، مبرراً ذلك بأن باسل الأسد يحب الأحصنة، ولا يجب بالتالي انتقادها”، ما يعطي انطباعاً عن سقف الحريات غير الموجودة أصلاً في البلاد.
وعمل النظام على تحويل الفنانين والمثقفين إلى أمثلة لترهيب المجتمع، ولم تكن تجربة قطيش فريدة، بل كانت جزءاً من منظومة أكبر تستهدف إبقاء الجميع تحت السيطرة. كان الهدف هو إرسال رسالة واضحة أن لا أحد بمنأى عن قبضة النظام، حتى أولئك الذين يظهرون على الشاشات ويرسمون الابتسامات على وجوه الناس.
وذكر قطيش كيف اتهم النظام شقيقه بتهمة “التمويل”، حيث كان شقيقه يعمل في الإمارات ويدعم عائلته مادياً، كما يفعل كل السوريون الذي يعملون في الخارج، واعتقل في سجن صيدنايا لأربع سنوات. كما أشار قطيش إلى معاناة زوجته التي كانت تبحث عنه من دون جدوى، وكيف تخلى عنه أصدقاؤه خوفاً من التعرض للمصير نفسه. وبعد إطلاق سراحه، استمر النظام في استهداف قطيش عبر منعه من السفر أو الخروج إلى الإعلام. وكان يحظر عليه المشاركة في أي مقابلات أو برامج تلفزيونية تتناول قضيته ومنع من العمل في المجال الفني، وذكر قطيش أن هذا الحصار المهني والاجتماعي كان بمثابة سجن آخر، حيث تم تقويض قدرته على العودة إلى حياته الطبيعية أو متابعة مسيرته الفنية.
ولم تكن تجربة قطيش فردية، بل شهدت الساحة الفنية السورية حالات مشابهة لفنانين ومثقفين تم اعتقالهم أو نفيهم بسبب تعبيرهم عن آرائهم، كالمخرج السينمائي محمد ملص الذي تعرض للتضييق والمنع من العمل بسبب مواقفه المعارضة، والفنانة مي سكاف التي أصبحت رمزاً للمقاومة الثقافية واستمرت في التعبير عن آرائها السياسية حتى وفاتها في المنفى، والممثلة سمر كوكش التي اعتقلت بتهمة دعم الإرهاب بسبب تقديم مساعدات إنسانية لأطفال في مناطق المعارضة، وقضت في السجن خمس سنوات قبل أن تخرج لتواجه قيوداً اجتماعية ومهنية فرضها النظام عليها.
ومن بين هؤلاء أيضاً الممثل مكسيم خليل الذي اضطر إلى مغادرة سوريا بعد دعمه العلني للثورة السورية، حيث تعرض لحملات تشويه ممنهجة وتهديدات مستمرة. كما تم اعتقال الممثلة ليلى عوض لفترة قصيرة بتهمة “إثارة الشغب” بسبب مشاركتها في مظاهرات سلمية، ما أدى إلى منعها من العمل في المجال الفني داخل سوريا، والممثلة يارا صبري التي وقعت على بيان الحليب، لايصال المساعدات الإنسانية إلى المحاصرين في مدينة درعا العام 2012 وتعرضت للتهديد ما اضطرها للسفر إلى كندا مع عائلتها.
ولم يقتصر الأمر على الفنانين فقط، بل شمل أيضاً شخصيات عامة مثل الكاتب والصحافي ميشيل كيلو الذي نُفي بسبب مواقفه المعارضة للنظام والمعارض والكاتب السوري الراحل لؤي حسين الذي اعتقل بسبب مقاله كتبها، وكانت تهمته “وهن عزيمة الأمة”. هذه الأمثلة تعكس حجم القمع الذي استهدف كل من حاول التعبير عن رأي مخالف، سواء كان ذلك من خلال الفن أو النشاط العام.
ومن بين أبرز التجارب التي عكست معاناة المعتقلين والمثقفين السوريين في السجون كتاب “القوقعة.. يوميات متلصص” للكاتب مصطفى خليفة، الذي روى تجربته في “سجن تدمر العسكري”، ومنعت الرواية من دخول سوريا، و”بالخلاص يا شباب.. 16 عاماً في السجون السورية” لياسين الحاج صالح الذي وثق فيه معاناته كسجين سياسي، هي اعمال تعتبر جزءاً من أدب السجون السوري، الذي حاول تقديم شهادات صادقة عن وحشية النظام.
ولعل قصة قطيش توضح كيف أن قمع النظام لم يكن طارئاً بعد العام 2011 كرد على الثورة السورية كما يتخيل البعض، بل هو قمع طويل ويعود إلى سبعينيات القرن الماضي وسيطرة عائلة الأسد على السلطة في انقلاب عسكري، ويمكن تذكر قصة الممثل عبد الحكيم قطيفان الذي اعتقله نظام الأسد الأب العام 1983 لمدة 9 سنوات قضاها في سجن صيدنايا المركزي أيضاً.
والحال أن القمع الممنهج للفنانين لم يؤثر فقط على حياتهم الشخصية، بل ترك أثراًعميقاً على المشهد الثقافي السوري، وأصبحت الدراما السورية أداة دعائية للنظام، خالية من التنوع والإبداع، مع تركيزها على تمجيد القيادة وتصوير المعارضة كخطر يهدد البلاد. وكان الفنانون يعملون تحت رقابة مشددة تُفرض على النصوص والإنتاج، ما حد من قدرة الدراما على التعبير عن الواقع السوري أو تناول قضايا اجتماعية وسياسية بحرية، مهما حاول فنانو البلاد تقديم مسلسلاتهم الخاصة على أنها “مرآة للواقع” و”منتج ثقافي فريد من نوعه في المحيط العربي”.
وأصبحت الأعمال التاريخية أو أو الفانتازيا هي الأكثر انتشاراً، مع تفريغ الكوميديا من مضمونها وتحويلها إلى نمط التهريج. وكانت تلك الأنماط أقل عرضة للتصادم مع الخطوط الحمراء التي وضعها النظام. ورغم ذلك، حاول بعض الكتاب والمخرجين، من خلال محاولات متواضعة، تضمين نقد مستتر أو أفكار معارضة للفساد، ما كان يظهر بشكل غير مباشر في الحوارات أو سياق القصص التي لا يفهمها الرقيب الغبي، بحسب شهادات لفنانين تحدثوا عن ذلك بشكل مفصل منذ العام 2011.
المدن
——————————–
العودة إلى دمشق: عشوائية جرمانا وحميمية باب توما (3)/ يوسف بزي
الجمعة 2024/12/27
هي رحلة مؤجلة منذ 20 عاماً إلى المدينة التي وقعت في غرامها وكرهت حالها في آن معاً، منذ زيارتي الأولى عام 1988. آنذاك، كانت المدينة المترامية التي تغلب عليها أناقة الماضي والإلفة والسهولة، تهيمن عليها أيضاً مشاعر قابضة للأنفاس. بعد جزء أول، وثانٍ، هنا الجزء الثالث:
أمام مجلس الشعب المقفل، لا أحد. أتسامر مع أصحاب المحلات الذين يرددون “خلصنا والحمدالله: إذا كان واحدنا نطق بكلمة دولار، من الممكن أن يعتقل لسنوات”. يأتي صوبي شاب يجر حقيبة سفر، تدل ملامحه وهندامه وقصة شعره أنه مغترب، سائلاً بلهجة سورية واضحة عن عنوان فندق. فيجيبه صاحب المحل Welcome..Welcome.
هذا الشاب أشبه بالسنونوة الأولى. فسوريا تنتظر شباب ربيعها الذين لا بد سيأتونها بعشرات الآلاف، حاملين معهم علمهم ومهاراتهم وحيويتهم وخبراتهم وما اختزنوه من اختبارات ثقافية وحضارية ومدنية، شديدة التنوع، خصوصاً منهم الآتين من أوروبا، هم الذين تهجّروا إليها وكانوا أطفالاً، واكتسبوا معارف وقيماً وأفكاراً. هؤلاء سيشكلون على الأرجح “قفزة” اجتماعية وثقافية واقتصادية، أشبه بتعويض نسبي عن فداحة وأهوال اللجوء والنزوح والنزيف الديموغرافي الذي سببته حرب الأسد على الشعب السوري. ستربح سوريا جيلاً معولماً وسيكون تأثيره جوهرياً في صوغ مستقبل البلد وفي تحولاته الاجتماعية والثقافية والسياسية.
أدخل مقهى الروضة الأسطوري، وأصاب بخيبة: لا أحد من الأصدقاء هنا. معظمهم بين المنفى والمقبرة. مكان مضغوط بدخان النراجيل، ورواد لا توحي وجوههم بشيء. كانت الكراسي القديمة نفسها تعويضاً وهمياً، إذ رأيتها أطيافاً للشخوص الذين جلسوا عليها دهراً.
هذه دمشق ليست تماماً التي أعرفها، غاب عنها سعيد حورانية، شوقي بغدادي، ممدوح عدوان، علي الجندي، هاني الراهب، خالد خليفة، محمد الماغوط، بندر عبد الحميد، حكم البابا وطه خليل وأكرم القطريب وشاكر الأنباري، ولقمان ديركي.. والأجيال التالية لهم. لم أوفق بلقاء آخر الصامدين، خليل صويلح، لإزالة عتب متبادل قديم.
لا أدري كيف التقطني الإعلامي النشط ابراهيم التريسي: سآخذك إلى ندوة سياسية في جرمانا.
تلك الضاحية حيث يختلط السكن من جميع الطوائف، والتي كانت تحت سيطرة النظام، منطلِقاً منها في معارك الغوطة والجوار الثائر، أشبه بمتاهة فوضوية هي تماماً على نسق معظم العمران الذي نما كالفطر في دول الفقر العربي. أو هي أقرب إلى مزيج الضاحية الجنوبية لبيروت والمخيمات الفلسطينية. متوسطو الحال والفقراء والمعدومون معاً، ومنبثقة ما بين العشوائية في البناء، والتخطيط الهندسي الارتجالي. اكتظاظ بشري وازدحام مروري خانق وأحياء ضيقة وصخب مضاف إليه أجواء احتفالية بسقوط النظام وتعطش الناس المذهل للخروج والتسكع والتسوق، كأن لا أحد يريد البقاء في منزله.
أيضاً، التعطش الآخر هو الكلام العلني، النقاش وإعلان الرأي في كل شيء. ويحدث هذا -للمفارقة- في المقر السابق لحزب البعث!
لا أصدق عيني: 400 شخص دفعة واحدة ملؤوا القاعة وبعضهم وقوفاً. في اليوم الثالث عشر على سقوط النظام، والنقاش يندلع في الفضاء السوري. الحوار في كل حي وبيت وعلى كل صفحة فايسبوكية. عنوان الندوة حول الدستور الجديد والمأمول. وبعد يوم على استماعي للغة الشارع وتعابيره، كان لا بد من الإصغاء لطبقة أخرى “مثقفة” (اصطلاحاً).
على المنصة، الدكتور زيدون الزعبي، الدكتور ابراهيم دراجي، وفائق حويجة، بإدارة سلمى الصياد، مديرة ملتقى نيسان الثقافي. تتدفق منهم كلمات حول الهيئة التأسيسية، دستور 1950، الاستحقاقات، شكل الحكم، دور المجموعات المدنية والسياسية ودعوتها للتوحد، السلم الأهلي، القواسم المشتركة، وحدة سوريا وسيادتها، العدالة، الحوار الوطني الجامع، التشارك لا الفرض.. وبما يعبّر عن المكونات التي تحتاج إلى “الضمانات”.
خلاصة الندوة، اقتراح إعلان دستوري انتقالي قائم على حقوق الإنسان، والمساواة بلا تمييز جندري وإثني وطائفي. لكن الأهم هو ما لمسته عند المتحدثين والجمهور، من إصرار على “التسامح” واللا دم. هناك نفور عميق عند السوريين من أي عنف. شعب منهك حتى العظم من القسوة والعنف ومظاهرهما.
غرقت الندوة، كما هو متوقع، في سؤال “آليات تنفيذ” كل هذه العناوين. وما هي الأولويات، وكيف يكون الحوار مع أحمد الشرع، ودعوة الذين بالخارج ليأتوا ويمارسوا دورهم.
بين نعرة “الضمانات” والمخاوف الجدية من هيمنة الإسلام السياسي، بغض النظر عن مدى اعتداله، ورفض احتمال استلهام الشرع الإسلامي لصياغة القوانين والدستور، والشعور بهامشية المعارضة الآتية من خلفيات يسارية وقومية (وبعضها كان مهادناً أو متحيّراً)، وقفت سيدة يدل هندامها المحافظ وحجابها الصارم على ميولها السياسية، وراحت بلغة متوترة وغاضبة تتكلم عن تضحيات المعارضة المسلحة التي أتاحت اليوم إقامة هذه الندوة بحرية و”من دون إذن من الأمن السياسي” (وفق ما كان يحدث أيام نظام الأسد). لم تنس التشديد بنبرة تشبه الصراخ على “الذي تقرره أغلبية الشعب السوري سيكون مقبولاً كدستور، بشرع إسلامي أو غيره”. هكذا، سقطت قشرة العبارات المواربة والمنمقة لنصوص الندوة، وبانت المعاني الفعلية للاختلافات المضمرة والعميقة، الطائفية أو الفكرية، على نحو ما أظهره أيضاً الاعتصام الهزيل للمنادين بالعلمانية في ساحة الأمويين، بعد يوم واحد.
فجأة، يصل نباح كلاب شاردة إلى داخل القاعة، فيعلق أحدهم: “يبدو أن النظام قد عاد”. فتضج القاعة بالضحك الذي يبدد التوتر الأخير.
بعد هذه الوجبة السياسية الثقيلة، كان لا بد من باب توما وباب شرقي. فلا اكتمال لمشوار في دمشق من دونهما. وبلا مواربة، مسيحيو سوريا (ولبنان) هم الإضافة الحضارية، هم الأصليون طبعاً، وبهم تكتمل هويتنا. الحيّان معقل مسيحيي دمشق، وفيهما يختبر واحدنا معانقة التاريخ والاستئناس بحاضر مضاء وحيوي وخلّاب.
تلك هي دمشق العتيقة والعامرة في آن معاً، ببيوتها المتواضعة والمسحورة بجمال الذوق والحرص. لكن أيضاً سحرها بروح الضيافة والهدوء وحسن تدبير العيش ومظاهره. إنها أيام الأعياد وزينتها المبهرجة، وليل السهر والتنزه. ندخل تحفة معمارية تراثية، تحولت بإبداع وفن رفيع إلى فندق “بيت الولي”. احتفال باذخ وشديد الذكاء بعراقة البيت الدمشقي وزخرفاته وفنونه، وعناية باهرة إلى أدق التفاصيل. فضاء أشبه بكاتدرائية الهندسة الشامية وعناصرها الفريدة.
كيفورك، جالس في دكانه الصغير، بتكاسل يستقبل سيل زبائن سندويشاته، البسطرما والسجق. متعة صغيرة لا يمكن تفاديها في هذا الليل القارص ببرده. شبان ورفيقاتهم، كأزواج من عشاق يتسكعون ويتهامسون على امتداد الشارع حيث زينة الميلاد تبهج العين والقلب.
حانة أبو جورج. الواقف عند بابها سيظن أنها لا تسع أكثر من 4 أشخاص. نتردد لهذا السبب. لكن جاذبيتها لا تقاوم. حميمية المكان تجعله يتسع لنحو عشرين شخصاً. ننحشر بكامل رضانا، بل بتواطؤ خفي بين جميع الزبائن على الإلفة وتبادل الأحاديث. ترحيب متوقع بنا كلبنانيين وصحافيين. ففي “خمّارات” دمشق يمكنك أن تعاين معنى تلك الكلمة العربية لأصحاب الشراب: الندماء.
نعود إلى الفندق، برفقة سائق تاكسي كان عنصراً بـ”المخابرات الجوية”. كلماته لا تكتم غضبه وحنقه. صوته المخيف وانفعالاته الجسدية تدل على ارتباك المذنب. إنكاره أنه عذَّب أو اعتقل أو قتل، غير مقنع: “كنت فقط بقوة الاقتحام”، “نعم، داومت على حواجز لكن لم أتعدَّ على المدنيين”.
خيم الصمت بعدها طوال الطريق. خوف متبادل بيننا، بل فاحت راحت الكراهية. الكراهية التي برع الأسد في زرعها بين السوريين
المدن
————————————-
دمية القلق في أيدي السوريين/ رنا زيد
27.12.2024
الظل الثقيل، ظل بشار الأسد في الإجرام والتنكيل، باقٍ وقابع فوق المدن السورية، واستمرار هذا الظل، ولو من بعيد، يعني استمرار الهيمنة على العقول والأرواح. العدالة الحقيقية وحدها قادرة على كسر هذا النمط،
لدى كل السوريين رغبة في أن يكونوا مَرئيين، ولن تتحقّق هذه الرؤيا قبل أن يأخذوا حقّهم في الأرض، وحقّهم من كل من أساء إليهم.
يجسّد بشار الأسد، في وضوح تام، مفهوم “الثالوث المظلم” (Triade Sombre) الذي يجمع بين النرجسية (Narcissisme) والسيكوباتية (Psychopathie) والماكيافيلية ((Machiavélisme. ولا يمكن، في أي حال من الأحوال، اعتبار سفاح سوريا الأسد مجرد نرجسي، في المعنى البسيط للكلمة.
فقد بُنيت شخصيته لتكون نموذجاً للاستبداد والجريمة بأبعاد نفسية عميقة وخطيرة. في نرجسيته المتضخمة، ظهر كحاكم يرى في نفسه مركز الكون، ويدّعي أنه “المنقذ” الوحيد لسوريا، بينما في الواقع يبرّر تدمير المدن، وقصفها بالطائرات، وتشريد الملايين، من أجل البقاء على عرشه. هذا الإحساس المفرط بالأهمية الذاتية جعله يغضّ الطرف عن آلام الشعب، رافضاً أي احتمال للتنازل أو النظر إلى الآخرين إلا كأدوات في خدمته.
أما السيكوباتية، فهي التجسيد الأوضح لقسوته المطلقة التي لا تعرف الرحمة؛ إذ أصدر قرارات تُزهق أرواح المدنيين، واستخدم الأسلحة الكيميائية ضد الأبرياء من دون أن يشعر بأي ندم أو ذنب، وكأن الدماء التي تُسفك ليست سوى تفاصيل صغيرة في سبيل الحفاظ على سلطته، طلاء لواجهة أحلامه السيادية.
ومن جانب آخر، تتجلى الماكيافيلية في استراتيجياته الباردة والمدروسة في عناية، حيث استغل الحلفاء الدوليين، مثل روسيا وإيران، كقطع شطرنج في لعبة السلطة، وباع سيادة وطنه لضمان استمرارية حكمه. وكان يُدير إعلامه ودعايته بطريقة تضمن تضليل العالم، كي يقدم نفسه كضحية “للإرهاب”، بينما الحقيقة أنه صانع الرعب والشر المطلق. وسيظل سجن “صيدنايا” التجسيد الأكثر واقعية ودلالة على أن الضحية الحقيقية، في القضية السورية، كانت هي الشعب السوري، الذي طالب بالحرية والكرامة.
لذا، فإن أول فعل مطلوب بعد رحيله، كفعل سياسي واجتماعي، هو تحقيق العدالة، العدالة القضائية تحديداً، أمام الشعب. فمن خلال الفعل القضائي، يمكن تأكيد الحقائق ودحض أي تشكيك أو لغط حول ما جرى، ويجري في سوريا. العدالة القضائية تُعدّ السبيل الأمثل للخروج من دائرة أي تلاعب سياسي، سواء كان سابقاً أو لاحقاً، لسقوط نظام الأسد؛ لا سيما أن بشار الأسد كان خبيراً في استخدام أسلوب الـGaslighting، حيث أنكر وجود السجون السياسية التي بناها بعد أن ورثها وأعاد تأثيثها وهندستها من عهد القائد الأب الطاغية.
وهو لم يكتفِ بإنكارها أمامنا، بل فعل ذلك أيضاً أمام الصحافة والمجتمع الدولي، مما جعل الآخرين يشككون في حقيقة الجرائم المرتكبة، ضد السوريين. وهكذا، صار الحديث طوال أكثر من عقد عن حاجة سوريا إلى بديل سياسي، بدلاً من الاعتراف بحقيقة أن سوريا في حاجة إلى إنهاء حقبة من حكم الطاغية، ومعه نظامه الأسدي المجرم.
هذا الخليط القاتل من السمات الثلاثة، يفسر سلوك الرئيس السابق بشار الأسد ونظامه القمعي الذي تجاوز كل الحدود، ممتداً إلى تدمير أي أمل في الحرية أو العدالة في سوريا. إن تحليل شخصية الأسد من خلال منظور “الثالوث المظلم” (Triade Sombre) ليس مجرد تمرين أكاديمي نفسي، بل هو أداة ضرورية لفهم آليات الطغيان والقمع التي خنقت سوريا، عبر عقود. تفكيك هذا الثالوث المظلم يتطلب مواجهة شاملة تبدأ بفضح نرجسيته المزيفة، مروراً حتى محاكمته على سيكوباتيته الإجرامية، وانتهاء في كشف ماكيافيليته التي حوّلت البلاد إلى مسرح للدماء، والمصالح الدولية.
سوريا لن تستطيع تجاوز مأساتها ما لم يتم اقتلاع هذا الثالوث من جذوره، فالظل الثقيل، ظل بشار الأسد في الإجرام والتنكيل، باقٍ وقابع فوق المدن السورية، واستمرار هذا الظل، ولو من بعيد، يعني استمرار الهيمنة على العقول والأرواح. إن العدالة الحقيقية وحدها قادرة على كسر هذا النمط، وتحرير الشعب السوري، من آثار طاغية أعاد تعريف مفهوم السلطة والجريمة، من خلال معايير لاإنسانية.
عودة سوريا كوطن للكرامة والحرية مشروطة، في إزالة ثالوث الاستبداد الأسود الذي ترسّب عميقاً في شرائح المجتمع السوري، ومواجهته ليست خياراً بل ضرورة حتمية لضمان مستقبل أكثر إنسانية وعدلاً.
على السوريين ألا يتخلّوا عن الدمى الصغيرة المضادة للقلق Poupées anti-inquiétudes، تلك التي تحمل همومهم وآلامهم، لتكون شاهداً رمزياً على ما كانوا يواجهونه من ظلم وقهر وطغيان، قبل سقوط بشار الأسد. فالدمية الخاصة بما يُقلقنا من بشار الأسد لا يمكن إزاحتها بمجرد هروبه، ولا ينبغي التخلي عنها قبل أن نهمس لها كل يوم وكل مساء، قبل النوم، عن العدالة والمحاكمات الجنائية الآتية ضده.
وفقاً للأسطورة الغواتيمالية، تُمنح هذه الدمى للأطفال أو للأشخاص الذين يشعرون بالقلق أو يعانون من الأرق بسبب مظلومياتهم. يُطلب من الشخص أن يهمس لها، بمخاوفه وقلقه قبل النوم، حيث يُعتقد أن لهذه الدمى قدرة أسطورية على تخليصه من همومه، إذ تعمل خلال الليل على تخفيف أعبائه النفسية، بعد أن توضع تحت الوسادة. نعرف أعداءنا الخارجيين، معرفة جيدة، مثل روسيا وإيران، الداعمين الرئيسيين لنظام الاستبداد الأسدي، ومع ذلك، ما يغيب عن وعينا أحياناً، هو أن سقوط بشار الأسد أو هروبه لا يعني، بالضرورة، نهاية الحكاية، بل ربما بدايتها.
بعد الثورة، نحتاج إلى رئيس حقيقي، رئيس لم يولد رئيساً، بل صنع من نفسه سياسياً يحمل قيم الكرامة والحرية. ومن أجل ذلك، لا يمكننا التخلي عن دمية القلق التي نحملها رمزياً، تلك التي نحدثها كل يوم عن بشار الأسد، وعن غيره، وعن العدالة التي نطالب بها: محاكمته هو وأتباعه الأسديين، وكل من تورط معهم في إجرامهم الممارس على الشعب السوري.
محاسبة المجرمين وكشف هوية النظام المجرم هي مسألة لا يمكن تجاوزها، لأنها تمثل الأساس، من أجل تحقيق العدالة واستعادة الكرامة. طالما أننا لم نحاكم أحداً بعد، من مرتكبي الجرائم داخل نظام الأسد السابق، سواء كانوا قتلة أو جلادين مارسوا التعذيب في حق المعتقلين، فإن أي حديث عن التغيير سيبقى ناقصاً. نحن في حاجة إلى رمز قضائي يُمثل عدالة العصر وشروطه القانونية، بدلاً من استدعاء رموز تاريخية كمقصلة الثورة الفرنسية، على الرغم من أن تأثير الثورة الفرنسية لم يكن محصوراً في انتصارها العسكري أو السياسي، بل في المحاكمات التي أعقبتها. من دون تحقيق العدالة ضد جرائم بشار الأسد، الذي يجسد “الثالوث المظلم” (Triade Sombre) تبقى الحرية ناقصة، وشبيهة بحرية ضحايا نجوا من الموت، ولكن من دون أن يروا إنصافاً حقيقياً لآلامهم.
أي تساهل أو تمييع في محاسبة المجرمين سيُبقي الشعب السوري حبيس دائرة المظلومية، ويمنع الانتقال من ذهنية الضحية إلى ذهنية المواطن الحر. هذا التساهل سيخلق حالة من التوتر الدائم في مواجهة كل جلاد يشبه أو يعيد إنتاج نموذج بشار الأسد. ومن دون تحقيق العدالة، لن يستطيع الشعب السوري بناء مستقبل أفضل لأبنائه وأحفاده.
على الإدارة السورية المستقبلية أن تتجاوز التحول الشكلي من الزي العسكري إلى الزي الرسمي، وأن تتجسد في دور القضاء العادل الذي يُكرس سيادة القانون. دولة القانون تعني محاسبة المجرمين بلا هوادة، بعيداً عن أي حلول سطحية تقوم على الصفح أو المصالحات الزائفة مع المجرمين الحقيقيين.
لا مكان في سوريا لمفاهيم التسامح مع القتلة أو المغتصبين أو الجلادين. لأن أي تخاذل سيجعل إنسانيتنا مخدوشة ويُبقي بشار الأسد في ذاكرة التاريخ كرئيس سابق عادي، وليس كسفاح قاتل وديكتاتور أجرم في حق شعبه.
العدالة الحقيقية يجب أن تأتي شاملة وحازمة، وإلا فإننا سنُعيد إنتاج نسخة جديدة من النظام البائد، مع اختلاف في الأسماء فقط.
تجربة السوريين مع نظام بشار الأسد ليست مجرد صراع سياسي، بل هي جرح جماعي عميق ترك أثراً في الوجدان الجمعي لهم. هذه التجربة، مع ما حملته من قمع وتهجير ودمار، لم تقتصر على إحداث أزمات مادية أو اجتماعية أو سياسية فحسب، بل أنتجت صدمة نفسية جماعية تسكن ضمن الذاكرة الجمعية للسوريين. إن كيفية مواجهة هذه الصدمة، يوجب على العقلاء مساعدة الآخرين، من أجل الانتقال من مرحلة الحدث الصادم (T1) وبعدها مرحلة الاستجابة النفسية المعقدة (T2) حيث تصبح الصدمة في هذه المراحل، قادرة على شلّ قدرة الأفراد والمجتمع، في محاولاتهم للتفاعل السليم مع الواقع، مما يعيق تجاوزها ويحولها إلى دائرة مغلقة تُعيد إنتاج نفسها باستمرار.
تظهر العدالة أمام السوريين، مثل مخرج صائب من هذه الدائرة. العدالة هنا ليست مجرد محاكمة رمزية أو تسوية سياسية، بل هي أداة نفسية واجتماعية تُعيد بناء العلاقة بين الضحية والحدث.
العدالة تعمل على تحويل الألم الفردي إلى ذاكرة جمعية، وتُخرج معاناة السوريين من نطاق المأساة الشخصية إلى قوة تاريخية جامعة. العدالة تُعيد تنظيم الذاكرة لتكون جزءاً من السرد الوطني الجديد، سرد يقوم على الكرامة لا على الإذلال، وعلى الاعتراف بالضحايا… لا على تجاهلهم.
استمرار النظام في الإفلات من العقاب يعني أن الصدمة تظل حاضرة في الوعي الجمعي للسوريين، تُستدعى يومياً عبر الخوف والقلق من تكرار المأساة. العدالة هنا هي السبيل إلى كسر هذه الحلقة. ليست العدالة مجرد إغلاق للملفات، بل هي تطمين للشعب السوري بأن الظلم لن يتكرر، وأن الظالم سيُحاسب، وأن الكرامة ستُستعاد. في هذا المعنى، تصبح العدالة علاجاً ضرورياً، من أجل إعادة التوازن النفسي والاجتماعي، ليس فقط للأفراد، بل للمجتمع بأسره.
من فكرة “الدمى المضادة للقلق” (Poupées anti-inquiétudes) التي يهمس لها الإنسان بمخاوفه قبل النوم، يبدو الكلام إلى هذه الدمية رمزياً؛ دمية يُودع السوريون فيها مخاوفهم وآلامهم، ليحوّلوا هذه الطاقات السلبية إلى خطوات إيجابية نحو المستقبل. لكن، على عكس تقليد دمى القلق، فإن العدالة ليست أداة لتخفيف الألم مؤقتاً، بل هي عملية جذرية تُخرج الصدمة من جذورها وتُعيد بناء بلاد حقيقية.
كما أن الخروج من حالة التجمد النفسي، أو الفلاش باك flashback التي تسببها مرحلة ما بعد الصدمة (État de stress post-traumatique) يشير إلى دور العدالة في كسر دائرة الخوف والتوتر الناتجة عن الصدمات، حيث يقدم الأمل في الذهاب إلى القضاء تخفيفاً للآلام النفسية المبرحة التي يعيشها السوريون الذين فقدوا أحباءهم تعذيباً في المعتقلات، أو قتلًا في المظاهرات، أو قهراً في المنفى. العدالة تُسهم في تحويل الذكريات المؤلمة من معاناة فردية إلى ذاكرة جمعية تحمل معاني التحرر والكرامة. وفي هذا السياق، تمكن في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 2023، قرار من قضاة التحقيق الجنائي الفرنسيين، من إصدار مذكرات توقيف في حق الرئيس السوري بشار الأسد، وشقيقه ماهر الأسد وآخرين، بتهمة استخدام الأسلحة الكيميائية ضد المدنيين في الغوطة الشرقية ودوما، في العام 2013، مما أودى بحياة أكثر من ألف شخص. بغير هذا التشافي القانوني، لا تشافي ممكن للسوريين.
فكيف يمكن لإنسان سوري أن يعيش مستقبلاً في المدينة ذاتها التي من الممكن أن يتواجد فيها أحد: جلّاديه، مغتصبيه، سجانيه، أو قاتلي عائلته في دمشق، أو في حماة، أو في حمص، أو في حلب… إلى آخره، أو حتى في أي مدينة خارج سوريا؟ أليس هذا وحده مُشتتاً عن فعل الحياة؟
إذاً، على أحدهم من القضاة، أن يرتدي زي القضاء، وعلى قضاة كثر أن يجتمعوا، ليكونوا مؤتمنين ومؤهلين، كي تبدأ هذه المحاكمة. محاكمة سورية أو عالمية، ما يهم أنها محاكمة قضائية لمن ثبت إجرامه وشارك في جرائم الأسد ، وليست ثأراً أو انتقاماً وحشياً.
درج
—————————————-
دمج الثوار وترويض البنادق.. هل ينجح الشرع في بناء جيش سوري جديد؟/ عبد الوهاب المرسي، شادي إبراهيم
27/12/2024
تزخر خبرة الثورات والتمردات المسلحة بتجارب كثيرة انفرط فيها عقد الأجهزة الأمنية والعسكرية، مما دعا لإعادة بنائها بشكل كامل، سواء بُغية إصلاح ما تبقى من المؤسسات القديمة، أو بُغية ضبط امتلاك القوة في المجتمع وإعادة تعريف الاحتكار الشرعي للقوة في يد الدولة وحدها.
كان ذلك حاضرا في إسبانيا بعد الحرب الأهلية، ودول أفريقية منها رواندا وليبيا، وغيرها من النماذج. بيد أن المشترك الأساسي في تلك التجارب أن هذا التحول لم يكن عملية سلِسة، ولم يحدث في أجواء هادئة ودون خسائر جانبية، ولم يكن نجاحه حتميا في كل الأحوال.
ويبدو أن هذا أحد الأقدار التي غالبا ما تواجهها الشعوب التي تمر بتحولات سياسية عنيفة، فهل تكون الثورة السورية استثناء تاريخيا من تلك القاعدة؟ أم أن ثمة تحديات تهدد عملية الدمج المزمعة؟
تمهيد الأرضية
في مشهد استثنائي، اجتمع عدد كبير من الفصائل السورية التي قادت عمليات إسقاط نظام الأسد داخل أحد القصور الرئاسية في دمشق السبت الماضي 21 ديسمبر/كانون الأول الجاري، ناقشت فيه مع القائد العام للإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع، مشروع بناء مؤسسة عسكرية جديدة ينشأ قوامها الأساسي عبر دمج الفصائل المنتشرة حاليا في أنحاء محافظات سوريا، وحسب البيانات الرسمية التي خرجت عن الإدارة السورية، فإن هذه الفصائل المجتمعة قد أبدت الموافقة على حل نفسها والاندماج في إطار وزارة الدفاع في الجيش الجديد.
وبتتبع تصريحات ومواقف الشرع عقب سقوط نظام الأسد، يمكن ملاحظة التغيرات التي حصلت، فالشرع هو من قال إن “منطق الدولة يختلف عن منطق الثورة”، وكانت هذه هي الكلمات التي برَّر بها الشرع عزمه حل الفصائل المسلحة ومنع انتشار أي مظاهر عسكرية خارج سيطرة الدولة، وذلك في مؤتمر صحفي عقده في دمشق، رفقة وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، قائلا إنه سيعلن خلال الأيام القادمة عن تشكيل وزارة الدفاع، وتكوين لجنة من قيادات عسكرية لرسم هيكلة مناسبة للجيش الجديد.
لم ينتظر الشرع نتائج اجتماعه مع قادة العدد الأكبر من الفصائل، ليُعلن عن اسم وزير الدفاع الجديد في حكومة تصريف الأعمال المهندس مرهف أبو قصرة، الذي شغل سابقا منصب القائد العام للجناح العسكري لـ”هيئة تحرير الشام”، أحد الفصائل المنضوية تحت غرفة إدارة العمليات العسكرية التي دشَّنت عملية “ردع العدوان”.
ويبدو أن تعيين أبو قصرة كان رسالة مزدوجة موجَّهة للفصائل، فمن جهة تقول لهم إن ثمة واقعا جديدا قد تَشكَّل، وأن تسمية منصب وزير الدفاع سيكون من حق الدولة وحدها وليس مجالا للتشاور، ومن جهة أخرى يؤكد جدية قرار دمج الفصائل ووضع الأُطر القانونية اللازمة له، ومن ثم فإن عدم الاستجابة لهذه القرارات قد يُفسَّر بأنه خروج عن الشرعية الجديدة.
وقد حضر اجتماع دمشق عدد من قادة الفصائل المعروفين في الشمال السوري، أبرزهم قائد “فرقة المعتصم” المعتصم عباس، وقائد “حركة التحرير والبناء” أبو حاتم شقرا، وقائد “الجبهة الشامية” أبو العز سراقب، وجميعهم منخرطون ضمن الجيش الوطني المدعوم من تركيا.
ولكن اللافت للنظر كان حضور قائد فصيل “جيش الإسلام” عصام بويضاني، الذي التُقطت له صورة وهو يعانق أحمد الشرع عند دخول قاعة الاجتماع، مما دفع البعض ليعتبره نهاية صراع دامٍ كان قد صبغ علاقة “جيش الإسلام” بـ”هيئة تحرير الشام” على مدى سنوات، بدأ من الغوطة الشرقية للعاصمة دمشق في إبريل/نيسان 2017 عندما كانت تحرير الشام ما زالت تعمل تحت اسم “جبهة النصرة”، واستمر لاحقا في الشمال السوري المحرر، إلى ما قبل انطلاق معركة “ردع العدوان”.
وإلى جانب فصائل الشمال، حضر قادة فصائل من الجنوب السوري، بينهم القياديون علي باش، وأبو علي مصطفى، ومحمود البردان أبو مرشد، ومؤيد الأقرع، وأبو حيان حيط.
توحيد فصائل إدلب.. ماذا يخبرنا؟
ليست هذه المرة الأولى التي يعتقد فيها أحمد الشرع بوجوب توحيد الفصائل المسلحة، ففي عام 2019، أنشأ “غرفة عمليات الفتح المبين”، حيث كانت مسؤولة عن تنسيق العمليات العسكرية في المناطق المحررة بالشمال السوري، ولاحقا في منتصف عام 2020، أصدرت “هيئة تحرير الشام” بقيادة الشرع بيانا يُعلن عن “توحيد الجهد العسكري”، ومنع تشكيل أي فصيل آخر أو غرفة غير التي أسَّستها الهيئة في المناطق الواقعة تحت سيطرتها.
وأعلنت الحركة في مؤتمر صحفي عقدته عام 2023 عن ترتيب بناء جديد للقوة العسكرية للفصائل العاملة في المنطقة، وقالت إن هذه الخطوة أسهمت في “تحقيق توازن القوى في المنطقة”، كما أجرى مفاوضات مطوَّلة لتأسيس مجلس عسكري مشترك مع فصائل الجيش الوطني السوري في مناطق درع الفرات وغصن الزيتون، لكنها لم تُسفر عن شيء جاد.
وفي غضون ذلك، دخلت قوات “هيئة تحرير الشام” مناطق سيطرة “الجيش الوطني”، واشتبكت على أبواب مدينة عفرين في أكتوبر/تشرين الأول 2022 مع فرقتَيْ “الحمزة” و”سليمان شاه”، كما هاجمت العديد من الفصائل الصغيرة الفيلق الثالث في مدخل مدينة الباب، واستمرت لأشهر حتى تدخل الجيش التركي وأجبر الهيئة على التراجع.
وأول ما تخبرنا به هذه التجربة أن تنازل الفصائل لصالح قائد عام جديد لم يكن سهلا، حيث اعتبرت العديد من الفصائل في إدلب قرارات الشرع بمنزلة سعي للهيمنة على القرار العسكري، بل واتهمته بعضها بالارتهان لإرادة قوى إقليمية والسعي لترويض الثورة السورية.
من ضمن هؤلاء الرافضين كانت مجموعات من رفقاء أحمد الشرع القدامى الذين رفضوا قرار فك الارتباط بالقاعدة، وهو ما دفعهم لتأسيس تنظيم “حراس الدين” في فبراير/شباط 2018، معلنين استمرار الالتزام بالبيعة لتنظيم القاعدة. وقد لاحق أحمد الشرع العديد من قيادت “حراس الدين” بعد إعلانهم تأسيس التنظيم، واعتقل العديد من كوادره وقياداته، حتى استطاع تقريبا تفكيك التنظيم بحلول عام 2020.
لعل هذا هو ثاني ما تخبرنا به تلك التجربة؛ وهو استعداد أحمد الشرع لاستعمال القوة في سبيل تحقيق هدف دمج الفصائل، فلم تكن معركة توحيد الجهد العسكري في الشمال مقتصرة فقط على “أنصار الدين”، فقد خاضت “هيئة تحرير الشام” صراعا داميا مع “حركة أحرار الشام” حتى أجبرت ما تبقى منها في مناطق سيطرة الهيئة على الانضواء تحتها، وذلك بعد توقيع اتفاق خفض التصعيد “أستانا 1” بين تركيا وإيران وروسيا في يناير/كانون الثاني 2017، كما تعقبت عناصر الجيش السوري الحر حتى لم يعد له وجود، فضلا عن اعتقال قيادات وعناصر من “حزب التحرير”.
وأخيرا، فمعطيات التجربة في إدلب تشير إلى أن شخصية أحمد الشرع يبدو أنها تتمتع في المقابل بنوع فريد من البراغماتية والقدرة على التكيف مع المعطيات الواقعية، ويظهر هذا من تعامله مع أزمة الاحتجاجات التي اندلعت ضده في إدلب منذ أواخر عام 2023، حيث استطاع من خلالها احتواء أزمة كادت أن تعصف بسيطرته على المناطق المحررة، وبادر بإعلان ما سُمِّيَ بوثيقة الإصلاحات السبعة، كما أعلن في مؤتمر نخبوي لقادة عسكريين وسياسيين ومجتمعيين عن استعداده للتنازل عن القيادة إذا اجتمعوا على اختيار قائد غيره.
وأيًّا ما كانت احتمالية جديته في ذلك، فقد استطاع بهذا الخطاب الهادئ نزع فتيل أزمة عاصفة.
تباين المصالح والمرجعيات: تحديات الاندماج الجديد
لم تكن فصائل المعارضة السورية يوما على الدرجة نفسها من المرجعية الفكرية أو الارتباطات الخارجية، مما يطرح تحديات جوهرية في كيفية دمج قوات ذات مرجعيات فكرية وأيدولوجية مختلفة، فثمة فصائل ذات مرجعية إسلامية مثل “فيلق الشام” و”حركة أحرار الشام”، وفصائل قومية مثل “فرقة السلطان مراد”، وتنظيمات ذات هوية مناطقية وعشائرية مثل “جيش الإسلام” الذي ينحدر معظم مقاتليه من الغوطة، وأخرى ذات نزعة عِرقية مثل المليشيات الكردية “قوات سوريا الديمقراطية”.
وتكشف لنا خريطة قوى المعارضة المسلحة التي لم تحضر اجتماع دمشق السبت الماضي عن أحد أهم التحديات التي ستواجه مسار الدمج. فقد غابت فصائل الجيش الوطني الأشد قُربا من تركيا مثل قائد فرقة “العمشات” محمد الجاسم أبو عمشة، وقائد فرقة “السلطان مراد” فهيم عيسى. ومن فصائل درعا في الجنوب السوري، غاب قائد “اللواء الثامن” أحمد العودة، الذي سبق أن التقى الشرع في دمشق بعد الانتصار، وقدَّم تعهدا شفهيا بالانخراط في وزارة الدفاع الجديدة، وبطبيعة الحال لم تحضر “قوات سوريا الديمقراطية” التي لا تزال تسيطر عسكريا على مساحات واسعة في شرق سوريا.
وفي حين من المحتمل أن ينجح الشرع باستخدام مزيج من سياسات العصا والجزرة في إقناع أو إجبار العديد من الفصائل الصغيرة والمناطقية للاندماج، إذ ربما يجد قادتها وعناصرها فرصة ذات معنى في الالتحاق بالوزارة الجديدة من حيث تأمين مواقعهم ضمن بنية الدولة، وتفادي أي صدامات لم يعودوا مستعدين لها بعد سنوات طويلة من التعب المستمر، فإن فصائل أخرى لن يكون اندماجها بهذه الدرجة من السهولة، وبالأخص قوات قسد، وفصائل الجيش الوطني، وكذلك الفصائل المرتبطة بالقوات الأميركية مثل “جيش سوريا الحرة”، فضلا عن فصائل درعا التي يُعتقد أنها ما زالت تربطها علاقات خارجية بالقوى الإقليمية التي أدارت غرفة عمليات “الموك”.
ولذا رجح تقرير صادر عن مركز “ستراتفور” الأميركي للدراسات الإستراتيجية والأمنية أن يكون الموقف التركي من جهود دمج الفصائل عاملا أساسيا في تشكيل مشهد الأيام المقبلة، فإذا سعت أنقرة للحفاظ على فصائل الجيش الوطني السوري بوصفها أدوات للضغط العسكري المستمر على قوات سوريا الديمقراطية، المدعومة من الولايات المتحدة ويقودها الأكراد في مناطق رئيسية مثل كوباني وشمال شرق البلاد، فسيكون احتمال اندماجها ضئيلا، كما سيعطل من جهة أخرى اندماج قوات قسد.
ومن المرجح أيضا أن تنتظر قوات سوريا الديمقراطية (قسد) قدوم الإدارة الأميركية الجديدة حتى تتضح بشكل أخير نية الرئيس دونالد ترامب بشأن استمرار دعمها أو سحب القوات الأميركية من المنطقة، ومن جانب آخر فسَّر مراقبون غياب أحمد العودة عن اجتماع دمشق بتردد جهات إقليمية داعمة له تجاه التفاعل الإيجابي مع المشهد السوري الجديد.
التحول من قيادة الأفراد إلى قيادة المؤسسات
يرفع التحول السريع في مناطق النفوذ والسيطرة من حجم الاحتياجات الأمنية للسلطة الجديدة، ويتطلب منظومة جديدة قادرة على تلبية تلك الاحتياجات وتحقيق الاستقرار والأمن. فقد كانت قوات نظام بشار الأسد والمليشيات الإيرانية والقوات الروسية تسيطر على نحو 63% من إجمالي الأراضي السورية منذ 2020، مقابل 11% لجميع قوات الثورة في الشمال وحتى في الجنوب بمنطقة التنف، بينما كانت تسيطر قوات سوريا الديمقراطية على نحو 25% من الأراضي.
أما بعد نجاح عملية “ردع العدوان” في دخول حلب وحمص وحماة والعاصمة دمشق والساحل وحتى الجنوب مع الحدود الجنوبية انقلبت لأكبر نسبة سيطرة تقارب 71% من إجمالي الأراضي السورية، فيما ارتفعت مساحة المليشيات الكردية (قسد) إلى نحو 28% بعد دخولها عدة مناطق كان يسيطر عليها نظام بشار الأسد وخسارتها مدينة منبج.
إلى جانب ذلك تلعب الاحتياجات الأمنية الداخلية دورا كبيرا في بداية أي مرحلة انتقالية، ولا تقتصر تحديات البناء على ووضع تصور لشكل المؤسسة العسكرية والأمنية التي يجب تأسيسها، بل في التوافق على الرؤى والتصورات بشأن التهديدات التي تعمل المؤسسة الأمنية على مواجهتها، سواء كانت تهديدات داخلية أو خارجية، وضبط استخدام العنف وفقا للتوجهات التي يضعها المستوى السياسي الأعلى في البلاد.
وفي حالة سوريا الجديدة، وحتى إذا لم يكن ثمة تهديدات أمنية مُلِحَّة في البداية ويسود الاستقرار الأمني في المدن الكبرى والمناطق التي دخلتها قوات غرفة عمليات “ردع العدوان”، فيمكن وصف ذلك بأنه “استقرار مؤقت”، حيث قد تعمل بعض الفصائل على بناء تحالفات مضادة أو تأسيس خلايا أمنية تستهدف فيها القيادات الثورية، وهو أمر غير مستبعد، وعليه فإن مرحلة الانتقال من نمط التنظيمات والجماعات إلى دولة تتطلب فترة زمنية طويلة وكافية لتثبيت النظام السياسي ومؤسساته حتى تدخل الدولة في حالة استقرار دون وجود تهديدات وجودية.
على سبيل المثال، وبالنظر إلى أقرب الثورات التي نجحت في منطقة الشرق الأوسط في إسقاط نظام وتأسيس نظام آخر، سنجد الثورة الإيرانية مثالا بارزا، حيث واجهت الثورة تهديدات أمنية كبيرة في أول سنواتها، قُتل فيها العديد من قادتها وتعرض الخميني لأكثر من عملية اغتيال فاشلة، فيما قُتل رئيس الدولة محمد علي رجائي ورئيس وزرائها محمد جواد باهنر بتفجير نفذته منظمة “مجاهدي خلق” في أغسطس/آب 1981، وسبقه أيضا تفجير قُتل فيه آية الله محمد بهشتي رئيس السلطة القضائية مع 72 شخصية قيادية في استهداف مقر الحزب الجمهوري الإسلامي في طهران أثناء انعقاد اجتماع للقيادة الإيرانية، وكان من بين القتلى وزراء الصحة، والنقل، والاتصالات، والطاقة، بالإضافة إلى 17 نائبا في مجلس الشورى، والعديد من المسؤولين الحكوميين الآخرين. إيران ليست المثال الوحيد، فهناك العديد من الأمثلة في أفريقيا وأميركا الجنوبية.
وإلى جانب التحديات الأمنية الصعبة التي من غير المستبعد أن تكتنف عمليات البناء، فثمة وقت طويل وعمليات تفاعلية معقدة ستحتاج إليها الفصائل حتى تستطيع الاندماج في بنية جيش نظامي، وفق عقيدة قتالية مشتركة وأنماط تدريب وتنسيق بين الوحدات والأفرع بشكل سلِس وفعال، وفي غضون ذلك قد تحدث العديد من الخلافات حول التفاصيل الإجرائية والمواقع القيادية، مما يتطلب من القيادة السياسية والعسكرية الانخراط الدائم في حل تلك المشكلات.
ورغم كل التهديدات المتوقعة التي غالبا ما كانت تواجهها تجارب القوى الثورية خلال فترة الانتقال والتحول من تنظيم إلى دولة، فإن الانهيار السريع لقوات الأسد كشف عن هشاشة المنظومة العسكرية والأمنية السورية في الأيام الأخيرة، وهو ما يجعل من الصعب على النظام السابق أن يستعيد عافيته وينظم صفوفه للعودة، كما أن انسحاب القوات الروسية والمليشيات الإيرانية وحزب الله اللبناني والعراقي يخفف من تعقيد المشهد الداخلي، ومع ذلك تبقى احتمالات تنظيم ثورة مضادة غير مستبعدة، كما تشير عادة خبرة الثورات المعروفة.
ومن ثم يمكن القول إن من المبكر الحكم على استقرار الأوضاع في سوريا، خاصة في مدن الساحل، حيث لا تزال التركة الكبيرة التي تركها نظام الأسد خلفه حاضرة من المتعاونين مع الأجهزة الأمنية، الذين يمكن أن ينفذوا أدوارا سلبية خلال فترة الانتقال لصالح دول وأطراف إقليمية ودولية. هذه هي طبيعة التغيير القسري العنيف، وهذه هي تكلفته التي يتحملها مقاومو الأنظمة الاستبدادية أثناء حكمها، وأثناء إسقاطها، وبعد سقوطها.
المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية
———————————–
السبيل إلى سوريا أفضل حالا: سيعتمد السلام المستدام على إنعاش الاقتصاد/ بنيامين فيف و كرم شعار
الجمعة 27 ديسمبر 2024 1:01
يفتح الانهيار المفاجئ لحكومة بشار الأسد آفاقاً للتعافي في سوريا، لكن البلاد تواجه تحديات هائلة بدءاً من الدمار الاقتصادي، والعقوبات الدولية وصولاً إلى التقسيم السياسي الذي يعقد عملية إعادة الإعمار والإصلاحات
أثار الانهيار الدراماتيكي لحكومة الرئيس السوري بشار الأسد في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) آمالاً ببداية جديدة لبلد عانى من الحرب لمدة تزيد على عقد من الزمن. لكن عملية التعافي في سوريا تواجه عقبات هائلة، إذ إن الاقتصاد بات في حالة خراب تام، ولم يعد يمثل سوى ظل لما كان عليه قبل الحرب، منهكاً بسنوات من الصراع الكارثي، والفساد المتجذر، والعقوبات الدولية القاسية. والقيادة الجديدة التي ستستلم الحكم لن تجد نفسها أمام دولة منهارة فحسب، بل سترث أيضاً مجموعة معقدة من التحديات التي سيتعذر حلها بسهولة.
بعد اندلاع الاحتجاجات الشعبية ثم التمرد في سوريا عام 2011، تمسّك نظام الأسد بالسلطة من خلال ممارسة التعذيب الممنهج والحملات العسكرية الوحشية بدعم من إيران وروسيا وعدد من الميليشيات المتحالفة. وفي السنوات الأخيرة، تضاءل الاهتمام الدولي بسوريا، وأشار عديد من المراقبين إلى أن الأسد قد “انتصر” على رغم أنه كان يدير ما تبقى من بلد مدمر ودولة شبه منهارة. لكن العالم صُدم عندما قادت جماعة “هيئة تحرير الشام” (HTS) المتمردة هجوماً أجبر النظام على الانهيار خلال أسابيع قليلة. يمثل رحيل الأسد نهاية حقبة، ولكنه يبرز أيضاً هشاشة السلطة في سوريا المنهكة والممزقة.
في الوقت الحالي، تتولى “هيئة تحرير الشام” دور السلطة المركزية في سوريا، وتشرف على فترة انتقالية من المقرر أن تستمر حتى 1 مارس (آذار) 2025. وأياً كانت الحكومة التي ستنبثق من هذه العملية، فهي ستواجه تحدياً يتمثل في إيجاد طريقة لإنعاش الاقتصاد السوري. وفي سبيل تجاوز سنوات الدمار والعقوبات والتشرذم، سيكون من الضروري إجراء إصلاحات داخلية جدية والحصول على دعم دولي. وسيتعين على القيادة السورية الجديدة معالجة الأزمات الإنسانية في البلاد، وإعادة إحياء البنية التحتية الحيوية للطاقة والإسكان. ولكن من أجل تحقيق انطلاقة فعالة، ستحتاج في البداية إلى دعم من المجتمع الدولي. بدايةً، على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أن يخففا العقوبات المفروضة على نظام الأسد و”هيئة تحرير الشام”، وأن يدعما جهود الحكومة الجديدة الرامية إلى إحياء فرص مستثمري القطاع الخاص وإعادة الإعمار.
في الواقع إن هذه الفترة سوف تحدد معالم مستقبل سوريا. وإذا واجه القادة الجدد في البلاد صعوبة في تنفيذ الإصلاحات وكسب ثقة المواطنين والقوى الخارجية، وإذا استمرت هذه القوى الخارجية في فرض العقوبات وحرمان سوريا من المساعدات اللازمة، فإن البلاد تخاطر بالغرق في فوضى أعمق وعنف متجدد، وسيسفر ذلك عن تفاقم الأزمات الإنسانية في سوريا، وسيؤدي إلى مزيد من التهجير والبؤس لشعبها.
دولة في حالة خراب
قبل اندلاع الحرب الأهلية في عام 2011، كانت سوريا تمتلك اقتصاداً متنوعاً نسبياً، أسهمت فيه الزراعة وصادرات النفط والصناعات وقطاع الخدمات المتنامي في الناتج المحلي الإجمالي. كانت البلاد في طريقها لتصبح مركزاً إقليمياً للتجارة والسياحة، وحققت نمواً اقتصادياً متواضعاً مدفوعاً بإجراءات اقتصادية تهدف إلى تحرير السوق نُفّذت في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ولكن بعد أكثر من عقد من الصراع، ترث السلطات الانتقالية في سوريا الآن بلداً في حالة يرثى لها. فقد تقلص الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تزيد على 80 في المئة منذ عام 2011 في حين يعيش 90 في المئة من السكان تحت خط الفقر. وأدى التضخم الجامح إلى تدمير العملة الوطنية، حيث فقدت الليرة السورية أكثر من 99 في المئة من قيمتها خلال أكثر من عقد بقليل. وارتفعت معدلات البطالة إلى مستويات غير مسبوقة، في حين أدى النزوح الواسع النطاق إلى ترك ملايين الأشخاص من دون أي فرصة لتحقيق استقرار اقتصادي.
علاوة على ذلك، أصبحت البنية التحتية للبلاد في حالة انهيار تام. فقد دُمر قطاع الطاقة، الذي يعد ضرورياً لتعزيز المالية العامة للدولة. وتعرضت محطات توليد الطاقة، ومصافي النفط، وشبكات التوزيع للتدمير المنهجي أو النهب أو الإهمال. والآن صارت سوريا، التي كانت في السابق مصدّراً صافياً للنفط [أي أن صادرتها من النفط أكثر من وارداتها]، تكافح لتلبية حاجاتها الأساسية من الطاقة المحلية، غير قادرة على توفير الكهرباء سوى لبضع ساعات في اليوم في مختلف أنحاء البلاد.
واستطراداً، أدت العقوبات والعزلة الدولية المستمرة منذ عقود إلى فصل سوريا عن الاقتصاد العالمي. فقد كانت العقوبات، التي فرضتها الدول الغربية بشكل أساسي، تهدف إلى الحد من قدرة النظام السوري على تمويل عملياته العسكرية وقمع المعارضة، ودفعه إلى الجلوس إلى طاولة المفاوضات. ولكن إلى جانب استهداف الأفراد والمؤسسات المسؤولة عن الانتهاكات، امتدت العقوبات لتشمل قطاعات اقتصادية واسعة، مثل البنوك والطاقة. ومن شأن هذه التدابير القسرية، التي لا تزال سارية، أن تزيد من تعقيد التحديات التي تواجه التعافي الاقتصادي. مع ربط الغرب إعادة الإعمار والانخراط الدبلوماسي بسعي النظام نحو تسوية سياسية مع الجماعات المعارضة، وهو ما رفضه الأسد بشدة، ازدادت عزلة سوريا. وقد حال نبذ نظام الأسد دولياً دون حصوله على دعم تنموي كبير أو قروض من الجهات الفاعلة الإقليمية الرئيسة بما في ذلك الاتحاد الأوروبي والدول العربية، فضلاً عن المنظمات المتعددة الأطراف كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
وغالباً ما تمكنت النخب المرتبطة بالنظام من الالتفاف على بعض العقوبات والقيود، لكن السوريين العاديين عانوا من تأثيراتها الكاملة، فعُزلوا إلى حد كبير عن الأنظمة المالية الدولية. وقد قضت هذه العزلة على الفرص الاقتصادية، وخنقت نشاط القطاع الخاص، وقلصت انفتاح البلاد على الأسواق العالمية، وكلها عوامل حاسمة في التعافي الاقتصادي. واستكمالاً، خلق التحول إلى اقتصاد حربي فرصاً جديدة للابتزاز والفساد، مما أدى إلى مزيد من تآكل هياكل الدولة، وترسيخ انعدام الكفاءة، وتقويض قدرة الاقتصاد على الصمود.
عملية التعافي في خطر
بينما تكافح سوريا هذه المشكلات الاقتصادية، تبدأ عقبات جديدة في التشكل من شأنها تعقيد جهود التعافي وتستدعي اهتمام القيادة المستقبلية بشكل عاجل. من أبرز التحديات التي تواجهها البلاد هو التدفق المتوقع للوافدين العائدين. فقد تم تهجير أكثر من خمسة ملايين سوري إلى الخارج خلال الـ 13 عاماً الماضية، والكثير منهم يفكرون الآن في العودة إلى وطنهم. لكن سوريا تفتقر إلى القدرة على استيعاب حتى جزء من هذا العدد. إن البنية التحتية في البلاد قد تجاوزت حدود طاقتها في محاولة تلبية حاجات السكان الحاليين. فقد دُمر ثلث المخزون السكني أو أصبح غير صالح للسكن، حيث تعرض العديد منه للقصف من قبل القوات الروسية والسورية. كما أن الخدمات الأساسية، مثل الرعاية الصحية والتعليم والصرف الصحي، في حالة خراب. إضافة إلى ذلك، فإن النزاعات القانونية غير المحسومة بشأن ملكية العقارات وغياب آليات مؤسسية قوية لتسهيل إعادة الاندماج [أي عودة النازحين وانضمامهم إلى المجتمع بعد فترة من الغياب] تهدد بتعميق التوترات الاجتماعية.
أما التحدي الآخر الذي سيظهر في المدى القريب، فهو الصعوبة التي ستواجهها الحكومة الناشئة في التغلب على العقوبات الواسعة. نظراً لأن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، من بين جهات أخرى، قد صنفت “هيئة تحرير الشام” كمنظمة إرهابية، فإن العقوبات والقيود الاقتصادية الأخرى التي كانت تطبق على نظام الأسد وحلفائه قد امتدت فعلياً لتشمل كل سوريا. واستمرار هذه العقوبات سيؤدي إلى زيادة عزلة سوريا عبر الحد بشكل كبير من إمكانية حصولها على مساعدات إعادة الإعمار والاستثمارات الأجنبية. ولن تلغي القوى الغربية العقوبات إلا إذا قدمت الحكومة الجديدة بقيادة المتمردين التزاماً واضحاً بالإصلاح السياسي والاستقرار، وهو أمر يبقى من غير الواضح ما إذا كانت “هيئة تحرير الشام” قادرة على تحقيقه بشكل موثوق.
واستطراداً، يشكل توحيد الاقتصاد المجزأ في سوريا تحدياً أساسياً آخر. فعلى مدى ما يقرب من سبع سنوات، كانت البلاد مقسمة إلى أربع مناطق رئيسة: تحت سيطرة نظام الأسد، والإدارة الذاتية الكردية بقيادة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، والحكومة السورية الموقتة المدعومة من تركيا، وحكومة الإنقاذ السورية التابعة لـ”هيئة تحرير الشام”. وكان لكل منطقة أنظمتها الاقتصادية وسياساتها الخاصة، وتفاوتت مستويات المعيشة فيها بشكل كبير: إذ تراوحت الرواتب الشهرية لموظفي حكومة الإنقاذ السورية من 80 إلى 110 دولارات، مقارنةً بما يتراوح بين 24 و30 دولاراً لموظفي الحكومة في المناطق التي يسيطر عليها نظام الأسد. والآن، بعد أن استحوذت “هيئة تحرير الشام” على معظم المؤسسات السياسية في سوريا باستثناء المناطق التي تسيطر عليها “قوات سوريا الديمقراطية”، يجب عليها دمج هذه الاقتصادات المجزأة. إن تشكيل إطار وطني موحد يتطلب التوفيق بين نماذج الحكم المختلفة والعملات المتنوعة، وهو أمر ليس سهلاً. على سبيل المثال، قامت “هيئة تحرير الشام” بتطبيق الزكاة، وهي شكل من أشكال الضرائب المبنية على المبادئ الإسلامية، والتي قد تواجه مقاومة إذا تم تطبيقها في جميع أنحاء سوريا. كما أن استخدام العملات يختلف بين المناطق، حيث تسود الليرة السورية في المناطق التي كانت تحت سيطرة النظام، في حين تُستخدم الليرة التركية على نطاق واسع في المناطق الشمالية. ومن أجل تمهيد الطريق للتعافي، يجب على القيادة الجديدة اعتماد الليرة السورية كعملة وطنية موحدة، والتخلي عن السياسات الحمائية غير المنتجة المتعلقة بالتجارة، وإلغاء أنظمة دعم سعر الصرف المخصصة للإنتاج المحلي غير المجدي اقتصادياً. وسوف تشكل مثل هذه التغييرات تحولاً جذرياً في الوضع الراهن، لكنها ضرورية لخلق بيئة اقتصادية مستقرة وإظهار استعداد الحكومة الجديدة لتنفيذ إصلاحات جادة.
وما يزيد من تعقيد عملية التوحيد هو المصالح المتضاربة لأباطرة المال والأعمال الذين برزوا خلال الصراع في المناطق الواقعة خارج سيطرة دمشق، لا سيما أعضاء النخب المنتمين إلى إدلب في الشمال الغربي، الذين ازدهروا تحت نظام يشبه رأسمالية المحسوبية في عهد الأسد. ومن المحتمل أن يسعى هؤلاء اللاعبون الأقوياء إلى الحصول على حصة أكبر من الاقتصاد في سوريا ما بعد الأسد، مما يخلق توترات مع شبكات الأعمال التقليدية في مدن مثل حلب ودمشق التي كانت تهيمن عليها سابقاً النخبة المحسوبة على الأسد التي قد تتعرض للتهميش في ظل الحكومة الجديدة. وقد يسعى الفاعلون الاقتصاديون المرتبطون بالسلطة الجديدة في دمشق إلى الاستفادة من الفرص التي أتاحها انهيار النظام والفراغ الذي خلفته نخبة الأعمال المقربة من الأسد. فعلى سبيل المثال، بمجرد أن سيطرت “هيئة تحرير الشام” على حلب، بدأت شركة “سيريا فون” Syria Phone، وهي شركة اتصالات تابعة لحكومة المجموعة في إدلب، في التحرك لسد الفجوة التي خلفها مزودو الخدمات في مناطق كانت تحت سيطرة قوات الأسد سابقاً.
ولا بد من أن يحدث التوحيد أيضاً على مستوى السيطرة على الأراضي. لا تزال “قوات سوريا الديمقراطية”، المدعومة من الولايات المتحدة، تسيطر على عديد من الموارد الطبيعية في سوريا، لا سيما حقول النفط. وتؤدي هذه الديناميكية إلى تعقيد الجهود الرامية إلى إنشاء إطار اقتصادي وطني متماسك والتوفيق بين المطالبات المتنافسة. ومع ذلك، يمكن للولايات المتحدة أن تستخدم نفوذها على “قوات سوريا الديمقراطية” و”هيئة تحرير الشام” لمنعهما من القتال على المناطق المتنازع عليها، وضمان احترام الحكومة الجديدة للأكراد السوريين ودمجهم في الهياكل السياسية والاقتصادية للبلاد، وفي نهاية المطاف تمكين الانسحاب المنظم للقوات الأميركية من سوريا. ويعتمد تعافي الاقتصاد السوري على الإدارة الفعالة للمناطق الغنية بالنفط، سواء لتحقيق الاستقرار في الحكم أو لضمان أن تسهم هذه الموارد الحيوية في إعادة إعمار الوطن.
سبيل الخروج من الدمار
يواجه الشعب السوري تحديات هائلة، وبعد أكثر من عقد من الصراع والدمار، لا يمكن أن تكون الحلول الجزئية كافية، فالإصلاحات الشاملة والعملية، المدعومة بالالتزام الدولي، هي وحدها القادرة على تمهيد الطريق للمستقبل.
يجب أن ينصب التركيز الفوري على معالجة الأزمة الإنسانية في البلاد، إذ يعاني ملايين السوريين حالياً من الفقر المدقع والجوع والتشرد، مما يجعل جهود الإغاثة الواسعة النطاق أمراً ضرورياً. وتُعتبر عملية إعادة بناء البنية التحتية الأساسية، بخاصة في قطاعات الطاقة والإسكان والنقل، أولوية ملحة. فاستعادة إمدادات الكهرباء والوقود ليست مجرد ضرورة عملية فحسب، بل هي أيضاً شرط مسبق للنشاط الاقتصادي ولإعادة مظاهر الحياة الطبيعية. وفي هذا السياق، فإن دمج المناطق الغنية بالنفط، وخصوصاً تلك التي تسيطر عليها “قوات سوريا الديمقراطية” في شمال شرقي سوريا، ضمن إطار وطني أوسع، سيكون أمراً بالغ الأهمية لضمان أمن الطاقة، والتوزيع العادل للعائدات، وجذب الاستثمارات الدولية.
في الواقع، ستتطلب تلبية هذه الحاجات العاجلة تمويلاً كبيراً من المجتمع الدولي، وهو أمر من المرجح أن يجعل مساعدات إعادة الإعمار أو رفع العقوبات مشروطة بالإصلاح السياسي. وكما أشار بيان صدر أخيراً عن مجموعة الدول السبع، لن تتمكن سوريا من الحصول على الدعم الدولي إلا من خلال الوفاء بشروط قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2254، الذي حدد في عام 2015 مساراً للسلام في سوريا من خلال انتقال سياسي ديمقراطي. ومن دون هذه الخطوات الأساسية (والمساعدة التي ستتبعها من المجتمع الدولي)، ستظل أي محاولة أوسع للتعافي محفوفة بالأخطار في أفضل الأحوال. لذلك، يجب على الحكومة الناشئة في دمشق إعطاء الأولوية للإصلاح السياسي. ومن جانبهم، يتعين على صناع السياسات الغربيين وضع أهداف واقعية وتحديد خطوات واضحة للسلطات الجديدة في دمشق. ولا يستطيع السوريون تحمل مزيد من التأخير. فمع اشتداد فصل الشتاء ونقص السلع الأساسية، من الضروري اتخاذ إجراءات عاجلة لتخفيف المعاناة وإرساء أسس التعافي المستدام.
وسيكون التخفيف التدريجي للعقوبات أمراً ضرورياً أيضاً لتعافي سوريا. ومع خروج الأسد من المشهد، يجب على الغرب أن يقدم على الفور تخفيفاً غير مشروط للعقوبات في القطاعات الحيوية مثل الطاقة والكهرباء والمصارف، بهدف إعادة دمج سوريا اقتصادياً والسماح لهذه الصناعات الحيوية بالتعافي. ومع ذلك، فإن التخفيف الأوسع للعقوبات، في ما يتعلق بإزالة “هيئة تحرير الشام” من قوائم المنظمات الإرهابية، يجب أن يرتبط بمعايير قابلة للقياس [معايير واضحة ومحددة] في إصلاحات الحوكمة، بما في ذلك مشاركة جميع الأطراف واحترام حقوق الإنسان والالتزام بالتحول الديمقراطي. ومن شأن هذا النهج أن يستخدم العقوبات القائمة لتحفيز الإصلاح في حين يعزز في الوقت نفسه الثقة الدولية في المسار السياسي والاقتصادي لسوريا.
إلى جانب الإغاثة الاقتصادية الدولية، يجب أن تكون التنمية المستدامة بقيادة السوريين أنفسهم، وفي سبيل خدمة السوريين، وأن تدعمها أنشطة القطاع الخاص. وسيكون إحياء القطاع الخاص أمراً أساسياً للحد من الفقر وتعزيز الاعتماد على الذات. فقد أدت عقود من المحسوبية والعقوبات إلى خنق روح المبادرة، مما جعل الشركات مترددة في الاستثمار في بيئة قسرية وغامضة. ومن أجل استعادة الثقة وتحفيز النشاط الاقتصادي، من الضروري تطوير قدرات السوق الحرة من خلال تشجيع الملكية الخاصة وريادة الأعمال، وتعزيز المنافسة، وخفض الحواجز أمام الأعمال الجديدة، ووضع إطار تنظيمي شفاف. والإصلاحات العاجلة المطلوبة، بما في ذلك إلغاء السياسات الحمائية الخاصة بالواردات وتفكيك آليات سعر الصرف التي تدعم الإنتاج المحلي غير الفعال، تُعتبر ضرورية لخلق فرص متكافئة وتشجيع النمو الاقتصادي.
وأخيراً، ستعتمد عملية التعافي الطويلة الأمد في سوريا على إعادة الاندماج في الاقتصاد العالمي من خلال اتفاقيات تجارية وشراكات إقليمية ومشاركة دبلوماسية. ويجب على القادة الجدد في البلاد أن يدركوا أن الفشل في تلبية توقعات المجتمع الدولي بشأن الإصلاح السياسي والشفافية يهدد بإطالة أمد عزلة البلاد وتعميق عدم استقرارها وتفاقم أزمتها الإنسانية. وكما أظهرت السنوات الثلاث عشرة الماضية، فإن ما يحدث في سوريا لا يبقى محصوراً في سوريا. وإذا لم تتمكن الحكومة الجديدة والمجتمع الدولي من العمل معاً لتنفيذ إصلاحات ذات مغزى، سوف يعاني الشعب السوري والمنطقة بأسرها من العواقب.
مترجم عن “فورين أفيرز” 20 ديسمبر (كانون الأول) 2024
كرم شعار هو مدير شركة “كرم شعار للاستشارات محدودة المسؤولية”، وهي شركة استشارية تركز على الاقتصاد السياسي في سوريا
بنيامين فيف هو باحث في شركة “كرم شعار للاستشارات محدودة المسؤولية”
——————————–
بين الشيطنة والتريث والفرعنة: الجولاني نموذجا/ سعد بن طفلة العجمي
سقط نظام بشار المستبد وبزغ نجم قائد “تحرير الشام” الذي أفصح عن أن اسمه الحقيقي هو أحمد الشرع
الجمعة 27 ديسمبر 2024
هناك فريق ثالث هو الأخطر على الجولاني ومن معه اليوم من الشيطنة أو التريث، وهو الفريق الذي أحاط بالبطل جو بويرز في فيلم “أيديوقراطية” وأوصله حد التأليه، وهو الفريق الذي نعت طاغية العراق السابق صدام حسين بالرئيس “الضرورة”، وهو الفريق الذي رفع شعار “إلى الأبد يا حافظ الأسد ثم يا بشار الأسد”، وهو الفريق الذي يخلق الطغاة فيرتكبون الحماقات ويزينون الشين فيقع الرئيس في الموبقات.
يصور فيلم “إيديوقراطية” (2006) جو بويرز وقد جُمد جسده كمتطوع ضمن تجربة ودراسات تقوم بها الحكومة، ثم نُسي 500 عام وبعدها أعيد للحياة، وقد نحت المخرج اسم الفيلم من الكلمات المركبة الشائعة التي تسبق “قراطية”CRACIA- والتي تعني إدارة أو حكماً، مثل “ديمو-قراطية” وتساوي إدارة أو حكم الشعب، أو “ثيو-قراطية” وتساوي إدارة أو حكم الدين، و”بيرو-قراطية” وتساوي الشؤون المكتبية وقد تغيرت لاحقاً لتعني التعقيد الإداري، و”أوتو-قراطية” وتساوي الحكم الفردي وهكذا، لكن “أيديو” مشتقة من كلمة IDIOCY وتعني الغباء، وبالتالي فإن ترجمة اسم الفيلم “أيديوقراطية” تعني حكم الأغبياء.
عاد جو بويز للحياة بعدما جُمد خمسة قرون ليجد أن البشر حول العالم كلهم أغبياء، وأن الناس تعظّم الغبي وتمتدحه وتقدمه وتتنافس على الغباء، وبسبب ذكاء جو الفائق على كل البشر في هذا العالم الافتراضي فقد ترقى ليصبح رئيساً عليهم.
لكن رئاسته تميزت بقرارات “قراقوشية” وغبية مضحكة بسبب القوى النفعية المنافقة التي حاصرته وأحاطت به من كل جانب، تكيل له المديح و”تضرب له تعظيم سلام” على كل قرار يتخذه، وتضحك ملء شدوقها على كل نكتة تافهة يقولها، وقد نجح هؤلاء النفعيون المنافقون في تحويل جو من إنسان ذكي إلى إنسان غبي مثل البقية.
سقط نظام بشار الأسد المستبد وبزغ نجم قائد هيئة تحرير الشام أبو محمد الجولاني الذي أفصح عن أن اسمه الحقيقي هو أحمد الشرع، وهو رجل ذو طلة مهيبة وهادئة ووسيم الملامح بلحية مشذبة وليست كثّة، وقد انبرى فريقان في تقييم الجولاني – الشرع، ففريق يعمل على شيطنته وعدم تصديقه والترويج بأن كل كلام الرجل المعسول حول المصالحة والتسامح والتعايش ما هو إلا ذر للرماد في العيون، وأن الرجل كغيره من قادة الدين السياسي في عالمنا “يتمسكن حتى يتمكن” ثم سيصفي كل من كانوا معه، بمن في ذلك رفاق ومجاهدي الأمس القريب الذي ناضلوا بأشكال مختلفة لإسقاط دكتاتورية الأسد البشعة، ويعطون أمثلة بثورة الخميني وأحزاب الدين السياسي في العراق اليوم و”حماس” التي صفت مناوئيها بعد سيطرتها على غزة، و”الإخوان” في السودان الذين طاولت تصفيتهم منظّرهم الشهير حسن الترابي، وهكذا.
ويؤكد فريق الشيطنة أن الجولاني كان إرهابياً قاعدياً بالأمس القريب، فأنى له أن يتحول إلى مدني ديمقراطي متسامح بين عشية وضحاها؟ ولو صدقنا أنه قد انقلب نحو المدنية وودع العنف السياسي – الديني، فكيف لمن معه أن يتحولوا بالدرجة والسرعة نفسها؟ فهؤلاء المتطرفون المتشددون ليسوا جهاز حاسوب تعيد برمجته (FORMATTING) بضغطة زر وكفى، وسرعان ما سيكشفون عن وجوههم “الداعشية” ما إن تستتب الأمور لهم.
لكن فريقاً آخر يدعو إلى التريث وبعض من الصبر ويحاول أن يسوّق الجولاني بطريقة مختلفة، هادئ ومتزن الكلمات ومحسوب التصريحات، وكل تصريحاته تدعو إلى التعايش والتعددية وحماية الأقليات والحريات العامة والدينية، ويدللون على ذلك بحماية الناس وممتلكاتهم وتدخلهم للحد من التعدي على الكنائس وأماكن العبادة التابعة للأقليات الأخرى، ودعوته إلى الانفتاح على جميع جيرانه وعدم التدخل في شؤونهم، داعياً إياهم إلى عدم التدخل في شؤون سوريا.
ويعزو مؤيدو الجولاني – الشرع بعض أعمال التصفيات والتعديات والمناوشات والشغب لعناصر تحركها إيران وإسرائيل لخلق الفوضى والاقتتال بين السوريين، ويدعو هذا الفريق إلى التريث والانتظار وإعطاء الفرصة للثوار الجدد لالتقاط أنفاسهم، مؤكدين أن الشعب السوري يعيش حالاً ثورية خلاقة لن تسمح للجولاني ولا لغيره بأن يحرف الثورة السورية وأهدافها السامية وتضحياتها الجليلة إلى دولة دينية متشددة منغلقة.
لكن فريقاً ثالثاً هو الأخطر على الجولاني ومن معه اليوم من الشيطنة أو التريث، وهو الفريق الذي أحاط بالبطل جو بويرز في فيلم “أيديوقراطية” وأوصله حد التأليه، وهو الفريق الذي نعت طاغية العراق السابق صدام حسين بالرئيس “الضرورة”، وهو الفريق الذي رفع شعار “إلى الأبد يا حافظ الأسد ثم يا بشار الأسد”، وهو الفريق الذي يخلق الطغاة فيرتكبون الحماقات ويزينون الشين فيقع الرئيس في الموبقات.
إنه فريق “الفرعنة” الذي يحول شخصاً عادياً جداً مثل حافظ الأسد أو غبياً مثل صدام حسين أو مجنوناً مثل معمر القذافي إلى فرعون بسبب النفاق والمنافع الذاتية، فيصمّون آذانه عن أنين الناس ويغمضون عينيه عن مناظر الجوع والتشرد والفقر، ويكيلون له المدائح التي تدفعه نحو الغرور فيتحول إلى “أيديوقراط” غبي بليد.
—————-
معضلة إيران في سوريا/ هدى رؤوف
بين عسكرة عراقجى ومودة ظريف ونموذج تركيا
الجمعة 27 ديسمبر 2024
الدعم التركي لقادة دمشق الجدد جعل إيران تتخذ من أنقرة منافساً قوياً لها، مما يحول سوريا إلى ساحة للتنافس بين تركيا وإيران التي تريد استرداد نفوذها، وربما تحاول التوافق مع الأكراد لمناوئة المصالح التركية وجعل سوريا مساحة غير مستقرة للأتراك.
لم يقتصر سقوط النظام السوري على مجرد فقد إيران الدولة الوحيدة التي تعتبر حليفتها ضمن ما يسمى محور المقاومة القائم بالأساس على ميليشيات في المنطقة صنعت بعضها وبعضها الآخر كان موجوداً بالفعل، ويبدو أن تأثيرات سقوط بشار الأسد ستتعدى كثيراً فقد الحليف لتخوف طهران من انعكاسات ذلك على الداخل ثم حتمية البحث عن إستراتيجية إقليمية تعوض بها هذا العنصر الذى بسببه يثار التساؤل حول ضعف إيران الحالي.
وربما تمتد التأثيرات لتصل إلى مرحلة جديدة يرجح أن تشهد تنافساً إقليمياً وربما توترات بين إيران ومنافسها التاريخي تركيا، فهذه المعضلة التي تعيشها طهران الآن يجسدها التخبط أخيراً في تصريحات المسؤولين الإيرانيين بدءاً من المرشد ومعه وزير الخارجية عباس عراقجي، في مقابل ما طرحه مستشار الرئيس للشؤون الإستراتيجية جواد ظريف وسماه “مبادرة المودة لدول غرب آسيا”، ويمكن إجمال التخوف الإيراني من تداعيات تأثير سقوط بشار الأسد داخلياً وخارجياً حتى الوقت الراهن بما يلى:
أولاً: التخوف الداخلى، فعلى رغم أن إيران انتقدت نظام الأسد بعد سقوطه واعتبرته المسؤول عما حدث على مدى 14 عاماً وأنه لم يستمع لنصائح مسؤوليها للتقرب من شعبه، وأن الوضع الاقتصادي المتأزم أفقده دعم الجيش الذى شاع فيه الفساد نظراً إلى ضعف الرواتب، ليفقد دعم قاعدته العلوية، وهذه الحجج التي يسوقها المسؤولون الإيرانيون وتتناولها التحليلات ووسائل الإعلام الإيرانية مفادها أن طهران كانت تنصح الأسد بضرورة إجراء إصلاحات سياسية وتفعيل لجنة تعديل الدستور والحوار الآمن مع المعارضة وأن الأسد لم يقبل بالتغيير، لافتة إلى وصول نحو 90 في المئة من السكان تحت خط الفقر، فقد كان الاقتصاد السوري في أسوأ حالاته، وكانت البنية التحتية السورية تحت هجمات إسرائيلية مستمرة.
ويذكر أن تلك الانتقادات لبشار الأسد هي ذاتها التي تعانيها إيران، سواء من حيث نسب الفقر أو الوضع المتأزم اقتصادياً أو الانفصال بين الشعب والنظام القائم، والذي يعمقه حال السخط الممتدة منذ أعوام وبالتالي تآكل نسب المواطنين المؤيدين للنظام وضعف شرعيته التي تبرزها نسب المشاركة في الانتخابات المتتالية، مما قد ينذر بأن النظام الإيراني في حال ضعف ولن يجد قاعدة شعبية تحميه، وربما الفارق الوحيد بين نظام طهران والأسد هو استمرار قبضة إيران على المؤسسات الأمنية والعسكرية والتي تضمن لها الأمن داخلياً.
ثانياً: تخبط الدبلوماسية الإيرانية تجاه سوريا الجديدة، فبعد سقوط الأسد كان بيان الخارجية الإيرانية كلاسيكياً تقليدياً يؤكد دعم خيارات الشعب السوري ووحدة أراضيه وينأى بنفسه عن الأسد، كما أكد عراقجي التواصل مع الإدارة الجديدة، ولكن أخيراً خرجت تصريحات من المرشد الإيرانى تدعو الشباب السورى إلى “الوقوف بكل قوة وإصرار لمواجهة من صمم هذا الانفلات الأمني ومن نفذه”، قائلاً “نتوقع أن تؤدي الأحداث في سوريا إلى ظهور مجموعة من الشرفاء الأقوياء لأنه ليس لدى الشباب السوري ما يخسره، فمدارسهم وجامعاتهم وبيوتهم وشوارعهم غير آمنة”.
وخلال مؤتمر لممثلي المرشد الإيراني في المؤسسات العسكرية دعا عراقجي إلى تعاون الجهاز الدبلوماسي مع الميدان، والمقصود هنا تحرك الدبلوماسية إلى جانب التحرك العسكرى القائم على دعم الميليشيات في المنطقة وتفعيل الوجه العسكري للخارجية الإيرانية، وبالإشارة إلى سوريا فقد قال إنه “من الباكر الحكم الآن، فهناك كثير من العوامل المؤثرة التي ستحدد مستقبل هذا البلد، مضيفاً “في رأيي أنه من السابق لأوانه إصدار حكم، سواء بالنسبة إلينا أو لأولئك الذين يعتقدون أن هناك انتصارات قد تحققت، فالتطورات المستقبلية ستكون كثيرة”.
وقد فُهم من التصريحات تلك أن إيران بصدد التحرك في سوريا على نحو يخلق فوضى عبر تحريك خلايا نائمة أو تشكيل ميليشيات جديدة طائفية أو من بقايا الأجهزة الأمنية السورية، لذا فقد رد قادة الإدارة الجديدة في سوريا على نحو يحذر إيران من محاولة إحداث فوضى في سوريا، وانتقد أحمد الشرع الدور الذي لعبته إيران في سوريا على مدى الأعوام الماضية، وحذر وزير الخارجية السوري المعين حديثاً أسعد حسن الشيباني إيران من بثّ الفوضى في بلاده، وقال في منشور عبر منصة “إكس” إنه “يجب على إيران احترام إرادة الشعب السوري وسيادة البلاد وسلامته، ونحذرهم من بث الفوضى في سوريا ونحملهم كذلك تداعيات التصريحات الأخيرة”.
وقد عكست تلك التصريحات التوترات بين طهران والإدارة السورية الجديدة، وبدأت التصريحات التي تنفي وجود اتصالات بين الطرفين وأنه من غير المنتظر قريباً فتح السفارة الإيرانية في سوريا، فقال المتحدث باسم الخارجية الإيرانية إسماعيل بقائي إن طهران ليست على اتصال مباشر مع الحكام الجدد في سوريا، لكنها مستمرة في تواصلها المسبق مع بعض الفصائل المعارضة المختلفة في سوريا.
وبالتوازى مع تلك التوترات التي خرجت للسطح منذ أيام خرج جواد ظريف بمقالة في الـ “إيكونيميست” يتحدث فيها عن مبادرة إقليمية تسمى “مودة”، وتدعو جميع الدول الإسلامية المؤثرة في غرب آسيا، مثل البحرين ومصر وإيران والعراق والأردن والكويت ولبنان وعُمان وقطر والسعودية، والحكومة المستقبلية في سوريا وتركيا والإمارات واليمن إلى المشاركة في مفاوضات شاملة، كما يمكن لممثلي الأمم المتحدة أن يكون لهم دور في هذه العملية، ووفقاً لظريف فإن “مبادرة مودة” تشمل بناء شراكات تعزز التعايش السلمي والتكامل الاقتصادي التجاري والبحري وتسوية الخلافات الإقليمية، لتأتي المبادرة بالتزامن مع دعوة عراقجي إلى تفعيل الميدان.
ويعتبر هذا المسار دعوة من أهم دبلوماسيي إيران، مما يعكس الخطاب المزدوج من طهران التي اعتادت أن توجه خطابين أحدهما تصعيدي والآخر تعاوني منفتح، والذ ي كذلك يعكس تخوفاً إيرانياً من انعزال إقليمي أكثر يفقد إيران أي فرص للحضور في سوريا حيث لها كثير من المصالح الإستراتيجية والاقتصادية، ولذلك فهي تريد البحث عن صيغة تمنحها مقعداً على المائدة السورية ويمكّنها من المطالبة بتلك المصالح مستقبلاً، أي محاولة إيجاد أساس للوجود الإيراني والمنافع المحتملة في سوريا.
ثالثا: التنافس الإيراني – التركي المرتقب في سوريا، إذ يبدو أن سوريا لم تكن فقط ساحة الصراع الإيراني – الإسرائيلي بل ستشهد مستقبلاً التنافس أو الخلافات الإيرانية – التركية ومحاولات بسط النفوذ، فبعد أسبوعين من سقوط حكومة بشار الأسد كانت هناك تصريحات تركية ضمنية تنتقد سلوك إيران في سوريا، ولم تخف الحكومة التركية أنها الداعم الرئيس لجماعة تحرير الشام، ولذلك فهي حساسة لاستقرار ونجاح سوريا خلال قيادة القادة الجدد لدمشق.
وتعتبر إيران أن تركيا تسعى إلى مد نفوذها في العالم الإسلامي عبر استغلال علاقتها بـ “هيئة تحرير الشام” وقيادتها نحو نوع من الإسلام الوسطي المعتدل، وأن هدف الأتراك نقل وتعليم فكر “حزب العدالة والتنمية” إلى تلك الجماعات الإسلامية، ودعمهم اقتصادياً حيث يتمحور فكر “العدالة والتنمية” حول موضوع التنمية الاقتصادية، ومن متطلبات تحقيق ذلك عدم الإصرار على فرض الشريعة على غير المسلمين أو المسلمين العلمانيين، والقبول بمستوى من التنوع السياسي والاجتماعي والثقافي والتعددية والتسامح في مجال العلاقات الخارجية، بما في ذلك العلاقات الطبيعية مع الدول الغربية، مما جعل قادة هيئة تحرير الشام، وبخاصة أحمد الشرع، بعد سيطرتهم على سوريا خلافاً للتوقعات والتنبؤات، فقد كان ظهورهم في خطاباتهم مثل قيادات حزب العدالة والتنمية إلى حد كبير، أي أن تركيا تتوقع من “تحرير الشام” أن تتبع النموذج الإسلامي في تركيا وتحوّل سوريا إلى دولة إسلامية لكن معتدلة، وبسبب الدعم التركي لقادة سوريا الجدد فقد اعتبرت إيران أنقرة منافسا قوياً لها استبدل مكانتها ويسعى إلى فرض نفوذه، مما سيجعل سوريا ساحة للتنافس بين تركيا وإيران التي تريد استرداد نفوذها، وربما تحاول التوافق مع الأكراد في سوريا لمناوئة المصالح التركية وجعل سوريا مساحة غير مستقرة للأتراك.
————————–
حلب.. بين قبرين/ صهيب عنجريني
ما قصّة مقام الخصيبي الذي أشعل إحراقُه فتيل التوتر في سوريا؟ وما هي رمزيته السابقة على الحرب السورية ومن ثم المرافقة لها؟
“جنب القبر الإنكليزي”.. “بعد قبر الإنكليز بشي خمسمية متر”.. “نزلني عند قبر الإنكليزي”، وعبارات مشابهة عديدة علقت في ذاكرتي منذ اليفاعة، حين لم أكن أعرف عن “القبر الإنكليزي” سوى اسمه الذي تحول اسمًا لكامل المنطقة المحيطة به على مسافة نحو خمسة كيلومترات من مدخلها الغربي، نحو الريف الشمالي.
سأكتشف لاحقًا أن التسمية مستمدة من نصب تذكاري يرتبط بآخر معركة شهدها الشرق الأوسط في الحرب العالمية الأولى. في 26 – 10 – 1918 “هاجمت طلائع الجيش الإنكليزي الزاحفة الجيش العثماني بكتيبتين من الفرسان الهنود، جاهلة بأنّ العثمانيين قد انتقلوا من حالة التراجع إلى حالة التجمع والتمركز، ففاجأت الرشاشات العثمانية بقيادة مصطفى كمال أتاتورك القوات المهاجمة وأوقعت كثيرًا من القتلى في صفوفها”، كما يروي الكابتن البريطاني Harold Courtenay Armstrong.
هكذا حسم العثمانيون المعركة لصالحهم، لكن ذلك لم يغير جوهريًّا في مسار الحرب. وبعد بضعة أيام، تقدم العثمانيون بطلب هُدنة أٌقرت في 31 – 10 – 1918، قبل أن تنتهي الحرب العالمية رسميًّا في 11 – 11 – 1918.
تُعرف المنطقة بأكملها اليوم باسم “القبر الإنكليزي”، ويُظنّ خطأً أنّها تضم جثامين جنود إنكليز. غير أنه في الواقع نصب رمزي لـ”تخليد ذكرى اللواء الهندي الخيّال الخامس الذي توفي أفراده في القتال الأخير في الشرق الأوسط (…) لمقاومة القوات التركية” كما تنص كتابة كانت منقوشة على النصب التذكاري.
هو ليس قبرًا إذًا، ومعظم الضحايا الذين سقطوا كانوا هنودًا قاتلوا في معركة قرّرها مستعمرُهم. والمعلومة الدقيقة الوحيدة هنا أنها كانت آخر معارك الحرب العالمية في المنطقة، وأنّ البعثة الدبلوماسيّة البريطانية في سوريا اعتادت لسنوات طويلة الاهتمام بـ”القبر”، وزيارته سنويًّا في الساعة 11 من يوم 11 من الشهر 11، فيما يتذكر بعض المهندسين أن السفارة البريطانية في دمشق انتفضت حين طُرح مشروع لتوسعة الطريق قبل أكثر من 20 عامًا، وزجت بثقلها لمنع المساس بالنصب.
على الجهة المعاكسة من مدينة حلب، تقع مقبرة يعرفها الحلبيون باسم “مقبرة جبل العضام/العظام”. أول ما يوحي به الاسم أن التسمية قادمةٌ بداهةً من كون المنطقة موقعًا للدفن، وهو بالتالي مليء بالعظام البشريّة. لم أكن قد فكرت بمنبع التسمية حين عرض عليّ الصديق الباحث علاء السيد بعض مقتنياته من المستحاثّات البحرية التي جمعها من “جبل العضام” ويقدر عمرها بنحو 14 مليون عامًا.
تقوم حلب بشكل أساسي على ثماني تلال، يتموضع “جبل العضام” فوق واحدة منها، وعلى مقربة منه ثمة مرتفع آخر سمّاه الحلبيون “الجبل الأحمر” وفوقه بُنيت منذ نحو مئتي عام (1830) “تكية الشيخ يبرق” أو “التكية البراقيّة”. يقول مؤرخ حلب، الشيخ كامل الغزي، في كتابه الشهير “نهر الذهب في تاريخ حلب” إن الموضع “اشتهر باسم الشيخ يبرق وهو رجل من الصالحين مدفون في زاوية يدخل إليها من أواسط الجهة الغربية من هذا الرباط”. يخالف كلام الغزي المعهودَ من كون تسمية “مقام” تُطلق على أماكن رمزية خلافًا للقبر أو الضريح الذي عادة ما يحوي جثمانًا.
لم يشكل الأمر فارقًا عند كثير من الحلبيين بطبيعة الحال، فقد دأب كثير منهم على زيارة الموقع وطلب الشفاء من بعض العلل ببركة صاحبه، من دون أن يشغلوا بالهم بكونه مقامًا أو قبرًا، بل إن كثرًا لا يعرفون عن صاحبه سوى أنه “رجل صالح من أولياء الله”.
وخلافًا لما قد يظنه المرء، لا ترتبط التسمية الشعبية “الشيخ يبرق” بالمطبخ الحلبي، بل يُقال في تأصيل المفردة إنها كانت في الأصل “يبرُق” بضم الراء في إحالة إلى البرق، إذ “كان يُشاهد ومضٌ عند المقام بين وقت وآخر”، فيتنادى السكان منبهين إلى أن “مقام الشيخِ يبرُقُ”. فيما يقول تفسير آخر إن التسمية في الأصل كانت “مقام الشيخ بيرق”، والبيرق هو العلم في اللغة العربيّة كما هو معروف.
ثمة قولان في هويّة صاحب المقام. يرِد ذكره في منظومةٍ للشيخ محمد أبي الوفا الرفاعي الشاذلي “الشيخ يبرق الرفيع القدر، وهو براقٌ عند من لا يدري”، ويُعلق شارح المنظومة في الهامش بالقول إن “الشيخ يبرق هو محمد بن أحمد بن محمود الرفاعي الأحمدي”. أما القول الثاني، وهو الأشهر، فأن الشيخ يبرق هو أبو عبد الله الحسين بن حمدان الخصيبي، الذي يحظى بمكانة رفيعة عند أبناء الطائفة العلوية.
بعد أن سيطر النظام السوري السابق على كامل مدينة حلب أواخر العام 2016، قرر العقيد (السابق) سهيل الحسن ترميم المقام الذي كان قد تضرر جزئيًّا بفعل قذيفة مدفعيّة إبّان المعارك (كان المقام في القسم الواقع تحت سيطرة المعارضة المسلحة من حلب). قيل أيضًا إن من أحد أسباب الترميم أن “المقام كان مهملًا”، وهذا يجافي الواقع بالمطلق.
في الواقع، كان المقام بسيطًا بلا مبالغات، وهو طابعٌ يطغى على كل المزارات والمقامات لدى أبناء الطائفة العلوية في سوريا، على نحو يشابه أيضًا حال معظم مقامات الأولياء عند أتباع الطرق الصوفيّة، زد على ذلك أنّ زيارات المقامات عند أبناء الطائفة العلوية لا تكتسي طابعًا دينيًّا صرفًا بقدر ما هي فعالية روحيّة واجتماعيّة.
حين قرّر الحسن ترميم المقام، لم ينطلق من هذه القاعدة، ولم يكتفِ بالترميم، بل أوعز بتوسعة الموقع، وضرب حوله أسوارًا، وحوّل الترميم إلى حدثٍ ذي رمزيّة طائفيّة حين قرنه بـ”تحرير حلب”. ثم، بعد سنوات، ومع “تحرير حلب” المضاد أقدمت مجموعةٌ من “المحرّرين” على إحراق المقام، وقرّرت جهةٌ ما تسريب مقطع مصوّر يوثّق الفعل في توقيت بالغ الحساسية، ليضيف إلى التحديات الهائلة التي تواجه “الإدارة العامة” تحديًا فائق الخطورة.
هل ينبغي على “الإدارة” مواجهته بمفردها؟ قطعًا لا، فهو بكل تأكيد تحدٍّ للسلم الأهلي بأكمله، ولملايين تحولوا طوال السنوات الماضية إلى أدواتٍ للنار، وضحايا لها في آن واحد.
——————————–
في توصيف ديكتاتورية بالحجم العائلي!/ خليل صويلح
كيف لنا أن نتخلّى فجأة عن اللغة المراوغة؟ فالصفحة البيضاء أكثر جهنمية ورعبًا، في لحظة ضبابية كهذه، لحظة الكائن “المتشائل”، لا الكائن اليقيني بغدٍ مشرق.
أحدهم نَشَلَ هاتفي الخليوي أثناء وجودي في طابور الخبز، في الصباح الأول لسقوط الدكتاتور! هكذا فقدتُ أرشيفي من أرقام هواتف الأصدقاء، والصور، والرسائل، والمحادثات المخزّنة في الجهاز دفعةً واحدة.
أحسستُ بأنّي أهيم في العراء، بلا ذاكرة، كمن يطوي زمنًا كاملًا من الرعب والكوابيس والإذلال. كان عليّ أن أقوم بتمرينات أولية على إزاحة حراشف الخوف عن الجلد، الحراشف التي تراكمت طوال خمسة عقود متواصلة، ما جعل الكائن السوري يتعلّم لعبة “عجين الفلاحة” بمهارة وليونة، كما لو أنه خُلق لكي يكون قردًا للفرجة، متجاهلًا الحدبة التي في ظهره لفرط الانحناء.
في جولتي الأولى لاستكشاف المشهد، وقفت أمام تمثال محطّم للأب الخالد، أو الصنم حسب التسمية الشعبية للتمثال. كان بلا رأس، فقط بقايا حديد وحجارة، بعدما سحله أحدهم مربوطًا بحبل خلف دراجة نارية، فيما كان آخرون يلتقطون صور السيلفي مع ما تبقى من حطام التمثال كذكرى لا تتكرّر.
كانت التماثيل الأخرى تتهاوى في الساحات والحدائق في مختلف المدن السورية كنوعٍ من الثأر المؤجل. سينبه آخرون إلى عدم الاقتراب من تمثال يوسف العظمة في الساحة التي تحمل اسمه وسط العاصمة دمشق كي لا تحطمه الغوغاء.
سيتذكّر السوريون يوم الأحد (8 كانون الأول/ ديسمبر) باعتباره يومًا مفصليًا في طي زمن العار والعبودية والاستبداد والاستباحة والانتهاك والشعارات الجوفاء والطغيان.
لقد هرِمنا حقًا وليس مجازًا في ظل” ديكتاتورية إلى الأبد”، ديكتاتورية بالحجم العائلي، لطالما كانت عصية على التفسير أو الشرح المبسّط أو الزوال، إذ فقدنا الأمل تمامًا بمشهد مغاير للبلاد، وكان علينا أن نكتفي بحصتنا الضئيلة من هواء التنفّس، بعد أن صَقلنا الخوف على هيئة كائنات بلا دورة دموية، فلكلّ منّا ملفّه الضخم لدى الأجهزة الأمنية، تغذيه شبكة من المخبرين وكَتَبة التقارير بإنشاء سقيم ينتهي بتهمةٍ ما، أقلّها وطأة: تشابه أسماء!
نحن الذين ارتعدت فرائصنا لمئة سبب وسبب (ارتعدتْ فرائصه: فزِع، خاف خوفًا شديدًا. شكا فريصَته: تألَّم من عضلته الصَّدريّة). بلى، كنّا بأضلاع مكسورة بعد أن تجاوز الطغيان حدوده القصوى، فحسب ما يقول جوزيف برودسكي “إن الطول المتوسط لطغيان جيّد، هو عقد ونصف، أو عقدان كأقصى حدّ، حين يكون أكثر من هذا، ينزلق بشكل ثابت في الوحشية”، ولكن ماذا يفعل من عاش الطغيان بثلاثة أضعاف المدّة المقترحة؟!
لعل هذا ما جعل محمد الماغوط يقول” الخوف؟ إنه الشيء الوحيد الذي أملكه من المحيط إلى الخليج. ولديّ في أعماقي احتياطي من الخوف أكثر مما عند دول الخليج وفنزويلا من احتياطي النفط”، ويضيف” ولدتُ مذعورًا، وسأموت مذعورًا أنا مسكون بالذعر، وأي شيء يخيفني”.
من جهتنا، كنّا مهرّبين من طرازٍ آخر، ففي مهنة الكتابة، كان تهريب جملة مضادة، أو هتك مستور، أو تشريح حالة استبداد، خلع أقفال العفّة، عملًا بطوليًا وطائشًا في آنٍ واحد، وذلك باستدراج لغة مراوغة وتغليفها بحبر مرتبك كي لا تقع في مصيدة الرقيب أو الآلة الجهنمية للعقاب.
هكذا كانت طبقات الخوف تتراكم أفقيًا وشاقوليًا، من الفرد إلى الجماعة، تبعًا لاستراتيجيات السلطة في تصدير حالة الذعر، وذلك بتفعيل آليات الضبط والمراقبة وتضييق الحريات، وفقًا لأطروحات ميشيل فوكو بخصوص اشتغال الأنظمة الاستبدادية على تدبير الخوف والرعب لترسيخ سلطتها والاستحواذ على الجموع تحت بند ” نشر ثقافة الخوف”، والسعي لتحقيق “مجتمعات الضبط”، وفي حال فشلها تعمل على تصدير سياسة التخويف من خلال آليات الرقابة والوقاية وإجراءات الطوارئ لرفع مستوى الرّعب، وكيفية إدارة الخوف لا الخروج الآمن منه!
ولكن مهلًا، كيف لنا أن نتخلّى فجأة عن اللغة المراوغة؟ فالصفحة البيضاء أكثر جهنمية ورعبًا، في لحظة ضبابية كهذه، لحظة الكائن “المتشائل”، لا الكائن اليقيني بغدٍ مشرق.
إنها بهجة مؤقتة باحتمالات لا تحصى نحو الضوء أو “العتمة الباهرة”!
————————————-
بعد تصريحات عبدي.. هل تندمج “قسد” في جيش سوريا الجديد؟/ سلطان الإبراهيم
إدارة العمليات العسكرية أكدت على حل جميع الفصائل وضمها لجيش سوريا الجديد
2024-12-26
قال القائد العام لقوات سوريا الديموقراطية (قسد) مظلوم عبدي، إن قواته المؤلفة من 100 ألف مقاتل مستعدة لحل نفسها والانضمام إلى جيش سوريا الجديد، بشرط ضمان حقوق الأكراد والأقليات، مطالباً بأن تكون سوريا لا مركزية، في تصريحات بدت أكثر مرونة بشأن مستقبل تلك القوات، وفتحت الباب لإمكانية حدوث مقاربات بينهم وبين الإدارة السورية الجديدة في دمشق.
وذكر عبدي خلال حديث لصحيفة “التايمز” البريطانية الثلاثاء الماضي، أن “المقاتلين الأجانب في صفوف قسد الذين انضموا سابقاً للقتال ضد تنظيم داعش مستعدون للمغادرة، وأن قواته لا تشكل خطراً على تركيا”، داعياً إلى تعددية ديموقراطية ومشاركة المجالس المحلية في بعض الصلاحيات بالاتفاق مع السلطة المركزية، وطي صفحة حكم النظام السوري السابق الذي كان دكتاتورياً ومركزياً استبدادياً، وقمع خلاله الأكراد”.
بالتزامن قال مدير المركز الإعلامي لقوات سوريا الديموقراطية فرهاد شامي في تصريحات إعلامية، إن “قسد مستعدة للانضمام إلى الجيش السوري الجديد لكن الأمر يحتاج لمناقشات”، مضيفاً أن “تركيا تحاول السيطرة على مزيد من الأراضي السورية، وقسد غير موجودة على الشريط الحدودي التركي إنما قوات الأمن، وحزب العمال الكردستاني موجود داخل الأراضي التركية”.
إدارة العمليات العسكرية متمسكة بحل الفصائل
إدارة العمليات العسكرية بقيادة أحمد الشرع، كانت قد أكدت على حل جميع الفصائل ونزع سلاحها وحصر السلاح بيد الدولة، وضمها جميعاً إلى جيش سوريا الجديد في إطار وزارة الدفاع، وأجرت لقاءات مكثفة مع قادة من جميع الفصائل في الشمال والجنوب بما في ذلك “غرفة عمليات الجنوب” و”الجيش الوطني” لبحث تسريع حلها وتشكيل الجيش.
وقبل يومين، اجتمع الشرع مع عدد من قادة الفصائل في محافظة درعا، وكشف مصدر في الفصائل لموقع “963+”، أن الاجتماع، الذي استمر ثلاث ساعات بحضور وزير الدفاع في حكومة تصريف الأعمال مرهف أبو قصرة، “حمل طابعاً حاسماً، واتسم بفرض لغة صارمة تهدف إلى إعادة هيكلة القوى العسكرية في المنطقة”، قبل أن تعلن إدارة العمليات لاحقاً التوصل لاتفاق يقضي بتوحيد الفصائل تحت مظلة الإدارة وضبط الأمن بالمنطقة.
وأكدت الإدارة أنها ستبدأ بسحب السلاح الثقيل من كافة الأطراف، في خطوة تهدف إلى تقليص حالة التوتر وتعزيز الاستقرار. كما تم الاتفاق على تجهيز مواقع مخصصة لاستلام السلاح الذي كان بحوزة النظام السابق، في إطار خطة شاملة لإعادة تنظيم المشهد الأمني والعسكري في الجنوب السوري، وحضر الاجتماع عدد من القادة كان أبرزهم محمود البردان المعروف بـ”أبو مرشد” من مدينة طفس، ومؤيد الأقرع الملقب بـ”أبو حيان” من بلدة حيط، وعلي باش ممثل اللواء الثامن.
مفاوضات بين إدارة العمليات و”قسد”
القيادي في إدارة العمليات العسكرية السورية أبو صالح الحسن، أكد لموقع “963+”، أن “المفاوضات لا تزال جارية مع الأكراد من أجل أن يكون لهم دور فاعل وأساسي في جيش سوريا الجديد تحت مظلة وزارة الدفاع” مشيراً إلى أنهم جزء لا يتجزأ من سوريا ومكون مهم من مكونات الشعب السوري.
وقال الحسن، إن “تصريحات مظلوم عبدي الأخيرة مبنية على وعود وتفاهمات دولية حول مناطق شمال شرقي سوريا”.
الباحث والمحلل السياسي بسام عساف من لبنان، يقول إنه “من الممكن أن يكون هناك اتفاق بين قسد وإدارة العمليات العسكرية في سوريا على اعتبار أن البلاد يمكن لها أن تقوم على أسس جديدة، ومن شأن ذلك أن يسهم بشكل كبير في استتباب الأمور في كامل الجغرافيا السورية”.
الموقف التركي
لكن رغم تأكيد إدارة العمليات العسكرية منذ إسقاط نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد في 8 كانون الأول/ ديسمبر الجاري، على أولوية الحوار ونبذ العنف لبناء سوريا الجديدة، والمرونة التي بدأت تبديها “قسد”، يبقى موقف تركيا المتشدد حيال الأخيرة ورفضها أي وجود لها في مستقبل سوريا عقبة أمام أي اتفاقيات مستقبلية، حيث قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في كلمة أمام نواب حزب “العدالة والتنمية” في البرلمان أمس الأربعاء: “إما أن يلق المسلحون الأكراد أسلحتهم أو يدفنوا معها في سوريا”.
الأكاديمي والمحلل العسكري والاستراتيجي أحمد رحال، يعتبر خلال تصريحات لـ”963+” من إسطنبول، أن “الأمر لا يتعدى مرحلة التصريحات حتى الآن ولا يوجد أي اتفاق، حيث أن قسد تقول إن لديها شروط وهواجس”، إلا أنه يشير إلى أنه “في حال انضوت قسد ضمن وزارة الدفاع وسلمت سلاحها ولم يعد هناك مطالبة بالكونفدرالية، فإن تركيا لن تكون لديها أية مشكلة”.
لكن نشطاء أكراد، يقولون إن “تركيا تستهدف الوجود الكردي وأي خصوصية لهم في سوريا، وتتخذ من مسألة حماية أمنها القومي وتهديدات حزب العمال الكردستاني، كوسيلة وذريعة من أجل تحقيق هذه الأهداف، ويستشهدون بالعمليات العسكرية التي شنتها في مناطق ذات غالبية كردية كعفرين بالشمال الغربي، على مدى سنوات الأزمة السورية”.
فيما يرى عساف، أن “الاتفاق بين إدارة العمليات العسكرية وقسد في حال التوصل إليه ودمج الأخيرة في الجيش السوري الجديد، سينهي أي توترات مع تركيا، التي تعتبر أن مشكلتها الأساسية هي وجود عناصر حزب العمال الكردستاني وتهديدهم لحدودها الجنوبية”، معتبراً أنه “في حال عدم التوصل إلى اتفاق فإن المشهد في شمال شرقي سوريا سيتجه نحو التصعيد ومزيد من التوترات، خاصةً في ظل التهديدات التركية المتكررة”، وأن الأمر يرجع إلى مدى التجاوب والمرونة التي ستبديها قسد”.
وتخوض “قسد” منذ أيام اشتباكات مع فصائل “الجيش الوطني السوري” المدعوم من تركيا في مناطق سد تشرين وجسر قرقوزاق وريف منبج شرقي حلب، بعد أن أطلقت الأخيرة أواخر الشهر الماضي، عملية عسكرية أسمتها “فجر الحرية” سيطرت خلالها على مدينة منبج وناحية تل رفعت ومنطقة الشهباء شمالي حلب.
—————————————-
تطويق أولى شرارات التحريض على فتنة طائفية في سورية/ محمد أمين
27 ديسمبر 2024
واجهت سورية أول من أمس ما يمكن وصفه بأول محاولة لإشعال شرارة فتنة طائفية عقب سقوط نظام بشار الأسد في الثامن من ديسمبر/كانون الأول الحالي، جراء ما شهدته محافظات سورية عدة، خصوصاً في ريف حمص والساحل السوري، تحديداً مدينتي اللاذقية وجبلة، من احتجاجات تسبب فيها نشر مقطع فيديو يعود لقرابة أسبوعين يظهر مسّاً بمقام ديني خاص بالطائفة العلوية في حلب تزامناً مع اشتباكات بين الأمن العام التابع لإدارة العملية العسكرية (القيادة السورية الجديدة)، مع مسلحين مطلوبين للأمن العام. وهو ما عزز الاعتقاد بوجود مخطط مدروس للتحريض على الفتنة في سورية لا سيما بسبب توقيت نشر المقطع المصور والتحريض على الاحتجاج وهوية بعض من شاركوا في التظاهرات.
وإذا كانت وزارة الداخلية تحت إدارة القيادة الجديدة قد سارعت إلى فرض حظر تجوال، خصوصاً في حمص وجبلة لضبط التوتر الأمني ومنعه من الانفلات على نحو أوسع، فإن البيانات المتعددة التي خرجت تباعاً، بما في ذلك وجهاء الطائفة العلوية، كان لها دور مؤثر في تخفيف التوتر والاحتقان وتطويق محاولة بث فتنة طائفية في سورية وسط قناعة لدى كثر داخل سورية أن محاولات تأليب السوريين على بعضهم البعض، سواء من قبل أنصار النظام الذي لطالما غذّى التجاذبات الطائفية في البلاد، أو قوى إقليمية تبشّر في تصريحات مسؤوليها سورية بالخراب، يجب عدم السماح بها، وتتطلب أقصى درجات الوعي من قبل جميع الأطراف لقطع الطريق أمام التحريض، وما قد يسفر عنه لا سيما أن ما عاشته سورية الأربعاء الماضي لا يمكن استبعاد تكراره.
ولم يتأخر وجهاء الطائفة العلوية في مدينة حمص، وسط سورية، في إصدار بيان دعوا فيه الى “تسليم السلاح إلى الجهات المختصة خلال مدة أقصاها خمسة أيام”. كما دعا الوجهاء إلى الابتعاد “عن كل ما يثير النعرات الطائفية، سواء عبر الشعارات أو الخطاب الإعلامي”، مطالبين السلطة الجديدة بـ”اتخاذ مواقف حازمة ضد أي محاولة للمساس بالأمن والسلم الأهلي، والحفاظ على الأرواح والممتلكات العامة”، مؤكدين على وحدة الشعب السوري.
بث فيديو قديم لنشر فتنة طائفية في سورية
وشهدت مدن حمص واللاذقية وجبلة، أول من أمس الأربعاء، تظاهرات، إثر انتشار مقطع فيديو يظهر مسّاً بمقام ديني خاص بالطائفة العلوية في حلب، تبيّن لاحقاً أنه قديم و”قامت به مجموعات مجهولة”، وفق بيان لوزارة الداخلية في الحكومة السورية المؤقتة. واضطرت الوزارة إلى فرض حظر للتجوال في عدة مناطق للسيطرة على الاضطرابات والتي جاءت بالتزامن مع مقتل 14 عنصراً وإصابة 10 من قوات الأمن الداخلي في كمين بريف طرطوس أثناء محاولة القبض على أحد المتهمين البارزين بارتكاب مجازر إبان عهد بشار الأسد، وهو ما زاد من حجم التوتر والاحتقان في البلاد ومحاولة إشعال فتنة طائفية في سورية. وقال وزير الداخلية السوري الجديد محمد عبد الرحمن على منصة تليغرام إن 14 عنصراً في الشرطة قتلوا وأصيب 10 على أيدي “فلول النظام البائد”، متعهداً “بالضرب بيد من حديد” لكل من “تسول له نفسه العبث بأمن سورية وحياة أبنائها”.
وأطلقت الإدارة الجديدة في سورية حملة أمنية في طرطوس، متعهدة بملاحقة “فلول” نظام الأسد، فيما ذكرت وكالة الأنباء السورية (سانا) أن محمد عثمان المحافظ المعين حديثاً لمنطقة اللاذقية الساحلية المجاورة لمنطقة طرطوس التقى وجهاء ومشايخ علويين بهدف “تشجيع التماسك المجتمعي والسلم الأهلي في الساحل السوري” وفي إطار تطويق محاولات بث فتنية طائفية في سورية.
وبثت وكالة الأنباء السورية (سانا) مشاهد لانتشار عناصر إدارة العمليات العسكرية في قرية خربة المعزة بريف طرطوس بهدف ملاحقة “فلول مليشيات الأسد وحماية المدنيين وإعادة الأمن والاستقرار”. ووفق الوكالة فقد “تمكنت إدارة العمليات العسكرية، ضمن عملية ضبط الأمن وحفظ السلم الأهلي التي أطلقتها بالمحافظة، من تحييد عدد من فلول مليشيات الأسد في أحراج وتلال ريف طرطوس بينما تستمر في مطاردة آخرين”. وأفاد المرصد السوري لحقوق الإنسان، في بيان أمس الخميس، عن سقوط ثلاثة قتلى خلال هذه العملية، موضحاً أنهم من صفوف “المقاتلين الموالين للنظام السابق”. وقال مدير المرصد رامي عبد الرحمن لوكالة فرانس برس إن “متظاهراً قُتل وأصيب خمسة بعدما أطلقت قوات الأمن النار لتفريق المتظاهرين” في حمص الأربعاء الماضي. وفي إطار محاولات السلطة للتخفيف من التوتر، أعلنت وزارة الإعلام السورية، أمس الخميس، حظر تداول أو نشر أي محتوى إخباري ذي طابع طائفي. وقالت الوزارة، في منشور على صفحتها في موقع فيسبوك: “حرصاً على تعزيز الوحدة الوطنية وصون النسيج السوري بجميع مكوناته، يُمنع منعاً باتاً تداول أي محتوى إعلامي أو نشره، أو محتوى إخباري ذي طابع طائفي يهدف إلى بث الفرقة والتمييز بين مكونات الشعب السوري”.
ووصلت تعزيزات أمنية كبيرة، أمس الخميس، إلى الساحل السوري في شمال غرب سورية، وسط اشتباكات بين عناصر من وزارة الداخلية السورية ومجموعات مسلحة وصفت بـ”الخارجة عن القانون”. وجاء التصعيد في الساحل السوري بالتزامن مع بدء حملة أمنية واسعة النطاق في مناطق قدسيا، والهامة، وجبل الورد، وحي الورود في ريف دمشق، جنوب غرب سورية، وتهدف إلى تمشيط هذه المناطق، وضبط السلاح غير الشرعي، واعتقال المتورطين في أعمال الشغب. وقالت مصادر من إدارة العمليات العسكرية، لـ “العربي الجديد”، إن العمليات الأمنية تشمل تفتيشاً دقيقاً للمواقع والمزارع التي تتمركز فيها مجموعات خارجة عن القانون لديها ارتباطات بـ “الحرس الثوري الإيراني” ونظام الأسد، مع التركيز على تفكيك البؤر المسلحة وضمان عودة الاستقرار إلى المناطق المستهدفة. وتهدف الحملة أيضًا إلى توجيه رسائل حازمة بشأن الالتزام بالقوانين، والحفاظ على الأمن المجتمعي، ومنع انتشار السلاح العشوائي”.
أنصار النظام السابق شرارة التظاهرات
وأكدت مصادر محلية في مدينة حمص أن عدداً من أنصار النظام السابق، من عسكريين ومدنيين، “كانوا الشرارة لانطلاق التظاهرات يوم الأربعاء والتي رفع المتظاهرون فيها شعارات طائفية في محاولة لإشعال فتنة في المدينة التي تضم العديد من مكونات الشعب السوري”. وفي هذا الصدد، قال رامز م، الذي يقطن حي النزهة في حمص، لـ”العربي الجديد”، إن “عموم أبناء الطائفة العلوية يقفون ضد محاولات نسف الاستقرار تحت ذرائع زائفة”، مضيفاً: “عدد كبير ممن شارك في التظاهرات الطائفية متهمون بارتكاب فظائع ويحاولون الضغط على السلطة الجديدة للحصول على عفو من المسؤولية وينجيهم من العقاب”. وربط كثيرون بين الاضطرابات التي حدثت في مناطق انتشار العلويين في سورية وبين تصريحات كبار المسؤولين الإيرانيين المناهضة للسلطة الجديدة في سورية، أبرزها توقع المرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي، أخيراً، أن “تظهر جماعة شريفة قوية في سورية أيضاً”، مضيفاً أن الشباب السوري ليس لديه ما يخسره “فجامعته غير آمنة ومدرسته غير آمنة وشوارعه غير آمنة وحياته كذلك أيضاً”، متهماً أميركا والكيان الإسرائيلي بنشر الفوضى في سورية. وقال إن “الشباب السوري سيتصدى لهم وسيتغلب عليهم”. وأعلن وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، الأربعاء الماضي، أن سورية تواجه مستقبلاً غامضاً بعد إطاحة الأسد. وقال، بحسب وكالة أنباء الطلبة الإيرانية “إيسنا”، إنه “من المبكر للغاية الحكم على مستقبل سورية، حيث يمكن للعديد من العوامل أن تؤثر بشكل كبير على الوضع السياسي هناك”، مضيفاً أن “من يعتقدون حالياً بتحقيق انتصارات مؤكدة، لا ينبغي لهم أن يفرحوا قبل الأوان”. وذكر المرصد السوري لحقوق الإنسان، في بيان، أن “أحد الشيوخ المقربين من إيران في حمص دفع في تظاهرة مساء الأربعاء (الماضي) باتجاه التحريض الطائفي بين أبناء الشعب السوري لضرب السلم الأهلي”.
كما شهد حي “المزة 86” في دمشق، والذي يقطنه أغلبية من الطائفة العلوية، توتراً مساء أول من أمس الأربعاء على خلفية التظاهرات التي شهدتها حمص ومدن وبلدات في الساحل السوري. وقالت صحافية سورية تقيم في العاصمة، فضّلت عدم ذكر اسمها، في حديث مع “العربي الجديد”، إن فلول النظام والذين كانوا يستفيدون منه من أبناء الطائفة “هم من يدفعون للاصطدام مع السلطة الجديدة”، مشيرة إلى أن هؤلاء “يدركون أن النظام انتهى ولا عودة له، لكن الاستقرار في البلاد ليس في مصلحتهم فهو يقرب موعد إحالتهم إلى القضاء”. وأكدت أن “عائلة الأسد جعلت الطائفة العلوية رهن سياساتها التي دمرت البلاد”، مضيفة: قرى الساحل السوري تعاني من الفقر والإهمال طيلة أكثر من 50 سنة، بينما طبقة العسكر من الضباط في الجيش والأجهزة الأمنية وبعض المدنيين المرتبطين لهم، وحدهم استفادوا من النظام”، رافضة ربط النظام المخلوع بالطائفة العلوية، مضيفة: “لا نريد دفع ثمن نصف قرن من الانتهاكات التي قامت بها عدة عائلات علوية في البلاد”.
من جانبها، اعتبرت واحة الراهب، المخرجة السورية المنحدرة من ريف اللاذقية في حديث مع “العربي الجديد”، أن “تطييف الشعب السوري الذي تعايش على مدى قرون بكل الطوائف والإثنيات والأعراق والأديان، لعبة استعمارية في المنطقة كان أداتها النظام الأسدي لتقسيم سورية على مبدأ فرق تسُد”. وأضافت: “أي تظاهرات ذات طابع طائفي، خاصة بعد كل هذا التسامح الذي تعامل به ثوارنا المنتصرون مع الجميع، جزء من ثورة مضادة يقوم بها أزلام النظام وإيران وروسيا وفلولهم المهزومة لخلق فتنة بين شعبنا المحتفي بانتصاره”. ورأت أن “شعبنا بجميع مكوناته واع لهذه الفتنة في سورية وسوف يحبطها”، مضيفة: كل مكونات المجتمع تحتاج أولاً للأمان ونظام مواطنة ديمقراطي انتخابي يبنى بعيداً عن أي تمييز ديني أو طائفي أو عرقي أو جنسي أو اثني.
وتعليقاً على ما جرى الأربعاء الماضي، رأى الناشط السياسي عيسى إبراهيم، في حديث مع “العربي الجديد”، أن هناك انهياراً كاملاً لمؤسسات الدولة بسبب هروب الأسد، تاركاً البلاد للمجهول، بعد رفضه تسليم البلاد لهيئة حكم انتقالي. واعتبر أن حكومة “الأمر الواقع” الحالية “ليس لديها الإمكانات لإدارة دولة”، مضيفاً: هناك قوى من جماعات محلية مسلحة غير معروفة المرجعية وفلول عصابات الأسد، وكل ذلك انعكس على الواقع السوري، وخاصة في الساحل وحمص وغيرها من المناطق الذي يقطنها السوريون العلويون. وربط ما جرى أول من أمس مع مشهد “تم تظهيره خلال العقد والنصف الأخير لجهة الفرز الطائفي، على حساب تظهير الاصطفاف السياسي، وتكثيف ذلك بحرق مزارات والاعتداء عليها والتركيز الإعلامي المُجيّش بالفترة الأخيرة”.
وحول مبررات مخاوف الأقليات في سورية جراء التغيير العميق الذي جرى في البلاد في الثامن من الشهر الحالي، رأى الأكاديمي السوري يحيى العريضي، في حديث مع “العربي الجديد”، أن “الأمر يعتمد على فهمنا وتعريفنا للأقلية، فإن كنا نراها على أرضية عقائدية طائفية، فالمخاوف غير مبررة لأننا نقول إن الشعب السوري واحد”. وأضاف: من يؤمن بالثورة يجب ألا يقلق، والأمر ينطبق على “أقلية” و “اكثرية” بالمعنى العددي والمواطني والثوري.، وإن “كانت الرؤية أو التفكير بأن الأقلية هي أقلية النظام الاستبدادي، الذي احتوى من كل الطوائف أقلية وأكثرية، والذي فعل ما فعل بسورية وشعبها، فهذه الأقلية الاستبدادية يقلقها الحساب القادم، وتسعى لسحب ما يسمى الأقليات طائفياً، وتعميق الانقسام على أساس عقدي طائفي”
العربي الجديد
————————-
========================