سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 28 كانون الأول 2024
لمتابعة التغطيات السابقة
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 27 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 26 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 25 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 23 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 22 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 21 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 20 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 19 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 18 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 17 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: المصاعب والتحديات، مقالات وتحليلات 16 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مهام اليوم التالي، مقالات وتحليلات 15 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 14 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: سقوط الديكتاتور الفار بشار الأسد مقالات وتحليلات
——————————————
سقوط الأبد: كيف قرأ المثقفون السوريون الحدث وما هي رؤاهم للمستقبل؟ “1”/ محمد تركي الربيعو
تحديث 28 كانون الأول 2024
تقدم صحيفة «القدس العربي» هذا التحقيق ضمن سلسلة من ثلاثة حلقات مخصصة لاستكشاف الواقع السوري بعد سقوط نظام الأسد. في هذا الجزء، نسلط الضوء على قراءة المثقفين السوريين للحظة التحول الكبرى، ورؤاهم لمستقبل البلاد، في ظل تحديات إعادة البناء وإعادة تعريف الأدوار الثقافية والسياسية.
على الرغم من مرور أسابيع قليلة فقط على سقوط النظام السوري، إلا أن المتابع للنقاشات الدائرة بين السوريين حول مستقبل بلدهم، لا بد أن يلاحظ أن هناك نفسا جديدا، لم يعهدوه في السابق. صحيح أن الأشهر الأولى من عمر الثورة السورية التي انطلقت في شهر آذار/ مارس عام 2011، كانت قد جلبت وفتحت النقاش واسعاً حول التغيير وضرورته، إلا أن الموجة الجديدة من التغيير في البلاد، قلبت الأمور رأسا على عقب، ووضعت السوريين أمام مرحلة أخرى، تتمثل في إعادة بناء البلاد ومؤسساته. من هنا، يظهر اليوم عدد من المثقفين السوريين، وهم يحاولون تقديم طروحات جديدة حول المرحلة الجديدة، وبالأخص على صعيد إعادة تعريف أدوارهم، وتشكيل المؤسسات الثقافية، وغيرها من القضايا المتعلقة بمستقبل البلاد.
حاول السوريون على مدار أربعة عشر عاما تقريبا العمل على إسقاط النظام، إلا أن الظروف الدولية، وتناحر القوى السياسية المعارضة، كلها عوامل جعلت من فكرة إسقاط الأسد، أقرب ما تكون للحلم المستحيل. وكانت قوات الأسد بعد عام 2016، قد تمكنت بمساعدة إيران وروسيا، من إعادة السيطرة على عدة مناطق تابعة للمعارضة، ما خلق شعوراً سلبياً عاما داخل البلاد وخارجها، يوحي ببقاء الأسد وعائلته في الحكم لسنوات طويلة. من هنا شكلت لحظة سقوط النظام حدثاً مفاجئاً، بالنسبة لأشد المتفائلين من المثقفين السوريين. ويبدو أن هذا الشعور ما يزال يعيشه قسم كبير منهم، حتى بعد وقت قصير من فرار الأسد، ومن بين هؤلاء الروائي السوري فواز حداد، الذي يذكر في مقابلة مع صحيفة «القدس العربي» أن ما حدث أشبه ما يكون بالخيال، وعلينا أن نصدق ما حدث، مع أننا غير قادرين على استيعاب ما جرى. ويضيف، منذ عدة أيام أخشى أن أفتح عينيّ، خوفا من أن أجد ما جرى مجرد حلم ليس إلا. وكان حداد قد غادر مدينته دمشق منذ قرابة 12 عاما، بسبب تأييده الثورة، والأوضاع الأمنية، ولذلك لا ينسى أن سنوات الحرب كانت مؤلمة بالنسبة له، ففي كل يوم كان يشعر كما يقول» بأنني أفقد مدينتي، وهذا ما شكل إرباكاً في حياتي الشخصية، وفي رواياتي. فدمشق كانت مكاني الوحيد في كتاباتي، وإن تنقلت أحيانا بين عدة مدن، لكن دمشق استأثرت بي، خاصة أنني دمشقي اعتدت على حياة مرسومة في داخلها. فمن الشوارع، إلى الأزقة، والمكتبات، المقاهي، والسينما، وكأن كل هؤلاء انتزعوا مني فجأة، أو بالتدريج».
ومنذ اللحظات الأولى من سقوط النظام، تحرك سوريون كثر ممن يعيشون خارج البلاد، أو في مدن أخرى نحو دمشق، وهنا يؤكد حداد أنه عندما شاهد النظام وهو يسقط، شعر وكأنه قد استعاد مدينته، «بعد زمن بدا وكأنني عشت عمري في فراغ، وكتبت عن فراغ. فجأة امتلأت حياتي وبات لرواياتي سند حقيقي.. اليوم عدت أعيش، وكانت دمشق برهانا على وجودي».
وعن لحظة سقوط الأسد، يؤكد أيضا الباحث والمؤرخ السوري تيسير خلف، أنه لا يوجد أسوأ مما كان تحت حكم آل الأسد، وهو أسوأ شيء ممكن أن يتخيله عقل بشري. ويؤكد خلف أن السوريين بكل طوائفهم سعيدون بهذا الشيء، وأنه لم يبك أحد على النظام، فالجميع بمن فيهم العلويون، بصقوا عليه وشتموه عندما خرج.
الشيء ذاته هو ما يراه أيضا الكاتب السوري عمر قدور، الذي يعتقد أن ما حدث من تغيير مفاجئ وسريع هو تغيير مستحق منذ عام 2011، وربما 2012 على أبعد تقدير. ورغم من أن هذا التغيير جاء محمولا على تفاهمات دولية تسمح بحدوثه، إن لم نقل إنها سهلت حدوثه، إلا أن ذلك برأيه لا ينتقص من أهمية ما حدث في البلاد.
مخاوف وقلق:
وكانت قوات المعارضة السورية، قد دخلت دمشق أولا من جهة الجنوب في ليلة 8/12/2024، بينما استطاعت القوات القادمة والمعروفة باسم (إدارة العمليات) والتي يقودها أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني سابقاً)، من دخول المدينة في اليوم التالي، وقد أثار هذا الحضور بعض المخاوف، فالشرع كان قد أمضى سنوات طويلة من حياته في القتال إلى جانب الجماعات الجهادية العالمية، قبل أن يعود ويؤسس لحركته «جبهة النصرة»، ولاحقا «هيئة تحرير الشام»، التي وإن بدت أنها أقرب ما تكون لحركة محلية، إلا أنها في المقابل ظلت تتبنى الرؤية السلفية الجهادية. ويعتقد قدور أن هناك الكثير من الريبة تجاه الشرع ـ الجولاني نفسه، بسب حكمه الإسلامي في ادلب، وأيضا الحكم السلطوي /الفردي لديه، ووجود سجون للناشطين في تجربته، وبالتالي نحن أمام تجربة غير ديمقراطية في حواضنه، ومناطق نفوذه الرئيسية، يخشى من تكرارها على مستوى سوريا، وكل هذا يجعل الخشية مبررة، وإن كان الواقع حتى الان ليس على قدر المخاوف، لكن هذه المخاوف ستبقى مبررة حتى إتمام الانتقال الديمقراطي في سوريا، ووجود هيئة منتخبة، وقوانين واضحة لا تثير أي ريبة أو التباس.
في المقابل يبدو الأكاديمي السوري في جامعة لويزيانا الأمريكية أحمد نظير الأتاسي، أكثر قلقا بعض الشيء، إذ يعتقد أن السلفيين بشكل خاص، والإسلاميين عموما، لا يمكن أن يقاوموا إغراء السلطة، أوالتغلغل والاستيلاء وفرض السلطة. ولعل ما يدعم رؤية الأتاسي، حسب البعض، هي التعيينات التي اتخذها الشرع في الأيام الماضية، والتي غالبا ما جاءت بأشخاص مقربين منه ومن تياره السلفي. ولتجنب هذا السيناريو، يرى تيسير خلف أن على النخب السورية العودة لدمشق، وبدء حراكها، ودون ذلك فإنها ستكون مسؤولة بشكل من الأشكال عن تأبيد، ومساعدة «هيئة تحرير الشام» في الاستحواذ على السلطة، لكن عموما يبدو خلف متفائلا من عدم الوقوع في هذا السيناريو، فهو يعتقد أن السوريين عانوا وقاسوا ولن يكرروا التجربة، حتى لو «كان من يحكمهم ملاكاً» على حد تعبيره، كما يعتقد أن هناك قوى وأحزابا جديدة ستظهر، ولن تكون على النمط القديم، بل أقرب لنمط الحركات الاجتماعية الجديدة، التي عادة ما تتبنى سياسات مرحلية ونقاط معينة، دون أن تجمع الأيديولوجيا أفرادها بالضرورة. وهو رأي يؤكد عليه الأتاسي، الذي يرى أن على النخب السورية المسارعة، في بناء النقابات، والتركيز على فكرة الحكم المحلي (اللامركزية الإدارية)، الكفيلة كما يعتقد بعدم عودة نموذج الاستبداد.
إسلام سلفي أم وسطي:
يعتقد بعض المراقبين أيضا، أن الصراع على فهم الإسلام وعلاقته بالحكم، قد يكون محور الصراع بين عدد من القوى الرئيسية في سوريا. وكانت البلاد قد عرفت منذ الستينيات تقريبا قدوم حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي حاول تبني رؤية وصفها بالعلمانية تجاه العلاقة بين الدين والدولة. مع ذلك فإن فترة البعث وآل الأسد، ترافقت مع صعود للنفس الطائفي في البلاد والسياسة، وعادت وشهدت البلاد في مرحلة الثمانينيات من القرن المنصرم صعوداً للتيارت الإسلامية، قبل أن يتراجع دورها بعد ما عرف بأحداث حماة. ظلت المدن والحواضر الرئيسية في سوريا مثل حلب ودمشق أقرب ما تكون للنمط المتدين المحافظ، الذي حاول أن يتأقلم أيضا مع التغيرات في العقدين الأخيرين، وهو ما بدا من خلال شكل الحجاب في شوارع دمشق، الذي أخذ يتلاءم بتصاميمه ولونه مع الموضة الجديدة. تغير المشهد قليلا، بعد قدوم الثورة، وبرز من خلال تصاعد دور التدين السلفي، الذي في رأي بعض الباحثين جاء ليتلاءم مع ظروف الحرب، والعنف الذي شهدته البلاد على يد قوات النظام. وعندما دخل أحمد الشرع دمشق في الأيام الأخيرة، بدا وكأنه يعلن عن مرحلة جديدة من الإسلام، مغايرة للإسلام الوسطي الذي عرفه السوريون، خاصة أن الأخير بدا في أول أيامه محجما عن التواصل مع علماء مدينة دمشق، كما أن ما زاد من هذه الشكوك هو قرار حكومته بمنع عدد من خطباء المدينة، من تقديم خطبة الجمعة بسبب ارتباطهم كما يقولون بالنظام. وفي هذا السياق يعتقد محمد أمير ناشر النعم، وهو باحث في الفكر الإسلامي السوري، في حواره مع صحيفة «القدس العربي»، أن هذا الفتور بين «هيئة تحرير الشام» وطبقة العلماء التقليديين في دمشق، هو أمر مسوغ ومفهوم، بناء على العلاقة السابقة التي نسجت بين المؤسسة الدينية التقليدية، ونظام الأسد. مع ذلك، فهو يعتقد أن هذا الخلاف قد لا يعكس بالضرورة صراعا بين اسلاميين في سوريا (سلفي/ وسطي) بالضرورة، وأن طبقة العلماء التقليديين سيحاولون التكيف مع الحكم الجديد. كما يعتقد أن «هيئة تحرير الشام» ذات الخلفية السلفية الجهادية، ستلين إن كانت يابسة. وستغدو مرنة إن كانت قاسية. ويضيف النعم بأن الشرع لم يعد مقتنعا بالمنهج السلفي، والبراغماتية التي نراها في أفعاله وتصرفاته تدل على هذا الأمر، وأن التجربة بالغة السوء التي طبقتها بعض الجماعات السلفية السورية خلال الثورة، بالإضافة لعوامل محلية وإقليمة أخرى، قد تدفع الاتجاه السلفي إلى مستوى آخر، وربما نعود الى السلفية الإصلاحية السورية التي انبثقت في نهاية القرن التاسع عشر على يد طه الجزائري وعبد الرزاق البيطار وجمال الدين القاسمي.
زينة الفضاء العام أم طباخات؟
وكان أحد المقربين من الشرع قد صرح في أحد مقابلاته الأخيرة، بأن النساء لا يصلحن للعمل في بعض المهن، بسبب طبيعتهن البيولوجية، وقد أثار هذا الكلام نقاشات واسعة ومخاوف، من أن يكون بمثابة مقدمة للتضيق على حرية النساء وحركتهن في الفضاء العام. وتعد سوريا من أوائل الدول في منطقة الشرق الأوسط، التي شهدت حراكا واسعا حول حقوق النساء، إذ كتبت زينب فواز 1860ـ 1914 مثلا مع بدايات القرن العشرين، منددة بدعوة بعض السوريين والسوريات إلى حصر عمل المرأة في المنزل، أو النظر بسلبية تجاه النساء اللواتي يوجدن في المجال العام. وبعيد الخمسينيات، أخذ حضور النساء يتزايد في المجال العام السوري، ليغدو لاحقا أمرا طبيعا في حياة كل المدن السورية. وعلى الرغم من أن النظام السوري، لم يبد ممانعة في حضور النساء داخل المجال العام، إلا أنه في المقابل غالبا ما قيد من حقوقهن. وفي هذا السياق تؤكد الأكاديمية آراء جرماني لصحيفة «القدس العربي» أن النساء تعرضن لعنف واسع في سوريا خلال فترة حكم آل الأسد، وهذا العنف غالبا ما تمركز في القوانين، إذ نرى مثلا أن قانون الأحوال الشخصية ما يزال معمولاً به منذ عام 1951، وهو قانون رغم أنه يستند للشريعة الاسلامية، إلا أنه لم يجر تطويره، على صعيد موضوعات الزواج، أو حضانة الأطفال، أو على مستوى حصول الأطفال من آباء غير سوريين على الجنسية السورية، كما أن القانون السوري برأيها لا يحتوي ليومنا هذا على قوانين حول العنف الأسري. من هنا تعتقد الجرماني أن النساء السوريات عانين من عنف كبير خلال الفترة الفاتئة، بسبب هذه القوانين، ما يتطلب ضرورة إصلاحها. وحول المخاوف من تصريحات بعض المقربين من الشرع، ترى جرماني أنها مخاوف محقة، وتشير في هذا السياق إلى نتائج دراسة أعدتها مؤخرا بعنوان «العنف ضد النساء في سوريا» خلال الحرب، وشملت 1226 حالة، أظهرت أن أكبر نسبة عنف ضد النساء كانت في المناطق التي تحكمها «هيئة تحرير الشام»، كما أن نسبة عمل النساء في المجالس المحلية لا يتجاوز 10%، وهن في الغالب زوجات، أو من عائلات المقاتلين. وبالتالي فإن النموذج الذي يحاول الشرع نقله اليوم لكامل سوريا، هو نموذج عنيف تجاه النساء كما تشير الدراسة. من جانبها تؤكد الكاتبة والناشطة النسوية المعروفة مي الرحبي، أن على السلطة الجديدة أن تكون واعية ومسؤولة تجاه التعامل مع حقوق النساء، خاصة أن هناك اليوم مئات الآلاف من السوريات المختصات في شتى العلوم، ومن الواجب الاستفادة من خبراتهن في الدولة الجديدة، بدل التفكير بالحد من دورهن في الفضاء العام.
هل تستفيد حكومة دمشق من الماضي؟
وكانت مدينة دمشق قد عرفت قبل مئة سنة وأكثر، مشهدا شبيها بما عرفته قبل عدة أيام. ففي عام 1918، استطاع الأمير فيصل برفقة الجيش البريطاني دخول مدينة دمشق، بعد هروب العثمانيين. ولعل هذه الحادثة، وغيرها من الحوادث التي عرفتها سوريا في العقود الماضية، يراها البعض اليوم بمثابة أحداث لا بد من إعادة قراءتها، لفهم الواقع. ويعتقد المترجم والباحث عمرو الملاح، أن ما تعيشه دمشق اليوم، يحمل شبهاً كبيراً بالواقع الاقتصادي، الذي عاشته سوريا عقب الانهيار العثماني، غداة الحرب العالمية الأولى. إذ غادر الجيش العثماني البلاد مصطحباً معه كل ما في خزائن المدن السورية من أموال، ما اضطر الحكومة العربية الوليدة بقيادة فيصل للاعتماد على مبلغ الإعانة البريطانية، التي لم تكن منتظمة لأسباب عديدة، بالتزامن مع سعي الحكومة مع سعي الحكومة المطرد على الولوج للمجال العام، وانبثاق الحركة الجماهيرية التي عملت على تنظيم السوريين وتعبئة الرأي العام. ولذلك يعتقد أنه من الممكن الاستفادة من هذه التجارب، لنستلهم منها بعض تفاصيل المستقبل. ويضيف الملاح أنه لا بد من القطيعة مع حقبة البعث، والقطع لا يكون بإجراء تعديلات على الدستور الراهن الذي عدل عهد الرئيس الهارب المخلوع، وإنما عبر تبني دستور 1950، الذي قد يصلح ليكون مرجعية مؤقتة لتنظيم المرحلة المقبلة من تاريخ سوريا الجديدة، وانعقاد مجلس حكماء يضم نخبة من الاختصاصيين في شتى الميادين ممن يقيمون في الداخل أو الخارج، ليتولوا إدارة مرحلة الحكم الانتقالي بسب تعذر إجراء انتخابات نيابية الآن. وينحدر الملاح من مدينة حلب، التي عانت كثيرا في السنوات الأخيرة، جراء ما تعرضت له من دمار كبير، ولذلك يؤكد أن هذه المدينة، التي تتسم إثنيا ودينياً، قد شهدت تحولات جذرية، وبدأ العمل على تخريبها اجتماعيا وثقافياً، وتهميش نخبها الاجتماعية منذ الخمسينيات، لا سيما إبان عهد الوحدة، وبلغ ذروته في ظل حكم البعث، ولذلك فهو يرى أن المدينة بحاجة في المرحلة المقبلة لإيلائها المزيد من الاهتمام، خاصة انه كان لها نصيبها من الدمار، والذي يتحمل فيه النظام البائد المسؤولية الأكبر. ولذلك لا بد من إعادة إحياء الاقتصاد والصناعات التحويلة والحرفية التي تشتهر بها، وسن تشريعات وقوانين تشجع صناعييها ممن أسسوا معامل في مصر، ليشاركوا في بناء سوريا الجديدة التي يحلم بها الجميع..
كاتب سوري
القدس العربي
————————————
هل ينجح الشرع في اجتياز الاختبار السوري الصعب؟/ يمان دابقي
28 ديسمبر 2024
مذ دخل القائد أحمد الشرع إلى قصر الشعب في دمشق، والعيون العربية والدولية لا تُفارق عاصمة الياسمين. وُضعِت سورية تحت المجهر، وبدأت ديناميات العمل السياسي في تدافع ملحوظ، وفود أميركية وأوروبية وعربية، اتصالات ورسائل متبادلة في مشهد أعاد إلى أذهان السوريين حقبة سورية الذهبية في أربعينيّات القرن الماضي وخمسينياته، حينما كانت دمشق مقصدَ الجميع لمدّ جسور وصل بين الشرق والغرب، ومطبخاً سياسياً وطنياً بامتياز، خرجت منه قامات سورية وطنية، كأديب الشيشكلي وآل الأتاسي، وزعماء وقادة تحرّر أعيد استحضارهم اليوم في مشهديّة الانتصارات السورية على عائلة الأسد، وتحطيم أصنام الاستبداد، التي جثمت على صدور السوريين نحو 55 عاماً.
لمع نجم قائد هيئة تحرير الشام، أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني)، في الساحة الدولية، ليس لأنه قدّم نموذجاً في تحرير سورية أبهر العالم وحسب، بل لأنّه أيضاً فرض نفسه على اللاعبين الدوليين، عبر استغلاله لحظةً تاريخيةً فارقةً في صراع الإرادات الدولية على الأراضي السورية، فاستلم زمام الأمور بعدما كانت مسلوبةً من جميع السوريين، ومضى من دون توقّف حتى وصل العاصمة دمشق معلناً إسقاط النظام السوري. مثل حدث عالمي ودولي كهذا لا يحدث كثيراً في التاريخ إلّا من قادة تميّزوا بمقوّمات وصفات ذاتية خاصّة، استطاعوا من خلالها جذب أنظار الحلفاء والخصوم معاً.
الصدمة التي أحدثها الشرع، ومن معه من رفاق دربه، وفصائل سورية، أجبرت الدول الكبرى على إعادة حساباتها في سورية من دون إعطائها كثيراً من وقت، إذ كانت تلك الدول تعمل لإعداد صفقة دولية تعيد دمج الأسد في المنظومة العربية والدولية بعد طرد إيران من كامل المنطقة، وإزالة العقوبات الاقتصادية، بل إن مخطّطاً كان يُطبَخ على عجل من بعض دول عربية داعمة للأسد مع الغرب والكيان الإسرائيلي من أجل تقسيم سورية بين ثلاثة أو أربعة أقاليم على أساس عرقي، وفق تقرير لصحيفة فايننشال تايمز، في مقال تحت عنوان “المعارضة السورية أحبطت مخطّطاً لتقسيم سورية”، ليفرض الجولاني واقعاً جديداً بخطاً واثقةٍ، وإرادة قوية. وقد عوّل على رصيده السابق مع الدول الكُبرى، التي تعامل معها خلال فترة وجوده في إدلب (2016 – 2023) في ملفّات مكافحة التنظيمات الجهادية، كالتعاون في اغتيال قائد تنظيم الدولة الإسلامية، أبو بكر البغدادي (في ريف إدلب)، واغتيال سلسلة قادة آخرين، إضافة إلى ذلك الجهد الذاتي في مواكبة متغيّرات الواقع السوري المرتبطة بالمزاج الدولي العام، وهو الأمر الأكثر أهمية، الذي قاد الجولاني إلى إحداث تغييرات جذرية في هيئة تحرير الشام على مستوى البنية والشكل والخطاب والمنظومة الفكرية والأيديولوجيا، لينتقل اليوم إلى المرحلة النهائية من التحوّلات، وهي الانتقال من عقلية الفصائلية إلى عقلية الدولة. إذاً نحن أمام رجل استثنائي في تاريخ سورية الحديث، استطاع أن يثبت للجميع أنّه قائد المرحلة الجديدة، حاملاً معه نموذجَ الإسلام المُعتدِل، وهو النموذج الذي يمثّل هُويَّة سورية عبر التاريخ، ومجمع عليه من المكوّنات السورية كلّها.
ما سبق إيجاز نظري عن القائد الغامض. وعملياً، أمام الرجل تحدّيات واختبارات عديدة في حديثنا عن بناء الدولة السورية. على المستوى الداخلي الشعبي، وبالرغم من نجاحه في كسب ثقة شرائح كبيرة من المكوّنات السورية، من خلال تركيزه في هموم السوريين، إلّا أنّ الاختبار الصعب لم يأتِ بعد، وهو مدى قدرته (مع حكومة تصريف الأعمال) في إعادة وحدة السوريين، ورأب الصدع المجتمعي، وإنهاء الانقسامات بين المكوّنات السورية، التي شرذمها نظام الأسد. فحتى اليوم لا يزال الساحل السوري قابعاً على فوهة بركان، والأصوات والبيانات الصادرة من بعض متصدّري المشهد هناك غير مبشّرة بالخير، وفي شمال شرقي سورية، البيئة غير مستقرّة بسبب الصراع الطويل مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي تتحكّم بمصير الأكراد. والأكثر أهمية، هناك طيف واسع من السوريين منقسم بين يسار ويمين، وقد ظهرت ارتداداته في مظاهرة خرج بها قبل أيّام قبالة دار الأوبرا في العاصمة دمشق أشخاص محسوبون على النظام البائد، ومن شبّيحته، حاولوا تأجيج الشارع السوري، وزيادة حالة الشرخ والانقسام بين المكوّنات السورية، بفرض حالة اجتماعية حملت شعارات ومطالب محقّة في وقت غير مناسب تمرّ فيه البلاد.
كما ظهرت موجة انتقادات لحكومة الشرع من شريحة سورية، من كُتّاب ونقّاد، اتهتمته باستئثاره بالسلطة بإقصاء بقيّة الأطياف السورية، وهذا إلى حدّ كبير صحيح، بالنظر إلى سلسلة التعيينات التي أجراها في حكومته المؤقّتة، فالشخصيات التي استلمت وزارة الخارجية والدفاع والداخلية والإعلام والصحّة وشؤون الإدارة السياسية، جميعها كانت تشغل مناصبَ في حكومة الإنقاذ بإدلب. لكن، في المقابل لا يمكن النفي بأنّ المرحلة الحالية تتطلّب أشخاصاً يثق بهم الشرع، اختبرهم سابقاً، لإدارة المرحلة المؤقّتة بهدف ضبط الأمن، وقطع الطريق على المتربّصين بثورة السوريين، كفلول النظام البائد وبعض الدول التي امتعضت من الواقع الجديد في سورية، والرافضة عمليات تغيير تنقل سورية إلى دولة الحرّيات والمؤسّسات والقانون بدلاً من نظام العسكر ورموز الاستبداد.
هناك رهان على أنّ مؤتمر الحوار الوطني المرتقب سيكون حلّاً للمشكلات الداخلية كلّها، إذ من المفترض أن يشمل جميع الأطياف والمكونات السورية، ممثّلين للشرائح كافّة، وفي حال نجاحه ستكون سورية قد دخلت المرحلة الثانية ما بعد الأسد، أي تشكيل لجان سورية منبثقة من مؤتمر وطني سوري سوري، ستعمل لإعداد دستور، وتهيئة البلاد للمرحلة الثالثة؛ الانتخابات، لتشكيل حكومة وطنية شاملة. أمّا شكل الحكم في البلاد فسيكون التحدّي الأكبر؛ مدني ديمقراطي، أم علماني، أم إسلامي، لا مركزي إداري؟ ومن المفترض أن الاستفتاء الشعبي هو الآلية الوحيدة لحلّ هذه المعضلة من دون تدخّل دولي أو محاولة فرض إملاءات على السوريين، وهذا تحدٍّ كبيرٍ لا مفرّ منه.
التحدّيات التي تُواجه الشرع داخلياً لا تقلّ أهميةً عن الاختبار الدولي الصعب في قدرته على تحقيق توازن في العلاقات الخارجية، ونجاحه في جلب الدعم الدولي لسورية في المجالات المختلفة، أكثرها أهمية إنعاش الاقتصاد، وملفّ الإعمار، وإعادة صياغة مؤسّسات الدولة، وانتزاع الشرعية الدولية لرفع العقوبات عن سورية، بما في ذلك إزالة هيئة تحرير الشام من لوائح الإرهاب، فماذا في جعبة الشرع لتحقيق هذه الإنجازات؟
يمتلك الرجل أوراقاً كثيرةً لنزع جملة من المكاسب السياسية، في مقدمتها حاجة تلك الدول إلى التعامل معه انطلاقاً من تقبّلها الواقع الجديد الذي يعود له الدور الأبرز في صناعته. ومن ثمّ مصالحهم في سورية، كأمن إسرائيل، والحفاظ على سورية خاليةً من منظّمات إرهابية تهدّد أمنهم القومي، والوقوف سدّاً منيعاً في وجه إيران ومصالحها الاقتصادية، انطلاقاً من موقع سورية الاستراتيجي ممّرَ عبور إلى مشاريع النفط والغاز، إذ أعيد طرح إنعاش مشروع النفط القطري الذي عرقله الأسد في 2009، إضافة إلى مشاريع التجارة الدولية، وطريق الحرير، وحاجة أوروبا إلى البدائل الطاقوية بعدما دخلت في صراع مع روسيا في حرب أوكرانيا، وملفّ إعادة الإعمار، الذي سيفتح الباب أمام حالةٍ من التنافس الدولي لدخول كُبرى الشركات الدولية في سورية. كذلك مصالح الولايات المتحدة الأمنية والاقتصادية، ورغبتها في تحقيق استقرار نسبي في سورية في مقابل اهتمامها بمنافسة الصين وروسيا.
ما يُعزّز موقف الشرع في مواجهة المجتمع الدولي، حصوله على دعم لا محدود من الحلفاء كتركيا، التي أعلنت عن تقديمها دعماً لا محدوداً، ظهر ذلك جليّاً من خلال الزيارات السريعة، إذ لم يبقَ غير زيارة الرئيس التركي إلى سورية، بعدما قَدِم إليها وزير الخارجية هكان فيدان، وحازت زيارته اهتماماً عربياً ودولياً واسعين، وما نتج من الزيارة من تصريحات بعد الاستقبال الرسمي أعطى شرعيةً سياسيةً لحكومة الشرع، ودعماً سياسياً ستجعله في موقف قوي في قادم الأيام. تركيا تكاد تسابق الزمن لتحقيق استقرار في سورية، فهي كانت من أكثر المتضرّرين من الحرب السورية في مسائل الهجرة ومهدّدات أمنها القومي، وما سرعتها اليوم ودعمها اللامحدود لحكومة دمشق، إلّا لإدراكها حجم المخاطر الكبيرة على سورية من المتربّصين بأعداء الثورة السورية، ودعاة الثورات المضادّة، الذين يحاولون خلط الأوراق، ونسف منجزات ثورة السوريين، وهذا يعني عودة المهدّدات إلى تركيا، الجارة الأقرب لسورية. أصبحت تركيا الآن بمثابة الجدار المنيع لسورية، وستعمل على تعزيز دورها بفاعلية لتحقيق مصالحها في إنهاء خطر قوات “قسد”، وعودة اللاجئين، وإنعاش اقتصادها، تتبعها في المسار دولتا قطر والسعودية، في إسناد من الخلف، وتقديم دعم ملحوظ لحكومة دمشق.
في المحصّلة، لدى الشرع أوراق داخلية وخارجية، سيُواجه بها المجتمع الدولي، وأعداء سورية والسوريين. هو اختبار صعب، لكن لن يكون مستحيلاً، بل ما أنجز خلال عشرة أيام مضت، أبعدت سورية من سيناريوهات التقسيم، وأحبطت مشاريع فلول النظام البائد، وما تبقّى ربّما سيكون الاجتياز الأخير لنقل سورية إلى برّ الأمان، وإعادة مكانتها في الإقليم. فعلى السوريين الوقوف وراء قائد المرحلة، في هذه اللحظات الحرجة والصعبة، والتحلّي بالصبر والحكمة، وتأجيل رغباتهم إلى صناديق الاقتراع، حتى ننهض بسورية نهوضاً جماعياً، ولتكن سورية عملياً وفعلياً للسوريين كلّهم.
العربي الجديد
——————————-
سوريا. هيئة تحرير الشام، عن إعادة تموقع إيديولوجي
سيلفان سيبيل ، باتريك هاني، سارة قريرة
24 كانون الأول (ديسمبر) 2024
دفعت الأصول الجهادية لهيئة تحرير الشام، كونها الفصيل الذي بادر بالهجوم الذي أدى إلى سقوط نظام بشار الأسد، العديد من المعلقين إلى اعتبارها مجرد مسخ لتنظيم القاعدة. غير أن تجربة الحوكمة التي قادتها المجموعة منذ 2017 في إدلب أسفرت عن تحولات تجعل تصنيفها اليوم أمراً معقداً. ويقدم الباحث باتريك هيني، الذي يتردد على إدلب منذ 2019، تحليلاً في هذا الصدد من خلال إجاباته التي جمعها كل من سيلفان سيبيل وسارة قريرة.
ترجم المقال من الفرنسية حميد العربي.
سقوط حلب بين يدي هيئة تحرير الشام، الذي كان الخطوة الأولى الحاسمة نحو سقوط نظام بشار الأسد، هو نتيجة لتطور مزدوج. يتمثل الأول في التعفن البطيء لمؤسسات الدولة، والذي انعكس في عجز النظام عن الرد على هجوم شارك فيه بالكاد 250 مقاتل. وكانت العديد من الدول، وخاصة الغربية منها، قد بنت سياستها السورية على أساس استمرار النظام، الأمر الذي يسمح بالحفاظ على مؤسسات الدولة وتجنب الفوضى. لكن العكس هو الذي حدث. فمنذ أكثر من عشر سنوات، تسبّب النظام في تقويض المؤسسات العامة، من خلال الخصخصة الوحشية، والنهب على نطاق واسع، وتقوية الميليشيات على حساب الجيش، واقتصاد قائم على الإتجار بالمخدرات.
وقد تجلى ذلك على الجبهة العسكرية من خلال بيروقراطية عسكرية فاشلة، وسلسلة قيادية عاجزة وأوامر لا تصل إلى المأمورين. كما لم يكن هناك تواصل بين الخطوط الأمامية ومستودعات التخزين. وهكذا، لم يكن الجيش في مواجهة الحرب الخاطفة التي شنتها قوات المتمردين بقيادة حركة تحرير الشام، قادراً على إعادة تجميع صفوفه. أما على الأرض، امتنع الجنود عن القتال، وتعطلت الدبابات بسبب نقص الوقود، بعد أن بيعت الاحتياطات في السوق السوداء من قبل الجنود، وهم غالباً من المجندين الشباب السنة، ومن قبل ضباطهم الذين يتقاضون أجوراً زهيدة. ومع اقتراب المعارك من حمص، لم تعد الميليشيات العلوية مستعدة لتحمل المزيد من سفك الدماء في صفوفها.
تسيير جيد“للحرب”
أما التطور الثاني الذي يفسر نجاح العملية في حلب وبعدها في بقية البلاد، فهو إسقاط لإعادة التموقع الإيديولوجي على ساحة المعركة، والذي باشرته قيادة هيئة تحرير الشام في محافظة إدلب منذ 2017. ففي تواصله مع المدنيين، عرف أبو محمد الجولاني كيف يبدو بمظهر الزعيم الوطني، من خلال رسائل استرضاء تجاه الطوائف المحلية، المسيحية والشيعية، ورفضه الانخراط في القتال ضد الأكراد في معاقلهم الحلبية بالشيخ مقصود والأشرفية.
ولأول مرة في تاريخ الثورة السورية، انعكس هذا الموقف على قواعد اشتباك المقاتلين. فبينما كانوا في خضم المعركة في حماة، منعت هيئة استعجالية لحراسة الأحياء تضم حوالي 10 آلاف رجل أي عمليات نهب أو سلب على نطاق واسع في حلب. وبالمثل، لم يكن هناك نزوح جماعي للسكان. فمن ناحية، من المؤكد أنه كانت هناك تعليمات ضمنت انضباط القوات. ومن ناحية أخرى، فإن جزءا من مسيحيي حلب كانوا على اتصال مع المسيحيين في مناطق إدلب، الذين طمأنوهم، حيث سبق أنهم قد وصلوا لتوافق للعيش تحت سلطة هيئة تحرير الشام في إدلب.
هذا “السير الحسن” النسبي للحرب، والذي تشهد عليه عشرات الشهادات من وجهاء محليين مسيحيين وأكراد وشيعة في حلب وحمص ودمشق، غالبا ما يُعزى إلى براغماتية الحركة. في الواقع، إنه يشهد على تحول أيديولوجي عميق قامت به هيئة تحرير الشام في زمن “السلام”، أي قبل فترة طويلة من هذه الحرب، في جيب إدلب.
بالفعل، فإن هيئة تحرير الشام لم تتحول بعد مراجعة عقائدية كبرى للنأي بنفسها عن التطرف، كما هو حال بعض الجماعات الجهادية المصرية أو الليبية. بل إن مسار اجتثاث التطرف بات فعليًّا منذ عدة سنوات، من خلال سلسلة من التكيفات التكتيكية المتتالية مع البيئة الجيوستراتيجية الجديدة أو المحلية. وقد شكلت هذه التكيفات المحرك الرئيسي لإعادة تمركز سياسي لا يستند إلى عقيدة جديدة. هذه “الثورة الصامتة”، التي لم يتم التنظير لها، عميقة ودائمة في آن واحد.
القطيعة مع القاعدة
تمثل الفعل الأول من إعادة التموقع هذه في القطيعة مع الجهاد العالمي وقطع الروابط التنظيمية مع القاعدة، والتي أعقبتها قطيعة إيديولوجية مع منظّري الجهاد العالمي، مثل أبو محمد المقدسي. وكان هؤلاء قلقين بشكل خاص من تمييع الفكر الجهادي في حركة ثورية ذات ملامح سياسية وعقائدية غامضة.
تصاحب الانفصال عن الجهاد العالمي مع إعادة التواصل مع المجال المحلي، والذي بدأ بعد عام من ذلك، في 2017. في ذلك العام، سهلت هيئة تحرير الشام إنشاء أول هيكل مركزي في إدلب، وهو حكومة الإنقاذ السورية. وتحت شعار إضفاء الطابع المؤسساتي (المأسسة)، ركّزت السلطة بين يديها. وبالتالي، أصبحت كل الهيئات المحلية المنبثقة عن سنوات الثورة — من فصائل، ولجان المعارضة المحلية، وكل الهيئات المعارضة التي كانت مدعومة من الغرب — منافسة.
ورغم أن الحوكمة تُعد أداة للسيطرة، فقد تحولت في الوقت نفسه إلى مساحة للمعاملات والتنازلات الإيديولوجية بالنسبة لهيئة تحرير الشام. وعلى عكس الأكراد الذين يمتلكون إدارة مستقلة في شمال شرقي سوريا، ولديهم أيديولوجية وبيروقراطية دولة حقيقية، لم يكن لدى هيئة تحرير الشام أي تصور طوباوي لحكومة الإنقاذ. بل كان الجولاني يصفها بحكومة “تسيير أزمة”، أي أنها مؤقتة.
تمت إقامة هذا الهيكل بالتعاون مع النخب المحلية والتكنوقراط الثوريين أو الإسلاميين، مثل محمد البشير، المسؤول اليوم عن إنشاء أول حكومة انتقالية. البشير أكاديمي ومهندس ذو خلفية دينية، ولكن ليس له ماض إسلامي راديكالي. ومع ذلك، تبقى الحكومة تحت سيطرة الدائرة الأولى للجولاني في القضايا الاستراتيجية. وكان الهدف المنشود من هذه المأسسة هو التخلص من إرث مزدوج. يتمثل الأول في الطابع المجزأ لـلـ “ثورة بلا قادة” الأصلية، والتي لا تزال ممثلة في الفصائل والمجالس المحلية العديدة. أما الإرث الثاني، فهو الهيكلية اللامركزية لجبهة النصرة، التي كانت تعمل في شكل قطاعات، يسيطر على كل منها ثنائي يمثل السلطتين الدينية والعسكرية. وهذه الهيكلية حاضنة لفرع متطرف منبثق من السنوات الجهادية الأولى.
وهكذا، فإن “إعادة التوطين نحو المحلي” الضرورية لقطع العلاقات مع الجهاد العالمي أدت في الوقت نفسه إلى ديناميكية نزع التطرف، ليس بدافع الحرص على الاعتدال، بل من منطلق الرغبة في السيطرة.
ثأر المجتمع
لمواجهة نفوذ شيوخ الجهاد العالمي وإقامة إطار مرجعي أيديولوجي بديل، مع الاستمرار في ترسيخ نفسها محليًا، تبنّت هيئة تحرير الشام المذهب الفقهي الشافعي، الأقرب إلى تصوف السكان المحليين. ما يسمح لها بمواصلة تقويض وزن القيادة السلفية الجهادية القديمة، من خلال تعقب الخلايا المتبقية من تنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية، وذلك بفضل وحدتين خاصتين من الأمن العام في إدلب. وقد تم استبعاد بعضهم واعتقال بعضهم الآخر. أما الباقي، فقد تم تمييعه في هياكل دينية أوسع، لا سيطرة للسلفيين عليها، مثل دار الإفتاء.
ولتسيير المساجد التي يبلغ عددها 1200 في إدلب، كانت هيئة تحرير الشام مخيرة بين فرض رجالها أو ترك المكان لرجال الدين المتأتين من المجتمعات المحلية. وفضلت الهيئة الخيار الثاني، دون فرض خط توجيهي وحيد لخطب الجمعة. وفي أقصى تقدير، تقترح وزارة الشؤون الدينية مواضيع مرتبطة بقضايا شعائرية أكثر منها عقائدية وأبعد من أن تكون جهادية، تاركة الأمر للخطباء في تبنيها من عدمه. وفي هذا السياق، سُجّلت عودة تدريجية للممارسات الصوفية المبغوضة من السلفية المتشددة، من خلال الاحتفال بالمولد النبوي وجلسات الذكر الديني وزيارة أضرحة الأولياء، أو الاعتراف بالمعاهد الدينية الصوفية.
في حين يدعو السلفيون إلى “تطهير العقيدة” وإصلاح المجتمع، نشهد حدوث العكس مع هيئة تحرير الشام، حيث “يثأر” المجتمع لنفسه من خلال تحويل الحركة في العمق، ليس في أيديولوجيتها – التي لا تزال مبهمة – ولكن في مواقفها وفي تسييرها اليومي في حكم إدلب. ومن خلال تفاعلها مع المجتمعات المحلية، نزعت هيئة تحرير الشام “الطابع السلفي” عن نفسها.
أن تقبل الهيئة هذه الديناميكية مع المجتمع يعود أولاً لقلة عدد أعضائها، ثم لأنها لا تريد استعداء السكان. فقد كانت الأولوية في نظرها الجهد العسكري ضد النظام، وليس الدعوة العقائدية. ومن ثم جاء الاصطفاف العقائدي نحو “وسطية” فقهية جامعة “بين الغلو من جهة، وبدع الإسلام الصوفي من جهة أخرى”، بوفق أحد المسؤولين الدينيين للحركة.
مصير الأقليات الدينية
أما بالنسبة للجولاني فيجب ألا ننسى أنه مقاتل وثائر، يحلم بـ “المساء الكبير”، ولا يكتفي بدور الحاكم لجيب فقير وغير مهم استراتيجياً مثل إدلب. فالمواجهة مع دمشق كانت بالنسبة له دائماً الهدف. ولكنه أيضًا سياسي مضطر لتقديم تنازلات ليس فقط من الناحية الأيديولوجية، في مواجهة مجتمع محافظ ولكن غير راديكالي، بل أيضًا من الناحية العسكرية والاستراتيجية.
في مارس/آذار 2020، بعد معركة استمرت تسعة أشهر ضد النظام وخسارة 40% من الأراضي التي كانت تسيطر عليها هيئة تحرير الشام، وقعت تركيا وروسيا هدنة لإنهاء قتالهما في شمال غرب البلاد. حينئذ، لم تكتف هيئة تحرير الشام بتأييد الهدنة فحسب، بل دافعت عنها أيضا من خلال فرضها على الجماعات المسلحة الأخرى المتواجدة على خط المواجهة. وهنا أيضاً، نلاحظ أن التعاون مع تركيا ليس بديهيا، بل يتطلب إعادة تموضع أيديولوجي. إذ كان الوجود التركي موضع خلاف منذ 2018 في الأراضي الخاضعة لسيطرة المتمردين. فالجيش التركي، بالنسبة للبعض، تابع لحلف شمال الأطلسي ومنبثق عن دولة علمانية، وهو بذلك يُعد تنظيما ملحدا و“الاستعانة بالكفار” مرفوضة من قبل بعض الشيوخ المستبعدين من الحركة.
كان من شأن إعادة التموضع الاستراتيجي هذا أن يزيد من حدة الاستقطاب في مواجهة ما تبقى من الجماعات الراديكالية، ولا سيما تنظيم “حراس الدين”، الفرع السوري لتنظيم القاعدة، الذي شن هجوما ضد النظام في يوليو/تموز 2020 وخَرَق الهدنة. وقد ردّت هيئة تحرير الشام على ذلك بفرض نزع السلاح عن هذه الحركة. ومنذ ذلك الحين، دخل أعضاء حراس الدين في السرية.
في نفس المرحلة، بدأ الجولاني يشعر أن قاعدة النظام، وخاصة العلويين، بدأت تضعف. ورأى أن هناك فرصة استراتيجية سانحة وأراد أن يموقع نفسه كشخصية ذات بعد وطني. وقد اعتمد في ذلك على الأقليات الموجودة في جيب إدلب، وهي ثلاث قرى مسيحية يعيش فيها حوالي 800 شخص، وطائفة درزية تقلصت من 18 ألف إلى 6 آلاف نسمة خلال الحرب الأهلية.
كانت أول بادرة تجاه هؤلاء المسيحيين أن رُدّت إليهم منازلهم التي كانت تسكن عدد منها عائلات المقاتلين، بل وحتى المقاتلون الأجانب، من مجموعات غير تابعة لهيئة تحرير الشام. وقد تطلب الأمر الكثير من المفاوضات. كما كانت هناك أيضًا مناقشات مطولة وأكثر تعقيدًا بشأن استرجاع الأراضي الزراعية. وهي مشاكل مازالت لم تحل بعد. ولكنها كانت ديناميكية كافية لكي يقوم مسيحيون بمغادرة مناطق النظام التي لجأوا إليها والعودة في 2022 إلى قراهم حول إدلب، تحت حماية هيئة تحرير الشام.
إعادة تموقع إيديولوجي
حتى الآن، لم تقم هيئة تحرير الشام بإجراء أي تحديث أيديولوجي. فهم يفضلون البقاء في نوع من عدم الوضوح، بدلاً من الإعلان بوضوح عن خط قد يؤجج معارضة المحافظين الذين لا يزالون باقين في الحركة. ومع الاستيلاء على دمشق، أصبح هذا التوضيح الأيديولوجي أكثر أهمية من أي وقت مضى. ويتمثل الرهان هنا في التقبل المحلي من جهة، والاعتراف الدولي بالسلطة الجديدة في دمشق من جهة أخرى. في الواقع، عندما نطلب من قادة الحركة تعريف أنفسهم، فإن عدد من الإجابات يساوي عدد الأفراد الذين يتم استجوابهم. يعرّف البعض أنفسهم كمحافظين سنة، وآخرون كثوار إسلاميين، والبعض الآخر كجهاديين سياسيين… لذا، فمن الأفضل الانتظار قبل تصنيفهم بشكل نهائي. وقد قال لنا في وقت ما أحد قادتهم: “سوف نكون نتاجًا للديناميكية الحالية أكثر من كوننا نتاجًا لأيديولوجية مسبقة”.
وهكذا، يتبين أن هيئة تحرير الشام تتحول بشكل كبير على مراحل متتالية لأسباب مرتبطة إما بالقيود الاستراتيجية التي يفرضها محيطها الإقليمي (وجود تركيا)، أو بالتكيف مع المجتمع المحلي. وهي تتطور هكذا نحو إعادة تموقع أيديولوجي سني، إسلامي، محافظ وثوري. لكن هذا التطور يسفر عن مقاومة الأجنحة المتشددة. وحرصا على التماسك، يتم إقصاء هذه الاخيرة أو إسكاتها.
نحن أمام نقلة نوعية، حيث يتم طوي صفحة الإرهاب، والمراهنة على الأغلبية الصامتة لتعزيز السلطة في الداخل والقضاء على ما تبقى من الأقلية الراديكالية، وأيضا للتموقع كبديل وطني. عندما انفتح الجولاني على الأقليات المسيحية والدرزية، وعلى عكس الكثير مما قيل من قبل المعلقين، لم يكن هدفه مغازلة الغرب بقدر ما كان توجيه رسالة إلى البلاد مفادها أنه بديل ذو بعد وطني وليس مجرد قائد متمرد.
في الواقع، إن الانتقال من تجربة إدلب إلى تجربة دمشق، أي تغيير النطاق من المحلي إلى الوطني، يخلق تحديات على عدة مستويات وذات طبيعة مختلفة. تحديات النوعية أولاً: كيف يتم تصور الانتقال من حركة مجهزة للعمل المسلح والحكم المحلي إلى حركة قادرة على الحوكمة الوطنية، مع الأخذ بعين الاعتبار بعض الخطوط الحمراء (تجنب “اجتثاث البعث” كما في العراق، وكبح الرغبات العنيفة في الانتقام والتعامل مع الأقليات)، دون أن تكون هناك استراتيجية واضحة.
ثم هناك تحديات كمّية: حكومة الإنقاذ السورية هيكل صغير يعد أقل من 7000 موظف. كما لا تعد هيئة تحرير الشام حركة جماهيرية يمكنها الاعتماد على ترسيخ نفسها في القطاعات المهنية والطبقات المتوسطة. هناك عجز هائل في الموارد البشرية، وقد تصل دائرة صنع القرار الحالية إلى الحد الأقصى من قدراتها، على الأقل على المستوى الأمني. وتجند هيئة تحرير الشام حاليا ما بين 10 آلاف و15 ألف مقاتل. ويمثل هؤلاء القوة المهيمنة في القتال، ولكنهم ليسوا الوحيدين. ويجب عليهم السيطرة على انتشار الأسلحة في المجتمع وكذلك إعادة تشكيل الميليشيات المتمردة في ظل الفوضى الحالية. ثم يجب تجنب المنافسة بين الفصائل. وأخيرا، يجب التحكم في الجماعات الجهادية، وليس فقط الأجنبية، في سياق تجدد الخطاب الطائفي على الرغم من خط الحركة ومبادرات التهدئة المتعددة بين القيادة الجديدة ومختلف الطوائف. وقد تعاون هؤلاء بسرعة – الشيعة في دمشق وشمال حلب، والمسيحيون في حلب وحمص، والعلويون في الساحل وفي دمشق، والدروز في الجنوب والعاصمة.
ففي حين تنتمي إدلب ككل إلى نظام بيئي اجتماعي مريح بالنسبة لهيئة تحرير الشام (مسلمون سنة، محافظون وثوريون)، فإن الانتقال من إدلب إلى دمشق يتطلب التفكير في التنوع الطائفي، ولكن أيضًا في التزام النخب الحضرية الدمشقية والدخول في اللعبة الجيوستراتيجية من الباب الكبير، بوابة دمشق.
Désolé, je ne peux pas identifier ou décrire des personnes dans des images.
سيلفان سيبيل
صحفي وعضو سابق في رئاسة تحرير جريدة اللوموند ومدير سابق لمجلة “كوريي أنترناسيونال، مؤلف كتاب”المطمورون، المجتمع الإسرائيلي في طريق… (تتمة)
باتريك هاني
باحث في معهد الجامعة الأوروبية في فلورنسا، إيطاليا.
L’image montre une femme souriante avec des cheveux bouclés et des lunettes. Elle porte une chemise à rayures et un collier. L’arrière-plan est simple et clair, mettant en valeur son expression joyeuse.
سارة قريرة
صحفية، رئيسة تحرير موقع “أوريان 21”.
—————————————–
عام سورية الحرّة/ بشير البكر
28 ديسمبر 2024
صار في وسع السوريين أن يستقبلوا العام الجديد من دون منغّصات، وأن يرموا وراءهم أعوام النكد. سيُضفي سقوط النظام على احتفال هذا العام طعماً خاصّاً، ويعيد مظاهر البهجة التي غادرت حياة هذا الشعب من جرّاء الحرب التي شنّها النظام لقمع ثورة الحرّية والكرامة. حرم حكم الأسد الناس من أبسط الأفراح، وتحوّلت الأعياد مآتم في ظلّ الدمار الكبير في كلّ مكان، وبسبب التكتّم التامّ على أخبار عشرات آلاف السجناء والمخفيين قسراً، بالإضافة إلى تشتّت العائلات في أنحاء العالم كافّة، وعدم قدرتها على التلاقي بسبب القوانين التي عانى منها اللاجئون في بلدان مختلفة.
سقط الخوف بلا رجعة، وبات بإمكان الشعب أن يحتفل للمرّة الأولى، منذ أكثر من نصف قرن، من دون قوانين طوارئ وحكم الحزب الواحد والعائلة الواحدة والمافيات وعصابات اللصوص والقتلة، وسطوة المليشيات الطائفية العابرة للحدود، التي جلبتها إيران لتعيث خراباً، وتمارس تطهيراً طائفياً لمناطق واسعة من حلب ودمشق وحمص ودير الزور. أصبح بوسع السوري أن ينظر بطمأنينة إلى مستقبل بلده وأهله بلا قلق. ولّى الأبد الأسدي وعادت سورية لأهلها، وحان الوقت الذي هرم كثيرون بانتظاره من أجل تأسيس سورية الجديدة، وإعادة بنائها دولةَ قانونٍ ومؤسّساتٍ قائمة على العدالة والمساواة بين جميع أبنائها من دون التمييز الذي أرساه النظام السابق على أسس طائفية ومناطقية.
يحتفل السوريون وهم مدركون أن الوصول إلى هذه اللحظة لم يكن ممكناً لولا الثمن الكبير الذي دفعوه، وكلّفهم عدداً كبيراً من الضحايا، ودماراً وخسائرَ اقتصاديةٍ أوصلت نحو 80% من الشعب داخل سورية إلى خطّ الفقر. رغم الكلفة الباهظة، صار بوسع الناس أن يعيشوا ورؤوسهم مرفوعة، فالحرّية التي حصلوا عليها لم تأتِ هديةً من أحد، لا من الداخل ولا من الخارج، وكان من المستحيل إسقاط النظام لو لم يقل الشعب كلمته وينزل إلى الشارع عام 2011. ومن هنا، فإن الحرّية التي ينعم بها السوريون من صنعهم، وعليهم ألا يلتفتوا إلى الأصوات النشاز، التي تحاول أن تشوّه هذا الإنجاز التاريخي، فأصحابها لا يريدون للشعب السوري أن يستعيد بلده وقراره المستقلّ، لأنهم يخافون من نتائج ذلك. إنهم يخشون من أن تنتقل الحرّية عبر الحدود وتعدي هناك الناس الذين يرزحون في ظلّ أنظمة قمع لا تمتلك شرعيةً سياسيةً. إنهم يقاومون بشراسة وقوف سورية على قدميها كي تستعيد موقعها في معادلة الشرق الأوسط، ومكانتها الحضارية وقدرتها على الإشعاع. يريدون أن يقيّدوها، كي لا تفرد جناحيها وتحلّق عالياً.
ما وصل إليه السوريون ليس نهاية المطاف، بل هو بداية طريق جديد، أوّل محطّة فيه إعادة البناء، ويشمل ذلك ما دمّرته الحرب التي شنّها النظام وحلفاؤه على المحافظات التي ثارت. وهناك تحدّ كبير يحتلّ الأولوية، يتمثّل في تسهيل عودة ملايين المهجرين من دول الجوار؛ تركيا ولبنان والأردن والعراق ومصر. ومن غير الممكن تحقيق ذلك قبل رفع آثار الدمار، وإعادة تأهيل البنية التحتيّة لتصبح البيوت صالحةً للسكن. وبالتوازي مع هذا، ثمّة مهمّة لا تقلّ أهميةً، وهي إعادة بناء مؤسّسات الدولة على نحو مهني، وليس على أساس الولاءات والحزبية والفصائلية، لأن ذلك يلحق الضرر بها ويُفقِدها المصداقية وثقة الناس والمجتمع الدولي، الذي يراقب أفعال الإدارة الجديدة وعلى أساسها سوف يحكم ويقرّر في ما يخصّ رفع العقوبات الاقتصادية، وتقديم المساعدات الخاصّة بإعادة البناء والتعافي. ومن دون شفافية وعدالة وعدم تكرار أخطاء النظام القديم ستكون البداية عرجاء، ولن تستقيم بالنيات والكلام الطيّب، فالشعب الذي قدّم الغالي لن يقبل بالقليل والترقيع وأنصاف الحلول.
العربي الجديد
——————————–
خلاص السوريين من نظام الأسد حدث ثوري وتاريخي/ ماجد كيالي
28.12.2024
الفلسطينيون أيضاً لهم نصيبهم من نظام الأسد، الذي استخدم قضيتهم بطريقة قصدية ومبتذلة، لتعزيز شرعيته، وتغطية فساده واستبداده، والذي لعب دوراً في تصفية بعض المخيمات، أو البطش بالفلسطينيين فيها، كتلّ الزعتر و وصبرا وشاتيلا وبرج البراجنة، عبر ميليشيا حركة “أمل”، وصولاً إلى مخيم نهر البارد في لبنان، ومخيم اليرموك في سوريا بين عامي (2012- 2018).
ما حدث في سوريا بمثابة ثورة بالفعل، وليس مجرد تغيير سياسي، ولا مجرد إسقاط نظام، وإحلال آخر محله، بغضّ النظر عن الكلاسيكيات الأكاديمية السائدة، ومع الاحترام لها، فهذا هو معنى خلاص السوريين وتحررهم من نظام الإبادة الأبدي، الذي كان شعاره الأثير: “سوريا الأسد إلى الأبد”، والذي كان يتصرف بأكثر من كونه قوة احتلال غريبة، إذ احتل وهيمن وقيّد حياة السوريين، وحتى خيالاتهم، وأحلامهم في يقظتهم ومناماتهم طوال 55 سنة، من الأب إلى الولد الوريث (1970ـ 2024).
ما جرى في سوريا هو تحرير وتحرر للسوريين، بما في ذلك تحرير تاريخهم ومستقبلهم من زمن الأبد الأسدي، من سجنه البغيض، وفظاعات أجهزة مخابراته، وابتذال ادعاءاته، وفنونه، وتماثيله، واستعراضاته، ونمط اقتصاده المشوه والهزيل، وحزبه المهترئ، واتحاداته الشعبية الخلبية، فهذه هي قيامة السوريين؛ أما كل ما بعد ذلك فلكل حادث حديث.
لنلاحظ أن أكثر شيء فعله ذلك النظام المدّعي حرصه على التشبّث بشعاره: “سوريا الأسد أو نحرق البلد”، وهذا ما فعله حقاً، إذ نهب ثروات البلد، وشرّد نصف الشعب السوري، وأفقر معظمه، وخرّب مدنه، ونغّص حياة كل السوريين، في حين نأى بنفسه عن شعاراته، عن الـ “وحدة حرية واشتراكية”، وفلسطين والمقاومة والممانعة، التي تبين أنها لمجرد الاستهلاك والتلاعب والمزايدة، وهو الذي ظل طوال عمره، بعد خسارة الجولان مطية لإسرائيل، مع تبجحه بالرد في الزمان والمكان المناسبين.
خلاص السوريين وتحررهم من نظام الأسد الأبدي والإبادي، أتى بمثابة ثورة، كونه خلص اللبنانيين والفلسطينيين أيضاً، إضافة إلى أنه خلص مجتمعات وبلدان المشرق العربي، من تغوّل نظام “الولي الفقيه” في طهران، الذي اشتغل لعقدين على تخريب بني الدولة والمجتمع فيها، بدعوى فلسطين والقدس والمقاومة، لكن ذلك تبين عن تلاعب، إذ عندما حانت لحظة الاختبار، نأى بنفسه عن فلسطين ولبنان وحتى عن حماية نظام الأسد من السقوط.
في الحقيقة فقد كان اللبنانيون بمثابة توأم للسوريين في توقهم إلى الخلاص والتحرر، من هذا النظام الذي خرّب نمط عيشهم، وهيمن على حياتهم السياسية، وكتم أنفاسهم، وتحكم بخياراتهم، وطبقتهم السياسية، واقتصادهم، واعلامهم، طوال قرابة نصف قرن، بخاصة في العقود الثلاثة الأولى، في الفترة من 1076 ـ 2005، وقد أورث بعدها ذلك إلى إيران، من خلال ذراعها الطائفية الميلشياوية “حزب الله” (2005 ـ 2024) الذي اشتغل أيضاً، كشريك لنظام الاستبداد والفساد، في قتل السوريين وتشريدهم.
تبعاً لذلك، فقد كان اللبنانيون الأكثر تحسّسا بعد السوريين، لمعنى التغيير على حياة السوريين، وهو ما عبر عنه بجلاء حازم الأمين لدى توصيفه هذا الحدث، بقوله: “لم يعد من أثر في الشام لحضور نظامه (الأسد) إلا في أماكن تجميع النفايات… تبخر النظام بين ليلة وضحاها، ولم يبق منه إلا نفاياته. صور الرئيس المخلوع ممزّقة، وتماثيل والده محطمة… بإمكان زائر دمشق أن يعاين ذلك الحضور الرهيب للعائلة الحاكمة في كل شيء. في شركة الهاتف الخلوي، وفي أوراق العملة، وفي البارات والمساجد والفنادق. أينما وليت وجهك ستجد أثراً قاتلاً لآل الأسد. لكنهم اليوم في مستوعبات النفايات، وفي أحاديث الناس الساخرة عن “الرئيس النذل”، وفي أغاني الساروت المنبعثة من السيارات اللاعنة لبشار وعائلته. دمشق المدينة الهائلة التي لم يبقِ فيها البعث شيئاً إلا واستباحه، خلعت بليلة واحدة كل مظاهر القباحة التي نشرها “البعث” على مدى أكثر من خمسة عقود!” (درج، 18/12/2024).
الفلسطينيون، أيضاً، لهم نصيبهم في معاناة مزدوجة، إذ إن النظام استخدم قضيتهم بطريقة قصدية ومبتذلة، لتعزيز شرعيته، وتغطية فساده واستبداده، بخاصة مصادرته حقوق السوريين وحرياتهم، ونهبه مواردهم، والتلاعب بهم، إضافة إلى مزايداته على الأنظمة العربية الأخرى؛ من جهة. ومن جهة أخرى فهم عانوا من بطش نظام الأسد، ما تمثّل بدوره في تصفية بعض المخيمات، أو البطش بالفلسطينيين فيها، كتلّ الزعتر (1976) وصبرا وشاتيلا وبرج البراجنة، عبر ميليشيا حركة “أمل” (1985 ـ 1987) وصولاً إلى مخيم نهر البارد (2007)، في لبنان، وهو ما حصل في مخيمات سوريا، وبالأخص في مخيم اليرموك (2012 ـ 2018).
في السياق ذاته، كان نظام الأسد اخترع جهازي مخابرات للحركة الوطنية الفلسطينية وللفلسطينيين هما “الضابطة الفدائية” و”فرع فلسطين” (الذي وسع اهتماماته في البطش بالسوريين وغيرهم) مع فصيلين هما “الصاعقة” و”الجبهة الشعبية ـ القيادة العامة”، فضلاً عن نفوذه في فصائل أخرى. كما ذاقت القيادات الفلسطينية الأمرين جراء مداخلاته في الشأن الفلسطيني، بادعاءات “قومية” المعركة، في حين الأمر يتعلق بالامساك بالورقة الفلسطينية، وهو ما فسر العداء، أو التوتر المستمر بينه وبين الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات.
باختصار فإن نظام الأبد والإبادة لم يكن قومياً ولا وطنياً ولا يسارياً ولا علمانياً، ولا يمثل أحداً، لا طائفة ولا طبقة ولا منطقة ولا حزب، ولا أي جماعة، فقط كان يمثل نفسه، كعائلة مافيوية، استطاعت أن تقبض على زمام كل السلطات، وتمسك كل مفاتيح السيطرة الأمنية والإدارية والخدماتية والاقتصادية في البلد، الأمر الذي يفسر ضمور الدولة، وهزال هيكليتها، ويفسر انهيارها بالكامل، بعد سقوط الرئيس الفار، الذي عبر في ذلك عن خسة ووضاعة وهشاشة النظام الذي أخذ 55 سنة من أعمار كل السوريين، موالين أو ساكتين أو معارضين.
ولنلاحظ أن سقوط النظام كشف عن فضيحة مدوية وكارثية، إذ إن أكثر شيء أنتجه طوال 55 عاماً، هو الرعب والفساد والكيماوي والكبتاغون والبراميل المتفجرة والمسالخ والمكابس البشرية وانتهاك أجساد المعتقلات والمعتقلين واستباحة حياة السوريين.
على ذلك فإن أهم رسالة يوجهها السوريون لبعضهم بعضاً، للتحرر من هذا النظام الفظيع، هو التحرر من عقلية الغلبة والكراهية والإقصاء والفساد والتسلط، كي تغدو سوريا الجديدة ملكاً لهم جميعاً، كي يستعيدوا الدولة، وسيادة الشعب، بعيداً عن مصطلحات النظام الساقط، وضمنها مصطلح الأقليات، الذي لعب عليه لتجزئة الشعب، وتكريس تسلطه عليه، في حين حرم كل السوريين حقوق المواطنة، ومكانة المواطن، ففي سوريا الجديدة يفترض أن ثمة مواطنات ومواطنين أحراراً ومتساوين من دون أي تمييز، لأي سبب، سوريين مواطنين وفقط.
درج،
—————————————-
سوريا بعد الأسد: حق الدم ومستقبل حكم البلاد/ مها غزال
28.12.2024
يستحق الثوار السوريون الذين قدموا دماءهم لتحرير أوطانهم التكريم والاعتراف. لكن منحهم الحق الحصري لقيادة المرحلة التالية قد يؤدي إلى كوارث، الحل يكمن في تكريمهم عبر أوسمة شرف وامتيازات تقديرية لهم ولأسرهم، مع إشراكهم في عملية البناء ضمن أطر مؤسساتية واضحة.
تُعد الثورة، في جوهرها، لحظة تاريخية فارقة تجمع بين تطلعات الشعوب للحرية والعدالة وبين الفوضى والتناقضات التي تُبرزها مراحل التحوّل. الثورات المسلحة تحديداً تحمل في طياتها تعقيداً عميقاً يتمثّل في العلاقة بين حق التضحية وشرعية القيادة. وفي هذا السياق لا يمكن اعتبار الثورة السورية مجرد حدث عابر في تاريخ البلاد، بل هي أحد أعظم المحطات التي تجسد إرادة الشعب السوري للتحرر من الاستبداد، رغم التكلفة الباهظة التي دفعتها.
وبعد تحقيق الثورة السورية أبرز أهدافها بإسقاط نظام الأسد، يبرز السؤال الأهم هل يكفي أن يقدّم الثائرون دماءهم لتحرير أوطانهم ليصبحوا قادة المرحلة التالية، وهل علينا أن نتأكد أنهم المؤهلون فعلا لقيادة مرحلة إعادة بناء الدولة، خصوصاً في ظل تعقيدات الواقع السوري الذي تهيمن عليه الفوضى والجريمة المنظمة، إلى جانب الضرورة الملحة لمواجهة التحديات بمنهجية قائمة على الكفاءة والخبرة.
الدم وحده لا يبني دولة
قدّم الثوار السوريون تضحيات جسيمة في مواجهة نظام استبدادي، إلا أن هذه التضحيات، مهما كانت عظيمة، لا تُعطيهم الحق الحصري لقيادة البلاد. فالدولة الحديثة، خصوصاً في مرحلة ما بعد الصراع، تحتاج إلى أكثر من الشجاعة والتضحية. إنها تحتاج إلى مؤسسات قوية، خطط اقتصادية متماسكة، وعدالة انتقالية تنظر إلى الماضي بعين الإنصاف، وإلى المستقبل بعين البناء.
وبالرغم من أن سقوط النظام في معاركه الأخيرة قد يبدو ظاهرياً كإنجاز عسكري، إلا أن الحقيقة أكثر عمقاً وترتبط بتضحيات السوريين وصمودهم على مدى أكثر من عقد.
وكانت البداية منذ اليوم الأول بالمظاهرات السلمية، حيث رفع السوريون شعارات الحرية والكرامة، وكان رد النظام هو القمع والاعتقال والتهجير. تحمل السوريون القصف الوحشي، واستمروا في الثورة، برغم الدمار الذي طال كل زاوية من البلاد.
ثم جاءت النشاطات السياسية والمدنية، بينما كانت المعارك العسكرية تسير ببطء، كان هناك عمل موازٍ على الصعيد السياسي والمدني. هذه النشاطات ساهمت في حشد دعم دولي وإقليمي، وضغط على الحكومات لاتخاذ مواقف حازمة ضد النظام. حتى وصلنا إلى مرحلة الحصار السياسي والاقتصادي، وفرضت العقوبات الدولية على نظام الأسد وشبكاته الاقتصادية، مما أدى إلى إنهاك قواه تدريجياً. استهدف الحصار المؤسسات الداعمة للنظام وعزل سوريا عن النظام المالي العالمي، مما أدى إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية وتآكل قدرته على الاستمرار في الحرب، وفي هذه المرحلة يمكننا القول إن كل سوري في الداخل تحمل هذه الضغوطات الاقتصادية ساهم بانهيار النظام، فيما تحمل السوريون في المهجر بعض الأعباء عبر دعم صمود أهلهم في الداخل.
وفي المعارك الأخيرة كان انكشاف الضعف، ولم تكن المعارك الأخيرة إلا تتويجاً لسنوات من الضغوط التي أثرت على جيش النظام وحلفائه، مما دفعهم للانسحاب التدريجي. هذه اللحظة كانت نتيجة لجهود السوريين، وليست إنجازاً عسكرياً منفرداً.
التحديات السورية: الحاجة إلى الكفاءة
سقط نظام الأسد وترك البلاد تعاني من أزمات مركبة، أبرزها الفساد العميق الذي ترسخ في مؤسسات الدولة لعقود، وفوضى السلاح التي تجعل من عملية ضبط الأمن تحدياً رئيسياً. وانتشار الجريمة المنظمة، بما في ذلك تجارة المخدرات والبشر، وكذلك تطبيع المجتمع مع العنف والجريمة كنتيجة مباشرة للصراع الممتد، ولا يمكن أن توقع أن يتغير هذا الواقع بمجرد سقوط الأسد دون تطويق شبكات الإجرام تلك.
هذه التحديات تتطلب قيادة ذات رؤية تعتمد على الكفاءات العلمية والخبرات التقنية، لا يمكن لشرعية الدم وحدها أن تبني مؤسسات قادرة على التعامل مع هذه القضايا المعقدة، بل لا بد من إنشاء نظام حكم شامل يدمج بين العدالة الانتقالية والمحاسبة من جهة، وبناء دولة القانون والمؤسسات من جهة أخرى.
التحديات المقبلة: البناء على الكفاءة والخبرة
إن الدولة السورية، بعد الثورة، تواجه تحديات معقدة تتطلب قيادة ذات رؤية، من أجل إعادة بناء المؤسسات على أسس نزيهة تتجاوز الفساد، وضبط الأمن ونزع السلاح من أيدي الجماعات المسلحة.
وضع خطط اقتصادية واجتماعية تعالج الفقر والبطالة، وتعيد تأهيل المجتمع ليعيش في ظل سيادة القانون، ومعالجة الجريمة المنظمة عبر استراتيجيات وطنية ودولية مشتركة.
مقارنة مع ثورات ناجحة
في جنوب إفريقيا عندما انتهى نظام الفصل العنصري، لم تُترك قيادة البلاد لحزب “المؤتمر الوطني الإفريقي” وقادته فقط لأنهم كانوا رموز النضال. بل تم تبنّي نظام عدالة انتقالية متوازن عبر لجان الحقيقة والمصالحة، وتم إشراك خبراء وأكاديميين في إعادة بناء المؤسسات، مما سمح للبلاد بالخروج من دوامة الانتقام وبناء أسس جديدة للديمقراطية.
التجربة البولندية أيضاً مثيرة للاهتمام، فبعد سقوط النظام الشيوعي، اختارت بولندا نموذجاً اقتصادياً يعتمد على الخبرات الفنية والعلمية. وبرغم دور قادة المعارضة في إسقاط النظام، فإنهم لم يحتكروا القيادة، بل سعوا إلى إشراك جميع الأطياف لإعادة تشكيل النظام السياسي والاجتماعي.
الثورة الفرنسية نموذج مثير للجدل، فبينما قدم الثوار الفرنسيون تضحيات عظيمة لإسقاط الملكية، فإن فترة ما بعد الثورة أثبتت أن احتكار قيادة المنتصرين للمرحلة قاد إلى فوضى وصراعات داخلية، قبل أن تنضج التجربة السياسية لاحقاً مع ظهور الجمهورية الثالثة التي ركزت على المؤسسات والخبرة.
الثورات وأخطار احتكار القيادة
الاعتماد على المنتصرين وحدهم لقيادة المرحلة الانتقالية يحمل خطر تحويل الدولة إلى نظام استبدادي جديد، حيث تُمنح الشرعية فقط على أساس الماضي النضالي، وليس على الكفاءة أو التخطيط. ولعل المثال الإيراني يُبرز هذا بوضوح؛ فالقيادة التي استلمت البلاد بعد الثورة الإسلامية عام 1979، وبرغم شرعيتها الثورية، حولت النظام إلى نموذج آخر من الاستبداد، مما أدى إلى تهميش شرائح واسعة من المجتمع.
أبطال نعم، قادة لا بالضرورة!
يستحق الثوار الذين قدموا دماءهم لتحرير أوطانهم التكريم والاعتراف. لكن منحهم الحق الحصري لقيادة المرحلة التالية قد يؤدي إلى كوارث مشابهة لما حدث في الشيشان أو دول أخرى. الحل يكمن في تكريمهم عبر أوسمة شرف وامتيازات تقديرية لهم ولأسرهم، مع إشراكهم في عملية البناء ضمن أطر مؤسساتية واضحة.
إن المرحلة الانتقالية هي الأصعب في تاريخ أي أمة. فإما أن تُدار بحكمة ورؤية شاملة، وإما أن تتحول إلى حقبة من الفوضى والاستبداد الجديد. الثورة وحدها لا تكفي، بل تحتاج إلى قيادة تعتمد على العلم والخبرة، وإلى نظام يضمن العدالة للجميع، لا على أساس الدم، بل على أساس القانون والعدالة.
درج،
——————————
22/12/2024: يوم عادي في حياة اللاذقية/ منذر مصري
28 ديسمبر 2024
(يا ثورة كوني بردًا وسلامًا على السوريين)
الطاعون
تأخّرت بالخروج من البيت، ذلك لأنّ كلّ شيء هذه الأيّام يدفعني لذلك، فاقد القابلية والمزاج لأن أكتب حرفًا، أو أن أقرأ، سوى بعض ما يرسل إلي أو يصادفني من مقالات ومنشورات على صفحات الفيسبوك، أقرؤها وأعلّق عليها بنفاد صبر. في داخلي نشوة عارمة، فوضى عارمة، أصدق ولا أصدق، أفهم ولا أفهم، بتصميم واع أن أحتفظ بنشوتي قدر ما أستطيع، ولا أظنني سأستطيع الاحتفاظ بها قدر ما تستحق مهما حاولت. وألّا أدع ما يفسد علي فرحتي، ما يقلّل منها لحظة واحدة، أيّ شيء على الأرض. سقط الأسد وانتهت الأسدية، صاحبو الحلم الأرعن، انتصروا. الحلم بات حقيقة، يا لسخافة هذه الجملة بالمقارنة مع ما حدث! انتهى وباء الأسدية، انتهى الطاعون، ألا يكفيني هذا. اليوم على الأقل؟
جامع الرحمن
الساعة الآن تقارب الواحدة ظهرًا، سأختار الطريق الصاعد من بيتي على الحد الفاصل بين مشروع تجميل الصليبة وحي الطابيات، مرورًا بجامع الرحمن، ذي المئذنة الدائرية والقبة الكبيرة الفيروزية، والجدران الرخامية التي نقشت عليها آيات من القرآن الكريم، المصلون يخرجون، فرادى وجماعات، لا سيّارات أمن ولا مسلحون على الرصيف المقابل للجامع، المشهد الذي استمرّ منذ 25/1/2011 وحتّى سنوات قليلة خلت، كما بقية الجوامع! أعدادهم، كما أعتدت أن أراها لا أكثر ولا أقل. أنا الذي لم أدخله في حياتي قط، سوى يوم حملت كل ما لدي من كتب دينية ووضعتها على طرف طاولة صغيرة بجانب صندوق التبرعات.
الصليبة وطلال جوني
بعد ذلك نزولًا وإلى اليمين إلى حي الصليبة، عابرًا شارع الإسكان، الذي لقب بهذا الاسم، بعد أحداث الثمانينيات في القرن الماضي، عندما قامت مؤسسة الإسكان العسكرية بهدم أجزاء من الحي بحجة تنظيمه وبناء صفين من الأبنية على جانبي الشارع، التي سكنها بادئ الأمر أناس من أصناف شتّى، أغلبهم المهندسون والعاملون في المؤسسة، ما لبثوا أن غادروها لتعود لأهلها الأصليين. الصليبة على عادتها مزدحمة وكأنّ كل أيّامها أعياد. طلال جوني، صاحب محلّ أزهار (كشمير) على كرسيه على الرصيف مشغول بجهازه النقال، لم ينتبه لي، لولا ذلك لاضطررت أن أتوقف عنده بضع دقائق! أذكر، كيف كنا، نزوره أنا وماهر أبو ميالة، ونجلس عنده وسط حزمات القرنفل والورد والزنبق البلدي! ونسأله عن حال الثورة؟ ونحن في أشد حالاتنا قنوطًا، فيجيبنا بلا أدنى تردّد: “بالعكس، الأمور ولا أروع، نهاية النظام مسألة وقت”! يا لك من رائي يا أبو أحمد!
سوق الخضرة
سوق الخضرة المزدحم دائمًا، اليوم مزدحم أكثر من عادته، انخفضت أسعار الخضار والفاكهة واللحوم في أمكنة معينة إلى ما يقارب النصف. سعر طبق البيض ذي الـ 30 بيضة انخفض من 56 ألف ل. س إلى 35 ألف ل. س بل 30 ألف ل. س. الموز في كل مكان، انتصرت الثورة وامتلأت اللاذقية بالموز، السوري واللبناني والصومالي، بات سعر الكيلو 15 ألف ل. س، بل 12 ألف ل. س، لا بل 10 آلاف ل. س، بعد أن كان 35 ألف ل. س. هناك أصناف جديدة من البضائع المتنوعة صنع إدلب وتركيا تحتل طبليات الأرصفة. إلّا أن ربطة الخبز مفتاح عيش المواطن السوري، صار سعرها للعموم 4 آلاف ل. س، بعد أن كان سعر الدعم 1 ألف ل. س فقط. والبنزين 20 ألف ل. س بعد أن كان 12 ألف ل. س، أي بزيادة تقارب 70%.
شاحنة النفايات، تساعدها جرافة صغيرة، تتحرّك بنشاط محموم، تقوم بتفريغ العديد من الحاويات المعرّمة بالقمامة حتّى تكاد تغطيها بأكملها، فتبدو وكأنّها تلال من الأوساخ، وذلك بعد توقّف عملية ترحيل القمامة خلال الأسبوعين الماضيين. حالة النظافة النسبية تعود شيئًا فشيئًا للمدينة!
العوينة وبيت النحلوس
كما جارتها القلعة وأظن أيضًا الكاملية، العوينة من أكثر حارات اللاذقية العتيقة اختلاطًا بين المسلمين والمسيحيين، على فكرة، المسيحيون كانوا في خمسينيات القرن الماضي يشكلون ما يقارب 30% من سكان اللاذقية، هجّوا وتناقصوا في عهد حامي الأقليات إلى 5% أو أقل! أوّل علاقتي بها جاءت من أنّها حارة أعمام أمي بيت النحلوس، اللقب الذي التصق بهم بسبب أنّهم، يقال، كانوا يربون النحل، وأبناؤهم وأحفادهم، الذين دفعوا ثمن خؤولتهم لـ(أبو علي شريقي)، أشهر مقاتلي الشوارع في اللاذقية أوّل الثمانينيات، حياة اثنين من شبابهم، سامي بعمر الثلاثة والعشرين وسعيد الأصغر بعمر السادسة عشرة.
ولا أنسى ما نقله لي صديق كان يعمل في مؤسسة الإسكان العسكرية، كيف خلال اجتماع ضمهم مع رئيس فرع الأمن العسكري حينها (ع. س. ق) أحد العاقّين الكبار من أبناء اللاذقية، راح يتفاخر بقتله له، بيده، كالكلب، قال حرفيًا. أمّا بقية الأخوة فقد اعتقلوهم جميعهم بتهمة أنّهم كانوا يوصلون لخالهم الطعام الذي كانت تطبخه وترسله له أمهم! فاصغرهم محمد كان بعمر السابعة، طفل في السابعة من عمره رموه في سراديبهم المظلمة، وأنت يا منذر مصري كنت ترسم وتكتب الشعر وتطبع كتبك في وزارة الثقافة السورية، وكأنّ هذا لا يعني لك شيئًا! الذي لم يطلقوا سراحه إلّا بعد 12 سنة، ولكم أن تتخيلوا أيّ إنسان خرج محمد من سجنه الطويل. الخبر الجميل أن محمد وعائلته يحيون اليوم في إستانبول! أما الخبر الحزين الفاجع أنّ ابن عبد الرحمن، خليل نحلوس، اعتقل وسلّم روحه الزرقاء تحت التعذيب في 2012!
ساحة الشيخ ضاهر وإعلانات جامع العجان
في نهاية شارع العوينة (المثنى بن حارثة)! عند موقف الميكروباصات، تنعطف إلى اليمين وتمضي في زقاق ضيق، لا يتّسع سوى للسيّارات الصغيرة، ولا يعرفه سوى القليل من السائقين، لتصل مباشرة إلى وسط ساحة الشيخ ضاهر. ازدحام السيّارات لا يحتمل. زار صديقي الطرطوسي د. نور الدين ناصر اللاذقية منذ سنتين وبسبب ما هاله من ازدحام السيّارات قرّر ألّا يزورها ثانية! أحشر سيّارتي بين رتلين من سيّارات الأجرة، حركة السير في اللاذقية ميسّرة من دون شرطة المرور منذ أسبوعين، ومن دون إشارات المرور منذ سنوات. في اللاذقية لا يوجد كهرباء تكفي لتشغيل الإشارة! ليست مشكلة، السائقون جميعهم يتقيّدون بالاتجاهات وقواعد السير، يتمهلون ويتوقّفون بسيّاراتهم ليدعوا المشاة يعبرون الشارع. سائق سيّارة فارهة، عند الدوار، توقّف وأعطى لي مجالًا للمرور. شيء عادي طبعًا، لطالما يحدث هذا. أوقف سيّارتي مقابل بوابة ثانوية جول جمال، صفًا ثانيًا، الشارع هنا عريض كفاية، وأمضي إلى قاعدة التمثال المخلوع لألتقط بقايا اللوحة البازلتية التي كانت ملصقة عند قاعدته، أستعين بشاب لينزل إلى قاع الحوض الجانبي ويجلب لي قطعة كبيرة نسبيًا منها. للأسف القطع الثلاث التي جمعتها، لا يوجد أيّ حرف من اسم حافظ الأسد عليها. ألتقط بعض الصور واتّجه إلى لوحة نعيات جامع العجان، الذي خرجت منه طلائع المتظاهرين فجر 8/12/2024، لأصوّر بعض الملصقات التي غطّت على أوراق النعيات. أولها: “مطالبة أهالي الشيخضاهر (يكتبها اللوادقة موصولة) أعضاء حزب البعث وأعضاء مجلس الشعب بالاعتذار لأهالي الشهداء لأنّهم أعطوا أسماء أولادهم للمخابرات على مدى خمسون (أكتبها كما هي) عامًا”. والثانية: “إقامة صلاة الغائب على روح الشهيد البطل حسين هرموش”. اللاذقية لا تنسى، اللوادقة كما عهدتهم يوفون دائمًا بعهودهم. والثالثة: “الشعب السوري يطلب من روسيا تسليم بشار المجرم المخلوع الجبان ليتم محاكمته وإعدامه أمام الشعب السوري. سوريا حرّة”.
كل شيء هادئ في اللاذقية
يقول القاص ورسام الكاريكاتير عصام حسن صاحب (عن الحب وفأر الطحين)، للشاعر ماهر راعي صاحب (مغطّس بالشوكولا) وهما جالسان يرشفان قهوتهما في كافيتريا قصيدة نثر الواقعة في إحدى الأزقّة المتفرّعة عن ساحة الشيخ ضاهر: “أنظر، أليس شيئًا عجيبًا، أليس شيئًا رائعًا، أنّ كل شيء يسير على خير ما يرام من دون شرطة وجنود ومخابرات!”. يردّ ماهر: “بل أكثر من ذلك، ألاحظ أنّه منذ أسبوعين، الناس ازدادوا لطفًا لدرجة ساحرة”. غير أنّي في الواقع نظرت وتأمّلت فرأيت أنّ كلّ شيء كالمعتاد، لا أكثر ولا أقل. ما عدا أنّ ساحة الشيخ ضاهر تخلو اليوم ومنذ 14 يومًا من الظلّ الثقيل لتمثال حافظ الوحش.
نعم… لم يحصل في المدينة ما كان يخاف منه أهلها، أن تغزوهم عصابات مسلّحة من المناطق المحيطة، كما في أحداث الثمانينيات، أو أن تهبط عليهم كتائب، لا يدرون من أين، وتعمل فيهم نهبًا وتنكيلًا، كما كان يشاع. وفي المقابل لم يحدث أن هجم (زعران) الصليبة على حي الأميركان، لا بل لم يمدّ رأسه أحد ويصيح هتافًا، ولا جمع (شريقيوا) السكنتوري و(رعاع) الرمل الجنوبي أنفسهم وهجموا على بسنادا أو عين البيضا، كما كانت تروّج فروع الأمن. التجاوزات والتعدّيات التي حدثت هنا وهناك في المدينة وخارجها، بالتأكيد كان يجب ألّا تحدث، ويجب على الفور التصدّي لها ومحاسبة مرتكبيها، من دون أيّ أعذار. إلّا أنّها، لحسن الحظ، لا شيء بالمقارنة مع تلك السيناريوهات الكابوسية التي كان نظام الأسد ومخابراته وعواينيه يعملون على نشرها وتعميمها ودفع الناس لتصديقها.
شارع انطاكية والسيّارة الإدلبية
أيّ حنين لأنطاكية، جعل اللاذقية تسمّي أحد شوارعها باسمها. سمعت الراحل الأستاذ جبرائيل سعادة، 1922-1997، يقول إنّ اللاذقية وأنطاكية وأفاميا يسمّون الشقيقات الثلاث، بناها جميعها أحد قادة الإسكندر المقدوني بعد رحيل الإمبراطور سلوقس نيكاتور (المنتصر)، الأولى باسم أمه (لاوديكيا) والثانية باسم أبيه (أنطوخيوس) والثالثة باسم زوجته! وقد اختار مواقعها مستعينًا بثلاثة نسور أطلقها فطارت وحطّت في موقع كل منها. في هذا الشارع ذي الاتجاه الواحد من ساحة الشيخ ضاهر إلى شارع المغرب العربي شمالًا. وهو بدوره شارع مزدحم بالسيّارات، تلك المصطّفة على كلتا جانبيه، وتلك التي تعبره باتجاه شارع المغرب العربي. إلّا أنّ سيّارة دفع رباعي، موحلة، تحمل لوحة مرور إدلب.
قادمة من الاتجاه المخالف، تعرقل السير! فراح السائقون من دون أن ينظر أيّ منهم إلى سائقها كما المتوقع في هكذا حالات، يعبرون بسيّاراتهم بحذر المسافة الضيقة المتبقية من الشارع، ولكني فعلت! نظرت إليه نظرة أقرب للاستغراب منها للملامة، وأنا أعبر بسيّارتي الصغيرة بجانب سيّارته. فاجأني عندما التفت إلي وقال: “والله يا أخي أنا غريب عن المدينة، أعذروني”!
شارع المغرب العربي والمالية والقصر العدلي
كنت أودّ لو أتوقّف قليلًا وألقي التحية على صاحب مكتبة المجد، منذ زمن لم أفعل، اليوم هناك مناسبة جيدة كفاية لذلك. ولكن كالعادة ، لا يوجد مكان قريب لإيقاف السيّارة، كما أنّه ليس لدي وقت. فعليّ أن أتفقّد مديريتي الزراعة والمالية والقصر العدلي قبل نهاية الدوام. رأيت بعض الأشخاص عند بوابة مديرية الزراعة، إلّا أنّي لم أتوقف واسألهم، فعلت هذا أمام مديرية المالية، عدد محدّد من الموظفين، يخرجون على دفعات من بوابة المبنى الرئيسي، يحملون تحت آباطهم حقائبهم السوداء المعتادة. نزلت من السيّارة وسألتهم، أجاب أحدهم أن العمل قد بدأ، يستطيع المواطنون دفع ما يتوجب عليهم من ضرائب وغرامات، إلّا أنّه لا مجال بعد لعمليات البيع والإيجار! أمّا القصر العدلي المحترق، فهو مغلق وهناك ثلاثة مسلحين على بابه. وقد علمت أنّه تم اختيار المبنى الفارغ لفرع حزب البعث العربي الاشتراكي في اللاذقية عند الكورنيش الجنوبي ليكون مقرًا مؤقتًا للمحكمة.
فكان أن اتصلت بصديق لي قاض لأسأله إذا ما عاد إلى عمله بطريقة أو بأخرى، فأجابني بأنه لم يفعل ولا يدري متى سيفعل. واستطرد قائلًا إنّه من الناحية المنطقية، من اللّازم حرق القصر العدلي مرّة، أمّا من الناحية العاطفية والإنسانية فإنّه يجب حرقه مرّتين! لما فيه من مخاز وعار.
الأميركان وعلم الثورة وعبد الباسط الساروت
ها أنذا صرت قريبًا من مرسمي في شارع المتنبي، الشارع الرئيسي في حي الأميركان، أيضًا كما يلفظها اللوادقة، لا الأمريكان! صففت سيّارتي الصينية البيضاء أمام العصافيري، المقهى والمطعم الوحيد الناجي من عملية توسيع مرفأ اللاذقية بطمر كامل الشريط البحري الغربي للمدينة، حيث كانت تنتشر المقاهي والمطاعم والنوادي الليلية، بين سيّارتين تتزينان بعلم الثورة الأخضر، هو أكثر ما يضعه اللوادقة اليوم على نوافذ سيّارتهم الخلفية، لا ينافسه في هذا، وإن على نحو أكثر جمالًا سوى صور وملصقات عبد الباسط الساروت، بلبل الثورة وشهيدها. أمّا صور أحمد الشرع، فما إن انتشرت ذلك الانتشار الشديد في أوّل يوم، حتّى جاءت الأوامر المشدّدة بنزعها، وكأنّها من المحرّمات، عن الجدران والسيّارات وواجهات المحلّات، التي راح أصحابها، من دون أن يطلب منهم أحد، بإعادة دهان القسم الأعلى منها بالأخضر بدل الأحمر، وإضافة نجمة ثالثة حمراء في الوسط بعد دهن النجمتين القديمتين بالأحمر أيضًا، مع إبقاء القسم الأسود السفلي كما هو. الأسود لم يتغير! ولكن ذلك لم يمنع بعض الناس من الاحتفاظ بها داخل محلّاتهم وفي بيوتهم! نعم دخلت محلّين أو ثلاثة ورأيتها، كما رأيتها مكبّرة ومؤطّرة في بيت أحد أقاربي. بالنسبة إلي أنا الذي لم ألصق على سيّارتي يومًا أيّ صورة، أتمنّى لو أستطيع إلصاق صورة صديقي وشهيدي باسل شحادة.
كنيسة رئيسي الملائكة ميخائيل وجبرائيل وكنيسة اللاتين
لا شيء تغير في استعدادات كنائس اللاذقية بكل طوائفها لعيد ميلاد السيد المسيح ورأس هذه السنة الميلادية. ها هي شجرة عيد الميلاد الكبيرة لكنيسة رئيسي الملائكة ميخائيل وجبرائيل تضيء وتتلألأ، ويقف أناس مع أطفالهم من مختلف أنحاء اللاذقية يرنون إليها بفرح ويأخذون الصور العائلية تحتها، حتّى وإن كان يفصلهم ذلك السور عنها، والتي مكثت في مرسمي البارد إلى الساعة السادسة لأصورها مضيئة ومتلألئة. بعد هذا آن الوقت لأن أعود بسيّارتي إلى بيتي، من دون أن أنسى بطريقي التقاط عدّة صور لشجرة ميلاد كنيسة اللاتين المضيئة والمتلألئة على نحو أشد وكأنّها مجرة فضائية. ما علمته أنّ السلطة القائمة شديدة الحرص على سير احتفالات الأخوة المسيحيين بأفضل وجه. وها أنذا الآن في البيت أحاول أن أنقل إليكم، بأكثر ما يمكنني من واقعية، مجريات يوم الأحد 22/12/2024 البالغ العادية في حياة مدينة اللاذقية.
عيد ميلاد مجيد ورأس سنة سعيد
أصدقائي أحبتي، السوريين جميعًا، لكم منّي، مستعيرًا تعبير الشاعر اللبناني الراحل شوقي أبي شقرا، 1935-2024، أنا الحقير الذي ليس بطريرك إنطاكية وسائر المشرق، كل تمنياتي الصادقة بعيد ميلاد مجيد ورأس سنة سعيد.
ضفة ثالثة
————————————–
هل أعطى المرشد أمر العمليات في سوريا؟/ عمر قدور
السبت 2024/12/28
يوم الأربعاء الفائت اندلعت مظاهرات في مدينة حمص ومدن أخرى في الساحل السوري، عرّف فيها المتظاهرون أنفسهم بأنهم علويون، وهذه سابقة في سوريا، تسبَّبَ بها انتشار تسجيل تُنتهك فيه حرمة مقام علَويّ في مدينة حلب. تبيّن لاحقاً أن التسجيل ليس بجديد، ويعود إلى ما قبل أسابيع عندما هاجمت هيئة تحرير الشام مدينة حلب وسيطرت عليها، حيث حسب الرواية المنسوبة إلى الهيئة حدثت أعمال قتالية في المقام. صدرت توضيحات أيضاً تنفي أن يكون المقام أصلاً للخصيبي، الذي له مكانة لدى العلَويين، إلا أن هذه التوضيحات لا أهمية راهنة لها، إذ كان الاعتداء على المقام يهدف إلى إهانة العلويين، وكانت الرسالة قد وصلت إليهم هكذا.
كان يمكن للمتابع أن يلاحظ أجواء التصعيد التي سبقت مظاهرات يوم الأربعاء، ثم الحملات الأمنية التي تلتها وقامت بها السلطة الجديدة، والتي لا تخلو من انتهاكات في حق المعتقلين يُذكّر بعضها بانتهاكات قوات وشبيحة الأسد في حق الثائرين. بدءاً من الأكثر أهمية، في يوم الأحد 22 كانون الأول/ديسمبر، خاطب المرشد خامنئي السلطة الجديدة في دمشق قائلاً: “لم تكن هناك قوة إسرائيلية ضدكم في سوريا، التقدم بضعة كيلومترات ليس انتصاراً، لم يكن هناك عائق أمامكم وهذا ليس انتصاراً. وبطبيعة الحال، فإن شباب سوريا الشجعان سيخرجونكم من هنا بالتأكيد”! وإشارة التعجب من قبلنا، عطفاً على تصويره عدم تصدي إسرائيل تهمةً للسلطة الجديدة، وكأن أخلّت بواجبها في الدفاع عن الأسد.
أضاف خامنئي: “الشاب السوري ليس لديه ما يخسره. جامعته غير آمنة، مدرسته غير آمنة، منزله غير آمن، شارعه غير آمن، حياته كلها غير آمنة. ماذا يفعل؟ يجب أن يقف بقوة وإرادة أمام أولئك الذين خططوا لهذه الفوضى وأولئك الذين نفذوها، وبإذن الله سيتغلب عليهم. مستقبل المنطقة سيكون، بفضل الله، أفضل من حاضرها”. ثم تكفّل المتحدث باسم السلطة القضائية في إيران أصغر جهانغير بالتوضيح، فقال: “إن تنبؤات خامنئي حول ظهور الشباب السوري الشريف والقوي الذي سيدحر المحتلين من أرض بلاده، ستتحقق في القريب العاجل”. أما وزير الخارجية عباس عراقجي، فهدد قائلاً “إن مَن يعتقدون بتحقيق انتصارات في سوريا عليهم التمهل في الحكم، فالتطورات المستقبلية كثيرة”.
بدوره، لم يتأخر محمود قماطي، نائب رئيس المجلس السياسي في حزب الله، بالقول: “إننا اليوم أمام خطر صهيوني كان ولا يزال من الجنوب، واليوم استجد علينا خطر من الشرق، فإسرائيل دخلت إلى سوريا، وأصبحت ليست فقط على حدودنا الجنوبية، وإنما أصبحت على حدودنا الشرقية”. أقوال قماطي، يوم الاثنين الفائت، تعيد إلى الأذهان عهد تدخل الحزب في سوريا، تحت يافطة التصدي للمؤامرة الإسرائيلية، ولم يمضِ بعدُ زمن كافٍ ليتقادم قول ماكينة الحزب الإعلامية أن طريق القدس يمرّ في مدن وبلدات سورية تنشط فيها آلة القتل التابعة له.
محلياً، بعد تصريحات المرشد، أصدرت مجموعة في حمص تزعم النطق باسم العلويين بياناً صيغ بلغة مستفزة، سارع كثر من المنحدرين من المذهب العلوي إلى التبرؤ منه. وكان لافتاً حجم ضخّ المعلومات المفبركة بأكملها أو تحريف ما هو موجود، بهدف تأجيج الموضوع الطائفي، والتحضير لإشعاله. يمكن، على سبيل المثال لا غير، العودة إلى موقع منصة “تأكد” التي فنّدت العديد من الأخبار والتسجيلات المتداولة، وهي منصة للتدقيق ومحاربة التضليل وحائزة على اعتماد شبكة ميتا الدولية.
بالتأكيد لم تكن الصورة وردية وزاهية تماماً، فهناك ممارسات لعناصر من السلطة الجديدة لا يجوز القبول بها، ولا شك في أنها انتقصت أولاً من السمعة الطيبة التي نالتها بالحرص الذي أبدته في الأيام الأولى على السلم الأهلي. ويجوز القول أن هناك حالة فلتان، جزء منها مفهوم على أرضية المرحلة الانتقالية، وجزء منها ينبغي تداركه بما يحفظ السلم الأهلي، ويصون حقوق الجميع.
من ضمن حالة الفلتان، يجب عدم نسيان شبيحة الأسد المخلوع وكبار المجرمين في قواته، فقسم كبير من هؤلاء لم يُتح له الهروب إلى الخارج، ومن مصلحته إثارة الفوضى لأسباب شخصية أدنى من أن تحمل طموحاً سياسياً. أما الأسد نفسه، فمن الصعب الظن بأنه يعمل على لمّ شمل شبيحته السابقين وتشغيلهم من أجل العودة، فهو قد فقد ثقتهم بتخلّيه عنهم والتسلل خلسة من البلاد. وحتى موسكو التي قبلت به لاجئاً لا تبدو عازمة على إثارة القلاقل في سوريا، والإشارات المتبادلة بينها وبين الشرع توحي بأن العلاقة بينهما على ما يرام، بل صرّح لافروف قبل يومين بوجود تواصل بين بلاده والقيادة الجديدة، مشدداً على دعم بلاده تصريحات القائد العام للإدارة السياسية الجديدة أحمد الشرع، والتي قال فيها إن العلاقة بين روسيا وسوريا قديمة واستراتيجية.
إجمالاً، لا نتحدث في إطار التكهنات، فالوقائع العلنية المذكورة السابقة كافية للإشارة إلى الجهة الوحيدة القادرة حالياً على إشاعة الفوضى في سوريا، وهي القوة التي كان إلى ما قبل شهر من الآن يُشار إليها بوصفها القوة الأكثر سيطرة على سوريا من الأسد نفسه. واليوم ليس من الحصافة إطلاقاً اعتبار ما حدث في سوريا هزيمة نهائية للمشروع الإيراني، وأن طهران ستستسلم وترضخ للأمر الواقع بسهولة. بل من الواجب التفكير مليّاً، وتقصّي ما إذا كانت القيادة الإيرانية قادرة على ابتلاع الهزيمة، ثم على مواجهة ارتداداتها الداخلية.
كنا قد تجاوزنا ما نُقِل عن أوساط القيادة الجديدة، يوم الأربعاء الفائت، من أنها تعمل على إعداد مذكرة ستقدّمها للمحاكم الدولية، تتضمن مطالبة إيران بدفع 300 مليار دولار، على هيئة تعويضات للشعب والدولة السورية. وهذا مثال ليس الأهم على فخاخ الماضي، فسوريا الجديدة، بصرف النظر عمّن يحكمها، منهكة إلى حد لا تستطيع فيه دفع الديون الإيرانية، وهي حسب الأرقام المتداولة تزيد عن 50 مليار دولار، من دون احتساب كلفة الحرس الثوري وميليشياته التي كانت تنشط في سوريا.
فعندما نتحدث عن ارتدادات الهزيمة، يكون الحديث عن الأسئلة التي لا بد أن تُطرح في إيران عن مصير وعائدات الثروات التي أُنفقت في الخارج، وكان إنفاقها يُغطّى بالتبجّح بسيطرة إيران على أربع عواصم عربية. الرقم لا يتضاعف لمرة واحدة فقط، إذا أضفنا إليه ما أنفقته طهران على الحزب، عسكرياً ومدنياً، منذ تأسيسه حتى الآن. أي أن الحديث هو عن مبلغ فلكي، كان يمكن سابقاً إسكات الإيرانيين المعارضين لإنفاقه بالقمع وبدعاوى التوسع والهيمنة الإيرانية، وفداحة المبلغ تزداد مع تدهور الأوضاع المعيشية في إيران، ما يجعل المساءلة عن تلك الأموال المهدورة واردةً في الأمد القريب، المساءلة التي من المؤكد أنها ستجرّ وراءها مساءلات عديدة من طبيعة سياسية وأيديولوجية.
اليوم هناك استحقاق انتخاب رئيس في لبنان، ولا تستطيع طهران تقديم تنازل يُفهم على أنه تكريس لهزيمتها في سوريا ولبنان، ولا يُستبعد أن تسعى إلى تفجير الأوضاع في سوريا كرسالة من أجل تحسين موقعها التفاوضي على الرئيس اللبناني المقبل، وكان مثيراً للانتباه قبل أيام أن تُظهر جريدة الحزب مرشّحاً للرئاسة بوصفه مرشّحاً للشرع وأميركا، مذكّرة بأيام تعيين الرئيس العتيد من قبل الأسد! لعلّ هذا، كمثال تفصيلي ليس إلا، يوضّح تعقيد الورطة الإيرانية وحساباتها التي لا يجوز اختزالها بالظن أن طهران تلقت هزيمة بالضربة القاضية، وقُضي الأمر وانتهى. فحتى إذا كان من المستحيل على طهران استعادة نفوذها الآفل مع هروب الأسد، فإن قدرتها على إحداث الفوضى شأن آخر، والفائدة من ذلك هي داخلية. إذ يمكن بناء على هذا السلوك القول إن طهران لم تنهزم بعد، وإن أعوانها صامدون هنا وهناك ويتصدون كالمعتاد للصهيونية وقوى الاستكبار… إلخ.
على سبيل التأكيد مرة أخرى، ما سبق مبني على الوقائع والتصريحات، وعلى المنطق السياسي أيضاً، ونرجو أن يكون مدخلاً للتفكير في المأزق الإيراني وتبعاته، وإمكانية احتوائه دبلوماسياً، وليس على شاكلة الترويج لنظريات المؤامرة التي هي من اختصاص المحور الآفل. لكن يبقى المحكّ الأكبر في عدم التشبّه بأصحاب نظرية المؤامرة إياها لدى السلطة الجديدة في دمشق، فهي الأقدر، رغم حداثة وجودها، على إعطاء ضمانات حقيقية للمتخوّفين من ظلم طائفي. والصورة الرائجة عن السلطة ذاتها تجعلها في أفضل موقع لتقديم الضمانات، لأن الأخيرة لها مصداقية أكبر بصدورها عن الأكثر راديكالية، إلى حين الانتهاء من هذه المرحلة وتكريس دولة المواطنة.
أيضاً من الضروري تذكّر دأب الأسد على استغلال المؤامرة المزعومة من أجل قمع الداخل، وهذا درس طازج جداً يشير إلى أن مواجهة الأخطار الخارجية (الحقيقية هذه المرة) تكون عبر تحصين الداخل بالسلم الأهلي وبالحريات. المستقبل القريب حافل بالتحديات الصعبة، ونقصد بالمستقبل الأسابيع القليلة المقبلة التي تتطلب الكثير الكثير مما ليس أسدياً. إنها مهمة شاقة، لكنها ليست مستحيلة.
المدن
————————————
أيها الفلول الطائفيون: كل الشعب السوري لكم بالمرصاد!/ د. فيصل القاسم
تحديث 28 كانون الأول 2024
لا شك أن القيادة السورية الجديدة ومعها الغالبية العظمى من الشعب السوري تفكر اليوم بالطريقة الأمثل للتعامل مع فلول النظام الساقط الذين فعلوا بالسوريين ما لم يفعله المغول والتتار وربما أكثر، وهم بعشرات الألوف. ماذا نفعل بهم بعد أن سقط نظامهم الذي شاهد العالم أجمع أفعاله المغولية على مدى أكثر من نصف قرن؟
لا شك أن غالبية السوريين إذا استثنينا منهم أتباع وأنصار الأسد، لا يريدون التصرف مع الفلول وخاصة الطائفيين منهم بنفس الطريقة البربرية المغولية التي تعامل بها الطائفيون معنا على مدى عقود وعقود، فنحن سنعض على جراحنا ولن نمارس الانتقام الأعمى مع أن لدينا معكم مليون ثأر وثأر، لأننا نريد أن نبني وطناً جميلاً لكل السوريين دون استثناء، لكن بالتأكيد ستأخذ العدالة مجراها وسينال المجرمون أشد أنواع العقاب، فلن ننسى ولن نسامح، ولا مجال مطلقاً هنا لمقولة: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» فالقصاص العادل مطلوب لكل هؤلاء القتلة والمجرمين والمخربين وبالمحاكم وليس في أي مكان آخر. لكن الغريب العجيب أن تلك الطغمة التي أذاقت السوريين شتى أنواع العذاب والتعذيب والتنكيل ليست راضية حتى بالعدالة التي نريد أن نقدمها لها بطريقة حضارية، فها هي اليوم بدأت تطل برأسها الطائفي في بعض المناطق الساحلية، وتخرج في مظاهرات استفزازية لكل السوريين رافعة شعارات طائفية بدعم وتأييد لا تخطئه عين من كفلائها الإيرانيين الذين، لم يتحملوا ضخامة الهزيمة، فراحوا يحرضون على الثورة ويمولون جماعات طائفية قذرة لافتعال أحداث طائفية بهدف زعزعة الأمن والاستقرار وتحويل اهتمام السوريين من إعادة بناء وطنهم المحطم إلى الدخول في صراعات داخلية وحرب أهلية، لأن أعداء سوريا لا يريدون للسوريين أن يستقروا، وبالتالي يفتشون عن أقذر الطرق والوسائل للعودة إلى الأرض السورية بهدف نهبها وتفكيكها وتفتيتها كما فعلوا من قبل في العراق، وكلنا يتذكر كيف فجروا مرقد العسكريين هناك لإحداث فتنة كبرى لم يستفد منها سوى الغزاة الإيرانيين. لكن هيهات، فالشعب السوري العظيم الذي تحمل أبشع أنواع المجازر والويلات ونجح أخيراً في اجتثاث أعتى وأسوأ نظام عرفته البشرية في القرنين الماضي والحالي لن يعجز عن التعامل مع فلول الطائفيين ومن يساندهم سواء كانت إيران أو أي جهة عربية أو غير عربية، فالسوريون للجميع بالمرصاد هذه المرة، ولديهم من الطرق والأساليب الكثير الكثير داخل سوريا وخارجها، والويل كل الويل لمن يحاول العبث ببلدنا مرة أخرى، فسيندم ندماً غير مسبوق، وهذا ليس مجرد كلام على عواهنه، بل إن كل السوريين اليوم مستعدون لمواجهة كل من سيتدخل في شؤونهم ويزرع بينهم الضغائن والفتن.
دعونا نقول للذين يصطادون في الماء العكر بسوريا الجديدة، كان غيركم أشطر، فحتى أعتى نظام في العالم مع حماته الروس والإيرانيون داسه الشعب السوري، ونظف سوريا من شره، وبالتالي فالشعب الذي ضحى وصبر على عائلة فاشية نازية ثم سحقها، لن يعجز عن سحق فلولها، ولا تنسوا أنكم اليوم بلا جيش فاشي ولا أجهزة أمنية وحشية ولا ميليشيات شيعية ولا طيران روسي، وبالتالي، من الأفضل أن تعرفوا حجمكم جيداً قبل أن تواجهوا اليوم ملايين السوريين الذين يعضون على ثورتهم بالنواجذ كي يبنوا بلدهم من جديد، لكنهم مستعدون أيضاً أن يجعلوا من أي خطر داهم أثراً بعد عين لحماية منجزات ثورتهم معتمدين على العدالة لا على الانتقام الأعمى الذين سيزيد الطين بلة.
صدقوني أيتها الأدوات الطائفية الإيرانية التي تحاول الانتقام من النصر السوري على إيران وميليشياتها أنتم لستم أصحاب قضية، ولا دعاة حرية، فأنتم ألد أعداء الحرية منذ وصول الهالك حافظ الأسد معلمكم إلى السلطة قبل أكثر من نصف قرن، وبالتالي نقول لكم: لا حرية لأعداء الحرية، فخيطوا بغير هذه المسلة، ولا تكونوا وقوداً رخيصاً لأعداء سوريا المعروفين. لا نريد طبعاً أن نشمل كل المكون العلوي معكم، معاذ الله، فغالبية أهل الساحل الكرام عانوا منكم ومن أسيادكم النافقين والهاربين كثيراً، وهم سيقفون مع الشعب السوري لمواجهتكم وإحباط مخططاتكم الشيطانية أيها المرتزقة.
أنصحكم بأن تصمتوا إذاً، وأن تتعاونوا مع بقية السوريين لبناء هذا الوطن الذي سرقتموه ودمرتموه مع الهارب، وإذا قررتم المواجهة فأكرر مرة أخرى أنكم ستواجهون كل الشعب السوري هذه المرة، فأنصحكم أن تصمتوا لأن كل الشعب يريد أن يأخذ حقه منكم وسترون العجب العُجاب إذا مضيتم في هذا الطريق الخطر جداً عليكم، لكن الشعب لا يريد أن ينزل إلى مستواكم الذي عرفناه على مدى عشرات السنين، ويريد أن يدفن حقبتكم السوداء في تاريخ سوريا تحت سابع أرض عبر المصالحة الحقيقية وتحقيق العدالة بطريقة حضارية.
والشكر هنا موصول لذلك الشيخ العلوي المعمم الذي خرج قبل أيام على رأس مظاهرة غاضبة متوعداً الإدارة الجديدة بالويل والثبور وعظائم الأمور، لكنه في اليوم التالي استعاد أو أُعيد له صوابه بطريقة ما وراح يدعو إلى إحلال السلام والأمن والاستقرار في البلد بعد أن أدرك أنه بتهديداته النارية الهوجاء كان على وشك توريط طائفة بأكملها تتبرأ من أفعال شبيحتها وذيول العصابة الساقطة الهاربة.
وقد صدق الناشط السوري الشهير مازن درويش وهو من الساحل السوري عندما قال: «على الطائفة العلوية ألا تسمح للطائفة الأسدية بجرها لتدمير نفسها وسوريا مرة أخرى».
كاتب واعلامي سوري
القدس العربي
———————————-
هل يكون الشرع «بسمارك»: سورية الجديدة.. من الفوضى إلى الدولة/ عبدالله الغضوي
الجمعة 27 ديسمبر 2024
منذ اليوم الثالث من سقوط النظام السوري، لم تهدأ الزيارات الدولية إلى دمشق ولقاء القائد الجديد في سورية أحمد الشرع، وعلى الرغم من المفاجأة الكبيرة بهروب الأسد في أقل من أسبوعين وترك الدولة على قارعة الطريق، إلا أن التعامل الدولي والإقليمي مع سورية كان لافتاً وسريعاً، والسبب واضح فإن هناك إرادة دولية لاحتواء التحول الكبير في سورية والشرق الأوسط، وحتى الآن تعيش سورية حالة من الغليان على المستوى الدولي وعلى المستوى المحلي، خصوصاً أن الحكم القادم ذو خلفية إسلامية، وهذا ما يجعل أنظار العالم تتجه إلى سورية والاطمئنان على أن الرسائل التي يرددها قادة دمشق الجدد إيجابية، والواقع أن كل الدول؛ سواء التي زارت دمشق أو التي لا تزال قيد المراقبة، تراقب بشكل ما المشهد السوري وكيف سيدير أحمد الشرع المشهد.
أولى الكلمات التي سعى الشرع إلى ترديدها في كل لقاء، أن سورية انتقلت من مرحلة الثورة إلى مرحلة الدولة، وإن كانت هذه العبارة هي الهدف الحقيقي للقيادة الجديدة، فإن حجم التحديات سيكون أكبر من أن تتحمله القيادة الجديدة وحدها؛ بمعنى أن الدولة وعقل الدولة يرتكز على المفاهيم التشاركية والتنوع والعدالة والحكم على مبدأ المواطنة لا الأيديولوجية، وهذا من أصعب التحديات في المرحلة الجديدة! سورية حالة استثنائية ليست بسبب موقعها الجغرافي فقط، بل استثنائية كونها خرجت من حرب تأججت فيها الطائفية على مدار 13 عاماً، ووصلت إلى القاع في الحرب الأهلية، فالأسد جرب على الشعب كل أنواع الحروب الدينية والمذهبية والطائفية والإثنية وتحولت سورية إلى مستنقع نتن على مدار 13 عاماً، ومن هنا فإن التداوي من جراح الماضي يحتاج إلى وقت لتهدأ سورية من كل العمليات القيصرية على المجتمع.
حتى الآن لا أحد يعرف ماهية وطبيعة الدولة التي يريدها أحمد الشرع، ولا أحد يعرف ماذا تريد الدول من هذه القيادة الجديدة، وقد يكون الشرع اجتاز، حتى الآن، الاختبار الطائفي أو المذهبي الذي طالما كان هاجساً سورياً ودولياً، لكن الحقيقة أن هذا الاختبار السوري على المستوى الاجتماعي كان ناجحاً بمقاييس غير متوقعة، وهذا أول اختبار للدولة.
الاختبار الثاني المستحق الذي سيكون أول مسارات الشوق على درب الشرع هي وحدة سورية في ظل حالة التشظي الجغرافي وعدم حل الخلافات المؤجلة مع «الإدارة الذاتية» في شمال شرقي سورية، والانتقال إلى توحيد سورية تحت سلطة الدولة، وتوحيد بالطبع ليس على طريقة البعث الأحادية، وإنما على طريقة الدولة الوطنية، وهذا يتطلب مساراً طويلاً، ولا يمكن أن يتم في فترة انتقالية مدتها ثلاثة أشهر على الإطلاق، وهذا يعني أن حكم الإدارة الجديدة سوف يستمر على الأقل عامين إلى ثلاثة أعوام حتى تتمكن من وضع البلاد على المسار الصحيح، وخلال هذه المرحلة ستظهر الكثير من التناقضات السياسية والاجتماعية في الحالة السورية التي كانت في الدرج على مدار ستة عقود من الزمن منذ حكم البعث عام 1963.
تصفير المشاكل
المسألة الأكثر أهمية؛ أنه لا يمكن الاكتفاء بالرسائل الإيجابية، بل طي الصفحات بالكامل خصوصاً من دول الجوار، فكل ما يقال يحتاج إلى أفعال لا أقوال، لا أحد ينتظر من سورية اليوم إلا الأفعال، بالتالي فإن (تصفير المشاكل) أول خطوة تمكن القيادة الجديدة من الحكم دون أن تضيع جهودها على القضايا الإقليمية، وهنا يكمن أيضاً دور جامعة الدول العربية.
في وسط القرن التاسع عشر كانت ألمانيا تعاني من التشظي والانقسام، ومن حسن حظ ألمانيا أن كان لديها السياسي المعروف أوتو إدوارد ليوبولد فون بسمارك، هذا الرجل لا يزال اسماً كبيراً في تاريخ ألمانيا، فهو من سخر الحروب القصيرة الثلاث ضد الدنمارك والنمسا وفرنسا من أجل توحيد الألمان على راية الدولة الواحدة، وبالفعل كانت إستراتيجية بسمارك في توحيد ألمانيا مثالاً على استثمار الحروب بشكل إيجابي، وتأسيس ما يسمى بـ«الرايخ الألماني الثاني».
بسمارك في الوقت ذاته اتجه بعد حروب ألمانيا القصيرة إلى بناء الدولة، وبناء الدولة كان بالدرجة الأولى من بوابة الاقتصاد، وبالفعل كانت وما زالت ألمانيا هي العقل الاقتصادي الأوروبي منذ عقود، وما تعيشه ألمانيا اليوم من متانة في الاقتصاد الألماني نتيجة تراكمات تاريخية.
سورية اليوم بحاجة إلى (بسمارك) بمواصفات سورية، فهي تمتلك شعباً عانى من تجربة الحروب، اكتشف أن الحروب لا تحسم ولا تحل القضايا، فهو أحوج ما يكون اليوم إلى الوحدة، ولعل التجربة المرة من لجوء وعنف وقتل أوصلت السوريين إلى أدنى القاع درس لا يمكن نسيانه، ولن يتم تجاوزه إلا بالعمل على تجنب البلاد الاصطدام المذهبي أو المناطقي أو الديني.
حكم اللون الواحد
بكل تأكيد فإن سقوط حكم نظام البعث السوري المتمثل بعائلة الأسد، درس كبير سيكون أمام كل حاكم يدخل القصر، وهذا قانون حكم جديد في سورية أن الديكتاتور واللون الواحد في الحكم لن يكتب له الحياة في سورية، وأن السلطة قاتلة للحاكم وللشعب، وبالتالي لا خيار سوى الانتقال إلى مفهوم الدولة.
سورية أمام مفترق كبير، لديها فرصة أن تتحول إلى يابان الشرق الأوسط إذا تجاوزت الكمائن السياسية الخارجية والداخلية، فالقوة البشرية المنتشرة في كل العالم، والخبرات التي اكتسبها السوريون في الخارج على مدار السنوات الماضية، بالإضافة إلى الإمكانات الاقتصادية ومقومات أخرى، من شأنها تحويل سورية إلى بلد استثنائي ومركز استقطاب سياسي واقتصادي.
عكاظ
———————————–
حياتي وحياة كلّ سوري/ نادين باخص
27 ديسمبر 2024
عند السابعة والنصف من صباح الأحد، الثامن من الشهر الجاري، تلبّستني سوريّتي التي عشتُها على مدى أربعين عاماً في لحظة، حين أيقظني زوجي على غير عادته في أيام العطل، قائلاً: “قومي.. بشار هرب”. لحظة استثنائية في حياتي وحياة كلّ سوري، كنتُ مؤخّراً أرى كلّ شيء يتغيّر بتسارعٍ هذياني لنصل إليها.
نهضت بتثاقل وعدم صحو كمثل من أيقظوها وأبلغوها للتو أنّ الحرب الدائرة في الخارج منذ سنوات طويلة توقّفت، وبات بإمكانها الخروج لتفرح بالطريقة التي تريدها، لكنّي اكتفيت بالنهوض والجلوس متجمّدة الملامح، ناظرةً إلى الشاشة التي كانت تبثُّ زغاريد ممتزجة بأصوات تكبير بالتزامن مع شروق شمس يوم سوري لا يتكرّر.
بقيتُ على هذه الحال من الجمود لساعتين، لم أكن قادرة على الحركة أو النطق أو حتى التفكير، لكنّي أخيراً استنهضت نفسي واستعدت صحوي وقرّرت أنّه حان وقت الصراخ، حان وقت القفز، حان وقت الغناء، حان وقت النحيب والضحك والفرح والحمد وللأسف الشتائم واللعنات التي لم أكن قادرة على لجم لساني عن النطق بها. اعترتني تلك المشاعر المتداخلة التي اعترت معظم السوريّين، لكنّ عبارة واحدة راحت تتردّد في رأسي: ضاع عمري، ضاع عمري.
في الوقت الذي شعرت فيه بطاقة ضاغطة انسحبت منّي لتُفسح مجالاً للهواء كي يمرّ إلى رئتي بحريّة، شعرتُ أيضاً أنّني هرمت. رأيتُ للمرّة الأولى تجاعيد عيني فيما أبكي أمام المرآة، استحضرت الكثير من صور ما مرّ بي خلال سنوات غيابي عن سورية، ذاكرة سنوات طوالٍ من الألم والفقد والحرمان والقلق والحنين والخوف.
عدت إلى ما قبل 2011 واستعرَضَت ذاكرتي لوحات لا حصر لها عن اصطدامات بجدران تقييد الحرّيات، وعناصر الأمن المتجسّدين في العديد من الأشخاص الذين ألتقيهم يومياً، بدءاً من بائع الشاي في كافتيريا الجامعة الذي سألني بوقاحة يوم انتخابات مجلس الشعب: “أين الحبر على بصمتك؟”، وانتهاءً ببعض الأساتذة من الذين كانوا يضيقون الأسئلة عليّ عند اختياري للموضوعات التي أرغب بالبحث فيها خشية انحرافي إلى موضوعات يسمّونها شائكة، لكنّها لم تكن تخز سوى ضيق أفقهم وجبنهم.
رغبت أن أطير في الحال إلى سورية لأنّها الآن، حسبما سمعت من المذيع، “من دون بشّار الأسد”. جملةٌ تطرب لها الآذان وتنفرج لسماعها الأفواه عن ابتسامات عريضة، وتذرف العيون دموع سعادة يستحيل ألّا تمتزج بالحسرة، فقد ضاع عمرنا.
أكثر من عشر سنين وأنا بعيدة عن عتبة بيت أهلي، لم أحنّ إلى شيء في غربتي الطويلة أكثر من حنيني إليها، فعتبة البيت تعني الوصول إليه ودخوله وعناق من هُم خلف بابه. العتبة تعني أبي وأمّي وأختي وولديها، فعندها سيقفون بانتظاري واحتضاني بعد غياب لم يتوقّعوه، لكنّي كنتُ على يقين أنّه سيطول بطول الظلم الذي عاشته البلاد.
لا أريد أن أثرثر وأدخل في دوّامة التنظير، أحاول فقط أرشفة اللحظة التي ما زلتُ من أجلها مشغولة باللهج بحمد إلهيٍّ، لحظة صهرتنا نحن السوريّين المترامين في أصقاع الأرض في بوتقة واحدة من الفرح وغيره من المشاعر المتداخلة. أدرك ألّا معجزات في السياسة، لكنّي لا أستطيع أن أغمض عيني عن يد الله التي شعرتُ بها تُحرّك الأحداث لتُنهي أخيراً مأساة شعب.
في هذه اللحظة لا أملك سوى أن أتوق إلى العودة لأدخل سورية بعد أن خلت من أصنام آلهة الشرّ وصور المجرمين. أتوق إلى العودة لأمشي بخطوات خفيفة دون أن أخشى من حقد فُخّخ به الأسفلت، أنا العارفة أنّه في هذه اللحظة تحديداً ربّما كلّ ما في تلك الأرض مفخّخ بالحقد، وليس الأسفلت فقط، وأنّ مئات الأمّهات يقبعن في بيوتهنّ خائفات على أولادهن من جنون الانتقام.
لكنّي أؤمن أنّ من قدر على تحرير البلاد من دون نقطة دماء قادر على أن يكمل معنا ويحقّق الحدّ المرجو من كرامة الإنسان. ذلك الذي علّمني ألّا أدعو أحداً غيره بـ “سيّد”، وأنّه إن حرّرني فبالحقيقة أنا حرّة. نعم لطالما استمددت حرّيتي من إلهي سيّدي وملكي، لكن من حقّي أن أحلم بالعودة إلى أرضي لأقبّلها وأصطحب ولديّ لنشرب الشاي في الكافتيريا التي تعرّفت فيها على والدهما من دون أن يكون البائع عنصراً عُيِّن للتلصّص على فرحنا، وجلس يحصي ضحكاتنا ويدوّن ما قرأه على وجوهنا من إيماءات.
من حقّي أن أكتب وأنشر في بلدي ما يوحيه لي فكري من دون أن أنتظر رأي أحد الجبناء الجهلة. ربّما لا يزال الوقت مبكّراً جدّاً لنحكي عن أحلامنا، فالواقع أشدّ تعقيداً من براءة الحلم وطيب النوايا.
* كاتبة من سورية مقيمة في الإمارات
العربي الجديد
———————————-
عن “التكْويع”: ذاك الاختراع السوري/ دلال البزري
27 ديسمبر 2024
بسرعة فرض “التكويع” نفسه بصفته سمة من سمات مرحلة ما بعد سقوط بشار الأسد. مثله مثل “التشبيح” و”التعفيش” اللذين انتشرا مع الثورة السورية، منذ ثلاثة عشر عامًا. والاثنان غطيا ممارسات اعتمدها مسلحو النظام الرسميون منهم وغير الرسميين. والأول، “التشبيح”، هو استباحة أجساد وأعراض وأرواح السوريين بأكثر الطرق همجية. ورديفه “التعفيش”، أو تتمة “إنجازات” “التشبيح”، أي سرقة منازلهم، قبل أو بعد طردهم منها.
واليوم “التكويع”: أي التراجع عن مواقف سياسية كانت قبل ذلك راسخة. المقصود هنا التبدل المستعجل لمواقف كان أصحابها يحظون بنِعَم تقربهم من النظام. بسرعة طلعوا إلى العلن، وكل على طريقته، أجمعوا على ترحيبهم بسقوطه.
موجة تكويع جرفت في طريقها فنانين سوريين، كتابًا، اتحادات كتاب، صحافيين، إعلاميين، شعراء، مثقفين، شخصيات. قاسمهم لبنانيون من رجال أرضاهم بشار الأسد، ومن بعده حزب الله. هؤلاء بالذات، مثل أقرانهم السوريين، صاروا مضحكة لمن أراد أن يلهو. أشهرهم يتكلم يوميًا عن حبه للحرية والأمان، عن فظاعة بشار الأسد، عن الإجرام، عن سجونه، بعدما كان يبلّط الطريق إليه بالحرير والبخور.
ما أعاد إلى الذاكرة تلك القصة الشعبية السورية المنسية، وأنقلها هنا حرفيًا: “يُحكى أن قرية في وسط سورية كان أهلها يشكون تعسّف الخوري، الذي كان في تلك الحقبة بمثابة سلطة دينية ومدنية عليهم. بعد محاولات لم تُجدِ نفعًا معه، ثم مداولات سرية فيما بينهم، وجد الأهالي الحل بالذهاب إلى مدينة حماة، وإشهار إسلامهم أمام المفتي، وهكذا لا يبقى للخوري سلطة عليهم. ذهب الأهالي معًا، ونفّذوا الخطة، ثم عادوا مبتهجين إلى الضيعة، ولما وصلوا إلى مشارفها بوغتوا بالخوري يصعد إلى سطح الكنيسة ويرفع الآذان”.
وما يجمع بين أولئك اللبنانيين من “كبار” المكوّعين، وبين نظرائهم السوريين، هي تلك الشهوة بالبقاء على أي كرسي، مهما كانت درجة رمزيتها. كوّعوا لأنهم تيقنوا بأن السلطة القادمة ستكون برئاسة غير أسدية. وبأن المهمة الملقاة على كاهلهم الآن هي تدارك آثار هذا التغيير السريع قبل جلوس خصمه، لعلهم يحفظون شيئًا من كرسيهم. فتحولوا بين ليلة وضحاها، من استبداد كانوا ركنًا من أركانه، إلى دعاة علمانية وديمقراطية وحقوق المرأة والإنسان.
وهذه هي النقطة المشتركة الوحيدة بين المكوّع صاحب القدرة والسلطة، وبين مكوّع من بين المواطنين البسطاء، أو الأقل منهم. مثل ذاك الرجل الذي أوحى لمراسلة الـ سي. إن. إن. الباحثة عن سجين أميركي، بأنه سجين هنا منذ ثلاثة أشهر، وأنه من حمص، وأنه لم يكن يعلم بسقوط بشار الأسد… وأنه على حافة الجفاف والإغماء والهزال… وقد تبين لاحقًا بأنه موظف في مكتب حكومي، وقام بهذه الحيلة للنفاذ بريشه بعدما خُلعت أبواب السجون.
الآن، لماذا كل هذه السرعة بالتكويع؟ من سرعة الحدث نفسه. بلمحة البرق. بأيام معدودة، من دون قتال يُذكر، من دون حكومة تعترض، أو جيش أو ميليشيات يدافعون، من دون تدخل الذين تدخلوا سابقًا لإبقاء سورية تحت حكم بشار. كل هؤلاء إما هربوا أو انسحبوا أو صمتوا.
ثم هروب المكوّع الأشهر، بشار الأسد، الذي قال في رسالته الأولى إلى الشعب السوري: “إنني لم أكن في يوم من الأيام من الساعين للمناصب على المستوى الشخصي بل اعتبرت نفسي صاحب مشروع وطني استمد دعمه من شعب آمن به”. وقد وقّعها باسم “الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية السورية”…
الآن تكويع المواطن البسيط. والذي نعتقد بأنه أكثر حياءً، أقل التباسًا، وربما تستّرًا. بل هو يخرج إلى الشارع تعبيرًا عن فرحته. وإن كوّع، فلأسباب تعود في صميمها إلى طبيعة النظام الذي ألزمه بالولاء وبالصمت؛ وإلا القتل، السجن، التعذيب. فكان الخوف رفيقه العنيد.
خوف من اختصاص السوريين. لا يعرفه غيرهم. حتى لو كانوا من أبناء الحروب المتتالية. فبشار هو الرب، هو الذي يقرر متى يموتوا ومتى يعيشوا. والخوف منه يضاهي الخوف من الله.
خوف متراكم على امتداد عقود. منذ تسلّم حزب البعث مقاليد الحكم: انقلاب الأسد الأب على رفاقه البعثيين، اعتقال خيرة الشباب السوري مهما كانت انتماءاته الحزبية، مجزرة حماة في الثمانينيات… ثم المحطة الأخيرة، المقتلة: تبدأ بآلات الموت الصناعي ولا تنتهي بآلاف المفقودين في السجون أو المقابر السرية. وما زال البحث عن أشباحها جاريًا.
خوف من همسة تفضي إلى المشنقة. هو الشعب لم يكوّع، إنما كان مكوّعًا في ظل بشار، والآن استقام. فرحته باستعادة حريته لا يفهمها من يتمتعون أصلًا بها. خمسون سنة من الخوف والصمت.
ما هو نوع الخوف هذا؟
إنه طلب للأمان، بأن لا يتعرض المواطن البسيط لواحدة من الفظائع التي يسمع بها عن جاره أو زميله أو قريبه. يشله، يشل جسمه وعقله. فيقع بين خيارين. إما الهروب “الداخلي”، أي التعامل مع الأشياء كأنها لا تعنيه، أو المواجهة المفضية إلى الموت البشع. الملايين الذين طردهم بشار الأسد من ديارهم، وحوّل أحياءهم إلى بقع مهجورة، كانوا من الخائفين.
وكلمة خوف هذه ليست دقيقة تمامًا. لا تغطي مراحل الخوف، ولا درجاته.
إليك “ربرتوار” الخوف السوري المبدئي. أقول “مبدئي” لأن الأيام القادمة قد تكشف عن مستويات أو درجات من الخوف تتجاوز ما كُتب عنه.
يبدأ هذا الخوف بسوء الظن، أو عدم الثقة. وقد يكون عابرًا، أو ابن مزاج اللحظة. يليه القلق، الاضطراب، الانزعاج. لا يدوم الثلاثة كثيرًا. وهم في طريقهم إلى الهاجس. العيار التالي هو العصبية، التوتر، الحدّة. حيث يسود الهيجان والتصادم والإجهاد. بعد ذلك، الخوف بعينه، وهو يحتل المرتبة الرابعة في “الربرتوار”. الخوف، مجرد خوف بصفته إجابة مباشرة على خطر “عادي”. ثم الذعر أو الرعب، الذي يصيب صاحبه بالشلل وتعطل ملكاته كلها. وأخيرًا الهلع، ملك الخوف. الهلع يُفقد السيطرة على النفس. لا يعود الجسد يستجيب لصاحبه إلا بالارتجاف وارتفاع درجة الحرارة.
هل مرّ الجلادون بواحدة من هذه الحالات؟ هل يفهم أصحاب الشهوة بالعرش معنى هذا الخوف؟ هل أصيب المكوّعون به، عندما أيقنوا بأنهم أصبحوا بقبضة ضحاياهم؟ هل ينجح المواطن السوري بتنظيف مخيلته وسلوكه من مخالب الذاكرة الخائفة؟ بأن ينسى مثلًا؟ أو يحاسب ويحاكم محاكمة عادلة؟ أو يسجل من أجل أن يتذكر، أو من أجل التاريخ؟ وهل التذكّر يشفي من وجع التذكّر؟ هل التكويع يساعد على التذكّر، أم يكتفي المكوّعون بالصمت، وترتيب أوضاعهم، ليتسلّلوا إلى “الصواب السياسي” الجديد؟ أو بمعنى آخر، هل يتضمن سجل الذاكرة الجديدة حسابًا معنويًا، فنيًا، ثقافيًا… يغوص في سريرتهم، التي قد ينضح عنها نوع من الخوف لا نعرفه؟
ضفة ثالثة
—————————
وثائق من الاستخبارات السورية تكشف التجسّس على “سراج” شركاء “درج”
محمد بسيكي وعلي الإبراهيم (سراج) سلمى مهاود وشايا لافلين (OCCRP)
27.12.2024
عقب سقوط نظام الأسد وفتح أبواب الفروع الأمنية، عثرنا على ملف في مقر إدارة المخابرات العامة (أمن الدولة) في دمشق، يكشف عن عملية تتبّع وتجسّس تستهدف “الوحدة السورية للصحافة الاستقصائية- سراج”، المنضوية كشريك محلي مع مشروع OCCRP.
قبل أقل من شهرين من الانهيار المفاجئ لنظام بشار الأسد في سوريا، كانت الأمور تسير بشكل طبيعي في “إدارة المخابرات العامة” أو أمن الدولة، بما في ذلك التجسّس على الصحافيين.
كشفت الوثائق التي تم العثور عليها عقب سقوط النظام في 8 كانون الأول/ ديسمبر، أن فرع أمن الدولة، الواقع في المربع الأمني في منطقة كفرسوسة في دمشق، كان يتحرّى حول “الوحدة السورية للصحافة الاستقصائية – سراج” ، شريك منصة “درج ميديا” في سوريا منذ عام 2019 .
تتكون “سراج” من مجموعة صحافيين سوريين، نشروا بالتعاون مع منصات صحافية عالمية وعربية منها “درج ميديا” تقارير وتحقيقات استقصائية، تكشف عن الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان في ظل نظام الأسد منذ عام 2019. لكن الوثائق تُظهر أن المخابرات العامة اختلقت نظرية مشبوهة عنهم!.
ورد في إحدى الوثائق: “المنصة المذكورة (سراج) لا تتعدّى كونها واجهة لممارسة أعمال تجسّسية، وربط مصادر وجمع معلومات عن مؤسسات الدولة السورية العسكرية والأمنية على مختلف الصعد”.
الاتّهام لا يمت للواقع بصلة، لكنه يعكس النظرة المشبوهة لنظام الأسد تجاه الإعلام المستقل – وهي نظرة غالباً ما كانت تتحول إلى عنف بحق الصحافيين.
خلال الحرب التي شنّها النظام على السوريين، خطفت قوات الأسد مئات الصحافيين، وذكرت منظمة “مراسلون بلا حدود” أن 23 منهم كانوا لا يزالون في السجن يوم سقوط النظام. وأضافت المنظمة أن سبعة صحافيين آخرين كانوا “ضحايا اختفاء قسري؛ خُطفوا إلى مواقع مجهولة”، ويضيف التقرير أن نظام الأسد وحلفاءه، قتلوا ما لا يقل عن 181 إعلامياً منذ عام 2011.
عام 2011 اندلعت الاحتجاجات في سوريا كجزء من “الربيع العربي”، حينها خرج الناس إلى الشوارع للمطالبة بالإصلاح الديمقراطي في منطقة تهيمن عليها أنظمة استبدادية، كما في مصر وتونس، والنتيجة كانت هروب بن علي وتنحّي حسني مبارك، لكن في سوريا، شنّت قوات بشار الأسد حملة قمع دموية، تحولت إلى حرب أهلية أودت بحياة أكثر من 500,000 ألف شخص.
ولكن القتل في سوريا بدأ قبل 2011 بوقت طويل، وربما لن يُعرف أبداً العدد الحقيقي للقتلى من الناشطين والصحافيين وغيرهم من المعارضين، الذين كان يعتبرهم النظام أعداء له.
قال تيبو بروتين المدير العام لـ “مراسلون بلا حدود”، لـ OCCRP: “على مدى أكثر من خمسة عقود، أصبح نظام الأسد ديكتاتورية متخصصة في إخفاء جثث ضحاياه في مقابر جماعية”.
الكثير من جرائم النظام السوري خرجت إلى العلن منذ أن هرب بشار الأسد إلى موسكو، قبل سيطرة قوات المعارضة المسلحة على العاصمة دمشق، ومع غياب الأسد، هرب العديد من حلفائه ورجال الأمن في الأفرع الأمنية، وتركوا مكاتبهم ومقراتهم فارغة، من ضمنها “إدارة المخابرات العامة”.
سمح تحالف فصائل المعارضة الذي تقوده “هيئة تحرير الشام” للصحافيين والباحثين بفحص أكوام من الوثائق الحكومية، التي يوفّر بعضها سجلاً لجرائم النظام.
وقال فراس دالاتي الصحافي السوري الذي زار مقر إدارة المخابرات العامة في 20 كانون الأول/ ديسمبر، واكتشف الملف المتعلق بـ “سراج”: “كان مسموحاً التقاط الصور، لكن كان محظوراً إخراج الوثائق من المكتب”.
الموافقة على التجسّس
كشف الملف أن إدارة المخابرات العامة بدت وكأنها تفسر الممارسات الصحافية العادية، التي يقوم بها صحافيو “سراج”، مثل إجراء المقابلات وفحص الوثائق، على أنها أعمال استخبارات سرية.
وجاء في مذكرة موجهة إلى مدير إدارة المخابرات العامة:
المنصة المذكورة لا تتعدّى كونها واجهة لممارسة أعمال تجسّسية وربط مصادر وجمع معلومات، عن مؤسسات الدولة السورية العسكرية والأمنية على مختلف الصعد، وتقديمها إلى شبكة من المنظمات الدولية الغربية المرتبطة بأجهزة الاستخبارات الأميركية والأوروبية.”
هذا الادّعاء غريب، لأن “سراج” تنشر نتائج تحقيقاتها على موقعها الإلكتروني الخاص ومع شركائها الإعلاميين، وبالتالي فإن المعلومات التي يحصل عليها الصحافيون متاحة للجميع.
تُشير مذكرة المخابرات العامة إلى “المنظمات الدولية التي تتعاون ما تسمى منصة (سراج) المشبوهة، وتتبادل معها المعلومات بذريعة تبادل المعرفة”.
من بين هذه المنظمات المذكورة “الشبكة العالمية للصحافة الاستقصائية” (GIJN) وهي جمعية تضم منظمات غير ربحية، وحين عرضت الوثيقة على إميليا دياز- ستراك المديرة التنفيذية للشبكة، قالت: “الوثيقة تُشوّه عمل الشبكة العالمية للصحافة الاستقصائية وعمل الصحافيين الاستقصائيين.”
تركّز مذكرة المخابرات العامة على قصة نشرتها “سراج” و”OCCRP” في أيلول/ سبتمبر، كشفت عن ثغرات في نظام العقوبات، سمحت للجيش السوري بالحصول على شاحنات سويدية الصنع.
وجاء في مذكرة المخابرات العامة أنه بعد نشر التحقيق “طالب العديد من السياسيين والبرلمانيين السويديين مجلس الاتحاد الأوروبي في بروكسل، بمراجعة سياسته بشأن العقوبات على سوريا”.
في 17 تشرين الأول/ أكتوبر، وافق مدير المخابرات العامة على عملية للتجسّس على “سراج”، وتُظهر المذكرة التي تطلب هذه العملية كيف امتدّت شبكة المخابرات العامة إلى خارج سوريا.
وجاء في الطلب: “توجيه محطاتنا في الخارج لمتابعة الموضوع وموافاتنا بالمعلومات المتوفرة، ومفصّل هويات العملاء الذين يديرون المنصة المشبوهة تحت غطاء إعلاميين”.
في ذلك الوقت، كان المدير العام للمخابرات العامة هو حسام لوقا، الذي فرض عليه الاتحاد الأوروبي عقوبات، ويُعرف بلقب “العنكبوت”، موقعه الحالي غير معروف، ولم يرد على أسئلتنا التي أُرسلت له عبر تطبيق “واتساب”.
وافق لوقا على العملية، لكن من غير الواضح من الوثائق ما هي الموارد التي تم استخدامها أو الأنشطة المحددة التي تم تنفيذها، إذ سرعان ما انهار النظام بعد ذلك.
ومع ذلك، بعد فترة وجيزة من كتابة المذكرة، زار عميلان مسلّحان من المخابرات العامة في دمشق، مكان عمل والد محمد بسيكي، مؤسس منصة “سراج” والمدير التنفيذي، الذي يعيش في الخارج. قام المسلّحان باستجواب والد بسيكي لمدة ثلاث ساعات وفتشوا هاتفه، خوفاً من الاعتقال غادرت عائلة بسيكي منزلها لبضعة أيام بعد الاستجواب.
الطريق الطويل نحو العدالة
على الرغم من أن ذلك الاستجواب كان مرعباً، لكن العديد من السوريين عانوا من أمور أسوأ بكثير في ظل نظام الأسد.
اشتهرت أجهزة الأمن بممارسة التعذيب لانتزاع المعلومات من المعتقلين، وامتلأت السجون بأشخاص يُشتبه في أنهم يعملون ضد النظام، في حين اختفى آلاف آخرون ببساطة.
مع رحيل الأسد وتشكيل حكومة مؤقتة، يطالب الضحايا وعائلاتهم بالمحاسبة، لكن يبقى السؤال: كيف ستبدو هذه المحاسبة؟.
قال تيبو بروتين من منظمة “مراسلون بلا حدود”: “العدالة الدولية تقدم طرقاً مختلفة لمقاضاة بشار الأسد، على جرائم قتل الصحافيين خلال سنوات القمع التي أعقبت الانتفاضة الشعبية عام 2011. ومع ذلك، يمكن للمرء أن يأمل أن يقوم النظام القضائي السوري بالمهمة في المستقبل القريب”.
مهما كان المسار القانوني المختار، حذّر بروتين من أن تحقيق العدالة لن يكون قريباً، حيث يتعين على الباحثين تحديد الضحايا وجمع الأدلة ضد المسؤولين عن هذه الجرائم، وأضاف: “طريق طويل ينتظر كل من يريد محاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم الشنيعة”.
كما دعت لجنة حماية الصحافيين الحكومة السورية الجديدة إلى السعي لتحقيق العدالة للعاملين في مجال الإعلام، الذين قُتلوا وسُجنوا خلال الحرب الأهلية، وقالت اللجنة في بيان:
“تدعو لجنة حماية الصحافيين السلطات إلى اتخاذ إجراءات حاسمة لضمان سلامة جميع الصحافيين”.
على الرغم من أن نظام الأسد مسؤول عن مقتل ما لا يقل عن 181 صحافياً، وفقاً لـ “مراسلون بلا حدود”، فإن 102 آخرين قُتلوا على يد أطراف أخرى، يشمل ذلك ستة صحافيين قتلهم تنظيم “هيئة تحرير الشام”، الذي يقود الآن البلاد.
لم ترد “هيئة تحرير الشام” على طلب للتعليق قبل النشر.
استعادة الثقة بالنظام القضائي تمثّل أولوية للحكومة الجديدة، وفقاً لما قاله متحدث باسمها لقناة “الجزيرة”، وأضاف: “يشمل ذلك إنشاء محاكم خاصة لمحاكمة أعضاء نظام الأسد وداعميه، الذين ارتكبوا جرائم ضد السوريين”.
ساهم في إعداد التقرير: ديفيد كينر من “الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين” (ICIJ) والصحافي السوري فراس دالاتي.
درج
——————————
علاقات بشار التي قضت عليه/ عبد الرحمن الراشد
تحديث 28 كانون الأول 2024
في مقالي السَّابق تساءلتُ عن عمق علاقةِ طهرانَ ببشار الأسد، كانَ يعتبرها الجدارَ الذي يستند إليه. أنقذته عام 2014 وفشلت بعد عشر سنين.
في آخر الأسابيعِ من حياتِه قرّر حافظ الأسد في مارس (آذار) عام 2000 التَّفاوضَ مع إسرائيل، وكان في عجلةٍ من أمره يريد إنهاء ما تبقَّى من ملفات عالقة قبلَ تسليم الحكمِ لبشار. وعلى الرغم من مرضِه طارَ إلى جنيف وتفاوض مع رئيس وزراِء إسرائيل إيهود باراك عبرَ الوسيط الرئيس الأميركي بيل كلينتون. مشروعُ الاتفاق كانَ استعادةَ الجولان المحتل من دون الحديث عن دولةٍ فلسطينية. الإسرائيليون على علمٍ بتأهيل بشار لم يكونوا واثقينَ بأنَّه سيصلُ الحكمَ في ظلّ الصّراع الخفي. تُوفي حافظ بعد عشرةِ أسابيعَ من اجتماع جنيف.
لم يعد بشار للتفاوض إلَّا بعد أن اندلعت الاحتجاجات ضده في 2011. نتنياهو ظلَّ متشككاً في قدرة بشار على التَّخلص من علاقته مع طهرانَ و«حزبِ الله» ورفض.
من أبرز الأسبابِ التي أطالت عمرَ نظام حافظ الأسد قدرتُه على إدارة علاقاته الخارجية مع خصومه. امتنعَ عن مواجهة إسرائيل بعد هزيمة 1973. في حين أن بشار وضع سوريا ضمنَ امبراطورية «الحرس الثوري» وكان من المحتَّم أن تُستهدف بالتدمير لاحقاً.
لماذَا لم يوقع حافظ اتفاقَ سلام مع إسرائيل وهو الذي كان على علاقةٍ تنسيق سرية معها؟ ذكر أقربُ رجاله إليه، الراحل عبد الحليم خدام، أن حافظ كان يخشى أن يُقال أنَّ الأقليةَ العلوية هي من وقَّعت السلام مع العدو.
وماذا عن معاركه معها عبر لبنان؟ في الواقع لم تشن سوريا هجماتٍ على إسرائيل في ثلاثين سنةً في لبنان، بل كانت تقوم بدورِ العسكري لوقفِ نشاطات الفصائل الفلسطينية، ولاحقاً «حزب الله» بدرجة أقل، حتى جاء بشار الذي وسّع المخاطر. كانت استراتيجية الأسد الأب هي الاستيلاءَ على لبنان ما دامت إسرائيل تحتل الجولان. واستخدمه كورقةٍ مع الدول العربية، ولعبَ دور الوسيط في خطفِ الرهائن الغربيين.
وبالسياسة نفسها، الاقتراب من النَّار دون الاحتراق بها، إذ منح أكراد تركيا الملجأ، وعندما هدّدته أنقره أوقفهم وسلَّم زعيمهم بشكل غير مباشر.
ولابدَّ من فهم علاقة حافظ مع إيران حيث كانت معقدة، استخدمها للتوازن الجيوسياسي ضدَ نظام عدوّه صدام للحؤول بينه وإسقاط نظام دمشق. واستخدم طهران لتعزيز أهميته في الرياض، ولعب أدواراً متكرّرة لتخفيف التوتر مع طهران.
بعد تفجير الخبر 1996 سلَّم بعض الهاربين السعوديين بعد أن انكشف أنَّ الخلية قد اختبأت في دمشق، ومن جانب آخر سهَّل هروبَ زعيمها إلى طهران.
في محاولة لفهم العلاقة، تحدَّث خدام عن سياسة حافظ الأسد حيال إيران. عندما جاء رفسنجاني في عام 1985 يطلب دعم الأسد في حربهم ضد العراق. كبائعٍ إيراني ماهر حاول أن يقنعه بأنَّ مكافأة تحالفهم معه عند انتصارهم على صدام سيعزّز موقف سوريا ضد تركيا وإسرائيل والعراق. يقول كان الأسد حذراً من التمادي في الحلف وسطَ رمال المنطقة المتحركة.
لا شكَّ أن من أسباب سقوط نظام بشار الأسد فشله في إدارة سياسته الخارجية، وتحديداً تحالفه مع إيران. ففي الوقت الذي أسَّس حافظ علاقة وطيدة بنظام الخميني مدركاً أهميته، رفض مشاركته الحرب، لكنَّه مثل إسرائيل وليبيا باع إيران سراً صواريخ سكود.
أمَّا بشار، ففي بدايات رئاسته أوحى للجميع أنَّه غيّر البوصلة غرباً، بعيداً عن موسكو وطهران. وما لبث أن أدرك الحقيقة كلّ من تحمَّس له في البداية… السعودية وأسبانيا وفرنسا والولايات المتحدة.
في مطلع تحالفه مع إيران خطَّط بشار للاستيلاء على القرار اللبناني باغتيال رفيق الحريري والعديد من القيادات، ليصبح «حزب الله» الحاكمَ الأوحد في لبنان بعد إخراج قوات الأسد.
ثم تجرّأ بشار على فتح حدوده الجنوبية للمجاميع المسلحة لمهاجمة النظام الجديد في بغداد، الذي كان تحت حماية واشنطن. ممَّا برّر لجيرانه، الأردن وتركيا، فتح حدودهم للثوار السوريين ضده في عام 2012 ، وأخيراً قضوا على حكمه.
من حيثُ الحقيقة يمكن تفهّم التَّحالفات في سياق الصراع الإقليمي بالنظر إلى علاقةِ حافظ القوية بطهران، كونها لاعباً مهماً، وكذلك بشار، إلا أنَّ الأخير انغمس في حروبها في لبنان والعراق. خدام يقول بشار اتَّخذ قراراً مصيرياً بالاندماج الكامل مع طهران في عام 2011، لكن رأيي، كما ذكرت سابقاً، كان تورطه في حروب طهران قبل ذلك بسنوات. فهل كانَ وصول بشار للحكم بدعم استثنائي من طهران هو ما دفعه دائماً للعب دور الوكيل مثل «حرب الله»؟ قلةٌ قليلة تعرف ما حدثَ بين عام 2000 و2024.
الشرق الأوسط
————————————–
الثابت هو اللعبة والمتغير هو المعادلات/ رفيق خوري
لا تسلم إيران بالخسارة من دون زرع الشوك والفوضى على طريق الحكم الجديد في سوريا وراعيه التركي والأميركي
السبت 28 ديسمبر 2024
العامل الجديد بعد سقوط النظام السوري هو إضعاف اللاعب الإيراني الذي تلقى ضربات قوية عبر وكلائه في غزة ولبنان، وخسر الجغرافيا السورية المهمة، مقابل كثير من حرية الحركة للاعبين التركي والإسرائيلي، والبروز الإضافي للاعب العربي.
يروي المحلل الأميركي – الإيراني الأصل كريم سادجادبور أن شاه إيران بعث برئاسة إلى الملك فيصل بن عبدالعزيز آل سعود دعاه فيها إلى “الليبرالية في السعودية”. رد الملك فيصل في الرسالة الجوابية بالقول، “هل عليَّ تفكيرك يا صاحب العظمة بأن 90 في المئة من شعبك مسلمون؟”. وعلى مثال ملك السعودية الراحل يمكن تذكير أصحاب الدعوات إلى “إعادة تشكيل الشرق الأوسط” بحقيقتين، أولاهما أن شعوب المنطقة ليست عجينة قابلة لأخذ أي شكل مطلوب منها، والثانية أنه لا طرف بين القوى الكبرى أو القوى الإقليمية المتوسطة يستطيع بمفرده إعادة تشكيل الشرق الأوسط.
وليس حديث رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المتكرر بأنه “يعيد تشكيل الشرق الأوسط” نتيجة حربي غزة ولبنان سوى تمارين في الغطرسة. كذلك الأمر بالنسبة إلى اندفاع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نحو تغيير المنطقة بالشكل الملائم له بعد سقوط النظام السوري. فلا الحكم الجديد في سوريا يكفي لبناء شرق أوسط على قياسه. ولا أميركا التي جربت مرتين إقامة “شرق أوسط جديد” تعلمت من الفشل. وما كان سوى سعي ضد طبائع الأمور في المنطقة طموح الجمهورية الإسلامية لحكم المنطقة بعد المفاخرة بحكم أربع عواصم عربية جرفت الأحداث ما بدا ثابتاً في عاصمتين.
صحيح أن “الحرب ستستمر في تشكيل الشرق الأوسط”، كما تقول “ذا إيكونوميست” البريطانية في عددها السنوي. وصحيح أيضاً أن” الحروب ليست أحداثاً عارضة”، حسب أريك لين غرينبورغ الأستاذ في معهد (أن أي تي) للتكنولوجيا في الولايات المتحدة، لكن الصحيح أيضاً، وأيضاً أن التغيير الكبير لا يحدث إلا في الحروب الكبيرة والشاملة معظم القوى. فالمنتصرون في الحرب العالمية الأولى هم الذين أعادوا تشكيل الشرق الأوسط والبلقان وتركيا بعد هزيمة السلطنة العثمانية والإمبراطورية النمسوية – المجرية وألمانيا. والمنتصرون في الحرب العالمية الثانية هم الذين أعادوا تشكيل أوروبا وسلموا بحصول دول الشرق الأوسط على الاستقلال، وهندسوا الطريق إلى قيام إسرائيل على أرض فلسطين.
وعلى مدى الأعوام الماضية كان الانطباع السائد هو أن التنافس بين ثلاث قوى إقليمية هي إيران وإسرائيل وتركيا يقرر النظام الإقليمي الأمني في الشرق الأوسط، لكن ذلك اصطدم بحقائق أساسية، أولها أن التنافس الإقليمي هو الطريق إلى الأزمات والفوضى، لا إلى نظام إقليمي. وثانيها أن التصرف كأن العالم العربي ملعب لهؤلاء وليس لاعباً أو غير جاهز لأن يأخذ دور اللاعب هو خطأ كبير، لأن اللاعب العربي استعاد دوره إلى حد ما ولا شيء يمنعه من دور كبير، وثالثها أن القوى الكبرى، أي أميركا وروسيا والصين، تترك للقوى الإقليمية فسحة لترتيب أمورها، لكنها لن تتخلى لها عن إدارة الشرق الأوسط بحروبه واتفاقاته.
والعامل الجديد بعد سقوط النظام السوري هو إضعاف اللاعب الإيراني الذي تلقى ضربات قوية عبر وكلائه في غزة ولبنان، وخسر الجغرافيا السورية المهمة، مقابل كثير من حرية الحركة للاعبين التركي والإسرائيلي، والبروز الإضافي للاعب العربي. تركيا تتمدد في سوريا براً وعينها على حصة من ثرواتها البحرية، بحيث صارت تلعب في قلب الجغرافيا العربية بعدما كانت تلعب على الأطراف في ليبيا والسودان وشمال العراق.
وليس من المفاجآت أن يعود الحديث بقوة عن “العثمانية الجديدة”. وإسرائيل تلعب في قلب فلسطين وتتوسع في سوريا وتدمر الأسلحة الاستراتيجية للجيش السوري، وتكمل حربها في لبنان بالتقسيط وتراهن على الرئيس الأميركي دونالد ترمب لإخراج إيران من مجمل اللعبة الإقليمية، لكن حدود اللعبة ليست بلا ضوابط، أميركية أولاً، وروسية ثانياً. واشنطن لن تقبل أن تضعها أنقرة أمام خيار محدد، تركيا أو الكرد. وموسكو تقول بلسان وزير الخارجية سيرغي لافروف إن على تركيا وضع “مصالحها الأمنية” في إطار الحفاظ على وحدة سوريا وسلامة أراضيها. وتركيا ستكتشف في النهاية أنها لا تستطيع الحصول على كل شيء. وإن كانت لها حصة مهمة في سوريا الجديدة، فضلاً عن أن إسرائيل محكومة في النهاية بالتراجع عما احتلته من جديد بحجة أنه لا دولة في سوريا حتى الآن تحفظ خط اتفاق الفصل 1974 في الجولان.
لكن الكل يعرف أن ما تغير هو المعادلات بعد سقوط نظام بشار الأسد، أما اللعبة فإنها ثابتة، على قاعدة التنافس والصراع. فلا إيران تسلم بالخسارة من دون محاولة لاستعادة ما خسرته أو أقله من دون زرع الشوك والفوضى على طريق الحكم الجديد في سوريا وراعيه التركي مع الراعي الأميركي. ولا شيء سهلاً في سوريا. فما بدأ سهلاً في الأيام الأولى بعد الساعات الغامضة لما حدث وجعل النظام يبدو كأنه تبخر واختفى يوحي أنه لن يبقى كذلك. لا فقط لأن طهران تهدد بمعاقبة كل من أسهم في إسقاط النظام السوري وهو جزء من إسقاط المشروع الإيراني، بل أيضاً لأن تعقيدات الوضع السوري وتكرار الخطأ الذي حدث في العراق، وهو حل الجيش في فراغ وظروف اقتصادية وأمنية ضاغطة. والضمان المؤكد لمواجهة العواصف والفوضى وعمليات العصابات هو بناء الدولة على التنوع السوري.
وقديماً قال الجاحظ، “القسوة رأس الخطايا”.
————————————–
إسرائيل تُبعد لحظة الحقيقة… بالتحريض والاعتداء على سوريا/ أسعد غانم
نتنياهو ليس معنيا باستقرار دمشق لأنه مصلحة عربية وإسلامية
آخر تحديث 28 ديسمبر 2024
حيفا- إسرائيل وكعادتها مصرة على تأجيج التوترات في محيطها العربي، مصممة إلى درجة لا تترك للعرب منفذا سوى تحديها. ومن توهّم أن إسرائيل تتطلع إلى العلاقات الطبيعية وإلى سلام نسبي وإلى حالة استقرار مع محيطها، أتت تبعات الثورة في سوريا لتبدد كل تلك الأوهام. فبعد أيام من انتصار الثورة والإطاحة بنظام البعث الدموي، والذي كبت أنفاس السوريين لأكثر من ستة عقود، خرج أحمد الشرع قائد “هيئة تحرير الشام” ليوجه رسائل إلى إسرائيل ومن يدعمها بأن إيران أبعدت عن سوريا وأن دمشق ليست معنية بأي توترات معها، وأنها ترغب في علاقة جوار سلمية مبنية على سلام حقيقي. والأكيد أن سوريا والشرع لا يستطيعان أن يقوما بذلك مستقبلا بغير التزام إسرائيلي بحل القضية الفلسطينية حلا عادلا والانسحاب من الجولان السوري المحتل.
يعرف الشرع، ومن معه، أن دعم القضية الفلسطينية وحلها مسألة عضوية رسمية وشعبية. الموقف الرسمي هو ما عبرت عنه المملكة العربية السعودية بربط العلاقة مع إسرائيل بحل الصراع، وشعبيا هناك دلائل قاطعة بالتزام الشارع العربي بحل عادل للقضية الفلسطينية. وفي هذا فإن القيادة السورية الجديدة أو تلك التي ستأتي مع تقدم الاستقرار في سوريا وكما الشارع السوري، كلهم في نفس موقف السعودية وباقي الدول العربية.
إسرائيل من طرفها لا تريد ذلك، تريد الاستمرار في التحكم بفلسطين وعدم إتاحة الفرصة لحل حقيقي وثابت وعادل ولا تريد العودة عن احتلال الجولان، ومستعدة في سبيل ذلك أن تضحي بأية عملية حقيقية لمصالحة شاملة مع العالم العربي. وكما أنها تعمل ليل نهار لإثارة التوتر في أجزاء مختلفة من العالم العربي، ولبنان أكبر شاهد على ذلك، والآن تعود سوريا إلى الصدارة، فهي مصرة على حالة التوتر في علاقتها مع سوريا وغير مهتمة بأي إمكانية لإتاحة الفرصة للحكم الجديد في سوريا لإثبات ما يقوله الشرع، وهنا بيت القصيد.
وفي رأيي أن إسرائيل تدرك أن أي استقرار في سوريا سوف يكون مفتاحاً مهماً لاستقرار على مستوى المنطقة، وهذا سوف يفتح المجال لضغوطات جدية عليها لأجل القيام بدورها في إعطاء فرصة لاستقرار حقيقي. وعندها فإن المطلوب منها التصالح مع الفلسطينيين من جهة، والتصالح مع سوريا من جهة أخرى، وإنهاء حالة التوتر مع لبنان والأردن، وربما مصر، وبهذا فتح المجال أمام مصالحة عربية وإسلامية شاملة معها.
المفتاح لاستقرار سوريا وذهابها إلى مرحلة تحول ديمقراطي حقيقي تكمن في متغيرات عدة لها علاقة مركزية بموضوع الاستقرار، وهذا تفهمه القيادة السورية جيدا، على الأقل من خلال مراقبة ومراجعة تصرفاتها وخطابها نحو الداخل أولا ونحو الجوار ثانيا. وإذا راجعنا مواقف القوى والدول المتدخلة بشكل مباشر في سوريا بعد الأسد- وهي كانت متدخلة في فترة حكم الأسد على الأقل منذ صدامات 2011- نجدها جميعها معنية بالاستقرار الجدي في سوريا، عدا إسرائيل طبعا. الولايات المتحدة معنية بالاستقرار وسحب قواتها تدريجيا من سوريا والعراق بعد ضمان وجود حالة مستقرة في المنطقة وانحسار التهديدات لمصالحها. هي معنية بذلك بسبب ارتباطها بدول عربية وإسلامية وخصوصا في مصادر الطاقة في المنطقة، كما أنها معنية بضبط التمدد الإيراني، وأهم شيء هي معنية بإسرائيل وبمصالحها، وهذا صحيح كذلك بالنسبة للرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترمب، وبحاشيته التي تتشكل. وتركيا معنية بالاستقرار لأسباب عدة أهمها ضمان عدم انفلات الوضع الأمني، وخصوصا مع أكراد سوريا وإمكانيات انتقال هذا الانفلات إلى أراضيها، كما أنها معنية جدا بقطف ثمار تجربتها في دعم التغيير في سوريا وربما نقل بعض تجاربها في النظام السياسي إلى جوارها، وسوريا هنا هي عينة قد تمثل ما سيأتي بعده. ولتركيا مصالح تجارية جدية في سوريا من حيث النفط والطاقة أو كون سوريا سوقا لفائض الإنتاج التركي أو مجمعا لقوى وخبرات قد تستفيد منها تركيا واقتصادها.
أما بالنسبة للدول العربية المجاورة، فكلها تخشى من عدم الاستقرار، وواضح أن مصالحها فيه. العراق الذي يعيش صراعا طائفيا وقوميا بحاجة إلى الاستقرار في سوريا، وأساسا عانى من الحدود الطويلة والمفتوحة مع سوريا وتبعات ذلك على الوضع الداخلي لديه.
الأردن يخشى عدم الاستقرار وإمكانيات نفاذه إلى أراضيه، ولبنان عانى الأمرين من نظام البعث ويحلم بحالة استقرار مع سوريا، وربما إلى وقف تدفق الدعم لـ”حزب الله” من خلال سوريا، وبالتالي ضبط الأمور داخليا وخلق أجواء مصالحة حقيقية مبنية على توازنات ومصالح مدنية وليس على أساس سلطة القوة والعنف الطائفي. وهذه الدول الثلاث– العراق والأردن ولبنان– معنية جميعها بعودة اللاجئين السوريين إلى ديارهم وربما باستثمار علاقات مستقرة مع سوريا لأسباب اقتصادية تشبه مصالح تركيا.
مقابل كل تلك الدول، تبقى إسرائيل متفردة بكونها غير معنية بحالة استقرار. إسرائيل قامت بعمليات تفجير المعدات العسكرية السورية كضربة استباقية تبدد إمكانيات نجاح الثوار من السيطرة على تلك الأسلحة، كما قامت بتقديم بعض وحداتها العسكرية في الجولان ومتخطية خط وقف إطلاق النار من حرب أكتوبر/تشرين الأول، ليس لأنها لا تثق في الحكم القادم في سوريا فقط، بل لأنها معنية بزرع البلبلة والفتنة ونزع أي إمكانية لاستقرار نسبي، وكل ذلك بما يتلاءم مع عقلية عدائية تتحكم في إسرائيل عموما، وفي حكومتها الحالية بشكل خاص، عقلية تريد فرض السيطرة والتحكم وهي التي سيطرت ولا زالت تحكم إسرائيل في علاقتها بالفلسطينيين وبباقي العرب.
العالم يحاول أن يتواصل مع الحكم الوليد في سوريا، ويريد ويأمل أن يتغير نحو نظام مدني وديمقراطي سوري، ومستعد أن يقبل الإسلاميين كشركاء في الحكم إن تبنوا خطا وسطيا ديمقراطيا ومدنيا وقابلا للتعددية الفكرية وعلى أرض الواقع، والقيادات تزور سوريا وتلتقي مع الشرع وغيره. السوريون يعودون بآلافهم، والنشطاء السياسيون والمثقفون والفنانون وغيرهم يعودون لثقتهم أو لتأكيد شراكتهم في سوريا المتشكلة، آملين جميعهم أن تتشكل سوريا ديمقراطية ومدنية وقابلة للتعددية. إلا إسرائيل، فإنها مصرة على تسويق وتعميق عدم الثقة بإمكانيات تحول ديمقراطي في سوريا ويتنافس معها في ذلك بقايا الشبيحة ورجال النظام البائد.
إن تلويح إسرائيل “بمخاطر” الأنظمة الإسلامية ليست مسألة جديدة، لكنها تعاظمت مع تصدر بنيامين نتنياهو للمشهد الإسرائيلي، وهو يدّعي أنه من رواد فكرة “الخطر الإسلامي”، و”الإرهاب الإسلامي”. وبذلك فإنه ساهم تاريخيا في تأجيج “صراع الحضارات” وفي تعميق التوتر بين العالم الإسلامي وباقي العالم، كما أنه يصر على التحريض ضد أي توجه إسلامي، من الجزائر والمغرب إلى العراق، مرورا بفلسطين وسوريا والأردن، وسوف يعرج على دول الخليج العربي إذا صعدت هذه الدول من دفعها باتجاه إقامة دولة فلسطينية، وهو مستعد أن ينقلب عليها إذا ساهمت أكثر في إقناع العالم بضرورة الضغط على تل أبيب من أجل تسوية سياسية في فلسطين وانسحاب في الجولان.
نتنياهو وإسرائيل من خلفه ليسا معنيين باستقرار سوريا وأهلها، لأنهما يفهمان أن استقرار سوريا والانتقال الديمقراطي فيها مصلحة عربية وإسلامية، وكذلك مصلحة للقوى العظمى، وعندما تتعافى سوريا من أردان النظام البعثي، فإنها قد تشكل مركزا لاستقرار سياسي واجتماعي ولنمو اقتصادي في المنطقة، وإسرائيل لا تريد ذلك كله، لأنها تحارب العرب في جبهة التنمية العلمية والاقتصادية لتثبت أنهم متخلفون، ونجاحات دول خليجية وغيرها تخيفها وتغيظها لأنها تثبت جدارة العرب في دخول التاريخ الحديث من بوابة التنمية والتطور العلمي.
إسرائيل ونتنياهو غير مستعدين للتسليم باستقرار سوريا لأن ذلك سوف يعني استقرارا جديا في المنطقة، ويُبقي بؤرة واحدة مركزية للتوتر، هي الاحتلال الإسرائيلي وسياساته العدوانية تجاه الفلسطينيين وسوريا ولبنان. نتنياهو وإسرائيل من خلفه يدركان أن حالة النزاع وعدم الاستقرار في فلسطين، دون غيرها في المنطقة العربية، سوف تقوي ادعاء العرب والفلسطينيين بضرورة تضافر جهد عالمي للضغط على إسرائيل للتحول نحو دولة طبيعية وديمقراطية ومدنية وغير معتدية، وهذا لا يريده نتنياهو ولا إسرائيل من خلفه، إنه يدرك أن تقدم ساعة الرمل نحو استقرار سوريا تعني بداية ساعة الحقيقة للضغط على إسرائيل لتقوم بدورها لأجل استقرار المنطقة، ونتنياهو وزمرته والمؤسسة الإسرائيلية يخافون جدا من تلك اللحظة.
المدلة
———————–
في مفهوم الموالاة/ فارس الذهبي
2024.12.28
تبدو فكرة مراجعة ذهنية الموالي السوري وآلية تفكيره مشروعة ومنطقيّة في ظل الصور والملفات الكارثية التي تظهر هذه الأيام على وسائل الإعلام بعد سقوط نظام الوريث الأسد. كيف قبل هؤلاء أن يوالوا من كان يرتكب كل هذا القمع اليومي في سوريا؟ كيف قدّموا كل مراسم الطاعة والولاء، وتمكّنوا من ابتلاع لقب موالي ومن ثم هضمه، وليس فقط ذلك، بل، وأيضاً، تبرير جرائم الطاغية الطائفية والوحشية والإرهابية؟
قد يدّعون أنهم لم يكونوا يعلمون، أو أنهم كانوا غافلين، وكل هذا باطل، فكل ذي لب في سوريا كان على دراية بما يجري في البلاد، كل شيء كان مكشوفاً وعلنياً، التعذيب والسجون وإرهاب الدولة، القمع والقهر والظلم، كان الشعب يتداول تفاصيلها جميعها يوماً بيوم، من دون قدرة أو جرأة على التحرك.
الموالي في زمن الوريث ليس إلا شاهد زور فقط، أسير خوفه المبرر. فليس كل شخص قادراً على قول كلمة لا، هي كلمة بسيطة ولكنها تختصر قوة الدنيا. كلمة لا، هي أن ترفض، وأن تجاهر بالرفض، حتى في زمن الموت مقابل الكلمة، أن تمتلك جرأة لفظ هذين الحرفين اللذين يمثلان كل شيء.
أسرى الخوف كانوا يختارون حياتهم واستقرارهم وقد أداروا الظهر لمصلحة البلاد والمصلحة العامة، لكنهم ليسوا مخطئين، أو آثمين، هم أشخاص عاديون، كانوا يفكرون ببيوتهم وعائلاتهم بكل ما تعنيه تلك الكلمة من أنانية ومركزية شخصية، من دون تفكير بالعمل العام، وهذا أمر اعتيادي موجود في كل بقاع الدنيا، فأن تهتم بنفسك من دون الآخرين هو أمر بشع، لكنه ليس جريمة، لكن أن تؤيد القاتل وتبرّر جرائمه رغبة في التسلق والارتقاء، فهنا تقع الإدانة، وهنا يمكن القول إنهم مجرمون، ويجب علينا التفريق.
كنت دائماً أقول: يحق لأيٍّ كان أن يرفض الثورة، وأن لا يسير في ركابها، ولكن لا يمكن على الإطلاق أن يقبل أي كان بذلك النظام، حتى لو كانت رغبته تلك أنانية بحتة، أو حتى لو كان أسير خوفه ورهابه من ذلك القاتل.
قد يبرر هذا كم الالتفاف والتراجع عن المواقف التي اصطنعها عاشقو الدكتاتورية من الفنانين والسياسيين، متذرعين بالخوف، أو القمع، لكنهم، وبكل تأكيد، يدركون أنهم غير قادرين على قول لا، حتى لخصومهم السياسيين أو الفكريين، هذه الكلمة غير واردة في قواميس من ترعرع على التأييد والتبريك والتراقص أمام الكاميرات. سيدجّنون أنفسهم، وسيقمعون قناعاتهم، وسيجدون مبرّرات لا حصر لها، ويستندون على ذرائع فلسفية ودينية واجتماعية ومالية كي يبرّروا قولهم نعم، حين تبدو تلك الكلمة بالنسبة إليهم مفتاح الاستقرار والراحة من دون ألم الرأس والخوض في صراعات مرعبة.
يقول أمل دنقل شاعر الرفض العربي:
“المجد للشيطان معبود الرياح
مَن قال “لا” في وَجْه مَن قال “نعمْ”
مَن علَّم الإنسانَ تمزيقَ العدمْ
وقال “لا” فلم يمتْ وظلَّ روحًا أبديةَ الألمْ”.
فالشيطان في السردية الدينية قد قال لا، ورفض الانصياع للذات الإلهية التي أمرته، فألقي في جحيم لا قرار له. وقد حاولت الأنظمة القمعية شيطنة الرفض، وربطه بمشاريع خيانة وعمالة وتدمير، جنباً إلى جنب مع عملها الحثيث على تأليه الحاكم وتكريس عصمته، لكن تلك الأنظمة نسيت أن محو الرفض أو المعارضة يعني طغيان الاستبداد، وتعميم النفاق والتطبيل والكذب. إن من يقول لا، والسيوف فوق رقبته، هو إنسان يمتلك شجاعة كبرى، ووطنية لا تصدق في تفضيل الشأن العام على الخاص، وفي حب البلاد والتمسك بالأخلاق والمبادئ التي كبر عليها، رغم أن قول نعم والقبول بالواقع سهل، وهي كلمة فقط، كلمة قد تصنع أمجاداً وقد تخرّب مدناً.
في مجاهل الأمن السوري هناك يدركون هذا جداً، وهم لا يريدون سوى تأييد، توقيع صغير على تعهد بالقبول والمديح، من أجل هذا سيّروا المَسيرات في شوراع المدن السورية، بالملايين إرضاء للطاغية الأكبر، ملايين تهتف نعم، تكتب، ترقص نعماً مفضوحةً، رغم أنهم جميعهم كاذبون، لكن الطاغية يرضى بالظاهر، كان قنوعاً، قبولاً، متسامحاً، يقبل بكلمة نعم، ولا يغضبه في العالم شيء مقدار تلك الكلمة اللعينة المكونة من حرفين: لا.
في ثلاثينيات القرن الماضي، كتب الألماني برتولت بريخت، مسرحيتيه القصيرتين: “من قال نعم” و”من قال لا” اللتين ناقش فيهما فكرة الرفض والقبول وتداعياتهما الأخلاقية.
فبقدر ما يبدو القبول مسانداً للسيرورة العامة والتأييد على المضي قدماً حتى ولو كان الطريق خاطئاً، تبدو عملية الرفض تقويماً وتصويباً لا بد منه، بل حقناً لدماء وتضحيات محتملة في المستقبل.
إن الرفض أو عدم قبول الطريق الخاطئ هو ما نفتقده، تصحيح الأخطاء، إبداء الرأي، الاختلاف الذي يُنتج على الدوام رأياً أقوى وأصلب. وليس كل من قال لا، سيتمسك برفضه، وليس كل من قال نعم وقلبها لاءاً سيكون من العادلين، ولكن المجد سيكرس لكل حقيقي صادق قالها، ودفع ثمنها حياته وهناءة عياله، طوبى لكل من قال لا لكل ظلم وقهر من دون أن يقبض ثمنها.
تلفزيون سوريا
————————–
أولوية إصلاح التعليم في سوريا/ آلاء عوض
2024.12.28
كرّس نظام الأسد عقوداً طويلة لتطويع النظام التعليمي ليخدم أهدافه الأيديولوجية والسياسية، محوّلاً التعليم من أداة لبناء العقول إلى وسيلة لترويضها. حُصرت المناهج الدراسية في قوالب ضيقة تمجّد رموز السلطة وتقصي كل ما يعزز التفكير الحر والنقدي. اعتمدت أساليب التدريس على التلقين والحفظ، مما جعل العملية التعليمية نشاطاً آلياً خالياً من التفاعل والإبداع. ونتيجة لذلك، خرجت أجيال لا تعرف سوى تكرار ما يُملى عليها دون تساؤل، مما أسهم في تعزيز الاستبداد وإضعاف الوعي المجتمعي، ليصبح التعليم جزءاً من آلة القمع بدلاً من أن يكون أداة للنهضة.
اليوم، ومع سقوط النظام، يبرز تحدٍّ هائل يتمثل في تفكيك هذا الإرث التعليمي وإعادة بنائه على أسس جديدة تتماشى مع قيم الحرية والديمقراطية. التعليم ليس مجرّد نقل للمعلومات، بل هو عملية أساسية لتشكيل الهوية الفردية والجماعية، وأيّ تغيير حقيقي في سوريا لن يكتمل دون إصلاح جذري لنظام التعليم. ولا شكّ أن المعلمين يشكّلون قلب هذا التحول، فهم يحملون عبء بناء جيل جديد قادر على تجاوز قيود الماضي. ولذلك، فإن إعادة تأهيل المعلمين يجب أن تكون أولوية قصوى، ليس فقط عبر تزويدهم بمهارات تدريس حديثة، بل عبر تحرير عقولهم من تأثير النظام السابق وتمكينهم من تبني التعليم القائم على التفكير النقدي والبحث والاستنتاج. هذا التحول يتطلب تدريباً مكثفاً على أساليب التعليم الحر التي تشجّع الطلاب على طرح الأسئلة ومناقشة الأفكار بحرية، مما يفتح المجال أمام الإبداع والنمو الفكري.
لكن إعادة بناء التعليم ليست مهمة يمكن تحقيقها عشوائياً. لا بد من استراتيجية شاملة تبدأ بإعادة صياغة المناهج الدراسية بحيث تعكس قيم الحرية واحترام التنوع. هذه المناهج يجب أن تُبنى على أسس علمية ومعرفية بعيدة عن أي أيديولوجيا سياسية، وأن تهدف إلى تعزيز التفكير النقدي والتحليل بدلاً من الحفظ الأعمى الذي عزّزه نظام الأسد. يمكن إدخال مواد جديدة مثل الفلسفة، وحقوق الإنسان، والتربية المدنية، مما يساعد الطلاب على فهم أدوارهم كمواطنين في مجتمع ديمقراطي. هذا يتطلب أيضاً تغيير الثقافة السائدة التي تقيّم النجاح الأكاديمي بناءً على الحفظ لا الفهم. فالسنوات الطويلة من التعليم التلقيني خلفت جيلاً يقدّر الامتثال أكثر من الإبداع، ويحتاج إصلاح التعليم إلى جهد مجتمعي لتغيير هذه المفاهيم، وتعزيز ثقافة تُقدّر التفكير الحرّ والإبداع كأدوات للنجاح.
لا يقتصر إصلاح التعليم على المعلمين والمناهج فحسب، بل يشمل أيضاً خلق بيئة تعليمية صحية وآمنة تدعم النمو النفسي والاجتماعي للطلاب. الحرب تركت جروحاً عميقة في المجتمع السوري، والطلاب والمعلمون بحاجة إلى دعم نفسي يمكّنهم من تجاوز آثار الصراع والاستبداد. يجب أن تتحول المدارس إلى فضاءات للمصالحة الاجتماعية، حيث يلتقي الطلاب من مختلف الخلفيات في بيئة تعزز قيم التعايش والتسامح. ويمكن أن تلعب النشاطات الثقافية والرياضية دوراً مهماً في بناء جسور التواصل وتعزيز الوحدة الوطنية التي حطمها النظام السابق.
في ظل محدودية الموارد، يمكن الاستفادة من الحلول المرنة مثل تبني التعليم الرقمي الذي يتيح تقديم المحتوى عبر الإنترنت أو التطبيقات المحمولة، مما يخفف من عبء نقص البنية التحتية والمعلمين. يمكن أيضاً الاستفادة من خبرات السوريين في الخارج سواء عبر عودتهم أو من خلال تقديم الدعم عن بعد، إلى جانب الشراكات مع منظمات دولية مثل اليونيسيف لتوفير الموارد اللازمة. يجب أن تكون المناهج مؤقتة في البداية، بعيدة عن أي دعاية سياسية أو أيديولوجية، مع التركيز على القيم الإنسانية المشتركة والمهارات الأساسية التي تسهم في بناء الوعي النقدي لدى الطلاب.
رغم صعوبة التحديات، فإن تجارب دول خرجت من الحروب، مثل ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، تظهر أن إعادة بناء التعليم على أسس جديدة يمكن أن تكون المفتاح لنهضة مجتمعية شاملة. التعليم ليس قطاعاً خدمياً فحسب، بل هو استثمار استراتيجي في بناء المستقبل. لا يمكن تحقيق الحرية والديمقراطية دون نظام تعليمي يعزز قيمهما، ولا يمكن بناء سوريا حديثة دون جيل واعٍ قادر على قيادة المجتمع نحو الأفضل. التغيير في سوريا يجب أن يبدأ من التعليم، لأن كل تجارب الشعوب المتقدمة أثبتت أن بناء الإنسان وعقله هي الأساس.
———————————
من يراقب المراقب.. أسئلة الأمن والجيش والشرطة/ عصام اللحام
2024.12.28
تقولُ امرأةٌ خمسينيةٌ إنّ أهمَّ مطلبٍ لديها هو عندما ترى ابنتُها شرطياً أو عسكرياً في الشارعِ تلجأُ إليه لنجدتِها لا أنْ تهربَ منه.. في مشهدٍ يعبّرُ عن حاجةِ السوريين اليومَ إلى الأمانِ الفعلي والحقيقي، المبني على أسسٍ وطنيةٍ، أو كما قالت المرأةُ الخمسينيةُ أشخاصٌ لديهم العفّةُ والنخوةُ التي تمنعُهم من ارتكابِ الخطأِ وتجعلُهم أكثرَ التصاقاً بالشعب.
تبقى معضلةُ الأمنِ على جميعِ المستويات، هي المؤرقُ الأكبرُ للسوريين بعد إسقاطِ نظامِ الأسد بكلِّ هيكلياتِهِ وأباطرتِهِ الأمنيةِ والعسكرية، التي تركت فراغا كبيرا لا يُعرفُ للآن كيف سيتمُّ سدُّهُ وما البديلُ وطبيعةُ هذا البديل.
يرفضُ الحكامُ الجُدُدُ العودةَ للوراء، والاستعانةَ بأيِّ عنصرٍ من عناصرِ النظامِ على كلِّ المستوياتِ العسكريةِ والأمنيةِ والشرطية، وتصرُّ على إعادةِ البناءِ والتأسيسِ لهيكلياتٍ جديدةٍ تُبنى من الصفرِ بالاستنادِ إلى القواعدِ التي انطلقت منها عمليةُ ردعِ العدوان، فأُعلنَ عن جهازِ استخباراتٍ وحيد، بدلاً عن أربعةَ عشرَ خنقت البلادَ إبّانَ حكمِ الأسدين على مدارِ أكثرَ من نصفِ قرنٍ، ووزارَتَي الدفاعِ والداخليةِ، وجميعُها باتت اليومَ بعهدةِ القادمين من حكومةِ الإنقاذِ وهيئةِ تحريرِ الشام، مع انضواءِ غالبيةِ الفصائلِ تحت مظلتِهما في مشهدِ إعادةِ ترتيبِ القوى أو تنظيمِ احتكارِ العنفِ الذي يُعطي الدولةَ شكلاً واضحاً في إدارةِ البلادِ وتسييرِ أمورِ العباد.
إعادةُ التأسيسِ على الصعدِ الأمنيةِ والعسكريةِ والشرطيةِ على أسسٍ وضعَها المنتصرُ، يزرعُ مزيداً من الخوفِ في المشهدِ المستقبلي الذي لا يزالُ ضبابياً، وسطَ غيابِ أيِّ خطابٍ حقيقيٍ وجامعٍ من الحكامِ الجُدُدِ للسوريين، واكتفائِهم بالخطاباتِ والبياناتِ والإشاراتِ للخارجِ في مسعىً لسحبِ الرفضِ وانتزاعِ القبولِ الأوّلي الذي يمهّدُ للاعترافِ التامِ بالسلطاتِ الجديدة، وهذا يعني تحوّلَ سوريا إلى عهدةِ الحكامِ الجدُدِ ليفعلوا ما يشاؤون وكيفما يرغبون.
تتبعثرُ الوثائقُ والأوراقُ الأمنيةُ في كلِّ بقعةٍ في دمشقَ وحولَ كلِّ مركزٍ أمنيٍّ للنظامِ السابق، وتتبعثرُ معها الأدلةُ والبراهينُ كما تتبعثرُ الجرائمُ التي ارتكبَها النظامُ بحقِّ السوريين على جميعِ الصعدِ وبجميعِ الطرقِ والأساليبِ التي عرفتها البشريةُ من بزوغِها، ليعلنَ للمرةِ الأولى عن تعيينِ رئيسٍ لجهازِ الاستخباراتِ السوري ونشرِ صورتِهِ، بعد أنْ كان يحكمُ سوريا مجموعةٌ من المجاهيلِ المرعبةِ بالاسمِ أو بالألقابِ الدموية، لكنّ ميزةَ العلنيةَ لا تُلغي المجاهيلَ حولَ مستقبلِ هذا الجهازِ سواءٌ من حيثُ أنس خطاب المعروفُ بـ”أبو أحمد حدود” الذي كان اسمُهُ يكفي لترهيبِ أيِّ شخصٍ مهما علا شأنُه من دونِ أنْ يعرفَ مَن هو هذا الشخصُ الذي شاهدَ الجميعُ صورتَه للمرةِ الأولى بعد أن كانَ العارفون به لا تكادُ أصابعُ اليدِ تُحصيهم.
خطاب، الذي بات على رأسِ جهازِ الاستخباراتِ الوليد، وهو وليدٌ بالفعلِ يضمُّ نواةً أُسِّسَت في إدلبَ وضُبطَ إيقاعُها بكلِّ تعقيداتِهِ، وإنْ كان المشهدُ السوري العام معقداً لكن لا يخرجُ عن الآليةِ المعتادةِ لدى الاستخبارات، وتبقى معرفةُ كيفيةِ تكوينِهِ وطبيعةِ العناصرِ التي ستعملُ بهِ وآليةُ القبولِ التي قال السيدُ أحمد الشرع، عند لقائِنا بهِ، إنّها ستكونُ ضمنَ نظامٍ معيّنٍ يكفلُ لجميعِ المقبولين العملَ بغضِ النظرِ عن خلفياتِهم، وحتى الوصولِ إلى هذهِ الآليةِ وفحصِها عند التنفيذ، تقعُ على عاتقِ الجهازِ الوليدِ إدارةُ بلادٍ هشةٍ ومفككةٍ إلى الآن بلا أسسٍ ينطلقُ منها بعد ضياعِ النسبةِ الأكبرِ من الوثائقِ والمعلوماتِ نتيجةَ الهرجِ الذي حصلَ في العاصمةِ إبانَ السيطرةِ عليها، فالمعلومةُ هي أساسُ الجهازِ الأمني وهي مادتُه الأوليةُ ومنتجُه النهائي، ناهيكَ عن القانونِ التي سيحكمُ عملَها وسيحاكمُ مَن يخالفُه أو يتجاوزُه، ومَن يراقبُ المُراقب، وهو سؤالُ المليونِ الذي تصعبُ الإجابةُ عليه، إن لم تكن مستحيلةً.
على صعيدِ الجيشِ، وهو ثاني الأجنحةِ التي تُعزّزُ الدولةَ، فيخوضُ ماهر أبو قصرة أو “أبو حسن الحموي”، بطلُ معركةِ حماة، التي وُصِفَت بأنّها المعركةُ التي كسرت النظام، وجعلت ما بعدَها عبارةً عن طريقٍ فاصلٍ بين المهاجمين والانتصارِ في دمشق، يخوضُ التجرِبةَ من جديدٍ هذه المرة في بناءِ الجيشِ السوري الجديد، فسبقَ أنْ عملَ وبنفسٍ طويلٍ على إعادةِ بناءِ القوةِ العسكريةِ لهيئةِ تحريرِ الشام، ليس على صعيدِ التدريبِ النوعي وتحويلِ المقاتلينَ العقائديين إلى مقاتلين احترافيين قادرين على خوضِ المعاركِ المنظمةِ والمخططةِ، وتنويعِ التدريباتِ بحيثُ يملكُ أنواعاً متعددةً من القواتِ المدربةِ على أعلى مستوى، بالإضافةِ إلى التركيزِ على صعيدِ التصنيعِ وتعزيزِ مختبراتِ تطويرِ الأدواتِ محلياً حتى أنتجَ الطائراتِ المسيرةَ التي حسمَت كثيراً من المواجهاتِ حتى إنّ المعركةَ سُمّيَت بمعركةِ “شاهين”، وهو اسمُ المسيرةِ التي جابَت السماءَ السوريةَ وأعطبَت إمكانياتِ النظامِ الماديةَ والمعنوية.
ليس هذا ما يميّزُ أبو الحسن الحموي فحسب، وإنما كان الأهمُّ في تذويبِ الأطرافِ المتنوعةِ ضمنَ هيئةِ تحريرِ الشام، صحيحٌ أنها حكمَت ببيعةِ الموتِ لأحمد الشرع، إلا أنها حافظت على تكتلاتِها المناطقيةِ والعشائريةِ أو القادمةِ من خارجِ الحدود، فبدَت واضحةً على مدارِ السنواتِ الثلاثِ على الأقل التي سبقت معركةَ ردعِ العدوان، جهودَ أبو الحسن في إعادةِ بناءِ جيشٍ نظامي يقومُ على الولاءِ المطلقِ للقائد، من دونِ أيِّ شوائبَ، فقُسِّمَت القواتُ لأربعةِ جيوشٍ، ومن ثمَّ إلى اثني عشرَ لواءً بينها ألويةٌ اختصاصيةٌ، وتم صهرُ كلِّ العناصرِ بمختلفِ مشاربِهم حتى وصلَ إلى تشكيلِ جيشٍ شبهِ نظاميٍّ يملكُ قواتٍ مختصةً ومتنوعةً، وأخرى فريدةً ومميزةً تضمُّ النخبةَ كالانغماسين والحراريين، ونخبةَ النخبةِ تتمثلُ بالعصائبِ الحمراء، التي تشبهُ إلى حدٍّ ما الحرسَ الجمهوري في سوريا.
مميزاتُ أبو الحسن، لا تطرحُ كثيرا من الأسئلةِ عن قدراتِه، لكن عن منتجهِ الجديدِ الذي يطلبُ منه العملَ عليه وبشكلٍ أوسعَ مع توافقِ الفصائلِ على التخلي عن أسمائِها وراياتِها والخضوعِ لوزارةِ الدفاع، والخضوعِ هنا قد لا يبدو كحالِ وزارةِ الدفاعِ في الحكومةِ المؤقتة، التي يعدُّ منصبُ وزيرِ الدفاعِ منصباً شرفياً وتبقى للفصائلِ حريةُ العملِ كيفما تشاء، من دونِ أنْ يملكَ الوزيرُ القدرةَ على وقفِ المواجهاتِ أو حتى لعبِ دورِ قواتِ الفصل، لكنّ الوزارةَ التي سيديرُها أبو الحسن هي وزارةٌ تبدو حقيقةً قادرةً على إنهاءِ الانتماءاتِ وابتلاعِ بقيةِ العناصرِ التي لم تنضم لبيانِ التأسيس، والتي يأتي على رأسِها فصائلُ من الجيشِ الوطني وبعضِ التشكيلاتِ المتفرقةِ التي لا تملكُ وحدةَ القرارِ أو الرؤيةِ، وهي مهمةٌ تبدو سهلةً مع خبرةِ هيئةِ تحريرِ الشام في تفكيكِ العديدِ من الفصائلِ والتشكيلاتِ والجيوشِ على مدارِ سنواتِ الثورة.
أما مَن سيكونُ في الجيش، وما هي العقيدةُ لهذا الجيش، فمازال الغموضُ والترقبُ القلقُ هو السيدُ المسيطر، فأولُ قرارٍ كان من الحكامِ الجُدُدِ هو إلغاءُ التجنيدِ الإجباري، مع التأكيدِ على أنّ الجيشَ سيكونُ للمتطوعين ضمنَ نظامٍ معينٍ (كحالِ أجهزةِ المخابراتِ الشرطية)، وبالتالي سيكونُ تبعاً لمَن يضعُ النظامَ وأسسَه، مما قد يفرزُ جيشاً من لونٍ واحدٍ على مستوى القياداتِ والعناصرِ، بخلافِ الجيوشِ التي تعتمدُ على التجنيدِ الإجباري، التي قد يسيطرُ الحاكمُ على القياداتِ بمختلفِ الدرجاتِ إلا أن غالبيةَ العناصرِ خارجون بالغالبِ عن السيطرة، مما يعطي توازناً بسيطاً في مجرياتِ الأحداثِ مستقبلاً وقد يلعبون دوراً في وقفِ أو على أقلِّ تقديرٍ كشفِ ما يُرتكبُ من تجاوزاتٍ.
“سقطَ اللثامُ مع سقوطِ النظام”، تبدو عبارةً جميلةً وواضحةً بحيثُ يستطيعُ الجميعُ اليومَ الكشفَ عن هُويتِهِ الحقيقيةِ أيّاً كانت من دونِ الخوفِ من النظامِ وأعوانِهِ ومجرميه، ويشملُ ذلك الجميعَ من دونِ استثناءِ حتى السيد أحمد الشرع الذي كشفَ عن اسمِهِ للمرةِ الأولى بعد السيطرةِ على حماة، معلناً إسقاطَ النظامِ وكلَّ ما يرتبطُ بهِ من خوف، إلا أن اللثامَ لم يسقطْ إلى الآن عن أجهزةِ وزارةِ الداخليةِ جميعِها، فيقولُ الأهالي كم نتمنى أن نرى وجهَ مَن يحمونَنا ونعرفَ أسماءَهم، كي نذكرَهم خيراً إنْ فعلوه، ونشتكي منهم إنْ ظلموا، وتدورُ أسئلةُ الاستخباراتِ والجيشِ ذاتُها حول القوى الشرطيةِ، سواءٌ من حيثُ التكوينُ والتشكيلُ التي تُطرحُ حول أجهزةِ الدولةِ السيادية.
تنضمُّ عشراتُ الأسئلةِ إلى أخرى حول وضعِ القوى الأمنيةِ والعسكريةِ والشرطيةِ التابعةِ للنظامِ الساقط، ومصيرِ عناصرِها سواءٌ من حيثُ محاسبةُ المجرمين والفاسدين، أم البقيةُ الذين قد ينجونَ من مقصلةِ العدالةِ أو الشكوى، وما مصيرُ مَن يرتبطُ بهم من عوائلَ وأُسر، والتي مع انقطاعِ رواتبِها أو مصادرِ تمويلِها غيرِ الشرعية، قد يشكلونَ قنبلةً قد تنفجرُ أو أداةً قد تستخدمُ في طعنِ الحكمِ الوليدِ الذي ينظرُ إليه على أنه مؤسسٌ لمستقبلِ سوريا، وإن كان الطريقُ غيرَ واضحٍ حتى للخطوةِ الأولى.
تلفزيون سوريا
———————————-
ماذا سيُحضر السوريون معهم من ألمانيا؟/ منهل عروب
2024.12.28
بعث سقوطُ نظام الأسد الأملَ في نفوس العديد من السوريين المقيمين في ألمانيا بعودتهم إلى بلدهم. ورغم العوائق والتحديات، إلا أن تلك الأسئلة بدأت تُطرح في الفضاء العام، ويتم تداولها ليس فقط بين الأصدقاء والمجموعات والسوشيال ميديا، بل وأخذت طريقها إلى مكاتب استشارية متخصصة في قوانين الإقامة والجنسية والضرائب ونقل الأموال، ومكاتب إرشاد الأسرة من أجل الأطفال والتعليم وغير ذلك.
أسئلة أخرى تُطرح في الفضاءات العامة والجلسات الخاصة، وهي عن الجوانب الإيجابية التي تعلّمها السوريون هنا في ألمانيا، وأجمع معظم السوريين على أنهم يحلمون بأن تكون في بلدهم الأم سوريا.
كان النظام التعليمي على رأس الاهتمامات والأمنيات. في ألمانيا مثلاً يتوافر تعليم مجاني حقيقي، وليس وهمي كما كان في سوريا الأسد حيث كانت “المدارس والسجون متشابهة” كما وصفها أحدهم؛ سواء في بنائها أو تجهيزاتها أو حتى الكادر التعليمي، فضلاً عن دروس الطلائع والشبيبة. تتوافر هنا مدارس ذات تجهيزات تناسب الطفل، وتزرع فيه المحبة والعلم واحترام الآخر، بدلاً من الهتاف بحياة القائد الخالد، وفدائه بالدم، والانشغال بالقضاء على الآخر من الإمبرياليين والرجعيين وكل ما هو مختلف عنك. هناك بديهيات أشبه بالحلم في سوريا، مثل التدفئة وتوافر الحمامات القابلة للاستخدام ووجبات الفطور “الآدمية” وحتى المقاعد المناسبة وألوان الحيطان اللائقة بالطفولة التي تتمتع بها المدارس الألمانية.
بعد المرحلة الثانوية يحصل الجميع على فرصة متابعة الدراسة؛ سواء الجامعة أو التأهيل المهني (Die Ausbildung). وعلى اختلاف القوانين الناظمة لكلي الاتجاهين، وتفاصيل الحصول على التمويل، إلا أن خلاصتها أن الجميع يحصل على فرص متساوية لمتابعة الدراسة بغض النظر عن وضع عائلته المالي.
التدريب المهني الألماني يُعدّ من أفضل أنظمة التدريب المهني في العالم وأكثرها تطوراً، فضلاً عن جامعاتها المرموقة، إذ تعدّ الدراسة فيها أكثر من مجانية؛ إذا احتسبنا التمويل أو القروض، وخدمات السكن والطعام وخدمات مالية واجتماعية أخرى ـ مثل تمويل خاص بالآباء والأمهات لمتابعة الدراسة.
يبدي السوريون إعجابهم بنظام القرض غير الربوي الخاص بدراسة الجامعة (إضافة إلى التمويل المجاني الكامل الخاص بالتدريب المهني، والتي يقابلها في سوريا المعاهد المتوسطة). يحصل الطالب على قرض شهري حقيقي(وليس وهمي كما في سوريا الأسد) يكفي لآجار غرفة صغيرة مستقلة والطعام والشراب والمواصلات. وبعد التخرج يعيد الطالب نصف المبلغ، وتتكفّل الحكومة بالنصف الآخر!
يبدي السوريون أيضاً إعجابهم بالنظام الصحي الذي يقدم العلاج للجميع على قدم المساواة من دون استثناء ولا حاجة لواسطة. يدفع المقيم هنا مبلغاً شهرياً، مقابل تقديم العلاج له بشكل دائم وفي أي مكان وزمان. ومن لا يعمل، تتكفل الحكومة بدفع الاشتراك حتى يعمل هو أو أحد أفراد أسرته القادين على الإعالة. العلاج والدواء حقّ مكفول بالدستور لكل شخص، بغض النظر عن أصله أو دينه أو عرقه. الخدمات الصحية هي خدمات حقيقية، ورغم بعض الصعوبات التي يعاني منها النظام الطبي الألماني، لكنها أولاً صعوبات تنطبق على الجميع ألمان ولاجئين، وثانياً لا مقارنة أبداً مع النظام الصحي في سوريا الأسد، والتي كان السوريون يطلقون على مشافيها “المسالخ” تندراً بالوضع البائس والخدمات “غير الآدمية” لتلك المشافي والمراكز الصحية.
يود آخرون الاستفادة من النظام الضريبي الألماني، وهو نظام يتمتع بقدر كبير من الشفافية. كما أن تلك الضرائب الكبيرة تعود إلى المواطن على شكل بنية تحتية وخدمات من تعليم وطبابة وخدمات اجتماعية. تلك الشفافية لا تنفك عن النظام السياسي القائمة عليه، والذي تستمدّ منه تلك الشرعية ونظافة اليد. فقد علّق كثير من السوريين أنهم لا يريدون قائداً ملهماً، بل مؤسسات مراقبَة جيداً والرئيس هو موظف تفرزه تلك المؤسسات، ويتم الموافقة عليه من قبل الشعب عبر انتخابات حقيقية، يؤدي مهمته في المدة المتعاقد عليها مثله مثل أي موظف آخر: “بدنا نقول راح كلب بوتين (ويقصد ميركل) وإجا صبي بايدن (ويقصد المستشار الحالي شولتز) من دون ما تقشنا المخابرات” كما قال لي أحدهم. مهمة الرئيس أو النظام السياسي ـ كما عبّر أحد السوريين ـ هو تحقيق العدل وتأمين سبل الحياة الكريمة لمواطنيها، وليس فرض المأكل والملبس وأنماط اعتقاد محدّدة كما كان يفعل نظام الأسد في منظمات طلائع البعث وشبيبة الثورة، كما في فرض أنماط تدين محدّدة من خلال مؤسسات دينية بعينها ومنع وتجريم غيرها. وهذه الحكومة تقف على مسافة واحدة من جميع مواطنيها بلا استثناء، حيث “لا نضطر أن نطبل له لنحظى بفرصة الترقي الوظيفي”، أجابني آخر.
بعض السوريين عبّروا عن تجاربهم وأمنياتهم بطريقة أبسط، فتمنّوا لو يكون في سوريا نظام القمامة الألماني، والشوارع النظيفة وممر المشاة المحمي بأخلاق الناس وقوة القانون، فيستطيع الطفل وكبير السن عبور الشارع من ممر المشاة آمناً مطمئناً، حيث تقف السيارة وتنتظر عبورهم. هذا ويعد تجاوز ممر المشاة في أثناء عبور الناس أو تجاوز إشارة المرور الحمراء جرماً خطيراً يصل إلى السجن وسحب رخصة السياقة الخاصة بصاحبها.
لم تعد مصطلحات من مثل البيئة وفصل السلطات نخبوية، فقد تحدّث العديد من السوريين من ذوي التأهيل العادي المتوسط والمنخفض عن ضرورة الاهتمام بالبيئة من فصل النفايات وعزل الأبنية حتى لا تستهلك كثيراً من الطاقة، ومراقبة الزراعة والتلوث. مواضيع كانت غائبة أو مغيبة في عالمنا العربي عموماً، ومنها سوريا الأسد، أصبحت هنا في صلب اهتمامات السوريين؛ فهي تعني: “الصحة والعائلة والمستقبل” كما قال أحدهم.
أخيراً هناك قيمة أخلاقية كبيرة تم اختزالها في كلمة “الراتب”، لكنها ترسخت في وعي كثير من السوريين، وهي عبارة عن المساعدات الاجتماعية للطبقات الفقيرة، الضعيفة والمهمّشة. يتلقى الفقراء مبالغ تعينهم على قساوة الحياة، حتى ينهضوا مجدّداً، كما الفقراء والغارمين بالتعبير الإسلامي ـ إذا جاز التشبيه ـ. يحصل عليها اللاجئون أيضاً حتى يقفوا على أقدامهم، رغم أنهم ليسوا من أبناء البلد. ويتلقى المرضى وكبار السنّ عناية خاصة وإنفاقاً كبيراً. إنها مظلة واسعة تُشعر المواطن بقدسية الدولة كمؤسسة تسهر على خدمته والحفاظ على كرامته، يتمنى كثير من السوريين لو يحضروها معهم لتظلّهم جميعاً، جميعاً بلا استثناء، لو عادوا يوماً إلى وطنهم الأمّ: سوريا من دون أسد أو أي قائد ملهم آخر.
تلفزيون سوريا
——————————–
أفق جديد لسوريا ما بعد الأسد/ وفيق رضا سعيد
2024.12.28
تزامناً مع الإعلان التاريخي لإنهاء النظام السوري بقيادة بشار الأسد، تعيش سوريا لحظة فارقة في تاريخها. لقد تسبب حكمه في معاناة لا توصف للشعب السوري، واتسم بالفظائع الشنيعة، والقمع المنهجي، والتجاهل الصارخ لحقوق الإنسان. إن إرثه هو تدمير وخيانة لإمكانات سوريا. في المقابل، يقف أحمد الشرع، قائد الإدارة السورية الجديدة، على أعتاب مسؤولية ضخمة لإعادة بناء الوطن وإرساء دعائم الديمقراطية الحقيقية بعد عقود من الاستبداد والمعاناة.
انتصار تاريخي ومسؤوليات جسيمة
إن سقوط النظام السوري يمثل انتصاراً نادراً يغير مجرى الأجيال، لكنه لا يعني نهاية الطريق. المهمة الأصعب تكمن الآن في إعادة إعمار سوريا وترميم النسيج الاجتماعي والاقتصادي الذي دمره النظام السابق. هذه المسؤولية تتطلب قيادة رشيدة تعمل على وضع أسس لدولة ديمقراطية ليبرالية تضمن المساواة، وتحمي الحريات العامة وحقوق الأقليات، وتؤسس لنظام قضائي مستقل بعيداً عن النفوذ السياسي.
أولى الخطوات في مسيرة إعادة البناء يجب أن تبدأ بإعداد دستور حديث يعكس طموحات السوريين، ويكون وثيقة شاملة تعلن بشكل لا لبس فيه أن سوريا وطن لكل مواطنيها من دون تمييز في الدين أو العرق أو العقيدة. كما يجب أن يكرس الدستور قيم الحرية، المساواة، وحرية التعبير والصحافة، ويضمن سماع كل الأصوات من دون اضطهاد. ولا بد أن يؤسس لنظام قضائي عادل ونزيه وغير مسيّس، ويضع آليات واضحة للفصل بين السلطات لضمان الشفافية ومنع تركيز السلطة في أيٍّ من فروع الدولة.
لقد آن الأوان للتخلي عن الدولة الأمنية المفرطة واستبدالها بقوة دفاع وطنية تركز على حماية الحدود والشعب والسيادة. في المقابل، يجب أن تتحول الجهود نحو تعزيز الاستقرار الاقتصادي من خلال خلق بيئة جاذبة للاستثمار المحلي والأجنبي، وإعلان الحياد السوري في السياسة الدولية. هذه الإجراءات ستعيد لسوريا مكانتها في المجتمع الدولي كمحور سلام واستقرار في المنطقة، وتضع الأساس لمستقبل مزدهر تكون سوريا فيه صديقة للجميع.
السوريون في المهجر: طاقة كامنة لدعم البناء
مع انتهاء الحرب، يتطلع العديد من السوريين في الخارج إلى تقديم خبراتهم ومواردهم لدعم جهود إعادة البناء. هؤلاء المغتربون يمثلون مورداً غنياً يمكن استثماره لتعزيز نهضة سوريا من جديد، وهم مستعدون للمساهمة في تحويل الحلم إلى واقع، ومساندة الإدارة الجديدة في المهمة الهائلة التي تنتظرها.
في النهاية، فإن هذه اللحظة بقدر ما هي نهاية لحقبة مظلمة، فهي بداية جديدة تحمل الأمل، وعلى القيادة السورية الجديدة أن تستثمر هذه الفرصة التاريخية لبناء دولة القانون والمؤسسات، وإعادة سوريا إلى مكانتها الطبيعية كديمقراطية ليبرالية مزدهرة، ومنارة للسلام والاستقرار في هذا الجزء من العالم.
أمامنا طريق طويل وشاق، لكنه مليء بالفرص. الأمل كبير في أن تكون سوريا الجديدة وطناً يحتضن جميع أبنائه من دون تمييز، ويعيد بناء ما دمرته الحرب بروح الوحدة والعزيمة.
تلفزيون سوريا
——————————————
ما الذي يجمع فولوديمير زيلينسكي وأحمد الشرع؟/ شادي طنوس
تحديث 28 كانون الأول 2024
ماذا يجمع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وقائد “هيئة تحرير الشام” أحمد الشرع؟ سؤال غريب بين الواقع الجديد في سوريا والحرب المستمرّة في أوكرانيا.
8 كانون الأول (ديسمبر) 2024، كان يوم أحمد الشرع، المعروف أيضاً بـ”أبو محمد الجولاني”، إذ تمكّنت فصائل سورية معارضة بقيادة هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)، في هجوم استمرّ 11 يوماً، من دخول دمشق وإنهاء حكم عائلة الأسد الذي استمرّ أكثر من نصف قرن.
أمّا حرب أوكرانيا فتدخل عامها الثالث في 24 شباط (فبراير) 2025 وسط ضبابية المشهد مع عودة “شخصية العام” الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب والتقدّم الميداني الروسي وشروط موسكو لإنهاء الحرب.
على الاختلافات الجغرافية والسياسية والثقافية بين البلدين والمجريات الحربية، شكّل الرجلان حالة يمكن وصفها بالاستثنائية، كلُّ من موقعه: رئيس دولة وقائد تنظيم مسلّح.
فرَض منصب القائد على كل منهما قدَر إدارة مراحلة حسّاسة في بلديهما بظروف مختلفة وتوقيت على ساعة التحوّلات السياسية في العالم.
بين الشكل والدور…
بعيداً عن الأحداث وتطوّراتها، يجمع الشرع وزيلينسكي شبهاً في بعض ملامح الوجه بالإضافة إلى اللحية، مع فرق واضح في الطول بحسب الصور المنتشرة لهما.
بالمسار المهني، إذا صحّ التعبير، شهد كلاهما تحوّلاً في أدوارهما فزيلينسكي بدأ مسيرته كممثّل وكوميدي قبل أن يصبح رئيساً لأوكرانيا عام 2019، أمّا الشرع فانتقل من زعيم جهادي إلى قائد سياسي معارض، فتخلّى عن لقبه العسكري وبدأ باستخدام اسمه الحقيقي أمام الشعب السوري والرأي العام العالمي.
هنا المشهد انعكس والبدلة الزيتية جمعتهما. بدّل زيلينسكي مظهره الخارجي منذ بدء الحرب الروسية على بلاده فخلع عنه البدلات وقمصانها ليرتدي بدلة عسكرية زيتية اللون ويزور فيها عواصم العالم كتعبير عن قيادته للحرب وعدم بُعده عن المسار العسكري وجيشه.
أمّا الشرع فخلع أولاً العباءة والعمامة ليطل بالبدلة الزيتية ويظهر فيها خاصّة في الأيام الأولى من الإطاحة بالرئيس بشار الأسد، لينتقل بعدها إلى البدلات فبدا كرجل دولة يستقبل الوفود ويودّعها بربطة عنق. العامل المشترك الوحيد المتبقّي: منصب الرئيس ولما لا؟!
قيادة الأزمة
تولّى كل من الرجلين قيادة بلاده أو تنظيمه خلال فترات صعبة. قاد الشرع هيئة التحرير في مواجهة نظام الأسد إلى جانب فصائل مسلّحة خلال الحرب السورية طيلة 13 عاماً مع تشتّت سيطرة الدولة المركزية، وأظهر التنظيم في إدلب نموذجاً عن حكمه الذاتي بقيادة “حكومة الإنقاذ”.
بينما قاد زيلينسكي أوكرانيا في مواجهة الزحف الروسي منذ 2022 بالسلاح والمال من الدول الغربية الداعمة له على رأسها الولايات المتّحدة الأميركية، مع صعوبات قبل الحرب وأزمات أثقلت هموم الدولة بعد المعركة أكثر فأكثر.
الصورة الإعلامية
مرتدياً البدلات، عمل الشرع على تجديد صورته من خلال الظهور الإعلامي والتواصل مع الشعب عن قرب، فزار الأسواق الشعبية وتجوّل في الشوارع سيراً أو بالسيارة وأدّى الصلاة مع مؤيّديه. بخطابه، اعتمد على الكلام المنطقي المؤثّر والموجّه إلى الشارع السوري المحلّي بصورة خاصّة ودول العام بصوة عامّة. والأهم كان نقل الخطاب من الشق الديني إلى الشق الثوري والمؤسساتي فالحديث الأبرز في هذه الأيّام عن بناء دولة مركزية بسلاح واحد فقط ورفض التدخّلات الأجنبية.
بالنسبة لزيلينسكي، استخدم رئيس أوكرانيا شعبيّته كممثّل مشهور لتعزيز حملته الانتخابية وصولاً إلى سدّة الرئاسة. وفي الحرب الحالية الدائرة، استخدم الإعلام بشكل هادف لعرض موقع أوكرانيا كضحية بسبب الهجوم الروسي وتداعياته، لعلّ أبرزها ترحيل أطفال أوكرانيين إلى روسيا وفصلهم عن عائلاتهم إذ كانت هذه القضيّة من مبررّات إصدار مذكرة اعتقال بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من قبل المحكمة الجنائية الدولية في 17 أيار (مايو) 2023.
وزار زيلينسكي أيضاً جنوده ومناطق عدّة على خط المواجهة الأمامية كتأكيد على وجوده إلى جانب جيشه وشعبه. كلّها عوامل ساهمت في كسبه تعاطفاً من دول العالم ودعماً كبيراً، أظهرت صورته كقائد حقيقي وشرعي.
مواجهة روسيا وإيران!
قاد زيلينسكي أوكرانيا في مواجهة الجيش الروسي، مركّزاً على توحيد شعبه وتعزيز الدعم الدولي، محاولاً بالوسائل المتاحة كافّة الحفاظ على وحدة الأراضي الأوكرانية واستمراريّة مؤسّسات الدولة.
ولا تبتعد اليد الإيرانية عن الأحداث الجارية في أوكرانيا حيث تستخدم موسكو مسيّرات “شاهد” لضرب أهداف ومواقع أوكرانية، فتشكّل داعماً لبوتين وحربه على كييف.
من جانبه، واجه الشرع القوّات الروسية التي كانت من أبرز داعمي نظام الأسد إلى جانب الدولة الإيرانية بقادة حرسها الثوري ووكلائها، وقد شكّل سقوط الأسد ضربة استراتيجية للدولتَين الحليفتَين.
والسؤال هنا، هل سيكون الشرع شريكاً محتملاً للغرب في مواجهة النفوذ الروسي في المنطقة كما يسعى زبلينسكي ليكون المدافع عن القارّة الأوروبية وعضواً مستفزّاً لروسيا في حلف الناتو؟
دعم خارجي
تقسّمت الأرض السورية بين لاعبين عدّة من الإيرانيين والأميركيين والأتراك والروس والأكراد وفصائل وتنظيمات من بينها هيئة التحرير، ولا شكّ أن الشرع تمكّن من استغلال الظروف الميدانية لتحقيق نفوذ محلّي، في محاولة لتقديم الهيئة كلاعب أساسي يمكن التعامل معه، وما هي مشاهد وصول الوفود العربية والأجنبية إلى قصر الشعب بعد الإطاحة بالأسد إلّا نتيجة أرادها قائد هيئة التحرير في واقع سياسي جديد، على العالم التعامل معه.
حالياً وفي الظاهر، يكسب الشرع دعماً تركياً قويّاً. وقد كشفت معلومات عن “مساعدة” تركية لهيئة التحرير في عمليّتها “ردع العدوان” التي أدّت إلى إزاحة الأسد عن السلطة. في المقابل، فإنّ أغلبية مواقف الدول العربية والغربية تدعو حتّى الآن إلى قيام سلطة مستقلّة ونظيفة وجامعة لكل مكوّنات المجتمع السوري، وتدعم سيادة سوريا.
من جهّته، حشد زيلينسكي دعماً عالمياً من دول “الناتو” والولايات المتّحدة وأغلبية الدول الأوروبية والمنظّمات الدولية، مستخدماً العلاقات الدولية والدبلوماسية للحصول على التمويل والمساعدات العسكرية. إلا أن القلق الذي يعيشه زيلينسكي حالياً لا يُحسد عليه، وذلك على بُعد أيّام من عودة ترامب إلى البيت الأبيض، ما يهدّد مستقبل الدعم الأميركي لأوكرانيا.
بين الشرعية والميليشيا
في شكل المعركة، يقود زيلينسكي دولة ذات سيادة بوضع دولي معقّد وساخن، ويعمل على استمرار الدعم الدولي لمصلحة بلاده فيشكّل نموذجاً للقيادة المؤسساتية في بلد يواجه تحدّيات عدّة.
أمّا الشرع فهو حتّى الآن قائد تنظيم مسلّح خارج الدولة ينطبق عليه توصيف “ميليشيا”، يواجه تحدّيات تتعلّق بمشروعية تنظيمه المصنّف منظّمة إرهابية. وفي حالته، يجسّد قائد هيئة التحرير نموذج القيادة خارج الدولة الشرعية، تظهر حركة مسلّحة تحاول البقاء والاندماج في عالم السياسية بعد عالم السلاح.
تجسّد فعل القيادة بين رجلين، بين رئيس دولة وقائد عسكري، كل على طريقته وظروفه، في مشهدين سيُحفران في تاريخ العالم بغض النظر عن النتائج والتداعيات. سمحت ظروف في توقيت سياسي للشرع أن يُنهي معركته في حين زيلينسكي لا يزال يُدافع عن أرضه مع جيشه.
فهل تساعد ظروف “القائد العسكري” في يوم على التوقيت العالمي “رئيس الدولة”، فيغيّر وجه أوروبا بعد الانقلاب التاريخي في الشرق الأوسط؟
النهار العربي
——————————
الأحاديث في الطريق إلى معتقل صيدنايا: كأنّ هناك جهة أرادت العبث بكلّ ما يخصّ السجون/ عمار ديوب
28 كانون الأول 2024
هي ساعات بعد هروب بشار الأسد، وفي الواحدة، ظهيرة يوم الجمعة (٨ ديسمبر/ كانون الأوّل)، اتصل الصديق أُبي عزو ليقول لي إنّه في ساحة الأمويين. شعرت بسعادةٍ كبيرة، فلم ألتقيه منذ 2012. أتى، قاطعاً أكثر من أربعمئئة كيلومتر مع أصدقاء أدالبة. لأُبي أخٌ، وهو وثّاب عزو، اعتقلته هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقا) في 2015، ولم تكن قد انفصلت عن تنظيم القاعدة بعد، إذ تمَّ الانفصال في 2016. كانت قد وصلت معلومات لأُبي أنّ أخيه وصديقه اللبناني، وسيم القيّم، يمكن أن يكونا في سجن صيدنايا، وأكّد ابن العقيد هيثم العفيسي لأُبي، وهو من معرّة النعمان، وكان معتقلاً في المهجع الخامس، أنّ وثاب ووسيم كانا في المهجع السادس، وهما أمانة لصالح أمير في “النصرة”، في معمل الكرتون التابع لمعمل الأدوية “أوبري”، وربّما قتلهما الأمير، وربّما وجدهما النظام حينما سيطر على المعمل في 2019. وعدا ذلك هناك شراكات بين النظام وجبهة النصرة وما أخذته من تسميات لاحقاً، فتح الشام، هيئة تحرير الشام، وهناك تقارير تؤكّد ذلك، ومنها ما يؤكّد الصلة بين النظام وداعش كذلك، أو النظام وجيش الإسلام، وقيل، أنّ رزان زيتونة، ورفاقها الذين اختفوا في دوما، حينما كان يسيطر عليها جيش الإسلام، ربما سُلِّموا إلى النظام.
عن معتقل صيدنايا ووثائقنا .. هل كان بالإمكان تفادي الوضع الكارثي بُعَيدَ سقوط النظام؟
23 كانون الأول 2024
كانوا أربعة أصدقاء، منهم ثلاثة لديهم أقارب في صيدنايا. جلسنا نتداول الحديث، عن أهوال هذا السجن، المُسمّى مسلخاً. اعتقد أُبي بأنّ عليه أن يأخذ معه قاضياً إلى السجن، فربما يساعد في الحصول على أخيه أو أيّة ورقة تفيد بأيّة معلومة عنه. كانت أخت وسيم تتصل بشكلٍ مستمر، منتظرةً أيّة معلومة، وحاولت وعبر سنوات، وعبر أشخاص مقرّبين من حزب الله كذلك، ولكن عبثاً. أيضاً، كانت تُمني النفس بالحصول على أيّة معلومة.
تمّ الاستعانة بالشخص الذي اتصل به أُبي، ولكن تبيّن أنّه صيدلانياً بينما زوجته هي القاضية. المهم استقلينا السيارة، وكنا خمسة أشخاص، أنا وأبي والصيدلاني وصديق أُبي، والكاتبة رانيا مصطفى. صديق أُبي، كان قد اعتُقل في السجن، لأكثر من عام، ونفى بشكلٍ قاطع وجود غرفٍ سرّية، ومُغلقة بإحكام، ومشفّرة، وسواه، وهو ما أُشيع في الساعات الأولى للوصول إلى السجن وبدأ الأهالي بالتوافد إليه. تبيّن أنّ الرجل محقٌ، وكان هناك الكثير من الإشاعات حول الأمر، وتمّ إطلاق سراح أكثر بقليل من 600 معتقل، بينما ليس هناك أيّة معلومات عن الآلاف من المغيّبين قسريًا منذ عام ٢٠١١.
الطريق إلى معتقل صيدنايا
الفوضى عارمة في شوارع دمشق، وطريقنا يبدأ من بلدة جرمانا إلى ساحة العباسيين مروراً بحي برزة فالتل فصيدنايا. كان الازدحام كبيراً، وكنا نرى سيارات ملطّخة بالطين، وهي القادمة من إدلب، ورأينا سوريين؛ أدالبة، حماصنة، حموية، وحلبية وسواهم، وأوزبك كذلك. كان الأصدقاء الأدالبة ينبّهون بعضهم، ونحن أيضا، حينما نكون قريبين من تلك السيارات الملطخة بالطين، بأن نخفّض أصواتنا النقدية، أو نمتنع عن الشتم. كان الخوف بادياً على الأصدقاء، فتجربة إدلب، بقيادة الجولاني سابقا، أحمد الشرع لاحقا، بالاعتقال وتقييد الحريات والتغييب القسري دامية، وذلك منذ فرض سيطرته على إدلب حيث اجتثّ العشرات من الكتائب وفصائل الجيش الحر، وليست هناك أيّة معلومات عن آلاف المعتقلين منهم في سجونه. أيضاً، لم يُفرج عن المعتقلين من سجونه رغم المظاهرات الشعبية، والتي استمرّت في الأشهر السابقة، ولأكثر من ثمانية أشهر، وكان على رأس مطالبها الإفراج عن المعتقلين، والآن انتقلت المظاهرات للمطالبة بالمعتقلين إلى ساحة الجابري في حلب، وربّما في الأيّام القادمة ستكون في دمشق.
حينما غادرنا بلدة التل، خفَّ الازدحام، ولكن لبضع كيلومترات فقط. وحينما اقتربنا من سجن صيدنايا، أصبح الطريق ضيّقاً والازدحام كبيراً. أوقفنا السيارة جانباً، وقال الصيدلاني سأنتظركم أنا في السيارة. كانت لوحات السيارات المركونة جانباً، أو التي تتحرّك ببطءِ السلحفاة من كافة المدن السورية. وتمحورت أحاديث الناس عن الأمل بوجود المعتقلين في غرفٍ سرّيّةٍ، وأنّ البحث بطيئاً، والمعدات المستخدمة في عملية الحفر سيئة، ويجب الاستعانة بخبراء دوليين من أجل تحطيم البوابات المشفّرة، ومن هذه الأحاديث.
كانت الحشود تفوق الثلاثين ألفاً، نساء وشيوخ وشباب وأطفال. الجميع وجهته الصعود نحو السجن. لم نعد قادرين على المشي، كنا نجلس على حافة الطريق، ومثلنا كُثر. صديقنا الذي سُجِن في معتقل صيدنايا كان الأكثر نشاطاً، فاقترحنا أن يتابع هو صعوده وننتظره نحن على الحافة. فعلاً، غاب الرجل قرابة ساعة ثم عاد، وكرّر حديثه السابق، بأنّه لا توجد غرفة سرّيّة ولا شيء من هذا القبيل، وأنّ مكاتب إدارة السجن حُرِق بعضها والأوراق منثورة هنا وهناك، ولا يوجد أيّ أمل بوجود معتقل حي ولو واحد بعد تحرير السجن في اليوم السابق والإفراج عن العدد المذكور أعلاه.
الخيال وقد تحقّق… عن يوم سقوط الأسد
12 كانون الأول 2024
برّادات ومقابر جماعية
لقد تواتر وعلى ألسنة الكثيرين ممن صادفناهم في صعودنا، أنّ أربعة، والبعض قال ست، برادات، أتت في الأيّام السابقة، ودخلت إلى السجن وغادرته، ومال التحليل أنّها لنقل السجناء أحياءً، وهو ما لم أفهمه، فإلى أين سيتم نقلهم؟ وهل هناك فتحات تهوية في البرادات؟ ولكن، وحينما كنت أستمع لأحد مقاطع الفيديو عن مقبرة نجها، وهي جنوب دمشق، ذكر، أحد الأفراد، وهو يقطن بالقرب من المقبرة، أنّه منذ 2011 تأتي البرادات المحمّلة بالجثث، ويكون بانتظارها أحد التركستات، فيتم حفر حفرة كبيرة كمقابر جماعية، وحينما تُكدّس الجثث فيها يقوم التركس بردم التراب فيها، وأنّه في بعض المرّات يتم الدفن ليلاً، وقد رأى أرجلاً وأيدي ورؤوساً حينما عَبَرَ بالسرّ إلى المقبرة، لتأتي التركستات في اليوم التالي وتعيد طمرها.
إذاً، ربما أنّ تلك البرادات الضخمة، لم تُقل السجناء أحياءً بل أمواتاً، وضمن الأحاديث أنّ تلك البرادات، دخلت خلال الأشهر الأخيرة عدّة مرّات إلى سجن صيدنايا؛ ويبدو أنّ النظام أراد التخلّص من المعتقلين بشكلٍ نهائي، حينما كانت تتقرّب منه الدول العربية وتركيا للتطبيع، ولإبقائه مسيطراً على سوريا، وهذا كان سيجبره على فتح السجون لاحقاَ. في الأيّام السابقة وُجِدت أربعون جثّة في مشفى حرستا، لم يمض عليها أيّاماً، إحداها تعود للمعتقل مازن الحماده، الذي أدلى بشهادته عن السجون أمام المحاكم الدولية ووسائل الإعلام. وفي العام 2020 لم يستطع البقاء في أوروبا، لأسباب نفسية، فأُعيد إلى السجن، وربما حاول رجال النظام الأمنيين مساومته على سحب إفادته عن السجون، وبرفضه أُودع إحداها، وقُتل قبل أيّام قليلة من تفكّك النظام.
إعادة إنتاج الخوف
أثناء الصعود، رأينا الكثير من السيارات التي كساها كوادر الهيئة بالطين، وكانت صديقتنا رانيا مصطفى، الكاتبة اليسارية معنا، فقلت لها أنّه من الأفضل أن تضع الطاقية على رأسها. رفضت العديد من المرّات أثناء الحديث، ثم شعرت بأنّ هناك سبب حقيقي للخوف، فوضعتها. كانت نظرات الكوادر مُخيفة بعض الشيء، وربّما نحن نتوجّس الخوف، وربما خليط من هذا وذاك، ولكن، وبعد القليل من التحدّث مع بعضهم، تقلّص الخوف ولكن لم ينته. أصدقاؤنا الأدلبة، يرون أنّ كوادر الهيئة لا أمان لهم، وسرعان ما سيعودون إلى جلدهم القديم.
لم نعثر على أيّ شيءٍ مفيد. أصابنا الإحباط من المشوار المجهد، ولكن الآلاف مثلنا، وحتى ونحن نعود، كانت السيارات تصعد وتصعد، والعيون بحالة خوفٍ ومعظم الكلام كان شتائم لآل الأسد وما فعلوه من ظلمٍ وقهر واعتقال وموتٍ ودمار بالسوريين وبسوريا، وأماني كثيرة بأن يحصلوا ولو على ورقةٍ، تُهدّئ من معاناتهم الممتدّة لأكثر من عقود، وبعض العائلات تعاني منذ 2011. وبالفعل، وُجِد سجناء محتجزين منذ أكثر من أربعين عاماً، وثلاثين وعشرين، وهكذا، في كلّ سجون دمشق وبقية المدن، وبعضهم فاقدي الذاكرة أو لا يستطيعون الحراك، وهناك العديد من النساء مع أولادهم.
بعد يومين، أتى صديقٌ أخر، وقد اعتُقل خمس مرات بعد 2011. أتى بعد أن ذهب إلى سجن صيدنايا، ووجد الكثير من الأوراق المبعثرة في كلّ مكان، وسألته: هل ما يزال الناس يذهبون إلى هناك؟ أكّد الأمر لي. وقال لي إنّه لملم بعض الأوراق، وهي هامة، ومتروكة للسرقة، وفيها معلومات عن المعتقلين وأوامر بالقتل، وملطخة بالمازوت، وأكّد حدوث الكثير من السرقات بما فيها بعض أدوات التعذيب. ما جرى في سجن صيدنايا جرى في بقية السجون، وكأنّ هناك جهة أرادت العبث بكلّ ما يخصّ السجون والأفرع الأمنية، وقالت تقارير صحافية إنّ محكمة الإرهاب حُرقت كذلك، وأُتلفت الكثير من أوراقها، وتمَّ سرقة اللابتوبات الخاصّة بالأجهزة الأمنية.
هناك الكثير من الخفايا في ملف السجون السورية، وحتى الآن، لا تزال الحكايات تتحدّث عن سجون لم يُكشف عنها بعد. وحتى الآن، كلّ يومٍ تنشر الصحافة عن مقابر جماعية، ليست معروفة من قبل.
بكى أُبي، أكثر من مرّة، أثناء الحديث عن أخيه، وهي حالة العائلات منذ 2011. كان الخلاص من نظام عائلة الأسد أكثر من ضرورة.
حكاية ما انحكت
——————————-
العودة إلى دمشق: قصر أحمد الشرع وسوق الحميدية (4)/ يوسف بزي
السبت 2024/12/28
هي رحلة مؤجلة منذ 20 عاماً إلى المدينة التي وقعت في غرامها وكرهت حالها في آن معاً، منذ زيارتي الأولى عام 1988. آنذاك، كانت المدينة المترامية التي تغلب عليها أناقة الماضي والإلفة والسهولة، تهيمن عليها أيضاً مشاعر قابضة للأنفاس. بعد جزء أول، وثانٍ، وثالث، هنا الجزء الرابع والأخير:
اللامعقول أن أكون في هذه المدينة أصلاً. ما يفوق اللامعقول هو أن أسلك الطريق المحرّمة وأدخل “قصر الشعب”، قصر آل الأسد. والأكثر خيالية، أن شبان إدلب المسلحين، والذين يضعون كمامة على وجوههم، وعبارة “لا إله إلا الله” على زنودهم، هم الآن بمثابة “حرس جمهوري”، فيما الساكن فيه أحمد الشرع شخصياً. التاريخ يصاب أحياناً بنوبات جنون. وهذه السطور كانت مستحيلة قبل أيام.
صباح مبلل، في يوم أحد كسول، والضباب يخفي قمة قاسيون. السائق مدهوش من نفسه، غير مصدق أنه يقود باتجاه تلك القلعة الباهرة والمخيفة، التي تولى بناءها رفيق الحريري كقصر للرئيس السوري.
الغرائبية لا تنتهي هنا. فالقصر الملعون على الموعد مع وليد جنبلاط وابنه وأركان حزبه ونوابه ووزرائه، بصحبة شيخ العقل ورهط من المشايخ الدروز. وبالطبع، تأتي معهم جحافل من الإعلاميين اللبنانيين، بكل ما يحملون معهم من نزق وفلتان وقلة حياء وحزازات لا مهنية.. وقلة اللياقة.
لم يعتد بعد الطاقم الجديد لموظفي القصر، على إدارة وضبط هكذا حشد إعلامي فوضوي قابل لأن يستبيح المكان بغوغائية معيبة. وكان عليّ أن أبتعد متجولاً قدر الإمكان في هذا القصر الهائل، الأصم، الذي تجعلني سعته الباردة والرخامية وسقوفه العالية جداً، منقبضاً. ربما المبالغة في إظهار “الفخامة” أو بالأحرى ثراء السلطة، تحيل جماليات المكان وأبهته إلى منبع للتوجس والنفور. ثمة خطاب سياسي بالغ الوقاحة في أصل هندسة هذا القصر: الجبروت. ولا تسعف زخرفة حواشيه وأبوابه وسقوفه، وأثاثه الحِرَفي الدمشقي، في إضفاء أي خفة. ضخامته مفزعة: المبنى الرئيسي 31.500 متر مربع، ومجمل مساحته مع المباني الملحقة 510.000 متر مربع.
لا انبهار، بل إدانة لهذه المبالغة المعمارية المقصودة، المنتصبة كحصن عدائي يشرف على العاصمة ويتعالى عليها بصلف وترهيب.
يصل وليد جنبلاط والوفد الكبير. ورغم ملامح التعب والإنهاك، كانت ابتسامة السعادة غامرة. فهو ومن معه كانوا دوماً تحت تهديد مقصلة الأسد. لحظة سياسية لا تخلو من مشاعر ثأر، لكن تغلب عليها أيضاً رغبة بالمشاركة في طي صفحة آل الأسد في سوريا ولبنان. ثمة حاجة جنبلاطية-درزية للمساهمة في شق طريق آخر بين دمشق وبيروت، وبين المختارة والسويداء أيضاً. وربما، في الخلفية أراد جنبلاط ورفاقه أن يشاهد بشار الأسد شخصياً في منفاه صورة وجودهم في القصر الذي هرب منه.
على نحو مباغت، أجد أمامي أحمد الشرع. عينان حادتان وملامح جامدة. يمرّ متجهاً مباشرة نحو وليد جنبلاط. نلهج جميعنا مدهوشين: إنه يرتدي الكرافات. إنها المرة الأولى بربطة العنق. سينوغرافيا التحول السياسي المتدرج لقائد “هيئة تحرير الشام” تكتمل بأزيائه، على نحو “استرداد” اسمه الرسمي متخلياً عن اللقب الجهادي (أبو محمد الجولاني). أقول في نفسي: إنه تأثير الانتقال من منزل إدلب إلى قصر دمشق. الانتقال من القتال إلى الحكم، ومن قائد ميليشيا إلى قائد دولة. وليد جنبلاط لديه أيضاً تجربة مماثلة تقريباً، حين انتقل من محارب وقائد ميليشيا إلى زعامة سياسية رسمية: النيابة والوزارة. لكن مع فارق عن الجولاني بإرث أميري-إقطاعي وتقاليد زعامة سياسية وأرستقراطية.
بدا الشرع متودداً لجنبلاط، فيما الأخير كان يتفحص بحنكة وفراسة هذا “المنتصر” على الأسد. فما يهمه هو بناء علاقة سياسية أولاً، وتفاهماً على صيانة الحضور الدرزي في سوريا، وتنظيف طريق دمشق بيروت من مخلفات الأسدية. كان المهم هو الصورة الجامعة، كمصدر قوة لجنبلاط في البلدين معاً.
كنت مستعجلاً في الخروج من هذا القصر، هرباً من ثقله الاسمنتي، ومن الجوقة الإعلامية اللبنانية ولغوها… وإلى شوارع دمشق في هذه الساعة التي يكثر فيها المشاة. ومن لا يرغب بسوق الشعلان الذي يحتفي الآن بكم هائل من الفاكهة التي كانت نادرة: الموز والقشطة والدراغون.. كميات من كل صنف مقدمة بسخاء على البسطات. حركة مفعمة بالناس والبيع والشراء، وروائح مدوخة للأطايب والبهارات والمأكولات والعصائر والسحلب الساخن، ونداءات الباعة.
في دكان السندويشات، وفي كل محل أدخله، يعرفون لبنانيتي من لهجتي، وأسمع العبارة ذاتها: نورتم الشام. وتسري قشعريرة من دفق المحبة، رغم كل الاقترافات التي أوقعها لبنانيون بالسوريين.. وأنزلها النظام باللبنانيين.
وكان المطعم أعيد افتتاحه من اسبوع، بعدما استعاده صاحبه. فالظاهرة السارية في دمشق هي حركة استعادة الأملاك والعقارات. جلاوزة النظام وعصاباته و”رجال أعماله” وضباطه وضعوا أيديهم على عقارات لا عد لها، واستولوا على محال وبيوت وأراض بالقوة والغصب، كما لو أنهم قوة احتلال. وهذا يحيلنا إلى طبيعة العلاقة التي حكمت نظام الأسد بأهل دمشق وسوريا، بوصفها أيضاً علاقة نهب وليس فقط إذلال وقمع وقتل.
عدد من البيوت والمحلات في قلب العاصمة، كان يجري تسليمها لأصحابها على مدار الساعة، بما يشبه استعادة أحمد الشرع لمنزل أهله في منطقة المزة.
لم أنتبه للمسافات التي أمشيها. قوة الإغراء تجعلني كالتائه أو كالسائح الأبله. أسير في شارع النصر، بمحاذاة بسطات منجزي وسماسرة معاملات الزواج والطلاق، لكن “المزدهر” في أعمالهم هو استصدار “شهادة الوفاة” وتصديقها. سوريا أرض الأموات والدموع والأرامل والأيتام.
أصل إلى سوق الحميدية، المفقّر والمتهالك، والمتدني الجودة. دليل انحطاط الصناعات المحلية كما دليل فقر حال المستهلكين. دمشق كالحميدية ربما لم يدمرها الأسد، لكنه جعلها تهترئ ببطء. مع ذلك، ما زال في الحميدية ملامح ماضيه المدهش. هنا تجتمع سوريا كلها: بدو البادية، أهل الشمال، أهل الأرياف، أهل الجنوب. سحن وأزياء ولهجات الفسيفساء السورية معاً في هذا النهر البشري المزدحم.
أدخل إلى متجر باذخ لبيع الفضيات والحرفيات، يملكه تاجر دمشقي محنك وسليل عائلة تجارية. كان مبتهجاً: زمان لم يأتنا اللبنانيون الأكابر والذواقة. في السنوات الأخيرة (الله وكيلك)، شفنا نوع من اللبنانيين لا يسرون الخاطر. عملوا في السوق عراضات غريبة عجيبة.. وكان قصدهم إهانتنا بلا سبب.
كلامه يؤكده سائق التاكسي، عن أتباع حزب الله: “إذا هم قتلوا سيدنا الحسين لما تخلوا عنه، نحن شو ذنبنا؟”. في الطريق نشتري سندويشات الشاورما، ويقول بحرقة: “منذ سنتين ونصف لم أذق طعم سندويش لحم.. يلعن روحه”.
بين قصر الشعب وأسواق دمشق مسافة قصيرة، كانت بمثابة هوة عميقة ومظلمة بين الحاكم والمحكوم، فهل سيردمها الحكّام الجدد، ليحلو العيش والمشي في هذه المدينة المظلومة؟
(انتهى).
المدن
—————————–
============================