«سامي»: جاءني «قيصر» بصور ضحايا التعذيب فتقاسمنا الخطورة والهموم
قال إن «سرية المداهمة» قتلت أكثر من نصف الضحايا… وقتلى الفرع 227 الأكثر فقداً لعيونهم (1 من 3)
اريس: غسان شربل
30 ديسمبر 2024 م
على مدى 10 أعوام، انشغل العالم بمعرفة الهوية الحقيقية لرجلين: «سامي» و«قيصر». سرّب الرجلان مشاهد التعذيب في سجون نظام بشار الأسد، فصدر قانون «قيصر» الأميركي وحصلت محاكمات في أوروبا. وبعد سقوط الأسد، اختار «سامي» أن يكشف هويته الحقيقية للمرة الأولى، وهي أسامة عثمان، عبر «الشرق الأوسط». لكن قلق الرجل في اللقاء الأول القصير محدد الهدف وقتها لم يتح كتابة القصة الكاملة لـ«سامي» و«قيصر». فكان هذا اللقاء في باريس مع أسامة عثمان، ليروي لنا كيف وُلِد «قيصر» و«سامي»، ورحلتهما من ريف دمشق إلى محاكم العالم لملاحقة الجلادين.
* بماذا شعرت حين بلغك أن بشار الأسد فرّ من سوريا؟
– الحقيقة أننا حرمنا من أن نعيش الفرحة بسقوط بشار الأسد في لحظة حاسمة. لم يقل: أنا أستقيل أو أتنحى أو سأترك البلاد. هو بكل بساطة ركب طائرته وغادر البلاد. لا نعرف كيف ولم يتم تأكيد سقوطه في لحظة واحدة، وإنما عشنا أياماً عدة حتى نتأكد أن بشار الأسد فعلاً لم يعد في سوريا، وأن سوريا أصبحت سوريا فقط. سوريا الحرة وليست سوريا الأسد. لذلك كانت فرحتنا أيضاً مجتزأة وممتدة على مدى هذه الأيام تختلط بالأمل والخوف والرغبة والترقب، حتى تأكدنا أخيراً أن بشار الأسد قد رحل إلى الأبد عن سوريا.
«وصلنا يا قيصر»
* هل كان هذا رد فعل شريكك «قيصر» نفسه؟
– خلال هذه الأيام لم أتصل بـ«قيصر». كانت مشاعرنا متضاربة، ونحاول أن نصل إلى خبر أكيد بسقوط بشار الأسد، وما الذي ستؤول إليه الأمور. الحقيقة أن زحمة الأحداث والابتهاج المشوب بالقلق حرماني من أن أتصل بـ«قيصر» في هذه اللحظة التي خرجنا في سبيل الوصول إليها والتي تحققت أخيراً. بعد ذلك، ربما ومن خلالكم، أقول له: وصلنا يا «قيصر». تحقق ما كنا نحلم به وأسقطنا الأسد. ليس «سامي» و«قيصر»، وإنما دماء هؤلاء الشهداء في المعتقلات وخارجها، وجهود جميع السوريين الذين دفعوا الكثير من الدماء حتى وصلنا إلى هذه اللحظة اليوم. نحن أحرار، وسوريا حرة.
* هل شعرت أن جهد هذه السنوات الطويلة لم يذهب هدراً؟
– أشعر أن الشعب السوري دفع ثمناً أكبر بكثير مما يستحقه مجرم مثل بشار الأسد. هو لم يكن باقياً في منصبه طوال السنوات السابقة بذكائه ولا بقوته ولا بمحبة الشعب له، وإنما نعلم جميعاً أنه بقي بواسطة الآلة الأمنية القمعية لنظامه ولحلفائه وجميع أفراد الميليشيا المجرمة التي استجلبها إلى سوريا لتستبيح الدماء والأعراض والمقدرات.
* هل تعتبر حلفاء الأسد شركاء في التعذيب؟
– حلفاء الأسد هم شركاء في تدمير سوريا. لكن أنا من موقعي في منظمة حقوقية لدي ملفات تتعلق بمعتقلين ماتوا تحت التعذيب، لا أستطيع أن أقول إن من قام بتعذيب هؤلاء هي الجهة الفلانية أو الجهة الفلانية إلا ما تثبته الوثائق والأدلة الموجودة بين أيدينا. لكن بشكل عام من الناحية المنطقية، طبعاً هؤلاء كانوا شركاء في قتل كل من قُتل في سوريا. وكل قطرة دم سالت في سوريا، حلفاء الأسد شركاء فيها. كل من رفع يده في مجلس الأمن بفيتو ضد قرار يحرر السوريين من سلطة بشار الأسد وهيمنته ونظامه القمعي، هو شريك أيضاً.
الصورة الأولى ولحظة القرار
* متى ولدت فكرة جمع الأدلة على عمليات التعذيب في السجون السورية؟
– في بداية الثورة وبعد مضي شهرين تقريباً – أظن في مايو (أيار) 2011 – اتفقت مع «قيصر» على أن يتم جمع الصور التي ترده والتي كما قال لي حينها تظهر عليها آثار تعذيب شديد. وهذا الأمر لم يكن يحصل سابقاً في قسم الأدلة القضائية؛ لأن اختصاص القسم هو تصوير الحوادث التي يكون أحد أطرافها من مؤسسات الدولة، أو أبناء المؤسسات الأمنية والعسكرية في الجيش السوري بشكل طبيعي وروتيني.
بعد بداية الثورة أصبحت هذه الصور تتضمن أشخاصاً تظهر عليهم آثار تعذيب شديد وتدل على أن وفاتهم لم تكن بشكل طبيعي أو نتيجة حادث. كان «قيصر» في هذه المرحلة لا يريد أبداً أن يكون شريكاً حتى في تصوير هذه الفظائع. أراد أن ينأى بنفسه تماماً عن هذه الآلة المجرمة، إما عبر الانشقاق – وهذا يعرضه لخطر شديد ويعرض عائلته لهذا الخطر – وإما عبر التقاعد أو الاستقالة من الجيش بشكل ما.
في هذه الفترة، كانت لا تزال في ذاكرتي مشكلة المفقودين في مجزرة حماة عام 1982. لدينا في سوريا آلاف الحالات التي لم تعترف الدولة بأنهم اعتقلوا ولم تعترف بأنهم ماتوا. هؤلاء في نظر القانون مفقودون. والمفقود سيسبب مشاكل قانونية وإدارية في نقل الملكية وفي الإرث وفي الطلاق وفي حالات إنسانية كثيرة لعائلته وأبنائه وإخوته. هذه المشكلة كانت كبيرة جداً، والكثير من العائلات السورية عانت منها طوال عقود عدة، فتبادر إلى ذهني أن جمع هذه الأدلة ربما سيوفر لأهلنا السوريين الدليل على أن أبناءهم الذين فقدوا تم اعتقالهم من المظاهرات أو في الشوارع أو في المداهمات، وقد آل بهم الأمر إلى أن يصبحوا ضحايا تحت التعذيب.
رغم بشاعة الأمر، فإنه كان على الأقل سيوفر دليلاً قانونياً واضحاً وأيضاً مريحاً. يعني أنت لن تكون متوازناً نفسياً إذا فُقد لك قريب. (أما) عندما تعلم أنه مات، فلا حول ولا قوة إلا بالله. كانت تتصل بنا بعض الأمهات في مرحلة لاحقة، وتقول إحداهن: «يعني بس بدي أتأكد». تريد أن تصل إلى درجة من الارتياح وتتوقف هذه اللهفة وهذه الهواجس التي تعتريها أن ابنها تحت التعذيب أو أين هو الآن؟ ماذا يُفعل به؟
قررنا أن نقوم بجمع هذه البيانات. قلنا: ربما (بما أن) الثورة المصرية شهران وتونس ثلاثة أشهر. كذلك ربما بضعة أشهر وتنتهي الثورة في سوريا ونقوم بإعلان ما لدينا من وثائق لأبناء شعبنا في سوريا. طال الأمد وامتدت الشهور، وزادت آلة الإجرام للنظام في انتهاك دماء وحرمات السوريين ومقدراتهم. هنا انتقلنا إلى جمع هذه البيانات بشكل رتيب. حتى لم نكن نفكر ماذا سنفعل بعد ذلك. كنا نعيش خوفاً ونسمع القصف العشوائي، وأيضاً المداهمات العشوائية للنظام.
* حين أراك «قيصر» الصورة الأولى، ماذا كان رد فعلك؟ كان عليك أن تتخذ قراراً، إما تناسي هذا الموضوع أو السير فيه. بماذا شعرت؟
– النظام السوري يُتوقع منه كل شيء، ونحن مستعدون نفسياً منذ البداية لمواجهة نظام مجرم لأن ما حصل في الثورة السورية من عمليات اعتقال وقتل تحت التعذيب هو أمر ليس جديداً. الجديد هو الزخم وزيادة عمليات القتل بهذا الشكل الذي رأيناه حتى كادت تصل إلى العشرات يومياً. كان يصل إلى «قيصر» قبل أن يترك عمله عدد كبير من الجثث يومياً للتصوير. أؤكد أن ما تم في الثورة السورية كان يمارسه النظام لعقود بحق السوريين في السجون المختلفة، نظام حافظ الأسد ثم بشار الأسد. الذي حصل الآن أن هذا الأمر ظهر إلى العلن نتيجة الثورة السورية، ونتيجة ما أصبح لدينا من تكنولوجيا متطورة.
* ماذا قلت لـ«قيصر» حين رأيت الصور؟
– في البداية، شعرت بالخوف على «قيصر»؛ لأنه كان من الممكن في أي لحظة أن يتحول إلى صورة مثل هؤلاء. قررت مباشرة أنه ينبغي أن نقوم بجمع هذه الصور، لأن العمل الذي يقوم به «قيصر» والقسم الذي هو فيه في المؤسسة العسكرية التي يعمل بها يمكن من خلاله أن نجمع بيانات كثيرة تفيدنا فيما بعد. وكما ذكرت سابقاً لم أكن بهذه اللحظة، لا أنا ولا «قيصر»، نفكر بأن يتطور الأمر إلى قضاء عالمي، وإلى محاولات محاصرة النظام بهذه الجرائم.
* هل كان «قيصر» متحمساً؟
– «قيصر» كان أمام خيارين: إما أن يترك العمل وهذا يعرضه للخطر ويعرض أهله للخطر، أو أن يجد طريقة قانونية للانسحاب من هذا العمل. لكن هو بنفسه كان يرى أن قرار الانسحاب لا يليق بنا ولا يليق بأهلنا. يعني أنا لم أضغط على «قيصر» كي يستمر في العمل طبعاً. هذا كان قراراً مشتركاً وبتوافق وقناعة من الطرفين. تقاسمنا الخطورة وتقاسمنا الهموم، وتقاسمنا العمل في الداخل وفي الخارج أيضاً.
* هل فكرت أن هذا الموضوع قد يكلفك حياتك في أي لحظة؟
– نظام الأسد يشكل خطراً وتهديداً على حياة كل إنسان في سوريا، سواء ارتكبت شيئاً أو لم ترتكب. يعني عندما تقوم بقصف مدينة بصواريخ «سكود» أو بالبراميل المتفجرة أو بمدفعية الهاون ومدفعية الميدان، فأنت بالتأكيد تشكل خطراً على جميع المدنيين الموجودين في مرمى هذه الأسلحة. لذلك لم نكن نحن بمعزل عن هذه الصورة، ولم نكن منفصلين عن هذا الواقع. نحن نتعرض لهذا الخطر بشكل دائم، وحتى قبل الثورة. ربما الثورة هي التي أفضت إلى تسريع هذه العملية وإظهار إجرام النظام.
أسامة عثمان خلال المقابلة مع رئيس تحرير «الشرق الأوسط» غسان شربل (الشرق الأوسط)
قيامنا بهذا الأمر، وهو أرشفة هذه البيانات، رتّب علينا خطورة مضاعفة بشكل مؤكد، لكن في خضم هذه الثورة التي يدفع فيها الجميع دماءهم في سبيل الحرية، لم أفكر يوماً أن هذا الأمر الذي أقوم به وهذا الخطر الذي يترتب عليه هو أمر زائد على الآخرين. بالعكس، أنا كنت أجد أنني أقوم بدوري على طريقتي الخاصة في هذه الثورة.
توسيع المجموعة على حسب الحاجة
* في البدايات من كان يعمل في إطار هذا الموضوع؟ أنت و«قيصر» فقط؟
– في الأشهر الأولى، نعم. كان الأمر كما ذكرت سرياً للغاية، حتى على عائلاتنا وأهلنا وبيوتنا. بعد ذلك، كان لا بد من بناء فريق يحيط بنا لتأمين الحماية لي ولـ«قيصر»، وتأمين الكثير من الخدمات التي تحول دون فقدان هذه البيانات فيما لو قُتل أحدنا أو كلانا. لذلك بدأ الفريق يتوسع بعد شهرين أو بعد الأشهر الثلاثة الأولى، وامتد بنا الأمر وأصبح هذا الفريق الأساسي الذي تشكّل في سوريا يضم إليه أشخاصاً آخرين في مراحل مختلفة، حسب الهدف الذي نريد أن نحققه في الداخل أو بعد أن خرجنا.
* كيف حافظتم على السرية في الفريق؟
– السرية الحقيقية لم تكن مطلقة. لا أستطيع أن أزعم أنني كنت محاطاً بسرية كاملة إلا في المرحلة الأولى. يعني في المرحلة التي سبقت خروجنا من البلاد، كان عدد الأشخاص الذين يطلعون على هذه البيانات محدوداً جداً. تقريباً 6 أشخاص، منهم أخي و«قيصر» و3 أشخاص آخرين. وطبعاً زوجتي كانت على اطلاع بهذا الأمر. فإذا أردت أن تحصيهم فهم 7 أشخاص.
* تحركت لأنك شاهدت هذه الصور. أين كانت الصورة الأولى؟ من سجن صيدنايا مثلاً؟
– الصور كانت تأتي من قسم الأدلة القضائية في فرع الشرطة العسكرية، وهذا الأمر يعني أن هذه الصور تتبع الضحايا الذين يتم قتلهم تحت التعذيب في فروع الأمن المنتشرة في مدينة دمشق. ليست لدينا صور مكتوب عليها أو محددة بأنها صور صادرة عن سجن صيدنايا.
«قيصر» مخفياً هويته بمعطف أزرق خلال جلسة نقاش في الكونغرس الأميركي لقانون حماية المدنيين السوريين (أ.ف.ب)
الفرع 227 والعيون المفقودة
* ما هو الفرع الأكثر قسوة؟ هل اختلف التعذيب بين فرع وآخر؟
– بعد أن قمت بأرشفة الصور الأرشفة البدائية، وهي أن أقوم بفرز الصور حسب تبعيتها للفرع، تبين لي أن ما يزيد على 50 في المائة من الضحايا يعودون إلى الفرع 215. هذا الفرع يسمى «سرية المداهمة». هو في الأساس ليس فرعاً أمنياً، وإنما هو سرية مداهمة واقتحام يفترض أنها تقوم بالتعاون مع بقية الفروع الأمنية. لكنها تحولت إلى ما سُمي فيما بعد بـ«الفرع 215»، الذي قام بأكثر من 50 في المائة من عمليات قتل المعتقلين تحت التعذيب، لكن ما لفت انتباهي أن المعتقلين في الفرع 227 كان فيهم نسبة كبيرة من الأشخاص الذين فقدوا عيونهم. لا أستطيع أن أقول ولا أدعي أن هذه العيون انتزعت انتزاعاً من محاجرها، أو أنها تعرضت (لذلك) عندما تم إلقاؤها في العراء. كانت هناك الحشرات التي تقوم بأكل العيون في محاجرها، وهذا نلاحظه من عدد كبير من الصور لتجمع الحشرات على العين بشكل واضح في صور اللقطات القريبة. فربما يكون جفاف العين هو الذي أدى إلى أن يظهر الضحية وكأن عينه مفقودة، أو نتيجة هذه الحشرات التي تقوم بأكلها.
* هل تم معظم القتل بالرصاص أم بآلات حادة؟
– لا يمكنني أن أعطي إجابة لهذا السؤال لأنها مرهونة بالأطباء المختصين بهذا الأمر. ربما يكون لي رأي، ولكن بوصفه ملفاً حقوقياً لا أستطيع أن أقول فيه بالرأي والظن، لذلك قمت بعد أن وصلت إلى أوروبا بتزويد السلطات الألمانية بنسخة كاملة من هذا الملف كي تعمل على تدقيق هذه البيانات. اليوم عندما أقول إن هذه الوثيقة تدين بشار الأسد، لا يكون لكلامي قيمة لأنني لست صاحب اختصاص. لذلك أردت أن أضفي هذه القيمة على «ملفات قيصر» بأن أخرجها من أي تداول إعلامي أو سياسي إلى سياق قانوني بحت، فلجأت إلى السلطات الألمانية والفرنسية. وطلبت حتى من هذه السلطات أخذ شهادتي، حتى إذا تعرض «سامي» لأي مكروه لا تُفقد المعلومات التي يملكها.
في ألمانيا تم تأكيد أن هذا الملف صحيح وحقيقي، وأنه يعود إلى السلطات في سوريا.
* متى تم ذلك؟
– هذا الكلام كله بعد 2015. التواصل مع السلطات الألمانية تم عن طريق مكتب «المركز الألماني للحقوق والحريات الدستورية» بمساعدة محامي صديق سوري اسمه إبراهيم القاسم، عمل معنا في تلك الفترة. وقدمت شهادتي وسلمت نسخة من الملف إلى المدعي العام الاتحادي. بعد ذلك بعام أو أكثر، تم تأكيد أن هذا الملف ملف تعذيب ويشكل انتهاكات لحقوق الإنسان، وأن المسؤول عنه حكومة النظام السوري.
امرأة وأطفال ومرضى بين الضحايا
* هل هناك أطفال ونساء بين صور الضحايا؟
– القسم الذي يسمى «الضحايا تحت التعذيب» في هذا الملف توجد فيه صورة لامرأة واحدة. أما الأطفال، فإذا كنا نتكلم عن الأشخاص دون الثامنة عشرة، فنعم يوجد – ليس فقط أطفال – وإنما يوجد أيضاً مرضى كان واضحاً أنه تم انتزاعهم من المشافي أو تم قتلهم في المشافي، لا أستطيع أن أجزم، ولكن الأجهزة الطبية التي تجدها على أجسادهم مثل الأنابيب في الذراع وملصقات قياس الضغط ودقات القلب والقسطرة وغيرها، و«أكياس السيروم»، وكل هذه تدل على أن هؤلاء كانوا مرضى يتلقون العلاج بطريقة أو بأخرى ثم قُتلوا.
* حين كانوا يقتلون معتقلاً معيناً، ماذا يُسمّون العملية؟
– يكتبون على الملف: وفاة الموقوف رقم كذا فقط.
* من دون شرح الأسباب؟
– فيما بعد يتم تنظيم ضبوط بالضحايا. هذه التفصيلة بالذات أحب أن يقولها «قيصر» بنفسه عندما يقرر أن يظهر، لأنها هي صلب عمل «قيصر». يعني هذا السياق الدقيق من العمل داخل فرع الأمن العسكري أو الشرطة العسكرية؛ فهذا يعود إلى «قيصر»، فإذا تكلمت أنا إنما أتكلم نقلاً أو أتكلم بما سمعت. ولا أستطيع أن أقول بما لم أره؛ لأنني تقدمت كما ذكرت سابقاً بشهادات حقوقية أمام القضاء الألماني وأمام وحدة مكافحة جرائم الحرب الفرنسية.
لذلك لا ينبغي أن أخوض في أي تفاصيل قد تسيء إلى المسار القانوني، لأن العمل الحقوقي والأدلة القضائية ينبغي لهما ألا ينتهكان على صفحات التواصل الاجتماعي وعلى شاشات الإعلام بشكل يفقدهما قيمتهما القانونية. الشعب السوري يعرف ما أقول تماماً، لأننا عانينا كثيراً من فقدان القيمة القانونية لأدلة قاسية جداً، كانت عندما تصل إلى المحكمة تكاد قيمتها القانونية أن تكون معدومة.
* كم تقدر عدد الصور التي احتواها الملف؟
– الملف يتضمن صوراً لضحايا قتلوا تحت التعذيب. ولكل صورة لقطات عدة. أحياناً قد تكون لجثة واحدة لقطتان إلى 5 أو 6 لقطات، حسب الإصابات والعلامات المميزة في جسم الضحية، لذلك لدينا أقل من 27000 لقطة لأقل من 7000 ضحية.
رحلة الخروج من سوريا
* متى توقف جمع الأدلة؟
– في نهاية عام 2013، أصبح هناك خطر كبير على الأشخاص القائمين على هذا الملف وعلى البيانات التي بحوزتنا. كان يمكن أن نبقى ونحصل على بيانات أكثر، ولكن عندما تقارن خطورة الوضع الذي أنت فيه بفائدة أن تجمع صوراً أكثر، تجد أنه من الأنسب أن تخرج بما لديك قبل أن تفقد ما لديك وأن يفقدك أهلك.
* خرجت بأي تاريخ وكيف؟
– أنا لم أكن مطلوباً للنظام. خرجت بشكل طبيعي لاتجاه لبنان في نهاية عام 2013، بعد ذلك تبعتني العائلات و«قيصر»، وانتهت عملية التوثيق. ليست لدينا وثائق بعد سبتمبر (أيلول) 2013. أمضيت في بيروت أقل من أسبوعين. وتنقلت في دول عدة، واستطعت إخراج العائلات وإخراج «قيصر» أيضاً. بعد ذلك كانت محطة مميزة جداً في عمر هذا الملف في قطر.
* هل خرج «قيصر» إلى بيروت أيضاً؟
– «قيصر» لم يكن معي حين خرجت. كنت أنا وشخص آخر. كان «قيصر» في سوريا، ولا يزال على رأس عمله. لم يذهب إلى بيروت، ولا أريد أن أجيب على أسئلة دقيقة حول حركة «قيصر» في فترة خروجه، وأترك هذا له وأيضاً للمحامين.
* تحدثت عن محطة الدوحة. ماذا جرى فيها؟
– في محطة الدوحة كنت أنا و«قيصر» وبعض الإخوة. تم التأكد مرة أخرى من أن هذا الرجل فعلاً كان موظفاً في النظام السوري في المؤسسة العسكرية، وأن هذه الصور حقيقية غير مفبركة، وهذه مرحلة كانت قبل أن أقوم أنا بتسليم نسخة من هذا الملف إلى السلطات الألمانية. هنا، كانت الشرارة الأولى، وهنا كانت ولادة «سامي» و«قيصر».
ولادة اسمي «قيصر» و«سامي»
* من سمّاكما «سامي» و«قيصر»؟ هل أنتما من اخترتما الاسمين؟
– قيصر هو «الشاهد الملك»، كما يقولون، باعتبار أن هذه قضية والشاهد الأهم والأخطر فيها هو «قيصر». في اللغة العربية نقول: «الشاهد الملك»، وهذه كلمة طويلة. الملك ربما يكون كأن نقول «قيصر»، فليكن «قيصر» إذن. لا أستطيع أن أذكر مَنْ مِنَ الحاضرين اقترح هذا الاسم ومن وافق عليه، لكن في النهاية تم إقرار أن هذا هو «قيصر».
* و«سامي»؟
– التفت الحاضرون إليّ وقالوا: وأنت يجب أن يكون لك اسم. اقترحوا أسماء عدة وجدتها غير ذات دلالة وطويلة، فضلت أن أكون «سامي». كان عندي صديق مقرب جداً وأحبه، ربما لم ألتقه الآن منذ 15 عاماً. فقلت «سامي». هذا أيضاً سيكون سهلاً في اللغات الأخرى.
* هل طالت إقامتكما في الدوحة؟
– كانت إقامة محدودة.
* ثم إلى أوروبا؟
– ثم إلى تركيا، ومنها إلى أوروبا.
سنوات ضعف الثورة
* هل تلقيت دعماً من دول أم من منظمات؟ هذه الحركة تحتاج إلى أموال وحماية.
– نحن كأشخاص لم نتلق هذا الدعم. كنا في هذه المرحلة نتعامل مع مجموعة من السوريين في المعارضة وهم قاموا بترتيب هذه اللقاءات من دون أن نكون نحن على علاقة مباشرة مع الجهة المضيفة. يعني أنا في قطر لم أجلس مع الإخوة في الحكومة القطرية بشكل مباشر أبداً. بعد ذلك انتقلنا إلى تركيا. ونحن هنا أشخاص ولسنا منظمة، ولسنا جهة نتلقى تمويلاً أو تحتاج إلى مساعدات أو أي شيء. بعد تركيا انتقلنا إلى أوروبا، وأصبحنا نتصرف كأفراد نحمل هذا العبء. متطوعون منذ اليوم الأول في الثورة، وحتى اليوم.
لاحقاً، حين وجدت أن وتيرة الاهتمام بالملف السوري أصبحت منخفضة جداً، والأرض في سوريا بدأت تعود للنظام بعد التدخل الروسي، وانحسر الاهتمام الدولي بالملف تدريجياً. في هذه المرحلة تساءلت: لماذا تحملت هذه المخاطر وحملت هذه المخاطر لأهلي ولمن هم حولي من دون أن أحصل على فائدة؟ هل الفائدة أن أذهب إلى أوروبا وأصبح لاجئاً هناك؟ هذا ليس ما خرجت لأجله، ولا ما أريده لي ولأبنائي. كانت هناك مهمة أصبحت تذوب أمام عيني وتتفكك. أحسست أنني أخسر هدفي وأخسر السبب الذي خرجت من أجله، لذلك بادرت بشكل مباشر بالتواصل مع السلطات الفرنسية، وقلت لهم: أريد أن أعطيكم نسخة من الملف، وأريد أن أتقدم بشهادتي أمام وحدة مكافحة جرائم الحرب الفرنسية، وقد كان.
فرنسا لم تكن تعمل بمبدأ الولاية القضائية العالمية، يعني إذا لم يكن المجرم أو الضحية فرنسياً أو مقيماً على الأراضي الفرنسية، فإن القضاء الفرنسي لا يستطيع أن يقيم محاكمة. الدولة التي تتحقق فيها هذه الشروط هي ألمانيا. بدأنا برحلة لدعم مسار حقوقي يرسخ مبدأ أساسياً وهو أن هذا النظام مجرم ارتكب انتهاكات حقوق إنسان، وارتكب أعمال إبادة جماعية، والهدف من هذه الحركة أن نحول دون إعادة تلميع هذا النظام بأي شكل من الأشكال، مهما كانت المستجدات على الأرض السورية، سواء كان متغلباً عسكرياً أو حتى لو كان مقبولاً سياسياً من بعض الدول. وضعنا العصا في العجلة وأوقفنا عجلة التطبيع مع النظام، وجعلنا من الصعوبة بمكان أن يُعاد تسويقه.
السياسة لا تعمل بالمبادئ الأخلاقية، لكنْ لدينا ملعب حقوقي يمكن أن نعمل فيه، وبأضعف الوسائل. وقد كان. لذلك أصبح «ملف قيصر» هو العقبة الوحيدة لسنوات عدة من ضعف الثورة السورية وانصراف العالم عنها. كان «ملف قيصر» في هذه اللحظة هو العقبة الوحيدة أمام فرش البساط الأحمر لبشار الأسد في عواصم العالم.
ولذلك رأيت أن نقوم بتشتيت الخطر، فعندما يكون هذا الملف في حوزة أشخاص محدودين، ولا يقومون بأي عمل أو ربما يقومون في المستقبل بأي عمل، قد يُستهدف هؤلاء الأشخاص. لكن عندما تحول هذا الملف إلى مسألة دولية ومسألة حقوقية وتعطي شهادتك، وتعطي نسخة من هذا الملف إلى الجهات التي يمكن أن تعمل عليه وليس جهة واحدة، فأنت تشتت الخطر الذي قد تتعرض له كشخص.
كواليس «قانون قيصر»
* من صاحب فكرة الذهاب إلى أميركا؟
– لم تكن لدينا فكرة أن نذهب إلى أميركا. حصل ضغط علينا من بعض المنظمات السورية العاملة في الولايات المتحدة لعرض هذه القضية على الإدارة الأميركية. كان عندي قناعة أن إدارة الرئيس باراك أوباما لا تريد أن تفتح هذا الملف وغير مهتمة بفتحه، فعندما كنت في الأردن، وصلت الصور الأولى من هذا الملف إلى مكتب الخارجية الأميركية عن طريق عضو مجلس شعب منشق عن النظام السوري اسمه محمد برمو. ولم تبد الخارجية الأميركية أي اهتمام بهذا الأمر إطلاقاً.
بعدها بسنة تقريباً تم الضغط علينا من قبل المنظمات السورية الموجودة في الولايات المتحدة. هم يعلمون تماماً كواليس صنع القرار في الولايات المتحدة ويعرفون كيف يستطيعون أن يصنعوا فارقاً وأثراً باستخدام هذا الملف، حتى لو كان الجالس في البيت الأبيض لا يريد. كانت معركة طويلة خاضها إخوتنا في المنظمات السورية في الولايات المتحدة، وتُوّجت بما سُمي فيما بعد بـ«قانون حماية المدنيين السوريين»، الذي أطلق عليه اسم «قانون قيصر».
* هل تعتقد أن «قانون قيصر» ساهم مساهمة كبيرة في تقويض النظام السوري؟
– هذا السؤال معطل إلى حد كبير. ربما يحتاج إلى دراسات لكي تحدد فعلاً ما الذي فعله «قانون قيصر» بالنظام السوري، لكن بالتأكيد «قانون قيصر» جعل من الصعب على النظام السوري أن يعيد تأهيل آلته العسكرية، وأن يستطيع دعم قواته و«شبيحته» وحتى قوات الميليشيا التي استعان بها من دول أخرى في المزيد من أعمال القمع والقتل في سوريا.
في النهاية هذا القانون هو قانون أميركي يتقاطع مع مصلحة السوريين في نقاط عدة فقط، ولا أقول أبداً إن «قانون قيصر» هو ثمرة «ملف قيصر» فقط. هناك جهود كبيرة بذلت من المنظمات السورية في الولايات المتحدة حتى وصلوا إلى هذه المرحلة وسمي باسم «قيصر»؛ تشريفاً وتكريماً لهذا الرجل، وليس لأن القانون هو امتداد للملف.
غداً حلقة ثانية
الشرق الأوسط