سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 30 كانون الأول 2024
لمتابعة التغطيات السابقة
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 29 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 28 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 27 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 26 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 25 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 23 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 22 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 21 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 20 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 19 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 18 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 17 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: المصاعب والتحديات، مقالات وتحليلات 16 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مهام اليوم التالي، مقالات وتحليلات 15 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 14 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: سقوط الديكتاتور الفار بشار الأسد مقالات وتحليلات
———————————–
في وداع السجن الأسدي والدولة السرّية: العَلنيّة بوصفها خروج سوريا من اعتقالها المديد/ ياسين الحاج صالح
30-12-2024
متنُ هذه المقالة القصيرة مكتوبٌ قبل نحو عام ونصف، وهي لا تكاد تُضيف جديداً بخصوص السجن الأسدي. لكنها بمثابة وداع شخصي، يُرجَى أن يكون نهائياً، للدولة السجن ولسياسة السجن التي رزحت سورية تحت وطأتها طوال أكثر من جيلين.
* * * * *
(كان) لدينا في سورية منظمة سرية خطيرة، اسمها الدولة، هي كذلك منظمة فئوية وعنيفة وفاسدة. إنها باختصار لا دولة، أو دولة مضادة، هذا إن كان يُتوَقَّع من الدولة أن تكون علنية، عامة، ضامنة لأمن الأفراد والسلم الاجتماعي، وقامعة للفساد. وأول ما يحتاج غيرُ السوريين إلى وضعه في البال عند الكلام على سورية أن النظام حَكَمَ البلد منذ 54 عاماً، هي أكثر من كامل نصف تاريخ سورية، وأن الممارسات الاعتقالية والسجنية يجب أن يُفكَّر فيها في ارتباط بالأطوار الفرعية ضمن هذه الزمن الكابوسي الطويل.
بناء على خبرة شخصية، ثم على مباحث تتوفر أكثر وأكثر عن هياكل بعض أجهزة النظام، يمكن التمييز بنيوياً بين دولتين في سورية، واحدة ظاهرة وواحدة باطنة، واحدة عامة جامعة وواحدة خاصة مُطيَّفة، واحدة ذات هياكل بيروقراطية تعمل وفقَ قواعد معلومة والثانية بهياكل عنف تعمل بلا قواعد معلومة، واحدة معروفة والأخرى محجوبة وسرّية ولا يجوز الكلام عليها. الأخيرة بينهما، الباطنة والخاصة المُطيَّفة وغير المنضبطة بقواعد والمحجوبة هي مقر السلطة الحقيقي. التقرير الذي أصدرته رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا في تشرين الأول 2022 عن «الهيكلية الإدارية لسجن صيدنايا وعلاقاته التنظيمية» يتكلم على أن معيار قوة الأشخاص العاملين في هذا الجهاز لا يعود إلى «المركز الإداري والموقع الهرمي في [تراتبية] السجن»، بل إلى «قُرب الرجل من رأس النظام» أو من أقوى النافذين في مركز السلطة. التقرير يتكلم، بالمناسبة، على 30- 35 ألف ضحية في هذا «المسلخ البشري» مثلما كانت منظمة العفو الدولية قد وصفته في تقرير شهير في مطلع 2017 (قَدَّرت المنظمة عدد الضحايا المحتملين وقتها بنحو 13 ألفاً). أُعدِمَ بعض الضحايا، وقُتل بعضهم بالتعذيب ومات بعضهم جوعاً أو مرضاً.
هذه الثنائية البنيوية عامة في سورية، وتُميّز النظام السوري عن الدول العربية كلها. وما يهم فيما يخص العلاقة بالسجن هو أنه كان هناك سجونٌ ظاهرة وسجونٌ باطنة. السجون الظاهرة معروفة، يغلب أن يُزار السجناء فيها، وكان السجناء اليساريون فيها معظم الوقت، والباطنة هي سجون تعذيب، أُحيل إليها الإسلاميون كقاعدة ولكن قضى يساريون من أمثالنا أوقاتاً بالسنوات فيها.
الاعتقال تتولاه أجهزة أمنية تمارس التعذيب روتينياً، ولا تُعرِّف بنفسها وقت الاعتقال ولا تعرض أمر توقيف مُوقَّع من سلطة قضائية أو سياسية. يختفي المعتقل لفترات تتفاوت قبل أن تستطيع الأسرة معرفة أين هو أو هي إن كان في سجن ظاهر. أما إن كان في سجن باطن، فيغلب ألا يُزار ولا يُعلَم مصيره، القلّة الذين جرت زيارتهم دفعت الأسر مبالغ طائلة، ربما وصلت إلى سيارة مرسيدس أو بي أم دبليو جديدة، حين كان هذا نادراً وباهظ الكلفة في سورية، على ما أورد محمد برّو في كتابه ناجٍ من المقصلة. حال المعتقلين في السجون الباطنة هي بالتالي حال غياب قسري، وليس حبساً. ثم أنه يحدث أن يقتل المعتقل دون أن تعلم الأسرة لسنوات طويلة. في كتاب برّو نفسه، يروي المؤلف الذي قضى ثماني سنوات في سجن تدمر (ونحو أربع سنوات في صيدنايا)، أن صديقه خلدون قُتل في لحظاتهما الأولى في معسكر التعذيب الرهيب ذاك عام 1980، لكن العائلة لم تعرف بالأمر حتى سمعتْه هو يتكلم عنه في برنامج تلفزيوني بعد 35 عاماً من الواقعة. لأول مرة صلّت الأم الثاكلة صلاة الميت على ابنها، بكته، ثم «نامت قريرة العين هادئة البال» بحسب الكاتب.
لكن حتى حين يكون السجن معروفاً، مثل سجنَي المسلمية في حلب وعدرا في دمشق، فإن سيرتهما وسيرة المعتقلين السياسيين فيهما مُلفَّعة بالسرّ ولا تُذكَر في أي منابر عامة، وعلى المرء أن يكون حذراً عند ذكرها في أوساطه الخاصة. يجري إبقاء هذه السيرة شأناً يخص العائلات وحدها، ولا يخص المجتمع ككل.
لذلك ليست المسألة أن هناك سجوناً سّرية وسجوناً علنية، تجربة السجن كلها ذات صفة سرّية شديدة، بعضها أكثر سرّية، مثل تدمر ذاته وسجن أبو الشامات الذي يبدو أنه كانت تجري فيه تجارب على الأسلحة الكيماوية في ثمانينيات القرن الماضي بحسب كتاب محمد برّو، لكن ليس بينها ما هو علني، أي ما هو مؤسسة عامة وما يجري تداول عام بشأنها.
وعبر السنوات، صارت السرية والتكتم والتحفظ و«التُقْيَة» خصائص للمجتمع السوري ذاته بفعل مأسسة الاعتقال السياسي والتعذيب، وانتشار الأذرع الأمنية، بمن فيها المخبرين. يمكن وصف الدولة الأسدية الباطنة بأنها الدولة الجاسوس، تتجسس طوال الوقت على محكوميها وتراقبهم وتكتب التقارير الأمنية عنهم.
هناك موجتان اعتقاليتان تعذيبيتان سجنيتان كُبريان في تاريخ «سورية الأسد». واحدة بين أواخر السبعينيات ومطلع الثمانينيات، وتُوِّجت بمذبحة حماه 1982، وقد يكون سقط فيها 20 ألفاً أو أكثر من سكان المدينة. وكان معظم المُعتقلين في هذه الموجة الكبيرة الأولى مرتبطين بصور مختلفة بمنظمات سياسية، يسارية أو إسلامية أو قومية عربية أو قومية كردية. الموجة الثانية واكبت الثورة السورية، والمعتقلون فيها في أكثريتهم الساحقة مواطنون ثائرون أو من مناطق ثائرة، تعرّضوا لتعذيب شديد، وقُتل الألوف منهم تحت التعذيب وأعدم الألوف. قلة فقط من معتقلي الثورة أُحيلوا إلى سجون معروفة ويُزارون. لقد كان نهج النظام في مواجهة الثورة إبادياً، ابتداءً من عام الثورة الثاني. ولا يتعلق الأمر بإبادة أفراد مهما كثر عددهم، بل بتحطيم بيئاتهم الاجتماعية، بما في ذلك عبر استهداف النساء بالاغتصاب والتعذيب، وتكميل أثر الحصار والبراميل المتفجرة والمجازر. ويتوافق هذا الوجه الإبادي مع تَحوُّل مهم طرأ على الدولة الأسدية بعد الثورة، تَمثَّلَ في تَقلُّصها بقدر كبير إلى دولة باطنة، أي سلطة تعذيب وتغييب وقتل، في التعامل مع الثائرين عليه، وبالتالي انمحاء الفرق بين الاعتقال والتغييب القسري، وبالتالي مجهولية مصير معظم المعتقلين.
وبسبب التوسُّع في الاعتقال والتعذيب، استُخدِمَت أجهزة متعددة للتوقيف، منها الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد والحرس الجمهوري، ومجموعات الشبيحة، فضلاً عن الأجهزة المعروفة من قبل. واحتُجز المعتقلين في أماكن مثل مطار المزة وفي سجون غير معلومة.
بعد الثورة السورية ظهرت سلطات هنا وهناك، إسلامية وكردية، ولديها سجونها ومقرّات اعتقالها، ومعظمها غير معروف ولا يخضع لإشراف حقوقي. وممارساتها أقرب إلى التغييب القسري منه إلى التوقيف والحبس في أماكن معلومة ووفقاً لقواعد مضبوطة.
كان لداعش سجون مختلفة، ومن المحتمل أن الدواعش قتلوا الألوف ممن اعتقلوهم، خطفاً من الشارع في الغالب. لا يزال مصير أكثرية مُغيَّبي داعش غير معلوم، ومنهم عبدالله الخليل وفراس الحاج صالح واسماعيل الحامض والثائر السوري والراهب الجزويتي الإيطالي باولو دالوليلو وكثيرين غيرهم. عند داعش يختفي الفرق بين الاعتقال والتغييب القسري، وهو كذلك الميلُ العام عند النظام بعد الثورة، مثلما قلنا للتو. تكلّمت الشبكة السورية لحقوق الإنسان في أحدث تقاريرها (آب 2024) على أكثر من 113 ألف مغيب، وقالت إن النظام مسؤول عن تغييب 85% منهم.
وكان لدى جيش الإسلام، وهو تشكيل سلفي محلي ظهر في دوما القريبة من دمشق عام 2012، عدة سجون كلها سرية، تندرج ضمن جهاز اعتقالي تعذيبي اسمه التوبة، يجري تعذيب المعتقلين فيه باستخدام «الأخضر الإبراهيمي»، الاسم الذي يستخدمه جلادو النظام لوصف أنبوب مياه سميك، أخضر اللون، يُستخدَم في التعذيب. ومن المُغيَّبين لدى جهاز التوبة الإجرامي سميرة الخليل ورزان زيتونة ووائل حمادة وناظم حمادي منذ ما ينوف اليوم على 11 عاماً. ويعرض هذا التشكيل السلفي الميل العام نفسه إلى زوال الفرق بين الاعتقال والتغييب، ومع الأخير مجهوليةُ المصير.
ولدى هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) سجون متعددة في مجال سيطرتها في إدلب، وقلّما يتمتع المعتقلون بحقوق فيها. وكذلك تعتقل سلطة «الإدارة الذاتية» من يعترضون على حكمها أو ينتقدونه، وحدث أن قُتل معتقلون تحت التعذيب أو تركوا ليموتوا.
ورهان السلطات في جميع هذه الأمثلة يبدو إقامة حكم واحدي، شبيه بالحكم الأسدي.
ما يمكن بناؤه على ما تَقدَّمَ هو أن السجون كلها خارج القانون، خارج الرقابة الحقوقية والإعلامية، وهي بالتالي ليست مؤسسات عقابية عامة. المسألة بالتالي ليست سرّية السجن، بل سجنَ السرّية الذي تعيش سورية في ظلمته القاتمة منذ عقود، والذي تتشبّه به سلطات الأمر الواقع في السوريات الأربعة القائمة اليوم. والسرّية هذه ليست مجرد شرط تقني للدولة والسياسة في سورية، بل هي جوهر الدولة المخصخصة وركيزة سياستها، إلى جانب العنف التعذيبي. والقصد من السرّية هو أن يكون المجتمع مكشوفاً بالكلية أمام قوة حكم خاصة، تراه دون أن تُرى هي، مثل البانوبتيكون الذي تكلَّمَ عليه فوكو في المراقبة والعقاب.
لقد جرى تطبيع الترابط بين كلمتي الأمن والسرّية عبر ما يقترب من ستين عاماً هذا بينما يُفترَض العكس، أي أن يكون الأمن عاماً وعلنياً. لذلك، العلنية ليست مطلباً شكلياً في بلد مثل سورية، إنها خروجٌ من السجن، وهذا بقدر ما إن السرّية سجنٌ هي ذاتُها، وأولُ الحرية هو الخروج منها.
موقع الجمهورية
——————
سقوط الأبد: كيف سيكون حال الثقافة في سوريا الجديدة؟ «2»/ محمد تركي الربيعو
تحديث 30 كانون الأول 2024
تمكن حافظ الأسد في فترة الثمانينيات من القضاء على كل المنافسين له في السلطة، وبالأخص بعد ما عرف بمجزرة حماة، التي أودت بحياة عشرات الآلاف من المدنيين. في هذه الأثناء، وتحديدا عام 1984، وضع أول تمثال للأسد أمام مكتبة المدينة العامة، وظهر الأسد في التمثال جالسا مع كتاب على حضنه، ليوحي للناظر بأنه العالم الذي يضرب به المثل. لاحقاً لاحظت الأنثروبولوجية الأمريكية ميريام كوك في كتابها «سوريا الأخرى: صناعة الفن المعارض» أن كلمة الثقافة في سوريا غدت مرتبطة بظاهرة عبادة الرئيس، وأن النظام السوري كان كغيره من الأنظمة الفاشية، يسعى إلى كبت أي أفكار بديلة.
مع ذلك، استطاع عدد من المثقفين السوريين من مقاومة هذا الخطاب، عبر اللجوء لأفكار ورسائل بديلة في الأفلام والأدب والفن، أو الدعوة إلى إجراء تغييرات واسعة، دون الخوف من الاعتقالات والسجن. ولم يتغير واقع المؤسسات الثقافية مع قدوم بشار الأسد، الذي فرّ قبل عدة أيام. إذ بقي النظام يسعى لدعم سرديته، مع ذلك كان العالم يتغير، وأخذت الصحون اللاقطة، والإنترنت لاحقا، تتيح لشرائح واسعة من السوريين التعرف على ثقافات وتجارب أخرى، مختلفة عن ثقافة بلادهم. ترافق ذلك أيضا مع ولادة أجيال جديدة، أكثر ارتباطا بالعالم وثقافته، وهي عوامل لعبت دوراً في اندلاع ثورة 2011 الشعبية ضد النظام.
جاء صباح يوم 8/12/2024، ليعلن هروب الأسد الابن، وسقوط نظامه، بعد 14 عاما من صمود الشارع. وخلال دقائق، بدا أن كل شيء يتغير، وأخذ الآلاف من السوريين يحتفلون بإسقاط تمثال الأسد وهو يحمل كتابا. فالنظام الذي أحكم سيطرته على حياتهم، كان قد فرّ في آخر الليل، دون أن يتمكن حتى من أخذ ألبوماته وأرشيفه الإجرامي.
وقد خلق هذا التحول الكبير، تحديات وأسئلة جديدة، في أوساط المثقفين، حول أدوارهم وأدواتهم، وكيف يعيدون الانخراط في المجتمع، والتعبير عنه بسرديات جديدة بعيدة عن السرديات الأيديولوجية، التي قدسها بعض المثقفين أيضا.
في هذا السياق، يذكر الأكاديمي السوري أحمد جاسم حسين، أنه علينا الاعتراف اليوم بأن دور المثقف العقائدي، سواء الماركسي، القومي، أو الديني قد انتهى، وأن على هذا المثقف إعادة ترتيب رؤيته، وتعريف دوره، وقراءة أدواته، فالبلاد في الفترة المقبلة تحتاج إلى المثقف الذي يتماشى مع قراءة حركة الواقع، ومعرفة وفهم لماذا يختار الناس بعض التوجهات. وهذا الدور هو ما يؤكد عليه أيضا الأكاديمي السوري في جامعة نيويورك محمد عثمان خليل، الذي يرى ضرورة إعادة النظر في مفهوم ودور المثقف، وهو دور معني بالأساس بالشأن العام، فالإنسان المثقف وفق تعبيره، هو الشخص النشيط في الفضاء الاجتماعي الذي يعيش فيه.
وعند الحديث عن الثقافة في سوريا، لا شك أن الأنظار تتجه أيضا إلى دور المؤسسات الثقافية، فخلال الستينيات وما بعد، عرفت سوريا في ظل المد القومي بروز عدد من المؤسسات الثقافية، ومنها مؤسسة اتحاد الكتاب العرب، التي بدت في سنواتها الأولى ناشطة وفاعلة على مستوى تنظيم العمل الثقافي، إلا أن هذا الواقع تغير في السبعينيات، مع قيام النظام بتجيير كل المؤسسات لصالح سرديته.
من هنا يعتقد الحسين أنه من الواجب في المرحلة المقبلة إعادة النظر في دور وآليات عمل هذه المؤسسات، فهي إن كانت تمتلك صلابة وقاعدة لوجستية جيدة، إلا أنها مغرقة في المقابل في البيروقراطية، والتسطيح أيضا. كما من الواجب دفع هذه المؤسسات للعمل على حفظ الذاكرة السورية. فخلال 55 عاما، كانت لدينا ذاكرة رسمية ، في حين اليوم كل عائلة لديها قصة، ومن الواجب حفظ هذه القصص والتاريخ.
حفظ تراث سوريا:
وكان مثقفون وناشطون سوريون قد دعوا في الأيام الماضية، إلى ضرورة تحويل عدد من سجون النظام السوري لمتاحف، لتكون شاهدا ورادعاً لتكرار هذه المشاهد في المستقبل. وفي مقابل هذه الدعوات، لا يخفي بعض المثقفين أيضا قلقهم على مستقبل تراث كامل في سوريا، المتعلق بالآثار والمواقع التاريخية في البلاد. فخلال الثورة السورية، والحرب التي شنها النظام على المدن، ودخول «داعش» أيضا على خط المواجهات، كانت مناطق سورية قديمة في حلب، وتدمر، والرقة، قد تعرضت للتدمير والنهب. وهنا يرى الأكاديمي السوري عبد الرزاق معاذ المدير الأسبق للمديرية العامة للآثار والمتاحف، قبل مغادرته البلاد عام 2013 بسبب الأحداث، ضرورة دعم وتدعيم مديرية الآثار في البلاد، لحماية التراث السوري. ويقر معاذ بأن المهمة لن تكون سهلة، خاصة أن إحضار الخبرات السورية من الخارج، يحتاج بلا شك إلى توفير دعم مالي. كما أن مديرية الآثار تعاني من نقص حاد في الكوادر، مع ذلك بالوسع المساعدة على حل هذه المشكلة، من خلال إعادة تأهيل سريعة لبعض الكوادر، كما أنه بالوسع الاستفادة من التعاون مع بعض المؤسسات الفرنسية والأمريكية أو الألمانية، التي تمكنت في السنوات الأخيرة، بالتعاون مع باحثين سوريين على الأرض، من رصد كل الأضرار التي تعرضت لها المناطق الآثرية، في سوريا.
الكتب.. ضحايا منسية
يعتبر الكتاب والمكتبات، من الضحايا المنسية في العقود الأخيرة في سوريا. إذ تعرضت دور النشر والكتب لحملات قمع شديدة، ساهمت في تراجع وتدهور دورها. وقد شهد عالم الكتاب بعيد عام 2000 تخفيفا محدودا من الرقابة، مع ذلك ظل سوقه محاصرا. ومع قدوم الثورة، وشن النظام السوري لاحقا حربا على المدن، كان واقع الكتاب والمكتبات يزداد ترديا، وهو ما ظهر بشكل أوضح بعد عام 2016، من خلال ما يصفه البعض بمرحلة «إبادة المكتبات» في مدينتي دمشق أو حلب مثلا، حيث اضطر الكثير من المكتبات ودور النشر، إما إلى إغلاق أبوابها، كما حدث مع مكتبة نوبل الشهيرة، التي تحولت الى مركز للصرافة، أو إلى نقل أعمالهم نحو دول أخرى مثل تركيا ومصر، ولذلك يرى بعض القائمين على عالم النشر السوري، أن سقوط النظام قد يكون بمثابة فرصة لإعادة إحياء دور الكتاب في البلاد.. ويعتبر الروائي والناقد السوري هيثم حسين، واحداً من آلاف المثقفين السوريين، ممن اضطروا لمغادرة بيوتهم، وبعد تنقلات عديدة، استقر في مدينة لندن. وفي السنوات الأخيرة، ساهم حسين في تأسيس دار نشر رامينا، التي أخذت تعنى بالتعريف بأدب الأقليات والمهمشين، الكردية على وجه الأخص، ومحاولة الترجمة لعدة لغات. إلا أن ما تطمح له الدار اليوم، هو أن تتوسع أيضا في إصداراتها، في ظل الأسئلة الجديدة التي أخذ يعيشها المجتمع السوري بعد سقوط النظام، ويذكر حسين لصحيفة «القدس العربي»، بأنه في حال استقرت الأمور في البلاد، فإنه سيعمل على دعم الكتاب والمبدعين الذي يعبرون عن التنوع السوري، ويسلطون الضوء على الأصوات التي تعرضت للقمع والتهميش، مع ترجمة هذه الأعمال وتقديمها بلغات مختلفة، الكردية والعربية والسريانية على وجه الخصوص، لإحياء التراث الثقافي السوري، وجعله متاحا للأجيال الجديدة. ويضيف حسين أن على السلطة دعم قطاع النشر، وتغيير واقع المؤسسات الثقافية، التي تحولت إلى أوكار أمنية، وأن تكون حرية التعبير حجر الزاوية لأي إصلاح، إذ لا يمكن لدور النشر العمل بفاعلية في بيئة يخيم عليها الخوف أو الرقابة. من جانبها تعتقد الناشرة السورية سمر حداد صاحبة دار أطلس، والتي بقيت صامدة في البلاد، أن أول خطوة يجب القيام بها في المرحلة الحالية والمقبلة، تتعلق بموضوع إلغاء دائرة الرقابة في وزارة الإعلام، وضرورة تأسيس نقابة للناشرين، بدل اتحاد الناشرين السابق الذي أسسه النظام، والذي من المفروض حله، وإجراء انتخابات ونقابة، يكون القائمون عليها ممن لديهم خبرة جيدة عن عالم النشر.
كما تعتقد حداد أنه لا بد من أن يكون هناك دعم لدور النشر في الفترة المقبلة، وصناعة النشر عموما، كأن تقوم نقابة الناشرين بإجراء دورات تدريبة لصناع الكتاب، وبالأخص لمن يدخلون المهنة دون خلفية سابقة. كما تعتقد حداد أنها ليست مع فكرة نشر كتب تناسب المرحلة الحالية السريعة، ولذلك فهي تفضل مراقبة الأمور. وحول إن كانت هناك أي مخاوف من وجود سلطة ذات خلفية إسلامية، تؤثر على صناعة الكتاب، تعتقد حداد، أن هناك بعض المخاوف بالطبع، لكن لو حدث ذلك، فيمكن أن نعود إلى ممارسة الرقابة الذاتية قبل النشر، وإيجاد الحلول، كما كنا نفعل في فترة النظام السابق.
مستقبل الدراما والسينما
تعتبر ساحة الدراما السورية، من أهم الساحات الثقافية، التي قد تشهد تغيرات كبيرة في الفترة المقبلة. فخلال فترة آل الأسد، كان النظام قد تنبه لأهمية ودور هذا القطاع الثقافي، ولذلك أخذ يعمل على تجييره لصالحه. مع ذلك استطاع عدد من الكتاب والمخرجين السوريين أحيانا تجاوز بعض خطوط النظام. وقد شهدت الدراما السورية في العقدين الأخيرة فورة كبيرة، وتجاوزت بعدها المحلي، وأصبح كثير من الممثلين السوريين نجوما عرب وعالميين. كما حاول النظام خلال سنوات الثورة، توظيف عدد كبير من الممثلين والعاملين في الدراما، لصالح دعم سرديته، ما أثار حفيظة واسعة داخل الشارع، وقلب صورة بعض أبطال الدراما، من شخصيات محبوبة، إلى مرفوضة بسبب قربها من النظام، ولذلك تبدو اليوم الدراما السورية، أمام أسئلة جديدة حول مستقبلها. ويرى الكاتب والمسرحي وسيم الشرقي أنه منذ فترة حافظ الأسد، بدا النظام واعيا لأهمية الدراما، ولذلك عمل على استغلال هذا الجانب، وأتاح هامشا صغيراً من الحريات في هذا القطاع الثقافي، من خلال إنتاج مسلسلات ناقدة للواقع مثل مسلسل «مرايا» وغيره، كما أن هناك بعض الكتاب والمخرجين حاولوا أيضا فرض سردياتهم، مثل أعمال حاتم علي التاريخية، التي لم يكن النظام يفضل بعض الرسائل الموجودة فيها، خاصة التي تتحدث عن الديكتاتوريات.
ويرى شرقي أن هناك ثلاثة عوامل يجب النظر فيها للإجابة عن مستقبل الدراما في سوريا. الأول أن التصوير داخل البلاد بات متاحاً، خلافا الفترة السابقة التي كان النظام يحدد فيها النصوص، وأماكن التصوير. والعامل الثاني، يتمثل بوجود كم هائل من القصص والسرديات والحكايا، التي لم يجر الحديث عنها، باستثناء بعض المسلسلات مثل مسلسل (ابتسم أيها الجنرال)، وبعض الأعمال القليلة الأخرى، لكن سوية هذه المسلسلات الفنية لم تكن جيدة أيضا.
والعامل الثالث، يتعلق بالسؤال حول طبيعة من سينتج هذه المسلسلات، إذ ستحاول دول إقليمية، وبالأخص خليجية، إنتاج بعض الأعمال، وهناك اللاعبون الجدد مثل نتفليكس وبعض المنصات الأخرى، التي قد تفتح الأحداث شهيتها للإنتاج عن سوريا، بالإضافة إلى أن هناك من سيرى فرصة لتوفر مواقع تصوير حية من الدمار، وهو ما حاول النظام استغلاله أيضا في الفترة الماضية. ويعتقد شرقي أن من الأشياء الجيدة التي بقيت على الأقل في دمشق، وجود بنية تحتية للدراما التلفزيونية، وعودة بعض الكتاب والممثلين، بالإضافة لوجود المعهد العالمي للفنون المسرحية، ولذلك فهناك طاقة بشرية، ورغبة في القص ورواية الحكايا، وهناك أعمال كثيرة في المستقبل.
أما على صعيد السينما ومستقبلها، وما العوائق التي قد تحول دون تطورها، فترى الناقدة السينمائية ندى الأزهري، أنه لا يمكن الحديث عن مستقبل الثقافة في سوريا إلا ضمن تعابير مثل اعتقد، من المحتمل، لكن هناك شيء مؤكد أن هذا المستقبل سيعتمد على السوريين في المقام الأول، ربما أكثر من السلطة المقبلة، إذ لن نبدع لمجرد أن السلطة ستسمح لنا بذلك، فالمشكلة في نمو أي قطاع ثقافي في سوريا، يكمن في توفر منابع لازدهار الخلق والإبداع. وربما هذا ما وجدناه على صعيد السينما، فحينما خرج السوريون مجبرين من بلادهم، نجحوا في زوايا عديدة من هذا العالم، وبرزوا على صعيد السينما مثلا، من خلال الفيلم الوثائقي.
وعن مستقبل السينما، في حال وجود سلطة ذات خلفية إسلامية محتملة، فترى الأزهري بأن الإجابة عن هذا السؤال تتطلب فهم أيديولوجية الحكام وطبقتهم الاجتماعية، ففي إيران وأفغانستان مثلا، اللتين حكمتا من قبل جماعات دينية، نرى أن الايرانيين طوروا الثقافة، كون الطبقة الحاكمة كانت تنتمي لأوساط متعلمة، تهتم بالآداب إلى جانب العلوم الدينية، على عكس عناصر طالبان. وفي سوريا الجديدة والقريبة، نرى أن أحمد الشرع من وسط متعلم، لكن لا نعرف ماهية المجموعات من حوله. وفي الوقت نفسه، تعتقد الأزهري، أنه يجب أن لا تكون هناك أوهام واسعة، فالحكم قد يبقى صاحب توجه إسلامي لفترة، وقد ينظر بشك وريبة لعالم الثقافة والمثقفين، لكن ذلك يجب أن لا يمنع الحياة الثقافية من أخذ مجراها، فأي حاكم يتمتع بقدر قليل من الذكاء، يدرك أهمية الفن، لاسيما السينما، كوسيلة دعائية للبلد. كما أن أي رقابة ستفرض، لن تمنع التطور الثقافي، بل قد تحد منه، وقد تدفعه للإبداع بأشكال أخرى، وهو ما حصل في السينما الإيرانية ، بعد قدوم الخميني، التي تطورت رغم كل المعوقات، وهو ما قصدت به، أن الأمر متعلق في المقام الأول بقدرة الشعب على الخلق والإبداع رغم الظروف، كما فعل الإيرانيون.
وماذا عن دور الجامعات؟
يعتبر موضوع إعادة تشكيل الجامعات، واحدا من الموضوعات الأساسية المتعلقة بثقافة البلاد، إذ عمل النظام على إفساد هذه القطاعات، كما أنه فرغها من محتواها الثقافي، وجعلها مكاناً تعليميا فقط. وكان موضوع الجامعات قد آثار في الأيام الماضية، نقاشات واسعة، بعد قيام عدد من الأساتذة والطلاب بأداء الصلوات في ساحة عدد من الجامعات، ما اثار حفيظة البعض. ويرى الأكاديمي خالد حسين، أن الجامعة هي المكان الأكثر أهمية في المدينة، والجامعة كفضاء لا تكتسب دلالاتها العميقة، إلا حين تكون مستقلة تماماً عن السلطة المهيمنة. ويضيف حسين أن الجامعة السورية منذ استلام حزب البعث فقدت هذه الشخصية المستقلة، بل إن الجامعة السورية تحولت إلى فضاء يرزح تحت إرادة البعث، لتنهار بالمعنى العلمي تحت وطأة الفساد والمحسوبية. وبالتالي فإن الأمل مرهون اليوم باستعادة الجامعة لاستقلاليتها حتى تكون فضاءً للتنوير وإنتاج المعرفة وتخريج المبدعين والمفكرين والعلماء والكوادر. ولا يخفي حسين دهشته ببعض الأحداث مؤخراً في ما يخص الجامعة السورية، من قبيل تسمية إحدى الجامعات باسم ديني، أو جعلها أمكنة لأداء الصلاة، اذ يرى في ذلك انتهاكاً فاضحاً في وضح النهار للجامعة ذاتها، من حيث هي فضاء لإنتاج المعرفة وبناء الوعي بالعالم وترسيخ الهوية السورية. ولذلك فالجامعة كما يرى ينبغي أن تكون فضاءً مستقلاً وتنويرياً.
القدس العربي»،
—————————–
يحدثُ في المزرعة التي خلَعت “أسدَها”/ عبير نصر
30 ديسمبر 2024
من بديهيات السياسة التسليم بأنه لا دوام لممالك الأبد المميت، وبأن التجربة التاريخية الإنسانية لسقوط الطغاة والمستبدّين تُظهِر لنا دوماً المشهدَ الذي يكاد يكون نسخةً مكرورةً لسيناريو واحد؛ الفوضى وسط فضاء ملتهب من الاستقطاب العنيف، لا يترك معه مكاناً لحوار الأفكار وتنوعها. ولعلّ المتابع المشهدَ السوري من خارجه يكون أوفر حظّاً في رؤية أنّ مسار العودة إلى الاستقرار بعد نظام الأسد (لم يستغرق إسقاطه لهشاشته سوى مشوار الطريق من حلب إلى دمشق فاللاذقية)، يكتنفه غموضٌ شديدٌ لا يمكن القياس عليه بصورة حاسمة، خاصّة أن سورية لا تزال موّزعةً بين قوىً محلّية مسلّحة بينها خلافات سياسية وأيديولوجية معقّدة. في التوازي، تُعطي قراءة حسابات “الخسائر والغنائم” في ميزان الدول المؤثّرة في الملّف السوري مؤشّرات تمكّننا من استيعاب ما حدث، ورسم بعض التوقّعات وفقاً لها.
وفي سياق ما تقدّم ذكره، لا بدّ من التذكير بأن عملية طوفان الأقصى جاءت لتدفع باتجاه إعادة رسم ملامح الشرق الأوسط من خلال تغيير الوقائع بشكل متسارع في المنطقة، وسورية على وجه الخصوص، لذا على السوريين أن يدركوا أنهم يتخبّطون داخل رحمٍ سياسي شبه عقيم تظلّله معاناة بشرية هائلة، وأنّ العلاقة الجيدة مع المُحيطَين الإقليمي والدولي لا غنىً عنها لتحصين التحوّل نحو سورية الجديدة، وفرض الكيفية التي يريدون بها تشكيل ملامح بلدهم المُشتهَى. أمّا من يغمز بخبث بأن المصالح وحدها هي التي حرّكت القاع الراكد، فعلينا إذاً أن نشكر الأقدار التي جعلت الدول الفاعلة تختلف مع نظام الأسد كي تقرّر خلعه أخيراً، وهي نفسها التي كانت، ومنذ وقت قريب، تسعى لإعادة تأهيله بما يضمن مصالحها ويهدّئ مخاوفها.
خرجت سورية منهكةً ومثقلةً بالجراح، لكنّها تتنفّس الصعداء للمرّة الأولى منذ عقود، لتبرز مشكلةٌ متّصلةٌ في السياق، تتعلّق بفصائل المعارضة نفسها، التي إن توحّدت لإسقاط نظام الأسد لكنّها مختلفة في بقية الجوانب، في المشارب الفكرية والولاءات والتحالفات الدولية، وستقف لاحقاً في مواجهة عموم القوى السياسية التي انزوت قسراً بفعل النظام، ناهيك باتجاهاتٍ مدنية وأيديولوجيات متعدّدة وخليطٍ من المذاهب والعرقيات، وليس بالضرورة أن تكون كثرة الفواعل المؤثّرة في المشهد السوري الراهن إيجابيةً ما لم تتوافق على مبادئ وطنية تكون ميزاناً لخلافاتها. عندها فقط تكون سورية في الطريق الصحيح، وستقفز بخفّة فوق القاع السحيق الذي نرجو أن تراه بعينٍ مختلفة لتتجنّبه تماماً.
يعيش الشعب السوري مرحلةً مفصليةً واختباراً وطنياً فارقاً، وكلّ جهد يُبذل سيكون مؤثراً في بناء دولة المواطنة، حيث لا صوت يعلو على صوت القانون، في بلد كان يسمّى “مزرعة الأسد”، وفيها كان السوري يعيش في حضن العدم، الذي لا تأكيد في حضرته. أمّا أولى خطوات الخلاص فتبدأ بالحفاظ على وحدة النسيج الاجتماعي المتنوّع، وتجاوز الانقسامات، واحتضان الاختلاف. أيضاً، المطالبة بمحاكمة كبار قتلة النظام ومديري أجهزة التعذيب فيه، فسقوط الأسد وضع السوريين أمام استحقاقات كثيرة، لا بدّ لهم أن يسارعوا إلى إنجازها قبل أن تسارع الدول الفاعلة في الملفّ السوري إلى إعادة تدويره وفق مصالحها. أمّا التحدّي الأبرز الذي يطرح نفسه، فهو كيفية اجتثاث المخرجات المشوّهة لنظام الأسد، من بينها ظاهرة “المكوّعين”، والاستعداد الرخيص للتزلّف وتشويه الثورة، إضافة إلى سيمفونية “حماية الأقليات” الممجوجة، والتلويح بـ”أفّيش” الرعب الجديد الذي تبنّاه بعضهم؛ “من يحرّر يقرّر”… إلخ. على أيّ حال، ليس الغرض طرح الأمور بصورة تشاؤمية، إلّا أن سورية تقف أمام أوّل تحوّل سياسي لا يتمّ عبر انقلاب عسكري صريح، وأن السقوط المباغت لنظام الأسد خلّف فراغاً هائلاً، ربّما يُبقي البلاد أمام سيناريوهات الأمر الواقع والتدخّلات الخارجية التي يمكن أن تؤدّي إلى الانفجار فجأة.
إذاً، لا يزال الصراع في سورية مستمرّاً ومن المبكّر الحديث عن مآلات ما يحدث، ومع ختام مشهد رحيل الأسد، ستدخل سورية مرحلةً جديدةً من التجاذبات والاستقطابات. بالتأكيد، تركيا اليوم من أكبر الرابحين، وتبقى العين دائماً على إسرائيل التي خرجت بمكاسب عظيمة من حربَي غزّة ولبنان، وتالياً سورية. هي التي لطالما عارضت خلع الأسد، بسبب خشيتها من الصبغة الإسلامية المتشدّدة الغالبة على المعارضة السورية المسلّحة، ما يجعل التنبؤ السياسي بما هو آتٍ غايةً في الصعوبة. فها هي تعلن انهيار اتفاقية فصل القوات بين إسرائيل وسورية لعام 1974، ليحتلّ جيشها جبل الشيخ والمنطقة العازلة، ثمّ يتوغل في ريف درعا جنوبي البلاد، بعد تدمير الآلة العسكرية السورية في ظروف مشبوهة لا تفسير لها. وبينما يستعدّ البيت الأبيض لاستقبال سيّده الجديد بمزاجه المتقلّب وسياساته الصادمة، التي يصعب التكهّن بدوافعها أو نتائجها، يسود منطق الإقصاء والتخوين بين السوريين، خاصّة أولئك المفخّخة قلوبهم بالأحقاد والآلام وشهوة الانتقام. والسؤال الجوهري هنا: هل يرتكب السوريون خطأهم التاريخي الثاني بعد عام 2011؛ بداية عظيمة، ولكن من دون أفق وطني جامع؟
بطبيعة الحال، ليس من المصادفة أن تتكرّر علامات السقوط الكبير لحكم الطغاة، لكن ما سينقذ البلاد فعلياً هو التنوّع السوري المرتبط بوعي السوريين بخطورة المرحلة وحسن تنظيمهم، باعتباره قوّة بشرية أهم من أيّ قوة أيديولوجية مسلّحة على الإطلاق. لنتذكر، يوم سلّم الرئيس شكري القوّتلي بلاده إلى دولة الوحدة العربية، أوصى الرئيس جمال عبد الناصر بعدم حكم السوريين بالقوة، معلّلاً ذلك بأنهم شعبٌ يؤمن كلّ من فيه بأنه سياسيٌّ بالفطرة، ويعتقد كثير منهم أنهم زعماء وأنبياء، بل وآلهة أيضاً (!)، وعندما أصرّ النظام الأمني المصري على إدارة “الإقليم الشمالي” بالاستخبارات ولغة الاستعلاء، ولم يرد أن يفهم ماهيّة التنوّع السوري، جاء السقوط المدوّي لدولة الوحدة بعد ثلاث سنوات. وعليه، تميل كاتبة هذه السطور إلى الجزم بأنّ الحكومة المؤقّتة ستواجه أفقاً مغلقاً إن هي تجاهلت هذا التنوع، فضلاً عن التصوّر الساذج بإمكانية جعل المرحلة الانتقالية مُجرَّد عبورٍ سلس من إمارة إدلب إلى خلافة دمشق الإسلامية المتشدّدة.
لنتفق على أنّ خلع نظام الأسد صيرورة تاريخية مطلقة وقطعية لا شائبة فيها، لكنّها بالتأكيد ليست نهاية مشكلات سورية، فما زال السوريون يتخبّطون داخل دوامة عنف شديد اللزوجة، يخاف أن يُعاد إنتاجه بطرائق مختلفة تكون بداية الانزلاق إلى قاع جديد. ورغم أنّ إدارة العمليات العسكرية حاولت طمأنة الجميع بدءاً من اللحظة الأولى لانطلاق عمليتها، إلّا أن الجذور “الجهادية” لهيئة تحرير الشام ستبقى تثير الشكوك بشأن النيات المبيّتة، خاصّة أنها منحت سابقاً نظام الأسد ذريعةً للبقاء بحجّة مكافحة الإرهاب، بعدما كان بلا قضية تُشرّع وجوده.
بعد ثلاثة أشهر، سنتعرّف إلى إنجازات حكومة البشير – الشرع، لكن بالنسبة للعالم، كلّ شيء مرتبط بالتفاهمات السورية – السورية، وبديناميكيات التعامل مع الملّفات الساخنة المرتبطة بسورية التي تعيش مهرجان فرح يبدو وكأنه يُقام في مأتم كبير، يجمع بين صورة مملكة الصمت البائدة وتلميحات إلى أحداثٍ آتيةٍ قد لا تكون أقلّ إيلاماً عندما يخلق السوريون أنفسهم طاغيةً مستنسخاً لكلّ الأزمان، لا لشيء، فقط نكاية بالنظام المجرم القديم ومواليه، ليحقّقوا مُجدّداً نبوءةَ أمل دنقل: “لا تحلموا بعالم سعيد/ فخلف كلّ قيصر يموت، قيصر جديد”.
العربي الجديد
————————————-
الشرع وتأجيله الاستحقاقات الدستورية: مخاطر على الوحدة الوطنية/ منير الربيع
الإثنين 2024/12/30
تشكّل سوريا نقطة ارتكاز في تحولات دول المشرق العربي. وهي التي ستكون مدخلاً تأسيسياً لمستقبل المنطقة. فلسطين هي القضية المركزية والتي تسعى إسرائيل إلى إنهائها. ولطالما ارتبطت القضية الفلسطينية بموازين قوى عربية وإقليمية، لذلك فإن أهمية الوضع في سوريا لا تنفصل عن أهمية الوضع الفلسطيني ومستقبل الفلسطينيين، في ظل المساعي الإسرائيلية الدائمة لضرب كل الحواضر العربية. في سوريا، صبّ مشروع “ضرب النفوذ الإيراني” في المنطقة بهذا الاتجاه. فهي نقطة الارتكاز والمنطلق وخط الإمداد الذي قطع عن حزب الله. لم يكن لسقوط نظام بشار الأسد أن يتحقق لو لم تحقق إسرائيل ما حققته في لبنان من خلال ضرب بنية حزب الله العسكرية وكبار قادته. فاستكمل المشروع انهياراً في دمشق وصولاً إلى قطع طريق الإمداد، مع ما يرافقه من انعكاسات على الساحة العراقية، وعلى إيران بالتحديد كدولة، نظام، ومشروع.
الاستقرار والمشروعية
في الصورة الإقليمية وتوازنات الوضع في المنطقة، فإن سوريا هي التي ستتصدر المشهد. وتأثيراتها ستشمل لبنان، الأردن، العراق، وفلسطين. المواقف التي يعلنها قائد المرحلة السياسية الجديدة أحمد الشرع تشير بوضوح إلى ملاءمتها الجو العام العربي والدولي. وهو يبدي كل الاستعداد للانفتاح على القوى العربية وعلى الغرب، ويركز في اهتماماته على استقطاب شرعية اعتراف العالم به. لذلك يؤكد أن سوريا لن تكون منطلقاً لتهديد أمن أي دولة، لا بل يريد لها أن تكون عنصر صناعة استقرار لدول الجوار. وهذا موقف من شأنه أن يريح العرب ولا سيما دول الخليج ومصر، ويريح الغرب، الذي لا يريد أي مجال للدخول في حروب عربية جديدة ضد إسرائيل.
تلك المشروعية التي يسعى إلى تكريسها، تنجم عن محاولة فرض أمر واقع دولي على الواقع الداخلي. وهو ما يتجلى في تصريحات الشرع بأن الانتخابات الرئاسية قد تحتاج إلى أربع سنوات، بما يتناقض مع متطلبات الشعب السوري الذي كان يتوق إلى الانتهاء من نظام الأسد وفتح المجال أمام الحيوية السياسية، وإحياء مؤسسات دستورية قائمة على الديمقراطية وعلى الانتخابات، لمأسسة العملية السياسية وشرعنتها. وهو على ما يبدو، يريد الشرع تأجيله مقابل التصرف بأنه الحاكم الفعلي طيلة هذه السنوات، على قاعدة “الانسجام” الذي يتحدث عنه. وهذا ما قد يفتح سوريا على مخاطر كثيرة، أبرزها رفض شرائح المجتمع السوري للعودة إلى مثل هذه الممارسات، والحاجة إلى الانفتاح الفعلي على الحياة السياسية، التي تشارك فيها كل مكونات الشعب السوري، على اختلاف الانتماءات السياسية، الطائفية، القومية، والعرقية، خصوصاً أن سوريا دولة معقدة جداً سياسياً واجتماعياً، ولا يمكن للسوريين القبول بالعودة إلى قمقم كان قد وضعهم فيه النظام السابق.
مخاطر منتظرة
صحيح أن الشرع يهتم شخصياً بالتحضير لعقد المؤتمر السوري الوطني، أو مؤتمر الحوار، والذي يريده أن يكون خلال أيام قليلة مع بداية السنة الجديدة، إلا أن الدعوات التي توجه إلى هذا المؤتمر تبدو فردية ولا توجه إلى كيانات سياسية قائمة بذاتها. وهذا سيخلق الكثير من السجالات والاختلافات. هو يريد لهذا المؤتمر أن يكرس نوعاً من المشروعية للمرحلة الجديدة، مع تشكيل لجان منبثقة عن المؤتمر للبحث في المرحلة السياسية المقبلة، وفي كيفية صياغة الدستور الذي يحتاج إلى ثلاث سنوات، على حدّ تعبيره. علماً أن لا أحد يضمن ما الذي سيحصل في سوريا خلال هذه السنوات، لا سيما أن موازين المنطقة ككل تتغير، ويمكن لعوامل كثيرة أن تتداخل وتتقاطع لتؤسس إلى صدامات جديدة على الساحة السورية، بعضها ذات عناوين سياسية ونضالية حول شكل الحكم وتوجهات الجماعات المختلفة. وبعضها الآخر ذات عناوين متصلة بمشاريع إقليمية ومصالح دولية ستتضارب حتماً على الساحة السياسية، وفي حال كانت المشاكل الداخلية قائمة، ستجد القوى الإقليمية المؤثرة فرصها لتأجيجها أكثر.
تأجيل الاستحقاقات السياسية والدستورية إلى سنوات، سيفتح سوريا على أبواب مخاطر كثيرة، وعلى رياح عاتية اجتماعياً، سياسياً، وطائفياً. ودول كثيرة ستجد نفسها قادرة على التلاعب في الساحة السورية، بدءاً من إسرائيل وليس انتهاء بإيران، التي بالتأكيد لن تستسلم بسهولة، وقد تعيد تفعيل تحركاتها وصلاتها مع شرائح اجتماعية سورية كثيرة، في سبيل إضعاف وضع هيئة تحرير الشام ووضعية الشرع، وإعادة الحروب المناطقية أو الطائفية إلى الجغرافيا السورية، وهذا يندرج في صلب ما يثير اهتمام الإسرائيليين الذين يتحدثون أيضاً عن الأقليات وكيفية تعزيز فرصهم وأدوارهم.
المتطلبات الإقليمية والدولية
لمواجهة كل هذه المخاطر، هناك مسؤولية أساسية وكبرى ملقاة على عاتق الشرع نفسه في مقاربته لكل الاستحقاقات المقبلة. كما أن هناك مسؤولية ملقاة على عاتق الدول العربية والتي يسعى هو إلى التقرب منها وطمأنتها بشكل واضح، ومن خلال تصريحات إيجابية جداً تجاه السعودية بالتحديد، والتي يمكنها أن تشكل عنصر توازن إلى جانب الدول الأخرى، مع كل من تركيا، أو إيران أو أي قوة إقليمية أخرى.
يحاول الشرع أن يتماهى مع متطلبات إقليمية ودولية، تحت عنوان “توحيد البندقية” أو حصر السلاح بيد الدولة. وهو مشروع له عنوان آخر هو ضرب كل “حلفاء إيران” في المنطقة، وخصوصاً في لبنان، بالإضافة إلى إخراج إيران وحزب الله من سوريا، وصولاً إلى العراق الذي يشهد تحركاً حثيثاً تقوم به الحكومة العراقية، مع السيستاني ومقتدى الصدر وشخصيات أخرى، لإيجاد صيغة لدمج فصائل الحشد الشعبي بالجيش، وذلك لتجنب ضربات أميركية أو إسرائيلية، على غرار ما حصل مع حزب الله في لبنان، أو ما يحصل مع الحوثيين في اليمن بهذه المرحلة.
ولكن الشرع وإن كان يسير على هذا المنهج الذي يلقى قبولاً أو ترحيباً خارجياً، إلا أنه في الداخل سيكون بمواجهة تحديات كبيرة، في حال عدم صيانة نوع من الوحدة الوطنية السورية، وفي حال الاتجاه إلى اعتماد النموذج الواحد والمنسجم أو المتناسق. فذلك سيولد تغريبات كثيرة داخل المجتمع السوري، وهو سيكون صالحاً للاستغلال من جهات متعددة، ما سيثبت حينها معادلة قديمة بالنسبة إلى الغرب والأميركيين تحديداً، أن الحكم في الشرق لا بد أن يتراوح ما بين “العسكريتاريا الأوتوقراطية، أو الأيديولوجيا الثيوقراطية”.
المدن
————————-
يوميات التغيير السورية… تناقضات درعا ودمشق/ ملاذ الزعبي
30.12.2024
الاختلاف المشهدي الأبرز بين دمشق ودرعا، هو الدمار العمراني الهائل لبعض أحياء وسط درعا وأسواقه. ففي مقابل نجاة قلب دمشق من عمليات القصف المدفعي والغارات الحربية، لا تزال مساحات كبيرة من السوق الرئيسي في مدينة درعا ومناطق طريق السد والمخيم مدمرة وغير صالحة للسكن وبلا خدمات إطلاقاً،
على الطريق الدولي المتّجه إلى الأردن، وعلى بعد نحو 35 كم جنوب دمشق، تقع بلدة منكت الحطب التابعة لمحافظة درعا. البلدة الصغيرة اشتهرت في السنوات الفائتة بحاجز عسكري أمني ضخم لقوات الأسد كان يفصل ريف درعا الشمالي عن بلدات الجنوب الدمشقي وأحيائه. كان هذا الحاجز أشبه بقطعة عسكرية مصغرة، ما زالت بقاياها شاهدة عليها، إذ يمكن إحصاء نحو عشرين دبابة وعربة مدرعة وناقلة جند مهجورة في المكان بطريقة عشوائية، عدا عن سواتر رملية ممتدة ترتفع لأمتار عدة ومعدات عسكرية وبراميل وفواصل خرسانية وغرف مسبقة الصنع كانت تستخدم لنوم الجنود أو كسجون مؤقتة ومقرات للتحقيق والتعذيب. “هالحاجز كان يفصل بين عالمين”، يقول الشاب الجالس بجانبي في الحافلة الصغيرة، والمنحدر من بلدة اليادودة، ويضيف أن عبوره كان بمثابة “كابوس”.
ولغاية اليوم، تمثّل هذه النقطة العسكرية السابقة فاصلاً بشكل ما بين دمشق ودرعا، أقلّه على المستوى المشهدي، حيث سرعان ما تمتدّ حقول القمح والزيتون على مساحات واسعة في سهل حوران على جانبي الطريق بمجرد التوغّل في محافظة درعا، فيما يخفت حضور علم الثورة السورية في مفارقة لافتة، ذاك أن غالبية السكان هنا انحازت إلى الثورة منذ وقت مبكر وتبنّت لاحقاً رفع هذا العلم، فبدا وكأن الأهالي لم يشعروا بالحاجة الى تسجيل أي موقف أو الإعلان عن وضع جديد بعد سقوط نظام بشار الأسد، بينما أصبح “العلم الأخضر”، كما اعتاد السوريون تسميته، موجوداً في كل مكان تقريباً في العاصمة.
“الدخول” إلى درعا
عندما بلغت الحافلة الصغيرة مدخل درعا، طلب حاجز عسكري بسيط الفصل بين الجنسين داخل الحافلة، بحيث تجلس النساء في الأمام ويرجع الرجال إلى المقاعد الخلفية. وزعم عنصر مسلح أن قراراً من هيئة تحرير الشام صدر بهذا الخصوص، رغم أن أحداً لم يوقف الحافلة ويطلب من ركابها تنفيذ أمر مماثل لدى مغادرتها العاصمة عبر الحاجز العسكري للهيئة.
ولم تنفع الاعتراضات الخافتة من الركاب في تفادي تنفيذ الطلب العبثي، إذ كانت الرحلة على وشك أن تبلغ منتهاها أصلاً. ولم تتردد أم شابة محجبة في التذمر، متسائلة إن كان المستقبل سيحمل أوامر مماثلة أو فرضاً قسرياً لضوابط أكثر تشدداً، كما تساءل رجل ثلاثيني إن كان سفره مع زوجته في المستقبل يعني أن يجلسا في مقعدين متباعدين.
اللافت أن هذا الإجراء لا يتم تطبيقه في العاصمة المتنوعة دينياً، وحيث العيون الإعلامية وشبكات الناشطين قادرة على الرصد أكثر من المناطق الطرفية من البلاد.
دمشق ودرعا: خرائط الخراب
أما الاختلاف المشهدي الأبرز بين المدينتين، فهو الدمار العمراني الهائل لبعض أحياء وسط درعا وأسواقه. ففي مقابل نجاة قلب دمشق من عمليات القصف المدفعي والغارات الحربية، لا تزال مساحات كبيرة من السوق الرئيسي في مدينة درعا ومناطق طريق السد والمخيم مدمرة وغير صالحة للسكن وبلا خدمات إطلاقاً، وهو ما ينطبق كذلك على أجزاء من حي درعا البلد، وبخاصة حي المنشية، بينما تُشاهد آثار الدمار في بعض أحياء حزام العشوائيات المحيط بدمشق والأرياف المجاورة من دون أن يمتد هذا الخراب إلى وسط العاصمة.
مع ذلك، يبدو الوضع المعيشي في درعا أفضل نسبياً من الوضع في دمشق، وقد يُعزى ذلك إلى تماسك اجتماعي أمتن في المحافظة الجنوبية، وصمود قطاعها الزراعي الواسع، والنسبة الهائلة من مغتربيها ومنفييها المقيمين في الخليج والدول الغربية، والذين يواظبون على إرسال الحوالات المالية وغيرها من أشكال الدعم والمساعدة لمن تبقى من أسرهم في الداخل السوري. لكن، لا يعني ذلك بالطبع غياب الفقر والمعاناة أو جودة أعلى للخدمات الأساسية.
وما قد يكون تناقضاً رئيسياً غير مرئي بشكل مباشر بين العاصمة والمحافظة الجنوبية، هو وضع الفصائل والمجموعات العسكرية النشطة في محافظة درعا، إذ لم تنضوِ هذه بعد تحت جناح هيئة تحرير الشام، القوة المسيطرة على القرار في دمشق، وقد تسبب قوة ما يعرف بـ”الفيلق الخامس” الذي يقوده أحمد العودة، وكذلك الامتدادات المحلية لبعض المجموعات، صداعاً للهيئة في حال رغبتها في ابتلاع قوى درعا العسكرية.
وعلى رغم التحسّن الواضح في الوضع الأمني مقارنة بفترة ما قبل سقوط الأسد، حيث كانت منطقة حوران مسرحاً يومياً لعمليات اغتيال وخطف طاولت المئات من أبناء المنطقة، إلا أن المخاوف الأمنية المتعلّقة بالسفر خارج المحافظة والوجود في مناطق نائية واحتمالات الخطف لم تنته بالمطلق.
بين “عمر الفاروق” و”الرسول الأعظم”
وإن كانت دور العبادة التابعة لطائفة الشيعة في دمشق لم تشهد أي أحداث جديرة بالذكر بعد هروب بشار الأسد، فإن المسجد الرئيسي للطائفة في درعا، تم تحويل اسمه في إجراء انتقامي إلى مسجد “عمر الفاروق”، رغم أن الشاهدة الرخامية على مدخل البناء ما زالت تشير إلى الاسم السابق، أي مسجد “الرسول الأعظم”، لافتة إلى أن بناءه تم بدعم من المرجع اللبناني الراحل محمد حسين فضل الله وتوجيهه.
يعرب محام يقطن في الحي نفسه عن اعتقاده أن هذا التغيير الذي طاول المسجد مؤقت وليس أكثر من “ردة فعل متسرعة”، مضيفاً أن سبب ما حدث هو الاعتقاد السائد في المحافظة أن تعمير دار العبادة هذه كان ضمن تمدّد النفوذ الإيراني في المحافظة بإشراف ودعم مباشرين من نظام الأسد وليس ضمن “النمو الطبيعي الديمغرافي للأقلية الشيعية الصغيرة” في المدينة. ويأمل المحامي ختاماً بعودة المسجد لوضعه السابق بمجرد أن “تستقر الأوضاع وتهدأ النفوس”.
عند ساحة الشهداء قبالة قصر المحافظ، والتي شهدت تظاهرات حاشدة بعيد اندلاع الثورة عام 2011، رُفعت لافتة كبيرة تحمل اسماً جديداً “ساحة 18 آذار”. فرغم الإجماع السوري العام على أن درعا هي مهد الثورة، إلا أن انقساماً كبيراً يقابل هذا الإجماع حول تاريخ اندلاعها، فسكان المحافظة الجنوبية يرون أن الثورة بدأت مع أول تظاهرة خرجت في درعا البلد في 18 من آذار/ مارس 2011، والتي كانت البداية لسلسلة تطورات قادت إلى امتداد الاحتجاجات إلى عموم البلاد، بينما يرى سوريون آخرون، وخصوصاً من ناشطي دمشق ومحيطها، أن الثورة بدأت مع تظاهرة صغيرة خرجت في البلدة القديمة لدمشق قبل 3 أيام. وقد يقود تبني بعض المؤسسات الإعلامية الرئيسية تاريخ 15 آذار كمنطلق للثورة وعيد سنوي لها، إلى شعور واسع بالخيبة والخذلان والإجحاف لدى سكان حوران.
درجات
————————–
الحدث السوري: قلق في عمّان وترقّب في القاهرة وأبو ظبي/ رنا الصبّاغ
30.12.2024
يتابع الأردنيون بحذر ملحمة صعود الشرع من صفوف المقاتلين السلفيين الجهاديين الى رجل دولة يتكلم بصوت هادئ ويظهر قدرة واضحة على التعامل مع المتغيرات بواقعية محسوبة مدعومة بقدرة على اتخاد قرارات جريئة.
يخشى مسؤولون عرب ومنهم أردنيون، انتقال عدوى أحمد الشرع عبر الحدود، لتعيد إشعال حراك شعبي يطالب بإصلاحات سياسية عميقة، فيما ينصبّ الجهد الرسمي على التحضير لمواجهة صفقة دونالد ترامب المجهولة حيال القضية الفلسطينية وإخراج المملكة منها بأقل الأضرار.
وفي حال نجح الشرع في تطبيق وعوده حيال “سوريا الجديدة”، قد يغدو نموذجاً في المنطقة لنظام سياسي جديد شبيه بنظام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي وصل إلى السلطة على رأس حزب إسلامي، ثم حافظ على علمانية الدولة بموجب الدستور، أقلّه إلى اليوم.
تركيا اليوم صاحبة الحظوة والنفوذ في سوريا الجديدة لأنها تبنّت الشرع، بحسب ساسة وديبلوماسيين. وهي ترسم ملامح المرحلة المقبلة والهوية السياسية للبلاد وشكل النظام قيد التبلور بعد نصف قرن من حكم منفرد.
دومينو سياسي
من منظور عمّان، يضع تسونامي دمشق المزلزل صانع القرار مجدداً أمام هواجس تمدد نسخة متطرفة من الإسلام السياسي؛ وفي البال هيمنة الفصائل التكفيرية المسلحة على تخوم حدوده الشمالية جنوب سوريا في منتصف العقد الماضي.
وثمة شكوك في جوهر الانعطافة الظاهرة لدى حكام دمشق الجدد في ما إذا كانت تكتيكية الى حين الاستحواذ على السلطة، أم استراتيجية على درب إعادة بناء الدولة على أسس مدنية جامعة في الجارة الشمالية.
وقد يقف صانع القرار أمام خيارات صعبة في التعاطي مع جماعة الإخوان المسلمين العابرة للحدود، التي تتداخل أيديولوجيتها مع فصائل سورية جهادية تستند في عقيدتها إلى الرسالة الإخوانية ونسختها المتشددة المنبثقة من فكر سيد قطب.
فهل يطرأ تحول في العلاقة الجدلية محلياً في حال سعى إخوان الأردن الى الاستثمار في صعود نجم الإسلام السياسي في دمشق، على غرار ارتفاع نبرتهم لدى حكم التنظيم الأم قصير الأمد في القاهرة بين 2011 ومنتصف 2013. في ذلك الوقت، جفل الأردن الرسمي من نبرة التحدّي الكامنة في خطاب الجماعة وسعى إلى تحجيمها على الساحة الوطنية.
تحالف وشكوك
قبل التحول في دمشق، تأرجحت العلاقة بين السلطة وإخوان الأردن على مدى ثلاثة أرباع القرن بين الشراكة في مواجهة اليسار (1950-1980)، الاحتواء الناعم والخشن والحياد السلبي. وأبقت الحكومات “شعرة معاوية” مع الإخوان المسلمين وذراعها السياسية جبهة العمل الإسلامي، ورفضت ضغوطاً إقليمية لإقصائها وتصنيفها ضمن لوائح الإرهاب، بحسب معلومات غير معلنة.
وهكذا حصدت ذراعها السياسية وحلفاؤها أعلى عدد من مقاعد مجلس النواب في الانتخابات التشريعية التي أُجريت في أيلول/ سبتمبر الماضي.
لكن ماذا بعد زلزلة دمشق؟
يتابع الأردنيون بحذر ملحمة صعود الشرع من صفوف المقاتلين السلفيين الجهاديين الى رجل دولة يتكلم بصوت هادئ ويظهر قدرة واضحة على التعامل مع المتغيرات بواقعية محسوبة مدعومة بقدرة على اتخاد قرارات جريئة.
الباحث في الحركات الإسلامية حسن أبو هنية يرى أن الشرع “يخلق أمراً واقعاً جديداً في المنطقة قد يحمل تأثيراً على شباب الأردن وجيل الإسلاميين المحافظين بحكم الجوار والعلاقات الديمغرافية أكثر بكثير من التأثير على سكان دول أخري عربية مثل المغرب مثلاً”.
وفي مقابلة مع موقع “درج”، يقول أبو هنية: “ما يقدمه الجولاني الذي تحوّل مباشرة الى أحمد الشرع، نموذج جديد حي لقائد يتمتع بقدرة على التكيف والبراغماتية؛ قائد يستطيع خلع وجه الجولاني ولبس وجه الشرع ويمضي في خلع العمامة ولبس “الكرافات” بحسب الحاجة”.
ويتوقع المتخصص في شؤون الحركات الإسلامية “ألا يكون له تأثير كبير على الأردن” الذي يواجه أزمات مركبة من فقر، بطالة وأوضاع معيشية صعبة مقرونة بفساد ومحسوبية وقيود غير معهودة على الإعلام المستقل.
الى ذلك، يقول أبو هنية إن الشرع “استطاع أيضاً بناء سردية متعلقة بالمواجهة مع الروس والميليشيات الإيرانية مع وجود الصدع الطائفي السني – الشيعي على مدى عقود”.
ويخلص إلى أن الشباب يتعلقون عادة بقيم الانتصار ومفاهيمه والإنجاز والقوة والبطولة عند اختيار أمثلة لمصادر إلهام؛ وهي حال تعلق البعض بشخصيات اختارت درب المقاومة كزعيمي حركة حماس الفلسطينية يحيي السنوار وحزب الله اللبناني حسن نصر الله.
يشاطر أبو هنية في الرأي برلماني يساري أردني فضل عدم ذكر اسمه لحساسية الموضوع. إذ يتوقع في مقابلة مع موقع “درج” أن تدخل المنطقة في ما يسمى بـ”ربيع عربي ثانٍ لإعادة إنتاج تجربة محمد مرسي في مصر لكن بشكل جديد في سوريا”.
ويقول البرلماني: “نحن أمام تجربة جديدة في الإقليم. تجربة الإسلام السياسي التي ضُربت في مصر تعود إلينا مجدداً لكن بشكل مختلف تماماً”.
لكن الشك يساور البرلماني المخضرم – حال مراقبين كثر – يساورهم “بشأن قدرة الشرع على الاستمرار ببراغماتيته من دون حدود” قبل أن تنقلب عليه بعض الفصائل المتشددة أو يتحرك سوريون مستبعدون ضده في حال شعروا أن دولتهم تُخطف من جديد.
مثال ذلك المواجهات الخطيرة الدائرة بين القوات المنبثقة من فصائل المعارضة المسلحة – في مقدمها هيئة تحرير الشام – وفلول الأسد في معاقل الطائفة العلوية التي تشعر بالهزيمة والتهميش بعدما تخلى عنهم بشار الأسد. وقد تتمدد مثل هذه المواجهات إلى مناطق أخرى. هناك سلاح في كل مكان، ودول إقليمية ومؤسسات استخباراتيه أجنبية قادرة على توظيف إغراءات المال لتعطيل المسار من خلال استثمار حال عدم رضا شعبي إن توسعت دائرة المواجهات.
البرلماني الأردني يتوقع “صداماً حتمياً بين أعوان الشرع القادمين من الريف ومعظمهم لم يدخل دمشق إلا بعد إطاحة الأسد، وحواضر بلاد الشام التي أدارت مناطقها لعقود وتدرك تنوع مجتمعاتها. من يعرف سوريا وشعبها وطريقة الحياة المحافظة اجتماعياً لكن المنفتحة على الآخر، يعرف أنها لن تقبل بنظام ديني مستبد آخر يفرضه الأتراك”، يشرح البرلماني الأردني.
بين الأوساط العلمانية مخاوف من احتمال “دخول الشرع في مواجهة حتمية مع سائر مكونات الشعب السوري وأقلياته العرقية، الدينية والمذهبية، في حال شعرت الأخيرة أنها مستبعدة من هيكلية سوريا الجديدة وألوانها”.
الشرع يتصرف حتى الآن وكأنه الرئيس المقبل وليس قائد مرحلة انتقالية. يفرض نفسه عبر شرعية القوة. يقابل زواره من المسؤولين العرب والأجانب في القصر الرئاسي لبشار الأسد. يجلس على المقاعد الخشبية ذاتها المزخرفة والمطعمة بالصدفيات التراثية التي كان يجلس عليها خصمه القديم عند استقبال الوفود.
يردد أمام زواره ما يريدون سماعه حيال المستقبل القائم على التعايش والمساواة ونبذ الإرهاب ومنع عودة الميليشيات الإيرانية. هدفه الأول والأخير اجتياز شروط رفع العقوبات الأممية عنه وعن الهيئة ورفع العقوبات الاقتصادية الأوروبية والأميركية لكي يستطيع تحسين الوضع المعيشي والمالي في سوريا المنهارة. ولذلك، يبدي استعداداً لقبول شروط الغرب الذي قرر إمهاله بعض الوقت: الى حين انتهاء مدة الحكومة الانتقالية مطلع نيسان/ إبريل المقبل.
ليس كل ما يلمع ذهباً
في إشارات عكسية، اختار الشرع كل من يعمل في حكومته الانتقالية من لون واحد بدلاً من تعيين وزير انتقالي من كل محافظة سورية لضمان التعددية. تصريحه الأخير بأن صوغ دستور جديد قد يستغرق ثلاث سنوات وإمكانية إجراء الانتخابات بعد أربع سنوات، أقلق المتابعين.
المرحلة الانتقالية حساسة جداً، ومستقبل سوريا مفتوح على كل الاحتمالات. لذلك، يراقب الأردن الرسمي المشهد وينفتح تدريجياً في الوقت ذاته على الشرع لحماية مصالحه في المرحلة الحالية، وأهمها ضمان عدم عودة “الإرهابيين” الى الحدود الشمالية.
القصر والإخوان
المسلمون في الأردن يؤكدون أن نجاح أي تجربة سياسية في المنطقة – ومنها سوريا – يجب أن يدفع الجانب الرسمي لتعزيز الحوكمة الرشيدة والتنمية المستدامة والتقدم بخطوات عملية نحو الإصلاح السياسي والاقتصادي، بدلاً من أن تكون “مصدراً للقلق”. وتعلن الجماعة أن أمن الأردن واستقراره أولوية “لنا جميعاً”، مكررة موقفها بضرورة الإصلاح السياسي كبوابة للإصلاح الشامل ضمن الأطر الدستورية.
الناطق الرسمي باسم الجماعة معاذ الخوالدة يقول لموقع “درج”، إن “قوة الأوطان تبنى بالتفاهمات الوطنية والشراكة بين جميع مكوناتها وليس على قاعدة الإقصاء وضعف الثقة المتبادلة”.
ويضيف الخوالدة: “بدلاً من القلق من نجاح تجربة سياسية أو ديمقراطية في أي دولة، سواء في سوريا، أو غيرها، ينبغي أن ينظر إليه من زاوية تحقيق مصالح الشعوب وحقوقها”، لافتاً إلى “أن الجماعة تحترم إرادة الشعوب في تقرير مصيرها وتدعم حقوق الشعب السوري ووضع حد لمعاناته وتحقيق تطلعاته في الحرية والعدالة والاستقرار”.
خطاب الخوالدة يعكس البراغماتية والدبلوماسية المعهودة للتيار الإسلامي.
المشهد في الإقليم
مسؤولون عرب على اطلاع على المشهد الأمني في المملكة ومصر ودول أخرى فيها وجود قوي للإخوان، ينظرون إلى تركيا على أنها قاطرة الجماعة كونياً، ويرون أن التيارات السلفية المحافظة والتابعة للوصفة “الإردوغانية” تجنح عادة صوب الفكر التكفيري كلما اقتربت من فرص الاستحواذ على السلطة.
مثال على ذلك تصرّف الإخوان المسلمين حين اعتلوا السلطة في مصر في أول انتخابات حرة بعد رحيل نظام حسني مبارك. فبعد فوزه بكرسي الرئاسة، أقصى محمد مرسي القادم من رحم الإخوان القوى الأخرى وحاربها قبل أن ينقلب الجيش على الإخوان مدفوعاً بزخم الشارع ويعيّن رئيساً من مرتبات القوات المسلحة لفرض سياسة الأمر الواقع في مصر التي تفهمها الدولة العميقة.
اتجاه معاكس
هناك احتمال أن تقود دولة الإمارات – الإخوان المسلمين وأجندات الإسلام السياسي – جهداً على الأرض لتعطيل مشروع الشرع من خلال تمويل وتحريك فصائل غير راضية عنه، بحسب أحد المسؤولين. وفي البال سوابق مماثلة في إحباط تجارب التيار السلفي في الوصول الى الحكم أو الاستمرار فيه: السودان، ليبيا، مصر وتونس، حيث عملت أبو ظبي ضد المد الإسلامي المدعوم من تركيا في تلك الدول.
محطات المد والجزر
العلاقات بين الإخوان المسلمين في الأردن والنظام مرت في حالات مد وجزر عدة مند نشأت في الأردن كهيئة خيرية في 1946. لعقود استخدمت السلطات الأردنية ورقة الإخوان ضد المد اليساري والشيوعي، الذي كان يشكل مصدر تهديد للنظام. وبعد استعادة الحياة الديمقراطية عام 1989 للمرة الأولى منذ احتلال إسرائيل الضفة الغربية في 1967، فاز الإخوان بـ22 من 80 مقعداً نيابياً. وفي خطوة نادرة، شاركوا في حكومة مضر بدران مطلع تسعينيات القرن الماضي لتمتين الجبهة الداخلية مع بدء الحرب على العراق، حليف الأردن الرئيس آنذاك ، وتنامي الضغوط الأميركية للانضمام الى التحالف الدولي.
استلم الإخوان ست حقائب خدمية آنذاك وشرعوا في تسريع محاولات التغيير.
في وزارة التنمية الإسلامية مثلاً، منع الوزير النساء من السفر لتمثيل الوزارة في مؤتمرات دولية. أصر على استخدام أجندة منفصلة لتسجيل الحضور والمغادرة بين الرجال والنساء، ومنعهم من الوقوف في صف مختلط.
يقول مسؤولون الآن إن تركة الإخوان في وزارة التربية والتعليم لا تزال تجثم على مناهج التعليم التي أسلموها خلال العقود الخمسة الماضية، ما ساهم في تنامي التيار السلفي المتشدد في المملكة.
وخلال الحراك الأردني في 2011 على وقع عدوى الربيع العربي، قاد التيار الإسلامي الشارع الأردني المطالب بتغيير الدستور وتحديد صلاحيات الملك وإجراء إصلاحات سياسية ومحاربة الفساد ومحاكمة رموزه. على أن شعاراتهم خرقت خطوطاً حمراً ومسّت الملك وأسرته مباشرة. وبينما شاركوا في بعض الانتخابات عبر ذراعهم السياسية، قاطع الإخوان جولتي انتخابات خلال العقدين الماضيين بسبب خلافات مع الحكومات المتعاقبة.
في الانتخابات الأخيرة، حصدت الجبهة ثلث أصوات المقترعين وأصبحت الكتلة الأكبر في مجلس النواب ، بعكس توقعات الرسميين. وعزّزت مكاسبها الشعبية عدوان الاحتلال على غزة. ولم تطبق الحكومة قراراً صادراً عن محكمة التمييز قبل أربع سنوات اعتبر جماعة الإخوان منحلّة.
قوى صاعدة
فاز حزبان محافظان جديدان قادمان من رحم السلطة بثمانية مقاعد فيما خسرت سائر التيارات. حزب الميثاق – الذي حصد خمسة مقاعد- استقطب نوابا مستقلين ليصبح الكتلة الأكثر عدداً فكسر شوكة كتلة الجبهة، ما سمح بفرض سيطرة المحافظين على رئاسة المجلس وغالبية اللجان التي تنافس عليها أعضاء في الحزب الإسلامي.
أثناء جلسة الثقة بحكومة جعفر حسان، ظهر ضعف الجسم النيابي وخبرته في المجالات السياسية والقانونية والاقتصادية. عدد من النواب صوتوا ضد توجهات أحزابهم. حزب جبهة العمل كان الأكثر تأثيراً لأن نوابه التزموا بموقف الجبهة وحضروا جميع الجلسات.
في خلفية المشهد المحتقن، تنامى خيار “المقاومة” عند معظم الأردنيين بسبب استمرار حرب الإبادة والتجويع في غزة واستباحة الضفة الغربية وتدمير لبنان وشكوك في أن الإصلاحات السياسية الأخيرة لم تعكس نوايا حقيقية للتحديث. ونجاح الشرع قد يعطيهم أملاً جديداً بالصعود إلى السلطة.
نعي الإصلاحات السياسية الأخيرة
استغرب سياسيون عندما نعى رئيس الوزراء الأسبق سمير الرفاعي المقرب من القصر، منظومة التحديث السياسي التي أشرف عليها شخصياً عندما ترأس لجنة التحديث الملكية بتكليف من الملك.
رأي نائب رئيس مجلس الأعيان أثار مزيجاً من الاستغراب أو الغضب داخل أوساط سياسية متعددة، تنتقد عدم استماعه الى نصائح منتقدين تنبأوا بفشل العملية.
وفي أطروحته، أطلق الرفاعي رصاصة الرحمة على الأحزاب السياسية بالقول: “إنها تعوق الوصول الى أهداف التحديث السياسي بسبب ضعف أدائها وتجاهلها لإشراك شرائح مجتمعية مهمة، مثل النقابيين، ضمن صفوفها”.
“الوزراء الحزبيون في الحكومة الحالية ربحوا كممثلين لشخوصهم، وليس بصفتهم أمناء عامين يمثلون توجهات أحزابهم، ما يعكس ضعفاً في التمثيل النيابي” بحسب تشخيص الرفاعي.
أوساط سياسية توقعت أن يعكس كلام الرجل القريب من القصر عدم رضا حيال نتائج التصويت واحتمال حل مجلس النواب لوقف مناكفات محتملة في حال نزع الملك صوب هندسة التموضع السياسي خارجياً وتعديل الخطاب الداخلي لتخفيف آثار صفقة ترامب القادمة على أمن الأردن واستقراره. على أن خيار حل المجلس ليس على طاولة البحث، بحسب مسؤولين يؤكدون أن الملك ماض في خطته التحديثية حتى لو تفاقم الوضع السياسي أو الأمني في الإقليم.
حل الدولتين لم يعد مطروحاً. وقد تُدفع المملكة الى لعب دور أمني وسياسي في الضفة الغربية؛ خيار رفضه الملك في عهد ترامب الأول. وثمة خشية أيضاً من طرد الفلسطينيين في حال نفذت إسرائيل وعودها بضم الضفة الغربية العام المقبل، وبالتالي خلخلة ميزان الديمغرافيا الحساس في المملكة.
جبهة العمل الإسلامي استطاعت التموضع في مفاصل كثيرة لحماية وجوده عندما تسير رياح الحكومة عكس أشرعته. فعارضت معاهدة السلام مع إسرائيل لكن نوابها لم يستقيلوا احتجاجاً عليها، بل اكتفوا بالانسحاب من الجلسة التي مررت المعاهدة الموقعة في 1994.
صانع القرار يرغب في تركيز الحوار بين التيار الإسلامي والسلطة تحت قبة البرلمان بدلاً من الشارع. هنا، قد توظف مواقف نواب متشددين وإجماع الجسم التشريعي على عداء إسرائيل في مواجهة ضغوط أميركا وسعيها الى تمرير ما يُسمى بصفقة السلام الإبراهيمي على حساب حقوق الفلسطينيين والأردن.
درج
——————————
السوريات وعائشة الدبس: “سلّم أولويات” ونسف حرّية الاختيار!/ مناهل السهوي
30.12.2024
المشكلة في خطاب عائشة الدبس، الذي يعد امتداداً لخطاب الحكومة الانتقالية، أنه يعكس نموذجاً لحكم سياسي ديني محافظ يسعى الى تحديد أدوار الأفراد، سواء كانوا نساء أو رجالاً، نموذجاً “يسخّر” النساء على حساب حقوقهن الفردية.
“يا صبايا ويا نساء سوريا العظيمة: يلي ضايع منها السلم، قصدي السيبة تَبَعْ أولوياتها ترفع إيدها، لأنه في حدا ممكن يلاقيلك ياها لأولوياتك ويساعدك تطلعي وتعزلي سقفك الجديد وحيطانك”.
كان هذا التعليق الساخر للممثلة العائدة الى سوريا يارا صبري، واحداً من الردود السورية التي ملأت الفضاء العام رداً على تصريحات عائشة الدبس، رئيسة مكتب شؤون المرأة في حكومة تصريف الأعمال.
مجرد تأسيس مكتب معني بقضايا النساء يوحي وكأن النساء هن جماعة معزولة عن الشأن العام وليس مكوناً في صلب كل مفاصل الحياة العامة في البلد.
كان واضحاً أن قضايا المرأة السورية ستكون مادة إشكالية في سياق الحكم الجديد في سوريا المحمّل بإرث وعقيدة جهادية إسلامية محافظة الى حدّ التزمّت.
لكن المواجهة بدأت سريعاً، إذ توجهت الدبس الى النساء السوريات وكأنهن يفتقرن إلى الإمكانات والقدرات، فقالت في مقابلة تلفزيونية مع قناة تركية: “لن أفتح المجال لمن يختلف معي بالفكر”، مضيفة: “لا أدعي أن النساء السوريات الآن ممكنات، لكن المرأة السورية بطبيعتها تملك المؤهل، وإذا وفرنا لها الدورات التدريبية ودورات القيادة ستصل إن شاء الله لتشارك في السلطة التشريعية والتنفيذية “.
هذه العبارات أثارت غضباً واسعاً كونها نسفت تاريخاً من المشاركات الرائدة لنساء سوريات في الحياة العامة بما يوحي أنهن قاصرات عن تولي أدوار قيادية.
عائشة الدبس التي أصبحت أول امرأة تشغل منصباً رسمياً في الإدارة السورية الجديدة، جزمت بأن السوريات غير قادرات على القيادة لأنهن بحاجة إلى تمكين، ناسفةً أجيالاً من هؤلاء النساء المتمكنات اللواتي شغلن مناصب قيادية متنوعة حول العالم ويعملن حقيقة على تمكين غيرهن.
أما بما يخصّ القضاء، فقالت: “أما في ما يخص السلطة القضائية، لن أتكلم عن ذلك لأن الدستور هو الذي سيحدد، ومرتكز (ذلك) الشريعة الإسلامية، لن نتخلى عن الشريعة الإسلامية”.
أثار هذا التصريح مخاوف حول دور النساء القضائي، خصوصاً بعد انتشار تصريحات غير رسمية تقول إن الحكومة الجديدة لن تسمح بوجود قاضيات تبعاً للشريعة الإسلامية، وهذا يتنافى مع أسس الحرية والديمقراطية وتكافؤ الفرص لأفراد المجتمع بغض النظر عن ديانتهم أو توجهاتهم.
تعرّف عائشة الدبس عن نفسها عبر حسابها في “فيسبوك” بأنها “شخصية عامة وناشطة في مجال تطوير المرأة وتنمية العمل المدني والإنساني”. ووفق تقارير محلية، تمتلك الدبس “تاريخاً في النشاط الجمعوي والإنساني في سوريا، وفي مخيمات اللاجئين السوريين في تركيا”.
نسف حرية اختيار المرأة السورية
لا شك في أن تمكين المرأة أمر ضروري، ولكنه يتطلب رؤية تشمل حرية اتخاذ القرار والقدرة على تحقيق التوازن بين حياتها الشخصية والمهنية، فيما حديث الدبس عن تمكين المرأة أغفل جانباً أساسياً، وهو ضمان حقوقها الأساسية وحريتها في اختيار الأدوار التي تناسبها.
فتمكين النساء هو عملية تهدف إلى تعزيز قدرات النساء ومهاراتهن وإعطائهن الأدوات اللازمة لتحقيق استقلاليتهن والتمتع بحقوقهن الكاملة في مختلف جوانب الحياة، لكن عائشة الدبس كانت مباشرة وصريحة، فدعت النساء الى الالتزام بسلّم أولوياتهن “الفطرية” التي تعني هنا المقاربة الدينية المحافظة لدور النساء بوصفها شؤون العائلة والاهتمام بالزوج والأطفال، من دون أن تمنح المرأة حرية القرار في ما إذا كانت تريد أن تأخذ هذا الدور أم لا!
من جهة أخرى، أصرت الدبس على صناعة نموذج حكم سوري، مبدية رغبة واضحة في الانفصال أو عدم الاستفادة من خبرات ساهمت فيها وشاركتها نسويات وحقوقيات سوريات في داخل سوريا وخارجها، وحاولت التصويب على هذه الجهود بقولها “لماذا نتبنى النموذج العلماني أو المدني؟ على سبيل المثال، أنا سأصنع نموذجاً خاصاً بالمجتمع السوري، لا أتكلم عن نفسي لكن أتكلم عن رؤية القيادة”.
وفي ردّها على حرية عمل المنظمات النسائية المدافعة عن حقوق المرأة، أجابت: “إذا اتفقنا أن هذا الدعم يدعم النموذج الذي نحن بصدد بنائه فأهلاً وسهلاً ومرحباً، أنا لن أفتح المجال لمن يختلف معي بالفكر، عانينا بالفترة الماضية من المنظمات التي كانت لها أجندات على أطفالنا ونسائنا، كانوا يمارسون كثيراً من البرامج والتدريبات التي أتت بثمار كارثية”.
هذا الكلام غير المنطقي وغير العلمي، والذي ينتقص من حرية النساء في أخذ قرارات مصيرية تتعلق بحياتهن سواء لجهة الزواج أو الطلاق، هو محاولة من الدبس وربما القيادة الجديدة، لقطع الطريق على نشاطات نسوية حقوقية متقدمة ترفض الارتكان إلى التفسيرات الدينية لموقع النساء ودورهن.
أي حياة سياسية عامة إذا لم نفتح الباب أمام منظمات العمل الحقوقي والنسوي بأطيافها كافة؟ وكيف يمكن أن نغني رؤيتنا ونطورها في عالم متسارع إذا انغلقنا بشكل كامل على أنفسنا؟ فيما يبدو أن الدبس جلبت معها الكلام الذي يتم تناقله في الأوساط المحافظة التقليدية وطرحته كنموذج سوري، علماً أنه حتى ضمن هذه الأوساط وجد كلامها صدى سلبياً…
لم تنسَ الدبس أن تتهم المنظمات الدولية والحقوقية بالتسبب في ارتفاع معدل الطلاق عام 2018 في المناطق التي عملت فيها، إذ لا تراعي “كيفية تمكين المرأة وواجباتها ومسؤولياتها” بحسب قولها.
وهكذا تجزم الدبس بأن الطلاق هو قرار لا تملكه آلاف النساء بسبب منح تفسيرات دينية هذا الحق للرجل، ما يجعل نساء كثيرات عالقات في زيجات بائسة لأنهن لا يمتلكن هذا القرار، وحين تتاح لهن الفرصة يسعين الى القرار.
نستذكر هنا كيف طلبت نساء سوريات كثيرات حين لجأن الى ألمانيا ودول اوروبية، الطلاق لإنهاء أوضاع صعبة وقاسية كانت مفروضة عليهن، ولم يتمكنّ من إنهائها في مجتمعاتهن الأصلية.
استلهام خطاب حزب البعث
إسقاط النظام لا يعني بأي حال إسقاط فكره، الذي تغلغل عبر 54 عاماً بين السوريين وفي طريقة حياتهم وتفاصيلها كافة، إذ إن تصريحات الدبس تعكس في بعض جوانبها النهج التقليدي لفكر “حزب البعث العربي الاشتراكي”، بخاصة في ما يتعلق بالتوجهات المحافظة نحو دور المرأة والمجتمع. غالباً ما تبنى حزب البعث خطاباً مزدوجاً تجاه المرأة، فمن جهة، كان يدعو إلى “تحرير المرأة” وتمكينها كجزء من المشروع القومي، لكنه من جهة أخرى، عزز دورها التقليدي كأم ومعيلة ضمن إطار يخدم الدولة والمجتمع على النمط البعثي. واستلهام مثل هذا النموذج في قضايا المرأة يعيدنا إلى زمن تم فيه تسخير النساء لخدمة مشاريع سياسية على حساب حقوقهن الفردية.
تكمن المشكلة في خطاب عائشة الدبس، الذي يعد امتداداً لخطاب الحكومة الانتقالية، في أنه يعكس نموذجاً لحكم سياسي ديني محافظ يسعى الى تحديد أدوار الأفراد، سواء كانوا نساء أو رجالاً. فهذا الخطاب لا يُعنى بحرية الأفراد بقدر ما يركز على شكل السلطة السياسية وأهدافها وجعل المجتمع يسير بخدمة هذا الهدف السياسي.
درج
————————–
تحدّيات الزمن الانتقالي في سورية/ أنور الجمعاوي
30 ديسمبر 2024
كابد السوريون طويلاً من أجل إطاحة نظام دكتاتوري جثم فوق قلوبهم عقوداً، وانتهك حرّياتهم العامّة والخاصّة، واستولى على السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، واحتكر المجال العام، وحكم الناس بالحديد والنار، وقوّة البروباغندا والآلة القامعة، وبسطوة الأسرة والعصبية الطائفية والحزب الواحد. وتراقى النظام البعثي المطلق بالأسد ـ الرئيس إلى مقام المقدّس، وأدمن التنكيل بمعارضيه، فتحوّل البلد جمهوريةَ خوف بامتياز. وبدت الانتخابات بمثابة أحداثٍ صورية، تتعاود بشكل نمطي، نتائجها التسعينيّة معلومة سلفاً، وهي مُجرَّد إعلان بيعة للحاكم بأمره وحزبه المتنفّذ. لكنّ دوام الحال من المُحال. فقد ولّد الكبت الانفجار، وانتفض السوريون على بشّار الأسد، وخاضوا ثورةً ملحميةً على نظامه الشمولي الأحادي، ثورة عمّدوها بالآلام والتضحيات الجسام. وبدل أن يتفهّم حاكم دمشق مطالب المنتفضين وأشواقهم إلى الحرّية والكرامة والعدالة، استقوى عليهم بالخارج، وواجههم بأزيز الرصاص، وزمجرة الدبّابات، ورماهم بالبراميل المتفجّرة، ووزّعهم بين السجون والقبور، والملاجئ والمنافي.
وبعد أن انحسر ما يُعرف بمحور الممانعة، وفقد بشّار الأسد دعم حلفائه التقليديين (إيران، حزب الله، روسيا)، وتدهورت قدراته العسكرية والاقتصادية بشكل غير مسبوق، اغتنمت فصائل المعارضة السورية المسلّحة بقيادة هيئة تحرير الشام الوضع، وشنّت هجوماً واسعاً على قوّات النظام الحاكم، وبسطت في وقت قياسي سيطرتها على معظم المدن السورية، بدءاً بحلب، مروراً بحماة، وصولاً إلى حمص ودرعا واللاذقية ودمشق. وذلك في ظلّ بهتة جيش الأسد وانسحاب مليشياته، ومغادرة أسرته وحاشيته البلاد، وهروب الرئيس المخلوع إلى قاعدة حميميم الروسية، ومنها إلى موسكو، بحسب تقارير استخبارية متواترة. ومثّل سقوط منظومة حكم الأسد لحظة تحوّل تاريخي فارقة في سورية، فقد تحرّر الناس بعد عقود من إسار الخوف ومن وطأة نظام قمعي، استبدادي، ضاق معه العيش والأمل. وفي لحظة فرح عارمة، نزل الناس على اختلاف خلفياتهم الدينية والعرقية والطبقية والأيديولوجية إلى الشوارع، ليمارسوا حقّهم في التظاهر والاحتفال برحيل الدكتاتور وزمرته، رافعين شعارات من قبيل: “حرّية للأبد غصباً عنّك يا أسد”، “واحد واحد واحد.. الشعب السوري واحد”، “سورية حرّة أبيّة”، وهشّموا تماثيل الأسد الأب والابن وصورهما، ومزّقوا شعارات حزب البعث المنحلّ، تعبيراً عن قطيعة شعبية مع زمن كلياني غاشم، وشوقاً إلى بناء سورية جديدة ينعم فيها الناس بالحرّية والكرامة والعدالة والرفاه والسيادة ووحدة الصفّ. ومع أهمّية هذا التحوّل من دولة الاستبداد إلى دولة الثورة، فإنّه يحمل طيّه عدّة تحدّيات.
من المفيد الإشارة أوّلاً إلى أنّ ما حصل أخيراً في سورية عملية انتقال سياسي بأدوات عسكرية، وتتويج مسار ثورة شعبية، راوحت بين نهج السلمية والمقاومة المسلّحة، وبين النضال السياسي والنضال الميداني، ضدّ نظام سلطوي مُغلَق. وسُلّمت السلطة بين رئيس حكومة النظام السابق محمد الجلالي وإدارة العمليات العسكرية بقيادة أحمد الشرع (أبو محمّد الجولاني) في كنف السلاسة. وكُلّف محمّد البشير رئاسة حكومة تصريف أعمال مدّة ثلاثة أشهر. وبعث الثوار مبدئياً رسائل طمأنة إلى الرأي العام في الداخل والخارج، من قبيل تبنّي خطابٍ تآلفي معتدل، بعيدٍ من التعصّب، وحريص على احترام الأقلّيات ومختلف الطوائف، ورفض الانخراط في دوّامة العنف على خلفية الثأر والانتماء الهووي، وعدم المسّ بالممتلكات العامّة والخاصّة. ونجحت (نسبياً) الحكومة المكلّفة في بسط الأمن وتلافي سيناريو اندلاع الفوضى بعد هروب رأس النظام الشمولي.
لكنّ تعيين محمّد البشير، المحسوب على تيّار الإخوان المسلمين، في منصب رئاسة الحكومة، وتولّي الفريق الذي حكم محافظة إدلب إدارة البلاد بعد سقوط الأسد، من دون استشارة بقيّة مكوّنات المشهد السياسي السوري في الداخل والخارج، عدّه بعض المراقبين تجاهلاً للطيف المعارض، ومحاولةً من هيئة تحرير الشام للاستئثار بالحكم. وهو ما نفته الهيئة، مبرّرةً ذلك بإكراهات الظرف الانتقالي، التي اقتضت التعجيل بتشكيل حكومة مؤقّتة لضمان استتباب الأمن واستمرارية فاعلية مؤسّسات الدولة الحيوية. كذلك عبّر آخرون عن خشيتهم من أن تؤدّي المبالغة في نقض إيران والمكوّن الشيعي، والاحتفال بهيئة تحرير الشام وقائدها السنّي، إلى إعادة دولة مذهبية طائفية أحادية. وتواجه الحكّام الجدد في سورية، من الناحية السياسية، عدّة أسئلة، هي في مقام التحدّيات، من قبيل: ما هُويَّة الدولة الجديدة؟ هل ستكون دينيةً أم مدنيةً أم عسكريةً؟ ما طبيعة نظام الحكم، هل سيكون جمهورياً أم ملكياً، برلمانياً أم رئاسياً أم مختلطاً؟ وما محامل الدستور الجديد، ومن يتولّى صياغته؟ وما مدى احترامه للحرّيات العامّة والخاصّة ومبدأ الفصل بين السلطات؟ وكيف يتمّ تأمين التداول على السلطة؟ ما طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم؟ هل سيتمّ إحداث قانون انتخابي جديد، وآخر للتنظيم الحزبي والجمعوي والنقابي؟… الإجابة عن هذه الأسئلة، وغيرها، بطريقة تشاركية جامعة تُعدّ تحدّياً حقيقياً، ونجاح السوريين في رسم خريطة طريق واضحة المعالم للمرحلة الانتقالية القادمة، وتوسيع دوائر الحوار والمشاركة في صناعة القرار، سيعزّزان الشعور بالمواطنة داخل الاجتماع السوري، وسيعطيان قوى التغيير حاضنةً شعبيةً واسعةً وازنةً. كذلك سيساهمان في رفع العقوبات الدولية المفروضة على سورية.
على الصعيد الاقتصادي، ورثت حكومة البشير عن دولة البعث اقتصاداً سورياً متهالكاً، غلب عليه استشراء الفساد المالي والإداري، وارتفاع الأسعار، وانتشار الاحتكار، وتدهور المقدرة الشرائية، وانهيار البنية التحتية، وانحدار العملة والناتج الزراعي والصناعي. وتشير إحصاءاتٌ صادرةٌ عن البنك الدولي والأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي إلى تقلّص الناتج المحلّي الإجمالي بما يزيد على 85% (2011 – 2023) لينخفض إلى تسعة مليارات دولار. ومن المُتوقَّع أن ينكمش الاقتصاد السوري بنسبة 1.5% أخرى هذه السنة. وتسبّبت سياسات الأسد وحربه الدامية على الثورة السورية في انخفاض إنتاج النفط يومياً في البلاد من 383 ألف برميل قبل الحرب إلى 90 ألف برميل سنة 2023. وتراجعت المساحات الزراعية في البلاد 25% مقارنةً بما كانت عليه سنة 2011. بحسب بيانات التجارة الخارجية السورية، انخفضت صادرات البلاد 89% مقارنةً بما كانت عليه قبل الثورة، لتبلغ أقلّ من مليار دولار. فيما هبطت الواردات 81% فهي تُقدَّر بـ3.2 مليارات دولار. وفقدت الليرة السورية قيمتها في مقابل الدولار الأميركي بمقدار 270 ضعفاً (2011 – 2023)، ونجم عن ذلك تزايد التضخّم في البلاد. ويبلغ متوسّط المرتبات الشهرية نحو 300 ألف ليرة سورية (119 دولاراً تقريباً). فيما تقدّر ثروة عائلة الأسد بين مليار وملياري دولار، بحسب تقارير متواترة. ويعاني معظم السوريين من صعوبات جمّة في الحصول على الماء والكهرباء، والخدمات، والمواد الغذائية الأساسية. وبناءً عليه، فإنّ حكّام دمشق الجدد مطالبون، بحسب مراقبين، باتخاذ تدابير استعجالية لتحسين الوضع الاقتصادي، لعلّ أهمّها توحيد السياسة النقدية وتثبيت العملة، وإعادة هيكلة البنك المركزي وتأمين استقلاليته، وتكثيف مسالك الإمداد بالسلع الأساسية، وضمان وصول الدعم إلى مستحقّيه، خصوصاً في المناطق الطرفية، وتفعيل دور منظّمات المجتمع المدني والهيئات الإغاثية والخيرية في الإحاطة بفاقدي السند وذوي الدخل المحدود، وتجميد الديون إلى حين، وإحداث برامج تمويل عاجلة للمشاريع الصغرى، وتعزيز الرقابة على الأسعار ومكافحة الاحتكار، وترميم البنية التحتية، وضبط خطّة شاملة لإعادة إعمار الأحياء والقرى المدمّرة، وإحياء القطاعات الإنتاجية، وفي مقدّمتها القطاع الزراعي، واستئناف تصدير النفط في المناطق التي كانت محلّ نزاع بين النظام الحاكم وفصائل المعارضة المسلّحة.
من الناحية الأمنية والعسكرية، أحدث سقوط النظام وانهيار جيشه وتلاشي أجهزته الاستخبارية فراغاً أمنياً كبيراً. لكنّ عملية ردع العدوان، بقيادة هيئة تحرير الشام، تمكّنت نسبيّاً من سدّ ذلك الفراغ، ونشرت قواتها في معظم المحافظات السورية على نحو ساهم في تأمين الممتلكات العامّة والخاصّة، وتجنيب البلاد الانزلاق في مهواة العنف. وتواجه المنظومة الحاكمة الجديدة عدّة تحدّيات، من بينها ضرورة وضع حدّ للتسلّح العشوائي وحصر السلاح بيد الدولة، وحتمية دمج الفصائل المسلّحة تحت راية الجيش الوطني. ويقتضي ذلك إعادة بناء المؤسّسة العسكرية، وتكوين جيش نظامي، احترافي، يقف على مسافة واحدة من كلّ الفرقاء السياسيين، ولا يرتهن لزعيم أو مذهب أو حزب أو طائفة. بل يدين بالولاء للوطن، ويتولّى الدفاع عن حدوده وثغوره، وسيادته واستقراره، ووحدته الجغرافية. ويقتضي ذلك تطوير الدفاعات البرّية والبحرية والجوّية السورية، وتربية جيل جديد من الأمنيين والجنود على ثقافة المواطنة وحقوق الإنسان. ومن المهمّ الإفادة في هذا الخصوص من تجارب وخبرات جيوش دول متقدّمة، وإبرام اتّفاقيات تدريب ودفاع مشترك معها. ويفترض تحشيد الرأي العام العربي والدولي لوضع حدّ لانتهاكات إسرائيل لسيادة سورية ووحدتها الترابية، وإلزامها باتفاقية فكّ الاشتباك (1974).
تحتاج مكوّنات الاجتماع السوري إلى كثير من التحاور والتوافق والتكاتف، لكسب تحدّيات الانتقال الشامل، وبناء معالم دولة تقدّمية، تعدّدية، عادلة.
العربي الجديد
—————————–
عن اللقاء مع السيد أحمد الشرع/ طه بالي
عندي نفور عام من السلطة يقترب من اللاعقلانية، إضافة لتحفظات خاصة بهيئة تحرير الشام لأسباب معروفة، رغم تحسن أداءها الملفت بالآونة الأخيرة. مشان هيك ما كان بديهي لما أتيحت فرصة اللقاء أن أنضم، بس بعد تفكير ونقاش مع مجموعة صغيرة من الناس اللي بثق برأيهم قررت أن فائدة الموضوع أكبر من ضرره.
يمكن كل حدا بينظر للموضوع بشكل مختلف بس شخصيا ممكن فكر ب ٤ أمور دفعتني باتجاه الذهاب:
١- محاولة إيصال أصوات متنوعة أكتر كل ما توسعت دائرة الحضور
٢- قرار مسبق بالكتابة عن التجربة بهدف الشفافية ونزع الغموض demystification عن علاقة “الشعب” و”الحاكم” ما أمكن
٣- اعتقادي بضرورة الاشتباك السياسي مع كافة الأطراف السورية اللي منتفق معها واللي منختلف، الشيء اللي حرمنا منه النظام السابق لنصف قرن
٤- سبب أناني وهو فضول معرفي/تاريخي شديد صعب المقاومة، وربما أعوض عنه بكتابة هالبوست ومشاركة التجربة
ممتن للدكتور طارق كتيلة والدكتور منذر يازجي وآخرين على تنظيم الموضوع وإتاحة هالفرصة النادرة. ترتيب وتنظيم رحلة مجموعة (بعض) السوريين الأميركيين تم على عجالة خلال الأسبوعين الماضيين، والإضافة كانت سهلة على القائمة حسب تجربتي، فالقائمة توسعت تدريجيا وبشكل عضوي على إحدى مجموعات الواتساب. الفكرة كانت سفر مجموعة سوريين أميركيين ولقاءهم مع سياسيين وإعلاميين بالإمارات ثم قطر ثم سوريا (بحالتي انضميت في سوريا فقط)، ومن ثم حضور مؤتمر UOSSM الطبي في دمشق. موضوع اللقاء مع الشرع بالذات تم تأكيده قبل عدة ساعات، مساء الخميس، وأنا شخصيا اضطريت اشتري جاكيت رسمي من القصاع صباح الجمعة (شكرا أيتها الفسيفساء السورية)
هدف اللقاء الأساسي عمليا كان تبادل آراء وتشاور حول ما يمكن فعله لتحسين العلاقات بين سوريا والولايات المتحدة، وواقعيا النقطة الأهم هي رفع العقوبات الاميركية (اللي مستبعد جدا يصير قبل وصول ترامب للسلطة)
اجتمعنا قبل ساعات من اللقاء للتفكير بما يمكن قوله ولترتيب الأفكار والأدوار. الاجتماع والنقاش كان بمكان مفتوح (لوبي فندق الشيراتون)، يعني ما شعرنا للحاجة بالتكتم حول أي تفاصيل
الاجتماع استمر ساعة زيادة عن المخطط له. أحمد الشرع كان برأس القاعة والى جانبه وزير الخارجية، والحضور حوالي ٢٥ شخص، رجال وسيدات، بعضهم أصدقاء قدامى وبعضهم تعرفت عليهم بنفس اليوم. الغالبية أطباء (كالعادة) ولكن ليس الجميع، ومع توجهات فكرية مختلفة
إدخال الموبايلات كان ممنوع. ما حدا طالبنا بعدم الحديث عن ما جرى باللقاء، فرح حاول انقل انطباعاتي وما أذكره ما أمكن.
بدأت الجلسة بمداخلة للشرع ١٠-١٥ دقيقة، بشكل أساسي تحدث عن سعادته بالعودة إلى دمشق (“اللي ما في بلد أحلى منها” او بما معناه)، بكلام نبرته أدبية ووجدانية لدرجة بعيدة. ومن ثم انتقل للكلام عن الوضع البائس للمدينة حاليا التي “لم تتغير من ٢٥ سنة” وللبلد عموما ولمؤسساته، ولاعتماد النظام على تقنيات عتيقة جدا وغرق الحكم الجديد بالورقيات وصعوبة سحب بيانات مؤتمتة منها، ومن ثم عن العقبات اللي بتشكلها العقوبات الاميركية أمام بناء البلد الخ
انتقلنا بعدها للأسئلة، دقيقتين تقريبا لكل شخص. ١٠-١٥ تحدثوا من اصل ~٢٥. أغلب الحديث كان عن السياسة الاميركية وصورة سوريا باميركا، والعكس. اكتر من مداخلة كانت عن أهمية تحسين الأداء الإعلامي وإيجاد مصدر موثوق يعطي تحديثات دورية
مداخلتي شخصيا كانت عن أهمية توضيح تفاصيل المرحلة الانتقالية وخطها الزمني بما يشمل العدالة الانتقالية التي يجب أن لا تتوقف عند محاسبة انتهاكات النظام (ولو كانت هي الغالبية العظمى). سألت سؤال تاني شوي خارج سياق الجلسة، وبسبب تجربتي اليوم السابق عند مدخل فرع المخابرات الجوية، عن أهمية المبادرة لحفظ الوثائق بفروع الأمن وتوثيقها
الجواب كان طويل ومفصل وبشكل أساسي تمحور حول الصعوبات اللوجستية المحيطة بموضوع تنظيم انتخابات بشكل فوري، مثل تواجد ملايين السوريين خارج البلد وكثير منهم يعاني من “انقطاع قانوني” مع سوريا، ومثل عدم دقة المعلومات الإحصائية الموجودة حاليا. أيضاً حديث طويل عن أهمية الدستور كوثيقة تكتب مرة كل عدة أجيال، وعن تعقيد الوضع القانوني والاحتمالات المختلفة للتعامل مع الدستور الحالي. الجواب عن حفظ الوثائق كان إيجابي بدون تفاصيل، وتذكير بقصر الفترة الزمنية منذ سقوط النظام (“ما كان هالشهر يخلص”؛ ساعتها انتبهت أن اللقاء صادف كونه بالذكرى الشهرية الأولى لانطلاق ردع العدوان)
لهجة الحديث السياسية كانت توفيقية وتوافقية سواء مع الخارج أو الداخل.
خارجيا، تكلم عن أهمية تخفيف وتجاوز المشاكل مع دول المنطقة، بما فيها ايران التي جاءت إلينا ولم نذهب إليها. وذكر عدة دول إقليمية التواصل معها إيجابي بما فيه الإمارات ومصر والعراق.
داخليا، الكل ضحية النظام بما فيه العلويين؛ “الثورة انتهت” ويجب أن نستوعب من لم يشارك فيها؛ يجب أن نتجنب “اللعنة الثورية” ضد من لم يكن منخرطا بالثورة كما حدث في ثورات سابقة؛ المصالحة بين الفصائل الثورية أساسية؛ المشكلة مع قسد ستحل قريبا؛ التوتر [الطائفي] بالأيام القليلة الماضية متوقع بسبب دور النظام بتمزيق النسيج المجتمعي السوري “لستة أجيال” ويجب ان لا نهوله. اعتبر أن الفيدرالية حل سيء في سوريا لأنه سيخلق خطوط صدام داخلية جديدة تتحول لأعمال عنف وحروب ومدخل للتدخلات الخارجية
كان واضح الاعتزاز بتجربة إدارة إدلب وقت السلم وبنفس درجة الاعتزاز بالنجاح العسكري لعملية ردع العدوان. برر تعيين ناس مقربين بيعرفهم من سنين بأغلب المناصب الحيوية بحاجته لثقات بيفهموها عالطاير (“ممكن اكتبله سطرين على ورقة يشتغل فيها شهرين”) بمرحلة منع انهيار الدولة
بالعموم انطباعي عنه هو امتداد للانطباع بعد مشاهدة مقابلة الـ BBC، ولكن بشكل أوضح وأعمق. بمعنى، كان الحديث شكلا ومضمونا “دنيوي” جدا ومغرق بالتكنوقراطية مع غياب للأدلجة او للإحالات الدينية من أي نوع. لولا وجود الشأن الدولي كان ممكن الحديث يكون مع وزير أو رئيس بلدية مدينة كبيرة. تحدث بالتفصيل بمواضيع تقنية قانونية واقتصادية وتكنولوجية (أتمتة البيروقراطية السورية، العملة الافتراضية، استخدام ال “GIS” بالمعارك الخ)، واستخدم عدة كلمات انجليزية بشكل عفوي (data centers, Zoom، update، team). ببعض الحالات كان الحديث عن مشاريع كبرى استراتيجية لا يمكن تحقيقها قبل سنوات (مد قطارات حديثة بأنحاء سوريا، التنقيب عن الغاز بالبحر إلخ)
على المستوى الشخصي، صوته منخفض نسبيا وجدي أغلب الوقت. تكلم بلغة عامية رسمية ولكنة شامية خفيفة. أفكاره جاهزة وربما محضر للقاء سلفا، وواضح أن طريقة الحديث مختلفة حسب نوع الوفد. حسيت من لغة الجسد أن الإطراءات بتعمله ملل بينما الأسئلة الصعبة بتولد اهتمام وتفاعل بدون ما يكون دفاعي. مشي مع الناس بعد انتهاء اللقاء وكان دمث وأبدى اهتمام بمعارف مشتركين وسأل عنهم بالتفصيل. صحلي احكي معه وطلبت يقلي اسم كتاب أو كتابين بيساعدوا نفهم طريقة تفكيره. تفاجأ بالسؤال وقلي هدا سؤال ملغوم مع ضحكة، بعدين اجاب بانه قراءاته الأساسية في الفلسفة (“بعمق”)، والتاريخ (المحلي والعالمي)، والأمور التكنولوجية.
بالنهاية، شيء متوقع يكون الانطباع بعد هيك اجتماع إيجابي وأنا لا أقصد بهذه الشهادة تلميع صورة الحكم الجديد بقدر ما انقل شهادتي حول ما حدث.
الفيس بوك
———————————-
الطائفية كهزات ارتدادية للزلزال السوري/ نبيل سليمان
30 ديسمبر 2024
تواتر وصف سقوط النظام في سورية بالزلزال على نحو لافت. ففي صحف الشرق الأوسط، والقدس العربي، والنيويورك تايمز و.. وبخاصة في العربي الجديد، وصف حازم صاغية، وجواد العناني، وراشد عيسى، وحسن مدن، وحسن نافعة، ونيكولا كريستوفر، وعيسى الشعيبي، وكمال عبد اللطيف، وعلى أنوزلا، وغسان شربل و… وصفوا ذلك السقوط بالزلزال، بينما قال القائد العام للإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع في حوار مع جريدة الشرق الأوسط في 19/ 12/ 2024: “الثورة السورية انتهت مع سقوط النظام”.
ولئن كان للحديث عن الزلزال السوري مقام آخر، فالحديث هنا هو للهزات الارتدادية التي وقعت مساء الأربعاء 25/ 12/ 2024 في اللاذقية، وجبلة، وطرطوس، وحمص، وصولًا إلى حي المزة 86 في دمشق.
كان المساء يتبلل بالرذاذ عندما دخلت مائسة ومنذر ــ ابنتي وزوجها ــ يسبقهما القلق: لماذا؟ لأن شبابًا يتوسطون دوّار الزراعة ــ على بعد 400 م من منزلي ــ ويهتفون للخصيبي، بينما يتحلق المتفرجون حول الدوار.
لماذا الخصيبي: سألت.
ليس لي من وسائل التواصل (اللااجتماعي)، ولا من السوشيال ميديا إلا الواتس، فأنّى لي، إذًا، أن أسمع، أو أرى، الفيديو الذي جلجل وقلقل، وسرعان ما صار ردّةً اهتزازية، وأخرج أسوأ ما أثقل.
هو اعتداء، إذًا، على ضريح الحسين بن حمدان الخصيبي. اعتداء على المؤسس الذي يمّم إلى حلب قادمًا من العراق، أو من مصر، على رأي خير الدين الزركلي في مصنّفه “الأعلام”. هو اعتداء على من اتصل بسيف الدولة الحمداني والمتنبي، وبات له في حلب جامع الشيخ بيرق، أو يبرق. لكن الفيديو من عمر تحرير حلب، فلماذا الآن؟
بينما الأسئلة تتدافر، كانت الردة الاهتزازية تتطاول وتتعاظم: من دوّار الزراعة في مدخل اللاذقية، إلى شارع الجمهورية، إلى ساحة الحمّام، إلى…
ها هنا أتوقف عن العدّ، لأن الرصاص صرع الشاب جعفر حسن عيسى، من قرية البودي، القرية التي فيها قبور من سبقوني من أسرتي، وفيها منزلي الذي اعتدى عليه الشبيحة في 10/ 7/ 2011، وكتبوا على البوابة: (هذا منزل العرعور) جزاءً وفاقًا على ما يعلم من أمروهم من مواقفي من النظام منذ 1963، وليس فقط بعد 2011.
وحده جعفر حسن عيسى كان ضحية الهزة الارتدادية العلوية في اللاذقية، بينما كانت تلك الهزة تتلاشى، والتعزيزات العسكرية تسرع إلى المدينة، والأمر بحظر التجول يسابق هزة أخرى في مدينة جبلة، وهزة أكبر في طرطوس، وهزة أكبر في حمص و… أعوذ بالله من شرّ غاسقٍ إذا وقب، والغاسق هنا هو الليل إذا أظلم.
منذ صبيحة الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024، حتى مساء الأربعاء، الخامس والعشرين منه وأنا ألهج حتى في نومي: هذا هو العرس الذي لا ينتهي في ساحة لا تنتهي/ هذا هو العرس السوري. وكنت أرى محمود درويش يبتسم غامزًا، لأنني بدلت قوله (هذا هو العرس الفلسطيني).
كانت الليلة السابقة، ليلة الثلاثاء، الرابع والعشرين من شهر العرس، قد أضاءتها شموس عيد الميلاد، حتى إذا أحرق الأوزبكيان شجرة الميلاد في السقيلبية، كادت هزة ارتدادية أن تكون في تلك المدينة التي دخلتُها أول مرة في ضحى الخامس والعشرين من شهر تموز/ يوليو عام 1968 قادمًا من مصياف مشيًا بالبوط العسكري (37 كم) متزنرًا بالكلاشينكوف والبطانية الملفوفة، متوركًا مطرة الماء ــ من الورك ــ أثناء دورة تدريبية على العمل الفدائي.
بعد ليلة الهزات الارتدادية الطائفية، العلوية والسنية، بليلة، أي في ليلة السادس والعشرين من شهر العرس، سيسبقني رامي عبد الرحمن (المرصد السوري لحقوق الإنسان) على شاشة العربية، في تقدير الحكمة والحزن اللذين واجهت بهما الإدارة السورية الجديدة حريق السقيلبية بالقبض على الأوزبكيين من كتيبة البخاري الطلابية الموالية لطالبان، وبالاعتذار من أهل السقيلبية. وسيسبق رامي عبد الرحمن بالسؤال: لماذا لم يواجَه حريق فيديو الخصيبي بالطريقة نفسها منذ يومه الأول؟ وسأضيف متسائلًا: أما كان ذلك سيسحب البساط من تحت أقدام المتربصين أيًا كانوا، من إيران إلى أوكار فلول النظام أينما كانوا، وبأي لبوس ظهروا؟
لكن ما كان قد كان، والأخلاط تختلط ساعةً فساعةً، ويومًا فيومًا، وهذا الشيخ الدكتور دريد قادرو يهدر ملء شاشة تلفزيون سوريا محذرًا من الفتنة الطائفية ونذيرًا، ومبشرًا بالوحدة والتوحد الوطني. وللشيخ خالد كمال رجع النشيد، والشيخان من اللاذقية، الثاني سنّي، والأول علوي يذكّر بخاله الشيخ بدر غزال الذي اختطف وقُتِل في 26/ 8/ 2013. ومن نشيد الشيخين إلى بيان من حمص، وبيان من اللاذقية، في جمعة الحِداد 27/ 12/ 2024، والبيانان منسوبان لعلويين يحذرون من الفتنة والطائفية. لكن ما هو أمضى ما نقل تلفزيون الخبر عن مجلس العزاء الذي أقامته نساء من ريف جبلة، لضحايا صيدنايا، وضحايا كل صيدنايا في سورية، والرسالة التي أرسلتها هذه المجموعة إلى ذوي الضحايا في أرجاء سورية، والأخلاط تختلط كأنما هي رجع هزّة/ هزات ارتدادية، فتصدح مكبرات الصوت: ارفع راسك فوق/ إنت سوري حرّ، ومن روايتك “ليل العالم” (2016) يأتي الصدح: ارفع راسك يا بو الشهيد، ويأتي الصداح: مجاريحْ عجّل نصرك يا الله، والدعاء مستجاب ولو بعد حين امتد حتى الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024.
لكن الطائفية تعاجل الفرح والنصر بما يضاعف القلق، فتفتح الدفاتر العتيقة عملًا بحكمة العوام، وتقرأ ما كتبتَ منذ سنوات تحت عنوان “المثقف والطائفية” في كتابك “في التباب ونقضه”، الذي صدر عام 2019 في القاهرة، ومُنع من التداول في سورية التي كان الكابوس الأسدي قد تطاول عليها خمسة عقود، أو قلْ: كان الكابوس البعثي قد تطاول عليها ستة عقود إلا قليلًا.
في ما كتبتَ، عرّيتَ أستار المثقف الطائفي، من المثقف العلوي الذي يزاود على نظيره السنّي، فيخوّن الطائفة العلوية من بابها إلى محرابها، إلى المثقف السنّي الذي داهن الرايات السود. وفي السعي إلى تفكيك ظاهرة المثقف الطائفي بخاصة، والطائفية بعامة، ناديتَ ما كتب عزمي بشارة عن الطائفة والطائفية والطوائف المتخيلة، ليصح الحديث عن الطائفية كمتخيل اجتماعي. وعلى هدي من ذلك، يأتي الحديث عن الصدع الطائفي السوري، كما الصدع الإثني، وربما كان أوجع وأكبر ما في هذا الصدع هو ما يتعلق بالعلوية. لا تنسَ الدرزية، والإسماعيلية، والإيزيدية. هل نسيت المسيحية؟
إلى الصدع الآن أنادي رواية “شارع الخيزران” (2014) لحسن صقر، الذي رحل في مطلع العام. وقد كانت اللاذقية فضاء الرواية، وفيها دوّى صوت الشيخ “أنا سنّي، وأشعر بالولاء للإمام علي. لا أحمل هوية مغلقة”. وفي الرواية يدوّي صوت الأستاذ عبد الجليل من روّاد حزب البعث، فينعي حزبه الذي عجز عن أن يوحّد حي الرمل الشمالي العلوي مع حيّ الرمل الجنوبي السنّي، في المدينة التي طالما دوّى فيها الصوت السوري، ليس فقط غير الطائفي، بل ضد الطائفية، منذ العهد بعبد السلام جود، وبدوي الجبل، ونبيهة حداد، وإلياس مرقص، وعبد الله عبد، و… إلى هاني الراهب، وليلى نصير، وبو علي ياسين، ومنذر مصري، وسواهم من الشعراء والكتّاب والفنانين.
مع أولاء، ومع نظرائهم في أرجاء سورية، تتصدى سورية للهزات الارتدادية الطائفية وغير الطائفية، بينما تتفجر الأسئلة عن مؤتمر وطني وإعلان دستوري والخوف المضاعف، من شقّه المشرش والمتخلّق مثلًا بالزوج والأستاذ والفقر والمخابرات و… إلى شقّه الجديد المتخلّق بهذا المجهول القادم من إدلب، أو المتنكّر بصخب التمجيد والتهليل. وهي أيضًا الأسئلة المتفجرة عن نُذُر الثأر والانتقام والاستعلاء والاستفزاز، أو عن العربدة الإسرائيلية في حَضَر، وجباتا الخشب، والقنيطرة، والتلول الحمر، وسد المنطرة، وعين الحمرا و… وكل الجولان الذي أوكلت إسرائيل حمايته للأسد الأب فالابن منذ عام 1973؛ وكذا هي الأسئلة عن تجنيس المقاتلين غير السوريين، من الإيغوريين، إلى المصريين، وصولًا إلى المواطن الذي لا طائفة له إلا سورية، لذلك تراه يجأر: حذار من الديكتاتورفوبيا، أو الإسلاموفوبيا، ومن كل فوبيا.
ضفة ثالثة
———————————
أحمد الشرع… المدير العام لسورية/ علي العائد
30 ديسمبر 2024
خلافًا لبازار الكلام الجاري في سورية ما بعد الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024، فاز أحمد الشرع، وحزبه من المقاتلين، في انتخابات الدم في البلاد، بعد أن أزاح نظام بشار الأسد إلى الأبد، وحل مكانه حاكمًا عامًا لسورية حتى الأول من آذار/ مارس 2025، وهو الموعد المفترض كي تبدأ المرحلة الانتقالية نحو سورية الجديدة، أو الجمهورية الثالثة، كما يحلو لبعضهم أن يسميها.
لم يتحدث أحد عن شرعية ثورية، ولم يعلن الشرع وفريقه المرتبك من وقع مفاجأة إسقاط النظام السابق عن حالة طوارئ، أو محاكم تفتيش، على الرغم من وجود ملامح من ذلك في يوميات الحدث السوري هذه الأيام. ولولا قرار إبطال العمل بالدستور السابق، لقلنا إن حالة الطوارئ النافذة من عام 1963 ما زالت تحكم سورية.
شكل الحزب الفائز في انتخابات 8 كانون الأول/ ديسمبر نواة حكومة، وتوسع فيها، وأصدر قوانين وبلاغات، في ظل عدم وجود دستور في الحالة الإسعافية التي تعيشها البلاد، مع حد أدنى من البروتوكولات الطبية اللازمة في غرفة إسعاف سورية، وبإجراءات أولية تبدأ من تطهير الجروح، وتصل إلى حد البتر في حالات تنسب إلى أفراد منفلتين. كل هذا جاء كرد فعل، وليس في سياق سياسي، أو عسكري.
ذلك الانفلات، وفورة الدم تلك، وقلة فهم مفردات المرحلة الجديدة، جعلت بعض الأفراد المقاتلين يتشبهون بنظام الأسد البائد، بظلم بعض الناس من الطائفة العلوية تحديدًا، وأخذ الصالح بالطالح.
الحزب الحاكم الآن في سورية يحق له وفق الجدول الزمني الذي حدده هو نفسه، أن يحكم بما يشبه حالة الطوارئ، ففي الأصل المحاكم الآن معطلة، بينما نسمع في كل يوم، وكل ساعة، عن القبض على رموز من النظام الدموي الأسدي. هؤلاء، في مجموعهم، على الأقل، يمثلون صندوقًا أسود لمرحلة حكم الأقبية المظلمة لما يزيد على 54 عامًا، وهم بالبديهة صيد ثمين لمنظمات حقوق الإنسان السورية، التي تعد منذ سنوات طويلة، في سنين الثورة، وما قبلها، ملفات لمحاسبة منتهكي حقوق السوريين. وإن لم تستغل هذه المنظمات الفرصة، عاجلًا، فقد يُفرِّط “خطأ فردي” بحياة أحد هؤلاء المجرمين، ويأخذ معه شهادته، وما يملكه من أدلة قد تدين النظام السابق برمته، أو تدين أفراده على مدى عشرات السنين منذ 1970.
هنا، على أحمد الشرع، باعتباره المدير التنفيذي لسورية الآن، تشكيل فريق محمي من مقاتليه الخواص لتسلم وتسليم كل من يتم القبض عليه من المتهمين بتنفيذ بروتوكولات المعتقلات السورية، من اعتقالات وأحكام وإعدامات وتغييب، وصولًا إلى كل ما يُحكى عن الاتجار بالأعضاء البشرية للمعتقلين، أو المختطفين، وبيعها إلى كل من إيران وروسيا.
هذا الملف ينبغي أن يكون ساخنًا، وعاجلًا، بمعنى أن تتم المحافظة على هؤلاء تحت أي ظرف، وحمايتهم، والحصول على كل ما يمكن أن يشكل أدلة وشهادات تثبت حقيقة التاريخ الدموي للنظام أمام محاكم محلية، أو دولية. صحيح أن النظام لم يترك قرينة شك واحدة قد تبرئه، لكن المحاكم تحتاج إلى أدلة وشهادات موثقة لا يرقى إليها شك، وإلا يُفسر الشك في مصلحة المتهم.
مرة أخرى، على الحزب الحاكم الفائز في “الانتخابات” أن يقدم برنامجه الانتخابي، على اعتبار أن مفاجأة إسقاط النظام لم تتح لأحد في سورية التفكير في مثل هذه التفاصيل التي تحتاج إلى زمن طويل نسبيًا. هذا “البرنامج الانتخابي” أنجز مهمته الأساسية في إسقاط النظام، ويجري الآن فرض الأمن والسيطرة، وإزالة خطر السلاح المنفلت، وكبح أي فعل، أو كلام، قد يمس بأمن الناس في أنحاء البلاد، والقبض على كل أعوان النظام المتورطين في الدم، أو الاعتقال، أو التعذيب، أو كل ما له صلة بذلك، من خطف، أو احتجاز، وطلب فديات، وهي أعمال قام بها شبيحة النظام ممن فتحوا دكاكين على حسابهم كان أقلها التعفيش وعرض متاع الناس للبيع في ما عُرف قبل سنوات بـ”أسواق السُنَّة”.
الحزب الحاكم في دمشق اليوم أمام فرصة سانحة لإثبات جدارته في إدارة شتات دولة، ومحاولة تأمين الموارد المالية لإصلاح وترميم ما يمكن تسييره من بنية تحتية متهالكة، وتوفير المياه والكهرباء. وأمام فرصة أن يقدم نفسه كمدير للمرحلة الانتقالية، عندما يتم اختيار مجلس تأسيسي، وتتم كتابة دستور للبلاد، والاستفتاء عليه ليكون دستورًا مؤقتًا، أو دائمًا. ومن ثم وضع قانون انتخابي، تمهيدًا لانتخاب برلمان، برلمان قد ينتخب رئيسًا للبلاد إذا تم اعتماد النظام البرلماني، أو يراقب انتخابات عامة في ما لو تم اعتماد النظام الرئاسي. كل ذلك أمام المدير العام لسورية، لكي يعد سورية لمرحلة أن يكون رئيسًا لسورية إذا كان يطمح لهذا المنصب، وكي يتنافس مع آخرين ترشحهم الأحزاب التي تعد نفسها الآن للتقدم وكسب ثقة السوريين.
في ما يتعلق بهذه المرحلة، ليس هنالك وهم لدى أحد من السوريين أن السنِّي سينتخب المرشح المسيحي، أو ينتخب الكردي مرشحًا عربيًا. ما زلنا بعيدين عن هذه المثالية التي تقدم الكفاءة على الانتماء الديني، أو العرقي، وأن تكون خيارات السوريين لبرنامج انتخابي سياسي بغض النظر عن انتماء المرشح. نعم، ما زلنا في حاجة إلى تدريب، والمهم الآن التدرب على الاختيار، وننتظر إن كان المستقبل سيشهد خيارًا سياسيًا للسوريين في انتخابات يكونون قد اعتادوا فيها أن تكون حرة ونزيهة، مع أقل ما يمكن من التجاوزات.
ضفة ثالثة
—————————————
الأسد واليمين الفرنسي: نبيذ ومراقصة/ صبحي حديدي
تحديث 30 كانون الأول 2024
قبل خمس سنوات نشر على منصة تويتر (X حالياً) صورته في أحد مطاعم صيدنايا، يحمل في يده زجاجة نبيذ فرنسي من النوع الشعبي المعروف باسم “كوت دو رون”؛ متفاخراً بعثوره عليها هناك في تلك البلدة السورية، رغم ظروف الحصار المفروض على سوريا كما كتب.
لم يكن يجهل، بل كان يدرك جيداً، أنّ حفنة أمتار قليلة تفصله عن السجن الذي ستطلق عليه المنظمات الحقوقية تسمية “المسلخ البشري”؛ وبالتالي لم تُنتظر منه مفردة واحدة حول أهوال المكان، أو فظائع انتهاكات حقوق الإنسان في سائر سوريا.
ذلك لأنّ العشاء تمّ خلال واحدة من زيارات عديدة قام بها إلى سوريا، صحبة نوّاب وساسة وصحافيين فرنسيين، التقوا خلالها برأس النظام بشار الأسد والتقطوا معه صوراً تذكارية جماعية أو فردية على طراز الـ”سيلفي”.
إنه تييري مارياني، النائب في الاتحاد الأوروبي عن حزب “التجمع الوطني” الفرنسي اليميني المتطرف، الحزين اليوم على رحيل الأسد وانهيار نظام تغنى به على الدوام، وامتدحه على نحو خاصّ خلال 14 سنة بعد انطلاق الانتفاضة الشعبية السورية في آذار (مارس) 2011. وبين سلسلة التغريدات التي يواصل نشرها على X بعد فرار الأسد، ثمة واحدة تسير هكذا، على سبيل المثال فقط: “فرنسا تهنئ نفسها بانتصار الإسلاميين في سوريا.
وقريباً سوف يأسف هؤلاء أنفسهم إزاء موجة جديدة من اللاجئين وتصاعد تهديد الإرهابيين الإسلاميين في أوروبا”.
رئيس حزبه، جوردان بارديلا، سكت تماماً عن الفظائع التي أخذت تتكشف تباعاً، ولكنّ تعاطفه مع الأسد الفارّ اتخذ كالعادة وجهة مغايرة، مفضوحة بدورها: “سقوط نظام بشار الأسد، المتداعي بعد أن تخلى عنه داعموه الداخليون والخارجيون، يُلقي بالبلاد إلى الإسلاميين”؛ وهذا هو العنصر الأوحد الذي يعني بورديلا، صاحب الرأي القائل بأن فرنسا تلتقي مع الأسد في عدو مشترك يدعى “داعش”.
زعيمة الحزب مارين لوبين، دافعت طويلاً عن الأسد ونظامه، وطالبت مراراً باستئناف الصلات بين باريس ودمشق، ولجأت إلى توصيف الموقف هكذا، في سنة 2022: “قطع العلاقات الدبلوماسية مع سوريا أعمى أعيننا، خاصة في ميدان الكفاح ضدّ الإرهاب الإسلامي، ربما في البرهة الأكثر خطورة التي تمرّ بها البلاد”. والأسد متسلط، تتابع لوبين، لكنه “ليس بربرياً”، وأياً كان الاحتجاج عليه، فإنّ “الدولة التي يديرها بشار الأسد هي دولة، تحمي من بربرية الدولة الإسلامية”.
وكانت لها، بعد أن استقبلها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في ربيع 2017، مواقف مشهودة تطري القصف الروسي في سوريا، وتشدد على أنّ الشرّ الوحيد هو داعش، و”بشار لم يرسل جنوده لقتل أطفالنا في شوارعنا”.
وبمعزل عن اليمين الفرنسي المتطرف، تنامى من حول مغازلة النظام السوري يمينٌ فرنسي تقليدي، أو “جمهوري” كما يحلو لهم القول، امتدّ على كامل العقود التي أعقبت انطواء المدرسة الديغولية في السياسة الخارجية تجاه الشرق الأوسط عموماً.
فإذا كان أمثال لوبين وبارديلا ومارياني دعاة خطاب يميني متطرّف وعنصري وشوفيني ورهابي؛ فإنه أيضاً إنتاج وإعادة إنتاج لنمط فرنسي مبتذل من فلسفة “المحافظين الجدد” في أمريكا، كما بشّر بها الرئيس الفرنسي اليميني الأسبق نيكولا ساركوزي. وكانت زيارة الأخير إلى سوريا ولبنان ودولة الاحتلال الإسرائيلي خلال سنة 2008، بمثابة تطبيق عملي لخيار الوقوف على ما تبقى من أطلال الديغولية؛ أو بالأحرى، خرائب تلك الخرافة العتيقة التي سُمّيت ذات يوم بـ”السياسة العربية لفرنسا”.
في بيروت اعتبر ساركوزي أنّ رئاسته ضامنة (مسرحية أوّلاً، في الواقع، بدلالة تنفيذ الزيارة بعد انتخاب ميشيل سليمان، صحبة قادة الأحزاب السياسية الفرنسية + الروائي اللبناني الفرانكوفوني أمين معلوف!) للسلام الأهلي اللبناني وللمحكمة الدولية؛ فانتهت زيارته إلى ما يشبه إسدال الستار على فصل ناقص، نهايته معلّقة عند سلاح “حزب الله”، وجولة اجتياح بيروت في 7 أيار (مايو) تلك السنة. أمّا في دمشق، فإنّ التعاطي مع النظام وفق قاعدة “حوار على أسس واضحة، بشأن القضايا المشتركة”؛ انتهى إلى قصاصة ورق دسّها برنار كوشنر، وزير الخارجية الفرنسي يومذاك، في جيب وليد المعلّم، تتضمن لائحة بأسماء حفنة من المعتقلين السياسيين السوريين الذين ستبتهج فرنسا بإطلاق سراحهم!
جاك شيراك، الرئيس الأسبق، ومؤسس مدرسة اليمين ذاتها التي خرّجت ساركوزي، أعلن في سنة 2008 وكان قد غادر الرئاسة، مقاطعة احتفالات فرنسا بالعيد الوطني (لأنّ بشار الأسد سوف يكون على المنصّة، كما فُهم قراره ضمناً وليس تصريحاً). ولكنه كان شيراك نفسه الذي، في سنة 1999 رئيساً هذه المرّة، دعا الأسد الابن إياه إلى باريس ولم يكن الأخير يشغل آنذاك أيّ منصب رسمي، ما عدا رئاسة الجمعية المعلوماتية السورية؛ بترتيب مباشر من رئيس الوزراء اللبناني آنذاك… رفيق الحريري!
مراقصة الطغاة إرث طويل عريض في الجمهورية الخامسة، وأوّل زيارة قام بها الأسد الأب إلى باريس تمّت في عهد فاليري جيسكار ــ ديستان، 1976، بعد أشهر قليلة على دخول القوّات السورية إلى لبنان. حزن تيارات اليمين الفرنسي على سقوط الأسد اليوم لا يضيف إلى طنبور الرقص القديم سوى نغم جديد… نشاز، في كلّ حال!
القدس لاعربي
—————————–
سورية تعود إلى نفسها/ سامية عيسى
30 ديسمبر 2024
من السابق لأوانه أن نتحدّث عن مخاوف من “فوضى خلّاقة” في سورية، وفق المصطلح الأميركي للديمقراطية في الشرق الأوسط. كذلك، فإن استخدام “الشرق الأوسط” مصطلحاً جغرافياً للمنطقة العربية تجريد للمنطقة من عروبتها، وسكوت عن تغلغل أطراف إقليمية (إيران وإسرائيل وتركيا) لتعبئة الفراغ الذي تركته (ولا تزال) الأنظمة العربية من المحيط إلى الخليج، ذات الثقل الجغرافي والسياسي والديمغرافي والاستراتيجي في حياة هذه الأمة وشعوبها. وتعدّ سورية تاريخياً أحد مراكز الثقل هذه، رغم تهميش متعمّد لدورها في عهد النظام الأسدي، الأسود والبغيض.
من السابق لأوانه تحرّي السيناريوهات الدولية والإقليمية والمحلّية التي تُبيَّت لسورية، أو الضوء الأخضر الأميركي في ما حصل، فالزمن زمن الفرح، فرح سقوط الطاغية المجرم بشّار الأسد. فتلك فرحة لا تضاهيها فرحة ربّما، إلّا فرحة تحرير فلسطين، التي لا نعلم إلى متى ننتظرها. لكنّ هذه الفرحة السورية الغامرة امتزجت أيضاً بالغصّة ممّا كشفته وتكشفه السجون الأسدية من آلام كانت تختزنها، وراء جدرانها وفي أقبيتها، كنّا ندركها ونحسّها، بل نتخيّلها، لكن ما كان يحدث في الواقع فاق مخيلاتنا كلّنا. قد نحتاج إلى 55 عاماً من الحكي والسرد والبوح حتى يُفرّغ كلُّ معتقل ومعتقلة ما اختبروه من آلام وتعذيب ومهانة، منذ لحظة الاعتقال وحتى لحظة تحطيم أبواب السجون، واكتشاف ما كان يجري وراءها، فلم يقتصر الدمار على الأبنية، بل طاول كلّ شيء يمكنه أن يشبع نهم التعطّش لسفك الدماء وتحطيم الأرواح السورية (واللبنانية والفلسطينية) وهتك الأعراض والتلذّذ السادي بتعذيب السجناء والسجينات.
من السابق لأوانه ربّما أن نفصح عن مخاوفنا من صفحة جديدة في سورية، أو معرفة من يتربّص بسورية الآن في العلن والخفاء. لأنّنا نريد أن نفرح بسقوط الطاغية حتى الشبع، بغضّ النظر عمّا سيحدث غداً. لكن إسرائيل تسبق كل أوان، وتستعجل مخاوفنا، وهي تشنّ الغارة تلو الأخرى، وتستهدف مخازن أسلحة الجيش السوري، الذي هو جيش الشعب كما يفترض بجيوش الدول أن تكون، لا كما أراد له النظام الأسدي، الذي سخّره لقتل الشعب السوري وتدمير بناه التحتيّة وبيوته ومساكنه. وها هي إسرائيل تستبق الأحداث خشية أن يتمكّن جيش سورية بأسلحته وعتاده من حماية هذا الشعب أمام أطماعها نحو شرق أوسط جديد، تتولّى تنفيذه ووفق رؤية الولايات المتحدة في سعيها لتثبيت هيمنتها في هذا الجزء من الشرق، كي ترتّب نهب الموارد التي ما زالت المنطقة العربية تتنعم بها، وكي تؤمّن ظهرها حين تتوجّه شرقاً إلى بحر الصين، حيث الحرب الكُبرى هناك. لذلك، ليس غريباً أن تتولّى إسرائيل تأمين هذه المصالح والاستعدادات، وهي الذراع الأميركية وحارس مصالحها الاستراتيجية فيه. وها هي تسارع في تدمير كلّ مراكزه الأمنية ومطاراته ومرافئه العسكرية، وتحتلّ جبل الشيخ، وتتوغلّ على طول الحدود السورية الجنوبية كي تؤسّس منطقةً عازلةً بعد أن تخلّت عن اتفاق فكّ الاشتباك (1974) من جانب واحد، وقد تحتلّ مزيداً من الأرض.
تتولّى إسرائيل رسم الخطوط العريضة الجيوسياسة لشرق أوسط جديد، وتلعب بشكل سافر دور الأزعر الذي أطلقته الإدارة الأميركية يسرح ويمرح ويتغطرس، كما لم تفعل إسرائيل من قبل، وبهذه الشهية الجهنمية للقتل وارتكاب المجازر والإبادات، بدءاً بغزة وامتداداً إلى الضفة الغربية فلبنان وسورية، وذلك كلّه بذريعة الدفاع عن النفس. أمّا هيئة تحرير الشام وغيرها من فصائل الإسلام السياسي (بكل تنوّعاته)، تلك التي تعمل تحت مظلتها الجامعة، فهي أمام اختبار كبير تقدّمه إلى الشعب السوري المحاصر بالدمار والهشاشة على جميع الصُّعد، وآن له أن يرتاح ويبني ما تهدّم ويعيد لسورية طعم الحرّية. إسرائيل التي استغلّت وتستغلّ هشاشة الوضع في سورية، وسارعت قبل الجميع بتهميش جيشها عبر غارات تستهدف مقوّمات القوة التي تسمح لأبناء سورية وبناتها أن يحافظوا على سيادتها أمام كلّ طامع، كي تكون سورية حرّة وأبية. إن ورشة عمل لبناء ما تهدّم من بشر وشجر وحجر يُتوقّع أن تبدأ، وهي لحظة مفصلية في مستقبل المنطقة العربية، وليس في مستقبل سورية فحسب.
وعليه، الدول العربية مدعوة جميعها إلى مساعدة سورية في النهوض، حكومات وشعوباً، وفي مقدمتها دول الخليج، فمن دون سورية قويّة لا يمكن التفكير في استدامة النمو والازدهار لتلك الدول. فالقول إن سورية قلب الأمّة العربية النابض لم يكن مُجرَّد شعار فارغ. إنه حقيقة تاريخية جيوسياسية مكّنت سورية عبر التاريخ من الوقوف بوجه الغزاة، وساهمت في بناء الحضارة العربية العظيمة على مرّ العصور، وهذه الحقيقة التاريخية راسخة في العقل الجمعي السوري والعربي والعالمي، فضلاً عن ثباتها في إدراك شعوب المنطقة وأعدائها. لكنّ النظام الأسدي الاستبدادي المجرم غيّب دورها بجوهره المظلم الوحشي، حين عاث فساداً وتنكيلاً، ليس بالشعب السوري فحسب، بل بلبنان وبالقضية الفلسطينية، ولم يترك شيئاً إلّا وفعله للإضرار بمصلحة الأمة العربية، وساهم في تجريدها من إرادة التحرّر والنهوض، وكان الأسوأ بين أنظمة الاستبداد العربية.
مئات الألوف قضوا بسبب هذا النظام المتوحّش في سورية ولبنان وفلسطين. تآمر على شعبه وعلى الجميع، ويتحمّل الجزء الوافر ممّا حدث في لبنان من وهن وضعف، وما حدث للقضية الفلسطينية من تهميش، هذا فضلاً عن محاولات حافظ الأسد الدائمة في مصادرة القرار الفلسطيني المستقلّ من الشعب الفلسطيني، بل كان له إصبع في كثير من المجازر التي لحقت بالشعب الفلسطيني في لبنان وسورية، وما زالت حرب المخيّمات تذكّر العالم بوحشية هذا النظام وانتهاكاته ضدّ الشعب الفلسطيني، التي تفوّق فيها على جرائم إسرائيل نفسها، وقد تكشف الأيّام إصبعاً ما له حتى في مجزرة صبرا وشاتيلا، إذ توجد مؤشّرات عديدة على شراكته في هذه المجزرة من طريق العميل المزدوج إيلي حبيقة، الذي سارع النظام الأسدي السوري إلى تعيينه وزيراً محسوباً على هذا النظام، في أوّل حكومة لرئيس الوزراء رفيق الحريري بعد اتفاق الطائف، وبضغط منه. والكلّ يعلم كيف وقف ضبّاط الأسد وجنوده يتفرّجون على مذبحة تلّ الزعتر التي ارتكبتها آنذاك المليشيات المسيحية بحق أهالي تلّ الزعتر، كما مسؤولية بشّار الأسد عن تسوية مخيم اليرموك جنوب دمشق بالأرض، بعد حصار جوّع فيه الفلسطينيين، وقتلوا خلاله بوحشية لا تقلّ عن وحشية ما تفعله إسرائيل اليوم بأهالي غزّة. تزامن ذلك مع تدمير مخيّم حندرات في الشمال السوري، وتطويق مخيّم النيرب في حلب، وتجويع أهله، هذا غير الجرائم والتدمير الذي لحق بمخيم حمص وأهله. فاتورة جرائم هذا النظام لا تنتهي، وهي الأكبر ضدّ الشعب السوري، ولولا الإبادة الجماعية في غزّة، التي ما زالت تجري منذ 7 أكتوبر (2023)، لتفوّق نظام الأسد على بنيامين نتنياهو في حجم جرائم الحرب، والجرائم ضدّ الإنسانية، بل والإبادة الجماعية وتعذيب المعتقلين وإخفائهم قسراً. ولأن لا أحد حاسب أيّاً من هذين الأسدين الطاغيتين (الأب والابن)، منذ مجازر حماة وحلب في عام 1982، وامتداداً إلى المقتلة السورية الكُبرى منذ 2011، نعتقد أن نتنياهو تجرّأ على ارتكاب هذا الكمّ الهائل من الجرائم والمذابح الجماعية.
سجلّ النظام الأسدي شديد السواد، ولا تكفي اللغات مجتمعةً لوصفه أو توثيقه. بل هو أفسد العالم بأسره بوحشيته ما قبل الثورة السورية وما بعدها، كما تفعل إسرائيل. أقلّه خدش هذا النظام كل مظاهر الخجل والحياء، والمشاعر الإنسانية في كل أنحاء العالم، ساعده للأسف في غيّه هذا حزب الله وإيران وروسيا، الذين لم يتوانوا عن القيام بجرائم وتنكيل وتدمير لا تقلّ وحشيتها عن وحشية النظام نفسه. وإن كان للشعب السوري أن يفتح صفحةً جديدةً في حياته الحرّة، فإن محاسبة هذا الطاغية ومعاقبته دين في رقبته ورقبة العالم أجمع، وفي سلّم أولوياته. يكفي أن نتابع فقط المآسي التي تتكشّف منذ أيام، لتجعل من كل سجين حكاية عذاب ومهانة. لن تستقيم سورية إذا لم تجعل كلّ من تجرّأ على الشعب السوري قتلاً واعتقالاً وتدميراً وإفقاراً وتهجيراً ينال العقاب في المحافل الدولية والإقليمية والمحلّية، أفراداً ودولاً، وفصائل مجرمة أوغلت بالدم السوري وما زال ما خفي من إيغالها أعظم.
من السابق لأوانه أن نتحدّث عن المخاوف، لكن من غير أن نتجاهلها كي لا يعوق أيّ خوف بناء سورية وتعافيها ممّا أصابها، ولا سيّما إعادة بناء جيشها وقواها الأمنية على أسس وطنية وديمقراطية، كي لا يتكرّر هذا المصاب الذي ألمّ بها منذ سرق النظام الأسدي سورية وبطش بأهلها وبدول جوارها. وكي لا يعوق أيّ خوف من إعادة بناء سورية في مجالات البناء كلّها بقلب شجاع وتصميم عنيد.
العربي الجديد
—————————–
الأسد في المنفى: فرصة أم تحد للعدالة؟/ صبا مدور
الأحد 2024/12/29
ما زال السوريون تحت وقع اللحظة التاريخية لسقوط نظام الأسد، وهي لحظة يرجح أنها ستظل حاضرة بوهجها ووطأتها لفترة طويلة، تماما كما هي سنوات حكمه القمعية الطويلة التي ستبقى في ذاكرة البلاد لعقود مقبلة.
وبينما ينشغل السوريون بأفراح الانعتاق والتحرر واستعادة بلادهم ومعتقليهم، تبرز أسئلة العدالة التي تسيطر على النقاشات العامة متجاوزة القضايا الأخرى، التي ترتبط بمعالم الدولة الجديدة وشكل اليوم التالي والدستور وطبيعة النظام الاقتصادي. الحديث عن العدالة في سوريا لم يعد مجرد شعار ثوري يرفع في المظاهرات أو على اللافتات، بل تحول هاجساً جماعياً وثأراً شخصياً يُربك الجميع، من الناجين الذين فقدوا أحبائهم تحت التعذيب، إلى السياسيين الجدد الذين يواجهون مسؤولية بناء دولة على أنقاض نظام دمر البلاد. ورغم مركزية هذا الملف في وجدان السوريين، إلا أن العالم يبدو وكأنه يتجنبه، أو على الأقل يترك سوريا لتواجهه بمفردها.
التصريحات الدبلوماسية الدولية حتى الآن، تمتلئ بالإدانة الصارخة لجرائم النظام السوري البائد، وتفيض بالثناء على الخطوات الأولى للمرحلة الجديدة في سوريا، وتنهمك في المشاريع المقبلة للتنمية وإعادة إعمار البلاد. لكن وسط كل هذا الزخم، يغيب الحديث عن المحاسبة، وبالأخص محاسبة الأسد شخصياً على الجرائم التي ارتكبها خلال سنوات حكمه. لم نشهد حتى الآن زعيماً أو مسؤولاً دولياً يرفع صوته، ليؤكد على ضرورة هذه المحاسبة كركن أساسي في العدالة الانتقالية والمرحلة الحالية والمقبلة. وكأن هذا الملف الشائك قد تم تصنيفه ضمن الشؤون الداخلية لسوريا، بعكس كل محاولات التدخل الجارية، أو ربما وُضع على رف الانتظار في حسابات السياسة الدولية، باعتبار أن موعده لم يأتِ بعد.
بطبيعة الحال، تجاهل أو تأجيل المطالبة بالأسد من قبل الهيئات الدولية لا يلغي ضرورة مباشرة المسار القانوني اللازم من قبل الحقوقيين السوريين والدوليين. فقد خلق الأسد قدراً من العذابات لضحاياه يجعلهم يبحثون عنه أينما لجأ واختبأ. ورغم أن فرار الأسد إلى روسيا قد يبدو وكأنه يمنحه الحصانة من المحاكمة، إلا أن هذا ليس دقيقا قانونياً، لاسيما بالنظر إلى طبيعة اللجوء الممنوح على أساس إنساني لا لجوء سياسي، وهذا التفصيل يفتح الباب للتفاوض مع روسيا بشأن مصير الأسد. وهو ما قصده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من طبيعة اللجوء الممنوح، بالإضافة إلى أن ما صدر عن الرئيس بوتين الأسبوع الماضي من تصريحات بلغة تصالحية وانفتاحية مع قادة المرحلة الجديدة في سوريا، يشير إلى أن ورقة الأسد قد تكون قابلة للمساومة مقابل ترتيبات العلاقة الروسية السورية المستقبلية. هذه المساومة قد تشمل ضمان بقاء القواعد الروسية في طرطوس، ما يجعل من مصيره ورقة ضغط سياسية بيد الحكومة السورية.
في صفحات التاريخ، نادراً ما صبر مضيفو أسلاف الأسد من الطغاة على وجودهم لفترات طويلة، مثال ذلك مجرم الحرب الليبيري تشارلز تايلور، الذي تنحى عن السلطة ولجأ إلى نيجيريا، حيث حصل على ضمانات بسلامته وحمايته، لكن الضغوط الدولية أجبرت الحكومة النيجيرية لاحقاً على تسليمه للمحاكمة. السيناريو ذاته قد ينطبق على الأسد إذا مورست الضغوط السورية المطلوبة وكذلك الدولية.
أو ربما في سيناريو آخر، إذا شهدت روسيا تحولات سياسية داخلية في السنوات المقبلة، خصوصاً أن عمر الأسد الحالي 59 عاماً، ما يضعه في موقع يتيح له سنوات الطويلة من القلق على مصيره مع كل تغير. وتجربة الديكتاتور التشادي حسين حبري تقدم مثالاً آخر، فبالرغم من فراره بعد الإطاحة به، تغيرت السنغال سياسيًا ودخلت في عهد جديد، سمح بتوجيه اتهامات لحبري بارتكاب جرائم ضد الإنسانية ومحاكمته. هذا السيناريو، وإن بدا مستبعدًا في اللحظة الراهنة، يظل احتمالًا قائمًا في المستقبل القريب أو البعيد، معتمدًا على ديناميكيات السياسة الدولية والتغيرات الداخلية في روسيا. وحتى إذا كانت روسيا قوية بما يكفي لمقاومة الضغوط الدولية الرامية إلى تسليم الأسد، ومستقرة كدولة بما يكفي لتجنب تغييرات سياسية جذرية، فهذا لا يجعلها قادرة على حماية الأسد إلى الأبد. هنا يبرز من التاريخ مصير الجنرال النيكاراغوي أناستاسيو سوموزا إمكانية الوصول إلى الأسد محتملة. فبعد الإطاحة بسوموزا، وصلت إليه يد ضحاياه في نيكارغوا وأمطروه بوابل من الرصاص، ليُقتل في قلب العاصمة التي كان من المفترض أن تضمن أمنه وسلامته.
ومهما كانت شواهد التاريخ القريب تمنح بصيص أمل، فإن الحاضر الراهن يضيف معطيات تعزز إمكانية تحقيق العدالة المنشودة. لجوء الأسد إلى روسيا، رغم ما يبدو أنه ملاذ آمن، يفتح فرصة لتحقيق العدالة الانتقالية بأسلوب مختلف قد يضمن محاكمة تاريخية، تتجاوز السيناريوهات السابقة. وفي هذا السياق، يمكن الحديث عن مسارين رئيسيين لمحاسبته. الأول سياسي، يعتمد على ممارسة الحكومة السورية المؤقتة أو المقبلة أقصى درجات الضغط على الأطراف الإقليمية والدولية، بما في ذلك روسيا، لدفعها إلى تسليم الأسد كجزء من ترتيبات سياسية أو اتفاقيات دولية. أما المسار الثاني، فهو قانوني، من خلال المحكمة الجنائية الدولية، وبالرغم أن سوريا ليست عضوًا في نظامها الأساسي، إلا أن توقيع الأسد عام 2000 يعني قبولًا ضمنيًا بالولاية القضائية للمحكمة. كما أن مبدأ النزوح القسري في نظامها يتيح توسيع اختصاصها، مستندًا إلى الآثار العابرة للحدود للجرائم المرتكبة، وهو ما سبق تطبيقه في قضية الروهينجا في ميانمار. هذا المزيج من المعطيات التاريخية والحالية يضع العدالة في متناول اليد، إن توفرت الإرادة السياسية والدعم الدولي الكافي لتحقيقها.
دولياً، تُعيد ضرورة محاكمة الأسد إلى الواجهة نقاشًا ضرورياً طالما هُجِر بسبب اليأس من إمكانية محاسبة الديكتاتوريين والطغاة على جرائمهم. إن بقاء الأسد من دون عقاب لا يمثل مجرد خذلان للضحايا، بل يُعد علامة دامغة على الفشل المزدوج للمجتمع الدولي والهيئات القانونية الدولية. فشلها الأول تمثل في عجزها عن وقف جرائمه أثناء فترة حكمه، وخشية من فشل ثان في عدم قدرتها على إصدار مذكرة توقيف بحقه، أو ملاحقته، أو القبض عليه.
سورياً، يستلزم التفكير بسبل العدالة والبحث عن مساراتها الواقعية والصعبة أن يتوازى ذلك مع إعادة بناء المؤسسات القضائية، وإعادة تدريب القضاة والمحامين وضمان امتثالهم للمعايير الدولية لحقوق الانسان، بعد سنوات طويلة من ربط السياسة بالقضاء. كذلك إنشاء نظام عدالة مؤقت من خلال تشكيل لجان الحقيقة والمصالحة، تعنى بتوثيق الجرائم والانتهاكات وشهادات الضحايا والجناة. هذه اللجان توفر فرصة لضحايا النظام لتقديم شهاداتهم، حتى لو تطلب إنشاء آلية العفو المشروط، التي تتيح عفواً محدداً للأفراد الذين يعترفون بجرائمهم والتخفيف من العقاب بشرط التعاون مع العدالة لكشف الحقيقة. وهذا سيخفف العبء الثقيل على النظام القضائي المستقبلي في سوريا.
إن البدء بإجراءات ملاحقة الأسد قد يتطلب صبراً مريراً، لكنه يمثل خطوة ضرورية وتعبيراً مكثفاً عن العدالة التي يستحقها السوريون بعد عقود من القمع، والمجازر الجماعية، والسجون ممتدة على خريطة البلاد، وتهجير الملايين، وغرق الآلاف في رحلة الهرب من الموت، ومشاهد إجرامية أخرى، خلقت واقعاً سريالياً يفوق التصور. هذه الجريمة الشاملة قد تستدعي إعادة صياغة للقوانين الدولية وابتكار مسارات جديدة في تحقيق العدالة، كما فعلت ألمانيا مؤخراً من خلال المحاكم الوطنية، للاعتراف بحجم المأساة السورية وطي صفحة الإفلات من العقاب.
يبقى الحلم الأكبر بتحقيق دولة سورية مستقرة مزدهرة حرة ديمقراطية، دولة مواطنة والقانون، هو أفضل رد للانتقام من نظام الأسد وأعوانه وعلى عقود من الاستبداد، لتكتمل الحالة التاريخية التي تفردت بها سوريا الملهمة.
المدن
—————————–
سوريا الانتقام والعدالة: الشيء بالشيء يُذكر/ سلام الكواكبي
الإثنين 2024/12/30
بعد زوال الاحتلال الألماني عن الأراضي الفرنسية بانتصار الحلفاء على النازيين في عام 1944، تعرّض من كان يُشكّ بتعاونه مع القوات النازية من أهل البلاد إلى الملاحقة والاعتقال، وأحيانًا، القتل. وبلغ الرقم التقديري لعدد القتلى عشرة آلاف فرنسي وفرنسية. كما تعرّض عدد من المتعاونين للمحاكمات القضائية أو إلى العقوبات الشعبية. فمن تم اعتبارهم خونة، خضعوا لمحاكم خاصة سميت “محاكم التحرير”. وتراوحت الأحكام بين السجن والاعدام بالمقصلة. وتميّزت هذه المحاكمات بالسرعة في المعالجة وفي البت وفي إنفاذ الحكم. ومن جهتها، كثرت العقوبات التي فرضها الناس فرادى أو جماعات حسب تقييمهم الذاتي بحق من اعتبروه خائنًا أو متعاونًا. وانتشرت العمليات الانتقامية من دون أية مرجعية قضائية.
وتعرضت النسوة خصوصًا، واللاتي اتهمن بإقامة علاقات مع جنود وضباط ألمان، للوصم بالعار وللتنكيل النفسي وحلق الشعر وعرضهن في شوارع المدن والبلدات. في بعض الحالات، تعرض المتعاونون للاعتداءات الجسدية، بل وصل الأمر في بعض الأحيان إلى الإعدام خارج إطار القانون. كما، وفي أبسط العقوبات، تم نفي البعض من أسر المتعاونين إلى مناطق بعيدة أو جرى حرمانهم من الاستمرار بالسكن في ديارهم. فالعقوبات كانت إذًا مزدوجة: عقوبة رسمية تفرضها القوانين وينفذها القضاء، إضافة إلى عقوبة شعبية تميل إلى الانتقام أكثر من إنفاذ القانون، ويجري خلالها الخلط في التقديرات والتعاملات.
في إيطاليا، وبعد نهاية الحكم الفاشي بزعامة بينيتو موسوليني في 1945، وقعت عمليات انتقامية ضد العديد من مؤيديه ومؤيدي النظام. وتزامنت هذه العمليات مع نهاية الحرب العالمية الثانية واحتلال إيطاليا من قبل الحلفاء. وساد جو من الفوضى والانقسام في المجتمع، مما أدى إلى حدوث بعض أعمال العنف والانتقام، كان الهدف منها معاقبة من كانوا جزءًا من النظام الفاشي أو المتعاونين مع الاحتلال النازي. وجرت عمليات قتل انتقامية بحق الأشخاص المشتبه في تعاونهم مع النظام البائد. وقد وصلت هذه الأعمال إلى حد القتل العشوائي أو الهجمات ضد المنازل والممتلكات. وجرت محاكمات لعدد من المسؤولين الفاشيين، ولكن في كثير من الأحيان كانت هذه المحاكمات سريعة وغير عادلة، وأدى الغضب الشعبي إلى الضغط على الحكومة لإنزال عقوبات قاسية. بعد سقوط موسوليني، كان هناك تأكيد من قبل الحكومة الإيطالية الجديدة على ضرورة إرساء العدالة. وبدأت بعض المحاكمات، ولكن لم تكن هناك إجراءات واسعة وعميقة، وكان قانون العفو الذي صدر في 1946 سببًا في إغلاق الملفّات القانونية لبعض الأشخاص المتورطين. وكان العديد من أنصار النظام السابق يعانون من وصمة العار والاضطهاد الاجتماعي.
وفي اسبانيا، توفي الجنرال فرانشيسكو فرانكو في شهر نوفمبر/تشرين الثاني لسنة 1975، والذي كان قد حكم البلاد بقبضة من الحديد الملطّخ بدماء شعبه لفترة 36 سنة، إثر إطاحته بالعهد الجمهوري الديمقراطي عبر انقلاب عسكري. وكانت سمة عهده مأسسة الانتهاكات لحقوق الانسان والاضطهاد المنظّم لجميع معارضيه. كما عرف عهده بانتشار التعذيب والقتل خارج إطار القانون لمن كانوا يناصبونه العداء. وبعد وفاته، بدأت عملية انتقالية نحو الديمقراطية بقيادة الملك خوان كارلوس الأول وحكومة انتقاليّة، وتم تبني قانون “العفو” في عام 1977. شمل هذا القانون جميع الجرائم السياسية التي ارتُكبت خلال فترة حكم فرانكو، بما في ذلك أعمال القتل والتعذيب والاعتقالات التعسفية.
وعلى الرغم من أن الحكومة الإسبانية الجديدة حينذاك وجدت في هذا العفو الطريقة الأسلم للانتقال السلمي نحو الديمقراطية وكانت تسعى إلى المصالحة، إلا أن بعض الأشخاص الذين كانوا مرتبطين بنظام فرانكو أو الذين كانوا يعتبرون “مؤيدين للديكتاتورية”، تعرضوا لتهديدات أو أضرار جسدية. بعض هذه الأعمال كانت فردية أو محلية، ولم تكن متبناة من قبل الدولة أو مؤسساتها. كما وجرت عمليات تطهير رمزية محصورة ضد من كانوا جزءًا من النظام الفرانكوي. وتمت إزالة التماثيل التي تمجد فرانكو أو رموز النظام السابق من الساحات العامة، كما تم تغيير بعض أسماء الشوارع التي كانت تحمل أسماء لشخصيات من اليمين المتطرف المؤيدة للديكتاتورية أو التي رسختها هذه الأخيرة كرموز وطنية.
وانتظر الاسبان ثلاثون عامًا لإقرار قانون “الذاكرة التاريخية” سنة 2007. يهدف هذا القانون إلى الاعتراف بالضحايا ومعاناتهم. كما سعى إلى تحديد المسؤولين عن الانتهاكات فيما يتعلق بحقوق الانسان. وتم فتح بعض الملفات المرتبطة بعمليات القتل الجماعي والمقابر الجماعية لضحايا الحرب الأهلية (1936 ـ 1939) وفترة الحكم الديكتاتوري (1939 ـ 1977). بالعموم، ساد شعور بالمرارة لدى عائلات الضحايا لشعورهم بفشل عملية محاسبة الانتهاكات مقابل تحقيق السلم الأهلي.
في رومانيا، وبعد سقوط نیكولاي شاوشيسكو عام 1989، انتشرت بعض الأعمال الانتقامية ضد أعضاء الحزب الشيوعي والعاملين في جهاز الأمن، لكنها كانت محدودة مقارنة بحالات أخرى شهدت انهيار الأنظمة الاستبدادية. كان سقوط شاوشيسكو في 22 ديسمبر/كانون الأول 1989 نتيجة لمظاهرات شعبية واسعة ضد حكمه الديكتاتوري، والتي تحولت إلى مواجهات عنيفة مع قوات الأمن. وبعد ذلك، عاشت رومانيا فترة من الفوضى السياسية، حيث كانت السلطة تنتقل من النظام الشمولي إلى حكومة انتقالية. وبعد محاكمة سريعة وغير قانونية، تم إعدام شاوشيسكو وزوجته في 25 ديسمبر/كانون الثاني 1989. وكانت الرغبة بالانتقام قوية من قبل شريحة من الشعب، والتي كانت تعاني من القمع والفقر تحت حكمه. وفي السنوات التي تلت الثورة، بدأت محاكمة بعض الشخصيات البارزة في النظام السابق.
كلها تجارب يمكن أن تفيد السوريين بتبني إيجابياتها وتفادي سلبياتها. ولكن الحذر واجب فيما تكرر في التاريخ. حيث ينتقل مؤيدون سابقون للعب دورٍ أساسي في النظام الجديد ويستغلون، نتيجة الخبرة والدراية، أساليب التفافية للتموضع في المربّع الملائم مرحليًا. وهم في ذلك يستفيدون بشكل خبيث من عمليات الملاحقة والعدالة الانتقالية والعقوبات الشعبية للتخلّص ممن يشكلوّن عقبة أمام طموحاتهم ولو كانوا من أول المبادرين بالثورة. والشيء بالشيء يُذكر.
المدن
—————————
سورية ما بعد الأسد.. واقع إقليمي ودولي جديد/ علي أبو عمر
30 ديسمبر 2024
تُعتبر سورية من الدول الاستراتيجية التي لها تأثير كبير على التوازنات في الشرق الأوسط والعالم، إذ تقع في مركز جغرافي حيوي، يربط بين الشرق الأوسط وآسيا الصغرى والبحر الأبيض المتوسط، مما يجعلها في موقع تأثير سياسي وعسكري.. .
وبعد سقوط نظام بشار الأسد في السابع من ديسمبر 2024، تحوّلت التوازنات الإقليمية بشكل دراماتيكي، مما أثر على المنطقة بطرق متعدّدة.
الأحداث بعد سقوط نظام الأسد
خلال أيّام قليلة شهدت سورية سلسلة من الأحداث التي غيّرت مجرى التاريخ، إذ بدأت المعارضة السورية المسلّحة، بقيادة هيئة تحرير الشام، هجوماً شاملاً على العاصمة دمشق، ما أدّى إلى انهيار النظام بعد صموده لمدة 13 عاماً من الصراع. سقطت مدن رئيسية، مثل حلب وحماة وحمص، قبل أن تتوجّه المعارضة نحو دمشق، وتمكّنت من السيطرة عليها.
هذا الانتصار للمعارضة وضع نهايةً لحكم عائلة الأسد المجرم والمخلوع الذي استمرّ لأكثر من نصف قرن، وأعاد تشكيل موازين القوى داخل البلاد.
التأثيرات الداخلية
بعد سقوط الأسد، نشأت تحديات داخلية عدّة، منها تعقيدات تشكيل حكومة انتقالية تضم مختلف الفصائل السورية، بما في ذلك الأكراد الذين يسيطرون على مناطق شمال شرقي سورية، والمعارضة المسلّحة في الشمال الغربي.
وإنّ الشعب السوري الذي عانى من الحرب والتهجير يتطلّع إلى استقرار وعودة الحياة الطبيعية، ولكن الأمور لم تكن بهذه البساطة. تظلّ الهوية السياسية للدولة موضع خلاف، بالإضافة إلى الحاجة إلى إعادة بناء بنية تحتيّة مدمرة وتعافي من الأزمة الاقتصادية.
التأثيرات الإقليمية
أثّر سقوط الأسد بشكل كبير على التوازنات الإقليمية، إذ تعرّضت إيران لخسارة استراتيجية، على اعتبار أنّ سورية كانت جزءاً حيويّاً من “الهلال الشيعي” الذي يربط طهران بلبنان عبر سورية. وهذا الانهيار جعل إيران تفقد بعضاً من نفوذها في المنطقة، مما أثر على حزب الله في لبنان الذي يعتمد على الدعم إيراني.
وهناك أيضاً مسألة تغيّر معادلة القوى مع روسيا. فبعد أن كانت روسيا قوّة مؤثّرة في سورية من خلال دعمها النظام، فإنّ سقوط الأسد يشكّل نكسة جيوسياسية لموسكو، خاصة أنّ الحرب في أوكرانيا تستقطب كلّ اهتمامها ومواردها العسكرية، وهذا الأمر أضعف نفوذ روسيا في الشرق الأوسط، وقد يؤدي إلى تراجع في دورها الاستراتيجي في المنطقة.
كذلك، مثّل سقوط النظام فرصةً لإسرائيل لتوسيع نطاق عملياتها العسكرية لمنع تحالف إيراني – سوري محتمل في المستقبل، لكنه أيضاً يضعها في وضع يدفعها للتعامل مع جماعة جديدة قد لا تكون بنفس درجة التحكّم السابقة التي كانت تمتلكها مع نظام الأسد.
التأثيرات الدولية
على المستوى الدولي، يطرح سقوط الأسد تساؤلات حول مدى الالتزام الأميركي في المنطقة، وما إذا كانت واشنطن ستعيد تقييم دورها في سورية والشرق الأوسط بشكل عام. بالإضافة إلى ذلك، تصبح مسألة اللاجئين السوريين أكثر تعقيداً، إذ لا يُمكن للدول المستضيفة إعادة اللاجئين إلى وطن غير مستقر.
باختصار، سقوط نظام الأسد ليس مجرّد حدث محلي؛ بل هو محطة تاريخية تغيّرت بسببها موازين القوى في الشرق الأوسط وأثرت على السياسة العالمية، ليواجه الشعب السوري الآن تحديات كبيرة في بناء مستقبل جديد، فيما تنتظر المنطقة والعالم ما سيأتي من تطورات وكيف ستتأثر الأمن القومي والسياسات الخارجية لدول عدة بالتغييرات الحالية.
العربي الجديد
————————
قهر الرجال/ يزن الحاج
30 ديسمبر 2024
المرئيون اللامرئيون، الحاضرون الغائبون، الموتى الأحياء، المجهولون المستترون حين يُعلَم غيرهم. هُم الجوهر وما كان نافلاً؛ هُم الغائبون حين يُقال “وقُتل عشرون بينهم 3 نساء وأطفال”؛ مَنْ لا يحظون ببؤرة تركيز بعينها، فهُم الضحايا “الطبيعيون”، في القتل والاعتقال والإخفاء قسراً واللجوء والمنافي. ولأنّهم طبيعيون لا نفترض أهمّيةً أكبر لهم، ولا نركّز على معاناتهم، إلّا لو مرّ خبر أو مقطع فيديو، أو صورة.
هُم يبكون أيضاً، ويتفجّعون، وينكسرون. بل لعلّ انكسارهم أكبر لأنّهم “الأقوى” و”الأصلب”، ومَنْ لا يُفترَض بهم الانكسار العلني. تربطهم علاقة ملعونة بـ البلاد، مثل علاقة بعشيقة قد تخطّتهم ولم يتخطّوها، تخلّت عنهم ولم ينسوها، كرهتهم وبقوا على حبّهم القديم لها. يواصلون حياتهم، يتناسون الخواء الذي خلّفه البُعد والجفاء، وحين يحسّون بالانكسار يخفون أنفسهم قبل أن يخفيهم الآخرون.
نتسلّى أحياناً بـ”الريلز” في تطبيق إنستغرام، ويلفتنا تضاعف المقاطع المنتزعة من المسلسلات السورية حيث تتكرّر عبارة “تعبت” أو “اختنقت” على لسان شخصيات ذكور. ونتساءل: هل أدركت الخوارزميات تعبنا واختناقنا فطرحت مقاطع أكثر لأنّنا ركّزنا على أحدها، أم إنّنا ركّزنا على أحدها لأنّنا تعبنا واختنقنا حقّاً؟ لا إجابة دقيقة، كما لا إجابة دقيقة عن سؤال البيضة والدجاجة، وعن السؤال السوري المديد: أنحن ملعونون لأنّنا سوريون أم إنّنا سوريون لأنّنا ملعونون؟
الأمر الوحيد الثابت والأكيد هو الانكسار الذكوري؛ التعب والاختناق. ثمّة من احتضن تعبه واختناقه عبر السنين، وثمّة من تجاهله فتراكمَ قطرة فقطرة إلى أن وصل مرحلة الانفجار. ما من ذكَر سوريّ لم ينكسر اليوم، مهزوماً كان أم منتصراً، داخل البلاد أو خارجها، من فقد أحبّاء ومن لم يفقد، من شاهد مقاطع فضفضة التعب والاختناق ومن لم يشاهد.
اللافت أنّ هؤلاء الذكور أنفسهم ينفون انكسارهم حين يبوحون بالكتابة. تركوا الانكسار للكتابة الأنثوية، وفضّلوا الكتابة الموضوعية المحايدة التي تروي انكساراً غير شخصي، انكسار الآخرين. وكأنّ تدوين الانكسار سيُفقد الانتصار بهجته، أو القضية أهمّيتها، أو الوطنية ألقها. وحتّى حين نلمح انكساراً في الأدب السوري سندرك فوراً أنّه انكسار جمعي، انكسار الحزب أو الشلّة أو الفريق أو الجماعة أو الجيل، لا انكسار الفرد. وكأنّ نزع الفردانية من الأدب انتزع معه كلّ بوح ذاتي، أو ربّما عمدوا إلى تمويهه بانكسار آخر “أكبر”، كانكسار البلاد أو الأهل أو الأصدقاء.
ولكن يبدو أنّ سقوط النظام كسر حالة التواري تلك. بتنا نرى الانكسار عياناً؛ ها هُم رجال يبكون وينشجون ولا يكتفون بدموع تأبى تجاوُز قفص العينين. يبكون منفاهم وبلادهم، يبكون أحبّاءهم وجيرانهم، يبكون الشهداء والمعتقلين، ويبكون بهجة بالانتصار. غير أنّ التغيير ليس تغييراً كلّياً برغم انكسار التواري. بقي الانكسار جمعياً، وكأنّ غمامة “العيب” ما تزال مخيّمة على الجميع، على من انكسر وعلى من يراقب المنكسرين. هؤلاء لا يبكون أنفسهم وانكسارهم، بل يبكون الآخرين، يبكون التراجيديا السورية، التغريبة السورية، الانتصار السوري. بل لعلّ بهجة الانتصار ستكبتهم أكثر هذه المرّة، إذ لا يُسمَح للانكسار بالاستمرار، فنحن نبني البلاد اليوم، ولا بدّ من التفاؤل ودفن جميع المشاعر الشخصية النافلة التي تبدو أقرب إلى رفاهية أمام جحيم آلام الآخرين.
يُفترَض بالأدب والفنّ أن يبوحا بما يخفيه الواقع، أو يحاول مراوغته. يجب أن نرى ذلك الانكسار ونتلمّسه في الأعمال القادمة. يجب تدوين الانكسار الفردي قبل الجماعي، انكسار السوري قبل انكسار سورية، انكسار الذكر قبل انكسار الرجال.
كنتُ أكرّر دوماً، في لحظات اليأس التي حكمتنا في السنوات الأخيرة، بأنّ هذه البلاد لا مستقبل لها. عن أيّ إعادة إعمار نتحدّث، وعن أيّ بناء بلاد إذا كان الجيل الذي يبني قد تلاشى؟ جيل العشرينيات إلى أواسط الأربعينيات اختفى وذاب بين السجون والمنافي والمقابر والجيوش المتصارعة، ولم يعد للبلاد من يبنيها. هل تغيّرت الحال اليوم بعد سقوط النظام؟ ليس تماماً، فالبلاد تُبنى بالملح، بالدم والعرق. ولا ينبغي لنا تجاهُل الضلع الثالث في ثالوث ملح البناء هذا: الدموع. ليست دموع البهجة أو الخلاص وحسب، بل دموع الانكسار. انكسار الرجال، قهر الرجال الذي لا بدّ لنا من أن نستعيذ بالله منه، ولكن من دون أن ننساه. ستُبنى البلاد بانكسار رجالها، كي لا تعيش تغريبتها مرّة أُخرى.
* كاتب ومترجم من سورية
العربي الجديد
—————————–
سقوط مفاعيل 11 أيلول 2001: سوريا مدخلاً/ خلدون الشريف
الإثنين 2024/12/30
في ليلة من ليالي خريف العام 2012، وفي أحد الفنادق الكبرى حيث كان يُعقد مؤتمر دولي حول المنطقة، وخصوصاً حول إيران واحتمال عقد اتفاق نووي معها، جاء مقعدي إلى جانب السفير الأميركي السابق في أفغانستان والكويت ولبنان وباكستان والعراق، رايان كروكر. والسفير كروكر حينها، كان من المتحمّسين لعقد اتفاق مع إيران بناء على سابقة تعاون بينه وبين الإيرانيين وقائد فيلق القدس السابق، الجنرال قاسم سليماني تحديداً.
الحوار الأميركي-الإيراني
حدّثني كروكر عن القناة التي فتحها قائد فيلق القدس مع الولايات المتحدة الأميركية من خلاله شخصياً، وقال إنّ سليماني كان متحمّساً جداً بعد أحداث الحادي عشر من أيلول 2001 لضرب طالبان، العدو المشترك لواشنطن وطهران، بل قدّم سليماني للأميركيين خرائط لمواقع يجب ضربها في إطار هذا التعاون. ولكن ما لبثت العلاقة بين الطرفيْن أن توتّرت في شهر كانون الأوّل من العام 2002، حين أدلى الرئيس الأميركي آنذاك، جورج بوش الابن، بخطاب تحدّث فيه عن محور الشر مصنّفاً إيران ضمنه.
وبعد سنتيْن، خلال اجتياح العراق، العدو الثاني للبلديْن، بل قبل ذلك حتى، ساهم عراقيون في إعادة فتح القنوات بين البلديْن. وحين عاد كروكر إلى العراق لتأسيس مجلس الحكم، راعى الموقف الإيراني من خلال تمرير أسماء مرشحين ورفض تعيين من رفضهم سليماني. اعتبر كروكر حينها، أي في العام 2003 وبعدها حين التقيته بعد عقد من الزمن، أنّ الحوار الأميركي-الإيراني وتقاطع مصالح البلديْن على ضرب أعدائهم المشتركين ضرورة وبراغماتية سياسية.
وبعد سقوط الرئيس العراقي صدام حسين في نيسان العام 2003، خاضت المجموعات المسلّحة الشيعية حملات تنكيل وانتقام من أركان ومؤسسات النظام السابق، وكان كروكر يعلم أنّ سليماني هو مَنْ أسس ودرّب وموّل قوات بدر التي قاتلت الجيش العراقي إلى جانب الجيش الإيراني خلال الحرب العراقية-الإيرانية. وكان يعلم أنّ إيران اتخذت موقفاً عدائياً من القوات الأميركية وبدأت تفخخ لقوافلها بعبوات إيرانية الصنع عام 2004 مستعينة بخبرات حزب الله بإشراف عماد مغنية تحديداً. وحين اندلعت حرب تموز في العام 2006، عمل الإيرانيون بكامل طاقتهم على إيقافها حرصاً على الحفاظ على قوة حزب الله، التنظيم الأهم لبنانياً وإقليمياً. وآنذاك، كانت إيران تعتقد أنّ الدور سيأتي عليها، فعمدت على تعزيز حضورها ونفوذها في كلّ من العراق وسوريا واليمن والبحرين.
وما إن بلغت الرياح سوريا حتى دخلت طهران بقضها وقضيضها دعماً للنظام هناك، من خلال حزب الله أولاً، ودخول الإيرانيين ثانياً، وطلب التدخل الروسي ثالثاً، وصولًا إلى وضع إطار سوتشي عام 2016 الذي ضمّ إيران وروسيا وتركيا من أجل العمل على إيقاف الأعمال العسكرية الكبرى في سوريا. من جانبها، كانت الولايات المتحدة حريصة على عدم كسر إيران وعلى تقليم أظافر العرب “العروبيين” من جهة، وعلى ضرب الإسلام السني السياسي من جهة أخرى بعد هجمات أيلول.
زلازل الشرق الأوسط
الزلزال الحقيقي الأوّل في الشرق الأوسط والعالم العربي جاء ارتداداً لأحداث أيلول 2001، وقد تمثّل بغزو العراق الذي أدّى إلى سقوط النظام فيه إلى فراغ أمني غير مسبوق ترافق مع اجتثاث البعث. وهذا ما أجج التوترات الطائفية وعزّز النفوذ الإيراني بشكل غير مسبوق في المنطقة.
الهزات عادت في العام 2011 مع الربيع العربي، فحصلت انهيارات كبرى أدّت إلى سقوط أنظمة وتفكيك بنى دول بحدّ ذاتها واندلاع حال من الفوضى امتدّت من شمال أفريقيا إلى مصر واليمن وسوريا. ارتعب العديد من الأنظمة العربية من صعود نفوذ الإسلام السياسي واتّخذ الخليج برمته موقفاً عدائياً من هذه التطورات، فساهم بشكل فعّال في سقوط نظام الإخوان المسلمين في مصر في العام 2014 وتحجيمهم في اليمن، والأردن، وسوريا، وتونس والمغرب. أمّا إسرائيل، فاتخذت موقفاً ثابتاً برفض أيّ تغيير ورفض إعطاء أيّ فرصة لنجاح أيّ حركة تغيير وخصوصاً في سوريا. وفي هذا السياق، يُفهم تماماً سبب مسارعتها إلى ضرب ما طالته آلة حربها من معدّات ومستودعات ومطارات للجيش السوري بعد سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد، بسب عدم يقينها من موقف وخطوات النظام الجديد ناحيتها. إذ يؤشّر تموضع أربعة ألوية في سوريا إلى عدم اطمئنان إسرائيل للنظام قيد التشكيل، بخلاف الاطمئنان للنظام السابق، خصوصاً مع حصول اتفاق مع الروس حول ربط النزاع مع الأسد. وفي هذا الإطار، يندرج تصريح وزير الخارجية الإسرائيلي، جدعون ساعر، حول عدم استقرار سوريا، وتحذيره من “العصابة التي تحكم دمشق” ومن خطورة سيطرة التنظيمات الإسلامية.
الشرع في سوريا
لم تأتِ الاتصالات والزيارات العربية والأجنبية لدمشق، عاصمة الأمويين الدهاة، من فراغ، إذ كان أداء أحمد الشرع، القائد الأعلى لهيئة تحرير الشام، ابن الاثنيْن والأربعين ربيعاً، مدهشاً لناحية التعاطي مع الفصائل المعارضة والمكوّنات السورية من جهة، والمجتمع العربي والدولي من جهة أخرى. كأن الرجل مارس السياسة الواقعية منذ عقود وكأن خبرته في الحكم طويلة ومتمرّسة. فيتبنّى الرجل، الذي كان بالأمس القريب رمزاً للتطرف الديني، لغة وطنية شاملة وجامعة لضمان استقرار داخلي ووحدة الأرض والشعب واحتواء الإقليم المتفجر.
مَنْ استمع لكلام الشرع عندما استقبل رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي السابق، وليد جنبلاط، يدرك أنّ أداء الرجل فيه حكمة ظاهرة وأنّه مطلع على تاريخ المنطقة عن كثب وقادر على القيادة في حقل الألغام السياسي بشكل محترف، وأنّه كما نُقل عن لسان الوفد الاميركي براغماتي من الطراز الأوّل. ومن المؤكّد أنّ الكلام لا يكفي لإقناع أحد، بل الأفعال التي ستأتي تباعاً لتؤكّد أو تنفي صدقيّته. وإلى حدّ الآن، لم يحصل صدام يُذكر بين مكوّنات الشعب السوري، وقد عمد الشرع إلى العمل على توحيد سوريا المتوزعة بين أقانيم ثلاث، بحيث سارع إلى فتح كل القنوات مع الأكراد لاستيعابهم.
زمن التحوّلات الكبرى
كثرٌ يرغبون في عدم استقرار سوريا، أوّلهم إسرائيل، وثانيهم إيران، وثالثهم كلّ متضرّر من نظام إسلامي، ورابعهم مَنْ يخشى رؤية تركيا في موقع نفوذ في المشرق العربي. وفي ذلك خطورة كبرى على الاستقرار في سوريا ولبنان والمنطقة. حملت أحداث السابع من تشرين الأوّل 2023 في غزة ثم في لبنان، والردّ الإسرائيلي الوحشي المتواصل منذ أكثر من سنة، في طيّاتها تحوّلات كبرى في الإقليم. ومع سقوط نظام الأسد، فُتح الباب أمام إضعاف نفوذ إيران التي تحكّمت بعواصم أربعة طيلة عقديْن من الزمن. وفي ظل هذه التطوّرات البارزة، تبدو الفرص متاحة اليوم لإرساء توازن إقليمي دقيق، يجنّب المنطقة صدامات ونزاعات ولا يمنع فيها المنافسة الطبيعية. إلاّ أنّ بلوغ هذه المرحلة يحتاج إلى موقف عربي مسؤول ومتيقّظ لأطماع إسرائيل وشعورها بفائض القوة، ومصالح تركيا المتزايدة، ونفوذ إيران المجروحة، إلى روسيا التي تتوجس مما يجري حوّلها في أوروبا وحول مصالحها في سوريا، موقف عربي من شأنه عكس مفاعيل أحداث الحادي عشر من أيلول 2001، والتمهيد لعودة الانتظام إلى العلاقات العربية-العربية والعربية-الإقليمية والدولية.
أحداث أيلول العام 2001 أخرجت العرب من المعادلة إلى حد كبير ووضعت المنطقة تحت وزر ضغوط غير مسبوقة نجح الخليج في عدم الانزلاق إليها، إلا في اليمن وحولها. فهل تمهّد سوريا لعودة للعرب إلى الواجهة أو تتولى تركيا بسط نفوذها كما كانت تفعل إيران لكن بأداء مختلف ووجه تنموي اقتصادي بدل الوجه العسكري؟
المدن
————————-
رسائل حافظ الأسد إلى أنيسة مخلوف/ بشير البكر
الإثنين 2024/12/30
كان الشارع السوري يتحدث همساً عن علاقة الرئيس السوري السابق حافظ الأسد مع زوجته أنيسة مخلوف. وفي سرية تامة، وداخل أوساط ضيقة، يجري تداول حكايات كثيرة، بعضها من تأليف أصحاب الخيال الخصب، وأخرى حقيقية. يختلط الواقع بالخيال، كما في أسلوب الواقعية السحرية، الذي ميّز أدب كتاب أميركا اللاتينية خلال العقود الأخيرة. والمؤكد في المرويات التي تم نسجها هو أن أنيسة سيدة حديدية، ومن نمط النساء اللاتي يلعبن في الكواليس دوراً مؤثراً على توجهات وقرارات الأزواج والأبناء، وقد وصل دورها إلى حد التدخل في اتخاذ القرارات الصعبة، التي تتعلق بتحديد مصائر الملايين ووجهة مستقبل الدولة، ولذلك لم يأت من فراغ، أطلاق مجلة “الإيكونوميست” البريطانية عليها وصف “السيدة المذهلة”.
هي ابنة أسرة معروفة وميسورة، بينما هو من عائلة فلاحية شبه فقيرة. وعدا التفاوت الطبقي، هناك مسألة أخرى خلافية تتعلق بالتوجه السياسي، حيث ينتمي وجهاء عائلة مخلوف للحزب القومي السوري، الذي كان في حرب مفتوحة مع حزب البعث، الذي ينتمي إليه الأسد. وعلى هذا رفضت عائلتها تزويجها له، ولكن يبدو أن العلاقة بينهما كانت أقوى، إلى حد أن أنيسة تحدت عائلتها، وتبعت قلبها، ومن دون الاحتفال بعرس رسمي، أخذها حافظ خطيفة على ظهر البسكليت. وثمة رواية متداولة على نحو ضيق تفيد بأن من ساعده في ذلك هو صديقه الضابط مصطفى طلاس، الذي بات منذ ذلك الوقت مؤتمناً على العائلة، يتولى شؤونها في حال غياب الأسد. ويذكر باتريك سيل في كتابه “الأسد: الصراع على الشرق الأوسط” أن طلاس رافق أنيسة وابنها البكر باسل من ميناء الاسكندرية في مصر خلال الوحدة إلى اللاذقية، عندما تم احتجاز الأسد في مصر مع مجموعة من الضباط السوريين، مخافة أن يقوموا بانقلاب على الوحدة. ومقابل خدماته منحه الأسد حين وصل إلى الحكم بانقلاب 1970، منصب وزير الدفاع طيلة حكمه.
بدأت على نحو شحيح جداً، تتكشف بعض أسرار عائلة الأسد بعد سقوط النظام في الثامن من الشهر الحالي، ومن ذلك عدد قليل من الرسائل التي كتبها الأسد إلى أنيسة قبل زواجه منها عام 1957، وبينها واحدة قبل الاقتران بقليل، وكان لكل منهما من العمر في حينه 27 عاماً. كان هو قد ترفع حديثاً إلى رتبة نقيب طيار، وعلى الأرجح، كان، في تلك الفترة، عائداً من دورة تدريب على الطيران أمضاها في موسكو، واستقر في دمشق، وذلك يظهر من مضمون الرسالة المكتوبة بلهجة هادئة، تحمل ثقة عالية بالنفس، ونقرأ من بين سطورها التوجه نحو بناء أسرة، لكن الأكثر أهمية من ذلك هو الأسلوب الذي كُتبت به والأفكار التي تضمنتها الرسالة، وخاصة تعريف الضابط الشاب والزوج المستقبلي للحب والعاطفه ونظرته للمرأة ككل.
تتسم نبرة الرسالة بالجلافة المعروفة عن العسكر، عندما يتحدثون عن المشاعر، وهو يعد رسالة أنيسة التي تكتب له بشوق، عبارة عن ثرثرة، ويرفض أن يسمي الرابط بينهما علاقة حب، ويعتبر العاطفة كذباً. يقول لها في الرسالة “أنيسة لم أكن أود أن أكتب إليك أو أجيب على رسالتك، أو بالأصح على ثرثرتك… واستناداً إلى ذلك لا تعني أبداً أنني تراجعت عن رأيي السابق. إنها لا تعني أن الحب يربط بيني وبينك. أو بالأصح لم أعد أفهم للحب معنى إلا أنه تفاهم أو اتفاق عقلي محض لا أثر لما يسمونه كذباً وافتراء بالعاطفة”. ولكنه في مكان آخر من الرسالة يرى أن الحب مجرد من العاطفة، وهو محض “تجاوب فكري لا عاطفي بين اثنين اتفقا على سلوك طريق معين في الحياة”، ويأخذ على المرأة أنها “تحاول أن تعطي لهذا الاتفاق هيكلاً معينا،ً تدعي أن تحمله صعب وتطلق عليه اسم العاطفة”. ويكمل منتقدا نظرة المرأة إلى العاطفة “الواقع أن العاطفة التي تتألم منها المرأة ليست إلا تصنعاً وتمثيلاً”، ويستثنيها من هذا التشخيص القاسي، عن طريق تمييزها عن بقية النساء” اللهم إذا كانت كل امرأة في الوجود تحمل النفسية التي تحملينها أنت”.
الملاحظ هنا هو، أن رسالة الأسد محفوظة في أرشيف العائلة، ما يدل على أنها تشكل للسيدة الأولى شيئاً عزيزاُ على نفسها. وما يلفت الانتباه هو أن الرسالة مطبوعة على الآلة الكاتبة، وعلى الأرجح أن النسخة الأصلية كانت بخط اليد. ويدل طبعها وحفظها بنسخة ورقية على اهتمام بها، في الوقت الذي لا نعثر فيه على الرسالة التي استدعت الرد. ومهما يكن من أمر، فإن الرسالة تعكس جانبا من تفكير الأسد الذي يتميز بأنه جاف يفتقر إلى المودة، وسلوكه المتعالي البعيد عن اللطف.
المدن
————————-
القتل تحت التعذيب: التهمة برشلوني/ بثينة عوض
الإثنين 2024/12/30
الاسم: أحمد زاهر جغل
المؤهلات العلمية: خريح كلية إعلام
العمل سابقاً: صحافي في عدة مطبوعات ومواقع سورية
القيد العائلي: وفقاً لسجلات السجانين متوفى في سجن صيدنايا إثر نوبة قلبية عام 2014.
الحقيقة كما تداولها من نجا من الموت في المسلخ البشري: فقدان النفس تحت التعذيب.
هل سمعتم يوماً عن روح تتحدث، تفرح، تنتشي. هذا ما حدث معي وأنا أحدق من السماء صوب دمشق لحظة التحرير وأهتف حرية.. حرية… وها هو باب سجن صيدنايا يفتح ويخرج من تبقى على قيد الحياة ليروي بشاعة وقسوة ما كان يحدث من فظائع لا يتحملها عقل.
نعم أنا عشت هناك. لا أعرف إن كانت كلمة عيش صحيحة بل الأصح أن أقول إنني لفظت أنفاسي الأخيرة تحت أيدي جلاد كان يتلذذ يومياً باقتيادي إلى كرسي كهربائي ليحدث ماساً عالياً بجسدي “يفصل اللحم عن العظم” وحين يفرغ من تعذيب البشر كان يقوم بقطع رؤوس الدمى من شدة وحشيته. مشهد رويته وسيرويه الكثيرون من بعدي.
لمن لم يسمع بي، أنا صحافي سوري نحت بأظافره اسم ابنه “كرم” على أحد جدران هذا السجن ليقيني أنه قد يتمكن يوماً ما من رؤيته، أو ربما كي لا أنسى من يكون حين أجن وأفقد عقلي، كما كُثر.
تتساءلون الآن ما هي التهمة التي وجهت لي؟ إنه تقرير دوّن فيه كلام كنت أردده دوماً عن عشقي لفريق برشلونة نتيجة فرق سياسي مرتبط بالهوية والثقافة بينه وبين ريال مدريد.
فبرشلونه، كما يعرف كثر، رمز للهوية الكتالونية وحركات الاستقلال والتحرر، ويعكس مقاومة مرّة للسلطة المركزية الإسبانية خصوصاً خلال حقبة الديكتاتور فرانكو، بينما ريال مدريد ارتبط بالسلطة المركزية، واعتبر رمزاً لدعم النظام، ما يجعل برشلونة أكثر من رمز رياضي بل رمز سياسي وثقافي، ونحن هنا نتكلم بعيداً عن صراع رياضي.. ما جعل ذنبي لا يغتفر. وإليكم حكايتي كاملة.
يوم الاعتقال
5/9/ 2012 كان يوماً لا ينسى. العائلة كاملة قد اجتمعت وأحمل طفلي كرم بين يدي. نتجهز للذهاب إلى تركيا لحضور زفاف أختي. مزاج وعراك عائلي طوال الطريق من دمشق إلى اللاذقية، لكنني لم أكن أعرف حينها أنها اللحظات الأخيرة التي سأرى فيها وجه أمي وابني، إلا حين وصلنا الحدود البرية في قرية كسب، التي تؤدي إلى الأراضي التركية، ليتم اقتيادي من هناك، رغم رجاء والدتي، إلى منفردة في فرع الجبة في الميسات التابع للأمن السياسي.
يقول زياد جغل شقيق أحمد، إنه تم اعتقاله أيضاً بعد شهر من اعتقال أخيه ليوضع في المهجع رقم “3” بمساحة لا تتعدى المترين مع 50 شخصاً، فيما وضع أحمد في المهجع رقم “2”. لكنه لم ير أخاه أبداً وجهاً لوجه بل كان يسمع السجان ينادي باسمه من أجل جلسات التحقيق بصوت عال، ويتم كذلك ضربه خلالها ليتناهى الصوت إلى مسمع زياد.
كنت أتلوى تحت وقع صوت الضربات، كما لو كانت تستقر على جسدي وأشعر بعجز لا مثيل له: “إنه أسوأ عذاب نفسي تعرضت له على الإطلاق”.
نسأله عن فحوى التحقيق، فيقول: تهم متعددة بتمويل من الخارج لمعدات تصور وتوثق خروج المتظاهرين، يقطعه صوت السوط الذي كان يأكل من لحم أخي ولحمي ومن ثم شتائم أخجل أن أقولها بسبب تشجيعه لفريق برشلونة الثوري، وإسقاط تاريخ هذا الفريق على تاريخ الثورة السورية.
يغمى على أخي ويختفي صوته كلياً وصوت التعذيب، وفي داخلي دعاء أن يكون قد بقي على قيد الحياة، ليأتي صوت السجان منادياً باسمه في اليوم التالي، ويخبرني بعدها أن التقرحات قد أكلت جسده “يلا فتاح الباب، وروح جبلو دكتور”، ثم يطلق ضحكة لن أنسى صوتها أبداً.
تتوالى أيام العذاب النفسي لي والجسدي لأخي، يتم إخراجي وإحالته إلى سجن عدرا المركزي.
فقدان جزئي للبصر
ما بدأ به فرع الجبة أكمله سجن عدرا، لكن هذه المرة مع تهمة جديدة: قتل “مخبر للنظام”، كان مختصاً بكتابة تقارير بشباب الصالحية الثوار. علماً أن جريمة القتل وقعت بالفعل بعد دخول أحمد زاهر إلى السجن بشهرين وفقاً لشقيقته.
بعد دفع الغالي والنفيس تتمكن زوجته من زيارته لتكتشف أن نظره قد تأذى كثيراً، وجسده امتلأ بالتقرحات مع المنع الكامل لإحضار أي شيء له، ليغيب ويغيب أي خبر عنه بعد ذلك.
يقطع الغياب قدوم شاب بسحنة نحيلة جداً إلى أحد محلات العائلة في سوق البزورية الدمشقي الشهير، يتظاهر بأنه يريد الشراء، ويهمس سراً في أذن “الشغيل”: أحمد في سجن صيدنايا. الشاب كان بالكاد يقوى على السير ويتلمس جهة الكلية اليمنى كثيراً. يتبعه الشغيل والخوف باد عليه، يقول “إنه لا يستطيع التكلم أكثر”. ويرسل رسالة أخرى لم يفهم الشغيل معناها وقتها “خاصرتي كما خاصرة كل سجين تؤلمني كثيرا”. ليتبين أن داخل سجن صيدنايا كان هناك شبكة من السجانين يعملون بشكل مباشر مع شبكة إتجار بالأعضاء البشرية التي تنتزع من أجساد المساجين، طبعاً.
الابتزاز
إنه طرف الخيط الذي أوصل العائلة إلى الإفلاس تقريباً. إذ دأب أحد السجانين في سجن صيدنايا على ابتزاز العائلة والحصول على كل أموالهم، مقابل خبر عن أحمد لم يحصلوا عليه إلا في عام 2018 عند إخراجهم لقيد عائلي، ليتبين أن ابنهم قد تمت توفيته في عام 2014 “بسبب أزمة قلبية” أي بعد حوالى خمسة أشهر من دخوله إلى صيدنايا.
يقول ابن خالته معاذ جغل: في حينها تم تنفيذ حملات إعدام ضخمة بحق كل معارض للنظام وكان أحمد من بينهم وفقاُ لروايات من كان معه. فيما تحمد شقيقته الله على استشهاده وعدم تحمله لعذاب أكبر بعد رؤية المسلخ البشري في صيدنايا. أما والدته فما زال الأمل يسكنها برؤيته في عداد المفقودين.
مات أحمد بعد أن تسلّخ جلده عن عظمه، لكنه قبلها كان من أوائل المؤسسين لتنسيقة الصالحية حتى قبل اندلاع الثورة في سوريا ومنذ بداية الثورة الليبية. وطالب بالحرية وبدأ بتنظيم التظاهرات والتنسيق مع صفحة الثورة السورية بعد تأسيسها. والتوثيق لخروج الشباب السوري ونشر الأخبار الإعلامية عنهم، باسم خفي في مواقع إلكترونية عدة.
كما أجرى سلسلة تحقيقات تناول فيها الحالة المزرية التي آلت إليها بيوت رؤساء سوريا السابقين، بدءا من بيت الرئيس السابق محمد علي العابد. ليسلط الضوء على عهد سوريا ما قبل “البعث”، فالحكم الأسدي همش وأنكر عن سابق إصرار لكل من كان قبله، مهما عظمت إنجازاته، ليطلب إيقاف الملف عند القصر الرئاسي الحالي الذي دخله الشعب يوم التحرير.
“أحبائي أنا هنا أرى دمشق من الأعلى. سأخبركم بأنني ما زلت أشجع فريق برشلونة وأهتف باسمه. أحدق بسجن صيدنايا وأقول: لم يعد يوجد أثر للبشاعة هناك.. فلترقد روحي بسلام الآن”.
المدن
—————————–
لماذا الانتصار السوري مزعج؟/ مدى الفاتح
30 ديسمبر 2024
بهروب بشار الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، طويت صفحة أحد أكثر أنظمة العالم الثالث قمعاً وامتهاناً لحقوق الإنسان. كان ذلك مدعاةً لفرح ملايين السوريين في داخل البلاد وفي المهاجر التي أُجبر كثيرون على الهروب إليها طلباً للسلامة والنجاة. لم تقتصر حالة الفرح عليهم، بل اشترك معهم فيها كثيرون ممّن تابعوا ما كان يجري من عمليات قتل جماعي وتهجير منذ اندلاع الثورة السورية. ازداد هذا الابتهاج بعد توارد الصور والفيديوهات عن مراكز الاعتقال والتعذيب التي كشفت بعد سقوط النظام، وكان ناشطون سوريون يحكون عنها من دون أن تجد مناشداتهم وطلباتهم بشأن معاقبة القائمين عليها آذاناً صاغية. علّق كثيرون على صور خروج المعتقلين والمعتقلات من الغرف السرّية والمخابئ تحت الأرضية قائلين إن هذا التغيير يكفيه نجاحاً أنه أنهى معاناة الآلاف مثل هؤلاء الناس، الذين أمضى بعضهم عقوداً طويلة بعيداً من الشمس والحياة.
في مقابل هذه الحالة من الإحساس بالانتصار، كانت هناك فئات كثيرة لا تُخفي انزعاجها من هذا التحوّل، الذي غيّر شبكة العلاقات المحلّية والإقليمية بشكل تام. داخلياً، كان في مقدّمة هذه الفئات المستفيدون السابقون من وجود نظام الأسد، سواء من العائلات المقرّبة أو من أصحاب الصفقات المشبوهة، أو ممن كانت البلطجة والتشبيح والتجسّس على الجميع مصدرَ دخلهم الوحيد، ممّن كانوا يقتاتون على ترويع وابتزاز البسطاء الذين كانوا بلا حول ولا قوة. وللدفاع عن الوضع السابق، كان كثير من المتضرّرين المنزعجين يكرّرون الحديث عن أن ما حدث مؤامرة خارجية. من الطريف في هذا الخطاب الهستيري أنه يربط هذه المؤامرة بتركيا وبالكيان وبالولايات المتحدة في الوقت نفسه، بل تضاف روسيا نفسها أحياناً لتتهم بالضلوع في الأحداث، وفق صفقة متوهّمة تشارك فيها الجميع. الدور التركي في تحقيق هذا الانتصار لم يُنكر، لا من الثوار، ولا من تركيا، التي تنظر إلى ما حُقِّق بفخر، وتقول إن مساعدة الشعب السوري سوف تتواصل عبر تقديم دعم لمشاريع التنمية وإعادة التعمير. هذا لا ينفي دور (وحماسة) الشباب السوري، الذي لم تنسه الظروف الصعبة ما مورس ضدّه من جرائم. الحقيقة أنه من دون هذا العامل الخاصّ بثبات الثوار والمقاتلين، لمّا كان بالإمكان تحقيق أيّ نصر مهما كان الدعم المقدّم.
ولا يقتصر الانزعاج على الاحتقان الداخلي، وإنما يمتدّ إلى الأطراف الخارجية، سواء التي كانت داعمة أو مستفيدة من وجود النظام الساقط، أو التي استطاعت أن تتعايش معه وأن تضبط بوصلة مصالحها على وجوده وبقائه. تبقى إيران في مقدّمة الأطراف الخارجية التي لم تُخفِ انزعاجها وضيقها من النظام المتشكِّل، وهي التي تمدّدت عسكرياً وسياسياً داخل سورية خلال العقدَين الأخيرَين، خاصّة بعد انخراطها في الحرب على الشعب بواسطة مليشياتها الطائفية، وترى اليوم أن ما بنته (واستثمرت فيه) من علاقات عبر النشاط الاقتصادي والتجنيس والتبشير العقائدي قد تلاشى. الخيار الأول لإيران كان الدفع بمزيد من المليشيات الفوضوية إلى ساحة القتال دعماً للنظام الحليف، لكن ما تبيّن منذ أول أيّام الزحف باتجاه العاصمة ضمن عملية ردع العدوان، هو أن هذا الرهان فاشل، بسبب أن النظام المتهاوي نفسه لم يكن مستعدّاً للكفاح من أجل البقاء، فآثر رأس النظام الهرب والنجاة بنفسه. حتى بعد نجاح المقاتلين في السيطرة على الأوضاع، وفي التمكّن من تكوين إدارة سياسية وحكومة، فإنّ التصريحات الإيرانية الغاضبة لم تتوقّف، وكذلك التهديدات والتحذيرات ممّا سمّاه فاعلون، كوزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، “الفرح قبل الأوان”. وفي دمشق، تتعامل الإدارة الجديدة مع التصريحات الإيرانية بجدّية وتعترض عليها، مؤكّدة أنها لا ترغب في خسارة طهران، شرط أن تحترم الأخيرة خيارات السوريين، لكن اندلاع تظاهرات طائفية مسلّحة، ونجاح هجمات إرهابية في إيقاع عدد من الضحايا من بين العناصر الأمنية، كان يوحي بأن هذه الرغبة في إنشاء علاقة صحية إنما تنبع من طرف واحد.
يزعج الانتصار السوري أيضاً أنصار أنظمة القمع والاستبداد، فقد كانت النظرية تقول إن التمادي في العنف والإرهاب وتوسيع دائرة التنكيل هي الضمانات الأكيدة لبقاء الأنظمة الديكتاتورية. تهاوي النظام الأشرس وذوبانه خلال ساعات، ونجاح أفراد من العامّة في الوصول إلى السلطة وتكسير صنم الدولة العسكرية والأمنية التي ترسّخت عقوداً، ليست خبراً جيداً لأيّ مستبد، فأبسط آثاره ذلك الأمل الذي يمكن أن يُضخَّ في شرايين المواطنين الطامحين للتغيير. ولا تقتصر دائرة الانزعاج على هؤلاء، فهناك المغيّبون باسم القومية، من الذين يؤمنون بأن ما حدث خيانة لـ”محور المقاومة”. هناك أيضاً من يتمحور اعتراضه على الخلفية السياسية للقادة الجدد، فهو يتضايق من أن هذا التغيير جرى بأيدي إسلاميين، فيرى أن أولئك غير جديرين بالحكم، وإن كانوا من وقف خلف سقوط النظام، وتحمّلوا تبعات النضال العسكري ضدّه. من الفئات الأخرى المنزعجة “الدولتية”، وهي فئة تشمل قوميين وفئات من الإسلاميين أيضاً ممّن يقدّسون الأنظمة والجيوش، حتى إن كانت مشوّهةً وغارقةً في الفساد، لدرجة تناقض بقائها مع بقاء الشعب نفسه.
العربي الجديد
——————————–
سورية الجديدة وفلسطين/ عاطف أبو سيف
30 ديسمبر 2024
هرب بشار الأسد غير مأسوف عليه فلسطينياً، وانتهى حكمه وحكم عائلته الذي دام أكثر من نصف قرن، من دون أن يطلق رصاصة واحدة من أجل فلسطين، بل نجح دائماً في استغلال القضية الفلسطينية في إحكام قبضة حكمه على البلاد، وتسخير مقدراتها من أجل حماية هذا الحكم، جارّاً خلفه بعض الفصائل الفلسطينية. كانت فلسطين شعاراً كبيراً، وكان توظيف قضيتها وسيلةً من أجل الاستمرار في لعب دور غير موجود من الأساس. وفيما كانت هضبة الجولان محتلّةً فإن نظام الأسد (الأب والابن) لم يفعل شيئاً من أجل استعادتها، ولا ناضل من أجل إيجاد مقاومة فيها. وربّما تبدو استعادة حديث المشير عبد الحليم أبو غزالة عن عدم تنفيذ حافظ الأسد الضربة الجوية كما كان متفقاً عليه بين مصر وسورية خلال حرب 1973 مثيرةً، إذ عكس ذلك عدم رغبة الرجل في أن يقاتل في أيّ حال، بل على العكس، وكما يمكن الفهم من حديث أبو غزالة، فإن عدم تنفيذ الضربة أضرّ باستراتيجية الحرب، وما كان يمكن لها أن تحققه لو تمّت، فيقول “لكنّا فعلنا بالطيران الإسرائيلي ما فعلته إسرائيل بطيراننا من تعطيل تام خلال حرب 1967”.
في المقابل، ظلّت الشعارات الكُبرى الشيء الوحيد الدال على النظام وعلى علاقته بفلسطين وبكفاح شعبها، بل إن تدخّلات نظام الأسد في تفريق الحالة الوطنية الفلسطينية أمر لا يخفى على متابع الشأن الفلسطيني، وربّما دعمه المنشقين من حركة فتح، بعد عام من حرب بيروت (1982)، لا بدّ أن يظلّ حاضراً عند قراءة مفهوم النضال من أجل فلسطين بالنسبة لعائلة الأسد 53 سنة، إذ كان القصد تدمير حركة فتح بما تشكّله من قوة حقيقية في تماسك النظام السياسي الفلسطيني، وقد استبيح الدم الفلسطيني بشكل سافر قبل ذلك في تلّ الزعتر (أغسطس/آب 1976)، في تلك المذابح المؤلمة للوعي العربي التي نفّذها جيش الأسد بحقّ الفلسطينيين والمقاومة الفلسطينية. … ثمّة شيء “جيني” مضادّ للوطنية الفلسطينية، وللنضال والكفاح الفلسطينيين في دولة الأسد، شيء يجعل التحرّك ضدّ الوطنية الفلسطينية أمراً محموداً، ويسعى إليه النظام.
يبدو التذكير بذلك مهمّاً حين يُنظَر إلى مستقبل علاقة الفلسطينيين بسورية الجديدة، وهي علاقة بحاجة إلى مراجعة وتمحيص، ولوضع رؤى مناسبة لها، حتى تعود سورية حليفاً حقيقياً لنضال الفلسطينيين الوطني. أولاً، من حيث المبدأ، فإن التدخّل في الشؤون الداخلية للدول العربية كان وما زال يساوي في أدبيات الحركة الوطنية الفلسطينية مبدأ “استقلالية القرار الوطني”، لأن عدم التدخّل في شؤون الآخرين يعطيك قوّة لرفض تدخّلهم في شؤونك. وهو مبدأ يحفظ التوازن في الحاضنة العربية، التي يجب أن يسعى الفلسطينيون دائماً من أجل تماسكها. ما يجري في الدول العربية أمر خاصّ بها، صحيحٌ أن لنا وجهة نظر في بعض القضايا، ولكن وجهة النظر هذه يجب ألا تُترجَم موقفاً واصطفافاً في الصراعات الداخلية للنظم العربية، أو في داخل النظام الواحد. وبالمراجعة السريعة، فإن هذا الفهم حمى الوجود الفلسطيني في مرّات كثيرة. ما يهمنا يجب أن يكون مصلحة الشعب الفلسطيني ووجوده المؤقت في بلدان الجوار، أمّا حين نصبح طرفاً في هذا الصراع أو ذاك فإننا بذلك لا نتدخّل في سياسات الدول فقط، بل أيضاً نعرّض وجود أبناء الشعب الفلسطيني للخطر.
لم يكن نظام الأسد صديقاً للوطنية الفلسطينية بجوهرها، رغم استضافته فصائل كثيرة من مختلف ألوان قوس قزح الطيف السياسي الفلسطيني، من أقصى اليمين الإسلامي، من حركتي حماس والجهاد (حماس ارتدّت لاحقاً عليه واصطفت مع التنظيمات الإسلامية الإخوانية)، إلى أقصى اليسار، خاصّة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة، وبعض الفصائل الأخرى. وفي مراحل مختلفة، أصرّت بعض الفصائل على تعريف نفسها حليفةً للأسد، وبالتالي عرّضت الفلسطينيين في مرّات كثيرة للانتقاد وللمضايقات خلال الصراع السوري من أجل التخلّص من الأسد. ما أقوله إن استضافة الأسد تلك التنظيمات كلّها كان من باب المناكفة الواضحة لمنظّمة التحرير ولقيادتها، ولحركة فتح تحديداً. وربّما يخبرنا المعتقلون السياسيون من “فتح”، الذين مضى على وجود بعضهم أربعين سنة في السجون السورية، القليل عن هذه المناكفة التي كانت تسعى (ضمن أشياء كثيرة) إلى تقويض الكفاح الوطني الفلسطيني. تخيّلوا مثلاً أن تلك التنظيمات في دمشق لم يكن يسمح لها باستخدام الأراضي السورية المحتلّة لتنفيذ عمليات ضدّ إسرائيل. يمكن لك أن تظلّ في دمشق مثلما تشاء، وتسبّ وتنتقد قيادة منظّمة التحرير، وتوجّه العمليات إذا شئت، ولا بأس في أن تكون أكبر ثوري في العالم، ولكن لا تعمل شيئاً من داخل الأراضي السورية. يجب أن تظلّ هذه الثورية بعيداً من سورية، لا ينتج عنها أيّ “توريط” للنظام في صراع مع إسرائيل. كان يضحكنا كثيراً أن نسمع الأخبار السورية تقول إن سورية ستردّ على إسرائيل في الوقت المناسب، وكأنّ هذا الوقت المناسب غير مناسب في أيّ حال.
على الجميع أن يفيقوا من النوم، ويدركوا أن هذا النظام ليس مأسوفاً عليه، وأن علينا، نحن الفلسطينيين، أن نفكّر بشكل حقيقي، خاصّة تلك الفصائل، في مستقبل علاقاتنا مع سورية الجديدة، حمايةً لكفاحنا التحرّري ولمصالح الشعب الفلسطيني ولقضيته. القصّة ليست “نحن مع من”، بل يجب أن تكون “من معنا”، والمؤكّد أن نظام الأسد كان مع تمزيقنا وتفريقنا، ولم يكن مع نضالنا، فهو حتى لم يناضل في الجولان المحتلة. لقد شكّل الموقف الرسمي الفلسطيني الصادر من الرئاسة، ومن سفارة فلسطين في دمشق، جوهر هذا الفهم، فيجب أن يكون الفلسطينيون مع الشعب السوري، ومع الدولة التي يختارها، والمؤكّد أن الشعب السوري اختار ما جرى في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، ووقف معه وانتظره عقوداً، فالتخلّص من عائلة الأسد عنى حرّية الشعب السوري، فشعب تحت القمع لا يمكن له أن يستردّ أرضه المسلوبة.
تحدّيات كثيرة تنتظر علاقة سورية الجديدة بفلسطين. سيكون ملفّ تلك الفصائل جزءاً منها، ويجب أن يكون الموقف (جماعياً) أننا كلّنا مع خيارات الشعب السوري، ومع وحدة القُطر السوري، ومع تحقيق سورية مرحلةً انتقاليةً سليمةً، واستعادة الدولة السورية عافيتها، وعودتها إلى شعبها بعد أن اختُطِفت أكثر من نصف قرن. كما أن هذا يجب أن يكون على قاعدة تنسيق العلاقة مع الدولة السورية الجديدة، من أجل ضمان تناغم المواقف، وتعزيز مناعة الموقفين السوري والعربي. والأسلم في ذلك كلّه أن يتم عبر موقف عربي جماعي، فلا تُترك سورية الجديدة للضغوط الدولية من أجل التأثير فيها. استبقت إسرائيل هذا كلّه باحتلال جزء آخر من الأراضي السورية، والخروج من هذا الجزء سيكون مطلباً فورياً بعد استقرار الوضع، وليس أبعد من ذلك. بمعني، بدلاً من الانسحاب من الجولان سيُنسَحب من تلك المناطق الجديدة. بمعنى آخر، مقايضة. أيضاً هذا بحاجة إلى موقف عربي موحّد.
استُغلّت فلسطين عقوداً، ودُفِع بالسلاح لشقّ الصفّ الفلسطيني، وتمزيق الحالة الوطنية، وإراقة الدماء بين أبناء الشعب الواحد. ثمّة مرحلة جديدة بحاجة إلى تفكير جديد، وانفتاح أكثر على مكوّنات سورية الجديدة لحماية مصالح الشعب الفلسطيني، والتصالح مع الماضي، والبحث المشترك معها عن الحاضر وآفاق المستقبل.
العربي الجديد
——————————
القوميون والعسكر والاستبداد… أين الخلل؟/ المهدي مبروك
30 ديسمبر 2024
لم يكن موقف قوميين عرب من سقوط نظام بشّار الأسد مفاجئاً، فقد ساندوه في جرائمه البشعة كلّها، وساندوا أباه حافظ الأسد أيضاً. حين اشتدّ الطوق على دمشق، وأصبحت المعارضة على بعد كيلومترات من قصر الشعب، أوائل يناير/ كانون الثاني 2013، هرع إليه الجميع، وغامروا بزيارته من كلّ حدب وصوب، خصوصاً أن التدخّل الروسي الإيراني وفّر لهم مسالك آمنة. تناسى القوميون أن نظام الأسد قاتل الفلسطينيين بكلّ ضراوة، وارتكب في حقّهم مجازر في مخيّمات لبنان، وفي سورية نفسها، وتغافلوا عن اصطفافه الغريب وراء التحالف الدولي الذي حاصر العراق وقاد هجومه المدمّر عليه سنة 1990، وأسقطوا من خزّان ذاكرتهم أن نظاماً قومياً تنازل عن الجولان في ملابساتٍ لم تُبح بعد أسرارها، ولم يطلق رصاصة واحدة على المحتلّ في الجولان، الجبهة التي ظلّت في طولها مع الكيان الغاصب خامدةً، حتى إن الاحتفاظ بـ”حقّ الردّ في الوقت والمكان المناسبين” أصبحت عبارة يتندّر بها صبية الحارات.
في تونس، ولمّا كانت ثورة التونسيين يهدّدها الجميع (جماعات إرهابية والدولة العميقة ومعارضة عبثية)، سارع التونسيون القوميون إلى مساندة بشّار الأسد وحشد حلفائهم، سواء من الأحزاب المعارضة لحركة النهضة آنذاك (نداء تونس والجبهة الشعبية) من أقصى اليسار السياسي، وبرلمانيين، وحتى من القيادات النقابية أعضاء المكتب التنفيذي للاتحاد العام التونسي للشغل، للقيام بزيارات متتالية، لعلّ أكثرها أهميةً زيارة الوفد التونسي بشّار الأسد، إذ سارع هؤلاء إلى إعلان الولاء لـ”القائد بشّار”. كان ذلك في 31 يوليو/ تمّوز 2017، حين قاد الوفد آنذاك المرحوم بوعلي المباركي، ذو المهجة القومية.
يتملّك القوميون، كلّما ذكر مستبدّ أو عسكري، ما يشبه الوله المرضي بالعسكر، يمرّون بحالات انتشاء قصوى حين يرون البدلة العسكرية الخضراء، يعشقون الانقلابات العسكرية، ويزغردون كلّما سمعوا بانقلاب حدث، حتى لو كان في أقاصي بلاد الواق الواق. لا يعدّ ذلك مُجرَّد مشاعر هوجاء بل تعبيراً صادراً من ثقافة وتصوّر ورؤية، يعبّرون عنها. ليس من الصدفة أن من حكم الشعوب العربية من القوميين قد جاء من طريق انقلابات عسكرية، لم يصعد كرسيَّ الرئاسة زعيم قومي عبر صناديق الاقتراع. ومن غرائب الأنظمة القومية، التي حكمت بالحديد والنار شعوبها، أنها تحوّلت أثناء حكمها أنظمةً عشائرية وطائفية تقريباً، باستثناء حالة جمال عبد الناصر. رأينا كيف تنفّذت قبائل بعينها في ليبيا، وكيف استحال حكم الأسد (الأب والابن) حكماً أقلّوياً طائفياً، وكيف انتهى حكم صدّام حسين عشائريةً بغيضةً استغلّها خصومه للانقضاض عليه في تحالف مريب مع الأميركيين والإيرانيين، من أجل تأسيس نظام طائفي على أنقاضه.
حين سقط نظام صدّام حسين، بايع عديدون من شتات القوميين، وهم يتجرّعون مرارة اليتم، البعث السوري، وهم يعلمون جدّياً أنه خرّب الحلم القومي. ومع ذلك، مال إليه أكثرهم. في أحد اجتماعات المؤتمر القومي العربي، المنعقد في بيروت سنة 2014 بعيد مجزرة رابعة، وتراجع وهج الثورة السورية بعد تدخّل روسيا وإيران، حرص المؤتمرون على الثناء على إيران لوقوفها “البطولي” مع النظام السوري. غضّ هؤلاء الطرف عما فعلته ايران مع العراق، قبل سقوط النظام وبعده. ارتمى القوميون العرب في أحضان إيران (الدولة الموغلة في قوميّتها). لم يكن هذا الموقف آنذاك مبنياً على ما سمّي “محور الممانعة”، بل لأن إيران، حسب تقديرهم، ناهضت ثورات الربيع العربي أينما حلّت. كان للقوميين العرب موقف مخجل من الانتهاكات كلّها التي وقعت في حقّ الإخوان بمصر، ولكنّ الحقد الأيديولوجي شرّع لهم ذلك، خصوصاً أن عبد الفتاح السيسي عسكري. إذ يكفي أن يلبس الحاكم البدلة العسكرية حتى يصطفوا وراءه، خصوصاً إذا نكلّ بالإسلاميين خصومهم.
في الكتابات التأسيسية للقومين العرب، ثمّة شغف بنموذج توحيد الأمّة بقوة السلاح. لذا يحظى الجيش لديهم بهالة التقديس، يقدّم القائد الألماني أوتو فون بسمارك (1898) نموذجاً يُحتذى. كان نديم البيطار، الذي عدّ عبد الناصر بسمارك العرب، مؤثّراً بما كتب في كلّ الأجيال التي تعاقبت من القوميين. والعسكر إذا حكموا جعلوا من الحقوق والحرّيات خصوماً. حين بدأ القوميون العرب في بداية الألفية القيام بمراجعات طفيفة لمسألة الديمقراطية تحديداً، تقدّموا في هذا الاتجاه خطوات معدودة، غير أنهم سرعان ما تراجعوا عن ذلك مع قدوم الثورات العربية. اعتقد بعضهم أنها ستؤدّي إلى صعود خصومهم، أيّ تيّارات الإسلام المحافظ، لذلك ناصبوها العداء. لا يعني ذلك أن خصومهم من الإسلاميين أو اليساريين أكثر ديمقراطيةً، ولكنهم أقلّ مساندةً للأنظمة العسكرية. كلّما التقى العسكر بالأيديولوجيا كانت البشرية أمام اختبار رهيب قلّما نجت منه حقوق الإنسان. لقد كانت أشدّ الأنظمة شموليةً وفتكاً بشعوبها التي لبست الخوذة العسكرية عقيدةً.
العربي الجديد
———————–
تحول الشرع: من النضال إلى الجهاد ثم الاعتدال!/ محمد جلال العلي
30/12/2024
يفترض بعض المفكرين أن الهيكل الأساسي لبناء شخصية الإنسان يكون قد اكتمل حين يبلغ سن السادسة عشرة، وكل ما يكتسبه بعد ذلك ويتميز به هو بناء حول هذا الهيكل، لا يقوم معتدلًا ومستقرًا إلا بقدر اتفاقه نوعًا وكمًا مع هيكله الأساسي، وبالتالي تنشأ شخصية الإنسان وفكره في أول ستة عشر عامًا من عمره، وتكون الأسرة والمدرسة والمجتمع المغذي الرئيسي لها.
أحمد حسين علي محمد خالد الشرع جده المناضل الشيخ طالب الشرع، قائد ثورة الزوية قرية جيبين سنة 1920 ضد الاستعمار الفرنسي، والذي شارك بالثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش سنة 1925. والده حسين الشرع عروبي قومي (ناصري)، ولد 1946 في جنوب الجولان، واستلهم فكره النضالي من تاريخ جده طالب الشرع، وعندما كان في المرحلة الثانوية شارك في احتجاجات ضد انقلاب حزب البعث العربي الاشتراكي سنة 1963 واعتقل لمدة أربعة أيام.
بعد خروجه من السجن سافر إلى الأردن، واعتُقل أيضًا لمدة شهر ونصف، وتم تسفيره إلى العراق بناء على طلبه، وهناك أتم الثانوية، ثم دخل الجامعة وتخرج في كلية الاقتصاد- جامعة بغداد سنة 1969، وعاد إلى سوريا سنة 1970 وتم اعتقاله فور وصوله لمدة قصيرة، وعمل في سوريا لغاية 1979 في مجلس محافظة القنيطرة، وفي الشركة العامة للنفط، إلى أن سافر إلى المملكة العربية السعودية ليعمل هناك باحثًا اقتصاديًا لغاية 1988. ألف حسين الشرع تسعة عشر كتابًا، منها “ثورة الزوية السورية” و”قيامة سوريا” (كيفية إعادة إعمار سوريا) و”الأحزاب السياسية في البلاد العربية” و”العبودية التاريخية ومنهجية الاستعباد في حكم سوريا” أيضًا.
تعد الانتفاضة الفلسطينية الثانية (2000)، والاحتلال الأمريكي لأفغانستان (2001)، والغزو الأمريكي للعراق (2003)، موقظًا ودافعًا لجيل الثمانينيات في الوطن العربي والإسلامي للنضال ضد الاستعمار، وساحات استقطاب لذلك الجيل، الذي احتضنته التنظيمات وحولته إلى جهاد ممنهج وفق قواعد التنظيم، من خلال المعسكرات المغلقة والفتاوي العقائدية بأصول الجهاد. وهنا بدأ التأثير في التحول الفكري لأحمد الشرع الملقب بـ”أبو محمد الجولاني”، مؤسس جبهة النصرة لأهل الشام (2012)، وبعدها هيئة تحرير الشام (2017) بعد اندلاع الثورة السورية (2011)، وهو سوري الجنسية من منطقة الجولان المحتل.
ولد أحمد الشرع عام 1981، ونشأ في بيت المناضل حسين الشرع، الذي تشبع بأفكار النضال والقومية العربية، وبالفكر اللاواعي للابن تترسخ عقلية المناضل من خلال النقاشات المنزلية عن صراعات التيارات والأحزاب، بالإضافة إلى معرفته بتجربة والده وتنقلهم في دول متعددة، وأيضًا بالفكر السلفي السائد في المملكة العربية السعودية آنذاك، ومن هنا ننطلق بالحديث عن أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) السلفي العروبي الإسلامي، وهذا استقراء للأحداث والتطورات التي عاشها بعد أن تشبع بالأفكار النضالية، وتأثر بالانتفاضة الفلسطينية الثانية.
ومن خلال دراسته في كلية الإعلام بجامعة دمشق، والتزامه الأخلاقي والديني، جاء اهتمامه بقضايا العرب المسلمين. وهنا بدأ الغرو الأميركي للعراق (2003)، وتحركت مشاعر النضال لدى أحمد الشرع، كباقي الشباب السوريين الذين كانوا يذهبون إلى العراق للدفاع عن قضية تخص الأمة العربية، عن طريق جماعة القعقاع وغيرها من المجموعات التي كانت تجند السوريين الشباب للقتال هناك، وهنا انتقل أبو محمد الجولاني من عقلية المناضل إلى عقلية المجاهد في صفوف تنظيم “قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين” بقيادة أبو مصعب الزرقاوي، وبعد مقتل الزرقاوي عاد ليستقر في لبنان من أجل دعم تنظيم “جند الشام” لوجستياً عام 2006.
وحين اعتقلت المخابرات السورية تنظيم جند الشام عاد الجولاني إلى العراق لمتابعة القتال، واعتقله الجيش الأميركي في معسكر بوكا، وتم إطلاق سراحه عام 2008، واستمر في القتال إلى جانب “أبو بكر البغدادي” وعين رئيساً للعمليات في محافظة نينوى العراقية، وعندما اندلعت الثورة السورية عام 2011، عاد إلى سوريا وشكل “جبهة النصرة لأهل الشام” مع ستة من رفاقه عام 2012، وهنا تكمن التساؤلات حول هدف مشاركته في الصراع السوري وتوجهاته.
بعد خلاف فكري ومنهجي حاد مع “أبو بكر البغدادي”، زعيم تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش) حصلت معارك طاحنة دامت أكثر من ستة أشهر فعلية، وسنة ونصف بين كَرّ وفَرّ، ما اضطره للتوجه إلى سهل حوران، وبعدها إلى شمالي غربي سوريا (إدلب) ليشكل هيئة تحرير الشام (2017)، بعد تصريحه بإنهاء ارتباطه بتنظيم القاعدة أو أي جماعة جهادية أخرى، وهنا بدأ ببناء “هيئة تحرير الشام” بشكل مدني، قائم على تراتبية وحوكمة في ظل الحرب الوحشية.
عملت الهيئة على تنظيم صفوفها وسلوكها المدني وفق حوكمة مدنية، وشكلت حكومة الإنقاذ، واستطاع الشرع أن يحجم العناصر المتطرفة ويقيل بعضها مثل “أبو ماريا القحطاني”، وبدأ بتحويل الهيئة إلى فصيل سوري ضمن صفوف الثورة السورية، وعمل خلال هذه السنوات على تنشيط المنطقة وتنظيمها وإعادة بنائها، وكانت أفضل مدينة سورية من حيث الخدمات والأمان والازدهار التجاري، وأعد فصيلًا منضبط السلوك ذا كادر أكاديمي من أطباء ومهندسين وحقوقيين. والجدير بالذكر هو تعيين نائب رئيس الوزراء للشؤون العسكرية، العقيد رياض الأسعد مؤسس الجيش السوري الحر في هذا المنصب، وهذا دليل على التغيير الفكري والمنهجي للهيئة.
سنة 2021، أحدثت الحكومة كلية الشؤون العسكرية، التي عملت على استحداث أسلحة مثل طائرات بدون طيار (شاهين)، والعديد من المشاريع التنموية مثل الحكومة الألكترونية التي توفر جميع الوثائق الخاصة بالحكومة والسكان ألكترونيًّا، وهناك العديد من الأعمال الإنسانية سنسلط الضوء عليها في مقال آخر، وهذا يدل على سلوك مختلف عن الجماعات المرتبطة بتنظيم القاعدة.
وتأتي معركة “ردع العدوان” بقيادة أحمد الشرع تتويجًا لتلك الجهود والتحولات الجدية، وقد أطاحت بنظام بشار الأسد وحلفائه (إيران وروسيا) خلال عشرة أيام، ونرى نموذجًا مدنيًّا يصدره الشرع من التآخي والمحبة والعفو والتسامح والحفاظ على الممتلكات العامة والكنائس والمساجد والمدنيين والأقليات دون ارتكاب أي انتهاكات حرب، ومن ثم العفو عن جيش نظام الأسد وموظفيه إلا من ارتكب جرائم بحق الشعب السوري. وأضاف الشرع في رسالة إلى المقاتلين “ادخلوا دمشق متواضعين، واحفظوا مؤسسات الدولة؛ فهي للشعب السوري العظيم، ولنكمل معاً رسم صورة النصر لأعظم ثورة في التاريخ الحديث”.
وهنا يظهر أحمد الشرع بصورة مختلفة عن الصورة المعتادة، وخطاب مدني سياسي يحمل معاني الديمقراطية والتعددية السياسية وحقوق الأقليات والمواطنة. ومن هذا التنوع والاختلاف انطلقت فرضيتنا في هذا المقال عن التحولات الفكرية المتباينة في السياسة والتطور الفكري، وهو نموذج أو عينة لدراسة علم النفس والاجتماع والأنثروبولوجيا عن علاقة النشأة بالتحول الفكري لدى المناضلين.
ويبقى التساؤل عن علاقة المناضلين ضد الاستبداد من مختلف مشاربهم الفكرية، وتأثيرهم على جيل ثورات الربيع العربي، وعن واقع الإنسان في التطور أو الانتقال الفكري.
———————————
الدين والسياسة… قراءة جديدة/ مصطفى الفقي
يجب أن يكون بديل الأسد في سوريا عادلاً ورحيماً وعصرياً يؤمن بالحداثة ويحترم العلم ويعلي رايات المستقبل
الاثنين 30 ديسمبر 2024
إن محاولة تطويق العالم العربي من كل اتجاه لن تكون صائبة في كل الظروف بل إنها قد تدفع إلى ما هو غير ذلك تماماً، ويكفي أن نتذكر أننا أمام إدارة أميركية جديدة وحكومة إسرائيلية لا تحترم الشرعية الدولية ولا ترعى حقوق الإنسان بل لا تفكر في مستقبل التعايش المشترك بين كل الأطراف.
تعد منطقة الشرق الأوسط نقطة تلاقي الأديان، وعلى رغم ذلك فقد دارت حولها صراعات الأوطان، فالدين كالماء سائل نقي يجمع الناس على عبادة الإله الواحد الأحد ويدفعهم نحو الفضيلة وينأى بهم عن الرذيلة، وهذه قواسم مشتركة بين الديانات السماوية وحتى الفلسفات القديمة، فالشرائع السماوية والأرضية معاً تحاول دوماً الارتقاء بالإنسان وتهدئة الصراعات وإنهاء الخلافات، وتتفاوت الشعارات الدينية بين الرحمة والعدل، بين الحق والسلام، مع السعي إلى الإنصاف بين الإنسان وأخيه الإنسان، ولكن لأن الإنسان وُلد جهولاً فقد قتل أخاه وحارب ذويه وتملكته الأطماع وغلبت عليه غرائزه، وبذلك تحولت الدنيا أمامه إلى أشلاء ودماء وضحايا وشهداء، وانعدمت الثقة المتبادلة بين الناس وظهرت الكراهية وانتشرت بين الطوائف والنحل وأصحاب الديانات على نحو لم نشهد له في العصور الماضية مثيلاً. وعلى رغم تعاقب الحضارات وشيوع الثقافات فإن العنف لا يزال هو لغة الخطاب المعاصر، ولم يعد للرحابة والتسامح مساحة كافية نعيش بها ولها.
دعنا نتأمل منطقة الشرق الأوسط وإقليم البحر المتوسط لندرك أننا أمام مشاهد عبثية، تشير بوضوح إلى التدهور الواضح في الرؤية بين كل الأطراف وعلى مختلف المستويات بصورة تكاد تطيح مفهوم التعايش المشترك بين البشر مهما اختلفت مشاربهم وتنوعت أوطانهم وتعددت دياناتهم، والذكر الحكيم يقول في كتاب الله (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خبيرٌ)، مما يعني أن كلمة الله إلى البشر عامة وشاملة لا تختص بقوم من دون آخرين أو جماعة من دون غيرها، وها هي المنطقة التي نعيش فيها من قلب العالم تواجه محنة حقيقية بين المفهوم المعتدل للأديان السماوية وعناصر التطرف ومظاهر العنف التي تكاد تطيح السلم والأمن الدوليين، إذ إن ما جرى في سوريا وهو إسقاط نظام أجمعت الآراء على فساده ووحشيته، وظهر أمامنا بعده حجم من الحقائق لم نكن نتخيل وجوده أو نعلم بشأنه، وأصبحت عاصمة الأمويين في قبضة مجموعات جديدة قد تثير قلق بعض المراقبين ومخاوف آخرين، في ظل أوهام وهواجس قد تدفع بالمنطقة إلى مواجهات صعبة غير محسوبة ونزاعات دامية.
لقد أعلن الحكام الجدد من دمشق أنهم ينزعون رداء الفصائل التي كانوا ينتمون إليها والميليشيات المسلحة التي حاربوا معها لكي يتحولوا إلى عناصر عصرية تؤمن بالشعوب وتحترم حقوق الإنسان وترفض كل الممارسات التي تؤدي إلى التعصب والغلو والتشدد، بل وتقرأ أديان السماء قراءة شكلية لا تصل للجوهر وإنما تكتفي بالمظهر، مع أن الدين معاملة وهو أيضاً وسطية واعتدال وحب للغير وحرص على الآخر.
ومنطقة الشام الكبير التي تبدو دمشق عاصمتها الأولى هي الأحرى والأجدى بأن تكون – كما كانت دائماً – منبعاً للقومية ومستودعاً للعروبة وأرضاً للتعايش المشترك، ولكن الحركة الصهيونية التي اختارت فلسطين مركزاً للاستيطان غير المشروع والعبث الذي لا مبرر له والعدوان الظالم على أصحاب الوطن الأصلي أحال كل شيء إلى نقيضه بعد الحرب الدامية على غزة لأكثر من عام والعدوان على أجزاء من الأراضي اللبنانية، مما أدى إلى سوء الظن واستشعار الريبة بأن ما هو قادم على سوريا قد يحمل في طياته مشكلات جديدة وأزمات عدة نتيجة الصراعات المتراكمة والنوايا السيئة.
لقد سقط في سوريا نظام كان يجب أن يرحل خصوصاً بعد ما شاهدناه من ممارساته وعرفناه من داخله، لذلك فإن البديل يجب أن يكون عادلاً ورحيماً وعصرياً يؤمن بالحداثة ويحترم العلم ويعلي رايات المستقبل، وذلك هو ما نصبو إليه وتتطلع إليه شعوبنا التي عانت طويلاً وآن لها أن تستريح بعد أشواط طويلة من المواجهات الدامية والنزاعات العسكرية والحروب المتصلة والقطيعة المتأصلة التي تؤدي إلى خلق مزيد من العداوات وتوسيع الهوة حتى بين أبناء الوطن الواحد، وليرفع العرب في أقطارهم المختلفة شعار المواطنة أي المساواة بين البشر على رغم اختلاف دياناتهم وأعراقهم وأنسابهم وألوانهم، عندئذ تقف الأمة العربية على المشارف الحقيقية لرؤية العصر الذي نعيش فيه وتلتزم ما يجب أن تلتزمه، ولعلي أطرح هنا بعض الملاحظات أهمها…
أولاً: إن الحكم على الأنظمة ومصادر السلطة في البدايات هو حكم ظالم ومتعجل، إذ لا بد أن يكون التقييم موضوعياً لا يتأثر برواسب الماضي ولا يفكر بالضرورة إلا في تطلعات المستقبل وأحلامه وآماله أياً كانت الظروف صعبة والأجواء ملبدة بالغيوم، ولا يعني ذلك الغفران المطلق أو التجاهل التام أو النسيان الكامل، فالإنسان ابن بيئته ونتاج فطرته وتعبير عن طبيعته، لذلك فإننا ملتزمون جميعاً التعامل مع الواقع بمعطياته المختلفة وتبادل الرأي في وضوح واستقبال الآخرين بغير رواسب، وأنا شخصياً أعترف بأن بعض المشاهد والتصريحات في أحاديث حكام دمشق الجدد لا تزال تشعرني بشيء من القلق، بل والخوف أيضاً على سلامة الأمة وصفاء روحها التي تشدها في كل اتجاه.
ثانيًا: إن المسكوت عنه في الخطاب السياسي السوري الجديد يدعو إلى بعض القلق المشروع أيضاً، وذلك اعتماداً على سقوط الحقوق الفلسطينية من ذلك الخطاب، بل وغياب التعابير القومية التي تدعم التزام القطر السوري المنهج القومي الذي رفعه العرب جميعاً، خصوصاً في الفترة الحالية التي تظهر فيها رائحة التآمر الدولي والعبث الإقليمي الذي يقوده في تطرف واضح رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو، قاتل الأطفال ومدمر المدن وهادم البيوت، إلى جانب سياسي شديد المراس صعب الفهم يجمع ما بين التراث العثماني والولاء الغربي الأميركي، وأعني به بالطبع السيد رجب طيب أردوغان، الذي اكتشفت شخصياً تطلعاته التوسعية حينما ذهب هو والسيدة قرينته منذ أعوام عدة في زيارة رسمية إلى دولة الصومال يقدرون فيها ما يجب أن يحدث ويتأملون منها ما ينتظر أن يسود، ولا ننسى أيضاً سعيه إلى إقامة قاعدة عسكرية في ميناء سواكن السوداني، فالزعيم التركي يسعى إلى استعادة العرش العثماني ولكن بقبعة أميركية غربية بديلاً لعمامة إسلامية قد لا تسمح الظروف بقيامها وقد مضت القرون وعبرت السنون على الجميع.
ثالثاً: إن موقف حكام دمشق الجدد الذين نعطيهم فرصة الظن الحسن هم المسؤولون الأوائل عن إجلاء الحقائق وما جرى الاتفاق عليه بين القوى العظمى والمراجع الإقليمية، إذ لا بد من تأكيد سلامة الكيان العربي وثبات الحق الفلسطيني والمضي في طريق الكفاح والتفاوض معاً من أجل إقرار الحقوق واستتباب السلام في أرض السلام، مع هذه الأيام التي ترتبط بميلاد السيد المسيح وبعدها أطلت تباشير الدعوة المحمدية لكي يلتقي الجميع على كلمة سواء.
رابعاً: إن محاولة تطويق العالم العربي من كل اتجاه لن تكون صائبة في كل الظروف، بل إنها قد تدفع إلى ما هو غير ذلك تماماً، ويكفي أن نتذكر أننا أمام إدارة أميركية جديدة وحكومة إسرائيلية لا تحترم الشرعية الدولية ولا ترعى حقوق الإنسان، بل ولا تفكر في مستقبل التعايش المشترك بين كل الأطراف، لذلك يتعين علينا جميعاً أن نرصد الواقع بعين فاحصة، فالدولة الشريرة التي بدأت بالحرب على غزة وواصلت مسيرة العدوان إلى لبنان هي ذاتها التي تتحرش بالعراق وتطرح القضية السورية في الوقت ذاته على أشد ما يكون وأكبر ما يحتمل!
وهنا تبقى كلمة لا بد من أن نزجيها للجماهير العربية، وهي أن التضامن بين الأنظمة مهما اختلفت والحكومات وإن تباينت هو السبيل الصحيح لمواجهة الموقف الذي طرأ بعد العدوان على غزة ولبنان وتغيير نظام الحكم في سوريا، إذ غطت الفرحة على الحقيقة وكاد يسكرنا شراب الانتصار على النظام البائد في سوريا حتى أصبحنا ننسى أن نظاماً جديداً بفكر مختلف تماماً يقبع الآن في دمشق يدير الأمور ويحرك السياسات، وهو نظام نرجو أن يكون عادلاً وعصرياً، واضعين في الاعتبار حالة الانقسام في السودان والتضارب السياسي في ليبيا والنزاعات المكتومة داخل صفوف القيادات الفلسطينية!
دعونا ندعو الله أن يكون المستقبل العربي عادلاً وذكياً، مؤمناً بالإنسان، يفتح أبوابه للبشر جميعاً من دون تفرقة أو تمييز، بلا تعصب أو تطرف أو إرهاب.
——————————
خامنئي يريد إشعال سوريا/ طوني فرنسيس
طرد إيران من بلاد الشام يعكس فوضى سياسية في طهران وظريف يستبدل محور المقاومة بـ”المودة”
الاثنين 30 ديسمبر 2024
اعتقدت إيران أن تكرار حروب غزة المحدودة من عام إلى آخر، أمر ممكن ويمكن توظيفه كنار هادئة تحت مرجل مساوماتها مع أميركا والغرب، الاعتقاد نفسه ساد إدارتها لحرب الإسناد التي كلف “حزب الله” بخوضها من لبنان دعماً لـ”حماس” و”الجهاد الإسلامي”، لكن كل ذلك ذهب هباء.
كان سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد تتويجاً لكارثة أصابت المشروع الإقليمي الذي عملت عليه إيران الخمينية منذ 45 عاماً، ولأن القيادة الإيرانية تعي تماماً معنى هذه الكارثة وحجمها فإنها تندفع في سلوك يختلف عن كل من يتعامل مع الحدث السوري، ساعية إلى تحويل سوريا الجديدة، ساحة لحروب أهلية مذهبية لا تنتهي.
من دون حافظ الأسد أولاً ومن بعده نجله بشار ما كان يمكن للمشروع الإيراني أن يقوى ويستمر ويتمدد إلى لبنان أولاً ثم في العراق ثانياً وبعدها إلى فلسطين وغزة ودول عربية أخرى.
صحيفة “كيهان” الإيرانية المقرّبة من المرشد علي خامنئي تحدثت الأسبوع الماضي عن فضل الأسد الأب على إيران فقالت إنه ضحى بمصالح سوريا من أجلها إبان الحرب الإيرانية العراقية، ومن جملة “تضحياته” إقفاله أنبوب النفط العراقي الذي يمر عبر سوريا ومنها إلى لبنان والذي كان ينقل مليون برميل يومياً من النفط الخام تتقاضى عليهم سوريا ثلاثة دولارات مقابل البرميل الواحد.
إقفال ذلك الأنبوب العابر لسوريا لم يضرب مصالح دمشق فقط بل أضر بلبنان حيث كانت مصفاة طرابلس اللبنانية تعمل على تكرير النفط العراقي الذي يصلها عبر أنبوب خاص من حمص فيما يتجه فرع آخر إلى مصفاة بانياس السورية.
الأسد الأب الخادم الأمين لإيران لم يضح بمصالح بلاده فقط في خدمة إيران بل ضحّى بمصالح لبنان، الذي سيطر عليه في سبعينيات القرن الـ20، للغاية نفسها. لا يزال الأنبوب والمصفاة في لبنان مقفلين حتى يومنا هذا فيما تحول البلد بأكمله منصة نفوذ إيرانية.
إغلاق الأنبوب العراقي في زمن صدام حسين كان نموذجاً لعمق العلاقة بين الملالي والنظام السوري البائد، ويمكن إيراد نماذج كثيرة في هذا المجال، عن ولاء النظام الأسدي وتبعيته لطهران، ما يكفي لتفسير الصدمة التي أصابت إيران ومرشدها علي خامنئي بعد سقوط العائلة التي فتحت أمام خلفاء الخميني الساحل العربي المطل على البحر المتوسط .
صعود “حزب الله” في لبنان وتعيينه “مقاوماً” أبدياً وحيداً لإسرائيل وممثلاً للولي الفقيه في بلاد الأرز كان بين الخدمات التي وفّرها الأسد الأمين، فهو ما كان ممكناً لولا السيطرة السورية على لبنان التي استمرت ما يقارب 30 عاماً.
رعى نظام الأسدين هذا الحزب وأورثه سلطاته لدى اضطراره إلى الخروج من لبنان إثر اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري، مهّد له طريق السيطرة على الدولة ونقل إليه الأسلحة والصواريخ وجعله “درّة تاج” الإمبراطورية الخمينية، ووكيلها الأول دعماً وتسليحاً وتمويلاً، وعندما احتاج إليه خامنئي في لحظة الانتفاضة الشعبية السورية على الأسد، كان جاهزاً ليخوض معه حرب “ردّ الجميل” دفاعاً عن النظام “الذي بات يمثل مصالح إيران في المحافظة رقم 35”.
أرسل خامنئي رجله قاسم سليماني مطلع عام 2012، بعد أشهر قليلة من اندلاع الانتفاضة السورية، لحماية نظام الأسد من انتفاضة شعبية سلمية، واستحضر الأخير على الفور ميليشيات “حزب الله” وزجها في المعركة ضد السوريين، ثم جاء بميليشيات شيعية أخرى من أنحاء العالم، وفي سوريا بالذات اختمرت فكرته عن محور المقاومة و”حلقة النار” التي ستحيط بإسرائيل فقدم تبريراً أيديولوجياً دينياً لتوطيد الحضور الإيراني في المشرق العربي.
أسفرت نظرية “حلقة النار” عن مغامرة “طوفان الأقصى”، اعتقدت إيران أن تكرار حروب غزة المحدودة من عام إلى آخر، أمر ممكن ويمكن توظيفه كنار هادئة تحت مرجل مساوماتها مع أميركا والغرب. الاعتقاد نفسه ساد إدارتها لحرب الإسناد التي كلف “حزب الله” بخوضها من لبنان دعماً لـ”حماس” و”الجهاد الإسلامي”، لكن كل ذلك ذهب هباء.
جلبت معركة “حماس” لغزة وللمحور الإيراني دماراً متسلسلاً شاملاً بدءاً من القطاع مروراً بلبنان وصولاً إلى سوريا والحضور الإيراني فيها.
وجهت إسرائيل المدعومة من أقوى تحالف دولي ضربات قاصمة لحركة “حماس” و”حزب الله” انتهت إلى توقيع الحزب ما يشبه وثيقة استسلام أمام إسرائيل وأميركا، وفي صبيحة اليوم التالي لتوقيع تلك الوثيقة كان نظام الأسد يحصي أيامه الأخيرة، وفي خلال أقل من أسبوعين انتهت سلطة 54 عاماً من الاستبداد و45 عاماً من التحالف الوطيد بين دمشق وطهران.
صُعقت إيران بالضربة السورية، حليفها الروسي سارع إلى محاولة استيعاب ما جرى، لكن المرشد الإيراني ذهب في اتجاه معاكس تماماً، لم ير في إسقاط الأسد تعبيراً عن إرادة شعب ذاق الأمرّين طوال نصف قرن، بل اعتبر انتصار السوريين خطة أميركية إسرائيلية تركية لضرب محور المقاومة المزعوم ودعا “الشباب السوري” إلى مواجهة السلطات الجديدة .
لم يترك خامنئي متسعاً من المناورة أمام حكومة الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان التي تحدثت عن محاولات تواصل مع دمشق لإعادة العلاقات وفتح السفارة الإيرانية، وظهر ارتباك طهران في أبهى صوره مع محاولة مستشار بزشكيان الوزير السابق جواد ظريف تخطي “الهزيمة الإيرانية” ودعوته إلى إطار جديد يجمع دول غرب آسيا مع إيران تحت اسم منظمة “المودة” وكأنه يستبدل تعبير “المقاومة” العزيز على قلب المرشد بكلمة قريبة في بعض حروفها، في تلاعب لا يقف جوهره عند حدود اللفظ فقط، فليس بسيطاً أن يتم الانتقال من محور المقاومة بقيادة طهران إلى محور “المودة” باستراحة من إيران إياها، ولكن خامنئي وحرسه الثوري كانوا حسموا الأمر.
كرر الحرس مقولات الخامنئي عن سوريا ومثله فعلت هيئة الأركان العامة للجيش الإيراني، هؤلاء جميعاً يريدون حرباً في سوريا ويواصلون الحديث عن انتصارات المقاومة في لبنان وغزة، ومثل هذا الخطاب الإيراني لا يعني سوى التشجيع على حروب أهلية مذهبية في سوريا وتعقيد الوضع في لبنان واستمرار القتل من غير أفق في غزة .
لكنه خطاب إيراني معزول تماماً في الداخل والخارج، في الداخل تشتد أزمة النظام على وقع تردي الواقعين المعيشي والاقتصادي وفي الخارج يبدي العالم بأجمعه ترحيباً بالتطورات السورية ويحاول مواكبتها والتشجيع على إنجاز التحول الديمقراطي المأمول وبناء سوريا الجديدة. العالم العربي أيضاً يتحرك إلى احتضان التجربة السورية ورعايتها وحماية سوريا من التدخلات والأطماع، وفي السياق يأتي الموقف الخليجي وتنبيه جامعة الدول العربية لإيران من التدخل في شؤون البلد العربي.
تضيق خيارات طهران كما يضيق وقتها، وسط تهديدات إسرائيلية صريحة وعشية تولي دونالد ترمب مهماته الرئاسية في أميركا.
الأكيد أنها خسرت العمود الفقري لمحورها الإقليمي في أشهر قليلة، وأمامها مسارات مرة فإما شيء من مشروع “مودة” ظريف، أو الذهاب إلى تطبيق خطط التصعيد الخامنئية التي تبدأ بتخريب الجوار ولا تنتهي بتطوير البرنامج النووي، مما يعني المغامرة بالنظام نفسه الذي يأمل المرشد بالحفاظ عليه وربما توريثه على طريقة الأسد.
———————————-
تركيا وسوريا الجديدة… وربما أبعد منها/ إيلي القصيفي
القبول الإقليمي والدولي بنفوذ أنقرة في دمشق لن يكون تلقائيا
30 ديسمبر 2024
بقدر ما كان انهيار محور إيران سريعا بعد إنهاك إسرائيل لـ”حزب الله” و”حماس” وترهيب الفصائل العراقية وسقوط نظام بشار الأسد، كان صعود أو بروز تركيا كقوة إقليمية عبر البوابة السورية، إثر دخول الفصائل السورية دمشق وهروب الأسد سريعا أيضا، حتى صرنا ننتبه أكثر إلى كل خطوة تقدم عليها تركيا ليس في المنطقة وحسب بل كذلك في أفريقيا، سواء في ليبيا أو بين الصومال وإثيوبيا، وكأن كل خطوة تقوم بها أصبحت لها بعد الحدث السوري معاني مضاعفة بوصفها دليلا إضافيا على تمدد نفوذ أنقرة وتكاثر أدوارها.
ولا ريب أن سرعة تحول المشهد الإقليمي لا تخلو من المفاجأة ومن الأسئلة حول نتائج هذا التحول على العلاقات بين اللاعبين الإقليميين والدوليين في المنطقة، وحول الأشكال التي سيأخذها صعود نفوذ تركيا في الإقليم على حساب نفوذ إيران والذي ساد الاعتقاد خلال العقدين الماضيين بأنه راسخ فإذا به ينهار خلال أشهر قليلة بل خلال أسابيع قليلة، في استعادة لمقولة لينين الشهيرة والتي كثر استعمالها في سياق الحدث السوري: “هناك عقود من الزمن لا يحدث فيها شيء، وأسابيع تحدث فيها عقود”.
لا شك أن المشهد الجديد في المنطقة كان قد بدأ يرتسم على وقع تداعيات عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، بدءا من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ثم على لبنان وما بينهما من تبادل للضربات بين إسرائيل وإيران في سياق إجمالي أظهر اختلال ميزان القوى بين الطرفين لصالح إسرائيل، ولاسيما مع تدخل واشنطن إلى حانب تل أبيب في وقت كانت روسيا منهمكة في حربها ضد أوكرانيا بينما الصين بعيدة ولا تريد أن تحرق أصابعها في نيران الشرق الأوسط.
هذا كله خلق أرضية مواتية تزيد من زخم الفصائل السورية وعلى رأسها “هيئة تحرير الشام” والتي يتكشف تباعا أنها كانت تحضّر نفسها لـ”لحظة الصفر” وأنها كانت تخضع لتدريبات وتحولات على مستوى إعدادها العسكري وقابلية كوادرها وتحديدا “أبو محمد الجولاني” للتأقلم مع المرحلة الجديدة بكل ما تتطلبه من تحولات في الخطاب السياسي والاجتماعي تتيح إعادة بناء علاقات سوريا الجديدة مع المنطقة والعالم، والأكيد أن تركيا لم تكن بعيدة عن كل ذلك بل كانت في صلبه ومحركه الرئيس.
والحال فإن ذلك كله ما كان ليحصل لولا جاهزية أنقرة الداعم الرئيس للفصائل السورية لاقتناص الفرصة السانحة واللحظة المناسبة لخلط الأوراق وقلب المشهد في سوريا رأسا على عقب، بعدما كان الظن أن الستاتيكو الدراماتيكي في البلاد قابل للاستمرار وأن هناك تسليما إقليميا ودوليا بضرورة التأقلم معه ما دامت القدرة على تغييره غير متاحة في ظل الظروف القائمة وإلا فإن المنطقة قد تذهب إلى تصعيد إضافي. لكن في الواقع فإن هذا الستاتيكو إياه كان يحمل في طياته أسباب انهياره، إذ كان يخفي تداعي هيكل نظام الأسد وتآكله من الداخل بحيث إن أسباب سقوطه كانت فيه أكثر مما هي في هجوم الفصائل ضده طالما أن أسباب بقائه كانت في الوقت نفسه أسباب سقوطه، فلم يتبق سوى إعلان انهياره في التوقيت المناسب والمفاجئ.
على أي حال، بالرغم من المتغيرات التي فرضتها الحرب الإسرائيلية في غزة ولبنان على موازين القوى الإقليمية، وبالرغم من عدم تسليم الفصائل السورية بحكم الأسد واستعدادها لاستئناف الهجوم ضده في أي لحظة، فإن “الانقلاب” في دمشق ما كان ليحصل لولا استعداد تركيا لخوض المغامرة بدفع الفصائل السورية لشن عملية “ردع العدوان” ومواكبتها وتغطيتها. والأهم أن المغامرة التركية لم تكن عشوائية بل محسوبة ومحسوبة جدا، أي إن أنقرة لم تكن لتقدم على الهجوم لو لم تكن مدركة أنها قادرة على تأمين “شرعية” إقليمية ودولية لنفوذها في سوريا ولصعودها كقوة إقليمية جديدة على حساب إيران، وبدرجة أقل على حساب روسيا. مع العلم أن ديناميكيات العلاقة بين تركيا والحكم الجديد في سوريا لم تتكشف كلها بعد ولم تستقر، بيد أن الزخم التركي في التعامل مع سوريا الجديدة لا يخطئ في إظهار حجم دور أنقرة في المشهد السوري الجديد والأهم حجم رهانها على المتغيرات الحاصلة في “الشام”.
هذا لا يعني أن القبول الإقليمي والدولي بنفوذ تركيا في سوريا سيكون أمرا تلقائيا وكأن اللاعبين الإقليميين والدوليين شركاء كاملون في “انتصار” أنقرة لمجرد إخراجها إيران من سوريا وإضعاف النفوذ الروسي فيها أو رسم علامات استفهام كبرى حول مستقبله. كما لا يعني في المقابل أن قراءة المشهد الجديد في سوريا يمكن أن تُختصر بالقول إن تركيا فرضت أمرا واقعا فيها لا يمكن للاعبين الإقليميين والدوليين إلا القبول به مرغمين.
في الواقع، المشهد السوري الجديد ودور تركيا فيه معقد جدا ولا يمكن اختصاره بمعادلات بسيطة، أولا لأن علاقات تركيا الخارجية معقدة بما في ذلك علاقاتها مع إيران وروسيا، وثانيا لأن موقع سوريا الاستراتيجي يجعل المتغيرات فيها تؤثر بقوة في اتجاهات المشهد الإقليمي، ولذلك فإن حسابات القوى الإقليمية والدولية في ما يخص سوريا الجديدة معقدة وليست ذات اتجاه واحد سلبا أو إيجابا.
بهذا المعنى فإن سقوط الأسد لم يكن حدثا سورياً وحسب بل حدث إقليمي أيضا يفتح صفحة جديدة في المنطقة عنوانها صعود النفوذ التركي بكل ما يختزنه هذا الصعود من أصداء تاريخية ذات صلة بانبعاث النزعة الإمبراطورية التركية- والتي طالما راودت رجب طيب أردوغان- بعد أكثر من قرن على سقوط الإمبراطورية العثمانية والتي كانت قد تأسست، للمفارقة، على فوز العثمانيين على المماليك في معركة مرج دابق قرب حلب عام 1516.
لكن مع ذلك فإنه لا يمكن اختزال المشهد الجديد في المنطقة بصعود نفوذ أنقرة بل بمقاربة القوى الإقليمية والدولية لهذا الصعود وكيفية تعاملها معه. والحال فإن القوى الإقليمية والدولية التي يناسبها تراجع النفوذ الإيراني والروسي في المنطقة، تجد نفسها الآن مضطرة للتعامل أو التكيف مع صعود النفوذ التركي ومحاولة استشراف مآلاته وتأثيراته على مصالحها ونفوذها في الإقليم. ولذلك يمكن القول إن المنطقة تمر الآن بمرحلة انتقالية لم تتضح معالمها بعد، بين أفول النفوذ الإيراني الذي كان قد بدأ بالتراكم منذ الغزو الأميركي للعراق في عام 2003 والذي فتح الباب لطهران لتصل إلى البحر المتوسط، وبين صعود النفوذ التركي إثر سقوط بشار الأسد نهاية عام 2024 والذي فتح الباب أمام أنقرة لتمد نفوذها في سوريا وربما أبعد منها في عموم المنطقة ولاسيما في لبنان.
وهذا تحول سريع وضخم ولاسيما أن تركيا ليست اللاعب الوحيد الذي أنتج هذا التحول، بل هي قطفت ثمار الحرب الإسرائيلية- الأميركية في المنطقة ضد إيران وأذرعها. وبالتالي فإن أنقرة ستكون مضطرة للتعامل مع طموحات إسرائيل وأميركا في الإقليم ومع تصوراتهما واستراتيجيتهما له، بدءا من سوريا، حيث سارعت إسرائيل فور هروب الأسد إلى التملص من اتفاق “فك الاشتباك” في الجولان واحتلال المنطقة العازلة والتوغل داخل الأراضي السورية.
وكأن أهداف إسرائيل غير المعلنة من كل ذلك هي إرباك أنقرة في سوريا وفرض أمر واقع عليها مفاده أنها لا يمكن أن تبني طموحاتها الإقليمية على حساب طموحات إسرائيل وهواجسها ومن ورائها الولايات المتحدة التي قال رئيسها المنتخب دونالد ترمب فور سقوط الأسد: “إن هؤلاء الناس الذين دخلوا دمشق تتحكم بهم تركيا ولا بأس في ذلك”.
هذه رسالة أميركية مزدوجة، فمن ناحية يبدي ترمب استعداده للتعامل مع تركيا في سوريا، ومن ناحية ثانية يكشف حجم الدور التركي في دمشق وبالتالي يحملها مسؤولية اتجاهات الأمور فيها. وفي المقابل فإن أنقرة التي يؤرقها هاجس المسألة الكردية تتطلع إلى انقلاب الرئيس الجمهوري المنتخب على سياسات الإدارة الديمقراطية في دعم “قسد”.
أيا يكن من أمر فإنه ينبغي، وقياسا على تصريح ترمب ذاك، اعتبار مبادرات الدول الإقليمية والدولية تجاه الحكم الجديد في سوريا مبادرات تجاه تركيا، أو محاولة لجس نبضها والتماس استعدادها للتعاون وحفظ مصالح “الآخرين” في سوريا. وهذا يرتب مسؤولية على أنقرة التي أصبح نجاحها كدولة (تحت حكم حزب “الحرية والعدالة”) وكمشروع إقليمي يتوقف على مقدار نجاحها في سوريا، أي نجاح العملية السياسية الانتقالية في دمشق. ومن الواضح أن أنقرة مستعجلة جدا في استثمار الفرصة السورية سواء من خلال الاستعداد لمساعدة الحكم الجديد في “قصر الشعب” أو إبرام الاتفاقات الدفاعية والاقتصادية معه والتي بدأت تثير حفيظة دول قريبة وبعيدة، وذلك في مؤشر مبكر إلى الصراع الخفي على سوريا الجديدة، وهو صراع لن تقوى أنقرة على حسمه بسهولة لا ضد “الحلفاء” ولا ضد الأعداء.
المجلة
—————————–
سنة 2024… عقود في أسابيع/ إبراهيم حميدي
30 ديسمبر 2024
“هناك عقود لا يحدث فيها شيء، وعقود تحصل في أسابيع”. لم يكن يعرف صاحب هذه العبارة- “الرفيق” لينين- أن ما قاله في العقد الثاني من القرن العشرين، سيحدث في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، بل إن شظايا “العقود” ستصيب “الرفاق الجدد” في موسكو ودمشق.
صحيح أن سنوات كثيرة في التاريخ، شهدت أحداثا كبيرة، لكن سنة 2024 في رأس قائمة السنوات المفصلية، وستكون أسابيعها الأخيرة وسقوط عائلة الأسد بعد خمسة عقود من الحكم، خاتمة لائقة لهذه السنة.
في بعض الجوانب كانت 2024 امتدادا لسنة 2023 لجهة استمرار المبادرات في الخليج والأزمات والحروب في شمال أفريقيا والشرق الأوسط. الحرب الإسرائيلية في غزة والقتل والتشريد والمعاناة امتدت لتشمل نحو مليوني شخص. لكن مع خطوة بعد أخرى، كانت شظايا الحرب تتطاير في سماء الإقليم وأراضيه. ونقطة الانعطاف كانت لدى اغتيال تل أبيب قادة من “الحرس الثوري” في القنصلية الإيرانية بدمشق في أبريل/نيسان الماضي، ثم رد طهران باستهداف مباشر لإسرائيل.
انتقلت المواجهة الثنائية من “حرب الظل” إلى الضربات المباشرة والعلنية. ولم يمر وقت طويل حتى قتل الرئيس إبراهيم رئيسي بسقوط طائرته جراء “خلل فني” في مايو/أيار الماضي. وخلال تنصيب خليفته مسعود برشكيان في نهاية يوليو/تموز الماضي، انتقلت المواجهة إلى مستوى آخر باغتيال تل أبيب رئيس المكتب السياسي لـ”حماس” إسماعيل هنية في طهران، بالتزامن مع اغتيال فؤاد شكر القيادي العسكري الكبير من “حزب الله” في بيروت.
بعدها، جرت سلسلة الاغتيالات والضربات والاختراقات، وأبرزها اغتيال الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله في بداية أكتوبر/تشرين الأول، بعد اختراق أمني إسرائيلي كبير تضمنت تفجير أجهزة “بيجر” واغتيال آلاف من عناصر “الحزب”، ثم بدء عملية برية تحت قصف إسرائيلي عنيف في لبنان.
كثير من المحللين كانوا يعتقدون أن اغتيال هنية أو نصرالله سيكون كافيا لإشعال حرب إقليمية أو أن ذلك سيكون نهاية الضربات للعودة إلى “قواعد الاشتباك”، لكن المفاجآت استمرت وتجاوزت ما تبقى من “خطوط حمراء”، فقضت إسرائيل على كل أركان القيادة العسكرية لـ”حزب الله” وزعيم “حماس” الجديد يحيى السنوار. كما تصاعد القصف والغارات لمواقع إيران و”حزب الله” في سوريا.
في صيف 2024، كانت إسرائيل تخوض حروبا في سبع جبهات: لبنان، سوريا، العراق، الضفة الغربية، غزة، اليمن، وإيران… وكان الشرق الأوسط على فوهة البركان. وكانت أنظار العالم تتجه إلى أميركا وإلى المواجهة التاريخية بين الرئيس جو بايدن ومنافسه دونالد ترمب.
مواقيت تاريخية في الشرق الأوسط، تستأهل حوادث استثنائية في التاريخ الأميركي. بايدن يقرر الانسحاب من أكثر السباقات الانتخابية انقساما، ويُزج بكامالا هاريس لأول مرة، كامرأة ملونة في السباق. هذا ليس كل شيء، بل إن ترمب يتعرض لمحاولة اغتيال “هوليوودية”. لم يكن المرشح الرئاسي الأول الذي يتعرض لمحاولة اغتيال في التاريخ الأميركي، لكنه الأول الذي ضم خلطة استثنائية: رئيس سابق، محاولات اغتيال، منافسة لمرشحة رئاسية، وإدانة أمام القضاء. انتهى السباق المحموم، بأن سيطر ترمب و”الحزب الجمهوري” على الأصوات الشعبية وأصوات المجمع الانتخابي وأغلبية مجلسي الكونغرس- النواب والشيوخ- وستة من تسعة أعضاء في المحكمة العليا. بات “ترمب الثاني” جاهزا ومسلحا للدفع باتجاه تسوية بين أوكرانيا وروسيا وخوض معارك التفاوض والتوتر مع الصين.
في بداية شهر ديسمبر/كانون الأول، كان العالم مستعدا لطي صفحات السنة الحافلة بالأحداث الكبيرة وغير المسبوقة، وكان الصحافيون مرهقين من متابعة أحداث كبيرة، وكان الناس راضين بما حملته جعبتهم من مشاهد وصور وتجارب ويستعدون لاستراحة. لكن مفاجأة كبيرة حصلت: هروب بشار الأسد وانهيار نظامه ودخول “هيئة تحرير الشام” ورئيسها أحمد الشرع إلى دمشق.
اللحظة التي انتظرها كثيرون وتوقع محللون حصولها قبل عقد، ودفع سوريون كثيرون دماء كبيرة لأجلها خلال 14 سنة، وضحى لأجلها عدد كبير لـ54 سنة، حصلت فجأة ودون استعداد كبير، وما كان على السوريين والدول في الإقليم والعالم سوى استعجال القراءة والتكيف مع هذا الحدث الكبير، إنه انهيار لنظام وعائلة ومحور كانت تقوده إيران. صدقت نبوءة “الرفيق” لينين وأطاحت بـبشار “رفيق” بوتين وحارس قواعده العسكرية البرية والبحرية ومصالحه في الشرق الأوسط، كما أطاحت بنظام حافظ “رفيق” السوفيات في العقود السابقة.
بالفعل، حصلت “عقود في أسابيع”. وإذ ودعنا 2024 بهذه “العقود”، فإن 2025 تحمل معها الكثير من الأسئلة والتحديات. بعضها قادم من تداعيات هذه التغيرات وبعضها وليد ذاته: مستقبل هدنة غزة وإعمارها؟ مصير “حل الدولتين” والدولة الفلسطينية؟ إعمار لبنان وانتخاب رئيسه وإحياء مؤسساته؟ رد إيران على نكساتها الاستراتيجية؟ مستقبل سوريا بعد تخلصها من ماضيها؟ بناء النظام السوري الجديد بعد إسقاط نظام الأسد القديم؟ سياسات ترمب في المنطقة؟ صفقة أم ضربة بين ترمب وخامنئي؟ مستقبل العلاقات بين الصين وأميركا؟ وتفاصيل التسوية الأوكرانية بين ترمب وبوتين؟
المجلة
———————–
الطريق من قندهار إلى دمشق/ كمال علام
30 ديسمبر 2024
فيما تركز عناوين الصحف العالمية اليوم على النسخة الجديدة المحسنة من زعيم “هيئة تحرير الشام” أحمد الشرع، المعروف عالميا باسم “أبو محمد الجولاني”، لا يمكن للمرء أن يمنع نفسه من الشعور بأنه سبق وعاش هذه الأحداث نفسها. عندها يتبادر إلى الذهن في الحال المشهد السياسي في أفغانستان، عندما كان القادة أنفسهم ومفكرو العالم يدافعون عن “حركة طالبان المعاد تأهيلها” قبل سقوط كابول في أغسطس/آب 2021.
ورفض الشرع نفسه المقارنات مع “طالبان” في مقابلة حديثة له مع “هيئة الإذاعة البريطانية” (BBC)، ومع ذلك لا يغيب عن بالنا أن “هيئة تحرير الشام” عقدت في إدلب مؤتمرات عدة على مر السنين حول كيفية التعلم من دروس انتصار “طالبان” في عام 2021، وعمت الاحتفالات إدلب عندما تقدمت “طالبان” إلى كابول في عام 2021. وبينما تحتفل “طالبان” الآن بسقوط دمشق، يُقال إن أول الاتصالات بين الحركتين قد بدأت بالفعل.
وعلى الرغم من أن الجولاني نفسه يقول إن الوضع في سوريا مختلف كل الاختلاف عن أفغانستان، فإن ما بدأته “طالبان” في أفغانستان في تحقيق عودة الإسلام السياسي ما زال يدوي عاليا في العالم العربي. ولسوف يتردد صدى التوأمة الرمزية للانتصارين اللذين تحققا خلال ثلاث سنوات في سائر أرجاء الشرق الأوسط.
التأثير المستمر للجهاد الأفغاني
عند تتبع جذور معظم حركات الإسلام السياسي العربي بعد الثمانينات والصراعات اللاحقة داخل الدول الأمنية مثل الجزائر ومصر والسلطة الفلسطينية وسوريا، نجد أن هذه الجذور موجودة في قتال “المجاهدين الأفغان” المدعومين من الغرب ضد الغزو السوفياتي لأفغانستان. فمن الرئيس رونالد ريغان الذي وصف “المجاهدين الأفغان” بـ “المحاربين من أجل الحرية” مرورا باغتيال الرئيس المصري أنور السادات ووصولا إلى الحرب الأهلية الشرسة في الجزائر، ثمة روابط واضحة وإلهام مستقى من الجماعات الإسلامية التي انتصرت على السوفيات. وكما رحب البعض العالم العربي بالانتصار الأفغاني على السوفيات، فقد كان الانتصار الأخير لـ”طالبان” ضد الأميركيين في عام 2021 موضع ترحيب.
ومثلما حذر عضو الكونغرس الأميركي السابق تشارلي ويلسون في نهاية الحرب الباردة من أن تجاهل أفغانستان قد يخلف تداعيات عالمية، يسلط مايكل والتز، مستشار الأمن القومي الجديد للرئيس دونالد ترمب، الضوء اليوم على تحذيرات سابقة للزعيم الأفغاني السابق أحمد شاه مسعود بشأن أفغانستان. وما زالت أصداء الصراعات في أفغانستان تتردد في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، من الجماعات في سوريا التي تتطلع إلى “طالبان” كي تستمد منها الإلهام، إلى دول عربية تتنافس على النفوذ في كابول. كما عملت إيران على تعزيز نفوذها بشكل مضطرد في الوقت الذي تنزلق فيه أفغانستان مرة أخرى نحو المجهول حيث يمكن للقوى في الشرق الأوسط أن تتنافس في ما بينها من خلال أذرع تلك القوى العنيفة.
وحتى في غزة، بعد سقوط كابول، هنأت حركة “حماس” الفلسطينية “طالبان” على إنهاء الاحتلال الأميركي. كما رأت الجماعات المتمردة السورية في إدلب أن هذه اللحظة هي لحظة تاريخية لقضيتها، ورغم أنه من السابق لأوانه الحكم على “هيئة تحرير الشام” الآن في دمشق، فإن الإلهام من أفغانستان يظل حاضرا بقوة في المشهد.
سوريا ليست أفغانستان.. ولكن
مما لا شك فيه أن الشرع محق في قوله إن سوريا لا تشبه في شيء المجتمع والثقافة الأفغانيين. وهذا من المسلمات التي لا يحتاج إلى توضيحها أكثر. ولكن ربما لم يكن مطلعا على التاريخ الأفغاني قبل عام 1979، عندما كانت النساء الأفغانيات يرتدين التنانير وكان التعليم العلماني مهيمنا في كابول وفي المدن الكبرى، وكانت أفغانستان ميدانا للسياح الغربيين على درب الهبيين (وهو الاسم الذي أطلق على الرحلة البرية التي قام بها أفراد من جماعة الهبيين وآخرين في منتصف الخمسينات حتى أواخر السبعينات بين أوروبا وجنوب آسيا عبورا بتركيا وإيران وأفغانستان وباكستان والهند ونيبال).
وعلى الرغم من كون أفغانستان قبلية فإن “طالبان” لم تكن تهيمن عليها. وفي هذا الصدد، يتعين على الشرع الآن توجيه الفصائل المختلفة داخل ائتلافه وكذلك الجماعات الأخرى المدعومة من تركيا وآلاف المقاتلين الأجانب من آسيا الوسطى والإيغور في الصين. وبالفعل يشكل المقاتلون الأجانب من سوريا تهديدا للصين، وقد سئمت دول آسيا الوسطى من وجود قاعدة للتهديد في سوريا، تماما مثلما كانت أفغانستان تلك القاعدة في التسعينات وعادت اليوم لتلعب هذا الدور مرة أخرى وفقا للأمم المتحدة. ومثلما سمحت “طالبان” للمقاتلين العرب والمقاتلين من آسيا الوسطى بالحصول على جوازات سفر أفغانية بعد التسعينات وفي عام 2021، تقول الحكومة التي تقودها “هيئة تحرير الشام” الآن إن المقاتلين الأجانب الذين ساعدوا في تحرير سوريا من الإيرانيين سيحصلون على الجنسية السورية.
وعلينا أن نتذكر أنه في عام 2021، كانت حركة “طالبان” مثل الشرع تجري مقابلات مع شبكة “سي ان ان” وتكتب مقالات رأي في صحيفة “نيويورك تايمز” وتقول إن الحكومة الشاملة في كابول لن تقتصر على البشتون وستحظى النساء بحق التعليم وسيُسمح لهن بالعمل، واليوم لا نجد أثرا للنساء في ميادين العمل والحكومة خالية من أي من مكونات المجتمع الأفغاني من الأوزبك والطاجيك والهزارة.
واليوم يردد الشرع كل الأمور الصحيحة حول الحكومة الشاملة وحقوق المرأة والفسيفساء المتنوعة في سوريا التي تشكل أقدم المجتمعات المسيحية في العالم جنبا إلى جنب مع اليهود السوريين والدروز والإسماعيليين والعلويين وطيف واسع من الطوائف والأديان الأخرى.
أحمد شاه مسعود أم أمير من “طالبان”؟
كتب المؤلف البريطاني تام حسين مذكرات رائعة عن صهر عبدالله عزام، الجزائري عبدالله أنس، والتي بددت بعض الأساطير التي ظلت قائمة حتى يومنا هذا عن المقاتلين العرب في أفغانستان.
إن الفرصة اليوم متاحة أمام الشرع لتكرار تجربة أحمد شاه مسعود الذي كان ينتمي للحزب السياسي “جمعية الإسلام”، وكان قريبا من علماء الأزهر في القاهرة، بيد أنه وفي الوقت نفسه كان منفتحا على آراء الآخرين وتعليم المرأة والتنوع القديم في أفغانستان. وسوريا ليست أكثر تنوعا من أفغانستان فحسب، بل هي ربما المجتمع الأكثر تعددية في العالم من حيث المجتمعات الدينية والعرقية. لا يمكننا أن نتجاهل أن الجولاني سوف يسترشد في العمق بالمبادئ الإسلامية. وكما لا يجوز الخلط بين سويسرا والسويد، كذلك لا يجوز الافتراض المسبق أن سوريا هي وجه آخر لأفغانستان، فالجولاني لديه اليوم فرصة للتعلم من أخطاء “طالبان”، والابتعاد عن عقولهم المغلقة. والواقع أنه بدأ بداية مبشرة، ويمكنه رصف الطريق من قندهار إلى دمشق بالطريقة التي يراها مناسبة الآن.
المجلة
—————————–
بشار الأسد.. في موسكو عارياً/ يمن حلاق
2024.12.30
بعدما أضرم الأسد النيران في البلاد، فر إلى موسكو الباردة، ومن هناك امتلك ما يكفي من الوقاحة ليكتب لنا بأيد ملطخة بالدماء: “لم أكن في يوم من الأيام من الساعين للمناصب على المستوى الشخصي”.
اعتدنا على تصريحات مماثلة منذ ورث بشار الحكم عن أبيه عام 2000، إلا أن كلماته تلك في هذا الوقت تحديداً تعكس اعتلالاً نفسياً يستحق الدراسة. لفهمه وتحليله لا يكفينا استعراض ما فعله الأسد خلال الـ14 عاماً الماضية، يجب علينا أن نذهب أبعد من ذلك ونعود بالزمن قرابة خمسة عقود، لنراقب بشار الطفل بن حافظ الوحش.
يصعب علي – كما كثير منكم – استيعاب أن “جزار سوريا” كان طفلاً يوماً ما. نتخيله جميعاً وقد تكوَّن في الـ 34 من عمره، انبثق من إحدى جمرات جهنم، ثم تسلل من أحد أبوابها السبعة، وبمساعدة إبليس وصل مباشرة إلى كرسي الحكم ليغمره بالقطران اللزج.
مع ذلك توحي لنا ابتسامته البلهاء في صوره شبه العارية بأنه، وقبل أن يصل إلى الجحيم، اجتاز أولاً عالماً مختلفاً ..عالم مثير للفضول، يستحق الدراسة هو الآخر.
“بطل” لن تحظى سوريا بمثله مرتين
يعكس البيان المنسوب لبشار الأسد انفصالاً صارخاً عن الواقع. لم يستوعب الرجل فكرة سقوطه، ولم يعلق على فظائع صيدنايا، ولا يزال متمسكاً بسردية الإرهاب والمؤامرات، ويحاول جاهداً إقناعنا بأنه “لم يهرب”.
عدا عن ذلك يغرق في الحديث عن فضائله وتضحياته في سبيل “الوطن” و”الشعب” ويصور نفسه بطلاً “رفض أن يقايض خلاص وطنه بخلاصه الشخصي”. ويتمادى بالادعاء بأن منصب الرئاسة أصبح “فارغاً لا معنى له” بعد سقوطه.
في ذلك البيان، يستخدم الأسد الإنكار كآلية دفاعية، ويحارب بشدة ليثبت أنه قائد عظيم لن تحظى سوريا بمثله ثانية، وهو ما يشير إلى إصابته باضطراب الشخصية النرجسية (Narcissistic Personality Disorder) أو النرجسية المرضية.
يخلق هذا الاضطراب لدى صاحبه شعوراً زائفاً بالعظمة التي يعتقد معها بأنه فريد واستثنائي يستحق إعجاب الآخرين وتقديرهم، وبأن جميع سلوكياته، مهما كانت، لا بد وأنها تخدم غاية نبيلة.
ترى الكاتبة والطبيبة النفسية الألمانية، كارين هورني، أن النرجسية ليست اضطراباً منعزلاً، بل هي انعكاس لخلل أعمق في قدرة النرجسي على التكيف مع العالم. ينشأ هذا الخلل في مراحل مبكرة من الطفولة، عندما لا يشعر الطفل بالتقدير والحب ويعاني من الإهمال والنقد المستمر. عندها يحاول إخفاء شعوره الداخلي بعدم الأمان من خلال تضخيم شعوره بذاته. هنا تصبح النرجسية وسيلة لحماية الذات من الإحساس بالعجز أو عدم القيمة.
رئيس على دكة الاحتياط
نشأ بشار ضمن ديناميكيات أسرية معقدة، ساعدت في تكوين شخصيته النرجسية، فقد كان منزل حافظ الوحش، الذي عرف لاحقاً بلقب حافظ الأسد، بيئة خصبة لنمو الاضطرابات النفسية وترسيخها.
كان الأسد الأب رجلاً متسلطاً لا يعترف بأهمية العاطفة، بل يراها موطن ضعف – رسائله لأنيسة تثبت ذلك -. كذلك لم يعر عائلته أدنى اهتمام، وهذا ما أوضحه ابنه باسل، في مقابلة له مع الصحفي البريطاني باتريك سيل عام 1988، حين قال: “لم نتناول أبداً الإفطار أو العشاء معه، ولا أتذكر أننا تناولنا الغذاء معًا كعائلة أو ربما فعلنا ذلك مرة أو مرتين”.
على صعيد آخر، عانى بشار من التهميش لسنوات لصالح أخيه الأكبر نجم العائلة و”الفارس الذهبي”، باسل الأسد. لم يكن من المخطط أن يكون بشار خلفاً لأبيه، فهو لا يملك كاريزما أخيه القيادية، لم يكن مظلياً ولم يكن فارساً ولم يمتلك خلفية عسكرية. أكتافه الهزيلة كانت أضعف من أن تحمل الإرث الدموي لعائلة الأسد، وشخصيته المنزوية لا تصلح لإدارة مملكة الخوف التي أسسها والده. لكن شاءت الأقدار أن يضطر الأسد الأب للاعتماد على ابنه الغر، فاستدعاه من بريطانيا وبدأ بتحضيره ليكون “طاغية” سوريا المستقبلي.
يعتقد علماء النفس، أن النرجسية مرض يصاحب معظم الطغاة، إذ غالباً ما يعاني الطاغية من اضطراب في تكوين الذات، وفقاً لتعبير المحلل النفسي الأميركي، هاينز كوهوت. هذا الاضطراب يدفع الطاغية للسعي المحموم للحصول على التبجيل والتوقير والولاء المطلق من الشعب، وذلك بهدف قمع الإحساس الداخلي بالهشاشة أو الفشل في تحقيق الذات.
هشاشة بشار الأسد الداخلية تنامت مع مخاوفه من تخييب ظن أبيه وعدم قدرته على الارتقاء لمستوى أخيه “شهيد الوطن”، وخلقت لديه رغبة جامحة في إثبات الذات والتأكيد على الهيبة والحصول على “الحب”.
لم يحصل بشار على حب أبيه أو تقديره، لكن عوضاً عن ذلك، اعتقد أنه استطاع انتزاع هذا “الحب” من 23 مليون سوري. يروي البروفيسور الأميركي، ديفيد ليش، أنه تواصل مع بشار الأسد في 2007، ليسأله عن سر نجاحه في الاستفتاء الرئاسي بنسبة 97.6، عندها أجاب الأسد بكل ثقة وقناعة: “لأن الناس يحبونني”.
الشعارات التي أطلقها بشار الأسد على مدار سنوات حكمه تثبت حاجته المرضية لاستحقاق هذا الحب، ابتداء من “منحبك يا كبير” وانتهاء بـ”بالروح بالدم نفديك يا بشار”.
هذا عدا عن تماثيله وصوره المنتشرة في الشوارع والأزقة والطرقات والمدارس والمستشفيات والمباني الحكومية، وعلى واجهات السيارات والمحلات والبيوت.
الشعور بالاستحقاق والحاجة للحصول على الإعجاب والتقدير هي سمات أساسية للمصابين بـ “اضطراب الشخصية النرجسية”، مع ذلك عند الحديث عن الطغاة، يستخدم علماء النفس مصطلحاً آخر، ألا وهو “النرجسية الخبيثة”.
السلطة.. وسيلة لتعريف الذات ومنبع للنشوة
لا يوجد اعتراف بمصطلح “النرجسية الخبيثة” في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية، مع ذلك يستخدم على نطاق واسع لتمييز النرجسية المرضية التي تصيب الطغاة تحديداً، والتي تتشابه أعراضها مع أعراض النرجسية التقليدية، لكن يضاف إليها “السلوك المعادي للمجتمع” وهو سلوك يعاني منه الساديون و المصابون بجنون العظمة.
يربط عالم النفس والفيلسوف الألماني إريك فروم، بين النرجسية والسلطوية، إذ يعتقد أن الطغاة النرجسيين يستمدون قيمتهم الذاتية من خلال القهر الذي يمارسونه على الآخرين.
في هذه الحالة تستخدم السلطة كآلية دفاعية لإخفاء مشاعر داخلية بالضعف والدونية، من خلال تكريسها للتأكيد على القوة والعظمة المتوهمة.
ربما رافقت مشاعر الدونية، حافظ الأسد الشاب الطموح الخارج من بيئة متواضعة. وبعد امتلاكه السلطة المطلقة عمد إلى تغطية مشاعره تلك برداء “جنون عظمة” الذي تنامى إلى حد جعله يتخيل نفسه “القائد الخالد” الذي لا يموت.
أما الأسد الابن فوصلت رغبته في تمجيد ذاته لدرجة جعلته يختصر سوريا بحضارتها وعراقتها بـ”سوريا الأسد”. كما دفعته للاعتقاد بأن سوريا بأكملها لا تستحق الحياة إن لم يكن هو حاكمها، وينعكس ذلك جلياً في شعاره الشهير “الأسد أو نحرق البلد”.
السلطة بالنسبة لهذه العائلة لم تكن مجرد أداة للبقاء في الحكم، بل كانت جزءاً من الهوية ومصدراً رئيسياً لتعريف الذات. من دون السلطة الأسد “لا يكون”. وللحفاظ على هذه الكينونة لجأ الأسد الأب والابن إلى قمع المعارضة بصورة دموية في فترة الثمانينيات، وعقب ثورة 2011.
على صعيد آخر، لم يشعر أي منهما بالذنب، أو التعاطف مع الضحايا، إذ يعتقد الطاغية النرجسي أنه فوق القانون والأخلاق، ويفقده “التمحور حول الذات” القدرة على رؤية الآخرين على أنهم بشر لهم حقوقهم ومشاعرهم.
بعيداً عن علم النفس، يعتقد أن فقدان القدرة على التعاطف مرتبط كذلك بخلل وظيفي في جزئين رئيسيين من الدماغ: الفص الجبهي السفلي واللوزة الدماغية.
ينشط الفص الجبهي عند اتخاذ القرارات الأخلاقية، في حين تنظم اللوزة الدماغية مشاعر الخوف والغضب والرغبة ــ الجوانب الأكثر حيوانية في سلوكنا ــ. لذا، فإن تضرر هذه الأجزاء من الدماغ يعتبر وصفة جاهزة للاعتلال النفسي.
من ناحية أخرى تسهم اللوزة الدماغية في نظام المكافأة في الدماغ، حيث تعزز المشاعر الإيجابية عند القيام بأفعال تجلب السعادة، مثل تناول الشوكولا أو مشاهدة غروب الشمس.
بالنسبة للساديين والطغاة، الذين يعانون من نقص في نمو اللوزة الدماغية، فإن مشاعرهم الإيجابية ترتبط عادة بسلوكيات منحرفة مثل القتل أو التعذيب أو ممارسة السلطة لقمع الآخرين.
في هذا السياق السلطة بالنسبة لهم ليست جزءاً من الهوية فحسب بل منبع للنشوة والسعادة كذلك.
العري.. وسيلة يائسة لإظهار القوة والتحكم
يعتقد سيغموند فرويد، أن الجسد هو الساحة الأولى التي يعبر فيها الفرد عن حبه لنفسه، وبالتالي يشكل جزءاً أساسياً في تشكيل الصورة الذاتية للنرجسي. وقد يرتبط الجسد في بعض الأحيان، بجروح نفسية ربما نشأت خلال الطفولة أو في مرحلة لاحقة من الشباب. وبالتالي قد يشعر النرجسيون بأن جسدهم هو “الملاذ” الذي يمكنهم من التعامل مع هذه الجروح النفسية، إذ يمكن أن يصبح الجسد مصدرًا لمشاعر التفوق أو العجز بحسب ما يراه الفرد في ذاته. في هذا السياق، قد يستخدم النرجسيون أجسادهم كوسيلة لجذب الإعجاب والانتباه.
نعلم جميعنا – أو رأينا جميعنا – عدم وجود ما يثير الإعجاب في صور بشار شبه العارية، التي وجدت في قصره بعد هروبه، مع ذلك قد يكون للرئيس الهارب وجهة نظر أخرى.
أوهام العظمة، قد تدفع النرجسي إلى تصور جسده كـ”أيقونة” تعكس قوة نفسه وصلابتها، وبالتالي قد ينظر إلى جسده بإعجاب وتباه حتى ولو لم يكن جديراً بالإعجاب. وهذا ما قد يفسر استعراض الأسد لجسده بهذا الأسلوب الفج.
أما إن كانت لديه معتقدات سلبية حول مظهره الجسدي، فقد يلجأ كذلك لتحديها من خلال هذا الاستعراض، فهو يدرك في النهاية أنه فوق الانتقادات، وحتى لو تجول بجسده الهزيل المكشوف في حدائق قصره، لن يحصد سوى المديح والإطراءات، التي تعزز من ثقته بنفسه وتشعره بمزيد من السيطرة، وتجعله يرى في جسده رمزاً للرجولة والقوة والسلطة المطلقة.
في تفسيرات أخرى، قد تكون هذه الظاهرة نتيجة للرغبة التي تتولد لدى النرجسيين في إزعاج الآخرين وإيذائهم عن عمد، عندها قد يكون التجول عارياً ما هو إلا محاولة لإشباع هذه الرغبة، من خلال الاستهتار بالمعايير الاجتماعية وإيذاء الآخرين بصرياً، لا سيما وأنهم لن يجرؤوا سوى على إبداء الإعجاب والتقدير. بهذه الطريقة، يؤكد الأسد مجدداً قدرته على “قمع” الآخرين، الأمر الذي يمنحه تحكماً نفسياً أقوى وشعوراً متزايداً بالسيطرة والعظمة.
عموماً العبرة دائما في الخواتيم…. عانى جميع الطغاة النرجسيين من أوهام العظمة الزائفة، وبسبب هذه الأوهام رفضوا تصديق واقع سقوطهم وخاضوا معاركهم الوجودية حتى آخر رمق.. لكن عظمة بشار الأسد الوهمية لم تصمد في لحظة الاختبار الحقيقية.
مع اقترابه من النهاية، لم ينتحر مثل نيرون أو هتلر، ولم يختر البقاء في بلده حتى لحظاته الأخيرة مثلما فعل صدام حسين أو القذافي.
سيذكر التاريخ، أن بشار الأسد الذي عاش حياته متخفياً وراء ربطات عنق وبدلات باهظة الثمن، اختار في النهاية الهروب إلى موسكو الباردة.. عارياً.
تلفزيون سوريا
————————-
قراءة موجزة في المشهد السوري/ مصطفى إبراهيم المصطفى
2024.12.30
في يومنا هذا لا أحد يستطيع إقناع السوريين بوجود يوم في تاريخ سوريا الحديث والمعاصر أهم من يوم الأحد (08-12-2024) ذكرى إسقاط نظام هو الأعتى بين أنظمة الطغيان، فهو يوم الولادة الجديدة لسوريا الحرة، وهو يوم الخلاص من كابوس جثم على صدور السوريين لأكثر من نصف قرن وأذاقهم شتى أشكال القهر والاستعباد، بل هو اليوم الذي تحققت فيه الأحلام وانتصر فيه الحق على الباطل وتفتحت دماء الشهداء التي أريقت في سبيل الحرية ربيعا في قلب الشتاء.
متلازمة النصر
بحجم المعاناة كانت الأفراح وبحجم المفاجأة كان الصخب، وبين هذا وذاك خفت صوت الزغاريد واختنقت الضحكات مع البدء بإزاحة اللثام عن الوجه الحقيقي للنظام السوري الذي يعرفه كل السوريين وتعرفه كل الأبواق العربية التي كانت تدافع عنه.
وهكذا من قلب الأفراح الممتزجة بمشاعر القهر والألم لذوي المفقودين بدأت تطفو على السطح أعراض ما يسمى بمتلازمة النصر، وتمظهرت بالخوف من فقدان النصر، والضغوط الناتجة عن التوقعات، والخوف من المستقبل.
تجلّى ذلك بوضوح من خلال ما جادت به قريحة السوريين عبر وسائل التواصل الاجتماعي بمختلف أشكالها، فهذا ينصح وهذا يؤيد وذاك يعترض، وكل بأسلوبه الخاص، علماً بأنّ الغالبية العظمى من هؤلاء تهدف إلى الحفاظ على النصر وإن كان بأسلوب ارتجالي فردي قد يسبب الإرباك.
ولعل هذا غير مستغرب، فمع الساعات الأولى لتحرير حلب تبين أن ما يحصل هو زلزال سوف يغير كل شيء.
سلطة جديدة قيم جديدة
في أحد أهم التعريفات للسياسة يقول “دافيد إيستون”: “السياسة هي التحويل السلطوي للقيم”، بمعنى أن السياسة في نهاية المطاف هي الأداة التي نستطيع من خلالها فرض قيم معينة على المجتمع.
تجلّى هذا التعريف للسياسة بوضوح مع الأيام الأولى لتحرير حلب، فالشبّان الذين تسابقوا لحمل الخبز وبعض المساعدات لأهالي مدينة حلب هم ذاتهم لو سألتهم قبل يوم من التحرير ماذا أنتم فاعلون لو دخلتم حلب؟ ستأتيك إجابات تختلف جذريا عما بدر من هؤلاء عندما تحررت حلب.
كل ذلك حصل لأن السلطة الجديدة أرادت ذلك. ورغم أن الأيام التالية شهدت بعض الاعتراضات على العفو الذي صدر عن قائد عملية التحرير نتيجة لوقاحة بعض الشبيحة ولضبابية قرار العفو، إلا أن التسامح كقيمة جديدة بدأت تجد مكانا لها في سلم القيم لدى معظم السوريين. وهكذا مع الأيام الأولى لعملية تحرير سوريا بدأت منظومة القيم التي كرسها عهد الاستبداد تهتز بعنف.
ملف يجب أن يقفل
إذن، مع تحرير مدينة حلب يمكن القول إن الثورة بدأت تتلمس الخطى نحو الكمال، بمعنى أنها أضافت للبعد السياسي والبعد الاقتصادي بعدا اجتماعيا أخلاقيا لتصبح مكتملة الأركان.
وإذا كان هذا التطور الملفت يدعو إلى التفاؤل، فإن المواقف الدولية التي يمكن قراءتها في ثنايا بعض التصريحات تجعل التفاؤل أكبر، فهي توحي بأن قرارا قد اتخذ في العواصم الكبرى يتضمن الرغبة الصريحة بطي الملف السوري مع تقديم جميع التسهيلات للسلطة الجديدة لبسط سيطرتها على كامل التراب السوري، إذ بات من المؤكد أن هيئة تحرير الشام التي يقودها أحمد الشرع، والتي قادت عملية التحرير بالتشارك مع باقي الفصائل الثورية كانت تعد نفسها منذ ما يزيد عن العامين لتكون بديلا مقبولا عن النظام البائد، ويبدو أنها قد حظيت بالقبول والإعجاب.
وبلغة أخرى، يبدو أن قيادة الهيئة استطاعت الإجابة عن السؤال الذي طالما ألقي على السوريين: أين البديل؟ ويبدو أنهم استطاعوا معرفة مواصفات البديل المطلوب فتقمصوها بنجاح مبهر.
قلق وترقب
رغم العوامل المتعددة التي تدعو إلى التفاؤل، فإن القلق مازال يساور كثير من السوريين، فالنظام البائد من أجل الدفاع عن نفسه صنع ورعى فئة من الدوغمائيين أصحاب العقول المغلقة والمعادين للثقافة السلمية واستثمر بهم حتى اللحظات الأخيرة، ثم تركهم خلفه كالقنابل الموقوتة، فهؤلاء مع فلول النظام البائد ما زالوا مصدر خطر على أمن البلاد واستقرارها، وهم لن يدخروا جهدا في محاولة إرباك السلطات الجديدة وإحراجها بعد أن تعهدت بالتسامح والصفح.
وعلى المقلب الآخر لا يعتبر الشارع الثوري ناضج بما فيه الكفاية لاستيعاب سياسة المهادنة التي انتهجتها السلطات الجديدة، لذلك، قد تخلق الاحتجاجات غير الواعية بيئة خصبة للاستثمار من قبل الفئات المتضررة من سقوط نظام الإجرام. وهكذا إذا ما أضفنا لذلك بعض الملفات المؤجلة كملف قسد وملف الفصائل وملف السلاح المنفلت، يكون العنوان العريض لهذه المرحلة هو القلق والترقب.
أخيراً، هناك قلق من نوع آخر يهيمن على بعض فئات المجتمع السوري متمثلا بالتوجس من توجهات السلطات الجديدة التي قد تلجأ لفرض أيديولوجيتها. يحدث هذا رغم كل التطمينات التي تطلقها القيادة الجديدة التي أظهرت حتى الآن سلوكا مقبولا امتدحه الجميع.
تلفزيون سوريا
——————————–
في جذور التجاوزات وهل هي تصرفات فردية؟/ حسام جزماتي
2024.12.30
يريد البعض منا أن ننسى أجزاء أساسية مما حدث خلال أكثر من عقد من زمن الثورة، وأن نضبط ذاكرتنا على موعد انطلاق عملية “ردع العدوان” قبل قرابة شهر. وليت ذلك كان ممكناً على أي حال.
ففي غمرة الفرح الصارخ لدى جمهور الثورة نتيجة للانتصارات المفاجئة التي أسفرت عن سقوط النظام أخيراً، وحتى شعور غيرهم من الحياديين أن بداية جديدة على وشك الإقلاع في البلاد بعد استعصاء؛ مال كثير من السكان إلى أن يعدّوا هذه بداية من الصفر، الذي ربما حددوا له يوم رحيل بشار الأسد، من دون اعتبار لمعظم ما جرى قبل ذلك وآثاره.
التقطت قيادة “هيئة تحرير الشام” في طريقها السريع من إدلب إلى دمشق، الشروط الدولية المطلوبة لنيل المباركة السياسية؛ فنثرت التطمينات في كل اتجاه. وكان من نصيب الداخل السوري تطمين ضروري للأقليات، ولا سيما العلويين المتوجسين من الانتقام، وقد التزمت بذلك قواعد “الهيئة”، الجذلى بالنصر، التي تلقت تعليمات صارمة بأن الالتزام شرطٌ لخروج الجماعة من تهمة الإرهاب وعدّها شريكاً موثوقاً في الحكم، لإجراء انتقال سلمي يحافظ على تماسك المجتمع واستمرارية مؤسسات الدولة.
والحال أن ما حصل في هذا الشأن، في الأيام الأولى، أثار دهشة الجميع، وإعجاب المجتمع الدولي الذي سارع إلى إرسال مبعوثيه وتوزيع التصريحات الإيجابية الواعدة، وامتنان الأقليات السورية القلقة التي صعد لديها أحمد الشرع “القائد”، الذي تخلى عن لقبه القديم أبي محمد الجولاني، إلى رتبة المخلّص، وبدا رجاله “فاتحين” من زمن رحيم آخر وإن تناقض مظهرهم الجهادي مع سلوكهم الذي كان يشع تسامحاً بشكل غريب.
لم تمض سوى أيام قليلة، هي ما تحتاجه المهرجانات الوطنية الكبرى، حتى أخذت أخبار بعض “التجاوزات” تأتي ببطء من هنا وهناك، مما سهّل النظر إليها على أنها أعراض جانبية صغيرة طبيعية لتغيير كبير بحجم الذي جرى، وأنها “تصرفات فردية” لا تخلو منها قوات مسلحة في العالم، وأن “القيادة” ستلاحق مرتكبيها وتعاقبهم.
وقد كان بالإمكان اعتماد هذا التفسير لو توافر شرطان أساسيان؛ أن تكون هذه القوات جزءاً من جيش منظم بقيادة مركزية، وأن يكون السلوك المطلوب منهم جزءاً من التأهيل السياسي والعقائدي الذي تلقوه في أثناء تكوينهم. ويغيب هذان العاملان، بصورة فادحة، في الحالة السورية الراهنة.
فمن جهة أولى لا تمثل “هيئة تحرير الشام” إلا جزءاً قليلاً من مجمل القوات الفاعلة حالياً التي ضمت معظم الفصائل مع تقدم المعارك. ومن جهة ثانية لم يتلق منتسبو “الهيئة” ما يعدّهم للدور الذي يلعبونه الآن بل العكس.
ومهما كانت الرغبة، الخبيئة وقتئذ، لدى قيادة الجماعة لسوقها في هذا الاتجاه، لأنه الوحيد المقبول وطنياً وخارجياً؛ فإن الظروف لم تساعدها على السير الجدي في ذلك قبل أن تفاجأ، هي قبل غيرها، بالنتائج السريعة للمعركة وقطافها الكبير والمسؤوليات المترتبة على ذلك، مما حملها على “التكويع” من دون تنبيه.
لا تنشر “الهيئة” مقررات التوجيه الشرعي التي تدرّسها للمتطوعين، ومن الواضح أن هذه المناهج، وإن تخلت عن السلفية الجهادية، تهدف إلى إقامة الدولة الإسلامية السنّية بصيغة ما، لا دولة المواطنة المدنية التعددية المتساوية التي اضطلعت بها الآن على حين غرّة.
أما الفصائل الأخرى فتتفاوت كثيراً في درجة الانضباط والتأهيل الأيديولوجي، ولم يكن عناصرها يهتمون لذلك بقدر ما كانوا نتاجاً بديهياً لمجتمع متوتر في الشمال، عمّده القصف الجوي وكوته ويلات البراميل.
لن ينفع تجاهل نتائج البعد الطائفي للصراع السوري في شيء، ففي الأصل كان أحدُ أسباب قيام الثورة هو المعاناة من التمييز على أساس هذا العامل في الجيش وفي القطاع العام.
ومع توالي سنوات الصراع كانت أسباب شد العصب الطائفي تتزايد، حتى اختُصر لدى كثيرين بأنه أصبح سنّياً علوياً مع دعم شيعيّ خارجي، وقد احتقنت النفوس بحدة حتى امتلأ الكأس بالدم وفاض ولم يشبع، وتوالت الثارات إلى أن أصبحت معالجتها ربما تحتاج إلى عقود.
ولن ينفع في ذلك خطاب مجاملة وطنية معدّ على عجل، يقول إننا كنا جميعاً ضحايا الخوف من النظام السابق أو مغسولي الأدمغة تحت تأثير دعايته الساذجة.. ذلك النظام الذي قيل كثيراً إنه كان يكنس الغبار ويخبئه تحت السجادة، ولن ينفع في مداواة آثاره قذف الغبار في الهواء بأمل ألا يقع فوق رؤوسنا مجدداً.
دفعت الثورة ثمناً باهظاً لسنوات انكفائها الأخيرة، إذ تباعدت الشقة بين ناشطين مدنيين ومثقفين أصبحت غالبيتهم في المنفى، وبين تمثيل سياسي رسمي مترهل وعاجز، وبين حاضنة في الشمال، قبضت على الجمر كرهاً أو طوعاً، فكان يحرق أيديها ويسمّم بالغضب نفوسها وأفكارها ونظرتها حتى إلى الناجين من أبناء الثورة.
وقد استُفزّ هذا الاحتقان بسبب ما أبدته “إدارة العمليات العسكرية” أولاً من ميل إلى المصالحة و”تسوية وضع” مقاتلي النظام السابقين، بل وبعض كبار ضباطه؛ مما حمل كثيراً من الفاعلين المسلحين على التفكير في المحاسبة أو الانتقام بالاعتماد على جماعاتهم الخاصة، حتى التفت “هيئة تحرير الشام” على ذلك بحملات عسكرية منظمة.
يحتاج المستقبل إلى سلوك طريق شديد التعرج بحذر كبير، وإلا فإن الانزلاق إلى حمام دم جديد أقرب مما نتوقع.
——————————————-
من الجولان إلى غزة.. مسؤوليات سوريا الجديدة/ رائد وحش
29-ديسمبر-2024
لا يمكن النظر إلى الاحتلال الإسرائيلي للجولان السوري بوصفه قضية أرض فقط، بل هو اليوم اختبار لمستقبل وهوية سوريا الجديدة. لهذا تقف سوريا اليوم أمام تحدٍ مركزي هو إعادة البناء بعد سنوات من الحرب والدمار دون المساس بالسيادة الوطنية والحقوق التاريخية. فأي محاولة للفصل بين إعادة الإعمار وبين مقاومة الاحتلال الإسرائيلي والتطبيع معه هي تفكيك لقضية وطنية واحدة لا يمكن تجزئتها.
دأب النظام المخلوع دومًا على توجيه اتهامات بالعمالة لإسرائيل لتشويه معارضيه. كان هذه هي الوصمة الأسهل لتحويل النضال إلى مشروع خيانة، والمطالبة بالحقوق الطبيعية إلى ارتهان للعدو. وبعد سقوط هذا النظام، تحتاج سوريا الجديدة إلى موقف واضح وصريح تجاه الاحتلال الإسرائيلي. لا يمكن ترك التصريحات الفردية أو المواقف غير المدروسة كي تقود هذا الملف الحساس، بل يجب لأي تصور للعلاقة مع إسرائيل أن ينطلق من رؤية وطنية جامعة تحفظ الحقوق والسيادة.
إلى جانب المسائل الكبيرة والملحة والصعبة، مثل إعادة الإعمار وإنعاش الاقتصاد وحفظ الأمن، هناك تحدّ لا يقل خطورة يمكن اختصاره على النحو الآتي: كيف نبني سوريا الجديدة دون التنازل عن حقوقنا الوطنية، في ظل واقع إقليمي يجري ترتيبه ليكون بيئة مريحة للمشروع الإسرائيلي؟
كانت سمة سنوات العقد السابق هي غياب المرجعية الوطنية السورية، لا سيما حين فقد النظام شرعيته بالنسبة للسوريين، لكن هذا لم يدفع المعارضين لرسم رؤية واضحة للعلاقة مع إسرائيل، ربما لأنهم – في العموم- متفقون على مبادئ أساسية هي الوقوف إلى جانب الحقوق الفلسطينية، والسعي لاستعادة الأراضي السوري المحتلة، الأمر الذي ولّد ارتباكًا في هذا المجال، خصوصًا أمام متاجرة النظام المستمرة بكل ما يتعلق بالقضايا الوطنية مع أن إسرائيل لم تتوقف عن قصف المدن السورية.
وبسبب هذا الغياب أو الارتباك، شهدنا ظهور مواقف فردية تحمل إشارات للتقارب مع إسرائيل، كما أعلنت بعض الشخصيات المعارضة عن القيام بزيارات إليها.
مع ذلك لم تُعبر هذه المواقف عن الإرادة السورية التي ترى في احتلال الجولان قضية وطنية كبرى، ما زال أهله يقاومونها برفض الجنسية الإسرائيلية والتمسك بانتمائهم السوري.
في 2018، شكّل إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو ضم الجولان المحتل اختبارًا لوحدة الموقف السوري المعارض، لكنه كشف عن خلل في المرجعية وغياب للرؤية الجماعية القادرة على مواجهة القضايا الكبرى. والآن، مع الدخول في مرحلة جديدة، لا يمكن لهذا الغياب أن يستمر فاستعادة الجولان أولوية لا مساومة عليها.
استغلّت أنظمة محور الممانعة القضية الفلسطينية ذريعة لتبرير قمع الشعوب وغطاء لجرائمها الداخلية، مما أدى إلى تشويه مفهوم المقاومة لدى الكثيرين.
ومع ذلك، تظل مقاومة الاحتلال واستعادة الأرض المحتلة حقًا مشروعًا للشعب السوري، على أن تنبع من إرادة حرة، لا ترتبط بالاستبداد والقمع أو الأجندات الإقليمية ذات الأبعاد الطائفية.
أدى تورط حزب الله في قمع الثورة السورية إلى توتر كبير بينه وبين السوريين، مما أضعف التضامن الشعبي السوري مع لبنان خلال الاعتداءات الإسرائيلية. لهذا من الضروري التمييز بين رفض ممارسات حزب الله في سوريا ودعم لبنان كدولة شقيقة تواجه الاحتلال والعدوان.
رغم هذه التوترات، لم يغِب دور السوريين في دعم القضية الفلسطينية، وخاصة خلال حرب الإبادة المستمرة في غزة. واصل السوريون، سواء في الداخل أو في الشتات، التضامن مع القطاع معتبرين ما يحدث حرب إبادة مكتملة الأركان، وكان لافتًا توحد جزء كبير منهم على ذلك بين ما سُمي مناطق النظام السابق والمناطق المحررة، وأيضًا في دول الشتات. لكن البعض منهم راح يرى في علاقة إيران بالمقاومة الفلسطينية، وفي عودة العلاقات بين حماس ونظام الأسد البائد، ذريعة لغض النظر عن معاناة سكان القطاع المباد. مع أن المواقف الإنسانية تستطيع أن تجد لنفسها طريقًا أخلاقيًا رغم تعقيدات القضايا.
الآن وقد سقط الأسد، وسقطت معه مفاهيمه وأجندته الخاصة، يحتاج كل السوريين إلى تشكيل مقاربة جديدة للقضية الفلسطينية، وكذلك للموقف من إسرائيل، بحيث ينطلق على ذلك من مصلحة سوريا التي تحتاج أن تكون حرة، وإسرائيل تحتل جزءًا منها، وأن يقوم على موقف إنساني وسياسي من فلسطين. لكن قبل ذلك لا بد من موقف واضح وجود الاحتلال الإسرائيلي للجولان، والتوغل الأخير في الأراضي السورية، والسعي إلى تقسيم البلد إلى دويلات ضعيفة.
لا بد من الإشارة إلى أن الجولان السوري المحتل مرتبط الى حد كبير بالقضية الفلسطينية، فمن الجهة النظرية غالبية الأبحاث التي تهتم به سياسيًّا واجتماعيًّا من كتابة فلسطينيين، أو من نشر جهات فلسطينية، ومن الناحية الاجتماعية، حين حاول النظام السابق طي صفحته، وجد أهالي الجولان المحتل في فلسطينيي الداخل عمقًا حضاريًّا وإنسانيًا.
هناك حقائق واضحة في المشهد السوري، أحد أهمها هو الاحتلال الإسرائيلي للجولان يمثل أحد أقدم مظاهر العدوان على سوريا، في وقت لم تتوقف فيه إسرائيل عن الاعتداء على المدن السورية تحت ذرائع مختلفة، كان أبرزها استهداف الوجود الإيراني. هذه الاعتداءات، التي تزامنت مع سقوط النظام، دمرت جزءًا كبيرًا من المقدرات العسكرية السورية.
في ظل هذا المشهد، تبرز تساؤلات حول جدوى دعوات التطبيع أو رسائل التهدئة مع إسرائيل، التي يبدو أنها تسعى لكسب الدعم الخارجي بأي ثمن، حتى لو كان ذلك على حساب الحقوق الوطنية للسوريين.
لا شك أن محاولة كسب الدعم الدولي تهدف إلى الحصول على المساعدات والدعم المادي من أجل تخفيف الضغوط الداخلية، لأن هناك ضعفًا كبيرًا في سوريا يجعلها غير قادرة عن حماية سيادتها في هذه المرحلة.
إلى جانب ما يحمله هذا النهج من تنازل عن الحقوق الوطنية، ومن انفراد بالقرارات الاستراتيجية. فهذه القضايا الكبرى مثل استعادة الأراضي المحتلة والدفاع عن السيادة الوطنية، او الإقدام على اتفاقيات سلام لا يمكن أن تطرح من حكومة انتقالية، بل من حكومة شرعية.
الرهان على القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لتحقيق مكاسب سياسية قد يبدو حلًا سريعًا، لكنه لا يأخذ بعين الاعتبار أن هذه الدول تتحرك وفق مصالحها الخاصة، وليس ضمن مصالح الشعب السوري. أي محاولة للتطبيع دون استعادة الحقوق الوطنية ستُضعف سوريا، وتجعلها عرضة للضغوط الخارجية على المدى الطويل. وبدلًا من التركيز على كسب الرضا الخارجي فقط، يجب على الحكومة المؤقتة أن تتبنى خطابًا يوازن بين الدفاع عن الحقوق الوطنية والسعي لتحقيق الاستقرار.
من هنا يجب التأكيد على أن سوريا الجديدة بحاجة إلى رؤية وطنية موحدة تعزز بناء الداخل، وتحفظ السيادة والكرامة الوطنية، وتجعل من مقاومة الاحتلال جزءًا من مشروعها المستقبلي.
وأما بخصوص اظهار التخلص من محور “الممانعة”، فهذا واضح للجميع، والتفريق سهل ويسير بين استغلال القضية الفلسطينية من قبل النظام السابق وبين شرعية مقاومة الاحتلال.
لو فكرنا بواقعية سياسية سنرى أن العلاقات مع إسرائيل ليست لمصلحة سوريا إطلاقًا لأنها تحتاج إلى تحقيق استقلالها وسيادتها، وليس إلى الخضوع لضغوط قوى خارجية كانت مصدر تهديد وعدوان. ربما تخدم هذه العلاقات بعض النخب السياسية، لكنها على المدى الطويل تُضعف السيادة الوطنية وتزيد من خطر السيطرة الإسرائيلية، المباشرة أو غير المباشرة، على القرار السوري.
في النهاية، القضية ليست مقاومة فقط، بل هي دفاع عن الحقوق السيادية والكرامة الوطنية. ولا يمكن فصل فظائع الاحتلال الإسرائيلي عن المآسي التي عانى منها الشعب السوري بسبب الاعتداءات والغارات المستمرة. كما أنه لا يمكن النظر إلى خريطة المنطقة الحالية دون أن نضع دمار أحياء دمشق وحمص إلى جانب دمار مدن قطاع غزة.
أخيرًا، لا معنى الحديث عن مستقبل سوريا دون التمسك بالحقوق الوطنية وبالكرامة السيادية. وبهذا المنحى، ليست استعادة الجولان ودعم القضية الفلسطينية مجرد شعارات، بل هي تعبير عن التزام سياسي وأخلاقي يحدد هوية سوريا الجديدة، التي يجب أن تكون مبنية على مقاومة الاحتلال بكل أشكاله، مع بناء دولة مستقلة وقوية تضع مصالح شعبها فوق كل اعتبار.
في خريطة منطقتنا المتغيرة، لن تجد سوريا مكانها إلا إذا عادت إلى موقعها الطبيعي بوصفها صوتًا للعدالة والحرية.
الترا صوت
————————————–
ملاحظات على مقابلة الجولاني
Ahmad Nazir Atassi
١. المحاور ليس على المستوى، مرتبك ويتأتئ وشكر الجولاني على السبق الصحفي، خليك ماسك نفسك.
٢. الاسئلة جيدة وتغطي مواضيع كثيرة وحرجة. والجولاني تفادى كثيرا منها.
٣. تكلم عن الوضع الاقليمي والدولي كثيرا ولم يعطنا تفاصيل كثيرة عن شكل الدولة، وتابع رسالة انتظروا، هلق صار الانتظار ثلاث الى اربع سنوات.
٥. بخصوص الحرب والتحرير ركز الجولاني على التوازنات الاقليمية والدولية اكثر من الثورة وتضحيات الناس، لكنه محق، وهذا ينطبق على تحليلي للمرحلة الذي لامني عليه كثيرون عندما قلت ان الجولاني لم يحرر سوريا وان النظام سقط لوحده بسبب الظروف الدولية.
٦. المفيد اكثر من المقابلة ومحتواها القليل هو تتبع ردات فعل السوريين. بالمجمل نحن شعب بسيط وقنوع ولا نفهم في تفاصيل ادارة الدولة ويكفينا ان يخرج الزعيم ويطمئننا حتى نهدأ ونتوقف عن السؤال. في الحقيقة يكفينا الزعيم وحده، فلا زلنا ننظر الى الدولة على انها زعيم.
٧. التعليقات على الجدول الزمني، ٣ او ٤ سنوات، بسيطة وغير طموحة وتشير الا اننا نستطيع ان نعيش تحت دولة غامضة وغائمة ودون دستور ودون قانون مادام الزعيم يصدر قرارات ويمشي امورنا عندما نطلب واسطة.
٨. الجولاني مفوه لكنه ليس بالخطيب، والنساء المعجبات به على انه “رجال معبي تيابه” اقول يا حيف ما عاجبينكن. على العموم، “رجال” هو الوصف الابوي التقليدي للزعيم، وهذا يعني اننا لا نزال تحت ثقافة مجتمع تقليدي ابوي.
٩. بالنسبة “لانسجام فريق اللون الواحد”، تفاجأت ان هذه الحجة لم تسجل اثرا على رادار كثيرين، مما يعني مرة اخرى انه يتحدث اللغة الابوية التي نفهمها. رؤساء الشركات ايضا يأتون مع فريقهم لكن الامر ليس بسبب المرحلة الحرجة والانسجام وانما لتوطيد سلطة الرأس والتحكم بكل مقاليد السلطة. في الدولة، لست بحاجة الى “انسجام” الفريق بسبب البيروقراطية العالية. لكننا نتفهم اولويات الجولاني.
١٠. هناك تناقض بين خطاب الجولاني عن فساد الدولة وضرورة تنظيفها (احيلكم الى بوستي عن القصر او القبر) حتى تقوم على اسس قانونية وادارية جيدة، وبين مرحلته الانتقالية لثلاث او اربع سنوات التي لا تقوم على اي دستور او قانون او نص ناظم للدولة. لكن بالطبع نحن معتادون على دولة تدار بالقرارات الرئاسية دون قانون ودستور.
١١. المؤتمر الوطني الذي اعلن عنه الجولاني سيكون بالتأكيد بالدعوة وليس بالانتخاب لانه زعم ان الانتخابات تحتاج احصاءات وتعقيدات “سوريا بغنى عنها”. مثل هذا المؤتمر سيعلن فيه حل الهيئة وبالتالي وجود دولة وانتهاء مرحلة الاستلام والتسليم. هذا يعني انه يحتاج مثل هذا المؤتمر ليعلن شرعيته. متشوق لاعرف من سيدعون ممن “يمثلون” سوريا، وكم لونا منسجما سيسمحون به.
١٢. عرض على السعودية استثمارات، يا سلام، على اساس السعودية تنتظره. وبالمقابل لم يتكلم عن حلوله لانقاذ الاقتصاد السوري خلال الاشهر الثلاثة القامة.
١٣. لم يتحدث عن العدالة الانتقالية، لم يتحدث عن الجيش والمخابرات، لم يتحدث عن اعادة هيكلة مؤسسات الدولة وفصل الموظفين، لم يتحدث عن توزيع المناصب، لم يتحدث عن اعادة الاعمار، لم يتحدث عن العملة السورية، ولم يتحدث عن احتمال عدم رفع العقوبات وآثارها الكارثية. فيما يعنينا، لم يتحدث تقريبا عن اي شيء. بالطبع فنحن معتادون على خطاب البعث عن اولوية المعركة والهجمة الامبريالية والسياسة الاقليمية بدل الحديث عن البلد.
١٤. هل هو مطلع وثقافته واسعة وعنده خبرات ادارية وخاصة في اعادة بناء دولة؟ هذا لا يهم، بعمرنا لم نسأل هذه الاسئلة ولم ننتقد اي سياسي لا يعطيها. يكفينا ان يفحم المحاور وان يفهم لعبة الدول وان يتحدث بطريقة ابوية مطمئنة.
١٥. هل فعلا يحتاج الى ثلاث الى اربع سنوات ليعمل احصاء وانتخابات ودستور؟ تحدثت سابقا عن عملية وضع دستور بعشر سنوات، لكني ايضا ذكرت ضرورة وجود دستور مؤقت وقانون مؤقت ولو كان جزء منهما معطلا. سوريا تعتمد نظام الهوية الوطنية والرقم الوطني والبطاقة الانتخابية. ليس من الصعب حصر اللوائح الانتخابية وعمل انتخابات لبرلمان مؤقت. والاهم هي انتخابات المجالس المحلية وهذه سهلة، لكنه بالطبع سيرفض لانه لم يصل في التعيينات بعد الى المستوى المغرق في المحلية. نعم اعادة هيكلة دولة تحتاج الى سنوات، لكن يمكن دائما طرح جدول زمني ومراحل وهيكلة بالتقسيط. لسنا اغبياء الى هذه الدرجة، لكن السرية لا تزال الممارسة الطاغية. انتم ارتاحوا ونحن سنقوم بالواجب.
الفيس بوك
——————————
كتبت هبة عبد القادر الكل:
إلى السيدة عائشة الدبس:
تحية احترام، أما بعد؛
من منبرك كمديرة مكتب المرأة السورية في القيادة الجديدة، وبمدة لا تتجاوز الثلاثين دقيقة، خرجت علينا بتصريحات كبرنا وصلبنا وراءها، لا تسمن ولا تغني من جوع، وإنما ترسم ملامح المرأة السورية في مخيلتك، وذلك عقب تطمينات سبقتها وجعلتنا ننظر بعين الأمل والتفاؤل إلى جنابكم ثم لنعيد النظر اليوم ولكن:
أرجو الانتباه إلى لفظ المرأة السورية بتنوعها ونسيجها والنموذج الذي صرحت به للمرأة السورية المستقبلية، فأود أن أطرح بعضا من تعقيبات واستفسارات:
1- ذكرت أنكم تريدون نموذجا للمرأة السورية يناسب عاداتنا وتقاليدنا، ويليق بسوريا الحضارة والأصالة.
هنا وبكلمة تريدون، قصدت بها القيادة الحالية الجديدة، وأثبت ذلك بقولك ” أنا أتكلم برؤية القيادة”. أي بمعنى القيادة موافقة وزين وعسل على كل ما تصرحين به، الأمر الذي يحجب أية إمكانية للتراجع أو الإنكار.
2- ما هي سوريا الحضارة التي عنيتها في نموذجك المرسوم للمرأة السورية الجديدة، والذي يبدو أنه غير واضح المعالم والخطط بشكل كلي بعد، فهل تقصدين: سوريا عشتار، سوريا زنوبيا، سوريا نازك العابد، سوريا كولييت خوري وصولا إلى سوريا مي سكاف .. الخ.
3- يا سيدتي لم يأت زمن منذ خلق الله الخلق وبسط الأرض من يقول فيه وفي وقت حساس كيومنا:
” أنا لن أفتح المجال لمن يختلف معي بالفكر”
اللهم إلا زمن الفراعنة والمستبدين ومن يدعون أنهم أبناء النور، وهذا اليوم ولى وهرب بهروب البائد.
4- بالله عليك هل يتطابق فكرك مع ابنك، زوجك، ولاد عمك عمتك خالاتك .. الخ فكيف تنادين بنموذج المرأة السورية الجديد والذي يجب، فرضا منك، أن يتفق وفق هواك وفكرك. ثم متى كانت البلاد الحرة تدار وتحكم بعقل الأنا.
5- للأسف ما زالت تصريحات الكثير تثبت ضعفا في الفهم السياسي والواقع السوري وإطلاق الأحكام مسبقا وتعميما، وانفصالا وانفصاما بين التصريحات، وذلك عبر كلامك عن المجتمع المدني، والقانون الدولي وميثاق حقوق الإنسان، وسوريا الحضارة وسوريا الشريعة الإسلامية، والذي يخالف جملة وتفصيلا ما دعوت إليه. ناهيك عن كلامك المادي عند تناولك لملف المعتقلات والمطلوب وفق رأيك دعمهن ماديا، فمن قال لك أن المال يعيد كرامة وحقا اغتصب !
6- أما عن ذكرك لنسب الطلاق وارتفاعها في إدلب ورمي السبب على المجتمع المدني يشي بأن الرجل مبرئ والمسؤولية كلها تقع على فكر المجتمع المدني المؤثر على المرأة، ولكن: هل يعقل أن تتكلمي بطريقة تشعرنا أن المرأة السورية لا تميز بين الغث والسمين لو سلمنا جدلا بقولك، وكأنها دابة أو جارية تساق وتسبى ؟؟ ألهذا الحد تتمثل رؤيتك عن نسائنا وبناتنا؟!
7- ثم ما بالكم تتناولون المرأة بشكل من المنقصة والعار، وأنها درجة ثانية، وتحددون وتفرضون رتب وسلم أولوياتها على أنها أولا تقع على بيتها وعيلتها ونفسها، والباقي غير مهم.
لا يا سيدتي، اخرجي من بوتقتك، فثمة نساء أولوياتهن العمل وكسب الرزق لإعالة أسرهن وأولادهن.. الخ
الأولويات لا تتجزأ وإنما تدار بتخطيط وتكتيك، ثم على أي أساس استندتي في تصنيف الأولويات، حتى شرعا ما دليلك القاطع الذي جئت به لتخرجي علينا وتضعي أولويات نساء سوريا، لا بل، ويخالف ما دعا إليه القرآن الكريم وعهد السلف والخلف في الشؤون الحياتية.. والأمثلة كثير لا حصر لها.
سيدتي ثمة نساء لديهن من الأولويات الكبار العظام تصل حد سوريا كلها، فلم الإصرار على التحجيم، وهل نتعب على بناتنا علما ودراسة ليكون مستقبلها المبهر شهادة على الحائط وطبخ وطبيخ ورضاعة وتحفيض !
علما أنني لا أقلل من هذه المهمة العظيمة، ولكن كلنا شركاء، عسى أن نتقاسم البناء لا الخراب، تبعا لمن يريد دون إقصاء ولا إلغاء.
8- حضرة الدبس قولك لن نتخلى عن الشريعة الإسلامية، يشي مجددا عن سوء تحضير وإعداد لما تصرحون به مرارا وتكرارا، فشريعتك لك وللخلق شرائع، ولا أعتقد مسلما كان أو مسيحيا أو إنسان سوري له دينه أو فلسفته من الممكن أن يتخلى عما يعتقد، فكلنا سواسية في ذلك.
وإن أردت المحاسبة والفرض، فالرسول الأكرم صلوات ربي عليه لم يسبقها إليك بأمر إلهي” إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب” . وهذه مهمة الدعاة لا مهمتكم في بناء دولة رجال ونساء.
وما زلتم تدورون حول ذات القضية ” ولاية المرأة للقضاء” وما زلنا نرد ونجاوب بآلاف الحجج والشواهد منذ ألف عام.
ولا نرى إلا أصدق كلمة قلتها في لقاءك هذا الأخير على شاشة TRT عربي: ” ملف المرأة ملف حساس”
وليتك داويت حساسيته بالضم والاحتواء، لا بالترفع والكبرياء.
—–‐———-
هبة الكل
حرر بتاريخ 28/ ديسمبر/ كانون الأول 2024.
—————————-
======================