«سامي» شريك «قيصر» لـ«الشرق الأوسط»: «الائتلاف» أمدَّ بعمر بشار الأسد
روى واقعتين اقترب فيهما النظام من كشفه ورفيقه… وحذَّر من إفلات الجلادين (2 من 3)
باريس: غسان شربل
31 ديسمبر 2024 م
في الحلقة الثانية من مقابلته الموسَّعة مع «الشرق الأوسط»، يحكي أسامة عثمان، «مهرّب» ملفات التعذيب السورية المعروفة باسم شريكه «قيصر»، كيف صدمهما رئيس حكومة «الائتلاف الوطني السوري» المعارض بعد خروجهما بـ«استخفافه» بأدلة التعذيب. ويتهم الائتلاف بأنه «أمدَّ بعمر بشار الأسد… وتعامل بطريقة لا مسؤولة كلفتنا عشرات آلاف الضحايا».
وروى عثمان الذي عرفه العالم لسنوات باسم كودي هو «سامي»، كيف اقترب النظام من كشفه ورفيقه مرتين، واحدة حين دهم الأمن السياسي منزل عائلته بحثاً عن شقيقه وصادر أجهزة الكمبيوتر، وأخرى حين حوصر بين قناص ودبابة مع أشقائه الثلاثة لأيام، واضطر إلى إخفاء الكاميرا والأجهزة تحت كومة قمامة.
وكشف عن أنه يعمل عبر منظمة «ملفات قيصر للعدالة» على جمع أدلة على «التغيير الديمغرافي وتجنيس أشخاص لصنع ما اعتبره بشار الأسد (سوريا المفيدة)». وشدد على أهمية العدالة الانتقالية، مستنكراً «المجزرة» التي تعرَّضت لها الأدلة والوثائق بعد سقوط الأسد. وفيما يلي الحلقة الثانية من المقابلة:
* توقفنا في نهاية الحلقة الأولى عند قصة صدور «قانون قيصر». ماذا حدث بعد ذلك؟
– بعد هذه الفترة كان الاهتمام بالثورة السورية وبالشأن السوري في أدنى مراحله تماماً. لذلك أنشأنا منظمة في الولايات المتحدة ثم أنشأنا منظمة أخرى في باريس التي هي الآن منظمة «ملفات قيصر للعدالة» لكي نتابع العمل الحقوقي، ليس فقط على «ملف قيصر»، فبعد خروجنا من سوريا أصبحت لدينا ملفات أخرى.
* مثل ماذا؟
– بعض هذه الملفات لا أستطيع أن أبوح بها حتى الآن. طبعاً جميعها تدور حول انتهاكات النظام السوري لحقوق الإنسان في سوريا، وأيضاً التأثير الاقتصادي الذي أحدثه النظام السوري عبر عملية التدمير الممنهج والتغيير الديمغرافي الذي كان يريد أن يفرضه على السوريين. أصبح لدينا عدد كبير من الملفات التي نقوم على تنميتها، وحتى «ملف قيصر» والاهتمام بالأشخاص الذين يتم قتلهم تحت التعذيب لا يقتصر على من قتلهم بشار الأسد في السجون. هذا الأمر ممتد؛ لذلك كان فريقنا يعمل على استدامة الحصول على ملفات أخرى؛ لأننا مقتنعون أن كل من ارتكب انتهاكات في سوريا يجب أن يحاسب.
* أي نوع من الملفات؟
– انتهاكات حقوق الإنسان والتغيير الديمغرافي الذي يشمل تجنيس أشخاص من دون وجه حق بطرق غير قانونية بزجهم في المجتمع السوري؛ لكي يصنع بشار الأسد ما قال عنه يوماً «سوريا المفيدة» و«المجتمع المتجانس» و«سوريا لمن يدافع عنها». هذه العبارات وراءها مشاريع على الأرض ولم تكن عبارات أُطلقت في الهواء. هذه عبارات تتكلم عن مشاريع حقيقية تنفذ على الأرض في سوريا؛ لذلك لا أستطيع أن أعطي تفاصيل حول ملفات يعمل عليها أشخاص حتى الآن لا يريدون ولا نريد لهم أن تُكشف أسماؤهم.
* حُكي في الإعلام عن عمليات تجنيس لإيرانيين، وبكلام أوضح لشيعة عراقيين. هل هذا جزء من الملف؟
– هذا جزء منه. ملف التغيير الديمغرافي يعمل عليه جميع السوريين الذين لديهم منظمات ومن ليس لديهم منظمات. عندما يكون جارك يتكلم بلغة غريبة ويمارس حياته في سوريا وكأنه وُلد فيها من منذ عقود يحق لك أن تتساءل: من أتى بهؤلاء ومن أين جاء هؤلاء؟ فكل سوري يتساءل مَن هؤلاء، هو سوري يعمل على حماية البلاد من هذا التغير الديمغرافي بشكل منظم أو غير منظم. نحن نسعى دائماً للوصول إلى هؤلاء الأشخاص بالطرق المباشرة أو عبر المؤسسات، وهذا يقودنا إلى ما أسميه المجزرة التي تعرَّضت لها الأدلة والوثائق والأرشيف السوري، ليس في الأفرع الأمنية فقط والسجون، وإنما أيضاً في المؤسسات الأخرى. وشهدنا جميعاً كيف تم قصف مبنى تنظيم جوازات السفر. هذه الأماكن مهمة جداً وتحتوي على الكثير من الثبوتيات. عندما يُقصف مكان بهذه الأهمية، فلإخفاء أدلة ووثائق. وتزايد عمليات القصف بعد هروب بشار الأسد يشير بشكل واضح إلى أن ما يحصل هو جرائم تضاف إلى سجله بحق سوريا.
* هل أستطيع أن أستنتج أنك تلمح إلى تواطؤ بين أجهزة بشار والأجهزة الإسرائيلية؟
– لا. لا أستطيع أن أوجّه اتهاماً. أنا قلت إن هذا الأمر تزايد بعد هروب بشار الأسد، ولك أن تستنتج ما شئت ولا تعليق.
«حزب الله» أنقذ بشار الأسد
* من قَلَبَ مسار الأحداث في سوريا وأبقى بشار الأسد وأطال عمر النظام؟ هل تعتبرون الروس ضالعين في الانتهاكات؟ هل تعتبرون الميليشيات الإيرانية مثلاً؟ وماذا عن «حزب الله»؟
– «حزب الله» اللبناني الذي كدنا أن نعلّق في بيوتنا صور زعيمه حسن نصر الله في عام 2006، وبكينا كثيراً عندما كنا نسمع باستشهاد عناصر له. في 2006 استضفت عائلة لبنانية في منزلي في منطقة وادي بردى (شمال دمشق). كان عندي بيت هناك استضفت عائلة لبنانية فيه، وأنا أقل الناس الذين قدموا مساعدات لإخوتنا اللبنانيين.
هذا الحزب اعترف بأنه لولا تدخله لسقط بشار الأسد خلال أشهر. هذا يكفيك. الحزب يعترف بلسان قائده حسن نصر الله، وأفعاله على الأرض تصدق ما قاله. لذلك؛ بالتأكيد كان تدخل «حزب الله» في المرحلة الأولى الدعامة لهذا النظام.
بعد ذلك توافدت الميليشيات وأصبحنا نرى أشخاصاً ووجوهاً غريبة ونسمع كلمات غريبة ولغات غريبة من أشخاص يحملون السلاح ويجوبون شوارعنا. أمام منزلي كان هناك أشخاص عدة لا يتكلمون العربية، ويراقبون فقط مظاهرة سلمية كانت تشيّع شهيداً قتله بشار الأسد في قصفه المدينة. لم أكن أجرؤ أن أسأل هذا الرجل من أنت وماذا تفعل هنا؟ رجال عدة بأشكال غريبة ونحن في مدينتنا – مدينة التل بريف دمشق – يمكن لنا ببساطة أن نلاحظ الوجه الغريب.
نعم، لذلك هؤلاء جاءوا في فترة مبكرة، يعني بعد «حزب الله» مباشرة ببضعة أشهر. تبع ذلك توافد الميليشيات التي نعرفها جميعاً، والتدخل الروسي الحاسم في 2015 حقيقة هو الذي أدى إلى انكفاءة الثوار إلى مناطق جغرافية معينة وخسارة الأراضي التي كانوا يسيطرون عليها. ولذلك؛ بالتأكيد إيران وروسيا والميليشيا التي كانت معهم شركاء في دماء الشعب السوري وشركاء في تدمير سوريا، وهذا الأمر لا يحتاج إلى كثير عناء لكي نثبته.
حين اقترب النظام من كشف الملفات
* متى كاد «ملف قيصر» أن يقع في أيدي الأجهزة الأمنية السورية؟
– تعرَّض منزل العائلة في مدينة التل للمداهمة. كانوا يبحثون عن أخي الأصغر لأنه كان مشاركاً في الحراك السلمي في المظاهرات أو الأمور العادية التي كنا نقوم بها جميعاً. داهم فرع الأمن السياسي منزلنا. كانت هذه الأمور والثورة في بدايتها وكان الضابط الذي دهم المنزل لا يزال لديه القليل من اللباقة.
دخل إلى المنزل وفتش وأخذ أجهزة الكمبيوتر التي تحتوي على نشاطاتي كمهندس مدني من مخططات وأمور عادية. لكنه وجدها في غرفة أخي فأخذ كل ما وجده من وسائط وجهاز الكمبيوتر، واكتفى الضابط وقتها وأعتقد كان اسمه محمد جمعة، بأن يعطيني محاضرة عندما علم أنني مهندس. أعطاني محاضرة في حب الوطن، وأن الوطن أنفق علينا الكثير لكي نتعلم، ومن هذه الشعارات التي يحفظونها في جلسات التوجيه السياسي التي يحضرونها.
أخذ هويتي المدنية وقال لي: يمكنك أن تنزل إلى دمشق وتحضر لنا أخاك بكل بساطة وتأخذ أجهزة الكمبيوتر. أخذ هويتي وبقيت لفترة من دون هوية مدنية وبالتالي لا أستطيع أن أغادر مدينتي حتى لا أمر على أي حاجز أمن يطلبها فأُعتقل. لو اعتقلت في هذه الفترة لكنت أصبحت صورة من إحدى من صور «ملف قيصر».
في مرحلة أخرى أيضاً، تعرَّضت مدينتي مدينة التل لاجتياح من جيش النظام بعد معركة طويلة جداً مع الثوار في داخل المدينة وتهجير كل سكانها بالكامل. ذهب كل السكان المدنيين – وكنا في نهاية شهر رمضان – إلى المدن المجاورة. حتى أنا أخذت أبي وأمي وإخوتي إلى مدينة صيدنايا ورجعت. أخي الصغير لا يستطيع أن يخرج من المدينة وأنا أريد أن أبقى معه وأريد أيضاً أن أجد طريقة لحماية البيانات التي بين أيدينا، وأخي الثالث قال: لا أترككم. بقيت مدينة التل فارغة لأيام عدة وبقينا نحن الثلاثة وتعرَّضنا لعمليات تفتيش كثيرة.
انسحب مقاتلو «الجيش الحر» ودخل جيش النظام، وارتكب مجازر عدة في مدينة التل. عندها اضطررنا إلى مغادرة البناء الذي كنا فيه، وهو لأحد الأصدقاء واستضافنا فيه لأن منزل العائلة في مدخل البلدة حيث بدأ الاجتياح. عندما اضطررنا إلى الانسحاب من المنزل، وضعت كاميرا كانت معي وبعض الأجهزة تحت كومة من القمامة في أسفل البناء، وقلت: إذا عشت سأجدها مرة أخرى لأنه لا يمكن أن يفكّروا بنبش القمامة للبحث عن هذه الأمور. سيبحثون في أماكن أخرى بالتأكيد.
خرجنا ولم نقطع أكثر من كيلومتر ربما، وحوصرنا في منطقة قريبة من مشفى التل العسكري في قمة المدينة. دخلنا إلى بناء واختبأنا داخل هذا البناء لمدة 5 أيام أو 6 أيام، ثم خرجنا. جاء العيد وخفَّت القبضة الأمنية عن المدينة وعادت التغطية الهاتفية واستطعنا أن نعلم من الآخرين، أن بإمكاننا النزول إلى البلدة. نحن في البناء كنا نرى قريباً منا عند خزان المياه في قمة البلد دبابة وقناصاً وعناصر يجهزون لاقتناص أي شخص يسير على الطريق. خروجنا من هناك كان يعني ولادة جديدة لثلاثتنا.
«الائتلاف أمدَّ بعمر بشار الأسد»
* هل تعرَّض جهدكم للتشويش عدا عن مطاردات النظام؟ هل حاول أحد أن يربك عملكم أو يوظفه لمآربه؟
– بهذا المعنى، نعم. كانت معركتنا بعد الخروج من سوريا هدفها الأساسي أن نحافظ على هذا الملف بعيداً عن تجاذبات سياسية أو مصالح ضيقة لأي فئة. هذا ملف انتهاكات حقوق إنسان وملف سوري بامتياز لكل السوريين، ويجب أن يبقى ملفاً حقوقياً بعيداً عن أي مصالح ضيقة لأي جهة. حاولت في البداية أن يكون الائتلاف والحكومة المؤقتة هي الجهة الراعية لهذا الملف، وهذا أمر طبيعي. ذهبت إليهم برفقة أحد الأصدقاء وجلست مع رئيس الحكومة بعد أن انتظرت 4 ساعات في صالة مليئة بالأشخاص الذين يشربون الشاي والقهوة كأنهم في مقهى. كان الأمر مؤسفاً أن تستمع لأحاديث من أشخاص لا تمت أبداً إلى ما يحصل في سوريا.
بعد 4 ساعات، جلسنا لوقت محدود جداً مع رئيس الحكومة وقلنا له إن هذا ملف للسوريين. هذا ملف خطير ونحن نحتاج إلى مساعدة تتضمن النأي بهذا الملف عن أي صراعات سياسية بين أجنحة المعارضة وغيرها، وحماية أهلنا في الداخل حتى لا نتعرض للابتزاز بكشف أسمائهم والتضحية بهم. كان الجواب صادماً للحقيقة، قال – واسمح لي أن أقولها باللهجة السورية – «يعني انتو مفكرين ان الملف راح يهزّ عرش بشار الأسد؟».
كان الجواب صادماً جداً. ليس محبطاً لأنني أعرف قيمة ما لدي، لكن الإحباط أو الأسف كان أن يكون أمثال هؤلاء هم الذين يتكلمون باسم الثورة السورية التي أزعم أنها أهم ثورة على الإطلاق منذ الثورة الفرنسية عام 1789.
الباستيل هو سجن صيدنايا بالتأكيد وبامتياز. سقوط النظام السوري وقيام دولة قانون وعدل في سوريا سيغير وجه الشرق الأوسط، وعندما يتغير وجه الشرق الأوسط يتغير وجه العالم. وهذا ما فعلته الثورة الفرنسية قبل ثلاثة قرون. تأتي (حكومة الائتلاف) وتقول لي: «انت مفكر هذا الملف راح يفزع بشار الأسد؟». لا أريد أن أقول هذه العبارات كما تقال حقيقة في الشوارع لأنها مهينة جداً. انسحبت بأسف وأنا في هذه اللحظة كنت أبحث عن إخراج العائلات التي بقيت في دمشق ولم يتحقق هذا الأمر. كانت لحظة ألم نفسي شديد. يعني أنت اليوم في منتصف الطريق عرضت نفسك وأهلك للخطر ولا تستطيع أن تقوم بإنقاذهم، ويوجد من يبتزك بهم فأنت تسابق الزمن لإخراج هؤلاء الأشخاص، ومنهم من عمره سنتان ومنهم من عمره ثمانون. فكان هذا الجواب صادماً حقيقة من رئيس الحكومة المؤقتة في ذلك الوقت.
* هل شعرت بالخيبة من المعارضة بعد خروجك؟
– الخيبة هي كلمة قليلة على ما شعرت به. أنا شعرت بالحزن والأسف، وأستطيع أن أزعم أنه في ذلك الوقت الذي كانت دول العالم كلها تدعم الثورة السورية وتأخذ ممثل الائتلاف إلى مقعد سوريا في جامعة الدول العربية وتسخّر إمكاناتها السياسية والاقتصادية لدعم هذه الثورة، لو تم استثمار «ملف قيصر» عندما خرجنا وبطريقة صحيحة، لما رأينا بشار الأسد باقياً على عرشه حتى 2024. هذه اللامسؤولية، وهذه اللامبالاة أنا أعتبر أنها أمدت بعمر النظام السوري وكلفت السوريين عشرات آلاف الضحايا. قلة المسؤولية وعدم الاهتمام من الائتلاف.
يعني أنت عندما تذهب لتفاوض النظام، ما هي الأوراق التي تملكها في مواجهة هذا النظام إذا لم يكن «ملف قيصر» هو الملف الأقوى؟ على ماذا تتفاوض؟ أنتم (المعارضة) تكلمتم مع النظام في المحافل الدولية في كل شيء: في الدستور، لون العلم، عدد النجوم، اللغة، طريقة الحكم، ولم تتكلموا في المعتقلين.
* هل تقصد أن هناك من تنكَّر للدماء السورية؟
– نعم، نعم.
* بما في ذلك الائتلاف؟
– طبعاً، وبمسميات مختلفة. نحن كنا نقول ملف المعتقلين هو ملف فوق تفاوضي، أي أننا لا نتفاوض مع النظام السوري على أي شيء قبل أن نتكلم بملف المعتقلين. فوجئت أن بعض الأسماء البارزة وفي مؤسسات بارزة تتكلم باسم السوريين تفسر هذه العبارة بالطريقة التالية: ملف فوق تفاوضي يعني أن نضعه جانباً ونتفاوض في كل شيء، لكن لا نتفاوض فيه. عندما سمعت هذا التفسير لم أعرف هل أضحك أم أبكي؛ لذلك أستطيع أن أقول إن الائتلاف أمدَّ بعمر بشار الأسد.
سجن صيدنايا والمكبس المعدني
* عقدت مقارنة بين سجن صيدنايا والباستيل، وبين الثورة السورية والثورة الفرنسية. هل يمكن أن تقول لي حين أقول سجن صيدنايا… ما هي الصور التي تتزاحم في ذهنك؟
– بعد أن رأى العالم سجن صيدنايا من الداخل، لا أستطيع أن أتخيل كيف كان الناس يتحولون في الداخل أرقاماً ثم أجساداً جافة ثم أجساداً متعفنة ولا تزال حية، ثم تتحول بعد ذلك تحت المكبس كومةً من العظام والأنسجة. من الذي يستطيع أن يتخيل؟ من يستطيع أن يعيش هذه الحالة من الرعب؟
في الداخل نحن كنا ننظر إلى السجن الواقع في الطرف الآخر من مدينتنا رمزاً للظلم والتسلط والقهر، لكن هذه الكلمات مجردة لا ترقى إلى ما كان يعانيه المعتقلون في الداخل لبضع دقائق، فما بالك بأشخاص أمضوا فيه عشرات السنين. ربما المحظوظ هو الذي دخل من باب السجن وخرج من باب المكبس المعدني في أسرع وقت.
* هل فاجأتك قصة المكبس المعدني؟ هل كنت تتوقع هذا الشيء؟
– لم يخطر لي أن يقوم النظام بكبس الأجساد. سمعنا عن كثير من أساليب التعذيب والمقابر الجماعية، لكن المكبس المعدني؟! أي عقلية إجرام كان يمتلكها هذا النظام.
* وما الغرض من المكبس تحديداً؟
– أنا وأنت بشر عاديون نحب ونشعر بالحنين لأهلنا ولأبنائنا. تفكيرنا منطقي. هذا السؤال لا يمكن أن يجيب عنه شخص يفكر بطريقة منطقية. ما الذي يدفع نظام مجرم يمتلك أرض سوريا وسماءها وما تحت أرضها لكي يضع مكبساً معدنياً ليسحق جثث المعتقلين. لديك آلاف الأمتار من الأراضي التابعة للسجن نفسه. ادفن هؤلاء تحت التراب. لماذا هذه الطريقة؟ لا يمكن أن يكون الشخص الذي يعمل على هذا المكبس إنساناً طبيعياً؟
صغار الجلادين أخطر من كبار الضباط
* لو سألتك أن تعّدد لي لائحة بأسماء كبار الجلادين المسؤولين عن التعذيب. من هم؟
– هذه لائحة طويلة جداً. نحن رفعنا دعوة أمام القضاء الألماني على العديد من الأشخاص، منهم (نائب الرئيس للشؤون الأمنية) علي مملوك، ومنهم (نائب مدير مكتب الأمن الوطني والرئيس السابق لشعبة المخابرات العسكرية) عبد الفتاح قدسية، ومنهم (رئيس شعبة المخابرات الجوية والمسؤول عن سجن المزة) جميل الحسن. كانت أول مذكرة توقيف تصدر عن القضاء الألماني بحق جميل الحسن.
رؤساء الفروع الأمنية هم المسؤولون بشكل مباشر عن عمليات القتل تحت التعذيب؛ لأن هذه المعتقلات تعود لإدارتهم، لكنهم ليسوا الوحيدين. وأنا أقول دائماً أن تعتقل رئيس فرع أمن أو توجه إليه التهمة بأنه ارتكب جرائم حرب ليس مهماً بقدر أن توجه التهمة إلى الشخص الذي يقوم بالقتل الحقيقي والتعذيب في أقبية هذه السجون؛ لأن هؤلاء هم من يقومون بالقتل بتلذذ. هم لا يقومون بالقتل نتيجة تنفيذ أوامر، بل يتلذذون بتعذيب الناس حتى تصل إلى هذه المشاهد التي رأيناها.
لكنهم يظنون أن من فوقهم يحميهم وأنهم معصومون ومحصنون من المساءلة، ولا يمكن أن يصل إليهم القانون، لا في سوريا ولا خارج سوريا. وكل المحاكم التي أقيمت خارج سوريا كانت تتوجه إلى الصف الأول أو الأشخاص الذين ثبتت عليهم تهمة ممارسة عملية القتل. هذا الأمر لا يكفي. يجب أن نحصل على أسماء أشخاص يقومون بالقتل المباشر حتى يعلم هؤلاء أن النظام الذي يعتبرونه ربهم الذي يعبدونه لا يحميهم، وأن الله سبحانه وتعالى فوقهم وفوق ربهم السياسي.
* هل الوثائق التي جُمعت تكفي لإدانة صغار المرتكبين؟ هل هناك أسماء لهم؟
– إذا كنت تقصد «ملفات قيصر» التي هي بحوزتنا والتي خرجنا بها من البلاد في نهاية 2013، فهي لا تتضمن إلا عدداً محدوداً من صور عناصر تابعين للنظام السوري. ربما بعض الأسماء الموجودة على وثائق تسمَّى الضبوط التي يتم تنظيمها حتى تذهب إلى المحكمة العسكرية ويتم بعدها إصدار شهادة وفاة. فهنا، تجد بعض التوقيعات لبعض عناصر النظام، لكن ليس معنى ذلك أن هؤلاء هم مَن عذَّبوا الضحايا وقتلوهم. لذلك لا يتضمن ملفنا أسماءً لجلادين في السجون قاموا بعمليات القتل. من هنا كانت القضية الأولى التي قمنا برفعها أمام القضاء الألماني عن طريق «المركز الأوروبي لحقوق الإنسان والحقوق الدستورية» كمدعٍ شخصي مع آخرين، تتضمن أسماء لرؤساء فروع أمن فقط وليس صغار الجلادين.
لكن حتى تصل سوريا الحرة إلى مجتمع مستقر يجب أن تمر بمرحلة العدالة الانتقالية التي تعني بالضرورة المحاسبة والمساءلة؛ لأنك لا يمكن أن تعيش في حي وإلى جوارك رجل لا تزال رائحة الدم تفوح منه لأنه كان يعمل لسنوات طويلة في سجون بشار الأسد ويقتل المعتقلين أو يعذبهم؛ لذلك لا بد لكل من قام بانتهاكات ضد حقوق الإنسان في سوريا أن يُحاسَب إذا أردنا لهذا المجتمع أن يستقر وأن يكون هذا الاستقرار مستداماً ولا نفتح الباب لأعمال الانتقام الفردي إذا أحس أهالي الضحايا بأنهم لم يحصلوا على حقوقهم ولم يصلوا إلى ما يجعل مشاعرهم تبرد تجاه من قتل أحباءهم.
والانتهاكات ليست فقط عمليات القتل أو القتل تحت التعذيب. الانتهاكات أوسع بكثير من هذا الأمر. كل ما يسيء إلى كرامة الإنسان هذا انتهاك… محاولات التغيير الديمغرافي. لا يكفي اليوم أن أقول لمن عاش 12 سنة في خيمة على الحدود التركية أو في الصحراء الأردنية أو في لبنان: ارجع إلى بيتك سقط الأسد وانتهى الأمر. هذا الرجل تعرَّض إلى ضرر شديد ومعاناة شديدة جداً عبر سنوات… وأضف إلى ذلك كله أن هناك جيلاً لم يتعلم أو يدخل مدارس. هؤلاء لم تُتَح لهم الفرصة لكي يعيشوا الحياة الإنسانية التي تليق بأمثالهم في سنوات حياتهم الأولى؛ لذلك الضرر الذي وقع على هؤلاء وذويهم يجب أن يتم التعويض عنه، وفوق ذلك يجب أن يكون هناك اعتذار حقيقي لكل من تعرَّض للانتهاك في سوريا من الجهات التي قامت بهذا الفعل.
* هل نحن نتحدث عن آلاف الجلادين؟
– بالتأكيد. عندما ننظر للأمر من هذه الزاوية فنحن نتحدث عن الآلاف. بعد ذلك كله أنت في حاجة إلى المصالحة المجتمعية.
إتلاف الوثائق
* هل تخشى أن يكون مصير ضحايا صيدنايا مشابهاً لمصير ضحايا حماة؟
– هذا ينقلنا إلى المشكلة التي حصلت بعد تحرير دمشق من الطاغية المجرم بشار الأسد. حالة الفوضى التي عمَّت في الأيام الأولى أدت إلى فقدان الكثير من الوثائق والأدلة. طبعاً أنا لا أقول إن الأهالي الذين يسعون إلى البحث عن أحبائهم قد ارتكبوا جرماً. أبداً. هذه الحالة العاطفية مبررة وهذا حقهم، وهو فوق كل شيء. لكن أنا أرفض أن يكون حصولك على حقك سبباً في حرمان الآخرين من الوصول إلى حقوقهم. إتلاف الوثائق يعني أن هناك مجرمين لن تكون لدينا أدلة لإدانتهم، وبالتالي أنت سلبت الآخرين من الضحايا حقهم في أن يحاسَب الجلاد الذي قتلهم والذي عذبهم.
إتلاف هذه الوثائق ليس فقط ناتجاً من دخول المواطنين إلى هذه الأماكن. بعض الأماكن تُركت بحالة سيئة، وبعضها تم إحراقها فيما بعد والفاعل مجهول. إذن، هناك جهات تقوم بفعل منظم ومقصود لإتلاف هذه الوثائق. واليوم ربما يكون الأكثر سعادة بإتلاف هذه الوثائق وفتح السجون بطريقة غير مدروسة هو بشار الأسد وبقية المجرمين؛ لأنك بهذه الطريقة تتلف أدلة وتفتح السجون من دون حتى توثيق لهؤلاء المعتقلين الذين كانوا في السجن. وجدنا سجناء وصلوا من سجن صيدنايا إلى مدينة التل يمشون حفاة عراة… أنا أتكلم عن أكثر من 3 كيلومترات مشياً في عتمة الليل والبرد.
هناك أشخاص خرجوا من سجن صيدنايا واستقبلهم الأهالي بحالة مزرية جداً. هذا الأمر مؤلم ومؤسف. نحن نفرح لتحرير هؤلاء، لكن نحزن جداً إذا لم نستطع محاسبة من فعل بهم ما رأيناه.
* حين تلقيت خبر فرار بشار الأسد، هل خطر في بالك إجراء مقارنة بين سقوط صدام وسقوط بشار؟
– هذا الأمر أعتقد أنه بعيد. أولاً بشار الأسد أسقطه السوريون بأيديهم، أسقطه الرعب. بشار الأسد سقط حتى قبل أن تصل قوات الثوار إلى دمشق. كان قد نضجت الشروط كافة التي نتج منها سقوط بشار الأسد. كان في أضعف مرحلة وسقط على أيدي السوريين الأبطال الذين دخلوا دمشق بعد أن دخلوا حماة وحمص، ووصلوا إلى ما شاء الله، وعلى أيدي السوريين الذين عملوا في المنظمات الحقوقية وغيرها لمحاصرة هذا النظام سياسياً واقتصادياً وإعلامياً حتى استطاعوا الحد من كل مصادر القوة التي أمدَّته بالطاقة للبقاء عبر السنوات الماضية، وحانت لحظة القطاف، وسقط بشار الأسد بأيدي السوريين.
هذا الأمر لا يشبه ما حصل في العراق، والمقارنة بين بشار الأسد وأي حالة أخرى سواء في زمننا أو في الأزمنة الماضية هي مقارنة تظلم الطرف الآخر. لا أعتقد أبداً أن نيرون يستحق أن تقارنه ببشار الأسد.
* هل ترى نيرون أفضل؟
– هنا من الخطأ أن نستعمل كلمة أفضل وأسوأ. هنا أقول إن بشار الأسد أشد إجراماً وأشد جنوناً من نيرون. ليس هذا المكان صالحاً لاستخدام كلمة أفضل بالتأكيد.
الحلقة الأولى على الرابط التالية
«سامي»: جاءني «قيصر» بصور ضحايا التعذيب فتقاسمنا الخطورة والهموم
غداً حلقة ثالثة وأخيرة
الشرق الأوسط