سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 31 كانون الأول 2024
لمتابعة التغطيات السابقة
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 30 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 29 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 28 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 27 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 26 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 25 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 23 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 22 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 21 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 20 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 19 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 18 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 17 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: المصاعب والتحديات، مقالات وتحليلات 16 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مهام اليوم التالي، مقالات وتحليلات 15 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 14 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: سقوط الديكتاتور الفار بشار الأسد مقالات وتحليلات
—————————————
في بعض التباسات كلمة «أقليات»/ فايز سارة
تحديث 31 كانون الأول 2024
احتلت كلمة «أقليات» مكانة لافتة في الأحاديث عن سوريا والسوريين في السنوات الأخيرة، وازداد استعمال الكلمة في الفترة بعد أن دخلت القضية السورية خط علاجها عقب سقوط نظام الأسد، وبدء العهد السوري الجديد الذي تديره غرفة العمليات العسكرية بقيادة أحمد الشرع زعيم «هيئة تحرير الشام»، والتعبير الأبرز لزيادة أهمية الكلمة تداولها في الأوراق والوثائق وفي أحاديث رجال السياسة من سوريين وعرب وأجانب من المتفاعلين مع القضية السورية.
والأساس في كلمة «أقليات» أنها تشير إلى حجم محدود من أكثرية ما. لكنها في الاستعمال السوري وما يتصل بسوريا تشير خصوصاً إلى مجموعات من السوريين، إذ تستعمل أحياناً للدلالة على أقليات من جماعات ذات أصول قومية مثل الأكراد والتركمان والشركس، تشكل أقليات مقارنة بـ«أكثرية» العرب السوريين، وتستعمل أيضاً في إشارة إلى «أقليات» دينية – طائفية مثل أقلية المسيحيين على مختلف طوائفهم مقارنة بأكثرية المسلمين من الناحية الدينية، وإلى العلويين والإسماعيليين والدروز من طوائف مقارنة بأكثرية المسلمين من طائفة السنة.
استعمال كلمة «الأقليات» مقرون في أغلب الأحيان بمخاوف وحذر الذين يرددونها والقائلين بها من سوريين وغيرهم، لا سيما الغربيين في إشارة إلى مخاوف من انتهاك حقوق الأقليات في ظل النظام السوري الجديد، وتأكيد ضرورة حماية تلك الحقوق، التي لا يُشار إلى محتواها وحدودها حيث ترد، مما يجعلها مروحة واسعة من حقوق أدناها، كما هو معروف، حقوق ثقافية واجتماعية منها اللغة والعبادات واللباس والعادات والتقاليد، وأقصاها حق الانفصال، وإقامة دولة أقلوية منفصلة عن الكيان الأم.
استخدام كلمة «الأقليات» بما تقدم من مواصفات، منهج حديث العهد في سوريا وفي المشرق العربي. إذ تواصل استخدامه محدوداً في منتصف القرن الماضي مع ظهور إسرائيل باعتبارها دولة يهودية، وازداد مع الانقلابات التي ضربت المشرق العربي، خصوصاً سوريا، والتي ركزت أوساط فيها على المسحة الطائفية لسلطة «البعث» وأساسها اللجنة العسكرية، التي استولت على السلطة تحت يافطة «البعث» في انقلاب مارس (آذار) 1963، وكانت غالبيتها من العلويين والدروز والإسماعيليين، وعزز نظام الأسد والجماعات الإسلامية، لا سيما الطليعة المقاتلة، النزعات الطائفية بين أكثرية السنة والأقلية العلوية في سوريا، وشاركت أنظمة الحكم السورية في العقود السبعة الأخيرة وأوساط من قيادات كردية في تصعيد النزاعات القومية في العلاقة بين العرب والأكراد.
وشكلت الخلفية المحيطة بتداول كلمة «أقليات» ملامح حذر السوريين ومخاوفهم منها، وتعزز هذا الاتجاه داخلهم في ضوء استخدام الكتاب والصحافيين الغربيين والسياسيين كلمة «أقليات» للدلالة على ما يواجهه بعض السوريين الموصوفين بأنهم من «الأقليات» من ظروف صعبة تحيط بحياتهم جراء سياسات الحكومات، أو بسبب موقف بعض الأطراف السياسية والاجتماعية المتشددة في سوريا، كما حال جماعات إسلامية متطرفة مثل «داعش» و«النصرة»، وكله عزز المخاوف والحذر حول استخدام كلمة «الأقليات» في المنطقة وفي سوريا خصوصاً.
غير أن المخاوف والحذر تكرسا في البلدان التي ظهرت فيها ترديات سياسية وأمنية مثل لبنان مع أوساط السبعينات، والعراق بعد سقوط نظام صدام حسين 2002، أو ظهرت فيها هزات عنيفة للنظام الحاكم، أبرزها سوريا، في أعقاب وصول بشار الأسد إلى السلطة عام 2000، وفي كل هذه البلدان تواصلت الأحاديث عن «الأقليات»، وسط الدعوة إلى تأمين وجودها، والمطالبة بصيانة حقوقها، وشاركت الدعوات دول عربية وغربية، بل إن نظام الأسد قدم نفسه، وأشاع أنه نظام يحمي الأقليات بالتوازي مع مواصلة حربه الشاملة على السوريين طوال نحو عقد ونصف العقد سبقت سقوطه 2024.
والمفارقة الغريبة أن الدول الغربية في أوروبا والولايات المتحدة، وأغلب دول العالم، لا تتناول كلمة «أقليات» ولا تتعامل معها في بلادها على نحو ما تفعل بها في التعامل مع المثال السوري، رغم أن «الأقليات» فيها تتنوع بصورة لا يمكن مقارنتها بواقع حال بلدان الأزمات العربية أو مثيلاتها خارج الخريطة العربية الشرق أوسطية، وهذا يطرح أسئلة حقيقية وجدية عن أسباب الازدواجية الغربية في التعامل مع كلمة «الأقليات» والوظيفة الأساسية لاستخدامها، وأسباب بعض الاستخدام الذي يؤشر لها، وكأنها سكين في خاصرة بلدان الأزمات والضعف، وربما للدلالة على أنها بلدان أدنى مستوى في بناها الاجتماعية من بنى بلدان الغرب المتقدم.
الشرق الأوسط
——————–
سقوط الأبد: كيف يرى المثقفون مستقبل الأقليات بسوريا؟ «3»/ محمد تركي الربيعو
تحديث 31 كانون الأول 2024
في نهاية الأربعينيات من القرن المنصرم، بدت سوريا وكأنها تقف على عتبة مرحلة جديدة من الديمقراطية والحياة المدنية. لكن سنوات العسل كما يقال، لم تستمر طويلا، ففي عام 1949، قاد الضابط السوري حسني الزعيم أول انقلاب في البلاد، ليفتح الباب أمام سلسلة من الانقلابات العسكرية الأخرى، وليعلن أيضا عن ظهور الضباط على مسرح الحياة السياسية في البلاد. في هذه الأثناء، وتحديدا عام 1951، كان حافظ الأسد، المنحدر من قرية القرداحة، التي ينتمي أبناؤها للطائفة العلوية ، قد بدأ مشواره المهني داخل صفوف الجيش. ومع مرور السنوات، أخذ هذا الضابط يترفع في مناصبه، مستفيداً ومشاركاً في التصفيات التي كان تجري بين الضباط، ليجد نفسه في السبعينيات، وبعد انقلاب عسكري آخر على رفاق دربه، رئيسا للجمهورية السورية.
لم يترافق قدوم الأسد، مع سيطرة العسكر على السلطة مرة أخرى، وإنما ترافق أيضا مع تجنيد أعداد كبيرة من أبناء الطائفة العلوية، في مناصب قيادية وعسكرية قريبة منه. وقد حاول الأسد التبرؤ من تهمة أن نظامه يقوم على «عصبية علوية» وفق تعبير السوسيولوجي الفرنسي الراحل ميشيل سورا، لكن ذلك لم يكن كفيلاً بإقناع شرائح واسعة، بأن الحكم بات يقاد في سوريا من قبل أبناء قرية القرداحة العلوية. جاءت أحداث الثمانينيات في سوريا، والصدام بين النظام والإخوان المسلمين، لتزيد من حالة الاحتقان الطائفي بين السوريين.
لم يحاول الوريث بشار الأسد التعديل كثيرا على سياسات والده، وإن حاول ظاهريا أن يوحي عكس ذلك، من خلال الزواج بفتاة من الطائفة السنية. في هذه الأثناء، كانت سوريا تشهد ولادة فضاءات عامة، وأجيال جديدة، وبدت مستعدة لتجاوز هذه الحساسيات الطائفية، ما ظهر بالأخص مع اندلاع الثورة السورية عام 2011، إذ ظهرت بعض الشعارات وكأنها تحمل نفسا آخر حول العلاقة بين الطوائف، وهو ما عبر عنه بشكل جلي شعار «لا علوية ولا سنية.. سوريا وحدة وطنية»، لكن هذا الواقع سرعان ما تراجع للخلف لعدة أسباب، أولها قيام النظام بقصف المدن، ودعوته ميلشيات شيعية في لبنان وإيران للمشاركة في قمع المتظاهرين، بالإضافة الى دور التيارات السلفية في أطراف المعارضة، التي فاقمت الحساسيات والمخاوف الطائفية لدى جميع الأقليات الدينية في سوريا .
بعد سنوات من الحرب، عادت الحساسيات الطائفية لتتراجع إلى الخلف مرة أخرى، فمع استمرار الحرب والفقر، الذي دخل كل بيوت السوريين تقريباً، والانهيار الواسع في الخدمات داخل البلاد، تولد شعور لدى كل الطوائف، وبالأخص من البعيدين عن السلطة، بأن وجود النظام قد فاقم أوضاعهم سوءاً، وأن كل خطابه التخويفي من الآخر، ما عاد كافياً، أو قادراً على تأمين لقمة الخبز. ولذلك عند فرار الأسد في يوم 8/12 ، وسقوط النظام، لم تخف غالبية أبناء الطوائف الدينية في سوريا فرحها لما جرى. اذ بدا أن كل خطاب التخويف من حدوث مجازر جماعية بحقهم، ليس سوى سيناريوهات غير واقعية، كما بدا أن سقوط النظام بالنسبة لهم، قد يكون بمثابة فرصة جديدة لتشكيل دولة مواطنة في البلاد. ولعل ما دعم هذا التوجه، أن الفصائل العسكرية في بداية التحرك تجاه دمشق، لم تبد أي حالات انتقام، كما أنها حاولت التأكيد على ضرورة عدم الانجرار لأي معارك ثأرية بين السوريين.
دمشق.. اليوم التالي
في 9/12 من هذا العام ، دخلت ما تسمى بفصائل إدارة العمليات مدينة دمشق. وسرعان ما حاولت هذه الفصائل ضبط حالة الفلتان الأمني التي عرفتها المدينة ليلاً. في المقابل، لم تحدث، وخلافا لما كان يشيعه النظام، أي عمليات انتقام جماعي في الساحل السوري، وإن تخلل الأمر عمليات استفزاز ما تزال مستمرة في الساحل السوري، حيث يتمركز أبناء الطائفة العلوية، وكذلك الحال بالنسبة للأحياء المسيحية وكنائسها، التي لم تحرق أو تتعرض للأذى كما حدث مثلا في الرقة والموصل خلال احتلالها من قبل «داعش». بدت الفصائل، التي تقودها «هيئة تحرير الشام» ذات الخلفية السلفية الجهادية، وكأنها قد تعلمت من دروس الماضي، وأنها قد تحمل نفساً آخر تجاه السوريين عموما، وأبناء الأقليات بشكل خاص.
العلويون في سوريا
كان سقوط النظام قد دفع بعدد من المثقفين والنخب العلوية إلى الدعوة لضرورة المراجعة، والاعتراف بأن النظام السوري قد ورط الطائفة في معركة كبيرة ضد باقي المجتمع. وقد صدر في هذا الشأن عدد من البيانات الموقعة من رجال وشخصيات علوية (نذير علي حسين، لؤي سلمان)، دعت إلى ضرورة أن يعتذر العلويون «للشعب السوري عن المآسي التي خلفها النظام المجرم ومارسها بسلوكه وتوجهاته». في المقابل يرى المترجم والمثقف السوري إياس حسن في حوار مع «القدس العربي»، أنه بالأحرى بدلاً من تحميل الطائفة العلوية، هكذا بالمطلق، أي موقف، من الواجب الإشارة إلى أن النظام الاستبدادي البائد، ولكي يجعل من نفسه المرجعية الوحيدة، عمل قاصدا على تفريغ المجتمع بشكل عام، والطائفة العلوية بشكل خاص، من المرجعيات التقليدية، سواء أكانت قوى سياسية، أو زعامات عشائرية أو شخصيات دينية، ولذلك يعتقد حسن أنه لا يمكن النظر إلى دور العلويين في النظام السابق، كدور نجم عن موقف طائفة تقودها مرجعية محددة، بل يعود إلى أفراد موظفين، ومن ثم فهو دور شبيه بدور بقية الطوائف والجماعات المؤيدة والمعارضة خلال الحقبة السابقة. وحول مخاوف العلويين من المستقبل، يعتقد حسن أن الضامن الوحيد لعدم معاقبة العلويين أو غيرهم من السوريين، يكون من خلال السعي نحو ضمانات دستورية، وتتضمن إقامة جمهورية برلمانية، وليس رئاسية، فتكون تعددية وتمنع الاستبداد، وهي الكفيلة بحماية العلويين بدلاً من ضمانات الدول الكبرى التي تعنى بتقسيم ولاءات أبناء هذه الأقلية، أو غيرها من الأقليات، ومن ثم سيتهمون أمام أول أزمة وطنية بأنهم عملاء لها. كما يعتقد أنه من الضروري التركيز على فكرة تأسيس أحزاب برامجية تنموية من دون قيود أيديولوجية، تهتم بالتنمية لصالح المجتمع ككل.
المسيحيون في سوريا:
بموازاة هذا التوجه، حاول النظام السوري إقناع باقي الطوائف، وبالأخص المسيحيين بأن وجوده هو ضمان لوجودهم واستمرارهم، وقد عمل على تعزيز هذه السردية داخل هذه الأوساط، مع ذلك بقيت أعداد لا بأس بها من المسيحيين، كباقي شرائح المجتمع الأخرى، تعارض النظام، وهو ما ظهر من خلال تولي بعض الأسماء المسيحية قيادة صفوف المعارضة، مثل المعارض الراحل ميشيل كيلو. ويؤكد الأكاديمي نجيب جورج عوض، أن المسيحيين شأنهم شأن باقي أهل سوريا، عانوا وظلموا وقمعوا تحت نير النظام الساقط، لهذا فإن الغالبية العظمى من المسيحيين فرحت واغتبطت واحتفلت بتحررها مع سوريا. وكانت قوى عديدة قد طالبت في الأيام الماضية بضرورة الحفاظ على مدنية الدولة وعلمانيتها، وهو ما آثار خلافا واسعاً حول معنى العلمانية، خاصة أن هناك شرائح واسعة تبدي ميولاً أوسع نحو تبني توجهات محافظة قريبة من توجهات السلطة الجديدة. وهنا يرى عوض أنه علينا أن نتذكر دوما أن الخمسين سنة الماضية من عهد الأسدين كانت سنوات بلا سياسة، إذ عمل النظام على قتل السياسة في سوريا، ومنع الأجيال السورية من التعرض للفكر السياسي، واختبار العمل السياسي المدني، وتطوير آليات وذهنيات تفكير سياسية خاصة بهم. لهذا ما نشهده من ممارسات ومواقف شعبوية وعشوائية وسيكولوجية بطبيعتها، وغير عقلانية ولا فكرية، من جمهور الجولاني ـ الشرع وحاشيته، سواء تجاه العلمانية أو تجاه أي مكون آخر، تعكس في جوهرها هذا الجهل بالفكر السياسي، وعدم التمرس في ممارسة السياسة. مع ذلك يعتقد عوض أن البداية يجب أن لا تكون بتسويق فكرة العلمانية، بل عبر خلق الفضاء الفكري السياسي الذي يمهد للتعاطي معها.
السلمية.. الإسماعيلون وسقوط النظام
وتعتبر مدينة السلمية، واحدة من المراكز الرئيسية للطائفة الإسماعيلية في سوريا. كما تضم المدينة نسبة من السنة، وعرفت في العقود الماضية، بنشاط أبنائها في الحركات اليسارية، وهو نشاط ساعد على تجاوز بعض الحساسيات الطائفية، وبالأخص على صعيد فكرة القبول بالزواج بين السنة والإسماعيليين. إذ لا تخلو عائلة داخل المدينة، من وجود علاقات قرابة بين الطائفتين. ويرى السوسيولوجي طلال مصطفى، أنه من الصعب الحديث داخل المجتمع السلمية (السلموني)، عن عائلة سنية صافية، أو إسماعيلية صافية، بحكم التزاوج الكبير بين الطائفتين، خاصة أن التعاليم الإسماعيلية مرنة جدا. ويضيف مصطفى، أنه تاريخياً لم تحدث صدامات بين الطائفة الإسماعيلية والسنة، وفي الغالب كانت الخلافات تجري بين الإسماعيليين والعلويين، وبالأخص في الفترة العثمانية وبدايات تشكل الدولة الحديثة، كما أن حافظ الأسد غالبا ما عاقب أبناء المدينة بأساليب متعددة. ومع اندلاع الثورة 2011، شارك أبناء السلمية بكثافة في المظاهرات، لكن هذه المشاركة تراجعت لاحقاً بسبب الخوف من بطش النظام، وصعود الدور السلفي في الثورة، لكن هذا الإحجام لم يكن يعني، حسب طلال، تأييدا من أبناء الإسماعيليين للنظام، بل ظلوا معارضين للنظام وسياساته، ولذلك عندما دخلت «هيئة تحرير الشام» للسلمية احتفل كل أبنائها تقريبا، خاصة أن هذا الدخول ترافق أيضا مع عودة عدد من أبناء المدينة، ممن كانوا في صفوف الهيئة.
لكن على الرغم من هذا التفاؤل، وحول السؤال عن مستقبل سوريا الجديدة، وبالأخص في ظل سيطرة جماعة ذات خلفية دينية، يؤكد مصطفى، أن هناك هواجس لدى أبناء المدينة، سواء الإسماعيليين أو السنة، فالمجتمع السلموني هو مجتمع منفتح، ولا يرغب بوجود دولة دينية. وعدم الرغبة هذه قد نراها بشكل أوسع في أوساط غير المتدينين، مقارنة بالإسماعيلي المتدين، لأن الأخير لديه اعتقاد ديني أن الإمام او المولى كريم آغا خان (إمام الاسماعيليين في العالم) هو من يحميهم، بحكم علاقاته الدولية الواسعة. وعن دور الإسماعيليين، أو المطلوب منهم في الفترة المقبلة، يعتقد مصطفى أن على الإسماعيليين عدم الوقوف على الحياد، أو انتظار ما الذي سيقدمه لهم النظام الجديد، بل عليهم المشاركة في الحوار الوطني المزمع عقده، والانخراط أكثر في العملية السياسية التي تتجه نحو إقامة دولة ديمقراطية تعكس مصالح كل الفئات.
الدروز.. بين الترحيب والحذر
وربما يعتبر موقف الدروز خلال الثورة، هو الأكثر وضوحا من بين كل الأقليات الدينية السورية، إذ حاولت قيادات درزية عديدة، وفي مقدمتهم الراحل وحيد البلعوس، تحييد دروز السويداء على الأخص، من المشاركة في عمليات جيش النظام السوري. ولعل هذا الموقف، فاقم من حدة الخلافات بين الطرفين، التي وصلت أحيانا إلى التهديد بمواجهة الطائفة العلوية، ولاحقا اغتيال البلعوس، لكن التحول الأهم في هذه العلاقة، ربما جرى في السنتين الأخيرتين على وجه الخصوص، فبدءاً من آب/أغسطس 2023، وحتى سقوط النظام، قام أهالي السويداء بالقطعية مع النظام، من خلال طرد أفرع الحزب، والسيطرة على مؤسسات الدولة، وإدارة المدينة بشكل منفصل تقريبا عن قرارات الدولة. ويؤكد الباحث مازن عزي، أن السويداء خلال هذه السنة كانت تقوم بثورتها الخاصة، ولذلك عندما جاءت لحظة سقوط النظام السوري، اعتبر الدروز ما جرى بوصفه يوم عيد. وهذا الشعور بالنصر والفرح بسقوط النظام، بقي هو السائد الى هذه اللحظة، إلا أن عزي يعتقد بالمقابل أن ذلك لم يمنع من قلق الوسط الدرزي، فعلى الرغم من التطمينات التي حاولت السلطة الجديدة (ذات الخلفية الإسلامية) بعثها لكل الأقليات، إلا أن ذلك لم يكف لتطمينهم، خاصة أن التعيينات التي قام بها الشرع، والتي جاءت في الغالب بشخصيات ذات خلفية دينية، ومقربة منه، قد زادت من هذا القلق تجاه أن تكون السلطة المقبلة سلطة بمرجعية إسلامية. هذا الأمر حسب عزي، أدى إلى بروز مشهد جديد، من طائفة محتفية بشكل هائل بسقوط النظام، إلى جماعة خائفة وقلقة ومتوجسة، خاصة أن الحديث عن دولة وطنية مدنية ظل غير واضح في كلام الشرع، الذي حسب بعض الأوساط الدرزية، ما تزال خطاباته إما عمومية، أو غير واضحة، وهو ما يفاقم من شعور الدروز عموما في سوريا بالتوجس من المستقبل الذي حلموا به.
كاتب سوري
القدس العربي
————————–
نحو الإقرار بـ”المسألة الطائفية” في سوريا/ إياد الجعفري
2024.12.31
يتم في هذه الأيام، تداول أهزوجة غنائية بكثافة كبيرة عبر منصات التواصل الاجتماعي، تحمل “نكاية طائفية” واضحة تجاه إيران، بصورة خاصة، وقد تم ترديدها مؤخراً من جانب متظاهرين محتفلين بانتصار الثورة في دمشق.
تقول الأهزوجة: “يا إيران جني جني، بدو يحكمنا سنّي”، وتضمنت هتافات “اللعن” لروح حافظ الأسد، وبشار وماهر، وحزب البعث، وألفاظ استهانة بـ”فرع الجوية”، والملفت، أنها تتضمن أيضاً إشارة إلى التآمر الخارجي ضد “الأغلبية” في سوريا، بعبارة “كلو علينا متآمر”.
أقدم تسجيل متوافر لهذه الأهزوجة يرجع لما قبل خمس سنوات، ولا نعرف إن كانت ترجع إلى أهازيج المظاهرات ضد نظام الأسد في سنوات الثورة الأولى، لكن ما يهم، أنها تتضمن إشارة إلى “سردية” خاصة بـ”الأغلبية” في سوريا، بحمولة تعبّر عن “المظلومية” التي تحملها تلك السردية.
يحلو للكثيرين، بعضهم مثقفون من الطراز الرفيع ومسؤولو تحرير بوسائل إعلام، رفض تناول المسألة الطائفية في سوريا، بصورة مباشرة، بل ويعتقدون ذلك شكلاً من أشكال حماية وحدة البلاد، والسلم الأهلي بين سكانه، بينما يعتقد آخرون، وهم على الضفة الأخرى من الباحثين والإعلاميين، أن الإقرار بمشكلة ما، هو الخطوة الأولى نحو البحث بسبل معالجتها، بينما التعمية عليها، والتعتيم على خباياها، يجعلها تعتمل في الخفاء، لتنفجر في لحظة ما، لتخرج عن السيطرة.
دعونا بدايةً، نقرّ بأن حدة العنف الطائفي بعد الإطاحة بنظام الأسد، جاءت أقل مما كان متوقعاً، بحسب وصف صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية، قبل أيام، ونتفق بالتأكيد مع هذا التوصيف، إذ كان من المتوقّع شلال دماء، وما تزال المخاوف قائمة، لكن الرهانات الإيجابية تزداد، مع الابتعاد أكثر عن لحظة الإطاحة بالأسد.
لماذا نجت سوريا من كارثة عنف طائفي منفلت، كما كان متوقعاً لها؟ تُرجع “واشنطن بوست” ذلك إلى أداء “هيئة تحرير الشام”، التي تمكنت من لجم عمليات القتل الانتقامية، وقد وقع بعضها بالفعل، لكنها كانت محدودة مقارنة بأكثر من عقدٍ من الاعتمال “الطائفي” الناجم عن سياسة النظام البائد.
وقد نجحت الهيئة، حتى الآن، في لجم التوترات، إلى حدٍ كبير. وتلفت الصحيفة إلى عامل ثانٍ، ساهم في لجم العنف “الطائفي”، الذي كان محتملاً، وهو أن قوات نظام الأسد اختارت في معظمها، عدم الدفاع عن النظام، وعن رأس الهرم فيه، في الأيام الأخيرة قبل سقوطه.
الحيثية الأخيرة يجب الوقوف عندها مطوّلاً، فقد كُتب الكثير عن أسباب السقوط السريع لنظام الأسد، خلال 11 يوماً، وأجمع الكثير من المراقبين على عامل رئيس، يتمثّل في انهيار معنويات المقاتلين في ضفة النظام، وعدم رغبتهم في القتال، وهو أمر ناقشه بشار الأسد شخصياً مع وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، في آخر لقاء للأخير معه، بدمشق، قبيل فراره إلى موسكو.
وتلك لحظة تاريخية، يجب التقاطها، فالحاضنة الموالية للنظام، التي كانت سبباً رئيسياً في حمايته، طوال عقود، تخلّت عنه في اللحظات الأخيرة، بعد أن وصلت إلى قناعة يائسة حيال مستقبلها في ظله، تلك الحاضنة التي لطالما كان الكتّاب والمثقفون من المعارضة خلال سنوات الثورة يتساءلون ويبحثون في كيفية جذبها بعيداً عن عائلة الأسد، وقد حصل ذلك بالفعل، نتيجة أخطاء إدارة هذه العائلة المافيوية للمشهد الاقتصادي في البلاد المدمّرة، بعد العام 2018.
لكن قبل أيام، كان تسريب فيديو قديم للاعتداء على مقام ديني بحلب، كفيلاً بانفجار توترات أخذت مساراً دامياً في بعض المناطق السورية، قبل أن يتم حصرها وضبطها سريعاً، بأداء مقبول بدرجة كبيرة من جانب السلطات الأمنية التابعة للإدارة السورية الجديدة بدمشق.
وخلال تلك التوترات، والتي تخللتها تظاهرات، طفت إلى السطح هتافات طائفية مباشرة، بطبيعة الحال، يمكن الاتفاق مع الرأي القائل بأن “فلول النظام البائد” لعبوا دوراً بارزاً في التحريض، لحماية أنفسهم من المحاسبة، من جراء الجرائم التي ارتكبوها في حقبة حكم الأسد، خاصة بعد العام 2011.
كذلك، يمكن الاتفاق مع الاحتمال الكبير لوجود دور إيراني تحريضي عبر عملاء ومتعاونين من جانب “الفلول” ذاتهم، لكن في الوقت ذاته، يبدو إنكار وجود أرضية مناسبة تتيح إمكانية تفعيل هكذا تحريض، في أوساط شريحة من السوريين، ضرباً من الإنكار غير الصحي، فنظام الأسد الأب أسّس عصبيته الضيّقة التي شكّلت ركيزة النظام الأساسية، على بُنى نفسية وثقافية مستندة إلى “مظلومية” مزعومة من جانب أبناء الحاضنة الموالية، تستند بدورها إلى “سردية” خاصة بها.
قبل التوترات التي أعقبت تسريب فيديو “المقام”، بنحو أسبوع، كان يمكن رصد تعليقات كثيفة متشنجة حيال تصريحات الرئيس الروحي لطائفة الموحدين الدروز، حكمت الهجري، والتي دعا فيها إلى نظام لامركزي إداري، وإلى “دولة مدنية”، موضحاً عدم استعداد “الدروز” للخضوع لأي “سلطة فئوية أو حزبية أو دينية أو جهة إقليمية خاصة”.
هذه التصريحات فُهمت من جانب كثيرين من زاوية الطابع الإسلامي للسلطة الحاكمة الآن في دمشق، وشكل الدولة المرتقب الذي تعتزم التأسيس له، وكان يمكن تسجيل عدد كبير من التعليقات التي أدانت هذه التصريحات، مركّزةً على حق “الأغلبية” في اعتماد شكل الحكم الذي ترغبه، مع احترام حقوق “الأقليات”، إلى جانب رواج مقولة “من يحرّر يقرر”.
وكذلك، نعلم، كان من جوانب رسوخ نظام الأسد، لعقود، إدعاؤه حماية “الأقليات” من حكم “الأغلبية السُنيّة”، الذي سيكون “إسلامياً” إقصائياً، وفق ما كان يروّج له النظام، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وكانت هذه “السردية” سبباً رئيساً لانكفاء شرائح واسعة من أبناء “الأقليات” عن الانخراط بالحراك الثوري بعيد ربيع العام 2011.
وبخلاف المبدأ القائل بالتعتيم على المسألة الطائفية في سوريا، أو حتى إنكار وجودها من الأساس، وفق قاعدة أن هذه “الطائفية” وليدة تدخلات خارجية، نذهب من جانبنا إلى أن الإقرار بوجود مسألة “طائفية” في سوريا، والعمل على تفكيكها، هو الخطوة الأولى على طريق العلاج منها.
فالتدخلات الخارجية لا تستطيع الفعل، دون وجود أرضية اجتماعية-ثقافية، تتفاعل معها، وإنكار هذه الحقيقة، يتيح ولادة “سرديات” و”مظلوميات” جديدة، تكون أساساً لحالات اصطفاف غير صحية في العلاقة بين مكونات سوريا المتنوعة، كما حدث خلال حقبة حكم آل الأسد.
وفي الوقت الذي نتجه فيه نحو مؤتمر وطني من المزمع له أن يرسم معالم سوريا المستقبل، يجب على المؤثرين فيه، الإقرار بالحقائق القائمة على الأرض، والانطلاق منها، لا اختلاق واقع افتراضي والعمل على تنزيله على الواقع القائم.
لأن ذلك لا يعني إلا إعادة استنساخ إحدى أبرز مثالب حكم آل الأسد، حينما كان الخطاب الرسمي ينفي المسألة “الطائفية”، ويجرّم الحديث فيها، فيما كانت المشاعر الناجمة عنها، تعتمل كراهيةً وانغلاقاً بين مكونات الطيف السوري، ليكون ذلك ركيزة لقدرة نظام الأسد البائد على تفريق السوريين حيال مظالمه، والبناء على تناقضاتهم التي عمل بكثافة على تعميقها، وتعفّنها.
تلفزيون سوريا
————————–
العدالة الانتقالية في سوريا الجديدة لكي تبرد روح الثأر والانتقام/ أنور البني
لا ينتظر السوريون أسلوب “تبويس اللحى” و”عفا الله عما مضى”
31 ديسمبر 2024
أصبح من المتفق عليه أن العدالة الانتقالية هي الأنسب للتعامل مع المعضلات الناتجة عن الحروب والصراعات الداخلية العنيفة، والتي تتخللها جرائم جسيمة. فإغلاق المرحلة السابقة، واستعادة السلم الأهلي ووحدة المجتمع، والمصالحة الداخلية، يتطلب تهدئة النفوس برد المظالم وإعادة الحقوق لأصحابها، والتعويض على المتضررين، والكشف عن مصير المفقودين، وإظهار حقائق ما جرى، وتحديد المسؤوليات، ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات والجرائم الجسيمة، عبر المؤسسات القانونية والقضائية (وهذا شرط لازم وواجب وضروري).
فلا يمكن أن تبرد روح الثأر والانتقام، أو تتم محاصرة الفوضى المحتملة، ما لم يشعر المتضررون/ات بأن حقوقهم/ن لن تضيع، وأن الجاني لن يفلت من العقاب. ولا يمكن للإنسان أن يغذي انتماءه إلى المجتمع أو يساهم في بنائه إذا لم يطمئن إلى أنه سيحصل على العدالة.
وتختلف العدالة الانتقالية عن العدالة التقليدية في الأهداف والقواعد والمعايير والهيئات والآليات، فالظروف الاستثنائية التي وُجدت لمعالجتها، والتي لا تستطيع العدالة المعتادة التعامل معها، تُميزها بخصوصيتها، ومن ذلك حزمة أهدافها المترابطة.
والحال أن العدالة الانتقالية لا تكتفي بإدانة المجرمين وتطبيق القانون، بل تفعل ذلك وهي تركز اهتمامها على استعادة السلم الأهلي، وتحقيق المصالحة الوطنية، ومحو آثار الصراع العنيف، الذي يهدد، إذا بقيت آثاره، بإعادة إشعاله. فعلى سبيل المثال، إن إسقاط الحق الشخصي أو عدم الادعاء من قبل المتضررين/ات بالنسبة لعدد كبير من الجرائم الواقعة بحقهم/ن قد يؤدي إلى إسقاط الدعوى كلها، خلافا للقانون العادي، مع حفظ حقوق هؤلاء المتضررين/ات بالتعويض، الذي يقع على عاتق الدولة عبر مؤسسة العدالة الانتقالية نفسها. وهنا لا دور لمؤسسة النيابة العامة كجهة مدافعة عن المجتمع، إلا في القضايا التي تمس المجتمع كله.
ولا ينحصر هدف العدالة الانتقالية في محاسبة مرتكبي الجرائم وبعث الطمأنينة في نفوس الضحايا بأن حقوقهم لن تهدر، بل يتعداه إلى إعطاء الطمأنينة لغير المرتكبين بأنهم لن يُحاسبوا أو يُقتص منهم عن جرائم لم يرتكبوها. مثلما تعطي ضمانة مهمة للمرتكبين أنفسهم بأنهم لن يكونوا تحت وطأة رد الفعل الثأري، وأن مؤسسات العدالة والقضاء هي التي ستحاسبهم بالدلائل والقرائن المثبتة على ما ارتكبوه.
ولعل أهم ما يميز القواعد والمعايير الحاكمة للعدالة الانتقالية أنها تستند إلى القواعد والقوانين العالمية، مع الأخذ في الاعتبار أن كثيرا من الجرائم المرتكبة في ظروف الصراع الأهلي الاستثنائي قد لا تغطيها القوانين المحلية أو تتناولها بالنص، لأنها جرائم ذات طبيعة استثنائية، وتتطلب مرجعية دولية أنتجتها ظروف وأحداث مماثلة.
والتميز، أو الاختلاف، الآخر هو أن مؤسسة العدالة العادية تستند إلى الهيئات القضائية الطبيعية وتقتصر على القضاة فقط الذين يديرونها، بينما تتفرع عن مؤسسة العدالة الانتقالية هيئاتٌ عدة لها طراز مختلف عن التركيبة القضائية، وتضم بعض ممثلي المجتمع وهيئاته المتنوعة لتشارك القضاة والمحاكم في تحقيق العدالة.
في الواقع السوري، كان أكثر ما عانى منه السوريون والسوريات خلال أكثر من خمسة عقود هو انعدام العدالة. فقد منح الرئيس نفسه حصانة دستورية تامة من المحاكمة والعقاب من خلال المادة 117 من الدستور، ومنح الحصانة القانونية من المحاكمة والعقاب لرجال الأمن والجيش والشرطة، ما لم يأذن وزير الدفاع أو مدير إدارة أمن الدولة بذلك.
وهذا ما أعطى هؤلاء الصلاحية ليرتكبوا ما شاءوا من الانتهاكات قبل عام 2011، ومن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية بعد ذلك التاريخ، دون رادع.
سيطرة الرئيس على السلطة القضائية
في عهد الأسد البائد، سيطر الرئيس على السلطة القضائية باعتباره رئيس مجلس القضاء الأعلى، ففرغ القضاء من رجالاته، وأصبح التعيين يعتمد على الولاء فقط، فأصبح القضاء أداة قمع وطمس لحقوق السوريات والسوريين. وأعتقد جازما أن فقدان العدالة كان من أول وأهم الأسباب التي دفعت السوريين والسوريات للثورة على النظام عام 2011.
وما جرى في سوريا منذ عام 2011 من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، التي قلما شهد التاريخ لها مثيلا في البشاعة والإجرام، وما تكشف حتى الآن هو رأس جبل جليد من تلك الفظائع، تجاه كل مكونات الشعب السوري. وقد تأثر بها كل سوري وسورية حتما، مما يجعل موضوع العدالة حجر الزاوية والأساس الذي تُبنى عليه سوريا الجديدة.
لقد خلقت كل تلك الجرائم وانعدام فرص العدالة التي استمرت أكثر من عقد حالة من الاحتقان الشعبي المجتمعي، وأحدثت شروخا طولية وعرضية في المجتمع السوري، طائفيا ومناطقيا وحتى عائليا. ولا يمكن أن يشعر أي سوري أو سورية بالأمان مجددا ما دام يرى من قتل عائلته أو دمر بيته وهجره طليقا ويعيش مع عائلته بجواره وكأن لا شيء حدث.
ولا يمكن لأي سلطة أن تحكم دون، وقبل، أن تهدأ النفوس. وهو ما تحمله العدالة الانتقالية على عاتقها، لتخفيف الاحتقان، ومنع حالات الانتقام الفردية والجماعية. ولا يمكن للمجتمع السوري الاستقرار والمضي نحو المستقبل قبل شعوره بأن العدالة ستأخذ مجراها، وأن هناك إجراءات ملموسة لتحقيقها للتأكد من أن المجرمين الذين ارتكبوا كل تلك الفظائع بحقه سيواجهون العدالة والعقاب.
ولكن هناك عقبات قانونية أمام السلطة الجديدة في سوريا لتحقيق ذلك:
أولا: فساد وعدم كفاءة السلطة القضائية والجهاز القضائي بأكمله، وعدم قدرته على القيام بدوره في العدالة الانتقالية ضمن تركيبته الحالية.
ثانيا: عدم وجود نصوص قانونية في قانون العقوبات السوري تنص على عقاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وهذا ما يمنع من اتهام المجرمين بمثل هذه الجرائم، وتنخفض التهم إلى مستوى تهم قتل فردية لا تعبر أبدا عن فظاعة الجريمة ولا تروي القصة الحقيقية لها.
ثالثا: وحيث إن معظم مجرمي الحرب، ولا سيما الكبار منهم، قد فروا إلى دول أخرى، فمن المستبعد أن تقوم بعض تلك الدول بتسليم المجرمين إذا كانوا سيواجهون عقوبة الإعدام المنصوص عليها في قانون العقوبات السوري والممنوعة لديهم حسب القانون الدولي.
أهمية العدالة التأسيسية
لذلك، فالمطلوب والضروري من أجل البدء ببناء المستقبل عبر عدالة تأسيسية، أن يتم إنشاء هيئة مستقلة للعدالة الانتقالية تكون مهامها:
أولا: استحداث محكمة، أو عدة محاكم، خاصة مختلطة بين قضاة سوريين/ات ودوليين/ات لضمان الحيادية ومحاكمات عادلة وشفافة، فكل أعين العالم ستكون مركزة عليها. وستعتمد هذه المحكمة بقرار تشكيلها آليات محكمة الجنايات الدولية، والقوانين التجريمية التي جاءت في اتفاقية روما، للنظر في الجرائم المرتكبة منذ عام 2011، وملاحقة المجرمين والقبض عليهم ومصادرة الأموال والأشياء المنهوبة والمسروقة، وإعادة الحال لما كان عليه في الحالات التي تستوجب ذلك. ويجب أن يكون قضاة هذه المحاكم من القضاة المشهود لهم بالنزاهة والحيادية والاستقلال.
ثانيا: إنشاء صندوق خاص يمول من الدولة والمنح الدولية والمحلية، ومن مصادرات أموال المجرمين المنقولة وغير المنقولة، لتعويض الأذى الجسدي والمادي للمواطنين/ات المتضررين/ات شخصيا أو بفقدان أحد أو أكثر من أفراد أسرتهم/ن وأحبائهم/ن، وأيضا التعويض للجرحى والمعاقين/ات ولمن تدمرت منازلهم/ن أو أماكن عملهم/ن أو ممتلكاتهم كليا أو جزئيا. ويتم ذلك عبر لجان فنية مختصة تقوم بالمسح الميداني لكل المناطق، فتضع قائمة بأسماء الضحايا والمفقودين/ات، وتقدير قيمة الأضرار المادية وتحديد عدد المصابين/ات والجرحى وتأمين استمرار علاجهم/ن. ويمكن أن يمتد لاحقا اختصاص هذا الصندوق للانتهاكات التي حصلت قبل عام 2011.
ثالثا: تشكيل لجان للسلم الأهلي والمصالحة الوطنية لمعالجة الانقسامات الحادة في القرى والبلدات التي شهدت حالات من الانتهاكات داخلها، ومن ذلك صراعات دموية، سواء داخلها أو ما بينها. بحيث تضم هذه اللجان شخصيات ثقافية وعلمية وقانونية وفنية ودينية واجتماعية ذات احترام عام، تتجه إلى المناطق التي شهدت نزاعات أو إشكالات دينية أو طائفية أو قومية لتهدئة النفوس وإرساء الصلح وتبديد الشكوك وإعادة الثقة بين مكونات المجتمع. وتكون من مهمات هذه اللجان أيضا المساهمة في الكشف عن المفقودين/ات والمختطفين/ات والمعتقلين/ات وإعادتهم لأهلهم، كما تعمل على إقامة لجان وجمعيات للدعم والعلاج النفسي لضحايا الانتهاكات بمسار موازٍ لمحاسبة المجرمين وجبر الضرر.
رابعا: تشكيل مكتب إعلامي مهمته القيام بحملة شاملة لشرح مفهوم العدالة الانتقالية، ووسائلها، وهيئاتها، ودورها. واستخدام كل وسائل الإعلام المرئي والمسموع والمقروء من أجل القيام بوظيفته. ويديرها مختصون/ات قانونيون/ات واجتماعيون/ات. وتساعدهم في ذلك لجان من الشباب المتطوعين تُشكل بالتعاون مع جمعيات أهلية، ويُجرى تدريبهم/ن لإيصال فكرة العدالة الانتقالية إلى كل المواطنين/ات ومساعدتهم/ن على التفاعل مع هيئاتها والثقة بها وتقديم طلباتهم إليها ومتابعتها.
خامسا، إنشاء مكتب لتخليد الذكرى، ومهمته توثيق الأحداث التي مرت، وتوضيحها وتأريخها، بما في ذلك تخليد أسماء الضحايا الذين قضوا عبر النصب التذكارية أو إطلاق أسمائهم/ن على المدارس والأماكن والساحات في المواقع الجغرافية التي سقطوا فيها، وإدخال هذه المعلومات في كتب التاريخ للمدارس حتى يكون ما مر على البلاد درسا يستفيد الجميع منه ويشكل عبرة ومأثرة للأجيال المقبلة، ولا تضيع التضحيات الكبرى التي قُدمت، بل تكون صورتها ماثلة دائما في ذاكرة المجتمع وخالدة في ذاكرة الوطن.
ويمكن الحديث هنا عن مسألة العفو ودوره في إرساء المصالحة وليس تغييب العدالة. فاستخدام هذا الطريق ضروري، ولكن لا يمكن أن يكون عاما بحيث تضمد الجروح وهي ما زالت تنزف، أو من دون تعقيمها، فتشكل نارا تحت الرماد يمكن تأجيجها في أي وقت. بل يجب أن يكون محدودا وخاصا، ويُستعمل بشكل دقيق لإغلاق ملفات تم إنهاؤها أهليا وتمت المصالحات بشأنها، وليس كأسلوب “تبويس اللحى” و”عفا الله عما مضى”.
إن ما دفعه الشعب السوري من ثمن غالٍ جدا من الضحايا والتضحيات للوصول إلى الخلاص من أبشع نظام ديكتاتوري يجعل من العدالة الانتقالية وتهيئة مؤسساتها وهيئاتها أولى المهمات في هذه المرحلة. وعلينا البدء الفوري بتأسيسها والقيام بحملة شعبية لنشر مفهومها وتعريف المواطنين بها، لنضع اللبنة الأولى وحجر الزاوية لإعادة بناء سوريا الجديدة.
المجلة
————————–
وجهة نظر في الإجابة عن أسئلة الانتقال وإشكالية من يحكم؟/ حمزة المصطفى
2024.12.31
في أدبيات العلوم السياسية وحقل التحول الديمقراطي، يشير مصطلح “الانتقال” إلى عملية إجرائية تتضمن وجود طرفين في معسكرين متناقضين ومتصارعين يرغبون بإحداث “تغيير” ينهي أزمة حادة أو استعصاء سياسيا لا يمكن حسمه عسكريًا؛ جناحين متشدد ومرن (Hard Liners vs Soft liners) كما في تجارب أميركا اللاتينية؛ انقلاب عسكري يسلم السلطة للمعارضة كما في البرتغال؛ مبادرة من النظام لإنضاج توافقات ميثاقية مع المعارضة “Pacts” كما هو الحال في أوروبا الشرقية.
بهذا المعنى، يرتبط الانتقال بوجود فترة ومسار “انتقالي” تقوده هيئة أو جسم انتقالي حتى يترسخ النظام الجديد٬ والترسخ بحسب منظري الدمقرطة الليبراليين، يحصل بعد دروتين لانتخابات عادلة ونزيهة “Free and Fare Election”.
بالإسقاط على الحالة السورية، لا يمكن توصيف ما جرى بالانتقال لأن النظام سقط بطريقة عسكرية من قبل “حركة عسكرية معارضة” وقد أدى انهيار النظام إلى انهيار الدولة نتيجة انحلال الجهاز القسري “الأمن والجيش” الذي يختصر التعريف الفيبري للدولة لتحل محله “حكومة التمرد” التي أسقطت النظام. باختصار، ما يجري في سوريا لا يعد انتقالا، بل “تأسيس جديد” نتفق أو نختلف عليه. من هنا، وبحكم تجارب التاريخ، تميل حركات التمرد أو التحرر التي تصل إلى السلطة بطرق عسكرية أن تحكم وتفضل أن تحكم بنفسها وبفريقها على الأقل بالمفاصل السيادية الحساسة. وعليه، سيكون من غير الواقعي مطالبتها بألا تحكم، وقد يكون من غير الواقعي مطالبتها بتقاسم واسع للحكم على الأقل في بدايات حصول التغيير.
قد يقول قائل بأن الطرح السابق يعبر عن إقرار أو استسلام للوضع القائم الذي لا يتناسب مع حالة ثورة شعبية قدمت من أجلها تضحيات جسام من قبل شرائح مجتمعية كبيرة وقوى سياسية عديدة لتحكم حركة مسلحة “بشرعية الثورة” مع أن الأخيرة لم تعترف بالثورة، خطابها، رموزها، وأهدافها إلا في مرحلة متأخرة؛ تساؤلات محقة تتطلب إجابات سياقية نراها على الشكل الآتي.
من غير المهم بالنسبة لنا من يحكم حاليا، فالأهم هو كيف سيحكم؟ السؤال الأخير جوهري في تأطير عمل الحركات الاجتماعية والسياسية في المرحلة القادمة خارج التنافس على المناصب والذي قد يعرضها لانتقادات لاسيما أن من يحكم يتسلح بذخيرة معنوية ضخمة تعبر عنها “شرعية الإنجاز” بإسقاط النظام، والتي كانت خارج متناول السوريين أو توقعاتهم.
باختصار، فإن لب العمل السياسي يجب أن ينصب على الضغط على القوى الحاكمة من أجل “التوافق” على المبادئ والآليات التي سيحكمون بها بما فيها طريقة وإجراءات إدارة الدولة في المرحلة التأسيسية والتي من شأنها أن تسمح بإدارة الخلافات والصراعات السياسية بطريقة سلمية وتمهد الطريق لبناء دولة مدنية وديمقراطية بطريقة تراكمية بحيث لا يتطلب إنجاز التغيير فيها ثورة جديدة.
يعرف “التوافق” أكاديميا بأنه “طريقة غير ديمقراطية” ويوصف بأنه “أسهل الطرق للوصول إلى الديمقراطية” لأن الأخيرة دونها كثير من التضحيات وتتطلب مراحل تمهيدية لتتحقق عناصر مهمة أبرزها توافر الإجماع على الدولة٬ التحديث، التعلم الديمقراطي، طريق صعب وطويل لكنه ليس مستحيلا، وكما خضعت القوى الحاكمة نتيجة الضغط السياسي وتفاعلاتها مع المجتمعات المحلية في المرحلة السابقة إلى تحولات سلوكية وتنظيمية مهمة مع بضع التحولات الأيديدلوجية فإن “تغيرها” ما يزال ممكنا ومتاحا وقد يكون أسرع بحكم دخول “العامل الخارجي والعلاقات الدولية” على الخط بعد انتقالها من السمة “الفصائلية” إلى السمة “الدولتية”.
قامت الثورة السورية من أجل الحرية والكرامة والسعي لبناء دولة ديمقراطية، وهي بهذا المعنى ليست معنية بإسقاط النظام وتغيير الحكم فقط، بل بإنجاز نظام ديمقراطي بديل. وانطلاقا من المقولة التأسيسية “لا ديمقراطية دون ديمقراطيين” فإن مهمة النخب السياسية اليوم الاستفادة من هامش الحرية المتاح بعد إسقاط النظام واستعادة المجال العام الواقعي لا الافتراضي وتنظيم جهودها وتأطيره لخدمة هذا الهدف خارج المصالح الشخصية والآنية.
———————
حضور تركيا يتعاظم في سورية/ محمد أمين
31 ديسمبر 2024
منذ سقوط نظام بشار الأسد في الثامن من شهر ديسمبر/كانون الأول الحالي، برز اندفاع تركي واسع النطاق تجاه دمشق. وسجلت زيارات متلاحقة لكبار المسؤولين الأتراك، وسط تصريحات تؤكد دعم أنقرة الكامل للسلطة الجديدة في سورية أقرب ما تكون إلى تبنيها ورغبتها في أن يكون لها دور مؤثر في تشكيل العديد من هيئات السلطة الجديدة. وكان رئيس جهاز المخابرات التركي إبراهيم قالن أول الواصلين إلى دمشق، ثم وزير الخارجية التركي هاكان فيدان. كما أعلن فيدان في 14 من الشهر الحالي، استئناف العمل في سفارة بلاده في دمشق بعد توقف استمر نحو 12 عاماً. وسبقت زيارة قالن وفيدان دمشق وصول وزراء خارجية عرب في تأكيد على النفوذ الكبير الذي باتت تتمتع به أنقرة في سورية.
لكن وعلى الرغم من أن تركيا وقفت إلى جانب السوريين في ثورتهم منذ العام 2011، فإن ذلك لا يلغي وجود قلق لدى قطاع واسع من السوريين من اتساع النفوذ التركي في بلادهم على حساب المصالح السورية. كذلك هناك قلق عربي من توسع نفوذ تركيا في سورية بشكل يتخطى ذلك العربي، بما يؤثر على مصالحهم. وكرر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في خطاب في أنقرة أخيراً، تأكيد دعم بلاده للشعب السوري، وأنه “عاجلاً أم آجلاً ستنسحب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها في سورية مستغلة الأوضاع، وستكون مجبرة على ذلك”، معتبراً أن “السبب وراء العدوان الإسرائيلي المتزايد هو التعتيم على الثورة في سورية وخنق آمال شعبها”. وشدد أردوغان على أن تركيا لن تحيد عن حماية سلامة أراضي سورية ووحدتها تحت أي شرط كان. وأكد عزم بلاده على مواصلة تنفيذ عمليات عسكرية “دقيقة” ضد “الإرهابيين” في سورية، مطالباً تنظيم حزب العمال الكردستاني، وأذرعه بحل أنفسهم “أو ستتم تصفيتهم”. وشدد على أن تركيا وقطر ستدعمان جهود سورية في تضميد جراحها والوقوف على قدميها من جديد، موضحاً أن “تركيا في حالة حوار وثيق مع قائد الثورة السورية أحمد الشرع”، ومشيراً، في هذا السياق، إلى زيارة قالن وفيدان إلى دمشق وتفعيل عمل السفارة التركية هناك بسرعة. كما أعلن أردوغان، في تصريح صحافي الأربعاء الماضي، أنه سيتم إعادة فتح القنصلية التركية في حلب، التي ظلت مغلقة بسبب الحرب السورية.
وأعلن وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي ألب أرسلان بيرقدار، في تصريح للصحافيين الأسبوع الماضي، أن وفداً من الوزارة سيتوجه إلى سورية قريباً للنظر في البنية التحتية للكهرباء والطاقة. ونقلت وكالة بلومبيرغ للأنباء الثلاثاء الماضي عن وزير النقل والبنية التحتية التركي، عبد القادر أورال أوغلو، قوله إن بلاده تعتزم بدء مفاوضات مع سورية لترسيم الحدود البحرية في البحر المتوسط، معتبراً أن مثل هذه الصفقة ستسمح للبلدين “بزيادة منطقة نفوذهما” في استكشاف الطاقة. وأوضح أن أي اتفاق في المستقبل سيكون متوافقاً مع القانون الدولي.
وعارضت اليونان، في بيان أصدرته في 15 الشهر الحالي، اعتزام تركيا إبرام اتفاق بحري مع سورية، ووصفت الحكومة السورية بأنها “سلطة انتقالية” غير قادرة على توقيع اتفاقيات صحيحة من الناحية القانونية، بحسب ما أوردته صحيفة “إيكاتيميريني” اليونانية. وقالت مصادر دبلوماسية يونانية للصحيفة، إن “الوضع في سورية انتقالي، ولا يضفي الشرعية على مثل هذه الاتفاقيات”، مضيفة: “نراقب التطورات عن كثب، وإننا على اتصال دائم مع قبرص والدول المجاورة والاتحاد الأوروبي”. وحذر مسؤولون يونانيون، بحسب وكالة أسوشييتد برس، من أن الاتفاق قد يقوض الحقوق السيادية لبلادهم، ويشكل سابقة تتحدى الحقوق البحرية لجزر مثل كريت وقبرص. يشار إلى أن اتفاقاً بحرياً تم توقيعه بين تركيا وليبيا في العام 2019، كان قد أدى إلى تصعيد التوترات بين تركيا واليونان، بشأن استكشاف الطاقة في البحر المتوسط.
مسافرون ينتظرون القطار في إحدى محطات العاصمة التركية أنقرة (الأناضول)
ووقفت تركيا إلى جانب السوريين في ثورتهم ضد نظام الأسد منذ العام 2011، واستضافت ملايين اللاجئين السوريين على أراضيها، ووفرت غطاء سياسياً للمعارضة ودعماً عسكرياً للفصائل التي أسقطت النظام أخيراً في يوم عُدّ نهاية للنفوذ الإيراني وبدء انحسار النفوذ الروسي في سورية، وبداية النفوذ التركي. وكان الشمال السوري وحده مجال أنقرة الحيوي في سورية لعدة سنوات، إلا أن التغيير الذي حدث في الثامن من الشهر الحالي فتح الأبواب السورية الواسعة أمام نفوذ تركيا على مختلف الصعد وهو ما يطرح علامات استفهام حول حدوده. لكن أوساطاً دبلوماسية تركية، تواصلت معها “العربي الجديد”، وضعت الزيارات الرفيعة للمسؤولين الأتراك في سياق رسائل قوية موجهة للمنطقة والعالم بضرورة دعم الإدارة الجديدة ومنحها فرصة للقيام بمهامها والإسراع قدر الإمكان بتنفيذ الانتقال السياسي ما يساهم في رفع العقوبات الدولية وبدء مرحلة إعادة الإعمار. وبحسب الأوساط نفسها، فإن هناك قراراً سياسياً تركياً بتقديم كل أنواع الدعم للإدارة الجديدة على كافة المستويات. وأشارت إلى أن المؤسسات التركية تريد العمل في سورية وهو ما يستدعي إنهاء ملف العقوبات الاقتصادية.
قلق عربي من نفوذ تركيا في سورية
ورأى المحلل السياسي التركي فراس رضوان أوغلو، في حديث مع “العربي الجديد”، أن القلق العربي من النفوذ التركي في سورية ربما يظهر “في حال حاولت أنقرة اتباع سياسة الإقصاء للآخرين في سورية”، مضيفاً: أستبعد هذا الأمر لأنه لا يحقق مصالح تركيا. وأشار إلى أن أنقرة “تنسق مع دول عربية حول سورية”، مضيفاً: العرب ليسوا متساوين في المصالح في سورية. هناك دول عربية لها تأثير حقيقي مثل السعودية، بينما الجزائر على سبيل المثال ليس لها فعالية في الملف السوري. ستكون هناك تشاركية تركية عربية في سورية وهو ما صرّح به فيدان.
وجاءت دولة قطر في صدارة الدول العربية التي أكدت استمرار وقوفها إلى جانب السوريين، حيث زار وزير الدولة في وزارة الخارجية القطرية محمد الخليفي العاصمة السورية دمشق في 23 الشهر الحالي، والتقى القائد العام للإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع. وقال الخليفي إنه بحث مع الشرع خطوات المرحلة الانتقالية، مؤكداً أن موقف دولة قطر ثابت في الوقوف إلى جانب سورية وشعبها، وأن الشعب السوري سيد قراره ولن يتعرض للوصاية من أحد. وزار دمشق وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي ووفود ذات طابع أمني من السعودية والبحرين والعراق، في خطوة كما يبدو هدفها الوقوف على توجه السلطة الجديدة التي ستكون مطالبة عربياً بالحد من نفوذ تركيا في سورية قبل تحقيق انفتاح عربي واسع، وخاصة لجهة إعادة الإعمار وتقديم المساعدات الكفيلة بتحسين وضع الاقتصاد السوري. واكتفى الجانب الإماراتي باتصال هاتفي من نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية عبد الله بن زايد آل نهيان، مع وزير الخارجية في الحكومة السورية الانتقالية أسعد حسن الشيباني، بينما لا تزال مصر مترددة في فتح قنوات اتصال مع السلطة الجديدة في دمشق، وهو ما يعكس قلق القاهرة من التغيير العميق الذي حدث في سورية، ما يفسّر عدم رفع العلم السوري الجديد حتى الثلاثاء الماضي فوق السفارة السورية في العاصمة المصرية.
وأعرب السفير السوري السابق في السويد بسام العمادي، في حديث مع “العربي الجديد”، عن اعتقاده أن هناك توجساً عربياً من أن تصبح سورية تابعة لتركيا، أو تخرج من دائرة العلاقات العربية لصالح دول أخرى. وأشار إلى أن هذا الأمر “مرتبط بتوجس بعض الدول العربية والغربية تجاه أي حكم إسلامي”، مضيفاً: لحسن الحظ هذه المرة لم يتمكن أحد من التدخل ضد الثوار السوريين الذين فاجأوا العالم بإنهاء حكم العصابة الأسدية. وتابع أن بعض الأطراف كانت تريد التحول من سلطة الأسد لحكم ضعيف مهلهل ومشتت كالعراق ولبنان، بذريعة الأقليات والطائفية. ورأى أن الجانب الأميركي لا يرغب بنجاح العهد الجديد اقتصادياً “والدليل أن واشنطن لم ترفع العقوبات التي فرضتها على سورية إبان (عهد) الأسد المخلوع”، مضيفاً: هذه العقوبات ستكون مانعاً أمام الاستثمارات التي تحتاجها سورية لبناء اقتصادها المنهار.
تركيا ستعتمد على القوة الناعمة في سورية
وفي السياق، رأى الباحث السياسي أحمد القربي أن كل الدول في العالم تسعى لمد نفوذها “سواء بالقوة الخشنة أو الناعمة”، مضيفاً أن الوجود التركي العسكري في سورية مؤقت، ومن ثم ستعتمد أنقرة على القوة الناعمة في ترسيخ نفوذها، وأعتقد أنه سيكون لتركيا دور كبير في إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية في سورية وتسليحها، وخاصة أن انقرة لعبت دوراً كبيراً في إسقاط نظام الأسد”. وأشار القربي، في حديث لـ”العربي الجديد”، إلى أن حدوداً مشتركة تجمع تركيا وسورية تصل إلى أكثر من 900 كيلومتر فضلاً عن الروابط الاجتماعية والدينية، مذكراً أنه في تركيا نحو 4 ملايين سوري أغلبهم تأثر بالثقافة التركية، ما يرجح تعزيز نفوذ تركيا في سورية. وتابع: في الجانب الاقتصادي، المرشح الأول لاستلام إعادة الإعمار في سورية هي الشركات التركية وهو أمر طبيعي بحكم القرب الجغرافي، فضلاً عن القدرة التي أثبتتها هذه الشركات في الإنشاءات وهو ما يعطي النفوذ التركي قيمة مضافة في سورية. وأعرب عن اعتقاده بأنه “لا يروق للكثيرين في المنطقة نهوض دولة قوية قادرة وقرارها بيد شعبها في سورية، لأنها ستكون نموذجاً يهدد بعض الدول في الإقليم، ومنها إسرائيل ودول عربية”.
في المقابل، تبرز مخاوف لدى قطاع واسع من السوريين من اتساع نطاق النفوذ التركي في بلادهم، وخاصة أن أنقرة بدأت سريعاً الحديث عن ترسيم الحدود البحرية بين البلدين، ما يعزز المخاوف من محاولات الأتراك ترسيخ نفوذهم على حساب المصالح السورية. ورأى المحلل السياسي مضر الدبس، في حديث مع “العربي الجديد”، أنه “من المبكر جداً الحديث عن أي نوع من ترسيم الحدود”، مشيراً إلى أن “هذا الأمر يتعلق بالقرار السيادي الذي لم يتبلور في سورية”، مستغرباً الحديث التركي عن هذا الموضوع في الوقت الراهن. وقال: المسألة السياسية السورية، مصلحة استراتيجية لدول الجوار جميعها، وبهذا المعنى يتوقع السوريون من الأصدقاء، الذين لديهم مصلحة استراتيجية في بناء الدولة السورية الجديدة على أنقاض النظام البائد، أن يتيحوا لهم الوقت الكافي لإعادة بناء هذه السيادة، ومن ثم التفكير فعلاً في العلاقات التي تخدم المنطقة وشعوبها بمن فيهم الأتراك.
العربي الجديد
———————-
سياسات إيران من الخميني إلى الخامنئي.. معطيات مختلفة والمنهج واحد/ حسن النيفي
2024.12.31
مع وصول آية الله الخميني إلى السلطة، عام 1979، بدأت تتوافد إلى إيران برقيات التهنئة والوفود الزائرة لتقديم التهاني والتبريكات وذلك وفقاً للقواعد والأعراف البروتوكولية المعهودة.
وكانت من جملة رسائل التهنئة تلك، رسالة من الدولة العراقية تبارك للخميني بانتصار الثورة الإسلامية في إيران وتُعرب عن أملها في أن يكون انتصار الثورة فاتحة عهد جديد يحظى به الشعب الإيراني بالتقدم والنماء، وكذلك فاتحة طور جديد لعلاقات إيران مع جوارها العربي بناءً على المصالح المشتركة بين شعوب المنطقة.
إلّا أن الردّ الإيراني على الرسالة العراقية آنذاك كانت بمنتهى الجلافة والاستعلاء، وقد ختم الخميني ردّه بالقول: (والسلام على من اتبع الهدى)، والعبارة السالفة في سياق كهذا تُعدّ مسيئة، إذ إنها تُقال لغير المسلمين، في إشارة إلى أن النظام القائم في العراق هو نظام كافر.
ويؤكّد هذا المنحى من التوجّه الإيراني ما تضمنته مذكرات (أبو الحسن بني صدر) الرئيس الأوّل لإيران بعد ثورة الخميني، والتي يتحدث فيها عن زيارة وفد عراقي برئاسة أحد المراجع الشيعية لتقديم التهنئة للخميني وتقديم رسالة من الرئاسة العراقية بهذا الخصوص، ولكن الخميني -وفقاً لأبي الحسن بني صدر- رفض استلام الرسالة، ولم تمضِ أيام حتى بدأ بمخاطبة الشباب العراقي للثورة على نظام الحكم الكافر في العراق.
تفكير الملالي وتأسيس الوباء
بعد خمسة وأربعين عاماً تكاد تتكرر تفاصيل المشهد ولكن بشكل معكوس، إذ إن الطرف المنتصر (السوريون) هو من بادر برسائل تنمّ عن حسن نيّة وطمأنة للجانب الإيراني (المهزوم في سوريا) ونعني بذلك التصريحات التي صدرت عن القيادة السورية الجديدة ممثّلةً بالسيد أحمد الشرع، والتي تنفي أي نزوع من الكراهية تجاه الشعب الإيراني، داعيةً نظام الحكم في إيران إلى مراجعة مواقفه وسياساته حيال سوريا.
كذلك، تتجلّى بوادر حسن النية من الطرف السوري من خلال حماية المراقد الدينية الشيعية وعدم السماح بمساس حرمتها أو الاعتداء عليها، إلّا أن الردّ الإيراني على مبادرات حسن النيّة من الجانب السوري جاء مباغتاً وشديد الوضوح ولا يحتمل مزيداً من التأويل والتفسير، ومن أعلى هرم للسلطة في طهران، ففي 22 من شهر كانون الأول الجاري، نشر المرشد “خامنئي” تغريدة مخاطباً من خلالها القيادة الجديدة في سوريا: “لم تكن هناك قوة إسرائيلية ضدكم في سوريا، التقدم بضعة كيلومترات ليس انتصاراً، ولم يكن هناك عائق أمامكم وهذا ليس انتصاراً”.
ولا شك أن “خامنئي” ربما بات من العسير عليه أن يرى أو يعقل أنّ سوريا بالفعل باتت من دون “آل الأسد”، فأراد أن يفرغ مُنجَز السوريين المتمثل بالنصر على الطاغية من مضمونه الثوري، ويحيله إلى مجرّد تقدّم نحو حيّز مقداره بضعة كيلومترات فقط، فضلاً أن تجاوز هذه المسافة إنما تحقق بفعل غياب (إسرائيل) وليس هزيمة جيش الأسد.
وتابع في التغريدة ذاتها: “بطبيعة الحال فإنّ شباب سوريا الشجعان سيخرجونكم من هنا بالتأكيد.. الشباب السوري ليس لديه ما يخسره، جامعته غير آمنة، مدرسته غير آمنة، ماذا يفعل؟ يجب أن يقف بقوة وإرادة أمام أولئك الذين خططوا لهذه الفوضى وأولئك الذين نفّذوها”.
لعل المقتبسات السابقة لـ”خامنئي” لا تعبر فقط عن موقف رافض أو مناهض لهزيمة حليفه الأسدي في سوريا، بل تمثل دعوة صريحة لتحريض وتجييش ضد السلطة الجديدة في سوريا، وكأنها تكرار للنداء الذي وجهه سلفه الخميني إلى العراقيين لمقاومة السلطة العراقية قبل أكثر من أربعة عقود ونصف.
ولم يشأ وزير خارجية طهران (عباس عراقجي) إلّا أن يعزّز المنحى العدائي ذاته للساسة الإيرانيين تجاه الحكومة السورية الجديدة بالقول: “من يعتقدون بتحقيق انتصارات في سوريا عليهم التمهّل في الحكم، فالتطورات المستقبلية كثيرة”، ولا يخرج كلام عراقجي عن سياق التهديد والوعيد الذي بدأ به خامنئي قبله، فما الذي يمكن لإيران أن تفعله للانتقام من ثورة السوريين؟
جدوى التعويل على الشعارات الزائفة
ربما لا يحتاج المرء مزيداً من التفكير ليدرك أن التطاول الإيراني إلى دول الجوار ونزوعها نحو الهيمنة كان، وما يزال، يتخذ من مواجهة إسرائيل الذريعة الرئيسية، وكما كان التصدّي الإيراني للعدوان الإسرائيلي على بيروت في حزيران عام 1982، مرهوناً باحتلال مدينة البصرة العراقية آنذاك، كذلك يبدو أن التصدّي للعدوان الإسرائيلي الراهن على “حزب الله “وطهران ينبغي أن يكون عبر إعادة احتلال ميليشيات إيران لحمص والريف الدمشقي وحلب والميادين والبوكمال.
وربما هذا ما أراد تأكيده (محمود قماطي) نائب رئيس المجلس السياسي في “حزب الله” اللبناني بقوله: “إننا اليوم أمام خطر صهيوني كان وما يزال من الجنوب، واليوم استجد علينا خطر من الشرق، فإسرائيل دخلت إلى سوريا وأصبحت ليست فقط على حدودنا الجنوبية وإنما أصبحت على حدودنا الشرقية”.
ما يمكن الإشارة إليه إلى أنّ وجود “الأسد” في السلطة حتى الثامن من شهر كانون الأول الجاري لم يكن عائقاً أمام إسرائيل عن مجمل عملياتها العسكرية التي أفضت إلى مقتل مجمل قيادات الصف الأوّل والثاني لـ”حزب الله”، وكذلك لم يكن عائقاً عن تعطيل أو إعطاب منظومة الاتصالات الرئيسية للحزب عبر تفجير أجهزة (البيجر) اللاسلكية.
وكذلك لم تجرؤ إيران على الذود عن ذراعها الأهمّ “حزب الله” في أثناء مواجهته مع إسرائيل، بل بات جلّ همّها تحاشي المواجهة ولو اقتضى ذلك التضحية بالحزب بقضّه وقضيضه، فما الذي -إذاً- يجعل من زوال نظام الأسد في سوريا إيذاناً بخطر إسرائيلي جديد على لبنان وإيران؟
لعل السمة المشتركة الأبرز بين النظام الأسدي المدحور ونظام الملالي في إيران، وربما بقية الأنظمة ذات النزعة التسلّطية العدوانية، هي انتهاؤها إلى مرحلة من العقم تشبه كثيراً حالة تصلّب الشرايين التي يفضي بها انسدادها إلى الانفجار، فينتهي صاحبها بالموت.
لقد أُتيح لنظام الأسد، منذ عام 2011، وحتى قبل سقوطه بأيام قليلة، المزيد من الفرص للخروج من أزمته، ورغم تلك الفرص والمبادرات التي دفعت بها روسيا وتركيا والأمم المتحدة، علماً أن جميع تلك المبادرات كانت لصالحه، ولا تلبي تطلعات السوريين، لكنه بقي مصرّاً على رفضها، ليس لأنه لا يريد الخروج من مأزقه الخانق، بل لأن بنية نظامه الأمني وطريقة تفكيره القائمة على مفهوم الإبادة كوسيلة للاحتفاظ بالسلطة، لا تتيح له سوى المضيّ نحو حتفه المحتوم.
نظام طهران، وبفترة زمنية ليست بطويلة، شهد انهيارات كبيرة في تطلّعاته التي بناها وخطّط لها وأسسها عبر عقود، تجلّت بتهاوي أذرعه ومن ثم انعدام مفاعيلها، كما شهدت إذلالاً كبيراً في عقر دارها من جانب الاستهدافات الإسرائيلية للعمق الإيراني، بل يمكن التأكيد على أن زوال نظام الأسد في سوريا هو من أكبر هزائمها، إلّا أن ذلك كلّه لم يجسّد أي حافز لحكام طهران نحو إعادة النظر في جدوى سياساتها القاتلة لشعبها قبل الآخرين.
تلفزيون سوريا
—————————
أحداث 2024 إذ تمهد لعام مليء بالمفاجآت والتحديات/ صهيب جوهر
2024.12.31
ما من شك في أن سقوط حكم الأسد في سوريا نهاية العام 2024 شكل الحدث المفصلي الذي أنهى العام 2024. ورغم أن هذا الحدث امتاز بسرعة قصوى غير متوقعة في انهيار تركيبة النظام ووصول فصائل المعارضة إلى دمشق وحمص، لكن أبعاد ما حصل وتداعياته لا تقتصر على سوريا، بل تطول كل المنطقة من الخليج إلى المغرب العربي.
وتجمع أطراف متعددة أن ما جرى في سوريا سيفتح الباب بشكل لافت أمام حركة جديدة لكل المجموعات والإثنيات التي تختزنها المنطقة، والتي خبأت هواجسها منذ سايكس – بيكو، فيما تبين لاحقاً أن هذا التقسيم تغاضى عن بعض التناقضات الدينية والعرقية، وهكذا راكمت هذه المجموعات مزيجاً من الخَوف والقلق، ما جعلها عنيفة وقاسية عندما وصلت الى السلطة.
ومن هنا، طُرحت أسئلةٌ كثيرة حول الأسباب الحقيقية التي دفعت بالإدارة الأميركية للخروج عن سياستها القائمة على حماية نظام الأسد في سوريا، كونه يشكل ضمانة تاريخية لإسرائيل، والموافقة على قيام سلطة تُمسك بها الأكثرية ومن خلال تيار إسلامي. والأكيد أن العام الجديد سيكون بمثابة اختبار حول طريقة التعاطي من الإدارة السورية الجديدة مع الفئات والجماعات والطوائف السورية.
فيما الحقيقة الأهم أن التركيبة السورية والتي رسمت حدوداً داخلية لها بالدماء طوال سنوات الحرب الماضية، باتت مقسمة بين مجموعات متعددة الولاءات. ومن هنا السؤال حول العقد المخفية التي أرادتها واشنطن من التطورات السورية. بالتأكيد فإن الإجابة عن هذا السؤال الكبير لن يكون بالقريب العاجل، وستظهر خلال السنوات المقبلة. وفي هذا الوقت قد تكون هذه المجموعات المتناقضة في حاجة للوعي أكثر منه القوة.
وانطلاقاً من هنا، تسعى “قوات سوريا الديموقراطية” في حركتها الانفصالية سعياً وراء تحقيق حلم الدولة الكردية. فالسلطة الجديدة في سوريا الحليف الجديد لتركيا، ستكون ذريعة مناسبة لإعلان تمردها على الدولة السورية الجديدة بزعامة أحمد الشرع.
ومع انهيار النظام الأسدي انطلقت حملة داخل أروقة المؤسسات الأميركية وبمساعدة اللوبي الصهيوني الفاعل للذهاب إلى صيغة حكم فيدرالي في سوريا. ووفق المنطق الذي يروج له الأكراد بأنّهم أكبر مجموعة عرقية ليس لها دولة. فهم موزعون بين تركيا والعراق وإيران وسوريا بعدد يتجاوز الـ 40 مليون إنسان.
وتنطلق قسد وأخواتها من الجماعات المصنفة بالإرهابية من نظرية أنهم قادرون على القتال في وجه داعش، وهو ما يجعلهم أحق بنيل قدرة الحكم الذاتي على الأقل داخل الدول التي يوجدون فيها. لكن تركيا ترفض رفضاً قاطعاً أي شكل من أشكال الحكم الذاتي، وهو ما ينطبق أيضاً على أي نظام وصل للحكم في سوريا، ونظام البعث كان أكثر الأنظمة تفسخاً وعنفاً في وجه الأكراد الأمر الذي استغلته المجموعات الانفصالية.
لكن الأهم وجود ليونة داخل الأروقة الأميركية حيال التطورات السورية قد تكون جعلت الظروف مهيأة لإعادة النظر في تقسيمات الشرق الأوسط وعلى أنقاض سايكس بيكو التي أصبحت غير صالحة وغير ملائمة للاستمرار فيها مستقبلاً.
وعليه فإن لبنان مضطر للتعاطي بهدوء مع المشاريع الجاري درسها للمنطقة، وعدم البقاء في دائرة التناحر الطائفي والمذهبي، والتي دمرت لبنان وسببت أزمات محيطة أدت لانهيار الدولة واقتصادها وتحديداً منذ العام 2019 وما سبقه من سيطرة حزب الله على الدولة الوطنية اللبنانية، بعد أن كان لبنان دولة أساسية في المشرق العربي قبيل العام 1969 أي منذ اتفاق القاهرة.
وخلال الأشهر الماضية، فتح حزب الله لبنان أمام إسرائيل، عبر قيام حكومة اليمين الإسرائيلي بحرب مدمرة، تحت عناوين حرب إسناد غزة، وتجاوزت إسرائيل أهدافها المعلنة في حماية حدودها وأمنها، وتجاوزته لطرح أن يرضخ لبنان لاتفاق مذل، مع طروحات تقتضي بفتح النقاش حول الذهاب لاتفاق تطبيع مستقبلي مع انسحاب حزب الله من شمال الليطاني وجنوبه، مع وجود مخطط لتهجير سكان الضفة للأردن وإنشاء الوطن الفلسطيني البديل، بين سيناء والأردن ولبنان.
وخلال هذه الحرب، رفع نتنياهو ومِن على منبر الأمم المتحدة، خريطتين وهو ما يؤشر إلى خريطة النفوذ الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط كما كان ينادي به سابقاً، من هنا يمكن فهم الطموح الإسرائيلي بالبقاء بعمق محدد في جنوب لبنان عبر تجريف نهر الليطاني إلى الداخل الإسرائيلي. هو هدف إسرائيلي أساسي لكنه يصطدم برفض فرنسي، وممانعة إقليمية.
لكن ما يرفع منسوب القلق العربي واللبناني من النوايا الإسرائيلية عبر التمهيد الدائم للبقاء في الجنوب أو لقضم مناطق جديدة. في ظل ما يتحدث عنه نتنياهو باستعادة الحرب والوصول إلى شمال الليطاني ليقوم الجيش الإسرائيلي بتفتيش المنطقة كون حزب الله لا يلتزم بتطبيق القرار 1701.، وظهر ذلك عبر وصول الجيش الإسرائيلي إلى وادي الحجير.
وهذا الأمر دفع بالجانب الأميركي إلى التحرك فوراً والضغط بقوة على إسرائيل للتراجع. ما يعني فشل اختبارات نتنياهو للصدام مع لبنان، وهو ما دفعه لاحقاً للانسحاب. وترافق ذلك أيضاً مع كلام إسرائيلي بتأجيل الانسحاب من الجنوب حتى منتصف آذار المقبل، وهو الذي لن يقبل به لبنان. وبالتالي فإنّ إجهاض هذه الأهداف الإسرائيلية يقابله دعم عربي وغربي لانتشار الجيش اللبناني.
وإسرائيل نفسها التي تدفع بقوات قسد على تغيير خريطة سوريا عبر المطالبة بالانفصال تحت عناوين متعددة، كانت قد توغلت قواتها في العمق السوري وباتت قريبة من دمشق، أي إنها وضعت دمشق ومحيطها تحت نار مدفعيتها، تحت حجة فهم طبيعة وعقيدة الحكام الجدد في سوريا، ما يعني أنها تريد التسلل وتحقق مكتسبات ميدانية لفرض أهدافها الجديدة بعد نتائج غزة ولبنان.
لكن إيران المترقبة لكل ما يحدث حريصة على المشاغبة بطرقها المتعددة، حيث يطالب المحافظون في إيران بخوض المواجهة العسكرية إذا كانت حتمية، وخاصة بعد ما حدث في لبنان مع حزب الله، والخروج من سوريا مع فرار الأسد ونظامه. وفي رأي هذا الفريق أنها أفضل من الحلول الدبلوماسية إذا كانت ستقود إلى ما يشبه الاستسلام.
لكن هذا الخيار لا يحظى بتأييد واسع لأن عواقبه معروفة، وهو إعطاء الحجة لنتنياهو وترامب بضرب إيران، إذاً، ستختار إيران بين المواجهة العسكرية وطريق الدبلوماسية ووقف البرنامج النووي والانفتاح. مع العلم أن الحرس الثوري الإيراني سيجد صعوبة في الذهاب إلى الخيار الذي يقدمون فيه التنازلات، لكنهم قد يوافقون عليه لأنّه يسمح ببقاء النظام بمرتكزاته الأساسية، ويتيح له بناء قوته مجدداً، إذا ما تبدلت الظروف الإقليمية والدولية.
الأكيد أن العام 2024 أطاح بكل المعتقدات المتخيلة في السياسة الإقليمية، مع استمرار المذبحة في غزة، واضطرار حزب الله على القبول بفك الارتباط عن حماس، وتقليم أظافر الميليشيات في العراق، وسقوط الأسد وحكمه في سوريا، ما يفتح العام 2025 مع دونالد ترامب على أحداث مشوقة، عنوانها تفاهمات مع فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان وبنيامين نتنياهو وما تبقى من نظام إيراني، فيما الغائب حتى الحين هم العرب.
تلفزيون سوريا
—————————
الخاسرون في الصراع على سوريا بعد الزلزال/ رياض معسعس
تحديث 31 كانون الأول 2024
سقوط نظام بشار الأسد الفار إلى موسكو خلسة كان غير متوقع في حسابات كل القوى التي كانت عيونها منصبة على سوريا وتضعها ضمن مخططاتها الاستراتيجية كدولة متهالكة، كبقرة باتت قريبة من المسلخ، وكل قوة تسعى لسلخ قطعة منها. لكن هذه الحسابات كانت خاطئة، ولم تحسب حسابا لمفاجأة سقوط «نظام الأبد» بأسبوع واحد، يوم أحد. كان زلزالا شديد الاهتزاز على مقياس التحولات الكبرى في الشرق الأوسط، وككل حدث يقلب الموازين، ويفرض واقعا مختلفا ورؤى جديدة له مؤيدوه، ومعارضوه، وهناك خاسرون، ورابحون. فعلى المستوى الداخلي فإن الكاسب الأول هو الشعب السوري الذي تخلص من كابوس نظام الأبد البائد، والخاسر هو كل من كان يدعم هذا النظام والمستفيد منه، وخاسر آخر يتمثل بقوات سوريا الديمقراطية (قسد) المتحالفة مع حزب العمال الكردستاني المناوئ لتركيا، والمتواطئة مع النظام البائد، التي كانت تتطلع للانفصال عن سوريا، وإقامة دولة كردية في شمال شرق سوريا بعد أن استولت على مساحة واسعة من جغرافية سوريا تقدر بـ 25 بالمئة من الأراضي السورية، واستولت على منابع الطاقة فيها والسدود بدعم أمريكي، واليوم ترى أن أحلامها من الصعب تحقيقها في ظل الإدارة الجديدة المدعومة من تركيا التي أكدت أن في حال عدم تسليم» قسد» أسلحتها فإن الجيش التركي سيحفر قبورا لها في أماكن تواجدها، وكانت «قسد» قد خسرت مدينة منبج بعد معركة مع فصائل الجيش السوري الحر مؤخرا، وفي ظل هذا الواقع الجديد صرح القائد مظلوم عبدي أن قسد يمكن أن تنضم للجيش السوري الجديد ولكن بشروط، وهي في فترة انتظار لتسلم الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب الذي ينتظر منه أن يبت بتواجد 2000 جندي أمريكي في شمال شرق سوريا والتخلي عن دعم قوات حماية الشعب الكردية «قسد».
جاءت الثورة السورية التي انطلقت في العام 2011 لتعطي إيران الحليف القديم لنظام الأسد فرصة ذهبية للتدخل في سوريا بعد أن استنجد النظام البائد بها، وكان على وشك السقوط في العام 2013. واستغلت إيران هذه الفرصة لسد الثغرة الناقصة فيما سمي بـ«الهلال الشيعي» الممتد من طهران إلى بغداد فدمشق وبيروت لتصل إلى البحر المتوسط من جهة وتضمن طريقا سالكة لنقل الأسلحة والذخائر لحزب الله ضمن ما أسمته «محور المقاومة». وقد عملت ضمن خطة تشمل أربعة مجالات أساسية: إرسال ميليشيات مقاتلة لمواجهة قوى الثورة (منها من شيعة باكستان وأفغانستان والعراق،) والحرس الثوري الإيراني، وحزب الله اللبناني. التغلغل في أجهزة الأمن السورية، الاستثمارات العقارية وبناء قواعد عسكرية، إطلاق حملات تشيع في المدن والقرى السورية. وقد تجاوزت تكاليف تدخلها في سوريا 50 مليار دولار. وهذا ما دفع إسرائيل لتكثيف غاراتها على سوريا لضرب المواقع الإيرانية، ومواقع حزب الله، بوتيرة متسارعة جعلت النظام المخلوع المحسوب على محور المقاومة في حرج كبير لعدم حماية أجواء سوريا، والرد على الضربات الإسرائيلية الموجعة، خاصة بعد انطلاق عملية «طوفان الأقصى» وزج حزب الله في التصدي لإسرائيل الذي تلقى ضربات موجعة أجبرته على سحب قواته من سوريا، وتجميد نشاطه العسكري بعد دخوله في هدنة مع إسرائيل. لكن الضربة الأكثر إيلاما لنظام الملالي في طهران جاءت على غفلة بسقوط نظام الأسد لتفقد كل ما بنته في سوريا خلال عقد من الزمن، وأعلنت فورا على لسان المرشد الأعلى علي خامنئي خيبة أملها بقوله: ما حدث في سوريا هو نتيجة خطة مشتركة بين الولايات المتحدة والصهاينة، ولا شك في ذلك فنحن لدينا أدلة واضحة لا تقبل الجدل، وهناك دولة مجاورة لسوريا (ويقصد تركيا) لعبت دورا واضحا في هذا الأمر، وتواصل القيام به، وهذا أمر مرئي للجميع». الخسارة كانت فادحة على أكثر من مستوى: استراتيجي، عسكري، مالي، أمني. والتخوف اليوم من انحسار نفوذها في العراق، ولبنان، والأخطر من هذا وذاك هو ردود فعل الشارع الإيراني الذي ضاق ذرعا بخيبات الأمل في تحسن وضعه المعيشي المتدهور يوما بعد يوم بسبب التدخلات المكلفة للنظام خارج إيران والتي فشلت جميعها.
تعتبر روسيا نظام الأسد حليفا مضمونا فعلاقتها الوطيدة امتدت لأكثر من نصف قرن، خاصة وأن حافظ الأسد قد حقق حلم القياصرة القديم بالوصول إلى المياه الدافئة في البحر المتوسط بعد أن وافق على بناء قاعدة بحرية لها في مدينة طرطوس والتي تم بناؤها في عهد الاتحاد السوفييتي في العام 1972. بعد انطلاق الثورة السورية وترنح النظام تحت ضربات المعارضة لم ينقذه الاستنجاد بإيران التي لم تقو على صد هجمات الثوار وبات النظام على وشك السقوط في العام 2015. فلم يجد بدا من الاستنجاد بالحليف الثاني روسيا خاصة وأن النظام أصبح تحت مراقبة دولية بعد استخدامه للأسلحة الكيماوية لضرب الشعب السوري المنتفض، فقامت روسيا بدعم النظام عسكريا، ودبلوماسيا ضمن شروط أملتها عليه: بناء قاعدة حميميم العسكرية، توسيع قاعدة طرطوس البحرية، استغلال الموارد السورية وخاصة الفوسفات، بعد موافقة النظام على الشروط قامت موسكو بالدفاع عنه دبلوماسيا عبر استخدامها حق الفيتو 17 مرة لإنقاذه من العقوبات، وعملت على إنشاء منصة آستانا وسوتشي ضمت الدول الضامنة (روسيا، إيران، تركيا) وشرعت بتطبيق مسار «مناطق خفض التصعيد» بالتفاوض مع فصائل المعارضة لسحب قواتها من مناطق سيطرتها والتوجه إلى محافظ إدلب المحررة. أما في الجانب العسكري قامت تشكيل الفيلق الخامس لدعم عمليات النظام العسكرية، إرسال قوات فاغنر الروسية، والطائرات المقاتلة إلى قاعدة حميميم التي شاركت بقصف المدن والقرى التي تتواجد فيها قوى المعارضة، وجعلت من سوريا حقل تجارب لكل أسلحتها. وعلى غرار إيران فشلت روسيا على جميع المستويات في إنقاذ هذا النظام وبات عبئا ثقيلا عليها خاصة بعد دخولها في غزو أوكرانيا ففضلت التخلي عنه وشرعت بنقل معداتها العسكرية من سوريا إلى ليبيا بعد أن خسرت حليفها المضمون ولم يتبق لها سوى إنقاذ بشار الأسد، واستقبال عائلته وبعض من بطانته في اللحظة الأخيرة وبالطبع كل الاستثمارات المالية الضخمة التي رافقتهم.
بالطبع هناك خاسرون من الأنظمة العربية التي تخشى الثورة السورية وعملت جاهدة سابقا لضرب كل ثورات الربيع العربي بثورات مضادة، وبقاء الأسد بالنسبة لها كان صمام أمان للقضاء على الثورة وعدم امتدادها، فعملت بكل الوسائل لتعويمه بدءا من إقناع واشنطن التي غضت الطرف عن عمليات تطبيع الأنظمة واحدا تلو الآخر، وعودته إلى الجامعة العربية واستقباله في مؤتمرها، والمؤتمرات الأخرى، وكانت تسعى لإقناع الإدارة الأمريكية لإلغاء العقوبات عنه مقابل التخلي عن إيران. لكن مفاجأة سقوطه أسقطت كل حسابات هذه الأنظمة التي تحاول اليوم مد الجسور مع الإدارة الجديدة ولكنها تتوجس اليوم كما تتوجس إيران من الهزات الارتدادية للزلزال السوري.
عملت تركيا ضمن استراتيجية ثابتة وبنفس طويل تتمثل بدعم المعارضة السورية المسلحة بكل أطيافها (فصائل الجيش السوري الحر، والفصائل الإسلامية التي تترأسها هيئة تحرير الشام) وهدفها الأساسي القضاء على قوات سوريا الديمقراطية «قسد» والحؤول دون إنشاء أي كيان كردي منفصل في سوريا، ومن جهة أخرى حاولت وبدفع من موسكو الدخول في مفاوضات مع النظام البائد بهدف التطبيع معه بشرط العمل معا ضد « قسد» لكن بشار الأسد رفض أي لقاء مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مما أغضب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي كان وسيطا. وعلى مدار أكثر من عقد عملت تركيا بدعم المعارضة المسلحة بنفس طويل واختارت الوقت المناسب لتعطي الضوء الأخضر لكل قوات المعارضة بالانطلاق في اللحظة المناسبة لإسقاط نظام هدد أمنها القومي، ولتفسح المجال لها بإعادة كل اللاجئين السوريين إلى بلادهم، وبالطبع الحفاظ على نفوذ لها في سوريا كبعد استراتيجي خلفي، والاستفادة من إعادة الإعمار، وقلب الطاولة على الجميع.
كاتب سوري
القدس العربي
———————————-
الفرق بين الأسد ونتنياهو في ميزان «الجنائية الدولية»/ توفيق رباحي
تحديث 31 كانون الأول 2024
الصور والشهادات القادمة من سجون نظام بشار الأسد صادمة تفطر القلب. من الصعب أن يتخيّل إنسان سويّ أن هناك بشرا يرتكبون مثل تلك الجرائم في حق بشر فقط لأنهم اختلفوا معهم سياسيا أو عقائديا، أو حتى لم يختلفوا معهم بل لديهم حساب عالق مع أقارب لهم فارين في الخارج أو «مشكوك في وطنيتهم».
لهذا يجب أن يتجنّد السوريون، وينجحوا في إقناع العالم للتجند معهم، من أجل القصاص من بشار الأسد ورموز نظامه طال الزمن أم قصر. في الحالة السورية وما يشابهها يصبح القصاص من المسؤولين عن تلك الفظاعات فضيلة، وأكثر من ذلك واجبا حتى لا يجرؤ آخرون، في سوريا أو غيرها، على تكرار الفظاعات بحق من يختلفون معهم أو عنهم.
رغم كل الصعوبات التقنية والقانونية والسياسية، ورغم الحاجة إلى الوقت والإمكانات المادية، وإلى الإرادة الجادة والصبر، لا مفر من العدالة. فالإطاحة بنظام الأسد تشكل نصف المهمة، أما نصفها الآخر فيتشكل من تحقيق العدالة لضحاياه الكثيرين. ما لم تتحقق هذه العدالة ستبقى المهمة غير مكتملة.
العدالة ضرورية أيضا لسوريا كي تمضي إلى الأمام في مسار التصالح مع ذاتها. والمصالحة غير ممكنة هي الأخرى من دون عدالة. الباقي من عفو وتعويضات وتأريخ يأتي لاحقا وسيكون أسهل وأكثر إنصافا إذا كان تحت غطاء العدالة المنجزة.
رغم أن العدالة المتأخرة عدالة ناقصة، يجب الاعتراف بأنه في الوقت الحاضر قد يكون من الصعب تحقيق هذه العدالة داخل سوريا لأسباب منها التركيبة الاجتماعية للمجتمع السوري وشدّة الحساسيات والخوف من تفشي روح الانتقام وتصفية الحسابات. ومنها أيضا أن رموز النظام المسؤولين عن الجرائم والمسالخ البشرية فارون في الخارج. هذا يجعل المحاكم الدولية المكان المفضّل لتحقيق العدالة المنشودة.
لكن في العالم العربي المنكوب بالكثير من الآفات السياسية والإنسانية، سنكون قريبا على موعد مع نقاش حاد عنوانه الأول هل يجب محاكمة بشار الأسد وعائلته ورموز نظامه أمام القضاء الدولي أم لا.
عدا عن الجدل التقليدي الذي سيفرض نفسه بحدَّة بين مؤيدين ورافضين لمحاكمة دولية للأسد في لاهاي، سيقفز النقاش أيضا إلى الإبادة التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزة وعجز العالم عن محاكمة المسؤولين السياسيين الذين يرعونها والقادة العسكريين الذين ينفذونها. وسنسمع كلاما كثيرا عن النفاق الدولي وسياسة الكيل بمكيالين التي ينتهجها العالم عندما يتعلق الأمر بالعرب والمسلمين.
قيل هذا الكلام لما تعرَّض الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير لخطر المحاكمة الدولية بتهمة ارتكابه جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في دارفور في بداية الألفية الحالية.
كل ما قيل وسيقال عن نفاق الغرب و«تشطّره» على قادة دول العالم الثالث من غير حلفائه صحيح. وكل ما سنسمع عن استغلال الدول الغربية القضاء الدولي للانتقام من خصومها وحماية حلفائها صحيح أيضا ودقيق، بدليل أن الولايات المتحدة، بغض النظر عن الإدارة التي تقودها، تصفق للمحكمة الجنائية الدولية عندما تفتح ملف فلاديمير بوتين وأوكرانيا، وتهدد قضاتها وتتوعدهم بشر العقاب عندما يفتحون ملف إسرائيل وجرائمها بحق الفلسطينيين.
نعم، كل ما سيقال عن الإفلاس الأخلاقي والإنساني للغرب أكيد وساطع ويزداد وضوحا يوما بعد يوم. لكن كل هذا لا يمكن أن يدفع إلى التغاضي عن جرائم بشار الأسد ونظامه بحق السوريين مهما كانت المسوّغات. عجز العالم عن محاكمة رئيس الوزراء الإسرائيلي ومساعديه الضالعين في الإبادة في غزة لا يجب أن يتخذه بعض العرب مسوَّغا لعدم محاكمة بشار الأسد. فما لا يُدرك كله لا يُترك جله. خطآن لا يصنعان صوابا. عجزُ العالم عن تحقيق العدالة للفلسطينيين لا يعني الامتناع عن تحقيقها للسوريين ضحايا نظام الأسد إذا كان الإنصاف ممكنا. كما أن عدم إقامة محاكمة دولية للأسد ورموز نظامه بذريعة غياب محاكمة مماثلة لنتنياهو بسبب غزة لا يحقق شيئا للفلسطينيين. يكفي أن الفلسطينيين يتعرضون للإجحاف فلماذا نضيف لهم السوريين؟
نجاة نتنياهو من المحاكمة الدولية تعود بالأساس إلى الحماية التي يوفرها العالم الغربي لإسرائيل وقادتها. في المقابل يكيد العالم لشعوب المنطقة العربية والعالم الثالث ويحطّم حاضرها ومستقبلها. هذا الواقع الظالم هو الذي يضع العراقيل في طريق إجراءات محاكمة بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت كيلا تصل إلى نهايتها. لكن رغم هذا من الخطأ الوقوع في فخ الاعتقاد بأن الرد على هذا العجز يكمن في العمل على منع محاكمة الأسد وكبار مساعديه.
الواقع الذي يجب أن يبقى حاضرا في الأذهان أيضا هو ذلك الفرق الهائل بين الرجلين: نتنياهو ارتكب الفظاعات بحق الفلسطينيين وعرَّض نفسه لخطر المحاكمة الدولية دفاعا عن بلاده وحماية لشعبه، من وجهة نظره. أما الأسد فكرَّس جهده وموارد بلاده لبناء إمبراطورية الرعب، وارتكب كل تلك الجرائم لمعاقبة شعبه ومنعه من أن يفكر في الخروج عن طاعته. وشتّان بين هذا وذاك. الأول يفتخر به الإسرائيليون وسيخلّدون اسمه ويقيمون له التماثيل، والثاني سيشعر السوريون بالعار أنه واحد منهم، وسيمحون اسمه وصوره وكل ما يرمز له ويلعنونه كلما ذُكر اسمه أو قفز إلى ذاكرة أحدهم.
الشعوب العربية مقهورة ويائسة من تحقيق العدالة محليا، فلا يبقى لها إلا القضاء الدولي. منع العدالة الدولية عنها مظلمة أخرى تضاف إلى سجل هائل من المظالم التي تعرضت لها ولا تزال.
كاتب صحافي جزائري
القدس العربي
—————————-
عن فرحة السوريين التي حملتها نهاية 2024/ عمر كوش
31 ديسمبر 2024
حملت نهاية العام 2024 فرحاً عارماً لغالبية السوريين بسقوط النظام السوري الدراماتيكي، وهروب رأسه بشّار الأسد إلى موسكو، بعد أن كذّب على أشدّ المقربين إليه، وتخلّى عن أزلامه ومريديه، وحتى عن أخيه، حين آثر الفرار بشكل مهين ومشين كي ينجو بنفسه، لكنّه لم ينسَ اصطحاب ملايين الدولارات التي سرقها من أموال الشعب السوري.
كان مهمّاً أن السوريين هم من أسقطوا نظام الأستبداد الأسدي، وذلك بعد أن تحمّلوا الويلات والكوارث وصبروا على ما أصابهم من آلام سنين طويلة، وبات مطلوباً من الإدارة الجديدة تشييد مرحلة جديدة، تختلف فيها صورة سورية المستقبل عن سابقتها الكارثية والمأساوية، كي تتمكّن من اجتياز تحدّياتٍ عديدة، داخلية وخارجية، عبر مرحلة انتقالية، تُقدَّم فيها خطّة عملية وموحّدة وبسرعة، تنهض على حوكمةٍ رشيدة، وتعمل لتنفيذها هيئة منبثقة عن مؤتمر وطني، تنتج منه حكومة انتقالية تمثيلية، ويضع إعلاناً دستورياً، يحدّد مواعيد إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية حرّة ونزيهة وكيفياتها، وبما تتيح المجال للسوريين كي يسهموا في تشكيل مستقبلهم.
لن تكتمل فرحة السوريين التي حملتها نهاية 2024، إلّا بتحقيق مطامح الثورة السورية ووعودها في إشادة دولة مدنية تفترق عن دولة الاستبداد الأسدي، وتقوم على مبادئ العدالة وسيادة القانون والمواطنة المتساوية. وقد ظهرت مؤشّرات أوّلية واعدة، تجسّدت في مساع لتوطيد الأمن، واعتماد خطاب تعدّدي وشامل يدعو إلى الوحدة الوطنية، والانتقال السلمي للسلطة، إلى جانب الاهتمام بتأمين حاجات الناس الضرورية واليومية، وعدم اللجوء إلى التحريض على ممارسات الانتقام والثأر. إضافة إلى عدم التعرّض للأملاك العامّة والخاصّة، والابتعاد عن تدنيس مواقع التراث الثقافي والديني لمختلف مكوّنات المجتمع السوري، الأمر الذي يؤشّر إيجابياً إلى إمكانية انضمامها جميعاً إلى المشاركة في مرحلة الانتقال السياسي، بدلاً من الدفع نحو الصراع والاقتتال الأهلي.
ينهض التصوّر الأمثل لإدارة المرحلة الانتقالية لما بعد سقوط نظام الأسد على تولّي قيادة سياسية متوافق عليها في مؤتمر وطني جامع، تقوم بمهامّ معالجة آثار الاستبداد، وتسيير أمور المجتمع في المرحلة الانتقالية ما بعد سقوط بشار الأسد، بما يعني القيام بتحقيق العدالة الانتقالية، وإجراء مصالحة وطنية، وفق آليات قانونية مدروسة، بعيداً من لغة الإقصاء والاستئصال، وتوفير التشريعات والإجراءات الكفيلة بإعادة بناء الهُويَّة الوطنية على أسس المواطنة والتعدّدية، وبما يتوافق مع المبادئ الدستورية والديمقراطية. ولعلّ من المهمّ تأمين تطلّعات السوريين ومراعاة مصالحهم، من خلال العمل على بناء سورية المستقبل، بالاعتماد على مجموعة متنوّعة من طرق التمثيل في هيئات الحكم والدولة، بحيث تمثل تركيبة المجتمع بمختلف الطوائف والحساسيات الاجتماعية والخلفيات الأهلية والمدنية. ومن المهمّ جدّاً الأخذ بوجهات النظر للقوى السياسية كافّة في المجتمع السوري، بغية تمثيل جميع القوى الاجتماعية، والتماس الآراء المعبّرة عنها، منعاً للفوضى أو زعزعة الاستقرار أو الانزلاق إلى توتّرات طائفية أو غيرها، أو صنع سياسات غير مناسبة تهدف إلى خدمة مصالح ضيّقة أو لجزء واحد من السكّان.
لعلّ الدرس الذي يفترض أن تضعه الإدارة الجديدة في سورية في حسبانها أن نهاية 2024 حملت الخلاص من نظام الأسد، لكن خطاب التغيير وأقواله لا تكفي كي يقتنع السوريون الذين عانوا أكثر من خمسة عقود من الاستبداد الذي جثم على صدورهم، وممارسات القمع السياسي والاجتماعي، فضلاً عن التسلّط والخراب والفساد والإفساد، لكنّ العام 2024 حمل لهم أملاً كبيراً في امتلاك صوتهم، وعودة بلدهم، وبالتالي باتوا يتطلّعون إلى عهد جديد، ولن يتوانوا عن الوقوف في وجه المحاولات التي يمكن أن تعيدهم إلى الوراء، لذلك يأملون في أن يكون العام 2025 مختلفاً عما سبقه، وفي حال الانشداد إلى الوراء، فإن الدرس، الذي يجب على الجميع عدم نسيانه، أن الحركات الاحتجاجية والانتفاضات والثورات لن تستأذن أحداً كي تندلع من جديد، وذلك في ظلّ ما يوفّره عالمنا الراهن من وسائل تواصل وقدرة على التحشيد.
يعي حكّام سورية الجدّد أن الوضع السوري الكارثي، الذي خلّفه نظام الأسد، يتطلّب القيام بالأفعال المطلوبة، خاصّة أن السوريين يراقبون كيفيّة تنفيد أفعالهم، وما الأدوات التي يستخدمونها، وماهية الوسائل التي يتّبعونها، ولن يتخلّوا عن وعود ثورتهم المتمحورة حول تلبية طموحات المجتمع السوري متعدّد الثقافات والمعتقدات، والغني بتاريخه وحضاراته، والتي تفترض أنها تشكّل حوافز نحو التغيير الديمقراطي، المرتكز على المواطنة، وليس المحاصصة بين المكوّنات الدينية أو القومية، ولعلّ المطلوب من بعض شخصيات الإدارة الجديدة الكفّ عن النظر إلى المجتمع السوري وفق منطق المكوّنات والطوائف، والنظر إلى السوريين بوصفهم مواطنين يطمحون في دولة مواطنة تسودها العدالة وسيادة القانون، ولن يتحقّق ذلك إلا عبر تشكيل هيئة حكم انتقالية، تضمّ القوى الجديدة، والقوى السياسية الموجودة في المشهد السياسي قبل إسقاط الأسد، إضافة إلى فاعلين سياسيين وأفراد لم يتورّطوا في الفظائع أو الفساد، لكي يطمئن الجميع أن مرحلة الصراع قد انتهت، وأن مرحلة بناء الدولة الجديدة قد بدأت. وبالتالي، تذهب التطلّعات باتجاه أن تضمّ الحكومة الانتقالية شرائحَ واسعة من المجتمع، وأن تكون غير متحيّزة، وتعطي الأولوية لتوفير الأمن والأمان للناس كي يستمرّوا في حياتهم من دون خوف، وأن تعمل جاهدةً لتوفير الخدمات الأساسية وإعادة الاستقرار للاقتصاد، وتوفير المساعدة الإنسانية والطبّية لهؤلاء الموطنين، الذين هم في أمسّ الحاجة إليها في سورية، ووضع أساس لحكم مستقرّ واحترام حقوق الإنسان ووسيادة القانون من خلال صيرورة سياسية سلمية.
في المقابل، لن تكتمل فرحة السوريين من دون محاكمة رموز النظام السابق، وجميع من ارتكبوا انتهاكات ومجازر بحقّ السوريين، وذلك إنصافاً للضحايا ولذويهم، ولكي يطمئن الناس إلى الحكّام الجدد، وإطفاء روح الانتقام لديهم. ولا يمكن الوصول إلى المصالحة الوطنية من دون تحقيق العدالة الانتقالية، لأن الأخيرة تكتسي أهميةً شديدةً، ولها حساسياتها في سورية، بالنظر إلى التراكم الهائل لانتهاكات حقوق الإنسان السوري، وخاصّة انتهاكات النظام الواسعة خلال السنوات السابقة.
العربي الجديد
—————————
الزلزال السوري والهوس بالإسلامية/ هشام جعفر
31/12/2024
هناك هوس غربي بالإسلام يخلق نقطة عمياء في تحليل بعض أهم التطورات الحالية في الشرق الأوسط الكبير (المصدر: ميدجورني – الجزيرة)
في الوقت الذي يختبر فيه الغرب حكام سوريا الجدد -وفق تقرير “وول ستريت جورنال”- اختزل قطاع عريض من النخب العربية وجدالات السوشيال ميديا الزلزال السوري الذي عصف بالمنطقة في القائد العام للإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع أو أبو محمد الجولاني. الجولاني جاء، أحمد الشرع قال، الجولاني التقى، هل تغير أم ما يقوله مداراة؟
لم يقف الأمر عند ذلك؛ بل كانت فرصة لجميع الأطراف: إسلامية ويسارية وقومية وليبرالية، لاستدعاء ثارات الماضي القريب، واستقطابات ما بعد الربيع العربي التي تصورنا أننا قد تجاوزناها، أو على أقل تقدير أننا أمام أسئلة جديدة وأوضاع مستحدثة تستدعي إعادة هندسة الاستقطابات كما كتبت مبكرًا.
لكنه الواقع العربي الذي استقال فيه معظمنا من وعن الفعل، فانشغلنا بالجدل. تراجعت قدرتنا على التأثير على صنع السياسة العامة فزاد الاستقطاب. افتقرت نخبنا إلى التجديد الفكري فاستدعت إشكالات الماضي المرتحل دون تبصر بالجديد القادم.
اجتمعت رغبة البعض في تصاعد الاستقطاب مع الاستحواذ على المنافع والاستمرار في الحكم، أو على أقل تقدير صرف الانتباه عن طبيعة الحكم ونمط توزيع الثروة، باعتبارهما من أهم ما يشغل الجمهور العربي – وفق استطلاعات الرأي العديدة.
عادة ما تستوقفني هذه الظواهر متأملًا، لعلها تساعدني على فهم علاقة ظواهر لا يبدو بينها رابط ببعضها البعض، أو صياغة مفاهيم تساعدنا على التحليل أو تكون أكثر تفسيرية.
في العقد الأول من الألفية قدمت مفهوم “فائض التدين” للتعبير عن تصاعد ظواهر التدين التي اتخذت مظاهر متباينة، ولكن ما يجمعها أنها تحولت إلى منظور متكامل لتقييم الفعل السياسي والاقتصادي والاجتماعي، كما يحدد نظرتنا للعالم، والآخر المختلف عنا في نمط تدينه، أو تباينت عقيدته عن عقيدتنا.
أما اليوم فإن ما أقدمه هو مفهوم “فائض الإسلامية” الذي يصلح – في تقديري – نموذجًا تفسيريًا لفهم جزء من جدلنا العام حول الثورة السورية.
يكمن الجذر الأعمق لفائض الإسلامية في الهوس الغربي بالإسلام الذي يخلق نقاطًا عمياء في نظرتنا. تمخض عن هذا الفائض نوع معين من الجدل العام الذي يمكن وصفه بأنه “سياسة الكلمات”.
الهوس الغربي بالإسلام
هناك هوس غربي بالإسلام يخلق نقطة عمياء في تحليل بعض أهم التطورات الحالية في الشرق الأوسط الكبير (بتعبيرهم والذي يمتد حتى أفغانستان ويشمل منطقتنا أيضًا). تكتسب هذه المبالغة بُعدًا إضافيًا يتعلق بتهديد الديمقراطية الغربية والنظام الدولي الليبرالي وحقوق ومكتسبات المرأة والوجود المادي للتطرف العنيف.
خطا دبلوماسيون من واشنطن والعواصم الأوروبية خطواتهم الأولى إلى دمشق هذا الأسبوع، في محاولة لتقييم ما إذا كان بوسعهم أن يثقوا في الحكومة الانتقالية الناشئة التي تشكلها هيئة تحرير الشام.
بالطبع؛ كانت مسائل الديمقراطية والحكومة الشاملة لكل مكونات سوريا، وحقوق النساء والأقليات في قلب المناقشات. هذا أمر مفهوم وضروري، لكن التساؤل الأساسي: هل يحق للغربيين أن يتساءلوا عن هذا بعد ما جرى في غزة، وما يجري في أوطانهم من ممارسات إقصائية تحت وطأة تصاعد اليمين؟
هناك ميل غربي إلى المبالغة في تقدير دور الإسلام كمحرك مركزي لجميع المشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية في الشرق الأوسط. ففي زمن الترامبية في أميركا والشعبوية الوطنية في جميع أنحاء أوروبا، ترى أغلبية كبيرة أن الإسلام مصدر لانعدام الأمن والعلامة الأساسية للهوية والصراع في المنطقة، وفي جميع القضايا الإقليمية تقريبًا، بدءًا من التحول السياسي في تركيا في عهد أردوغان، أو في مصر بالإطاحة بجماعة الإخوان المسلمين. أو من صعود تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا إلى الصراع الطائفي السني الشيعي، وأخيرًا وليس آخرًا؛ ما يجري في سوريا.
أو من صعود تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا إلى الصراع الطائفي السني الشيعي، وأخيرًا وليس آخرًا؛ ما يجري في سوريا.
غالبية الغربيين ينظرون إلى المنطقة من منظور الإسلام، وحكمهم كئيب للغاية، فهو لا يتوافق مع الديمقراطية والعلمانية والحداثة والمساواة بين الجنسين والعديد من القيم التقدمية الأخرى التي يتبناها الغرب. ويُنظر إليه أيضًا على أنه دين استبدادي وغير متسامح وعنيف ومقاتل، ونادرًا ما يُنظر إلى مثل هذه التعميمات الكاسحة على أنها تأكيدات سطحية تستند إلى الحتمية الدينية والثقافية.
يلاحظ أنه تم استبدال الكليشيهات الاستشراقية التي تصور الإسلام، ليس فقط على أنه دين، و«طريقة حياة» بالرأي القائل بأن الإسلام هو المشكلة. هذه الرؤية تحمل الدين والعنف الديني المسؤولية عن معظم المشاكل الأمنية، وتقريبًا جميع التحديات السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية في البلدان الإسلامية.
المشكلة مع هذه التصورات أنها تستند إلى الحتمية الثقافية والدينية، وترى مستقبل المسلمين هو الماضي الغربي الذي يجب أن يسلكوه كما سلكه الأولون الغربيون. وإذا كان الإسلام هو المشكلة الرئيسية، فلماذا لا يقدم أيضًا الحل الرئيسي؟
هذا النوع من الحتمية الإسلامية يتسم بالثبات رغم التغير الذي هو سمة العصر. ووفقًا لهذه الوصفة، فإن المطلوب لإنقاذ الإسلام من نفسه؛ هو مارتن لوثر المسلم الذي سيقوم بإصلاح وتحديث وتعديل الإسلام على غرار الصدام الأوروبي في القرن السادس عشر بين البروتستانتية والكنيسة الكاثوليكية.
إن الافتراض بأن الإسلام هو المصدر الرئيسي للهوية السياسية، وبالتالي السبب الرئيسي لجميع المشاكل في الشرق الأوسط، يحرك إستراتيجيات مضللة في مجالات حساسة، مثل: مكافحة التطرف، أو تعزيز الديمقراطية، أو حقوق النساء والأقليات.
يغيب عن هذا نظر أعمق للسياقات والبنى التي تنتج الممارسات في هذه القضايا. صحيح أن التطرف العنيف والأنظمة الاستبدادية المختلة هي مشاكل حقيقية في العالم الإسلامي، لكن مثل هذه الحقائق السياسية تحتاج إلى تحليل موضوعي دون اللجوء باستمرار إلى الحتمية الثقافية والدينية الكسولة.
الهوس بالإسلام يخلق وهمًا بصريًا كبيرًا يشوه الحقائق على الأرض، الحقائق التي تتطلب تحليلًا سياقيًا تفصيليًا. كما أن سراب الإسلام هذا، في الوقت الحالي، يغذي التوتر والاستياء والاستقطاب المتزايد بين الغرب وعالم الإسلام، وإذا لم يتم التصدي له، فإنه سيؤدي إلى تفاقم الديناميكيات القوية بالفعل للإسلاموفوبيا.
الهوس بالإسلامية
إذا كان الهوس الغربي بالإسلام يخلق نقاطًا عمياء في التحليل لا تسمح له بالبحث في سياقات الظواهر، وتعمق من سياسات الهوية وصراعاتها، فإن الهوس بالإسلامية يؤدي إلى التغطية – بتعبير إدوارد سعيد في كتابه الهام “تغطية الإسلام”- على عديد من القضايا والموضوعات. معه نصبح بإزاء إخفاء وتغطية كاملة شاملة، ولكن على نحو مضلل؛ لأنها تمنحنا شعورًا بالفهم دون أن تعلمنا بقدر كافٍ، ونصبح بين تغطية الظواهر والتغطية عليها.
هل توقف أحد أمام منظر الدمار في مخيم اليرموك في دمشق وقارنه بما يحدث في غزة، وفسر لنا لماذا دولتان، يفترض إن إحداهما محسوبة على محور المقاومة، والأخرى يفترض أنها دولة وطنية، تحارب الدولة الأخرى التي هي محتلة وعنصرية وكولونيالية، وتبيد شعبًا يبحث عن حقوقه؟ هل يمكن أن يساعدنا أحد في تحليل كيف تنتج دول – لا أقول من طبائع مختلفة بل من طبيعة واحدة – ظواهر بهذا الشكل؟
الهوس بالإسلامية بمعنى اختزال الظواهر المركبة وتبسيطها في البحث عن مدى حضور الإسلامية فيها، وعلاقتها بالإسلاميين أو علاقة الإسلاميين بها، يستند إلى أسس أربعة:
1- استثنائية الظاهرة الإسلامية: وهنا تكمن المفارقة حين يتواطأ الإسلاميون ومنتقدوهم على حد سواء على تقديمها باعتبارها استثناء – وإن اختلفت الدوافع بينهما. فالأتباع يريدون أن يضيفوا عليها نوعًا من القداسة، في خلط واضح بين النص المُنزَّل والتعبير عنه خطابًا وممارسة. أما المعارضون فقد أرادوا الإقصاء بالتشكيك في قدرة الإسلاميين على الاندماج في النظام السياسي؛ سبيلًا لحرمانهم من الوجود.
ما أحب أن أشير إليه هو نهاية الاستثنائية الإسلامية هذه. فالانطباع الرئيسي الذي تخرج به بعد الانتهاء من متابعة أداء الإسلاميين – وهيئة تحرير الشام جزء منهم- السياسي في الربيع العربي – خاصة في موجته الثانية 2019، وقد بات بعض أطرافهم في الحكم أو مساندين له، هو تطبيع هذه الحركات مع الواقع بكل ما تحمله هذه الكلمة من دلالات سلبية وإيجابية، بما يمكن معه القول بانتهاء «الاستثنائية الإسلامية» التي حاول – كما قدمت- أن يصمها بها تابعوها ومعارضوها على حد سواء.
الإسلاميون في السلطة – كما في المعارضة – يتصرفون مثل الفواعل السياسية الأخرى حين تحركهم إدراكاتهم لمصالحهم الذاتية التي يبغون تحقيقها، ويبنون تحالفاتهم ليس وفق أسس أيديولوجية.
كان التنافس فيما بينهم أشد وطأة من تنافسهم مع غيرهم. والأهم أن الربيع العربي بموجتيه أثبت بما لا يدع مجالًا للشك أنهم لا يملكون مشروعًا فارقًا للسلطة، بل يتصرفون كأي حاكم عربي: الانتهازية السياسية التي طبعت تجربة وممارسة كثير منهم في الحكم وخارجه، وتقلبات مواقفهم وتحالفاتهم، وتعدد انتقالاتهم من خندق إلى آخر، وتفشي مظاهر الفساد في بعض أوساطهم أسقط عنهم لباس «التقوى»، وأزاح من فوق رؤوس قادتهم «هالة القداسة».
2- الحتمية الثقافية والاجتماعية: فالإسلاميون في كل مكان يتصرفون بالطريقة نفسها، أو على حد تعبير البعض فإن «الطبع يغلب التطبع». وهم كيان واحد لا توجد فروق بينهم ولا صراعات وتوترات داخلهم، ولا تجري عليهم ما يجري على غيرهم من تطورات وتغيرات وتحولات. وإن كانت، فلا بحث عن السياقات والأسباب التي تدفع إلى ذلك، وإنما هي – أي التغيرات – تقية أو انتهازية سياسية أو تغيير تكتيكي. يعمق من ذلك غياب المقارنة بينهم وبين غيرهم من الفواعل السياسية والاجتماعية الأخرى التي بها نكتشف أوجه التشابه والاختلاف فيما بينهم.
3- الاختزالية المفرطة الممتزجة بنبرات توكيدية: فالواقع المعقد يتم تبسيطه بما يناسب المزاج العام، ويجري تقديم حلول شاملة لمشاكل تفصيلية معقدة. وثمّة إجماع على استخدام كباش فداء تُلقى عليهم تبعات ما لا يروقنا في الواقع.
المناقشة تتسم بالتعميم وفق منطق الصناديق المغلقة والتصنيفات الجاهزة والصور النمطية دون البحث في التفاصيل ورسم الخرائط. وغياب المعلومات الدقيقة، وبناء علاقات سببية بين ظواهر من طبائع مختلفة، مع صياغة الأسئلة الخاطئة من قبيل: «هل سيكون حكم سوريا مثل أفغانستان/ طالبان؟» بدلًا من الحديث عن التداعيات الجيوستراتيجية لما جرى في سوريا، وموقع الإسلاميين منها وفيها.
4- غياب أي خطاب للنقد الذاتي: فالكل يلقي بالتبعة والمسؤولية على الآخر دون حديث عن مساهمته فيما آلت إليه الوقائع والأحداث. ففريق يرى أن الإخوان هم المسؤولون في تونس عن عودة الاستبداد. لو عدنا إلى ما جرى وتتبعنا مسار خطايا «النهضة» ومناوراتها في العشرية الأخيرة سنصل إلى أن «الانقلاب على المسار الدستوري والديمقراطي» صُنع بأيدٍ إخوانية. وأن تونس تجني ما زرعه إخوان تونس كما جنى المصريون ما زرعه إخوان مصر، وأن المشهد السوري رأيناه من قبل في فيلم سابق للإسلاميين.
في المقابل يرى الفريق الآخر أن العلمانيين – هكذا كيانًا واحدًا دون تمييز بينهم – هم المسؤولون عن استدعاء الجيوش وعودة الدولة العميقة لتحكم وتتحكم ولتنقلب على المسار الديمقراطي. وهم مرشحون في سوريا لقيادة الثورة المضادة التي بدأت أولى حلقاتها في تظاهراتهم أواخر الأسبوع الماضي في ساحة الأمويين.
للمفارقة، نجد بحثًا غربيًا في سوريا عن المصالح رغم تصنيف الجولاني وهيئته على قوائم الإرهاب. تبحث هذه القوى عن التزامات بالتخلص من الأسلحة الكيماوية المتبقية من حكم الرئيس السابق بشار الأسد الاستبدادي، وحماية النساء والأقليات، ومحاربة المتطرفين مثل تنظيم الدولة الإسلامية الذي قد يزدهر في ظل الفراغ في السلطة في سوريا.
كما تريد هذه القوى إعادة بعض الملايين من اللاجئين السوريين الذين فروا من الحرب. لا تريد الدول الغربية أن تقع الحكومة السورية الجديدة تحت سيطرة قوى أخرى لها مصالح هناك مثل روسيا وإيران.
هكذا؛ فالحكومات الغربية مشغولة بالمصالح وتغطيها بخطاب الحقوق؛ بينما انشغلنا نحن بخطابات الهوية والثقافة.
سياسة الكلمات
الهوس بالإسلامية تمخض عنه نمط جديد من العلاقات أطلق عليه توماس فرانك وإدوارد ويسباند اسم «سياسة الكلمات»، كما أوردها إدوارد سعيد في تحليله لتغطية الغرب للإسلام.
المماحكة والأخذ والرد بين من يتبنى الإسلامية ومن يضادها، والتحدي والرد عليه، وفتح الباب أمام فضاءات خطابية معينة وإغلاقها أمام أخرى، كل هذه الأمور تكوّن سياسة الكلمات التي يقوم كل طرف عبرها بابتداع ظروف، وتبرير أفعال وإجراءات، وإعاقة خيارات، والضغط على الآخر كي يتبنى بدائل محددة.
الأهم أنه يؤدي إلى إعادة إنتاج نفس الكلمات والقضايا برطانة جديدة صارت بها اللغة فارغة لا تعبّر عن الأشياء كما هي، بل تجرّدها من واقعيتها وتحوّلها إلى سديم من المعاني الهائمة، برغم أن حاجة الناس باتت ملحة إلى لغة واضحة محددة وألفاظ دقيقة المعاني، حتى لا تتصادم المفاهيم ويتحول التعبير عن قضايا الناس وهمومهم إلى رطانة لا يعرفها إلا القليل أو لا يكاد يعرفها أحد.
لولا هذا الاستخدام الخاطئ والبعيد عن حقيقة الخطاب لما استشرت الخلافات حول القضايا المتفق عليها لدى الجميع.
قبيل مجيء الوفد الأميركي إلى دمشق؛ اندلعت مظاهرات في ساحة الأمويين تطالب بالدولة العلمانية، في وقت اختفت فيه الدولة السورية عن الوجود تمامًا.
سياسة الكلمات تؤدي إلى عدد من الظواهر المتشابكة مع بعضها البعض أهمها:
1- الاستقطاب على قضايا لا علاقة لها بأولويات الناس: هذا هو الانفصال الذي جرى في تونس على مدار العشرية الأخيرة بين الاحتجاج الاجتماعي المتصاعد، وبين التعبير السياسي الذي تجسده المؤسسات السياسية المختلفة من أحزاب وبرلمان وطبقة سياسية، وهو المسار الذي يمكن أن تسلكه الثورة السورية شبرًا بشبر، مع إشكال أكبر، وهو أن المؤسسات أصلًا تحتاج إلى بناء.
2- سياسة الكلمات المستندة إلى الهوس بالإسلامية تقوض الممارسة السياسية، حين تجعل منها طبيعة ثقافية تدور في أروقة النخب وبعيدة عن أية جذور اجتماعية، مما يسمح بالعصف بها في أية أزمة ومن قبل الأقوياء دائمًا.
هذه النوعية من السياسة تغطي على سؤال يجب أن يكون التركيز عليه: كيف يمكن للديناميكيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية أن تغير الميول الثقافية والأيديولوجية؟
عندما تتفوق الإسلامية على السياسة، يكون كل شيء مختلفًا: فلا حديث عن العقود الاجتماعية غير الاجتماعية التي تمارسها شبكات الامتياز بتحالفاتها الإقليمية والدولية.
ولا تتم إعادة هندسة الاستقطاب على أسس ديمقراطية، إلخ. وبدلًا من ذلك، تهيمن الحروب الثقافية على السياسة، ويصبح الصدام بين القيم الإسلامية وغيرها من القيم الأخرى هو الموضوع المفضل للجميع، برغم أن الاستناد إلى الدين في الواقع ينتج قيمًا متعددة وفي أحيان كثيرة متضادة برغم ديباجتها الدينية.
3- تغذي سياسة الكلمات سياسات الهوية التي تنشأ حين ينجذب كثير من الناس نحو مجموعات مألوفة ومتشابهة التفكير من أجل المجتمع والأمن، بما في ذلك الهويات العرقية والدينية والثقافية، وكذلك التجمعات حول المصالح والأسباب، مما يخلق تنافرًا بين الرؤى والأهداف والمعتقدات المتنافسة.
كما يتم إنشاء مزيج من الهويات العابرة للحدود، وانبعاث الولاءات الراسخة، وبيئة المعلومات المنعزلة، وتباين خطوط الصدع داخل الدول، وتقويض القومية المدنية، وزيادة التقلبات.
من الخطورة في سوريا اليوم أن تتمحور السياسة بشكل متزايد حول مسألة الهوية البدائية بدلًا من الانحيازات الاجتماعية/ الاقتصادية والتي يتم التعبير عنها في برامج سياسية.
من المفارقات أنه تم الحديث عن تاريخ أبو محمد الجولاني؛ في الوقت الذي اختفت – فيما أعلم- أية مناقشة للتوجه نحو الاقتصاد الحر في سوريا ما بعد الأسد، برغم أن هذا التوجه أخطر على المواطنين السوريين من كثير من القضايا الأخرى.
عندما تخدش السطح، يصبح من الواضح أن بعض المشاكل الثقافية والهوية التي تستقطب السياسة لا تزال لها جذور اجتماعية واقتصادية أعمق تحركها وتغذيها. وبهذا المعنى، يجب وضع سياسات الهوية في سياق اجتماعي واقتصادي مناسب، وسيكون من قبيل الخطأ الفادح أن نراها منفصلة تمامًا عن الحقائق المادية، وفي القلب منها سياسات التوزيع التي ترسمها التوجهات الاقتصادية التي يتبناها الحاكمون الجدد في سوريا اليوم.
إن هوسنا بالإسلامية لن يجعل صراعاتنا أبدية ومستمرة فحسب، بل سيؤدي إلى مزيد من تسطيح الجدل العام وافتقاره إلى المقومات الأساسية من تعددية وتنوع بما تتضمنه من قدرة على التفاوض والمساومة والوصول إلى حلول وسط.
الجزيرة
——————————
أحمد الشرع نسخة عرفاتية منقّحة ومزيدة/ عيسى الشعيبي
31 ديسمبر 2024
تعرّضت الثورة السورية في مدار سنواتها المديدة إلى ثلاث نكبات مروّعة، اثنتان من صنع خارجي (إيران وروسيا)، والثالثة ذاتية، حين انتشر الإرهاب في أذيالها، وشوّه وجهها لاحقاً، وكاد يفتك بها بعد ظهور تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). وفي غضون ذلك، واجهت الثورة جملةً من العثرات والأزمات والتحدّيات من داخل بيت الفصائل التي صارت مجموعةً من المعارضات المتنافسة (حتى لا نقول المتصارعة) في الزعامة والأحقّية ومناطق النفوذ والمرجعية والهُويَّة.
من مظاهر الخلل البنيوي، الذي صاحب نشأة ثورة الحرّية والكرامة، ورافقها طوال الوقت الطويل، افتقار المعارضة المتفرّقة، بما فيها الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، إلى أخ كبير عاقل وراشد، أو قل إلى تنظيم مركزي يُحسب لمواقفه الحساب، قويٍّ عُدّةً وعديداً، وذي وزن مُرجّح في صنع القرار، مثل العمود الفقري في الظهر، الأوّل بين أنداده في الصفّين الثاني والثالث، له القول الفصل، والأرجحية العسكرية، والدار السياسية الكبيرة، والموقف الذي يُؤخَذ به ولو على مضض، حتى وإن كان إشكالياً.
كما كانت الفصائل والقوى السياسية المعارضة تفتقر أيضاً إلى قائد ذي شخصية كاريزمية موثوقة وخلّاقة، موضع ثقة ومحلّ إجماع؛ قائدٍ عامٍّ بالتزكية، يختلف القادة الآخرون معه ولكن لا يختلفون عليه، ممثّل أعلى للثورة ورمز لها في الداخل والخارج، لديه كامل نصاب الشرعية، ويحظى فوق ذلك بشعبية مكتسبة بالسيرة الذاتية النظيفة، ومعزّزة بالأداء القيادي المُلهِم، تماماً على نحو ما درجت عليه حركات التحرّر الوطني والثورات الشعبية.
أخيراً، وبعد طول عناء، وفشل سياسي شديد، نجحت الثورة السورية (وهي إحدى أكثر ثورات الربيع العربي المغدور أهميةً) في إعادة إنتاج نفسها على نحو أفضل، حين تعاضدت في معقلها الأخير في إدلب حول أكبر فصائلها المسلّحة، هيئة تحرير الشام التي أعدّت للطاغية ما يلزم من رباط الخيل، إلى أن تمكّنت هي والقوى المتحالفة معها من دخول حلب، بضربة عسكرية خاطفة منظّمة وفعّالة، لتصنع نقطة التحوّل النوعي الفارقة، وتواصل الزحف برشاقة نحو الجنوب، وتدخل العاصمة في نحو عشرة أيّام هزّت الشرق الأوسط، وقلبت توازناته.
لسنا في هذه المقاربة التأملية بصدد عقد مقارنة ظالمة (وكل المقارنات ظالمة)، بين تجربتَين مختلفتَين، الفلسطينية والسورية، ولا بين قائدَين شكّلت شخصيةَ كلّ منهما معطياتٌ محلّيةٌ وظروفٌ موضوعيةٌ متباينةٌ (ياسر عرفات وأحمد الشرع)، وإنّما هي السياقات والمآلات والسمات المحتشدة في الذاكرة، تلك التي تحضر على عجل، راسمةً هذا التماثل كلّه بين مسارَين غير متطابقَين، وزعيمَين ليسا متشابهَين بالضرورة، اجتازا (كلّ على انفراد) معمودية النار والحصار والملاحقات، وعبرا من الهامش إلى المتن بأناة وتؤدة وكفاءة، وحقّقا (بنجاح متفاوت في أزمنة مختلفة) إنجازات ترقى إلى ضفاف المعجزات.
ليس الحديث هنا عن حركة فتح، كُبرى الفصائل الفلسطينية، ولا عن عرفات (الأخ القائد العام) رئيس الحركة ومنظّمة التحرير والسلطة الوطنية، بل عن هيئة تحرير الشام ذات الخلفية الأصولية، والهُويَّة السلفية الجهادية، المُصنَّفة إرهابيةً، المتحوّلة عن إرثها القاعدي المثقل بالعنف المُفرِط، وعن نزعتها الظلامية، إلى وضعية الأخ الأكبر، التي ميّزت “فتح” الفلسطينية بين شقيقاتها، إذ بدت “الهيئة” قائدةً بلا منازع لها على مركز صناعة القرار، صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة، بعد أن خلعت، بصعوبة، جلباب أبيها، وحملت عبء المسؤولية.
كما بدا أحمد الشرع، وقد صار الأخ القائد العام (أو ما يوازي ذلك)، على غير الصورة النمطية السائدة عنه، سيّما عندما دخل دمشق وأسقط حكم آل الأسد، وبات الرجل القوي في الشام، القائد المنتصر، الآمر الناهي، البراغماتي المتسامح مثل كلّ منتصر، وهو ابن النازح من الجولان (الجولاني) الذي غيّرته التجربة، وبدّلته الحقائق القاسية، وبدّلت خطابه وصورته وحساباته ومشروعه (الإمبريالية الإسلامية المجاهدة)، خاصّة حين اعتلى منبر المسجد الأموي وقال كلاماً حسناً، مثلما فعل جمال عبد الناصر عندما اعتلى منبر الجامع الأزهر، إبان العدوان الثلاثي، وقال قولته المأثورة “حَ نحارب”، وبالمثل، حين قعد ابن النازح الفقير على كرسي الأسد المُصدَّف، بربطة عنق أنيقة وقيافة أوروبية كاملة، رجلَ دولةٍ مدنيةٍ حديثةٍ (سورية الجديدة).
إزاء ذلك، يجوز القول بشيء من التحفّظ، وبروح مفعمة بـ”التفاؤل”، إن أحمد الشرع نسخةٌ معدّلةٌ قليلاً عن ياسر عرفات في شبابه، وطبعةٌ منقّحةٌ ومزيدةٌ كثيراً من سيرة (ومسار) ذاك الفدائي اللاجئ، الذي غيّر واقعاً مزرياً وصنع تاريخاً جديداً.
العربي الجديد
—————————-
ما الذي يخشاه العراق من سورية الجديدة؟/ إياد الدليمي
31 ديسمبر 2024
قيل (من بين ما يقال في هذه الأيام وهو كثير)، إن رئيس الوزراء العراقي الأسبق، نوري المالكي، كان يقيم في دمشق في ثمانينيّات القرن الماضي، بوصفه أحد المعارضين للنظام العراقي آنذاك، وإنه كان على خلاف في تفاصيل كثيرة مع القيادة السورية وقتها، ولم يأتمر بأمرها، وكثيراً ما كان يرفض الذهاب إلى فروعها الأمنية في بعض حالات الاستدعاء. هذا الذي يُقال يُراد منك أن تصدّقه، وأن تؤمن بأن نظام حافظ الأسد كان يسمح لمعارضي أنظمة أخرى، ومنها العراق، أن يقيموا في أرضه من دون أن يكونوا جزءاً من منظومته التجسّسية والأمنية، التي تعمل ضدّ تلك الأنظمة. وقبل هذا الذي قيل بأيام قليلة، ومع سقوط نظام بشّار الأسد (8 ديسمبر/ كانون الأول 2024)، بدأت تُنشَر وثائقُ سرّيةٌ من بعض مكاتب فروع الأمن السورية، وتحديداً في دمشق، تتحدّث عن تجنيد عملاءَ لتلك الفروع، اتّضح أن من بينهم معارضين عراقيين عديدين في سورية خلال ثمانينيّات القرن المنصرم وتسعينياته، قبل أن تبدأ الإدارة السورية الجديدة بوضع يدها على تلك الوثائق، لأنّها حتماً ستكون مفيدة في مرحلة ما.
في العراق حديث عن مخاطر شديدة قد يتعرّض لها بسبب سقوط النظام السوري السابق والتغيير الذي حصل، ويسرد الساسة العراقيون (حكوميون وحزبيون)، سلسلةً طويلةً من تلك المخاطر والتهديدات، تبدأ من تسلّم السلطة في دمشق من مجموعة تراها بغداد “إرهابيةً”، وأن زعيمها كان أحد عناصر “القاعدة” ثمّ تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وصولاً إلى الحديث عن مخيّم الهول والسجون التي تقع تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي تضمّ عناصر تنظيم داعش، والمخاوف من أن إطلاق سراحهم، وما يمكن أن يسبّبوه من مشكلات أمنية للعراق الذي اشترك مع سورية في التعامل مع هذا التنظيم، الذي لا يبدو أنه انتهى بالكلّية. وتفيض وسائل الإعلام العراقية الموالية للنظام، ومن خلف النظام إيران، بشرح يومي للمخاطر والتحدّيات التي سيتعرّض لها العراق، خاصّة إذا أخفقت الإدارة الجديدة في التعامل مع ملفّ الأقليات في سورية، وانعكاس ذلك في الواقع العراقي تهديداً واضحاً لمكوّن عراقي كبير، وهم العرب السنّة، لكنّ أبواق السلطة لا ترى فيهم سوى أقلّية.
وأنت حينما تستمع لحديث العراقيين من ساسة حزبيين وحكوميين وهم يتحدّثون عن ضرورة احترام الإدارة السورية الجديدة للأقلّيات، تشعر وكأنّ العراق يعيش في بحبوبة من تشاركيةٍ بلا إقصاء أو تهميش، وليس العراق الذي نعرفه، الذي احتكرت فيه السلطةَ مجموعةُ أحزاب موالية لإيران تحديداً، وحيّدت وحاربت حتى التيّار الصدري (ناهيك عن السنّة والأكراد)، الذي فاز في المركز الأول بانتخابات 2021، ووصل الأمر إلى حدّ الاشتباكات المسلّحة في المنطقة الخضراء قبل أكثر من عامَين، وصولاً إلى دفع التيّار الصدري إلى الانسحاب من العملية السياسية، وترك المجال لأحزاب السلطة الحاكمة اليوم، التي أقلّ ما يمكن أن توصف به أنّها موالية لإيران. الزلزال السوري كان مدوّياً وسمعت أصوات دويه في بغداد بوضوح، كما سُمعت في طهران، وبالتأكيد أن هذا التغيير في سورية سيفرض تحدّيات كبيرة على دول الجوار والمنطقة عموماً، خاصّة إذا ما نجح السوريون في تأطير ثورتهم المباركة بتجربة ديمقراطية خالية من الشوائب التي تعوق تقدّمها، ولكن مع ذلك يبدو أن قصّة العراق في مخاوفه تختلف عن تلك التي تردّدها الألسن الموالية للسلطة.
تتعلق بعض الوثائق، التي عُثر عليها في الأيام الأولى لسقوط نظام الأسد، بتجنيد العملاء. والعملاء هنا ليسوا من السوريين فقط، وإنّما حتى الذين كانوا يقيمون في سورية، وفي مقدّمة هؤلاء مجموعة كبيرة من العراقيين الذين أقاموا في دمشق خلال ثمانينيّات القرن المنصرم وتسعينياته، وليت الأمر توقّف عند هذا الحدّ، فدولة بوليسية محكومة بالحديد والنار قد لا تملك (وأنت المعارض نظام بلدك) إلّا أن تستجيب لطلبها تحت ضغط التهديد أو طلباً لمنفعة ما، إلّا أن الأمر تعدّى ذلك كلّه. بعض الوثائق التي تسرّبت تشير إلى ما قدّمه العراق من أموال طائلة لدعم النظام السوري عقب اندلاع الثورة عام 2011، أموال كانت تُنقل عبر شاحنات خاصّة، بالإضافة إلى وثائق أخرى تشير إلى نقل العراق أسلحةً وموادَّ سامّةً إلى النظام، ربّما يكون قد استخدمها ضدّ الشعب السوري، طبعاً نحن نتحدّث عمّا كُشِف قبل أن تضع الإدارة السورية الجديدة يدها على ملفّات أكثر حساسيَةً وسرّيةً.
يشترك العراق وسورية بحدود تبلغ 610 كيلومترات، فضلاً عن مشتركات دمغت العلاقة بين البلدين طيلة عقود خلت، منها الاتهامات التي وجهها العراق إلى سورية بشّار الأسد بدعم الإرهاب عام 2009، ووصل الأمر إلى رفع شكوىً في الأمم المتحدة، قبل أن يصطفَّ النظام العراقي إلى جانب الأسد بعد اندلاع الثورة، وصولاً إلى سيطرة “داعش” على جزء كبير من المناطق السورية والعراقية لإقامة دولتهم. ومع ذلك، لم يكلّف وزير خارجية العراق نفسه رفع سمّاعة الهاتف للاتصال بالإدارة السورية الجديدة، وبدلاً من ذلك أُوفِد رئيس جهاز المخابرات، حميد الشطري، الذي تَسلَّم منصبه مع سقوط نظام الأسد، إذ تباحث على ما يبدو في ما لدى الإدارة الجديدة بدمشق من وثائق.
سيتّخذ العراق موقفه إزاء سورية بناءً على ما تريده إيران أولاً، وهذا مفروغ منه، فالعراق اليوم حائط الصدّ الأخير للنظام الإيراني، وأيضا بناءً على التفاهمات مع الجانب السوري بخصوص كمٍّ هائلٍ من وثائق تدين النظام السياسي في العراق ورموزه، وبتقديري، ستكون تلك الوثائق مصدر قوة لدى السلطة الجديدة في دمشق لترتيب وضعها، ليس مع العراق فحسب، وإنّما مع دولٍ كثيرة.
العربي الجديد
————————-
“انتصار” هيئة تحرير الشام ونموذج “ما بعد الجهادية”/ محمد أبو رمان
31 ديسمبر 2024
بالرغم من تأكيد أحمد الشرع (أبي محمد الجولاني سابقاً) على طيّ صفحة الماضي، والتزام الحركة بمنهجية جديدة ذات طابع سوري، وهو ما تجلّى في خطاب أيديولوجي وسياسي جديد بالكلية، مختلف تماماً عمّا هو مطروح في أدبيات الحركات الجهادية العالمية كلّها، إلاّ أنّ ذلك لا ينفي أنّ جذور الحركة وسياقاتها، والوجه الآخر لها، يمثّل نموذجاً جديداً في الحركات الجهادية، كما يصفه أحد أبرز منظّري الحركة نفسها، عبد الرحيم عطّون، في محاضرة قديمة له عن المسار الثالث المرتبط بـ”الجهادية المحلية”، أو المعتدلة على حدّ وصفه، وقد جعل حينها هذا المسار نموذجاً جديداً تمثّله الهيئة وحركة طالبان (بخاصّة بعد انسحاب القوات الأميركية في أفغانستان وعودة طالبان إلى الحكم)، وضمّ إليهم حركة حماس بوصفها حركة جهادية وطنية.
من المعروف أنّ هيئة تحرير الشام قد فكّت بصورة مدهشة تحالفاتها مع فرعي السلفية الجهادية العالمية الرئيسين؛ بدايةَ عندما تنكّر الجولاني لعلاقته بـ”داعش”، ورفض مبايعة أبو بكر البغدادي في عام 2013، الذي أعلن عن قيام الدولة الإسلامية في العراق وسورية (قبل أن تتحوّل إلى الخلافة لاحقاً)، مستعيناً حينها بأيمن الظواهري، زعيم “القاعدة” (خاض المعركة الأيديولوجية بقوة نيابة عن الجولاني)، والثاني “القاعدة” نفسها، التي أعلن بعد أعوام قليلة الجولاني انفصاله عنها، وزعم إنّ ذلك جرى بالتراضي، لكن اكتُشِف لاحقاً أنّ الظواهري لم يكن موافقاً، بل غضب أشدّ الغضب، وانتهى الأمر إلى حرب أيديولوجية وإعلامية أخرى بين الرجلَين، وأكثر من ذلك تصفية وجود “القاعدة” وقياداتها داخل هيئة تحرير الشام، وانشقاق تنظيم “حرّاس الدين”، الذي مثّل آخر قلاع القاعدة في الشرق الأوسط، وانتهى إلى مجموعة معزولة محدودة، في إدلب نفسها، ساهم تنظيم هيئة تحرير الشام بالقضاء عليها، وما يزال من تبقّى من قادتها تحت الإقامة الجبرية، غير المُعلنة، هناك.
في مقابل الاتجاهين السابقين والانشقاق الأيديولوجي والتنظيمي عنهما، بدت الهيئة معجبةً ومؤيّدةً لنموذج مختلف تماماً، وهو نموذج طالبان في أفغانستان، التي أعلنت منذ عودتها إلى حكم أفغانستان، استقلاليتها عن القاعدة والجهادية العالمية، بل قامت “طالبان الجديدة” بعملية استدارة كبيرة في علاقتها بالعالم، من خلال اتفاقها مع الأميركيين (في مفاوضات الدوحة، قبل وصولها إلى الحكم) عن عدم استخدام أراضيها ضدّ مصالح الولايات المتحدة والغرب، وهو الالتزام الواضح أنّ الحركة ملتزمة تماماً به، فبالرغم من مباركة الظواهري (للحركة انتصارها وعودتها إلى الحكم)، قبل مقتله نفسه في كابول بقصف أميركي (2022)، إلاّ أنّ عمليات “القاعدة” انطلاقاً من أفغانستان وغيرها تقريباً توقّفت، وانتقلت قيادة “القاعدة” السرية (يتولى قيادة التنظيم حالياً على الأغلب، سيف العدل، وهو موجود في طهران)، وقيادة التنظيم حالياً، بعد مقتل أغلب قادة الصف الأول، وتراجع زخمه ومقتل الظواهري، هي في حالة قريبة من “الكوما” الأيديولوجية والسياسية والحركية.
في ضوء تلك السياقات والتطوّرات والتحوّلات، ما الذي يعنيه انتصار تنظيم هيئة تحرير الشام ونجاحها في إسقاط نظام الأسد، والوصول إلى القوة أو السلطة، على الأقل راهناً، على صعيد الجهاديات العالمية؟… في البداية، من المفيد الاطلاع على مواقف الحركات الأخرى من هذا “الانتصار”؛ الطرف الأول الذي بادر إلى توجيه النقد والتخوين والاتهام للهيئة هو تنظيم داعش، الذي سبق أن دخل في مواجهاتٍ أيديولوجيةٍ ومسلّحة مع الهيئة، ووصلت الأمور بينهما إلى التكفير والتضليل الرسمي، إذ صدّرت مجلة التنظيم الرسمية، النبأ (عدد 1473) بمقال “تدجين وتجنيد”، افتُتح بالقول “لم تعد هنالك حاجة ملحّة إلى تجنيد مليشيات جديدة لحرب المجاهدين، فقد وصلت أساليب (مكافحة الإرهاب) إلى مرحلة متقدّمة يتم فيها احتواء وتدجين (جهاديين سابقين) للقيام بالمهمة، بما يضمن مصالح النظام الدولي الكفري، ويشبع رغبة المفتونين بالحكم، رأينا ذلك في نسخ عديده أبرزها (حكومة طالبان) وأحدثها (حكومة الإنقاذ)، وكلاهما دخل القصور الرئاسية بموافقة الجهات المعنية”. واعتبر المقال أنّ عملية تدجين هيئة تحرير الشام وتجنيدها مرّت بمراحل طويلة وطُبخِت على نار هادئة في أقبية المخابرات ومراكز الدراسات، ولم يُسمح للهيئة بالوصول إلى إسقاط النظام السابق إلاّ بعد اختبار البديل الجديد، وعلى حدّ تعبير المقال “محاربة الشرع بـ (الشرع)”.
في الضفة الثانية للجهاديين؛ بالرغم من أنّ “القاعدة” لم تصدّر بياناً حتى اللحظة (أو لم يجد كاتب السطور شيئاً يذكر في هذا السياق)، إلاّ أنّ الموقف من الواضح أنّه أكثر تعقيداً وارتباكاً من موقف “داعش”، فهيئة تحرير الشام انشقّت عن “القاعدة” ودخلت معها في مواجهات أيديولوجية وصفّتها في سورية تقريباً، إلاّ أنّ “القاعدة” مرّت هي الأخرى بتحوّلات وسياقات صعبة، وقامت بعملية تكيّف أيديولوجي أكثر من مرةّ، كشفتها وثائق أبوت أباد، واعتُبرت جبهة النصرة في البداية انعكاساً لتلك التحوّلات. وفي المحصلة، انتهى الأمر إلى القطيعة مع الهيئة، لكن من جهة أخرى، لم تجرؤ “القاعدة” على انتقاد “طالبان”، وأيّدت عودتها إلى الحكم، بالرغم من إدراك الظواهري حينها أنّ الثمن هو فكّ الارتباط الاستراتيجي بينه وبين النسخة الجديدة من “طالبان”، وأعلن تأييده عودة الحركة إلى الحكم، قبل أن يُقتَل، وما تزال قيادات القاعدة الرئيسة اليوم في طهران، التي مُنيت بهزيمة في سورية، فأيّ تصريح أو موقف مباشر ضدّ هيئة تحرير الشام قد يؤخذ وكأنّه مرتهن بوجود القيادة الحالية في طهران.
بالرغم من ذلك، لم يتردّد أحد أبرز منظّري السلفية الجهادية، أبو محمد المقدسي، الذي يمثّل الأب الروحي للجهادية التقليدية، وكان مباركاً ومؤيّداً لتنظيم حرّاس الدين، الذي انشق عن الهيئة، من توجيه انتقادات حادّة (عبر حساب سرّي مقرّب في إكس) لهيئة تحرير الشام، وسلوكها بعد الانتصار، بالرغم من أنّه لم يُخفِ فرحته من هزيمة وإسقاط نظام الأسد، لكنّه في المقابل أبدى تخوّفه من تخلّي الهيئة عن مشروع تحكيم الشريعة والجهاد ضدّ إسرائيل، والتصالح مع القوى الدولية والعلمانية المحلّية، ومن ضمن رسائل قصيرة وعديدة يقول الحساب المقرّب من المقدسي في “إكس”: “لا تظنن أنّك بانبطاحك لعباد الصليب غربيين وشرقيين ولينك لأنصار النظام الساقط وتوسيعك للعلمانيين والعلمانيات وطراوتك مع النصيرية والدروز أنهم سيحترمونك وينصرونك ويثبتوا عرشك، إن توقعته فأنت في قمة الحماقة، ولم تتعلّم من تجربة مرسي، من يحترمك وينصرك هو من بذل دمه حين وعدته بتحكيم الشرع”.
لا غرابة، عندئذٍ، أن تكون حركة طالبان هي الطرف الرئيس في أوساط الحركات الجهادية من يبارك لهيئة تحرير الشام، بل يتواصل وزير خارجيتها (الأفغاني) مع وزير خارجية الحكومة الانتقالية الجديدة في سورية، أسعد الشيباني، مهنئاً ومؤكّداً الدعم، إذ إنّهما، وفقاً لتقسيم منظّر الهيئة، عبد الرحيم عطون، ينتميان إلى “التيّار الفكري” نفسه. مع ذلك، لم تتوقّف استدارات ولا تحولات السردية لدى هيئة تحرير الشام عند تخوم ما وصلت إليه “طالبان”، بل من الواضح أنّها تجاوزت ذلك كثيراً، بل أحدثت قطيعة أيديولوجية كاملة مع مسار الجهاديين، وانتقلت إن جاز التعبير إلى “ما بعد الجهادية”، أو على حدّ توصيف “داعش”، “الجهاديين السابقين”. فخطاب الحركة الراهن لنظام الحكم القادم ولتصوراتها لعلاقتها مع المجتمع الدولي والأقليات والعديد من الملفّات السياسية الداخلية والخارجية هو خطاب منفصل بالكلية عن الجهادية القديمة، والجديدة حتى، التي تمثّلت في “طالبان”، إذ أصرّت الأخيرة، بالرغم من قبولها بفكّ الارتباط مع “القاعدة”، على مفهوم الدولة الإسلامية وتطبيق أحكام الشريعة، بينما أعلنت الهيئة أنّها تريد نظاماً يتوافق عليه السوريون جميعاً، لا أن تفرض نظامَ حكم إسلامي بالمعنى الكلاسيكي لدى الجهاديين.
عند هذا الحدّ الزمني المهمّ، تتحدّث أوساط دبلوماسية عربية نقلاً عن أحمد الشرع بأنّه ينظر إلى النموذج التركي، بوصفه النموذج المناسب أكثر للحالة السورية، والمقصود بالنموذج التركي (راجع مقال الكاتب: “سورية الجديدة.. الدين والدولة والتيار الإسلامي”، “العربي الجديد”، 17/12/2024) هو التحوّل الأيديولوجي لحزب العدالة والتنمية، لحظة تأسيسه، من عقد مصالحة تاريخية وفكرية وسياسية بين الإسلام والعلمانية في التجربة السياسية، عبر اجتراح نموذج جديد بين الطرفَين، وعقيدة تقوم على قبول الأطراف المختلفة ببعضها، على غرار أحزاب وسط اليمين أو الديمقراطية المسيحية أو حتى المحافظة دينياً، مثل المحافظين الجدد، في الولايات المتحدة.
مثل هذه التسريبات الموثوقة عن تصوّرات الرجل وحركته، ويؤيّدها السلوك الراهن (نتحدث هنا عن الصعيد الأيديولوجي للسلوك السياسي وليس السلطوي للحركة)، تؤشّر إلى أهمية السياقات في تشكلات الأيديولوجيا والسرديات في خطابات وسلوكيات جميع الحركات الإسلامية، بأيّ نسخةٍ كانت جهادية أو معتدلة، وغيرها، بمعنى لو أنّ هذه التجربة قُدّر لها النجاح السياسي فستكون ملهمة للعديد من الحركات الأخرى، ونموذجاً للتعلّم من قبل التجارب والنماذج الإسلامية الأخرى، وإذا حدث العكس وانتكست التجربة، فإنّ البديل هو عودة الزخم لتيارات أو خطابات وسرديات إسلامية أخرى.
————————-
الاغتصاب الممنهج قبل سجون الأسد وبعدها/ ممدوح الشيخ
31 ديسمبر 2024
مُرعِبٌ ما يخرج من سراديب نظام بشّار الأسد المنهار، والحقائق تتحدّى كلّ تبرير أو تهوين، فالجرائم حجماً وانحطاطاً وقسوةً فاقت كلّ محاولات عقلنة ما حدث، فليس كلّ استبداد (شرقي أو غربي) سفك الكمّ كلّه من الدماء من إحراق حماة في الثمانينيّات إلى محو قسم لا يستهان به من البشر والحجر بالبراميل المتفجرة… وأمام كارثة إحراق البشر بالأسلحة الكيماوية تعجز اللغة. وخلال ما يزيد قليلاً عن ثلاثة أرباع القرن (منذ نهاية الحرب العالمية الثانية) شبعت البشرية من قصائد المديح الفارغة للمواثيق الدولية والإعلانات العالمية، والإعلانات المكمّلة، التي بقيت حبراً على ورق، وأثبتت التجارب المتتابعة أن وسائل إخضاع وتدمير عديدة (في مقدّمها الاغتصاب الممنهج) جزء من ترسانة أسلحة الصراعات بين الدول، والصراعات داخل الدولة.
وأخيراً، كشف مسح في ألمانيا وجود نصف مليون ابن وابنة غير شرعيين، هم جزء من الثمرة المرّة لعمليات اغتصاب جماعي ممنهج للنساء الألمانيات بعد هزيمة النظام النازي مباشرةً. والنصف الثاني من القرن العشرين كان في عدّة حالات إعادة إنتاج لمشاهد سابقة عليه، فانتشر الوباء في ميانمار (بورما سابقاً) منذ نهاية سبعينيّات القرن الماضي حتى اليوم، وفي البلقان في تسعينيّات القرن الماضي، فبلغ عدد ضحايا الاغتصاب الممنهج أكثر من 60 ألف بوسنيّة، والهولوكوست الرواندي (1994)، والحبل على الجرّار في سيراليون وفي أوغندا بيد “جيش الربّ”، حتى وصلنا إلى السودان وسورية البعثية. والاغتصاب الممنهج وسيلةَ إخضاعٍ تتجاوز وسائل القمع السياسي العقلانية (المدانة رغم عقلانيتها)، لأن انتهاك الجسد تدمير للحياة الإنسانية، وليس قمعاً للإرادة السياسية. وضحية الاغتصاب تتحوّل في نظر المُغتصِب (المنظومة السياسية التي ينتمي إليها) عدواً/ شيئاً، وعندئذ يبدأ الجحيم.
وفي التاريخ القديم، كانت استباحة المدينة المهزومة مكافأةً لجنود الجيش المنتصر تتحوّل لاحقاً إلى دافع بيولوجي/نفسي للاستمرار في القتال، وحديثاً أثبتت تجربة البوسنة أن الجريمة قد تنفصل من عقالها وتتحوّل (بعد انتهاء الصراع) مشكلةً اجتماعية، وشهدت المنطقة موجة جرائم اغتصاب بعد انتهاء الحرب بسبب فترة الاستباحة الجنسية التي شهدتها الحرب الأهلية. وفي السودان تتوالى تقارير وقائعها مؤلمة، يشير أغلبها إلى قوات الدعم السريع، التي يرفع قادتها شعارات مواجهة الأصولية المتطرّفة واستعادة الحكم المدني، وهي مفارقة جديرة بالتأمل. فالصورة النمطية التي جرى الإلحاح عليها منذ أن ظهر تنظيم داعش، كانت تكرر سردية واحدة عن التطرّف الديني سبباً في حدوث جريمة الاغتصاب الممنهج، وغنيٌّ عن البيان أن “الخطأ لا يُبرِّر الخطأ”.
لكنّ المشكلة تسويق الصور النمطية التي تختصر فئاتٍ واسعةً في حزمة واحدة، تعبّر عنها أقلية منحرفة، بينما في حالة نظام بشّار الأسد كان النظام وحلفاؤه يسوّقونها “مصدّاً تعددياً علمانياً” ينقذ المنطقة، بل ينقذ العالم من خطر الوحشية التي ينتجها التطرّف الديني.
والانهيار الأخلاقي الذي يمثّله وصول الاغتصاب الممنهج بهذا الشكل إلى بلادنا العربية منعطف تاريخي، والممارسات الفردية تبقى دائماً واردةً في كلّ زمان ومكان، أمّا ما يبلغ حدّ الظاهرة فيحتاج ما يتجاوز الإدانة، وكشف حساب ما يحدث في السودان (مثلاً) تحصيه جهود حقوقية غربية، وما كشفه انهيار نظام البعث لم يتجاوز الإحساس بالصدمة. وكلّ عمل يستهدف العدالة الانتقالية يتطلّب (بحسب اجتهاد كاتب هذه السطور) دراسةً مستقصيَةً لجوانب كارثة الاغتصاب الممنهج بأبعادها الحقيقية ودلالاتها وعواقبها. وليس كلّ نظام استبدادي يكشف انهياره عن هذه الكوارث، التي لم تكن موضوع إنكار من النظام المنهار فقط، بل كانت قسوتها تدفع إلى حالة إنكار واسعة تستبعد أصلاً أن يكون هناك بشر بهذه الوحشية.
وفي مواجهة العنف الأسطوري الذي مورس في الهولوكوست الرواندي (حوالي مليون قتيل في مائة يوم)، قال وزير خارجية فرنسا الأسبق: “لم أفهم الهولوكوست النازي إلا عندما رأيت الهولوكوست الرواندي”. بعد أن تهدأ ضجّة القراءة السياسية المباشرة ومحاولات تقديم كشف حساب للرابحين والخاسرين، ثمّة ضرورة إنسانية وأخلاقية قصوى لفتح هذا الملفّ للعدالة، وللبحث والدراسة أيضاً، فهذه في حدود علمي أوّل حالة عربية يُستخدَم فيها الاغتصاب الممنهج بهذا الحجم في صراع سياسي داخلي.
————————-
التنظير عن بُعد/ فوّاز حداد
31 ديسمبر 2024
للسياسة جانب عملي أساسي يُمارَس على الأرض، لا ينفع فيه النضال في المقاهي، طالما أنها مكان للحكي وتبادُل الآراء، ولا يعوّض عنه الاكتفاء بإبداء الرأي على وسائل التواصل، أمّا لماذا نشط السوريون في الكلام، هذا لأنهم حُرموا منه طوال أكثر من نصف قرن، الأمر الجيّد أنهم لم ينسوه.
اليوم، لم يعد الكلام ترفاً، بات ضرورة، خصوصاً بعدما توفّرت أوضاع نضالية للمثقّفين أكثر راحة واسترخاء بحيث يستطيعون إطلاق أقوى الانتقادات، والشعارات صخباً، وهم مضطجعون على “الصوفا”، أو جالسون أمام شاشة اللابتوب، يكتبون ويعلّقون ويسخرون، يكشفون المستور، ويفضحون الخفايا، تُلهمهم ذخيرة تاريخية مشؤومة تراكمت طوال عقود من الهزائم، والإحباطات، رافقتها تنظيرات وتحليلات واجتهادات، وخبرات لثورات اندلعت في أرجاء العالم، قديمة وحديثة كثيرة؛ الفرنسية، والروسية، والصينية، ولاهوت التحرير في أميركا اللاتينية، والثورات المخملية في بلدان أوروبا الشرقية… وكذلك انقلابات العسكر التي دُعيت بالثورات أيضاً.
ثورتنا، إذا شئنا لها هذه التسمية، لا مثيل لها، امتدّت ثلاثة عشر عاماً، لم تُنه أعمالها بعد، بل بدأتها. لا تُريد اقتلاع الدولة من جذورها، بل الحفاظ عليها، ثم أنها ذات طابع إسلامي، لأن الذين قاموا بها أغلبهم إن لم يكن جميعهم متديّنون ومُلتحون. ارتأى مثقّفونا عدم إدراجها في عداد الثورات المرموقة المعترف بها، ووصفوها بالتخلُّف، خصوصاً أن الثورات المتعارف عليها تتميّز بأنها بلا دين، بينما هذه مشبوهة، إن لم تكُن متّهمة بالإسلام السياسي، فلا يجب أن ننسب نجاح ثورتنا إلى الذين صنعوا هذا النصر، وإنما التأكيد على أنها ثورة الشعب السوري، ما يُفقد الذين قاموا بها وطنيتهم، ويركّز على إسلاميتهم، وكأنهم ليسوا من الشعب، مع أن الغالبية العُظمى من السوريين محافظون ومتديّنون بجميع طوائفهم.
ما سبق من كلام مضمونه التشكيك بهذا الإنجاز، القائلون به مثقّفون لا يهمّ إن كانوا عضويّين أو غير عضويّين، أو ما شاؤوا، أكثرهم لاجئون في الغرب، أي أن معلوماتهم جرى تحديثها حسب إنجاز أوروبي عبارة عن اتّهام تحت عنوان “فوبيا الإسلام”، مع العِلم أن الغرب ساهم بصناعة الإسلام السياسي، ثم انقضّ عليه بعدما فلت منه، وأصبح له مسارٌ مختلفٌ.
يحضرنا في هذا المقام ميشيل كيلو كمناضل سياسي، لم يوفّر مكاناً ولا جهة في الفيافي والقفار السورية إلا واتّصل بها وعمل معها، ليجمع بين اليساريين بأنواعهم، والعلمانيين، والمتديّنين من الإسلاميين والمسيحيين بمذاهبهم كلّها، من خلال الحوار معهم. المقصود أنه كان مناضلاً على الأرض. فلم يَسلم من اتّهامات مناضلي الفنادق.
لم نقل هذا إلا لأن هذا الضجيج يدور في الخارج، وهناك من يتلقّفه في الداخل ويبني عليه انتقاداته، وأحياناً بالعكس. في الحقيقة لم يعُد هناك داخل وخارج، إذ يدور هذا الصراع ويحتدم في الفضاء الافتراضي، والجالسون أمام الشاشات أو مضطجعون على “الصوفا”، لم يغادروا أماكنهم بعد. بينما من المستحسن مغادرتها وشدّ الرحال إلى الوطن المنكوب، ليتأمّلوا ويفكّروا في الأولويات المطالَبين فيها، إذ لكلّ منهم أولوياته حسب الإيديولوجية التي أحياها بعد سُبات، مع أنه حتى الإيديولوجية الواحدة، مهما جرى تحديثها، تتعثر في التفاصيل.
إذا كانوا مُستعجلين، فالمستقبل العاجل لا يُصنَع عن بُعد. وما دام كلّ منهم يريد أو يرغب في فرض أولوياته ليعبر إلى المستقبل، وكأنهم لا يتحكّمون به فقط، وإنما يعلمون بالغيب، فلا عجب إذا تعالت أصواتُهم في الوقت المناسب، أواخر العام حيث ينشط قارئو الحظّ.
أخيراً، إذا كان المثقّفون ينشدون نظاماً ما، مواصفاته في رؤوسهم فلا يكفي، يجب أن يعملوا عليه، لذا لا بدّ من النزول إلى الأرض، فالأنظمة تُبنى في الواقع، بينما الكلام يتبدّد في الأثير.
* روائي من سورية
————————
احتمال الخروج من حروب الحداثة إلى سلم الجماعات الأهلية/ بلال خبيز
31 ديسمبر 2024
أجزم أن الحديث عن خارطة طريق مضمونة النتائج لسورية وجوارها يبدو اليوم حديثًا مستحيلًا. واقع الأمر أن شعوب هذه المنطقة، ومعظم المناطق التي كانت تحت سلطة العثمانيين، لا تملك ما تتمثل به. لقد سقطت السلطنة قبل أن تُتم إباداتها، وتحقق تجانس مناطقها على نحو ما فعلت أوروبا التي خاضت حروبًا امتدت رقعتها على مدى قرون.
ما لم يتم إنجازه في تلك العقود الحالكة من تاريخ البشرية في مناطق السلطنة العثمانية، شكّل عائقًا دمويًا هائلًا في وجه محاولات التحديث على كل المستويات في تلك البلاد الناشئة عن انهيار السلطنة. كما لو أن تلك البلاد لم تفعل سوى ارتكاب الإبادات بالتقسيط، لأنها لم تنجح في ارتكابها دفعة واحدة.
لقد ولدت هذه الدول بعيد انتهاء تلك الحروب الدامية في أوروبا. وهي ولدت أيضًا، في غمرة الإدراك الأوروبي الساطع، بأن الحروب المتناسلة من بعضها في تلك القارة منهكة إلى درجة أن الأسلم أن نسلم الضحايا رايات النصر. انتهت حروب أوروبا الكبرى في منتصف القرن الماضي بإعلاء شأن الضحية على نحو حاسم. منذ ذلك الحين، أصبح الندم والخوف من المغامرة هما ما يسيّران السياسة ويحكمان المزاج العام. أوروبا التي كانت في تلك اللحظة قد أتخمت بدماء أهلها، لم تعد قادرة على شرب المزيد من الدم. وكانت هذه التخمة بمثابة حقنًا لدماء المستقبل، من جهة أولى، وعائقًا أمام محاولات تطوير أنظمتها ودساتيرها في سبيل أن تصبح الأمم الأوروبية المنتظمة في دول متجانسة، متسعة ومرحبة بالمختلف والمتحدر من أصول أخرى.
ومن سوء حظ البلاد المولودة من رحم السلطنة العثمانية، أنها جرّبت حظوظها في التحديث وقيم الحداثة والدولة الأمة، في الوقت الذي بدأت فيه علامات الخلل في التجانس في أوروبا نفسها تتضح للجميع، وترتفع مع هذا الاتضاح، أصوات قوى شعبوية متعصبة تطالب بعودة أوروبا للأوروبيين.
كما لو أن تاريخ هذه الدول الناشئة قد سُفح مرتين. مرة لأنها لم تصنع تجانسها في وقت كانت فيه الإبادات أمرًا شائعًا ومقبولًا ومفهومًا، ومرة لأنها عانقت أملها بصناعة مجتمعات متنوعة ومتسامحة في الوقت الذي بدأت فيه نذر الكراهية تلوح في أفق البلاد التي حثت على التسامح وإعلاء قيمة الإنسان وإحلال المواطنة محل الإيمان.
سورية…
سورية بين هذه الدول المولودة من انحلال السلطنة، قد تكون أكثرها تنوعًا وتعقيدًا، وهي بلا شك أكثرها تجريبًا للخطط والأفكار والوسائل التي تمكنها من بناء دولة جامعة. لكن اجتهاد السوريين هذا لم يحل دون تأثر هذا البلد بأحكام عالمية ومحلية تفوق قدرة أهله على معالجتها. لقد ولدت فكرة الدولة الديمقراطية في هذه البلاد نخبوية. منذ بدايات القرن الماضي، كانت نخب هذا البلد تفترض أن الترقي إلى مرتبة المواطنة تشترط التمتع بصفات لا تملكها عامة الناس. المواطن في هذا البلد يولد ابنًا لطائفة أو عائلة أو قبيلة، لكنه يترقى تعليمًا وتثقيفًا ليصبح في ما بعد مواطنًا. المواطنة بهذا المعنى لم تكن مرة معطى يكتسبه السوري بالولادة. عليه أن يترقى في العلم والمعرفة ليصبح مواطنًا. ولم تخل هذه المسارات التي قطعتها هذه النخب من تعالٍ على عامة الناس. لقد تأسست الأحزاب في هذه المنطقة بوصفها تريد تعليم المجتمع ليصبح ناضجًا ومستعدًا لما تقتضيه الحداثة. وهم في هذا السلوك ما كانوا مختلفين كثيرًا عن نظرائهم الأوروبيين. هذه الحداثة ارتكبت من المجازر في دولها ما لم ترتكبه الإمبراطوريات السابقة، بدءًا من محارق النازيين وصولًا لإبادات الستالينيين. لقد قتل الحداثيون باسم الدولة الأمة والمجتمع المتجانس من نجوا من حروب الكنيسة في القرون الوسطى، إذ لو كانت الكنيسة قد أتمت هذه المهمة بدلًا منهم، لما كانوا وجدوا جماعات يحتاجون لإبادتها.
ولد الشرق الأوسط من رحم هذه المعطيات المتشابكة والمعقدة. النخب العلمانية التي تحكمت بمصائره لم تنجح في إحلال المواطنة محل الإيمان. العوائق كانت اجتماعية وطائفية وعرقية، أولًا وفي الأساس. وكانت اقتصادية في المقام الثاني، والذي لا يقل أهمية عن المقام الأول. لم يكن خافيًا على أي متفحص في طبيعة نشوء الدولة الأمة، أن هذه الدول تحتاج لاستقرارها أن تتحول الانقسامات الاجتماعية- السياسية من انقسامات أهلية إلى انقسامات حديثة. طبقات وفئات اجتماعية يحدد معالمها المستوى الاقتصادي أولًا. وتتقرر أهميتها بمقدار الحاجة إليها، هكذا يمكن للطبقة العاملة أن تكون مؤثرة في السياسة حين تكون الحاجة إليها ملحة اقتصاديًا، وحين يكون نسيجها الاجتماعي مؤسّسًا وضروريًا للمجتمع برمته. وما أن تنحسر أدوار الطبقة العاملة بسبب التقدّم التقني والعلمي والصناعي، حتى تضمحل من تلقائها ويصبح دورها في السياسة وصنع القرار هامشيًا، لتحل محلها طبقات أو فئات أخرى أصبحت ذات أهمية للاجتماع والاقتصاد على حد سواء. باختصار، لا تستقر الدولة الأمة إن لم تكن قواها الاجتماعية علمانية المنبت والمنشأ والمآل.
هذا الشرط لم يكن متحققًا في البلاد التي نشأت من رحم السلطنة العثمانية، ولم يكن قابلًا للتحقق لسببين على الأقل: الأول يتعلق بكون المجتمعات المتجاورة في تلك الدول الناشئة كانت متجانسة في مناطقها، وتقيم على حدود مجتمعات متجانسة أيضًا، لكن هذا التجانس طائفي وإثني في الدرجة الأولى، ما يمنع تشكّل فئة المواطنين ويمنع الحواضر الكبرى من التشكّل كمدن حديثة. فتبقى الحواضر عبارة عن أحياء متجانسة يلتقي أهلها في السوق المتنوعة، ويفترقون في الأحياء المتجانسة، ولا تنجح في التحول إلى مدن حديثة تكاد تكون صفتها الأهم، أنها تجمع أهلها بوصفهم أفرادًا مجهولين، ويؤلف في ما بينهم خضوعهم للقانون نفسه الذي لا يفرق بين فرد وآخر.
ولأن الجيوش هي المؤسسات الوحيدة التي كانت تنمو وفق التقسيمات العلمانية شكّلت هذه الجيوش السلطات الأطول عمرًا في هذه الدول.
ليس خافيًا أن دول الجيوش التي نشأت في الشرق الأوسط وسورية منها، استنفدت كل ميزاتها وأنفقت كل رأسمالها منذ عقود. نظام بشار الأسد كان يعيش على انعدام البدائل. لم يكن ثمة في الأفق بديلًا يحل المعضلة التي تضرب عميقًا جذور هذه الدول الناشئة. وكانت هذه الأنظمة التي لم تعد تملك أجوبة على أي من معضلاتها تتغذى، لبقائها، على قيد الحياة من فشلها في نقل من حكمتهم بالقمع والعنف، من خانة الأهل إلى خانة المواطنين. المعادلة كانت قائمة على الشكل التالي: لقد تسلمنا الحكم لنحوّل الأهل إلى مواطنين، لكننا فشلنا في ذلك فشلًا ذريعًا، وعليه، وخوفًا من أن يعود الأهل إلى الحكم يجدر بالعالم كله أن يحافظ على بقائنا ويتغاضى عن جرائمنا بحق من لم ننجح في هندسة اجتماعهم واقتصادهم ليرتقوا من مرتبة الأهل إلى مرتبة المواطنين.
اليوم سورية تعاني من إهمال مديد لمجتمعها الأهلي على كل المستويات، ومن تعفن قاتل في نخبها التي حكمتها طوال هذه العقود. نخب لا تملك أجوبة لأبسط مشكلاتها وأكثرها وضوحًا، ومجتمعات أهلية تدار بالقمع، بحجة أنها أهلية ولا تليق بالعصر الحديث.
خلاصة ما تقدم تفيد ما يلي: لم يعد لدى النخب العلمانية، التي تحولت إلى طوائف وتأثرت وأثرت في سياسات هذه الطوائف، الكثير لكي تقدمه وتقترحه حيال مستقبل سورية. القوى التي تسلمت زمام الأمور في سورية وتلك المرشحة لأن تشاركها في تأسيس السلطات الجديدة، هي قوى أهلية بامتياز. لديها الكثير مما تخشاه من القوى الأخرى المضطرة للتعايش معها، ولديها الكثير من المشتركات التي تجعلها قابلة لتحقيق تعايش حقيقي بين جميع مكونات الدولة السورية. وأغلب الظن أن الدستور الجديد والقوانين التي ستنبثق عن السلطات الجديدة ستراعي هذه التشكيلات أولًا. وستعمل على إبراز المشترك بين هذه القوى لتجعله الحجة الأبرز لبقاء سورية تحت كنف دولة متعدّدة المنابت والتوجهات. وأجزم أن النصر السهل الذي حققته هذه القوى على نظام بشار الأسد الوحشي، لم يكن مردّه حجم التضحيات السورية التي قدّمت على مذبح تحرّرها من هذا الطاغية، بل التجربة القصيرة في إدارة قسم من البلاد، ومراعاة مكوناتها والسماح لها بالتعبير عن هواجسها وممارسة طقوسها في جو من الأمان والتسامح، في المنطقة التي كانت تديرها فصائل المعارضة المسلحة في شمال سورية منذ نحو عقد من الزمن. خلال هذه الفترة الزمنية من حكم هذه الفصائل المسلحة نجحت في أقصاء ما ليس مناسبًا لها من قيم الحداثة، وتبنّي ما يتناسب مع طبيعة الموزاييك السوري، المتشكّل من طوائف وأديان وشعوب. الحال، لم يعد ثمة وصفة جاهزة يمكن استيرادها من الكتب أو من قاعات الجامعات قادرة على تثبيت التعايش الأهلي بين المكونات السورية. ووجد السوريون أنفسهم في موقع من يسعى لتجريب كل الصيغ الممكنة والمتاحة التي تملكها هذه الجماعات لترسيخ السلم في ما بينها، والتعاون لمواجهة التحديات الهائلة التي يمثلها مستقبل سورية.
السبب الأهم لجنوح مكونات الشعب السوري نحو مراعاة بعضها بعضًا، يمكن تلخيصه بحجم الكلفة الهائلة بشريًا واجتماعيًا واقتصاديًا التي تكبّدها الشعب السوري خلال العقود الماضية، وبالأخص في الفترة التي أعقبت ثورة 2011. هذه الكلفة هي ما يعصم السوريين اليوم وإلى أمد طويل نسبيًا من الخوض في مغامرات فرض أي طرف هيمنته على الأطراف الأخرى بالقوة المسلحة، أو محاولة الهيمنة على ما يقع خارج الحدود السورية، كما كانت عليه الحال خلال حكم الأحزاب العقائدية لسورية في العقود السابقة. وإذا شئنا أن نضع عنوانًا لسياسة المرحلة المقبلة في سورية فقد يكون العنوان الأنسب هو التواضع، وهذا ما يرشح من تصريحات القادة الجدد في البلاد: “الشعب السوري منهك، ولا طاقة له بعد على خوض الحروب. لا مكان للانتقام في سورية الجديدة. ليس من حق أي قوة أن تفرض على المجتمع طريقة عيشه وزيه أو تغيير عاداته وتقاليده”. وعليه فإن نقطة الثقل الأبرز في مستقبل سورية، على ما يتضح من مسالك القوى المنتصرة، ستكون الرغبة في العيش بسلام ومن دون خوف الجماعات السورية من بعضها بعضا، أو محاولة فرض معتقدات الطرف الأقوى على الأطراف الأخرى. في الخلاصة: سورية اليوم تخرج من حروب الحداثة إلى سلم الجماعات.
لكن سلم الجماعات ليس مضمونًا بطبيعة الحال. التحدّيات التي تحفّ بهذا السلم هائلة، وقد يكون التطور التقني والتغيرات الهائلة في مجال الاقتصاد التي فرضتها العولمة أبرز التحديات. ذلك أن ما قد تنجح فيه هذه الجماعات في سورية هو إقامة اقتصاد كفاف أهلي، وهذا شبه مضمون. لكن صناعة نموذج للمنطقة والنجاح في تحقيق رخاء وازدهار تحوطه الكثير من الشكوك. فالتقنيات الحديثة تحض الأفراد حضًا على أن يكونوا أنفسهم، لا جماعاتهم، وأن يختاروا بملء إراداتهم، وبحسب أهوائهم وتحصيلهم الثقافي، الجماعات التي يودون الانتماء إليها. وهذا الجنوح الشائع يهدّد دولًا راسخة في استقرارها، والأرجح أنه في سورية سيجعل من كل محاولة لتجميد البلد داخل إطارات جماعاته المكونة له، سببا للاضطراب.
هل تنجح القوى الجديدة في المواءمة بين تقليد الجماعات وضرورات العولمة؟ الأرجح أن عملًا كثيرًا وشاقًا سيكون مطلوبًا من السوريين جميعًا لتحقيق نجاح على هذا المستوى. لكن الثابت أن سورية اليوم تقع في الدرجة الصفر، وأن انتقالها إلى درجة أعلى في المعاصرة يحتاج منها إلى أن تبذل جهودًا مضنية، وأن تبتكر أفكارًا وحلولًا لا تملك الكتب المرصوفة في المكتبات أجوبة لها.
لكن الخلاصة الثابتة التي يمكن إطلاقها حيال ما جرى في سورية وسيجري في المقبل من الأيام، تتعلق بعجز النخب العلمانية عن مواكبة هذه التطورات. ولأول مرة في تاريخ هذه المنطقة الحديث، لا يملك العلمانيون أجوبة على أي من الأسئلة التي تطرحها الأوضاع السورية بقوة على السوريين سوى الأجوبة نفسها التي تم تبنيها من قبل وأدت، في ما أدت إليه، إلى جولات عنف لم تبق من حداثة سورية الكثير.
——————-
عن الأغنيات وخارطة البلد: عندما تخونُ الأناشيد لحنها…/ فدوى العبود
31 ديسمبر 2024
في عام 1973 كتب ولحّن إيلي شويري “بكتب اسمك يا بلادي” و”صف العسكر”. وقبل ذلك، قام الشاعر خليل مردم بك بتأليف كلمات النشيد الوطني السوري “حماة الديار” والتي تم تبنيّها بعد إطلاق المسابقة التي أجريت لاختيار النشيد الوطني لسورية عام 1938.
صاغت هذه الأغنيات الذاكرة الوجدانية للسوريين في كل مكان. وبمجرد أن يفتتح التلفاز بالنشيد الوطني، أو تبدأ مكبّرات الصوت في المدارس حتى يتحول الوطن من فكرة إلى حقيقة ملموسة؛ فيظهر بيدر قمحٍ هنا، ويسيل دم شهيدٍ هناك، ويخفق فؤاد الأم التي تجلس أمام التنور منتظرة عودة طفلها الصغير (الجندي الذي التحق بخدمته الإلزامية).
فأول ما يستيقظ السوريون على كلماته، وهو آخر ما يسمعونه، قبل أن يُطفأ التلفاز:
حماةَ الديار عليكم سلامْ أبت أن تَذِلَّ النفوسُ الكِرام…
تغلغل ذلك في اللاّوعي الجمعيّ، فأصبح حالة عاطفية من الانتماء والأمان التي يدفع فيها الآباء أبناءهم كأضحية للبلاد التي تثبت أحقيتّها في دمهم. وهي أشبه بحكاية المرأتين اللتين اختلفتا على طفل، وكل واحدة تدّعي أنه طفلها، ولما ذهبتا إلى القاضي، طلب منهما إحضار سكين، وأراد أن يقسم الطفل إلى قسمين، وتأخذ كل واحدة قسمًا. ففزعت إحداهما، وقالت: “إنه ليس ابنها”، فعلم القاضي أنها هي الأم الحقيقية، وبهذه المقايضة تتنازل الأم السورية التي ولدت للأم – سورية- التي لم تلد.
يتذكر السوريون جيدًا صورة امرأة أمام تنوّر، أمام مجموعة من الجنود يتناولون من يدها خبزة ساخنة إيمانًا منها أن طيف طفلها البعيد – الجندي الذي كبر بغتة- حاضر في هؤلاء الشبان وأن أمًا مماثلة تعطف عليه؛
ولأنّ: رفيف الأماني وخفق الفؤاد على علمٍ ضمّ شمل البلاد
ستجد ابن حمص يأكل خبزته في دير الزور وابن اللاذقية في دمشق، وابن حلب في اللاذقية. فالبلاد واحدة والأمهات هن الأمهات في كل مكان. وكما سيعثرن في الأغنيات وفي هؤلاء الشبان على طيف الغائب. فالأخير سيرى أمه في تلك العينين اللتين تنظران له بفخر وفي اليدين وهما توزعان أرغفة الخبز المدهون بالزبدة على الجنود الذي سينهضون والسلاح على الكتف لمتابعة رحلتهم نحو الحدود “عاحدودك أنا رايح جاي أنطر حبات ترابك تا تبقى يا وطني حكاية بالعز نعلّي بوابك”.
في ذاكرة السوريين، الكثير من الحكايات حول تلك الأمومة العابرة للأبناء، والكثير من المشاهد لسيارات الزيل العسكرية وهي تحمل جنودًا يدركون بأن الشجاعة لا تنفصل عن الكرامة، والقوة بدون أخلاق أعلى درجات العار. ويتذكر الجنود، ولا شك، تلك الوجوه المبتسمة التي صبغتها الشمس والأيدي التي جفّفها الشقاء، وهي تناولهم كأس شاي، وتمدّ لهم رغيف خبز يقبّلونه بعد إلحاح (إنّ لهم عزّة نفس لن يكسرها لاحقًا سوى الأسد وابنه من بعده).
يتابع الوطن مجراه في الدم والأغنيات إذ تمتزج في صباحات العيد رائحة الكعك مع صوت غوار الطوشي الذي يمثل دوره دريد لحام في مسرحية “كاسك يا وطن”: “مشكلتي أنا ما بقدر أرحل عن الوطن، أنا بدوخ بالطيارة. افترض أنيّ رحلت وبعّدت. مشكلتي أنّه الوطن ما بيبعد عني بيضلّ عايش فيي من جوّا”.
ليُنهي مسرحيته بأغنية:
“بكتب اسمك يا بلادي عالشمس اللي ما بتغيب،
لا مالي ولا ولادي على حبك ما في حبيب”…
لقد اقتنعت الأمهات أخيرًا بالحكمة القائلة “أبناؤكم ليسوا لكم، إنهم أبناء البلاد”، لكنّ الوطن يرغب بالمزيد، وهو لن يتوقف عن طلب فاتورة باهظة، وعلى الأمومة أن تدفعها برضى.
يا وطني يا غالي يا عزّ وغار
يا بلادي يا حرّة ومهما صار
رح تبقى حجارك ذهب الدار
تنقّل الأمهات فؤادهن حيث شئن من الهوى، لكن حبهن لأول للبلاد وجيش البلاد، بل وأكثر من ذلك:
أما فيه من كل عين سواد ومن دم كل شهيد مداد؟
الجيش السوري لم يكن في آخر مرحلة من مراحل انهياره الأخلاقي سوى مجموعة شبان منهكين وجائعين، وما يفعله الجوع بالإنسان يفوق السحر…
فما الذي حدث، من أحرق حقول القمح في أغانينا؟ ومن سمَلَ عيون جيشنا؟ من مزق العلم فوق السارية، ألم يلحظ أحدٌ هذا السواد الذي يسيل! من هدم التّنور ولوّث خبزنا بالدم؟ ولماذا نكَّسنا رؤوسنا في تحية العلم؟ وخفت صوتنا في أثناء تأدية النشيد الوطني!
ومن هؤلاء؟
لم يبدأ التدهور في 2011، بل قبل ذلك بكثير، فأوديب لم يسمل عينيه في البداية، وقبل ذلك كان قد تزوج أمه وقتل والده، ولم تكن مجزرة حماة سوى البداية لنهاية تصطبغ فيها سماء السوريين باللون الأسود، ويهوي العلم من فوق السارية، وتتحول سهول البلاد ودروبها من بستان مخضرّ إلى إقطاعيّة أشبه “بمزرعة الحيوان” في كتاب جورج أورويل.
أصبح الجيش مجموعة من الغرباء، كما أن النفوس الكرام التي أبت أن تُذل بين كلمات الأغنية ذُلّت في الواقع… والجندي الذي تناول يومًا رغيف خبز من يد الجدّة، سيعود ليكون في أسوأ الأحوال حارسًا للّصوص الذين يسرقون البيت.
وهو الآن سائق لعشيقة الضابط فلان، وخادم في قصر التاجر فلان، إنه يعرف أن الكرامة ثمنها الشرف لكنه يؤثر- إن تبقى لديه شيء منها- أن يكون شاهدًا على أن يصير شهيدًا. لقد آثر أن يوجه سلاحه إلى صدر أهله متباهيًا بالدوس عليهم وإجبارهم على تقبيل صورة طاغية (اختُزِلَتْ البلاد في شخصه)، متغذيًّا على أوجاع الأمهّات، وساخرًا من آلام الناس الذين توزعوا بين غريق وقتيل ومعتقل ولاجئ. فالجيش لم يكن في آخر مرحلة من مراحل انهياره الأخلاقي سوى مجموعة شبان منهكين وجائعين، وما يفعله الجوع بالإنسان يفوق السحر؛ إذ لم يكن الأخير وسيلة لعبوديّة مختارة، بل نجح في إطلاق الوحش. ولم يحمل جنود الجيش فوق ظهورهم وفي سياراتهم أثاثًا ملوثًا بالدم، بل نسوا في غمرة ابتهاجهم؛ كرامتهم بين الأنقاض التي يرقد تحتها من كان يفترض بهم أن يحموهم.
لم تكن 2011 سوى الفصل الأخير من مسرحيّة تراجيديّة، بل لعلها أوديبيّة بامتياز. فالجيش السوري الذي يعرِّفه غوغل “الجيش العربي السوري أقوى جيش في الشرق الأوسط”، سيمضي هائمًا في الدروب ليلة الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024. ليطوي مرحلة كانت أشبه باحتضار طويل، بينما كان السوريون كتلك الأم التي تراقب دمار ابنها الوحيد الذي أعلنت براءتها منه وشفقتها عليه في الوقت ذاته وهي تتساءل: “هل هذا هو جيشنا؟”.
ولأن الرصاصة أسرع من السؤال، والحاضر يطوي الماضي من دون أن يلغيه؛ سيبقى السؤال ممتزجًا بالأسى إلى أن يتكفل التاريخ بتصحيح مسار الأحداث. ولعل الأغنيات الجديدة هذه المرّة، تعيد اللحن إلى كلماته وترجع النشيد إلى وجهته، والعلم السوري إلى ساريته.
يردّد السوريون الآن “في سبيل المجد”، وهي قصيدة للشاعر عمر أبو ريشة، إذ يبدأ مطلعها:
في سبيل المجد والأوطان نحيا ونبيد
كلنا ذو همة شماء جبار عنيد
لا تطيق السادة الأحرار أطواق الحديد
إن عيش الذل والإرهاق تأباه العبيد…
وتبدأ مرحلة جديدة، يحرص فيها الماضي على التذكير بنفسه بين وقت وآخر. كما جرى في صباح ماطر من الصباحات التي أعقبت سقوط بشار، إذ سألتني جارتي العجوز التي تجلس أمام دكانها ملقية يديها باستسلام في حجرها إذا كان بإمكان بشار أن يعود؟ لتعيد سؤالها في صباح آخر حول ما إذا كان ابنها الذي خدم في الجيش السوري – والذي مُزِّقت صوره بعد أن علّقت فوق أحد الجدران لمدة 13 عامًا- شهيدًا أم قاتلًا؟
لم يكن لدي جواب على سؤالها، نظرت في عينيها المقهورتين وتناولت من يدها المشققة علبة القهوة، وقلت وأنا أصعد الدرج: ضحيّة…
ولأن ليس كل الحزن جليل، فإن ألمها امتزج بعارٍ خصّتني بشيء من ملوحته التي غمرتني أثناء سنوات الحرب إذ كتبت لي صديقة مصرية تسألني عما إذا كان جيشنا يرتكب المجازر بحقنا؟
ولأن كلمات أي نشيد تختصر مرحلة، وتحوي بين حروفها تاريخ بلاد، فإننا نطوي نشيد “حماة الديار”، لا شماتة ولا بغضًا بل بألم وخذلان مما حدث وتوق وخوف مما سيأتي لنحلم بمستقبل يمثله جيش لا يفكر بإذلالنا مرة أخرى ولا يغدر بنا لأجل طاغية، لنودع زمنًا ومعه علمٌ هوى ولحنٌ خان وقهر عالقٌ في ذاكرة السوريين ولسان حالهم يقول:
قد صبرنا فإذا بالصبر لا يُجدي هدى
وحلُمنا فإذا بالحلم يودي للردى
ونهضنا اليوم كالأطوادِ في وجهِ العِدى…
المفارقة أن العدو لم يكن سوى جيش غدرَ بالأغنيات، ليُطوى وتنطوي معه صفحة ليست الأكثر دمويًّة فحسب بل الأشدُّ قهرًا وعارًا في التاريخ.
* كاتبة سورية.
ضفة ثالثة
——————————–
السبيل إلى سوريا أفضل حالا/ بنيامين فيف
سيعتمد السلام المستدام على إنعاش الاقتصاد
كرم شعار
الجمعة 27 ديسمبر 2024
يفتح الانهيار المفاجئ لحكومة بشار الأسد آفاقاً للتعافي في سوريا، لكن البلاد تواجه تحديات هائلة بدءاً من الدمار الاقتصادي، والعقوبات الدولية وصولاً إلى التقسيم السياسي الذي يعقد عملية إعادة الإعمار والإصلاحات
أثار الانهيار الدراماتيكي لحكومة الرئيس السوري بشار الأسد في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) آمالاً ببداية جديدة لبلد عانى من الحرب لمدة تزيد على عقد من الزمن. لكن عملية التعافي في سوريا تواجه عقبات هائلة، إذ إن الاقتصاد بات في حالة خراب تام، ولم يعد يمثل سوى ظل لما كان عليه قبل الحرب، منهكاً بسنوات من الصراع الكارثي، والفساد المتجذر، والعقوبات الدولية القاسية. والقيادة الجديدة التي ستستلم الحكم لن تجد نفسها أمام دولة منهارة فحسب، بل سترث أيضاً مجموعة معقدة من التحديات التي سيتعذر حلها بسهولة.
بعد اندلاع الاحتجاجات الشعبية ثم التمرد في سوريا عام 2011، تمسّك نظام الأسد بالسلطة من خلال ممارسة التعذيب الممنهج والحملات العسكرية الوحشية بدعم من إيران وروسيا وعدد من الميليشيات المتحالفة. وفي السنوات الأخيرة، تضاءل الاهتمام الدولي بسوريا، وأشار عديد من المراقبين إلى أن الأسد قد “انتصر” على رغم أنه كان يدير ما تبقى من بلد مدمر ودولة شبه منهارة. لكن العالم صُدم عندما قادت جماعة “هيئة تحرير الشام” (HTS) المتمردة هجوماً أجبر النظام على الانهيار خلال أسابيع قليلة. يمثل رحيل الأسد نهاية حقبة، ولكنه يبرز أيضاً هشاشة السلطة في سوريا المنهكة والممزقة.
في الوقت الحالي، تتولى “هيئة تحرير الشام” دور السلطة المركزية في سوريا، وتشرف على فترة انتقالية من المقرر أن تستمر حتى 1 مارس (آذار) 2025. وأياً كانت الحكومة التي ستنبثق من هذه العملية، فهي ستواجه تحدياً يتمثل في إيجاد طريقة لإنعاش الاقتصاد السوري. وفي سبيل تجاوز سنوات الدمار والعقوبات والتشرذم، سيكون من الضروري إجراء إصلاحات داخلية جدية والحصول على دعم دولي. وسيتعين على القيادة السورية الجديدة معالجة الأزمات الإنسانية في البلاد، وإعادة إحياء البنية التحتية الحيوية للطاقة والإسكان. ولكن من أجل تحقيق انطلاقة فعالة، ستحتاج في البداية إلى دعم من المجتمع الدولي. بدايةً، على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أن يخففا العقوبات المفروضة على نظام الأسد و”هيئة تحرير الشام”، وأن يدعما جهود الحكومة الجديدة الرامية إلى إحياء فرص مستثمري القطاع الخاص وإعادة الإعمار.
في الواقع إن هذه الفترة سوف تحدد معالم مستقبل سوريا. وإذا واجه القادة الجدد في البلاد صعوبة في تنفيذ الإصلاحات وكسب ثقة المواطنين والقوى الخارجية، وإذا استمرت هذه القوى الخارجية في فرض العقوبات وحرمان سوريا من المساعدات اللازمة، فإن البلاد تخاطر بالغرق في فوضى أعمق وعنف متجدد، وسيسفر ذلك عن تفاقم الأزمات الإنسانية في سوريا، وسيؤدي إلى مزيد من التهجير والبؤس لشعبها.
دولة في حالة خراب
قبل اندلاع الحرب الأهلية في عام 2011، كانت سوريا تمتلك اقتصاداً متنوعاً نسبياً، أسهمت فيه الزراعة وصادرات النفط والصناعات وقطاع الخدمات المتنامي في الناتج المحلي الإجمالي. كانت البلاد في طريقها لتصبح مركزاً إقليمياً للتجارة والسياحة، وحققت نمواً اقتصادياً متواضعاً مدفوعاً بإجراءات اقتصادية تهدف إلى تحرير السوق نُفّذت في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ولكن بعد أكثر من عقد من الصراع، ترث السلطات الانتقالية في سوريا الآن بلداً في حالة يرثى لها. فقد تقلص الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تزيد على 80 في المئة منذ عام 2011 في حين يعيش 90 في المئة من السكان تحت خط الفقر. وأدى التضخم الجامح إلى تدمير العملة الوطنية، حيث فقدت الليرة السورية أكثر من 99 في المئة من قيمتها خلال أكثر من عقد بقليل. وارتفعت معدلات البطالة إلى مستويات غير مسبوقة، في حين أدى النزوح الواسع النطاق إلى ترك ملايين الأشخاص من دون أي فرصة لتحقيق استقرار اقتصادي.
علاوة على ذلك، أصبحت البنية التحتية للبلاد في حالة انهيار تام. فقد دُمر قطاع الطاقة، الذي يعد ضرورياً لتعزيز المالية العامة للدولة. وتعرضت محطات توليد الطاقة، ومصافي النفط، وشبكات التوزيع للتدمير المنهجي أو النهب أو الإهمال. والآن صارت سوريا، التي كانت في السابق مصدّراً صافياً للنفط [أي أن صادرتها من النفط أكثر من وارداتها]، تكافح لتلبية حاجاتها الأساسية من الطاقة المحلية، غير قادرة على توفير الكهرباء سوى لبضع ساعات في اليوم في مختلف أنحاء البلاد.
واستطراداً، أدت العقوبات والعزلة الدولية المستمرة منذ عقود إلى فصل سوريا عن الاقتصاد العالمي. فقد كانت العقوبات، التي فرضتها الدول الغربية بشكل أساسي، تهدف إلى الحد من قدرة النظام السوري على تمويل عملياته العسكرية وقمع المعارضة، ودفعه إلى الجلوس إلى طاولة المفاوضات. ولكن إلى جانب استهداف الأفراد والمؤسسات المسؤولة عن الانتهاكات، امتدت العقوبات لتشمل قطاعات اقتصادية واسعة، مثل البنوك والطاقة. ومن شأن هذه التدابير القسرية، التي لا تزال سارية، أن تزيد من تعقيد التحديات التي تواجه التعافي الاقتصادي. مع ربط الغرب إعادة الإعمار والانخراط الدبلوماسي بسعي النظام نحو تسوية سياسية مع الجماعات المعارضة، وهو ما رفضه الأسد بشدة، ازدادت عزلة سوريا. وقد حال نبذ نظام الأسد دولياً دون حصوله على دعم تنموي كبير أو قروض من الجهات الفاعلة الإقليمية الرئيسة بما في ذلك الاتحاد الأوروبي والدول العربية، فضلاً عن المنظمات المتعددة الأطراف كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
وغالباً ما تمكنت النخب المرتبطة بالنظام من الالتفاف على بعض العقوبات والقيود، لكن السوريين العاديين عانوا من تأثيراتها الكاملة، فعُزلوا إلى حد كبير عن الأنظمة المالية الدولية. وقد قضت هذه العزلة على الفرص الاقتصادية، وخنقت نشاط القطاع الخاص، وقلصت انفتاح البلاد على الأسواق العالمية، وكلها عوامل حاسمة في التعافي الاقتصادي. واستكمالاً، خلق التحول إلى اقتصاد حربي فرصاً جديدة للابتزاز والفساد، مما أدى إلى مزيد من تآكل هياكل الدولة، وترسيخ انعدام الكفاءة، وتقويض قدرة الاقتصاد على الصمود.
عملية التعافي في خطر
بينما تكافح سوريا هذه المشكلات الاقتصادية، تبدأ عقبات جديدة في التشكل من شأنها تعقيد جهود التعافي وتستدعي اهتمام القيادة المستقبلية بشكل عاجل. من أبرز التحديات التي تواجهها البلاد هو التدفق المتوقع للوافدين العائدين. فقد تم تهجير أكثر من خمسة ملايين سوري إلى الخارج خلال الـ 13 عاماً الماضية، والكثير منهم يفكرون الآن في العودة إلى وطنهم. لكن سوريا تفتقر إلى القدرة على استيعاب حتى جزء من هذا العدد. إن البنية التحتية في البلاد قد تجاوزت حدود طاقتها في محاولة تلبية حاجات السكان الحاليين. فقد دُمر ثلث المخزون السكني أو أصبح غير صالح للسكن، حيث تعرض العديد منه للقصف من قبل القوات الروسية والسورية. كما أن الخدمات الأساسية، مثل الرعاية الصحية والتعليم والصرف الصحي، في حالة خراب. إضافة إلى ذلك، فإن النزاعات القانونية غير المحسومة بشأن ملكية العقارات وغياب آليات مؤسسية قوية لتسهيل إعادة الاندماج [أي عودة النازحين وانضمامهم إلى المجتمع بعد فترة من الغياب] تهدد بتعميق التوترات الاجتماعية.
أما التحدي الآخر الذي سيظهر في المدى القريب، فهو الصعوبة التي ستواجهها الحكومة الناشئة في التغلب على العقوبات الواسعة. نظراً لأن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، من بين جهات أخرى، قد صنفت “هيئة تحرير الشام” كمنظمة إرهابية، فإن العقوبات والقيود الاقتصادية الأخرى التي كانت تطبق على نظام الأسد وحلفائه قد امتدت فعلياً لتشمل كل سوريا. واستمرار هذه العقوبات سيؤدي إلى زيادة عزلة سوريا عبر الحد بشكل كبير من إمكانية حصولها على مساعدات إعادة الإعمار والاستثمارات الأجنبية. ولن تلغي القوى الغربية العقوبات إلا إذا قدمت الحكومة الجديدة بقيادة المتمردين التزاماً واضحاً بالإصلاح السياسي والاستقرار، وهو أمر يبقى من غير الواضح ما إذا كانت “هيئة تحرير الشام” قادرة على تحقيقه بشكل موثوق.
واستطراداً، يشكل توحيد الاقتصاد المجزأ في سوريا تحدياً أساسياً آخر. فعلى مدى ما يقرب من سبع سنوات، كانت البلاد مقسمة إلى أربع مناطق رئيسة: تحت سيطرة نظام الأسد، والإدارة الذاتية الكردية بقيادة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، والحكومة السورية الموقتة المدعومة من تركيا، وحكومة الإنقاذ السورية التابعة لـ”هيئة تحرير الشام”. وكان لكل منطقة أنظمتها الاقتصادية وسياساتها الخاصة، وتفاوتت مستويات المعيشة فيها بشكل كبير: إذ تراوحت الرواتب الشهرية لموظفي حكومة الإنقاذ السورية من 80 إلى 110 دولارات، مقارنةً بما يتراوح بين 24 و30 دولاراً لموظفي الحكومة في المناطق التي يسيطر عليها نظام الأسد. والآن، بعد أن استحوذت “هيئة تحرير الشام” على معظم المؤسسات السياسية في سوريا باستثناء المناطق التي تسيطر عليها “قوات سوريا الديمقراطية”، يجب عليها دمج هذه الاقتصادات المجزأة. إن تشكيل إطار وطني موحد يتطلب التوفيق بين نماذج الحكم المختلفة والعملات المتنوعة، وهو أمر ليس سهلاً. على سبيل المثال، قامت “هيئة تحرير الشام” بتطبيق الزكاة، وهي شكل من أشكال الضرائب المبنية على المبادئ الإسلامية، والتي قد تواجه مقاومة إذا تم تطبيقها في جميع أنحاء سوريا. كما أن استخدام العملات يختلف بين المناطق، حيث تسود الليرة السورية في المناطق التي كانت تحت سيطرة النظام، في حين تُستخدم الليرة التركية على نطاق واسع في المناطق الشمالية. ومن أجل تمهيد الطريق للتعافي، يجب على القيادة الجديدة اعتماد الليرة السورية كعملة وطنية موحدة، والتخلي عن السياسات الحمائية غير المنتجة المتعلقة بالتجارة، وإلغاء أنظمة دعم سعر الصرف المخصصة للإنتاج المحلي غير المجدي اقتصادياً. وسوف تشكل مثل هذه التغييرات تحولاً جذرياً في الوضع الراهن، لكنها ضرورية لخلق بيئة اقتصادية مستقرة وإظهار استعداد الحكومة الجديدة لتنفيذ إصلاحات جادة.
وما يزيد من تعقيد عملية التوحيد هو المصالح المتضاربة لأباطرة المال والأعمال الذين برزوا خلال الصراع في المناطق الواقعة خارج سيطرة دمشق، لا سيما أعضاء النخب المنتمين إلى إدلب في الشمال الغربي، الذين ازدهروا تحت نظام يشبه رأسمالية المحسوبية في عهد الأسد. ومن المحتمل أن يسعى هؤلاء اللاعبون الأقوياء إلى الحصول على حصة أكبر من الاقتصاد في سوريا ما بعد الأسد، مما يخلق توترات مع شبكات الأعمال التقليدية في مدن مثل حلب ودمشق التي كانت تهيمن عليها سابقاً النخبة المحسوبة على الأسد التي قد تتعرض للتهميش في ظل الحكومة الجديدة. وقد يسعى الفاعلون الاقتصاديون المرتبطون بالسلطة الجديدة في دمشق إلى الاستفادة من الفرص التي أتاحها انهيار النظام والفراغ الذي خلفته نخبة الأعمال المقربة من الأسد. فعلى سبيل المثال، بمجرد أن سيطرت “هيئة تحرير الشام” على حلب، بدأت شركة “سيريا فون” Syria Phone، وهي شركة اتصالات تابعة لحكومة المجموعة في إدلب، في التحرك لسد الفجوة التي خلفها مزودو الخدمات في مناطق كانت تحت سيطرة قوات الأسد سابقاً.
ولا بد من أن يحدث التوحيد أيضاً على مستوى السيطرة على الأراضي. لا تزال “قوات سوريا الديمقراطية”، المدعومة من الولايات المتحدة، تسيطر على عديد من الموارد الطبيعية في سوريا، لا سيما حقول النفط. وتؤدي هذه الديناميكية إلى تعقيد الجهود الرامية إلى إنشاء إطار اقتصادي وطني متماسك والتوفيق بين المطالبات المتنافسة. ومع ذلك، يمكن للولايات المتحدة أن تستخدم نفوذها على “قوات سوريا الديمقراطية” و”هيئة تحرير الشام” لمنعهما من القتال على المناطق المتنازع عليها، وضمان احترام الحكومة الجديدة للأكراد السوريين ودمجهم في الهياكل السياسية والاقتصادية للبلاد، وفي نهاية المطاف تمكين الانسحاب المنظم للقوات الأميركية من سوريا. ويعتمد تعافي الاقتصاد السوري على الإدارة الفعالة للمناطق الغنية بالنفط، سواء لتحقيق الاستقرار في الحكم أو لضمان أن تسهم هذه الموارد الحيوية في إعادة إعمار الوطن.
سبيل الخروج من الدمار
يواجه الشعب السوري تحديات هائلة، وبعد أكثر من عقد من الصراع والدمار، لا يمكن أن تكون الحلول الجزئية كافية، فالإصلاحات الشاملة والعملية، المدعومة بالالتزام الدولي، هي وحدها القادرة على تمهيد الطريق للمستقبل.
يجب أن ينصب التركيز الفوري على معالجة الأزمة الإنسانية في البلاد، إذ يعاني ملايين السوريين حالياً من الفقر المدقع والجوع والتشرد، مما يجعل جهود الإغاثة الواسعة النطاق أمراً ضرورياً. وتُعتبر عملية إعادة بناء البنية التحتية الأساسية، بخاصة في قطاعات الطاقة والإسكان والنقل، أولوية ملحة. فاستعادة إمدادات الكهرباء والوقود ليست مجرد ضرورة عملية فحسب، بل هي أيضاً شرط مسبق للنشاط الاقتصادي ولإعادة مظاهر الحياة الطبيعية. وفي هذا السياق، فإن دمج المناطق الغنية بالنفط، وخصوصاً تلك التي تسيطر عليها “قوات سوريا الديمقراطية” في شمال شرقي سوريا، ضمن إطار وطني أوسع، سيكون أمراً بالغ الأهمية لضمان أمن الطاقة، والتوزيع العادل للعائدات، وجذب الاستثمارات الدولية.
في الواقع، ستتطلب تلبية هذه الحاجات العاجلة تمويلاً كبيراً من المجتمع الدولي، وهو أمر من المرجح أن يجعل مساعدات إعادة الإعمار أو رفع العقوبات مشروطة بالإصلاح السياسي. وكما أشار بيان صدر أخيراً عن مجموعة الدول السبع، لن تتمكن سوريا من الحصول على الدعم الدولي إلا من خلال الوفاء بشروط قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2254، الذي حدد في عام 2015 مساراً للسلام في سوريا من خلال انتقال سياسي ديمقراطي. ومن دون هذه الخطوات الأساسية (والمساعدة التي ستتبعها من المجتمع الدولي)، ستظل أي محاولة أوسع للتعافي محفوفة بالأخطار في أفضل الأحوال. لذلك، يجب على الحكومة الناشئة في دمشق إعطاء الأولوية للإصلاح السياسي. ومن جانبهم، يتعين على صناع السياسات الغربيين وضع أهداف واقعية وتحديد خطوات واضحة للسلطات الجديدة في دمشق. ولا يستطيع السوريون تحمل مزيد من التأخير. فمع اشتداد فصل الشتاء ونقص السلع الأساسية، من الضروري اتخاذ إجراءات عاجلة لتخفيف المعاناة وإرساء أسس التعافي المستدام.
وسيكون التخفيف التدريجي للعقوبات أمراً ضرورياً أيضاً لتعافي سوريا. ومع خروج الأسد من المشهد، يجب على الغرب أن يقدم على الفور تخفيفاً غير مشروط للعقوبات في القطاعات الحيوية مثل الطاقة والكهرباء والمصارف، بهدف إعادة دمج سوريا اقتصادياً والسماح لهذه الصناعات الحيوية بالتعافي. ومع ذلك، فإن التخفيف الأوسع للعقوبات، في ما يتعلق بإزالة “هيئة تحرير الشام” من قوائم المنظمات الإرهابية، يجب أن يرتبط بمعايير قابلة للقياس [معايير واضحة ومحددة] في إصلاحات الحوكمة، بما في ذلك مشاركة جميع الأطراف واحترام حقوق الإنسان والالتزام بالتحول الديمقراطي. ومن شأن هذا النهج أن يستخدم العقوبات القائمة لتحفيز الإصلاح في حين يعزز في الوقت نفسه الثقة الدولية في المسار السياسي والاقتصادي لسوريا.
إلى جانب الإغاثة الاقتصادية الدولية، يجب أن تكون التنمية المستدامة بقيادة السوريين أنفسهم، وفي سبيل خدمة السوريين، وأن تدعمها أنشطة القطاع الخاص. وسيكون إحياء القطاع الخاص أمراً أساسياً للحد من الفقر وتعزيز الاعتماد على الذات. فقد أدت عقود من المحسوبية والعقوبات إلى خنق روح المبادرة، مما جعل الشركات مترددة في الاستثمار في بيئة قسرية وغامضة. ومن أجل استعادة الثقة وتحفيز النشاط الاقتصادي، من الضروري تطوير قدرات السوق الحرة من خلال تشجيع الملكية الخاصة وريادة الأعمال، وتعزيز المنافسة، وخفض الحواجز أمام الأعمال الجديدة، ووضع إطار تنظيمي شفاف. والإصلاحات العاجلة المطلوبة، بما في ذلك إلغاء السياسات الحمائية الخاصة بالواردات وتفكيك آليات سعر الصرف التي تدعم الإنتاج المحلي غير الفعال، تُعتبر ضرورية لخلق فرص متكافئة وتشجيع النمو الاقتصادي.
وأخيراً، ستعتمد عملية التعافي الطويلة الأمد في سوريا على إعادة الاندماج في الاقتصاد العالمي من خلال اتفاقيات تجارية وشراكات إقليمية ومشاركة دبلوماسية. ويجب على القادة الجدد في البلاد أن يدركوا أن الفشل في تلبية توقعات المجتمع الدولي بشأن الإصلاح السياسي والشفافية يهدد بإطالة أمد عزلة البلاد وتعميق عدم استقرارها وتفاقم أزمتها الإنسانية. وكما أظهرت السنوات الثلاث عشرة الماضية، فإن ما يحدث في سوريا لا يبقى محصوراً في سوريا. وإذا لم تتمكن الحكومة الجديدة والمجتمع الدولي من العمل معاً لتنفيذ إصلاحات ذات مغزى، سوف يعاني الشعب السوري والمنطقة بأسرها من العواقب.
مترجم عن “فورين أفيرز” 20 ديسمبر (كانون الأول) 2024
كرم شعار هو مدير شركة “كرم شعار للاستشارات محدودة المسؤولية”، وهي شركة استشارية تركز على الاقتصاد السياسي في سوريا
بنيامين فيف هو باحث في شركة “كرم شعار للاستشارات محدودة المسؤولية”
—————————–
حصاد السنة: دروس سورية للكرملين/ بسام مقداد
الثلاثاء 2024/12/31
في العام 2019 توقع السياسي الروسي الراحل وزعيم أحد الأحزاب التي تشارك الحزب الحاكم في البرلمان الروسي (الدوما) فلاديمير جيرينوفسكي، حرباً في الشرق الأوسط تجعل الجميع “ينسى ما هي أوكرانيا”. لم يكن الراحل معروفاً بسعة إطلاعه أو قدرته على التنبؤ بالأحداث، بل كان كلامه السياسي وتصريحاته تثير السخرية وضحك مستمعيه، بمن فيهم بوتين. لكن ما يدهش أن توقعه هذا الذي كانت تردده مواقع الإعلام الروسية طيلة السنة المنتهية، قد تحقق باندلاع حروب متنقلة في الشرق الأوسط، تتناسل من الصراع الأم بين إيران وأذرعها ضد إسرائيل.
لكن عنوان السنة الأبرز لن تكون حروب إسرائيل الدموية على لبنان وغزة، وما تسفر عنه من موت ودمار. بل سيكون ما حمله شهرها الأخير من مفاجأة سقوط نظام الأسد في سوريا، والذي جعل الناس ترقص فرحاً على أنقاض عمارهم وأضرحة أمواتهم، وكأن هذا السقوط كان قسطاً من اقتصاص عدالة تنتظر استكمالها بحق السفاحين.
إعلام الكرملين لا يرى ما يفرح في حصاد هذه السنة، بل يودعها بغصة فراق سوريا، منصة نفوذه في الشرق الأوسط ومحطة لقواته التي تدعم عدداً من طغاة إفريقيا. ينكر بوتين أن يكون سقوط دميته الأسد هزيمة له في سوريا، لكنه يدرك جيداً أنها كانت صفعة شديدة لكل حصاده في المنطقة على مدى السنوات التي تلت ولوغه في الدم والدمار السوري.
صحيفة الكرملين VZ وصفت العام 2024 بأنه السنة التي قلبت الشرق الأوسط رأساً على عقب. ورأت في 28 الجاري أن سقوط الأسد في غضون أسابيع، كان النتيجة الرئيسية لعام 2024 التي صدمت الشرق الأوسط ككل. وقد جرى هذا السقوط على الرغم من تحذير العديد من الخبراء من هشاشة الحكومة السورية. وكان هؤلاء الخبراء يدعون دمشق إلى تنفيذ الإصلاحات بشكل عاجل وعدم العيش على أمجاد النصر على الإرهابيين الذي تحقق قبل أربع سنوات، سيما وأن هذا النصر كان الفضل فيه يعود لروسيا وإيران أكثر مما للحكومة السورية.
لكن الصحيفة ترى أن سقوط الأسد كان كارثة، ولو كانت نشرت نصها بعد زيارة وزير الخارجية الأوكراني لسوريا ودعوته لخروج روسيا من سوريا، لكانت تأكدت أنه كارثة لروسيا وليس لسوريا. واعتبرت أن من يعتقد (الأتراك والأوروبيون- تحدد الصحيفة من تعني) أن سوريا والمنطقة ستكون افضل حالاً بعد سقوط الأسد، فهو مخطئ جداً. وتتوقع أن تواجه المنطقة في العام 2025 كوارث جديدة ناجمة عن الكارثة السورية. وتؤكد أن الأراضي السورية ستصبح، “وقد أصبحت”، أرضاً خصبة لعدم الإستقرار. كانت السلطات الجديدة قد صرحت بأنها تسعى لإنشاء جيش موحد وإجراء إنتخابات، لكن كيف يمكن القيام بكل ذلك، والسلطات نفسها ليست موحدة. وترى أن معارضي الأسد كانوا دائماً تكتل مجموعات مختلفة يوحدها وجود عدو واحد، لكن مع اختفاء هذا العدو، سيقوم العديد من هذه المجموعات بتمزيق سوريا.
تعمم الصحيفة الأحداث الفردية التي وقعت، وتجعل منها ظواهر. فتشير إلى إضطهاد المسيحيين بعد إحراق شجرة الميلاد، وتعتبر ملاحقة مجرمي الحرب الأسديين اضطهاداً للعلويين، وتتساءل عن أي سوريا موحدة يمكن الحديث. وتستنتج أنه لن يتمكن من إعادة توحيد سوريا سوى دكتاتور عسكري جديد. ولن يتسنى ذلك إلا بعد أن يتذوق كل السوريين عواقب سقوط الأسد، ويصبحوا على استعداد للتضحية بشبح الحقوق المدنية من أجل الاستقرار الواقعي.
وكالة الأنباء الروسية المحلية Regnum رأت في 28 الجاري أن “سقوط دمشق” كان النتيجة الرئيسية للسنة المنتهية في الشرق الأوسط، وعنونت نصها بالقول “دروس سوريا”. استهلت الوكالة نصها باعتبار سقوط الأسد الحدث الرئيسي لهذه السنة، وغطى على الكثير من الأحداث الأخرى المهمة. وترى أن الحدث هز بالفعل الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ومن المحتمل أننا لا نسمع حتى الآن سوى بعض أصدائه، وقد تتبعها لاحقاً الموجات الرئيسية لهذا التسونامي وتمتد خارج المنطقة. وقد يسفر الحدث عن يقظة جديدة للشرق الأوسط، ويحل “ربيع عربي” جديد مكان “الشتاء العربي”.
تتجاهل الوكالة مخاطبة العالم رأس السلطة السورية بإسمه الحقيقي، وتصر على إسمه الحركي السابق. وتقول بأن أمرين رئيسيين يهمان روسيا الآن في سوريا: مصير الجهاديين المتحدرين من روسيا ومصير القواعد في سوريا. وتتهم الشرع بأنه تخلص من أولئك الجهاديين بإرسالهم إلى أوكرانيا لمحاربة روسيا، وترى في ذلك “الخطر الأول” للسلطات السورية الجديدة على روسيا. أما بالنسبة للقواعد فتعود لما أعلنه بوتين في مؤتمره الصحافي السنوي من أن مصير القواعد لا يزال معلقاً.
تحدثت الوكالة عن تأثير التسونامي السوري على علاقات روسيا مع إيران، وما إن كانت الأخيرة لا تزال تريد إستمرار هذه العلاقات، مع العلم أن البلدين سيوقعان الشهر المقبل على اتفاقية “شراكة استراتيجية”. ثم تنتقل إلى استعراض “الدروس السورية” التي يجدر بروسيا الإستفادة منها في إفريقيا وأماكن وجودها العسكري الأخرى، وتفادي الأخطاء التي وقعت بها في سوريا.
رأت الوكالة أن دعم الأسد ضد كل معارضيه، بمن فيهم المعتدلين، ووصفهم “إرهابيين معتدلين”، ادى إلى أن الأسد، وبعد بلوغ أهدافه في الحرب الأهلية بمساعدة السلاح الروسي، أصبح أقل إنصاتاً للنصائح الروسية. ولم يتمكن الجانب الروسي من تشجيع القيادة السورية على الإصلاح والتأثير بشكل صحيح على عملية صنع القرار. ومعظم القرارات التي اتخذتها دمشق كانت خاطئة.
وتضيف، أن روسيا إنتصرت على داعش، لكنها لم تتمكن في الوقت نفسه من أن تصبح الدولة التي أنهت الحرب الأهلية، وأطلقت عملية سلام كاملة وشرعت بالتعافي الاقتصادي وعودة اللاجئين. وللقيام بذلك، كان لا بد من التصرف بشكل مخالف للأسد وإجبار نظامه على التغيير، وعدم الانصياع لرغباته. وهكذا، فمن خلال تعزيز مواقع الأسد والقيام بالعمل نيابة عنه في تطهير أي معارضة مسلحة، حرمت موسكو نفسها من نفوذها على دمشق، والذي أصبح يتضاءل مع كل عملية ناجحة ضد المعارضة. ولو أبقت روسيا الوضع على ما كان عليه في العام 2017، مع معارضة قوية ومصالحتها مع الأسد برعايتها ، لكان تعزز موقع موسكو وحولها إلى ضامن فعلي لتنفيذ الإتفاقات من قبل الأسد والمعارضة. وإشراك المعارضة في عمل الحكومة، كان من شأنه أن يتيح لروسيا بدء الخروج من مستنقع الفساد الذي دفعت السلطات السورية نفسها إليه.
ترى الوكالة أن على روسيا، ولتعزيز نفوذها في إفريقيا، عليها تجنب الوقوع في الأخطاء التي ارتكبتها في دفاعها عن الأسد وإنقاذه من كل معارضيه، وتحويل هؤولاء إلى أعداء لروسيا نفسها. ولذلك تقول انه على روسيا، وهي تحارب الجماعات الإرهابية، أن تتجنب التحول ببساطة إلى مشارك في الحرب الأهلية، تدعم أحد الأطراف التي تجد نفسها في السلطة بنفس الطريقة التي يريد بها الطوارق إنشاء دولتهم الخاصة في مالي، على سبيل المثال.
وتقول الوكالة أنه لتعزيز نفوذ روسيا في الخارج، عليها خلق حضور متعدد الطبقات، والذي لا ينبغي أن يقتصر فقط على دعم الحكومة. وعند تدمير الإرهابيين، من الضروري عدم تطهير المعارضة المسلحة والمتمردين، بل على العكس من ذلك، التفاوض معهم، وتحويلهم إلى أذرع مواليه وحلفاء، ومن خلالهم التأثير على الحكومة، بما في ذلك إدخالهم في تشكيلتها.
————————
الشرع على “العربية” ينفق مما جناه على BBC/ عمر قدور
الثلاثاء 2024/12/31
بفارق عشرة أيام على ظهوره على قناة BBC، ظهر أحمد الشرع على قناة العربية، بوصفه القائد العام للسلطة الجديدة في دمشق. لم يتغيّر الرجل في هذه المدة، إلا أنه في لقائه التلفزيوني الأول ظهر مطَمْئناً شريحة واسعة من السوريين، بخلاف لقائه الثاني. ما هو مشترك بين المقابلتين أنه أجاد في الأولى إرسال الإشارات إلى الغرب، وأجاد في الثانية إرسال الإشارات إلى المملكة العربية السعودية ودول الخليج، بل حتى إلى روسيا، في حين لا يبدو أن توجيه رسائل مماثلة للسوريين في طليعة اهتماماته.
في لقائه الأول، علاوة على رسائله إلى الخارج عموماً، طمأن الشرع شريحة واسعة من السوريين لكونه ظهر على غير النموذج المتوقع من إسلامي كان مبايعاً تنظيم القاعدة فيما سبق. وبالمقارنة مع بشار الأسد، التي لا بد أن تحضر في الأذهان، سجّل الشرع حضوراً بسيطاً، غير متكلّف أو متوتر. عموماً، كان الاعتدال الذي طبع تلك المقابلة يلاقي نزوعاً عاماً إلى الاعتدال والتصالح بعد سنوات الانقسام المرير، وكان مبشّراً بمزيد من الانفتاح على الداخل السوري.
بين اللقاءين، ظهر الشرع مستضيفاً شخصيات عربية وأجنبية، بل استضاف صانعي محتوى على السوشيال ميديا، وكان مفهوماً أنه (برغبة شخصية منه أو بنصيحة ممن حوله) يشتغل على ترويج نفسه لدى الخارج، وأيضاً لدى الأجيال الجديدة من متابعي السوشيال ميديا. الغائب الأكبر في هذه الأيام أن الشرع لم يتوجّه بكلمة مباشرة مخصصة للسوريين، فلم يظهر ولو لدقائق على شاشة التلفزيون الرسمي متوجّهاً للداخل حصراً، ومتحدّثاً عن رؤيته (بحكم موقعه الحالي) للتعاطي مع الكثير من الاستحقاقات الملحّة.
كان يمكن، في الحد الأدنى، أن تبدر عن الشرع لفتة ولو من خلال لقائه على العربية، كأن يقول أنه يتوجّه من خلال شاشتها إلى السوريين بقولٍ ما. وقبل ذلك، كان مفيداً لو خرج بكلمة عشية أحداث العنف التي اندلعت في حمص والساحل، وأثارت مخاوف جدية من انفلات يهدد السلم الأهلي. لم يحدث هذا مع الأسف، إلا أن الفرصة تبقى قائمة للاستدراك إذا كان لديه نوايا مطمئنة لعموم السوريين، بل هذا ملحّ عاجلاً بعد الإشارات التي تثير القلق في حديثه الأخير.
في حديثه إلى العربية أو مجمل أقواله السابقة، لم يذكر الشرع السوريين بوصفهم فاعلين سياسياً، وشركاء أنداء في تقرير مصير بلادهم. وإذا كان كلامه عن كتابة دستور جديد، ثم إجراء انتخابات على أساسه، قد أثار المخاوف من السقف الزمني الذي حدده بأربع سنوات، فإن هذا السقف يُفترض ألا يثير الخشية لو اقترن كلامه بما هو واقعي لجهة حاجة السوريين إلى الوقت، من أجل الانتظام سياسياً في أحزاب أو هيئات أو تيارات.
أي أن السوريين ليسوا فقط غير جاهزين في المدى القريب تقنياً من أجل الانتخابات، وإنما هم أيضاً بحاجة إلى مناخ من حرية العمل والانتظام السياسي ضمن مهلة واقعية، وضمن تكافؤ في الفرص لإيصال تصوراتهم وبرامجهم للجمهور السوري. وإذا كان الشرع قد قدّم تبريراً مقبولاً لتعييناته الحكومية من اللون الواحد، فإن حديثه عن التشاركية بقي في إطارين؛ إما النظر إلى السوريين كمجموعات دينية وإثنية، أو النظر إليهم كأفراد، وفي الحالتين هناك قفز على السياسة التي بموجبها ينتظم السوريون كجماعات سياسية، بعضٌ منها على الأقل عابر لما يسمّيه “المكوّنات”.
في مثال صارخ على رؤية الشرع هذه، رأى في إجابة له على أحد أسئلة العربية أن ائتلاف المعارضة لم يبقَ له مبرر مع سقوط الأسد، وأن مشاركة الائتلاف الممكنة في الحكومة اللاحقة هي مشاركة أفراد حصراً. أن لا يحظى الائتلاف بسمعة طيبة لدى السوريين، وكذلك هو حال العديد من هيئات المعارضة الأخرى، فهذا لا يحرم تلك الهيئات من الحق في الوجود والعمل لمجرد سقوط الأسد، ومطالبتها بحلّ نفسها لا يوجّه رسالة إيجابية إلى النشاط السياسي المطلوب في سوريا الجديدة.
لا يكفي على صعيد التعاطي إيجاباً مع النشاط السياسي إقرار الشرع بحق التظاهر، فالسياق الذي ورد فيه ينص على حرية إبداء الرأي، من دون تعريفه كحقّ ديموقراطي لا يقتصر على حرية النزول إلى الشوارع لإبداء الرأي. وقد ربط الشرع ممارسة الحق بعدم التعرّض للمؤسسات، وهذه إشارة لها إرث سلبي جداً لدى السوريين، لأن إعلام الأسد ادّعى بعد انطلاق الثورة أن المتظاهرين هاجموا وحرقوا العديد من المؤسسات الحكومية الخدمية.
في إطلالته التلفزيونية على العربية، حافظ الشرع على تجاهله الديموقراطية، والتجاهل في صلب قوله أن قرار مجلس الأمن 2254 تم تنفيذه مع إسقاط الأسد، والإفراج على ما تبقى من معتقلين أحياء في سجون. هو تحدث عن تنفيذ روحية القرار، لأنه سقط بحَرْفيته مع إسقاط الأسد. هنا أيضاً تجاهل روحية القرار (لا نصه فقط) التي تشير إلى هيئة حكم انتقالي تشاركية، وإلى انتقال ديموقراطي يُتوّج بدستور وانتخابات تشرف عليها الأمم المتحدة. سقوط الأسد لا يلغي مبدأ التشاركية، ولا يلغي مبدأ الانتقال الديموقراطي؛ هذه هي روحية القرار، والالتزام بها ليس هدية للخارج، بل بمثابة تتويج مستحق لنضالات السوريين.
في سياق تجاهله السوريين أيضاً، تهرّب الشرع من إجابة مباشرة صريحة عندما سأله المذيع عن إمكانية رؤية “فارس الخوري” جديد في سوريا، حيث قصد المذيع تسلّم الخوري رئاسة الحكومة عام 1954. منصب رئاسة الحكومة لم يُثر يوماً الجدال حول منصب الرئاسة ودين الرئيس، وبهذا المعنى يكون الجواب المنطقي المتوقَّع أن لا شيء يمنع وجود مثيل لفارس الخوري في سوريا الجديدة، وأن الأمر متروك للسوريين كي يقرروا ذلك، وهو ما تحاشى الشرع قوله.
جدير بالذكر أن فارس الخوري هو من آباء استقلال سوريا، ومن آباء دستورها بعد الاستقلال. وقد شاهدنا الشرع يشير في العديد من المرات إلى دستور المستقبل المناط به وضع الأرضية القانونية للحكم، والإشارة المتكررة رافقها غموض لجهة آليات كتابة وإقرار الدستور العتيد. ومن المعلوم أن الدساتير تعبّر عن العقد الاجتماعي الذي تتوافق عليه هيئة جامعة ذات تمثيل يحظى بصدقية، وتحويل التوافقات إلى نصوص قانونية هو من شأن الخبراء الدستوريين حصراً. لكن قبل الوصول إلى النصوص القانونية، يجب التأكيد على صدقية الهيئة التي تتوافق على المبادئ العامة، وعلى أن يحظى الممثَّلون فيها بتكافؤ ومساواة يعكسان التنوع السوري الذي لا يُختصر بطوائف وإثنيات. لذا ثمة خشية من أن يكون تجاهل السوريين اليوم مقدّمة لتجاهل مشاركتهم الفعّالة في إقرار الدستور، والحديث عن دستور يدوم لعقود يجعل الخشية ماثلة وواجبة أكثر.
أنفق الشرع في إطلالته على العربية من الرصيد الذي جناه عندما تحدث على قناة BBC، وهو في إطلالات لاحقة سيفقد التشجيع والتسامح مع النواقص اللذين هما من نصيب البدايات. هناك قضايا شديدة الأهمية بالنسبة للسوريين، وليست من طينة ما يستهوي الخارج كذهابه أو عدم ذهابه إلى المسرح، وهو وضع نفسه في موقع المتحدث المسؤول الذي يُسأل عن أقواله. المثال البارز أيضاً تحدُّثه في اللقاء عن التحوّل الاقتصادي للبلد، ومن المعلوم أن التحول عن نمط القطاع العام (في جميع البلدان التي مرت بالتجربة) كان مؤلماً جداً، رغم كونها بلداناً معافاة بالمقارنة مع سوريا. الموضوع الاقتصادي يحتاج بحثاً منفصلاً، لكن (على وجه السرعة) هناك حاجة ليضمّه السيد الشرع إلى جملة التطمينات التي يحتاج إليها الناس بعد حديثه الأخير. لا يزال المناخ العام إيجابياً، ومواتياً للشرع كي يتحدث إلى السوريين في كل ما سبق وسواه، وكي يثقوا بأنهم يعبرون سنتهم الفائتة إلى سنة جديدة.
المدن
————————-
دمشق: خطوةٌ واحدةٌ من الجنة/ بتول يزبك
الثلاثاء 2024/12/31
قضى النبيّ يعقوب اثنتين وعشرين سنةً في فراق ولده يوسف. وفي التراث اليهوديّ، يعدّ عدد حروف الأبجديّة العبريّة اثنين وعشرين حرفًا، ويؤمن البعض بأنّها الأداة الّتي خُلِق بها الكون وفقًا لمعتقداتٍ غنوصيّةٍ قديمة. وفي بعض المرويات الصوفيّة، يُروى أنّ خلوةَ بعض السالكين امتدّت اثنتين وعشرين ليلةً، يختبرونَ فيها الصبر والإخلاص. وكان عمري اثنتين وعشرين سنةً حين شاهدت دمشق- الشام لأوّل مرّةٍ في حياتي. إذًا، هذه أوّل مرّةٍ أزور فيها دمشق. وهو اعترافٌ فيه الكثير من الفرح أكثر مما هو الحرج.
أترجّل من الباص الكبير، وأخطو خطواتي الأولى بعد ساعتين ونَيِّفٍ من سفري البطيء من بيروت إلى دمشق، وذلك في ساحة باب توما. أمشي باتّجاه إحدى الحارات. لا أعرف اسمها، ولم يتمكّن أيٌّ من عناصر هيئة تحرير الشام الذين يطوقون السّاحة من مساعدتي، فهم أيضًا يزورون دمشق للمرّة الأولى في حياتِهم، وللمفارقة اللطيفة يحرسونَها بكل المسؤوليّة المُمكنة أيضًا. يطلبونَ منّي وبكلّ تهذيبٍ أن أتجوّل بحرصٍ وألّا أقع في أفخاخ الباعة الطمّاعين؛ فأنا السّائحة البلهاء الّتي لا تعرف دمشق..
حارات باب توما
يحدث أن أنزلق باتِّجاه حارةٍ ضيِّقةٍ غربيَّ السّاحة، وأوَّل ما يتلقفني في تلك الحارة الضيِّقة -الّتي تُشبه إلى حدٍّ بعيدٍ حارات مدينتي الأُمّ بعلبك- محلٌّ ضيِّقٌ يبيع الكتب، وقد علَّق على زجاجِ الباب علم الثورة السّوريّة (علم الاستقلالِ الأخضر) مرسومًا باليد. يستقبلُني صاحب المكتبة من بابِها بترحاب، ويضيء النّور الخافت بكبسة زرٍّ ثم يدعوني للدخول. أتجوَّل بين أكوام الكتب المعروضة ضمن أقسامٍ مستقلّة؛ فتارةً أجد أدبًا روسيًّا، وطورًا أصادف ما يُسمّى بـ”الأدب اللّبنانيّ”، إلى أن تستقرّ عيناي على رواية “مديح الكراهية” لخالد خليفة، زائغ النظرات مع ملمحٍ من الغبطة، يبتسم لي صاحب المكتبة ويقول: “اختيارٌ موفَّق. هذه أوَّل دُفعةٍ من كتب خليفة نعرضُها منذ سقوط النّظام”. أُقلِّب الكتاب بين يديَّ وأسألُه عن سعرِه، فيجيبني بأنَّه يعادل خمسةَ دولاراتٍ بالليرة السّوريّة. أُخرج عشرة دولاراتٍ، فيتناولها ضاحكًا: “صرتم تدفعون بالدولار!” ثم يستطرد ممازحًا: “ولكن سأردّ لك الباقي بالليرة السّوريّة، تمامًا كما كنتم -أنتم اللّبنانيّين- تفعلون بنا”. يبتسم لي ويودِّعني عند الباب.
هكذا تستقبلني دمشق الحرّة، بخفة النكتة وحفنة من الليرات السّوريّة المُطبوعة في عهد النظام البائد، وابتسامة.
في أحياء باب توما، شيءٌ شديد الحميميّة، شديد اللطف، شديد السّوريّة. العمارة بمختلف أشكالها وأنواعها وفلسفاتها وحقباتها منتشرةٌ في كل مكان، وأمام العين الّتي تقدر على البصر. وربما هناك تدبيرٌ أهليّ للمحافظة على نظافة الشوارع والمباني، بدليل نظافة الحارات الّتي تُعج حدّ الاختناق بالزوار والمتبضعين والدكاكين والأكشاك الّتي تعرض شتّى البضائع من الأعلام الخضراء وعلاقات المفاتيح والملابس.. إلى اللحوم والخضروات وأطباق الفول والحمص والفتة، وصولًا إلى لذيذ الحلويات والوجبات الخفيفة من البوراك التركيّ والتحليّة الإدلبيّة والشرقيّة واليالنجي (ورق العنب) بالكرز والرمان والمعجنات على أنواعها.
الفيض الشميّ اللامتناهي من روائح الأجساد والمأكولات والعطور والتراب والنارنج ومشاهدات العمارات البهيّة، أديا بي في تلك اللحظة، وأنا أتمشى في الحارات الضيقة الّتي تشبه متاهات حضريّة مأهولة، لأن أكون سائحةً في مدينةٍ تعنيني وأتصل بها تاريخيًّا، من عينٍ وأنفٍ محض. وحملتني للتذكر أن المدن ليست مشيدةً بالحجارة والخشب والحديد، بل هي مُشيدةٌ بالدمّ والأحلام والروائح.
دمشق: زهرة العسل
المهم. جميلةٌ هي دمشق، صندوق “فرجةٍ” كريم الألوان والروائح والخيالات والتاريخ. صندوق “فرجةٍ” يفتح صدره للمشتاقين. جميلةٌ وكأن الربيع (وفي عزّ الشتاء) قد حلّ لتوه. حلّ نضرًا، منعشًا، مخضوضرًا. ولمّا كانت دمشق مدينةٌ مثل زهرة العسل، فقد راحت وبعد التحرير الكبير تجذب إليها البشر من مختلف الأنواع من قريب ومن بعيد، فيهم المُهجّر والباحث والمشتاق. أعداد الناس كثيرة جدًا تحت سماء واحدة. سماء دمشق، من يُصدق؟
أتجول في ساحة العباسيين ثمّ ساحة الأمويين، ثمّ سوق الحميديّة، سيرًا على الأقدام، محاولةً رسم خريطةٍ في ذهني (وعلى دفتري)، لأعود إلى دمشق وأمشي في حاراتها كما أهلها، من دون إلتباس أو أسئلة السّائحين البلهاء.
ومن باب توما ، اتجه نحو الجامع الأمويّ الكبير، وكنت عقدت العزم منذ سنواتٍ وفي حال تحقّق طموحي وتمكني من زيارة دمشق الحرّة، لا دمشق الأسد، أن أزور الجامع الأمويّ، أنا صاحبة الرأس المتوهج بالقلق واللايقين، أن أُصلي في الجامع الأمويّ الكبير، بلا وضوءٍ ولا ذاكرةٍ واضحة لمضمون الصلاة. أخطو من فوق العتبة، مذهولة، مبهوتةً بالقبة المشيّدة على أعمدة المسجد الشهير، الذي علمت لاحقًا أن الزخارف البديعة المنقوشة على جدرانه، هي تصورات الأمويين للجنّة الّتي وصلوا إليها بوصولهم دمشق. اضطجع على السّجادة القرمزيّة، باسطةً ساقيّ وكأني وحيدةً في هذا المسجد، نقطةً في ذلك المدى الواسع.
أُنهي صلاتي، الّتي لم تكن حتمًا صلاةً حقيقية، وأخرج إلى السّاحة المتراميّة. الآلاف من الزوار والمُصلين متجمهرين وسط السّاحة، وكأنما هناك عيد وطنيّ، وهو بالفعل عيدٌ وطنيٌّ شعبيٌّ، كأن الشعب السّوريّ انبثق من غيبوبةٍ طويلة واندفع نحو الشوارع محتفلًا بـ”العودة” إلى أرض العودة.
وسط ساحة الجامع الأمويِّ الكبير، يَدوي صوتُ رصاصٍ مباغتٍ، شاقًّا ضوضاء السّوق المُقابل المزدَحم بالزُّوّار والسّابِلة والمتسوّقين. تَمتلئ السّماء بالحَمامِ الأبيض المذعور، وتَموج فوق رؤوسنا أَفواج الحَمام. هي لحظةٌ لا تَطول. أسمع فتاة كالمَسحورةِ تَصرُخُ بملء حنجرتها بغبطةٍ وبِلكنةٍ حَلَبِيَّةٍ: “هذه الشام، هذه الشام يا جماعة! والله اشتقنا”. وهنا وقفتُ بجانبها، وسط ساحة الجامع الأمويِّ الكبير، وتحت قُبَّة سماء دمشق البهيّة، وفي قلبي امتنانٌ يتعذَّرُ الإفصاحُ عنه. أجدني أقولُ في سرّي: “إليكِ يا دمشقُ، يا زهرةَ العسل، يمضي المشتاقون”.
ساعة واحدة
تُبدّد ذهولي خاطرةٌ حزينة “باقٍ ساعةٌ واحدةٌ للعودة إلى بيروت”. ربّما ساعةٌ وربعٌ، لستُ أدري. أبقى واقفةً في ساحةِ الجامعِ الأمويّ، متضرِّعةً أن أذوبَ في بحر الأجساد المتدافعة وأبقى هنا. باقٍ ساعةٌ واحدةٌ لأعودَ فيها إلى حياتي. لكن لا بأس. الآنَ وقت دمشق، لن أفكِّرَ في مدنٍ أُخرى أو حيواتٍ أُخرى. ثمّ إنني أخيرًا هنا، ولن أحاول التحايُل على الزمن الخطيّ. أقفُ فقط، وهذا ما يهمّ. الزمان توقف عندها، وبدا لي أنني اقتربت، ومن دون أن أدري، خطوة واحدة من “الجنة”.
—————————
مقاربة تركية جديدة للقضية الكردية..ما انعكاسات نجاحها على سوريا؟/ فراس فحام
الثلاثاء 2024/12/31
أتاحت الحكومة التركية لوفد من حزب المساواة وديمقراطية الشعوب الكردي التركي (حزب الشعوب الديمقراطية سابقاً)، زيارة الزعيم المؤسس لحزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، الذي يقضي عقوبة السجن مدى الحياة في جزيرة إمرالي، في خطوة تعزز الاعتقاد بأن الحكومة التركية تتجه إلى مقاربة جديدة بخصوص القضية الكردية في البلاد.
ضمّ الوفد الكردي الذي زار أوجلان شخصيات ساهمت في التسوية السياسية التي شهدتها تركيا عام ،2013 بين الحكومة والعمال الكردستاني، كما أرسل أوجلان مع الوفد تأكيدات أنه متقبل لمبادرة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحليفه زعيم الحركة القومية دولت بهتشلي، اللذين دعيا أوجلان لإلقاء كلمة يعلن فيها انتهاء عهد الإرهاب مقابل تمتعه بحق الأمل المتمثل بإجراء تعديلات قانونية للإفراج عنه.
انقسام الموقف الكردي
المبادرة الحكومية التركية لقيت منذ البداية صداً لدى تياراً من حزب المساواة، خاصة وأن ابن شقيق أوجلان، ويدعى عمر أوجلان، هو قيادي ضمن الحزب وفاعلاً فيه، وثمة العديد من القيادات التي تعتبر أن أوجلان هو رمز للنضال الكردي، وأبدت استعدادها للالتزام بما يقرره، مقابل تياراً آخر هو أقرب إلى قيادة حزب العمال الكردستاني الموجودة في جبال قنديل، ينظر للزعيم الكردي على أنه لا يمتلك تصوراً عن الواقع الحالي بحكم سنوات سجنه الطويلة.
ويبدو أن هدف الحكومة بالأصل من هذه المبادرة، إحداث المزيد من الانقسام داخل صفوف الحزب الكردي، والعمل على المسارين السياسي والأمني بشكل متوازٍ، بحيث يزداد اندماج التيار المرحب بإنهاء استخدام السلاح ضد الدولة التركية ضمن الحياة السياسية، وعزل التيار الآخر واستكمال إضعافه من خلال العمليات العسكرية التركية التي باتت على مشارف جبال متين وغارا وقنديل شمال العراق، المعاقل الأبرز لحزب العمال.
سحب الورقة الكردية من الاستثمار
إن العودة إلى مسار التسوية السياسية بين الحكومة التركية وزعيم حزب العمال الكردستاني، وتعزيز المشاركة الكردية في الحياة السياسية ضمن البلاد، بإشراف من الحزب الحاكم، من المتوقع أن تحقق مكاسب مهمة، أولها، استعادة شعبية التحالف الحاكم لدى الشرائح الكردية، ومحاولة وقف التحالف المعلن تارةً والخفي تارةً أخرى، بين حزب المساواة بمختلف مسمياته السابقة، وحزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة، حيث أدى هذا التحالف إلى استمرار سيطرة الشعب الجمهوري على رئاسة بلدية إسطنبول، كبرى البلديات التركية، بحكم تأثير المكون الكردي على عملية التصويت.
من جهة أخرى، فإن الحكومة التركية تبدو متوجسة من إعلان النية الواضح من جانب إسرائيل للعمل على تقوية الأقليات في المنطقة، وهذا ما يعكف على تكراره وزير الخارجية الإسرائيلية جدعون ساعر، الذي يؤكد ضرورة دعم الأكراد في تركيا والعراق وسوريا لأن هذا يصب في مصلحة إسرائيل.
وبحسب المعطيات، فإن الإدارة الديمقراطية الحالية وفرنسا تقودان محاولات التقريب بين المكونات الكردية في العراق وسوريا وتركيا، لتعزيز موقف المكون الكردي في مواجهة تركيا وحكومة بغداد المركزية والإدارة السورية الجديدة، وبناءً على ما سبق، بات من المهم قطع الطريق على أي جهود دولة وإقليمية لخلق المزيد من التوتر للجانب التركي عبر استثمار الورقة الكردية.
الانعكاسات المتوقعة للمقاربة الجديدة على الملف السوري
تؤكد قيادات كردية مطلعة على فكر أوجلان، أنه تخلى منذ مدة طويلة عن فكر كردستان الكبرى، ويدعم ما يشبه كونفدرالية بين المكونات الكردية في البلدان الثلاث، وبالتالي هذا يفضي إلى عدم الدعوة للانفصال والمزيد من التقسيم.
نجاح مسار التسوية السياسية في تركيا وتعزيز المشاركة الكردية في العمل السياسي، سينعكس بطبيعة الحال على الحالة الكردية السورية التي تأثرت خلال العقد الأخير كثيراً بالصراع المركزي بين الدولة التركية والعمال الكردستاني، وبالتالي من الممكن أن نشهد المزيد من الابتعاد عن مشروع الإدارة الذاتية لصالح فكرة لامركزية إدارية، خصوصاً في حال نفّذ ترامب ما يعد به فيما يخص الانسحاب من سوريا أو تقليص حجم القوات الأميركية على أقل تقدير، مقابل انفتاح من الإدارة السورية الجديدة على التفاوض مع قسد لإدماجها ضمن مؤسسات الدولة وفق محددات معينة.
عموماً، يوجد تحديدات أمام نجاح مسار التسوية السياسية في تركيا، وستكون السياسة التي ستتبناها الولايات المتحدة في عهد ترامب، من العوامل المؤثرة على قرار الأكراد الذين تلقوا دعماً كبيراً من الإدارات الأميركية الديمقراطية التي تتبنى فكرة دعم الأقليات، على عكس ترامب اليميني الذي يرتب لعلاقات جيدة مع الرئيس التركي، لكن يبقى العامل الإسرائيلي مؤثراً نظراً لما يتمتع به اللوبي الإسرائيلي من تأثير لدى ترامب.
—————————
هل تحتاج سوريا 3 سنوات فعلا لصياغة دستور جديد؟
غنى الخطيب
31/12/2024
أثار تصريح القائد العام للإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع عن أن عملية كتابة الدستور الجديد قد تستغرق 3 سنوات تساؤلات بشأن المدة التي تستغرقها كتابة دساتير البلاد بعد فترات حاسمة في تاريخها، في ظل الإعلان عن تجميد الدستور الحالي ووجود تجربة سياسية يمكن أن تستند إليها عملية صياغة الدستور.
ومنذ سقوط نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد طُرح موضوع كتابة دستور جديد كقضية محورية باعتباره يمثل الإطار القانوني والسياسي الذي سيحدد طبيعة الحكم ويضمن حقوق السوريين في مرحلة ما بعد الحرب، ولا سيما أن الدستور القديم كرس حكم الأسد الاستبدادي بعد تغييره عام 2012 لزيادة صلاحيات الرئيس والحد من الحريات، فضلا عن تغييره مرات عدة لصالح بقاء النظام.
لكن الائتلاف السوري المعارض أشار إلى أن كتابة دستور جديد لن تستغرق أكثر من عام، إذ إن هناك فصولا جاهزة في الدستور “فالعملية لن تنطلق من الصفر”.
ففي عام 2015 أصدرت الأمم المتحدة القرار رقم 2254 بهدف تشكيل حكومة انتقالية في سوريا وإعداد دستور جديد وإجراء انتخابات، مما أسفر عن عدد من الاجتماعات في جنيف للجنة دستورية شاركت فيها هيئة التفاوض لقوى الثورة والمعارضة السورية كان هدفها إعداد دستور جديد للبلاد.
لكن تلك الاجتماعات لم تحظَ بقبول سوري كامل حينها، إذ اعتبرت فصائل معارضة أنها “تبحث دستورا في وقت لا تزال سوريا تشهد صراعا مستمرا بحضور قوى إقليمية لها مصالح مختلفة عما يريده الشعب السوري”، كما أن تفاصيل القرار الأممي رقم 2254 لم تعد صالحة كلها في ظل سقوط الأسد.
تجارب أخرى
وعادة ما يتغير الدستور في المراحل الانتقالية بالبلاد أو بعد ثورات وإنهاء صراعات بغرض صياغة إطار ينظم علاقة الدولة بالمواطنين، وهي عملية تحتاج إلى توافق وطني واستقرار سياسي وتجاوز للخلافات، وذلك ما تختلف مدة تحقيقه بين بلد وآخر.
ففي تونس على سبيل المثال بعد سقوط نظام زين العابدين بن علي عام 2011 استغرقت كتابة دستور جديد للبلاد 3 سنوات، إذ صُدّق عليه عام 2014 بعد نقاشات تركزت على شكل الحكم قادها مجلس وطني منتخب لصياغة الدستور.
أما في ليبيا بعد سقوط نظام معمر القذافي عام 2011 فلم يُتفق حتى الآن على دستور للبلاد -التي تعمل بدستور مؤقت- جراء النزاعات المستمرة.
وعام 2017، قُدّمت مسودة دستور لكنها لم تطرح للاستفتاء نتيجة الاختلافات السياسية، وذلك بعد انتخاب هيئة تأسيسية لصياغة دستور جديد عام 2014.
وفي مصر عقب سقوط نظام حسني مبارك عدّل المجلس العسكري الحاكم الدستور مؤقتا عام 2011 حتى صياغة دستور جديد عام 2014.
ويمكن أن تطول مدة النقاشات حتى التوصل إلى دستور للبلاد بعد فترة طويلة من عدم الاستقرار والصراع، فاستغرقت دولة جنوب أفريقيا نحو 6 سنوات لصياغة دستورها خلال مرحلة الانتقال من نظام الفصل العنصري إلى الديمقراطي الشامل، وتضمنت مفاوضات على مدى 3 سنوات لوضع دستور مؤقت.
عوامل مؤثرة
لذلك، تقدير الوقت الذي ستستغرقه صياغة دستور جديد لسوريا يعتمد على عوامل، منها درجة التوافق بين القوى السياسية، ومدى الاستقرار الأمني في البلاد التي شهدت نحو 14 عاما من عدم الاستقرار والتدخلات الخارجية.
وفي هذا الصدد، أكد المحامي والخبير القانوني محمود برهان عطور أن النظام المخلوع “خلّف دولة اللادولة” خلال عشرات السنوات التي عمل فيها على تدمير جميع البنى التحتية، مما يعني أن المرحلة الحالية تتطلب جهدا كبيرا للعمل على أساسات الدولة، وهو ما يحتاج إلى وقت قد يكون طويلا.
وأشار إلى أن ذلك سينعكس بدوره على صياغة دستور جديد، قائلا إن التحضير لمرحلة انتقالية تتضمن تشكيل هيئة تأسيسية دستورية في ظل الواقع الذي خلفه نظام الأسد سيستغرق وقتا.
ورجح أن العمل على دستور يوافق عليه جميع السوريين ويحقق تطلعاتهم قد يستمر نحو 3 سنوات، مشددا على الحاجة للاستفادة من الخبرات العميقة التي عملت على الدستور السوري خلال السنوات الماضية.
ويرجح أنه إذا شُكلت هيئة انتقالية توافقية تضم مختلف الأطراف السورية -التي لا تزال الخلافات تحكم العلاقات بين بعضها حتى الآن- فقد يُتفق على لجنة دستورية تعمل على وضع دستور جديد في مدة قد تستغرق من عامين إلى 4 أعوام، وفق تقديرات قانونية.
لكن عدم تحقيق الاتفاق السياسي بين الأطراف السورية قد يجعل تلك المدة أطول، كما أن تدخّل أطراف دولية مثل الأمم المتحدة قد يؤثر على المدة ويجعلها أقصر في حال توافق وطني حقيقي كما حدث في البوسنة والهرسك بعد اتفاقية دايتون عام 1995.
وتعتزم الإدارة السورية الجديدة إطلاق مؤتمر حوار وطني شامل في الأيام المقبلة بالعاصمة دمشق بهدف تشكيل مجلس استشاري ذي صفة تشريعية يقوم بصياغة إعلان دستوري وإقراره، بالإضافة إلى منح الثقة للإدارة الجديدة بقيادة الشرع.
كما لفت عطور إلى ضرورة إعلان دستوري يوضح الأسس القانونية للمرحلة القادمة والجهات الفاعلة فيها ومرجعيتها القانونية، ويبين كيفية إدارة ما وصفها بالمرحلة الاستثنائية في تاريخ سوريا، وذلك لتجنب الفراغ الدستوري.
وأكد أن العمل على الدولة السورية لن ينتهي بكتابة الدستور الجديد، مشيرا إلى أن “سوريا بحاجة إلى إدارة وطنية صادقة تعمل بروح الدستور لتحقيق طموحات الشعب السوري”.
المصدر : الجزيرة
—————————
سوريا الجديدة وهواجس الثورة المضادة واحتمالاتها/ باسل المحمد
31/12/2024
بالتزامن مع احتفالات الشعب السوري بسقوط نظام بشار الأسد في الثامن من ديسمبر/كانون الأول الجاري، وأملهم ببناء “سوريا الجديدة” خالية من القمع والاستبداد الذي عانوا منه لعقود، يتخوف كثير منهم من قيام “ثورة مضادة”، وتكرار سيناريو مُشابه للنماذج التي شهدتها دول أخرى، حيث تمكّنت الثورات المضادة من العودة واستلام زمام السلطة.
ولعل أبرز العوامل التي تغذي هذه المخاوف هو الانهيار السريع والمفاجئ لنظام الأسد، إذ لم يستغرق دخول الثوار مدينة دمشق سوى 12 يوما بعد إطلاقهم عملية “ردع العدوان” في 27 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
وقد يدفع تسارع الأحداث بعض الدول الإقليمية أو القوى الدولية -التي كانت تدعم النظام السابق- لتحريك بعض الجهات المدنية، أو بعض فلول النظام، من أجل خلق الفوضى، والتشويش على الإدارة السورية الجديدة بقيادة أحمد الشرع.
مقابل ذلك، يرى كثير من المراقبين أن التجربة السورية تختلف عن باقي دول الربيع العربي، التي شهدت “ثورات مضادة” من حيث المدة الزمنية من جهة، ومن حيث طبيعة النظام القمعي الذي أوصل البلاد إلى قائمة الدول الأسوأ للعيش في العالم من جهة ثانية، إضافة إلى عوامل أخرى نناقشها في هذه المادة.
لا دولة عميقة في سوريا
قد تكون الدولة العميقة بأجهزتها العسكرية والأمنية ومؤسساتها الإعلامية الضخمة، التي تعمل الأنظمة الاستبدادية على إنشائها لتأمين حمايتها واستمراريتها في الحكم، من أهم العوامل التي تؤدي إلى قيام “ثورة مضادة” ضد أي تحركات شعبية تسعى للتخلص من هذه الأنظمة.
لكن، وعلى عكس بعض الدول التي تمتلك مؤسسات راسخة تعمل في الظل وتستطيع تنظيم ثورات مضادة، لم تتشكل في سوريا مثل هذه الهياكل، إذ كان النظام يعتمد بشكل كبير على دائرة ضيقة من الموالين، ومع سقوطه انهارت هذه الدائرة دون أن تترك خلفها مؤسسات قادرة على تنظيم مقاومة فعّالة، وذلك بحسب الباحث بمركز حرمون للدراسات نوار شعبان.
وبشأن تفكك المنظومة العسكرية والأمنية، التي كان يعتمد عليها النظام في مواجهة ثورة الشعب السوري، والتي أخذت طابعا طائفيا إلى حد كبير في السنوات الأخيرة من عمر النظام، يشير شعبان في حديثه مع الجزيرة نت إلى أن هذه الأجهزة شهدت انشقاقات واسعة وتفككا في بنيتها، مما أفقدها القدرة على إعادة تنظيم نفسها أو تشكيل نواة لثورة مضادة، وهو ما يجعل من الصعب على أي قوة معارضة للثورة أن تجد دعامة مؤسسية تدعم تحركاتها.
ورغم أن النظام المخلوع كان نظاما عسكريا، يحكم تحت غطاء سياسي متمثلا بـ”حزب البعث” منذ انقلاب 1963، فإن هذا الشيء لم يؤد إلى نشوء دولة عميقة يمكن أن تؤول إليها الأوضاع إذا حدثت ثورة كما حصل في مصر وتونس، وذلك بحسب حديث الأكاديمي السوري أحمد الهواس لموقع الجزيرة نت.
ويوضح الهواس أن الحاكم الفعلي في سوريا أصبح الجيش الطائفي وما تفرع عنه من أذرع خشنة، كفروع المخابرات بشكل عام، التي انهارت مع سقوط النظام.
ومع إعلان قوات المعارضة السورية لعملية “ردع العدوان”، بدأت ملامح التفكك والضعف تبدو واضحة على قوات النظام، حيث رسمت “رويترز” -نقلا عن مصادر مطلعة- صورة مفصلة لكيفية تآكل جيش الأسد -الذي كان يخشاه الجميع في السابق- بسبب تدهور معنويات القوات والاعتماد الشديد على الحلفاء الأجانب، خاصة فيما يتعلق بهيكل القيادة، والغضب المتزايد بين صفوفه إزاء الفساد المستشري.
الثورة تملك قوة عسكرية كبيرة
بعكس قوات النظام -التي بدت منهكة ومفككة- كانت المعارضة السورية المسلحة تملك قوات مدربة ومعدة من الناحية العقائدية والأيديولوجية، إضافة إلى ذلك فقد تم توحيد أغلب الكتل العسكرية ضمن غرفة واحدة أُطلق عليها “إدارة العمليات العسكرية” عند انطلاق المعركة التي أدت إلى سقوط نظام بشار الأسد.
وهذه الكتل العسكرية، التي راكمت خبرات قتالية وعسكرية على مدى السنوات الماضية، تشكل -بحسب مراقبين عسكريين- أبرز الموانع التي تحول دون قيام تمرد عسكري أو ثورة مضادة، وذلك على خلاف الحالة المصرية التي لعب فيها الجيش دورا حاسما في الانقلاب على الثورة.
وكخطوة تهدف لإنشاء جيش سوري جديد من جهة، وتوحيد فصائل المعارضة في جسم واحد من جهة ثانية، أعلنت القيادة السورية الجديدة في بيان لها يوم الثلاثاء 24 ديسمبر/كانون الأول عن وصولها لاتفاق مع قادة الفصائل العسكرية يقضي بحل جميع الفصائل المسلحة ودمجها في وزارة الدفاع الجديدة التي أسستها القيادة.
وتعتبر هذه الخطوة من أولى أولويات حكومة تصريف الأعمال إلى جانب ضبط الأمن.
وفي هذا السياق، يقول الباحث نوار شعبان إن الثورة السورية تميزت بمشاركة واسعة من المقاتلين الذين اكتسبوا خبرات قتالية وتنظيمية خلال سنوات الصراع.
وهذا الواقع -يتابع شعبان- يختلف عن تجارب دول أخرى، حيث لم تكن هناك قوة ثورية مسلحة قادرة على مواجهة أي تحركات مضادة، إذ يشكل وجود هذه القوة الثورية المسلحة رادعا لأي محاولة لإعادة النظام السابق أو تنظيم ثورة مضادة.
وتعمل هذه القوى الأمنية عقب سقوط النظام على ضبط الأمن وملاحقة عناصر النظام البائد، حيث أطلقت إدارة العمليات العسكرية يوم الخميس 26 ديسمبر/كانون الأول بالتعاون مع وزارة الداخلية عملية لضبط الأمن والاستقرار والسلم الأهلي وملاحقة فلول مليشيات الأسد في الأحراش والتلال في عدة محافظات في البلاد من حمص والساحل السوري، وذلك بحسب ما أفادت به وكالة الأنباء السورية “سانا”.
دعم إقليمي للإدارة السورية الجديدة
في المقابل، سعت الإدارة السورية الجديدة لترتيب بيتها الداخلي، ومعالجة التركة الثقيلة التي خلفها النظام البائد على كل المستويات، وتستمر الجهود الدولية والعربية لدعم الانتقال السياسي الاستقرار في مرحلة ما بعد نظام الأسد.
وقد شهدت العاصمة دمشق زيارة عدة وفود دبلوماسية دولية وإقليمية، منها زيارة وفد أميركي وتركي وسعودي وقطري وعراقي، إضافة إلى تلقي الإدارة عددا من الاتصالات من دول أوروبية وعربية.
وتعليقا على ما سبق، يوضح الباحث في الشؤون العسكرية وجماعات ما دون الدولة عمار فرهود أن من أبرز العوامل، التي تمنع قيام ثورة مضادة في سوريا، الدعم الإقليمي القوي والمباشر من الدول الداعمة لمشروع الثورة السورية، والسعي الحثيث لإنجاح المشروع خوفا من عودة المنظومة القديمة، التي كانت سببا في تصدير الإرهاب وعدم الاستقرار للإقليم.
ويتابع فرهود حديثه -للجزيرة نت- بالقول إن ما يقوي موقف الإدارة السورية الجديدة أيضا هو غياب حالة التنافس السياسي بين الدول الإقليمية مع وجود رغبة واضحة في إرساء الاستقرار في سوريا، وهذا عكس الحال قبل 10 سنوات، حيث انعكس تنافس المشاريع السياسية بين هؤلاء اللاعبين على بلدان الربيع العربي على شكل ثورة وثورة مضادة.
يُذكر أن الاجتماع الاستثنائي لوزراء خارجية دول الخليج، الذي عقد في الكويت، الخميس 26 ديسمبر/كانون الأول أكد دعمه لكافة الجهود والمساعي العاملة على الوصول إلى عملية انتقالية شاملة وجامعة تحقق تطلعات الشعب السوري الشقيق في الاستقرار، والتنمية والحياة الكريمة.
من ناحيته، يرى شعبان أن الدور الإقليمي الأبرز كان لتركيا التي لعبت دورا محوريا في دعم الثورة السورية، سواء من خلال الاعتراف بالإدارة الجديدة أو تقديم الدعم اللوجيستي والسياسي.
ويسهم هذا الدعم الإقليمي القوي، بحسب شعبان، في تعزيز الاستقرار ومنع أي محاولات لثورة مضادة، خاصة مع اهتمام تركيا بضبط الأوضاع الأمنية على حدودها الجنوبية.
على مدى عقود، عانى الشعب السوري تحت وطأة نظام الأسد، الأب والابن، من قمع وظلم مستمرين. هذا الواقع المرير أدى إلى تشكيل قاعدة شعبية واسعة داعمة للتغيير، تجلت بوضوح مع انطلاق الثورة السورية عام 2011 في موجة من المظاهرات والاحتجاجات التي عمت أرجاء البلاد.
ومع تصاعد وحشية النظام في التعامل مع المحتجين، وتدهور الأوضاع الأمنية والاقتصادية والاجتماعية في المناطق الخاضعة لسيطرته، شهدت قاعدة الثورة توسعا ملحوظا. وقد تجلى هذا الدعم المتزايد بشكل جلي في الاحتفالات الشعبية الحاشدة التي غمرت ساحات دمشق وحلب وحمص وغيرها من المدن السورية عقب سقوط نظام بشار الأسد.
ويشير الأكاديمي أحمد الهواس إلى أن تطلع السوريين للخلاص من نظام جلب الكوارث على البلاد بمختلف الأصعدة أدى إلى اتساع الحاضنة الشعبية للثورة، وهذا يعد عاملا حاسما في ضمان استقرار النظام الجديد، وصد أي محاولات للثورة المضادة.
ومع ذلك، يحذر الهواس من إمكانية تسلل بعض فلول النظام السابق إلى صفوف الثورة، متخفين وراء شعاراتها ومدعين التعرض للظلم.
من جانبه، يؤكد الباحث فرهود وجود حالة تأهب قصوى بين مختلف أطياف الثورة، عسكرية ومدنية، تحسبا لأي تحرك قد يشكل نواة لثورة مضادة. ويعزو هذا الحذر إلى الدروس المستفادة من تجارب الثورات المضادة في مصر وتونس، والخشية من عودة النظام القديم بثوب جديد بعد 54 عاما من المعاناة.
وكانت إدارة العمليات العسكرية قد سعت منذ انطلاق عملية “ردع العدوان” إلى طمأنة كافة مكونات الشعب السوري، فإلى جانب دعوة قوات النظام للانشقاق أو الاستسلام مقابل الأمان، وجهت رسائل تطمين للأقليات كالأكراد والمسيحيين والإسماعيليين والعلويين والشيعة، مؤكدة أن العمليات لا تستهدفهم.
وكذلك نجحت قيادة “ردع العدوان” في اتفاق مع قيادات محلية في مدن -مثل السلمية ذات الغالبية الإسماعيلية ومحردة ذات الغالبية المسيحية- على تأمين السكان وتوفير كافة الخدمات لهم. وهذا كله كان له دور كبير -إلى جانب الخطاب الوطني المعتدل- في توسع حالة الرضا والقبول بالإدارة السورية الجديدة.
المصدر : الجزيرة
————————–
هل تُوقظ دمشق المنطقة بأكملها؟/ يحيى عالم
31/12/2024
يجسد نجاح الثورة السورية في إسقاط نظام سياسي امتد حكمه أربعًا وخمسين سنة، لحظة تاريخية مفصلية في تاريخ سوريا والمنطقة، ولذلك فإن ما حدث قد يحمل معه حتمًا تحولًا إستراتيجيًا في مسار الإقليم برمته، بالنظر للموقع الجيوسياسي التي تحتله سوريا في خريطة المنطقة.
فنجاح الثورة سيؤدي بالضرورة إلى تفكيك التوازنات التي ظلت قائمة بسوريا والمنطقة عقودًا من الزمن، وخسائر إستراتيجية كبرى لفاعلين مؤثرين في الإقليم، ومعها البدء في إنشاء توازنات جديدة، قد لا تظهر معالمها الآن، لكن استكمال مسار الانتقال السياسي، سيجعلنا مستقبلًا أمام وضع جديد.
الخسارة الإستراتيجية لإيران
أضحت سوريا في السنوات الأخيرة، منطقة جغرافية لتقاسم النفوذ والصراع بين القوى الدولية والإقليمية، وبقي النظام مجرد واجهة وغطاء سياسي لأدوات الهيمنة التي وظفت فيها المليشيات العابرة للحدود بالنسبة لإيران في مشروعها الإقليمي. أو باعتباره قاعدة متقدمة لروسيا على البحر الأبيض المتوسط، أو لدعم قوات سوريا الديمقراطية وتغذية حلم الانفصال للمناطق الكردية مع الولايات المتحدة الأميركية.
في ظل هذا التجاذب الإقليمي والدولي، فإن خسارة إيران لسوريا، تعد خسارة إستراتيجية لم تتعرض لها طهران في تاريخها السياسي المعاصر منذ حرب الخليج الأولى، وقد تؤدي ارتدادات ذلك حتمًا إلى تقلص النفوذ أو المشروع الإيراني وتراجعه في عدد من دول المنطقة التي بسطت نفوذها عليها من خلال أذرع عابرة للحدود.
يكمن حجم خسارة إيران الإستراتيجية بالنظر للموقع الذي تحتله سوريا ضمن مشروعها، ونظرًا للكلفة التي أنفقتها لبناء خط اتصال بري ينطلق من طهران ويربط عددًا مما يسمى “دول المحور” بعضها ببعض، ويتيح لإيران وأذرعها حرية التنقل والتحكم أو الهيمنة، مما فرض وضعًا جيوسياسيًا يخدم المصالح الإستراتيجية الإيرانية، وقد ظلت إيران الفاعل الرئيسي فيه والمستفيدة منه في الصراع مع خصومها.
لقد كان التدخل الإيراني في عدد من الدول محكومًا بنزعة الهيمنة والتوسع، حيث أتى على حساب دول عربية كانت مدنها عواصم تاريخية للحضارة العربية والإسلامية، ومهما رفعت إيران من الشعارات والخطابات السياسية في وجه النزعة الاستعمارية الغربية، فإنها قد أعادت إنتاج نفس السلوك الاستعماري في العراق، وسوريا، وغيرهما، وعملت على تغذية النزعة الطائفية في المجتمع، وتقويض الدول وجعلها تحت رحمة المليشيات أو الأذرع التي تدين لها بالولاء المذهبي والسياسي.
وبكلمة هنا، كان الوضع الجيوسياسي من خلال الأذرع العابرة للدول، يحمي المركز الذي هو دولة إيران، ويجعل الصراع في مجال حيوي أو عمق إستراتيجي يقع في دول المنطقة التي تشكل حدودها حاجزَ حماية أو مجالَ اشتباكٍ مفتوحٍ، متقدمٍ، بعيدٍ عن المركز، فكان من نتائجه صناعة دول فاشلة مفككة في نسيجها الاجتماعي، بما يسهل الهيمنة عليها، وتحت حكم استبدادي شمولي النزعة، أو حكم بصبغة طائفية، وهو الآخر يتوسل بأدوات الاستبداد في حق المكونات الأخرى، ويقوض الدولة والمجتمع، ويجعلهما – هامشًا – في خدمة المركز الذي هو مشروع إيران.
يمكن القول، إن إسقاط نظام الأسد، وتحرير دمشق، أدى بالتبع إلى انهيار كبير في المشروع الذي شيدته إيران بالمنطقة العربية على عقود من الزمن، وقد يؤدي مستقبلًا إلى انحساره في بقية الدول، لا سيما إذا شاعت الروح التي عبّر عنها ثوار سوريا والأفق السياسي الجامع الذي ينشدونه في خطابهم ومواقفهم، أي بناء دولة تستوعب التعددية، وخالية من المحاصصة، ومن انتشار السلاح خارج سلطة الدولة والقانون، والأهم من ذلك أفق الحرية في مستقبل سوريا.
ذلك سيكون من دون شك، حافزًا للشعوب الأخرى ودافعًا لها، وهو دافع للدول التي تقع تحت سلطة المليشيات للتخلص من نزعة المحاصصة القائمة، التي تضعف الاجتماع السياسي، وتجعل مقدرات الدول وإراداتها رهينة بأيدي قوى خارجية إقليمية أو دولية، كما أنه دافع لبقية شعوب المنطقة التي أجهضت ثوراتها للتعبير عن تطلعاتها مستقبلًا.
المنطقة العربية بين مخاوف الأنظمة من العدوى وتطلعات الشعوب إلى الحرية
مما لا شك فيه أن سقوط نظام الأسد كان خارج المتوقع عربيًا، إذ كان يتم إعادة تأهيله من جانب أطراف عربية، ومن خلال الجامعة العربية نفسها، وهو ما انعكس في الموقف الحاد من الثوار في الإعلام ومواقف بعض الدول، التي اكتشفت بشكل متأخر، أن النظام الذي كان يتم تلميعه أو التواصل معه من أجل دعمه قد رحل فعلًا، وأن ما جرى هو نجاح فعلي للثورة السورية في إسقاط شبح سياسي ظل جاثمًا على صدر السوريين عهودًا طويلة.
ولا يخفي عدد من الدول المعادية للحرية والديمقراطية والتي ظلت تراعي الثورات المضادة طيلة السنوات الماضية، أن ما جرى يشكل تهديدًا ضمنيًا لها، مما قد يحمله التغيير الحالي من إمكانية تجديد روح الثورات لدى شعوب المنطقة.
قابل النظام الرسمي العربي نجاح الثورة السورية، بكثير من التردد والخوف، وهو في واقع الأمر ليس خوفًا وقلقًا على سوريا، وإنما خشية اتساع بقعة الزيت على كامل الجسم العربي، ولذلك نجد أن بيان اجتماع وزراء الاتصال العرب في العقبة لم يواكب الديناميات السياسية السريعة التي جرت بسوريا.
وهو في العموم؛ على الرغم من أهميته في فكّ بعض العزلة الدولية عن سوريا الجديدة، واتخاذه موقفًا واضحًا من الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي السورية وتوغلها في الجولان، فإنه من جانب آخر، لا ينتمي للزمن السياسي الراهن ومتغيراته المستجدّة على الأرض السورية، فمع إسقاط نظام الأسد، أصبح القرار الدولي 2254 جزءًا من الماضي.
بالنظر إلى الحركة الدبلوماسية الإقليمية والدولية الكثيفة التي أعقبت تحرير دمشق، بين عمّان، وبغداد، وأنقرة، وغيرها، والتي انتهت إلى بيان بدون روح سياسية تواكب المرحلة الجديدة، إذ يشكل الامتثال التام لهذا التوجه؛ دون مناورة أو خلق بدائل أخرى، إفراغًا للعمل الذي أنجزه الثوار السوريون، من مضمونه وأفقه السياسي، وإدخال سوريا متاهة وصاية دولية، قد لا تنتهي، بل تكون مدخلًا لإحداث انقسام سياسي في لحظة حرجة، ستكون تبعاتها شبيهة بما حدث في لبيبا، التي بقيت في منزلة بين المنزلتين.
يمكن القول في هذا السياق، إن الدور التركي والقطري، بالإضافة إلى السعودية التي تتباين مواقفها عن مواقف دول أخرى، سيشكل دعامة أساسية للسلطة الجديدة في سوريا، سواء في فك العزلة الدولية والإقليمية، أو في كبح التدخلات الساعية لإفشال المسار الانتقالي بسوريا، وإدخاله في دائرة العنف أو الانقسام السياسي والاجتماعي الحاد.
لقد حملت الثورة السورية في حلتها الحالية وفيما أسفرت عنه، تغييرات جيوسياسية كبرى في الإقليم والمنطقة العربية:
أولًا: على مستوى الإقليم
منحت تركيا دورًا رياديًا، وستجعلها فاعلًا مركزيًا في مستقبل المنطقة، وبصيغة أخرى؛ إن ما حدث كان من ثمار التنسيق بين تركيا ومكونات الثورة السورية في الشمال السوري، من منطلق حتمية الجغرافيا واكتواء تركيا بلهيب الثورة السورية. هذا التنسيق سيؤدي بالضرورة إلى شراكة إستراتيجية بين تركيا وسوريا ذات الموقع الإستراتيجي في المنطقة العربية.
نسجل هنا، أن علاقة تركيا بالمنطقة العربية تختلف عن الدور الإيراني، إذ يمكن أن تثمر العلاقات التركية العربية بناءً يحقق مكاسبَ للطرفين، وتبادلَ خبرات، وتعاونًا مشتركًا يخدم الاستقرار السياسي والمجتمعي دون أن يضرّ ذلك بالسيادة، على عكس الدور الإيراني الذي يقوض الدول لصالح المكونات التابعة لها، بل إن إستراتيجيتها قائمة على زرع الانقسام الحاد بين مكونات المجتمع الواحد.
إن تحديات الإقليم في اللحظة الراهنة، تفرض تعاونًا أكبر بين تركيا، وقطر، والسعودية بسوريا، وقد يكون مستغربًا لدى البعض، الحديث عن دور إيجابي للسعودية في سوريا على الرغم من مخاوفها السابقة من الربيع العربي، لكن تحرير دمشق قد حرّر الرياض كذلك من الضغط الذي كانت تمثله إيران عليها، ولذلك فإن استكمال مسار الانتقال وبناء سوريا الجديدة، بحاجة إلى مركز الثقل السعودي للحيلولة دون التدخل السلبي لأطراف أخرى في المنطقة تتوهم القوة، وتحمل روحًا معادية للحرية والاستقلال الذاتي، وتستثمر في كل الوسائل المتاحة لتقويض مسار الدمقرطة والتحديث، كما أنه سيمنحها استعادة دورها الإقليمي المؤثر إيجابًا.
ثانيًا: المنطقة العربية
سبق أن أشرنا إلى جملة من المخاوف والهواجس التي تقلق الساسة العرب من إسقاط نظام الأسد، إذ إن الحادث في مسار التاريخ ووعي الشعوب، ينتج حتمًا ارتدادات ويخلق طاقة جديدة لإرادة التغيير وتجديد الإيمان بأفق الحرية والديمقراطية والكرامة الذي تمّ وأده بلغة القوة والنار، أو بالالتفاف الناعم كما جرى في عدد من الدول العربية.
إن تحقق الحرية منجزةً على أرض الواقع، وزوال الأنظمة المستبدة، هي مسألة حتمية في المنطقة العربية، وكل المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية تتجه في هذا المنحى، لذلك فإن المطلوب عربيًا، بالإضافة إلى دعم سوريا من الجامعة العربية والحراك الدبلوماسي الإيجابي للدول في المنتظم الدولي، أنه تبدو الحاجة ماسة إلى مصالحة الأنظمة لشعوبها لتجاوز الاحتقان السياسي والاجتماعي.
ينبغي إجراء مصالحة داخلية في معظم الدول العربية بين الأنظمة والفاعلين والنخب السياسية، تسفر بالضرورة عن إطلاق عملية سياسية تزرع الروح في الأنساق السياسية المتهالكة، وتوفر مناخ الحرية وحق الممارسة والنقد السياسي، أي إنهاء حالة العسكرة في الحياة السياسية العربية أو التأميم الذي يُخضِع له الفضاءين؛ الخاص والعام، وبموجب ذلك تنتهي محن عشرات الآلاف من السجناء والمنفيّين عن أوطانهم.
إن الانخراط في المصالحة والحوار السياسي والمجتمعي في عدد من الدول وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، هو فضيلة وحكمة ينبغي أن تكون أهم درس مستخلص من سوريا، غير ذلك فإن ما تزرعه السلطويات سيكون حصادًا مؤلمًا وموجعًا في المستقبل.
دمشق وممكنات الاستئناف العربي للنهوض
يقدم لنا البعد الحضاري والتاريخي مدخلًا مهمًا لفهم دور دمشق في مجرى التغييرات الكبرى في الحضارة الإسلامية، ومن ثم فإن تحرير دمشق بالإضافة إلى أهمية موقعها الجيوسياسي في المنطقة؛ هي مسألة رمزية كثيفة المعنى في الوجدان والوعي العربي والإسلامي، ومن ثم فإن استكمال مسار الانتقال السياسي من الثورة إلى الدولة في سوريا، سيسفر حتمًا عن تغيرات جوهرية في الإقليم برمته، بدءًا من التقدم والحرية والاستقلال، وانتهاء باسترداد الحق الفلسطيني.
إن في ذلك استبطانًا لدروس يحملها التاريخ، لكن جغرافيا المكان، وباعتبار سوريا نقطة التقاء وتقاطع ديني وثقافي واجتماعي مع كل دول ومكونات الإقليم، يمنحها ذلك زخمًا خاصًا في الأدوار التاريخية الكبرى، وهذا ليس حديثًا من أحاديث النبوءات، ولكنها وقائع التاريخ ودينامياته الفاعلة منذ فجر الحضارة العربية والإسلامية، مرورًا بكل الهجمات التي تعرض لها كيان الشرق الحضاري، ومسار الربيع العربي الذي انتهى في سوريا برحيل نظام قمعي لا مثيل له، يعد بالأصالة معركة تحرير ومحاولات نهوض حقيقية تخوضها شعوب المنطقة منذ قرنين تقريبًا بأشكال وأساليب متنوعة من المدافعة، كانت مجسدة مع الاستعمار بداية، ثم لاحقًا مع الاستبداد.
إن هذه الرمزية والموقع الجيوسياسي الذي تحتله سوريا في قلب المنطقة العربية، يجعلانها في صلب تحديات كثيرة قد تعيق الانتقال السياسي وتغرق القوى الفاعلة الآن في تناقضات ثانوية، لذلك فإن الفاعلين الجدد بحاجة إلى ذكاء سياسي وإستراتيجي خاص في مرحلة بناء دولة المواطنة التي تستوعب الجميع، يختلف في طبيعته عن طبيعة التخطيط والقدرة على إنجاز تطلعات الشعب السوري في مرحلة التحرير.
ختامًا: لقد كان مسار الثورة السورية شاقًا ومكلفًا، كما حمل السوريون معهم آلامًا لا حصر لها مع السجن الكبير الذي شيده نظام سياسي حمل كل صفات السوء، لكن بحجم المعاناة التي قدمها السوريون قد يكون الكسب في معركة الحرية والتقدم كبيرًا، وقد يمتد أثر ذلك إلى كل المنطقة التي تتشوف إلى الثورة السورية باعتبارها انعطافة منحت بارقة الأمل للشعوب العربية في زحمة الظلم، تستخلص منها العبر وتأخذ الدروس من أجل نهضتها التي تستلزم بناء نسق المواطنة والحرية.
ولا يسعنا هنا إلا أن نتذكر أحد أبرز أعلام حلب الشهباء، الذي قرن التقدم وتحقيق النهضة بالتخلص من الاستبداد، ونقصد عبدالرحمن الكواكبي الذي يعد كتابه “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”، صرخة ألقاها مطلع القرن العشرين وما تزال تحمل قدرتها التفسيرية إلى الآن، وبذلك يتحقق الاستئناف العربي الإسلامي للنهوض.
الجزيرة
——————————-
«سامي» شريك «قيصر» لـ«الشرق الأوسط»: «الائتلاف» أمدَّ بعمر بشار الأسد
روى واقعتين اقترب فيهما النظام من كشفه ورفيقه… وحذَّر من إفلات الجلادين (2 من 3)
باريس: غسان شربل
31 ديسمبر 2024 م
في الحلقة الثانية من مقابلته الموسَّعة مع «الشرق الأوسط»، يحكي أسامة عثمان، «مهرّب» ملفات التعذيب السورية المعروفة باسم شريكه «قيصر»، كيف صدمهما رئيس حكومة «الائتلاف الوطني السوري» المعارض بعد خروجهما بـ«استخفافه» بأدلة التعذيب. ويتهم الائتلاف بأنه «أمدَّ بعمر بشار الأسد… وتعامل بطريقة لا مسؤولة كلفتنا عشرات آلاف الضحايا».
وروى عثمان الذي عرفه العالم لسنوات باسم كودي هو «سامي»، كيف اقترب النظام من كشفه ورفيقه مرتين، واحدة حين دهم الأمن السياسي منزل عائلته بحثاً عن شقيقه وصادر أجهزة الكمبيوتر، وأخرى حين حوصر بين قناص ودبابة مع أشقائه الثلاثة لأيام، واضطر إلى إخفاء الكاميرا والأجهزة تحت كومة قمامة.
وكشف عن أنه يعمل عبر منظمة «ملفات قيصر للعدالة» على جمع أدلة على «التغيير الديمغرافي وتجنيس أشخاص لصنع ما اعتبره بشار الأسد (سوريا المفيدة)». وشدد على أهمية العدالة الانتقالية، مستنكراً «المجزرة» التي تعرَّضت لها الأدلة والوثائق بعد سقوط الأسد. وفيما يلي الحلقة الثانية من المقابلة:
* توقفنا في نهاية الحلقة الأولى عند قصة صدور «قانون قيصر». ماذا حدث بعد ذلك؟
– بعد هذه الفترة كان الاهتمام بالثورة السورية وبالشأن السوري في أدنى مراحله تماماً. لذلك أنشأنا منظمة في الولايات المتحدة ثم أنشأنا منظمة أخرى في باريس التي هي الآن منظمة «ملفات قيصر للعدالة» لكي نتابع العمل الحقوقي، ليس فقط على «ملف قيصر»، فبعد خروجنا من سوريا أصبحت لدينا ملفات أخرى.
* مثل ماذا؟
– بعض هذه الملفات لا أستطيع أن أبوح بها حتى الآن. طبعاً جميعها تدور حول انتهاكات النظام السوري لحقوق الإنسان في سوريا، وأيضاً التأثير الاقتصادي الذي أحدثه النظام السوري عبر عملية التدمير الممنهج والتغيير الديمغرافي الذي كان يريد أن يفرضه على السوريين. أصبح لدينا عدد كبير من الملفات التي نقوم على تنميتها، وحتى «ملف قيصر» والاهتمام بالأشخاص الذين يتم قتلهم تحت التعذيب لا يقتصر على من قتلهم بشار الأسد في السجون. هذا الأمر ممتد؛ لذلك كان فريقنا يعمل على استدامة الحصول على ملفات أخرى؛ لأننا مقتنعون أن كل من ارتكب انتهاكات في سوريا يجب أن يحاسب.
* أي نوع من الملفات؟
– انتهاكات حقوق الإنسان والتغيير الديمغرافي الذي يشمل تجنيس أشخاص من دون وجه حق بطرق غير قانونية بزجهم في المجتمع السوري؛ لكي يصنع بشار الأسد ما قال عنه يوماً «سوريا المفيدة» و«المجتمع المتجانس» و«سوريا لمن يدافع عنها». هذه العبارات وراءها مشاريع على الأرض ولم تكن عبارات أُطلقت في الهواء. هذه عبارات تتكلم عن مشاريع حقيقية تنفذ على الأرض في سوريا؛ لذلك لا أستطيع أن أعطي تفاصيل حول ملفات يعمل عليها أشخاص حتى الآن لا يريدون ولا نريد لهم أن تُكشف أسماؤهم.
* حُكي في الإعلام عن عمليات تجنيس لإيرانيين، وبكلام أوضح لشيعة عراقيين. هل هذا جزء من الملف؟
– هذا جزء منه. ملف التغيير الديمغرافي يعمل عليه جميع السوريين الذين لديهم منظمات ومن ليس لديهم منظمات. عندما يكون جارك يتكلم بلغة غريبة ويمارس حياته في سوريا وكأنه وُلد فيها من منذ عقود يحق لك أن تتساءل: من أتى بهؤلاء ومن أين جاء هؤلاء؟ فكل سوري يتساءل مَن هؤلاء، هو سوري يعمل على حماية البلاد من هذا التغير الديمغرافي بشكل منظم أو غير منظم. نحن نسعى دائماً للوصول إلى هؤلاء الأشخاص بالطرق المباشرة أو عبر المؤسسات، وهذا يقودنا إلى ما أسميه المجزرة التي تعرَّضت لها الأدلة والوثائق والأرشيف السوري، ليس في الأفرع الأمنية فقط والسجون، وإنما أيضاً في المؤسسات الأخرى. وشهدنا جميعاً كيف تم قصف مبنى تنظيم جوازات السفر. هذه الأماكن مهمة جداً وتحتوي على الكثير من الثبوتيات. عندما يُقصف مكان بهذه الأهمية، فلإخفاء أدلة ووثائق. وتزايد عمليات القصف بعد هروب بشار الأسد يشير بشكل واضح إلى أن ما يحصل هو جرائم تضاف إلى سجله بحق سوريا.
* هل أستطيع أن أستنتج أنك تلمح إلى تواطؤ بين أجهزة بشار والأجهزة الإسرائيلية؟
– لا. لا أستطيع أن أوجّه اتهاماً. أنا قلت إن هذا الأمر تزايد بعد هروب بشار الأسد، ولك أن تستنتج ما شئت ولا تعليق.
«حزب الله» أنقذ بشار الأسد
* من قَلَبَ مسار الأحداث في سوريا وأبقى بشار الأسد وأطال عمر النظام؟ هل تعتبرون الروس ضالعين في الانتهاكات؟ هل تعتبرون الميليشيات الإيرانية مثلاً؟ وماذا عن «حزب الله»؟
– «حزب الله» اللبناني الذي كدنا أن نعلّق في بيوتنا صور زعيمه حسن نصر الله في عام 2006، وبكينا كثيراً عندما كنا نسمع باستشهاد عناصر له. في 2006 استضفت عائلة لبنانية في منزلي في منطقة وادي بردى (شمال دمشق). كان عندي بيت هناك استضفت عائلة لبنانية فيه، وأنا أقل الناس الذين قدموا مساعدات لإخوتنا اللبنانيين.
هذا الحزب اعترف بأنه لولا تدخله لسقط بشار الأسد خلال أشهر. هذا يكفيك. الحزب يعترف بلسان قائده حسن نصر الله، وأفعاله على الأرض تصدق ما قاله. لذلك؛ بالتأكيد كان تدخل «حزب الله» في المرحلة الأولى الدعامة لهذا النظام.
بعد ذلك توافدت الميليشيات وأصبحنا نرى أشخاصاً ووجوهاً غريبة ونسمع كلمات غريبة ولغات غريبة من أشخاص يحملون السلاح ويجوبون شوارعنا. أمام منزلي كان هناك أشخاص عدة لا يتكلمون العربية، ويراقبون فقط مظاهرة سلمية كانت تشيّع شهيداً قتله بشار الأسد في قصفه المدينة. لم أكن أجرؤ أن أسأل هذا الرجل من أنت وماذا تفعل هنا؟ رجال عدة بأشكال غريبة ونحن في مدينتنا – مدينة التل بريف دمشق – يمكن لنا ببساطة أن نلاحظ الوجه الغريب.
نعم، لذلك هؤلاء جاءوا في فترة مبكرة، يعني بعد «حزب الله» مباشرة ببضعة أشهر. تبع ذلك توافد الميليشيات التي نعرفها جميعاً، والتدخل الروسي الحاسم في 2015 حقيقة هو الذي أدى إلى انكفاءة الثوار إلى مناطق جغرافية معينة وخسارة الأراضي التي كانوا يسيطرون عليها. ولذلك؛ بالتأكيد إيران وروسيا والميليشيا التي كانت معهم شركاء في دماء الشعب السوري وشركاء في تدمير سوريا، وهذا الأمر لا يحتاج إلى كثير عناء لكي نثبته.
حين اقترب النظام من كشف الملفات
* متى كاد «ملف قيصر» أن يقع في أيدي الأجهزة الأمنية السورية؟
– تعرَّض منزل العائلة في مدينة التل للمداهمة. كانوا يبحثون عن أخي الأصغر لأنه كان مشاركاً في الحراك السلمي في المظاهرات أو الأمور العادية التي كنا نقوم بها جميعاً. داهم فرع الأمن السياسي منزلنا. كانت هذه الأمور والثورة في بدايتها وكان الضابط الذي دهم المنزل لا يزال لديه القليل من اللباقة.
دخل إلى المنزل وفتش وأخذ أجهزة الكمبيوتر التي تحتوي على نشاطاتي كمهندس مدني من مخططات وأمور عادية. لكنه وجدها في غرفة أخي فأخذ كل ما وجده من وسائط وجهاز الكمبيوتر، واكتفى الضابط وقتها وأعتقد كان اسمه محمد جمعة، بأن يعطيني محاضرة عندما علم أنني مهندس. أعطاني محاضرة في حب الوطن، وأن الوطن أنفق علينا الكثير لكي نتعلم، ومن هذه الشعارات التي يحفظونها في جلسات التوجيه السياسي التي يحضرونها.
أخذ هويتي المدنية وقال لي: يمكنك أن تنزل إلى دمشق وتحضر لنا أخاك بكل بساطة وتأخذ أجهزة الكمبيوتر. أخذ هويتي وبقيت لفترة من دون هوية مدنية وبالتالي لا أستطيع أن أغادر مدينتي حتى لا أمر على أي حاجز أمن يطلبها فأُعتقل. لو اعتقلت في هذه الفترة لكنت أصبحت صورة من إحدى من صور «ملف قيصر».
في مرحلة أخرى أيضاً، تعرَّضت مدينتي مدينة التل لاجتياح من جيش النظام بعد معركة طويلة جداً مع الثوار في داخل المدينة وتهجير كل سكانها بالكامل. ذهب كل السكان المدنيين – وكنا في نهاية شهر رمضان – إلى المدن المجاورة. حتى أنا أخذت أبي وأمي وإخوتي إلى مدينة صيدنايا ورجعت. أخي الصغير لا يستطيع أن يخرج من المدينة وأنا أريد أن أبقى معه وأريد أيضاً أن أجد طريقة لحماية البيانات التي بين أيدينا، وأخي الثالث قال: لا أترككم. بقيت مدينة التل فارغة لأيام عدة وبقينا نحن الثلاثة وتعرَّضنا لعمليات تفتيش كثيرة.
انسحب مقاتلو «الجيش الحر» ودخل جيش النظام، وارتكب مجازر عدة في مدينة التل. عندها اضطررنا إلى مغادرة البناء الذي كنا فيه، وهو لأحد الأصدقاء واستضافنا فيه لأن منزل العائلة في مدخل البلدة حيث بدأ الاجتياح. عندما اضطررنا إلى الانسحاب من المنزل، وضعت كاميرا كانت معي وبعض الأجهزة تحت كومة من القمامة في أسفل البناء، وقلت: إذا عشت سأجدها مرة أخرى لأنه لا يمكن أن يفكّروا بنبش القمامة للبحث عن هذه الأمور. سيبحثون في أماكن أخرى بالتأكيد.
خرجنا ولم نقطع أكثر من كيلومتر ربما، وحوصرنا في منطقة قريبة من مشفى التل العسكري في قمة المدينة. دخلنا إلى بناء واختبأنا داخل هذا البناء لمدة 5 أيام أو 6 أيام، ثم خرجنا. جاء العيد وخفَّت القبضة الأمنية عن المدينة وعادت التغطية الهاتفية واستطعنا أن نعلم من الآخرين، أن بإمكاننا النزول إلى البلدة. نحن في البناء كنا نرى قريباً منا عند خزان المياه في قمة البلد دبابة وقناصاً وعناصر يجهزون لاقتناص أي شخص يسير على الطريق. خروجنا من هناك كان يعني ولادة جديدة لثلاثتنا.
«الائتلاف أمدَّ بعمر بشار الأسد»
* هل تعرَّض جهدكم للتشويش عدا عن مطاردات النظام؟ هل حاول أحد أن يربك عملكم أو يوظفه لمآربه؟
– بهذا المعنى، نعم. كانت معركتنا بعد الخروج من سوريا هدفها الأساسي أن نحافظ على هذا الملف بعيداً عن تجاذبات سياسية أو مصالح ضيقة لأي فئة. هذا ملف انتهاكات حقوق إنسان وملف سوري بامتياز لكل السوريين، ويجب أن يبقى ملفاً حقوقياً بعيداً عن أي مصالح ضيقة لأي جهة. حاولت في البداية أن يكون الائتلاف والحكومة المؤقتة هي الجهة الراعية لهذا الملف، وهذا أمر طبيعي. ذهبت إليهم برفقة أحد الأصدقاء وجلست مع رئيس الحكومة بعد أن انتظرت 4 ساعات في صالة مليئة بالأشخاص الذين يشربون الشاي والقهوة كأنهم في مقهى. كان الأمر مؤسفاً أن تستمع لأحاديث من أشخاص لا تمت أبداً إلى ما يحصل في سوريا.
بعد 4 ساعات، جلسنا لوقت محدود جداً مع رئيس الحكومة وقلنا له إن هذا ملف للسوريين. هذا ملف خطير ونحن نحتاج إلى مساعدة تتضمن النأي بهذا الملف عن أي صراعات سياسية بين أجنحة المعارضة وغيرها، وحماية أهلنا في الداخل حتى لا نتعرض للابتزاز بكشف أسمائهم والتضحية بهم. كان الجواب صادماً للحقيقة، قال – واسمح لي أن أقولها باللهجة السورية – «يعني انتو مفكرين ان الملف راح يهزّ عرش بشار الأسد؟».
كان الجواب صادماً جداً. ليس محبطاً لأنني أعرف قيمة ما لدي، لكن الإحباط أو الأسف كان أن يكون أمثال هؤلاء هم الذين يتكلمون باسم الثورة السورية التي أزعم أنها أهم ثورة على الإطلاق منذ الثورة الفرنسية عام 1789.
الباستيل هو سجن صيدنايا بالتأكيد وبامتياز. سقوط النظام السوري وقيام دولة قانون وعدل في سوريا سيغير وجه الشرق الأوسط، وعندما يتغير وجه الشرق الأوسط يتغير وجه العالم. وهذا ما فعلته الثورة الفرنسية قبل ثلاثة قرون. تأتي (حكومة الائتلاف) وتقول لي: «انت مفكر هذا الملف راح يفزع بشار الأسد؟». لا أريد أن أقول هذه العبارات كما تقال حقيقة في الشوارع لأنها مهينة جداً. انسحبت بأسف وأنا في هذه اللحظة كنت أبحث عن إخراج العائلات التي بقيت في دمشق ولم يتحقق هذا الأمر. كانت لحظة ألم نفسي شديد. يعني أنت اليوم في منتصف الطريق عرضت نفسك وأهلك للخطر ولا تستطيع أن تقوم بإنقاذهم، ويوجد من يبتزك بهم فأنت تسابق الزمن لإخراج هؤلاء الأشخاص، ومنهم من عمره سنتان ومنهم من عمره ثمانون. فكان هذا الجواب صادماً حقيقة من رئيس الحكومة المؤقتة في ذلك الوقت.
* هل شعرت بالخيبة من المعارضة بعد خروجك؟
– الخيبة هي كلمة قليلة على ما شعرت به. أنا شعرت بالحزن والأسف، وأستطيع أن أزعم أنه في ذلك الوقت الذي كانت دول العالم كلها تدعم الثورة السورية وتأخذ ممثل الائتلاف إلى مقعد سوريا في جامعة الدول العربية وتسخّر إمكاناتها السياسية والاقتصادية لدعم هذه الثورة، لو تم استثمار «ملف قيصر» عندما خرجنا وبطريقة صحيحة، لما رأينا بشار الأسد باقياً على عرشه حتى 2024. هذه اللامسؤولية، وهذه اللامبالاة أنا أعتبر أنها أمدت بعمر النظام السوري وكلفت السوريين عشرات آلاف الضحايا. قلة المسؤولية وعدم الاهتمام من الائتلاف.
يعني أنت عندما تذهب لتفاوض النظام، ما هي الأوراق التي تملكها في مواجهة هذا النظام إذا لم يكن «ملف قيصر» هو الملف الأقوى؟ على ماذا تتفاوض؟ أنتم (المعارضة) تكلمتم مع النظام في المحافل الدولية في كل شيء: في الدستور، لون العلم، عدد النجوم، اللغة، طريقة الحكم، ولم تتكلموا في المعتقلين.
* هل تقصد أن هناك من تنكَّر للدماء السورية؟
– نعم، نعم.
* بما في ذلك الائتلاف؟
– طبعاً، وبمسميات مختلفة. نحن كنا نقول ملف المعتقلين هو ملف فوق تفاوضي، أي أننا لا نتفاوض مع النظام السوري على أي شيء قبل أن نتكلم بملف المعتقلين. فوجئت أن بعض الأسماء البارزة وفي مؤسسات بارزة تتكلم باسم السوريين تفسر هذه العبارة بالطريقة التالية: ملف فوق تفاوضي يعني أن نضعه جانباً ونتفاوض في كل شيء، لكن لا نتفاوض فيه. عندما سمعت هذا التفسير لم أعرف هل أضحك أم أبكي؛ لذلك أستطيع أن أقول إن الائتلاف أمدَّ بعمر بشار الأسد.
سجن صيدنايا والمكبس المعدني
* عقدت مقارنة بين سجن صيدنايا والباستيل، وبين الثورة السورية والثورة الفرنسية. هل يمكن أن تقول لي حين أقول سجن صيدنايا… ما هي الصور التي تتزاحم في ذهنك؟
– بعد أن رأى العالم سجن صيدنايا من الداخل، لا أستطيع أن أتخيل كيف كان الناس يتحولون في الداخل أرقاماً ثم أجساداً جافة ثم أجساداً متعفنة ولا تزال حية، ثم تتحول بعد ذلك تحت المكبس كومةً من العظام والأنسجة. من الذي يستطيع أن يتخيل؟ من يستطيع أن يعيش هذه الحالة من الرعب؟
في الداخل نحن كنا ننظر إلى السجن الواقع في الطرف الآخر من مدينتنا رمزاً للظلم والتسلط والقهر، لكن هذه الكلمات مجردة لا ترقى إلى ما كان يعانيه المعتقلون في الداخل لبضع دقائق، فما بالك بأشخاص أمضوا فيه عشرات السنين. ربما المحظوظ هو الذي دخل من باب السجن وخرج من باب المكبس المعدني في أسرع وقت.
* هل فاجأتك قصة المكبس المعدني؟ هل كنت تتوقع هذا الشيء؟
– لم يخطر لي أن يقوم النظام بكبس الأجساد. سمعنا عن كثير من أساليب التعذيب والمقابر الجماعية، لكن المكبس المعدني؟! أي عقلية إجرام كان يمتلكها هذا النظام.
* وما الغرض من المكبس تحديداً؟
– أنا وأنت بشر عاديون نحب ونشعر بالحنين لأهلنا ولأبنائنا. تفكيرنا منطقي. هذا السؤال لا يمكن أن يجيب عنه شخص يفكر بطريقة منطقية. ما الذي يدفع نظام مجرم يمتلك أرض سوريا وسماءها وما تحت أرضها لكي يضع مكبساً معدنياً ليسحق جثث المعتقلين. لديك آلاف الأمتار من الأراضي التابعة للسجن نفسه. ادفن هؤلاء تحت التراب. لماذا هذه الطريقة؟ لا يمكن أن يكون الشخص الذي يعمل على هذا المكبس إنساناً طبيعياً؟
صغار الجلادين أخطر من كبار الضباط
* لو سألتك أن تعّدد لي لائحة بأسماء كبار الجلادين المسؤولين عن التعذيب. من هم؟
– هذه لائحة طويلة جداً. نحن رفعنا دعوة أمام القضاء الألماني على العديد من الأشخاص، منهم (نائب الرئيس للشؤون الأمنية) علي مملوك، ومنهم (نائب مدير مكتب الأمن الوطني والرئيس السابق لشعبة المخابرات العسكرية) عبد الفتاح قدسية، ومنهم (رئيس شعبة المخابرات الجوية والمسؤول عن سجن المزة) جميل الحسن. كانت أول مذكرة توقيف تصدر عن القضاء الألماني بحق جميل الحسن.
رؤساء الفروع الأمنية هم المسؤولون بشكل مباشر عن عمليات القتل تحت التعذيب؛ لأن هذه المعتقلات تعود لإدارتهم، لكنهم ليسوا الوحيدين. وأنا أقول دائماً أن تعتقل رئيس فرع أمن أو توجه إليه التهمة بأنه ارتكب جرائم حرب ليس مهماً بقدر أن توجه التهمة إلى الشخص الذي يقوم بالقتل الحقيقي والتعذيب في أقبية هذه السجون؛ لأن هؤلاء هم من يقومون بالقتل بتلذذ. هم لا يقومون بالقتل نتيجة تنفيذ أوامر، بل يتلذذون بتعذيب الناس حتى تصل إلى هذه المشاهد التي رأيناها.
لكنهم يظنون أن من فوقهم يحميهم وأنهم معصومون ومحصنون من المساءلة، ولا يمكن أن يصل إليهم القانون، لا في سوريا ولا خارج سوريا. وكل المحاكم التي أقيمت خارج سوريا كانت تتوجه إلى الصف الأول أو الأشخاص الذين ثبتت عليهم تهمة ممارسة عملية القتل. هذا الأمر لا يكفي. يجب أن نحصل على أسماء أشخاص يقومون بالقتل المباشر حتى يعلم هؤلاء أن النظام الذي يعتبرونه ربهم الذي يعبدونه لا يحميهم، وأن الله سبحانه وتعالى فوقهم وفوق ربهم السياسي.
* هل الوثائق التي جُمعت تكفي لإدانة صغار المرتكبين؟ هل هناك أسماء لهم؟
– إذا كنت تقصد «ملفات قيصر» التي هي بحوزتنا والتي خرجنا بها من البلاد في نهاية 2013، فهي لا تتضمن إلا عدداً محدوداً من صور عناصر تابعين للنظام السوري. ربما بعض الأسماء الموجودة على وثائق تسمَّى الضبوط التي يتم تنظيمها حتى تذهب إلى المحكمة العسكرية ويتم بعدها إصدار شهادة وفاة. فهنا، تجد بعض التوقيعات لبعض عناصر النظام، لكن ليس معنى ذلك أن هؤلاء هم مَن عذَّبوا الضحايا وقتلوهم. لذلك لا يتضمن ملفنا أسماءً لجلادين في السجون قاموا بعمليات القتل. من هنا كانت القضية الأولى التي قمنا برفعها أمام القضاء الألماني عن طريق «المركز الأوروبي لحقوق الإنسان والحقوق الدستورية» كمدعٍ شخصي مع آخرين، تتضمن أسماء لرؤساء فروع أمن فقط وليس صغار الجلادين.
لكن حتى تصل سوريا الحرة إلى مجتمع مستقر يجب أن تمر بمرحلة العدالة الانتقالية التي تعني بالضرورة المحاسبة والمساءلة؛ لأنك لا يمكن أن تعيش في حي وإلى جوارك رجل لا تزال رائحة الدم تفوح منه لأنه كان يعمل لسنوات طويلة في سجون بشار الأسد ويقتل المعتقلين أو يعذبهم؛ لذلك لا بد لكل من قام بانتهاكات ضد حقوق الإنسان في سوريا أن يُحاسَب إذا أردنا لهذا المجتمع أن يستقر وأن يكون هذا الاستقرار مستداماً ولا نفتح الباب لأعمال الانتقام الفردي إذا أحس أهالي الضحايا بأنهم لم يحصلوا على حقوقهم ولم يصلوا إلى ما يجعل مشاعرهم تبرد تجاه من قتل أحباءهم.
والانتهاكات ليست فقط عمليات القتل أو القتل تحت التعذيب. الانتهاكات أوسع بكثير من هذا الأمر. كل ما يسيء إلى كرامة الإنسان هذا انتهاك… محاولات التغيير الديمغرافي. لا يكفي اليوم أن أقول لمن عاش 12 سنة في خيمة على الحدود التركية أو في الصحراء الأردنية أو في لبنان: ارجع إلى بيتك سقط الأسد وانتهى الأمر. هذا الرجل تعرَّض إلى ضرر شديد ومعاناة شديدة جداً عبر سنوات… وأضف إلى ذلك كله أن هناك جيلاً لم يتعلم أو يدخل مدارس. هؤلاء لم تُتَح لهم الفرصة لكي يعيشوا الحياة الإنسانية التي تليق بأمثالهم في سنوات حياتهم الأولى؛ لذلك الضرر الذي وقع على هؤلاء وذويهم يجب أن يتم التعويض عنه، وفوق ذلك يجب أن يكون هناك اعتذار حقيقي لكل من تعرَّض للانتهاك في سوريا من الجهات التي قامت بهذا الفعل.
* هل نحن نتحدث عن آلاف الجلادين؟
– بالتأكيد. عندما ننظر للأمر من هذه الزاوية فنحن نتحدث عن الآلاف. بعد ذلك كله أنت في حاجة إلى المصالحة المجتمعية.
إتلاف الوثائق
* هل تخشى أن يكون مصير ضحايا صيدنايا مشابهاً لمصير ضحايا حماة؟
– هذا ينقلنا إلى المشكلة التي حصلت بعد تحرير دمشق من الطاغية المجرم بشار الأسد. حالة الفوضى التي عمَّت في الأيام الأولى أدت إلى فقدان الكثير من الوثائق والأدلة. طبعاً أنا لا أقول إن الأهالي الذين يسعون إلى البحث عن أحبائهم قد ارتكبوا جرماً. أبداً. هذه الحالة العاطفية مبررة وهذا حقهم، وهو فوق كل شيء. لكن أنا أرفض أن يكون حصولك على حقك سبباً في حرمان الآخرين من الوصول إلى حقوقهم. إتلاف الوثائق يعني أن هناك مجرمين لن تكون لدينا أدلة لإدانتهم، وبالتالي أنت سلبت الآخرين من الضحايا حقهم في أن يحاسَب الجلاد الذي قتلهم والذي عذبهم.
إتلاف هذه الوثائق ليس فقط ناتجاً من دخول المواطنين إلى هذه الأماكن. بعض الأماكن تُركت بحالة سيئة، وبعضها تم إحراقها فيما بعد والفاعل مجهول. إذن، هناك جهات تقوم بفعل منظم ومقصود لإتلاف هذه الوثائق. واليوم ربما يكون الأكثر سعادة بإتلاف هذه الوثائق وفتح السجون بطريقة غير مدروسة هو بشار الأسد وبقية المجرمين؛ لأنك بهذه الطريقة تتلف أدلة وتفتح السجون من دون حتى توثيق لهؤلاء المعتقلين الذين كانوا في السجن. وجدنا سجناء وصلوا من سجن صيدنايا إلى مدينة التل يمشون حفاة عراة… أنا أتكلم عن أكثر من 3 كيلومترات مشياً في عتمة الليل والبرد.
هناك أشخاص خرجوا من سجن صيدنايا واستقبلهم الأهالي بحالة مزرية جداً. هذا الأمر مؤلم ومؤسف. نحن نفرح لتحرير هؤلاء، لكن نحزن جداً إذا لم نستطع محاسبة من فعل بهم ما رأيناه.
* حين تلقيت خبر فرار بشار الأسد، هل خطر في بالك إجراء مقارنة بين سقوط صدام وسقوط بشار؟
– هذا الأمر أعتقد أنه بعيد. أولاً بشار الأسد أسقطه السوريون بأيديهم، أسقطه الرعب. بشار الأسد سقط حتى قبل أن تصل قوات الثوار إلى دمشق. كان قد نضجت الشروط كافة التي نتج منها سقوط بشار الأسد. كان في أضعف مرحلة وسقط على أيدي السوريين الأبطال الذين دخلوا دمشق بعد أن دخلوا حماة وحمص، ووصلوا إلى ما شاء الله، وعلى أيدي السوريين الذين عملوا في المنظمات الحقوقية وغيرها لمحاصرة هذا النظام سياسياً واقتصادياً وإعلامياً حتى استطاعوا الحد من كل مصادر القوة التي أمدَّته بالطاقة للبقاء عبر السنوات الماضية، وحانت لحظة القطاف، وسقط بشار الأسد بأيدي السوريين.
هذا الأمر لا يشبه ما حصل في العراق، والمقارنة بين بشار الأسد وأي حالة أخرى سواء في زمننا أو في الأزمنة الماضية هي مقارنة تظلم الطرف الآخر. لا أعتقد أبداً أن نيرون يستحق أن تقارنه ببشار الأسد.
* هل ترى نيرون أفضل؟
– هنا من الخطأ أن نستعمل كلمة أفضل وأسوأ. هنا أقول إن بشار الأسد أشد إجراماً وأشد جنوناً من نيرون. ليس هذا المكان صالحاً لاستخدام كلمة أفضل بالتأكيد.
الحلقة الأولى على الرابط التالية
«سامي»: جاءني «قيصر» بصور ضحايا التعذيب فتقاسمنا الخطورة والهموم
غداً حلقة ثالثة وأخيرة
الشرق الأوسط
——————————
====================