سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعصفحات الحوار

حوار مع يوسف عبدلكي.. حياة واحدة فقط

اجرى الحوار: حسين المحروس

السبت 26 أكتوبر 2024

من التخطيطات، إلى الأشخاص في حالاتهم البشرية المختلفة، عددٌ منهم برؤوسٍ مقنعةٍ.. بورتيريهات الأصدقاء، كولاجاتٌ ملونةٌ على الورق، ألوان الباستيل، استعارة الخيول البرية الجامحة، عن المبالغة في القوى الداخلية، ومحاولة تكبيرها قدر الإمكان، وكأنّ قوة الإنسان لا تكفي للثورة! أجسادٌ بشريةٌ قويةٌ، لكنّها مكبلةٌ، مصلوبةٌ، أو تحاول النجاة! بعد كلّ ذلك، تأتي الطبيعة الصامتة، ثم العظام، والأسماك في أقصى حالات ضعفها خارج الماء، غرستْ مسامير صلبة في مواضع الحياة فيها!

] لذتَ بنصوصِ ثائرينَ مثلِ الشَّاعرِ صلاح جاهين، أو المغنِّي الشَّيخِ إمام، ووضعتَ النَّصَّ في اللَّوحةِ. أنتجتَ لاحقًا لوحاتٍ يبدو أنَّها نقيضةٌ لهذا العرْيِ، ولا تحصر النَّاظرَ فيها نصوصٌ، ولا تقيِّده تأويلاتٌ. تلويحات أمِّ الشَّهيدِ مثلاً، أطفال المخيمِ، وأمامَ بابِ السِّجنِ في العامِ الماضي، في الغاليري نفسِهِ. هذهِ ربَّما، بشكلٍ غيرِ دقيقٍ، تحوّلات يوسفَ عبدلكي الفنَّية. وكأنَّكَ وجدتَ أنَّ التَّعبيرَ البصري الأمثلَ عن استمرارِ ثورةِ الإنسانِ، ليسَ في الجموحِ، ولكنْ في أثرٍ مستمرٍّ، وهادئٍ جدًّا. قلْ لي أنِّي مخطئٌ جدًّا في هذا التَّوصيفِ.

أعتقد من حيثِ المبدأِ أنَّ كلَّ ما صنعته يندرج، بشكلٍ أو بآخرَ، في سياقِ تصوّراتي، ورؤيتي للفنِّ، وأنَّه يؤدِّي دورًا في ضرورةِ الإمساكِ بشكلٍ فعليٍّ بمفاصلِهِ التِّقنيةِ. دعْنَا نقلْ إنَّه يمنحه الغِنى الَّذي يجعل بإمكانِهِ أنْ يخاطِبَ الآخرَ. وبهذا المعنى، أرى أنَّني عندما كنت أرسم، على سبيلِ المثالِ، أحْصِنَتي في فترة السَّبعيناتِ، وعندما كنت أرسم في الثَّمانيناتِ الأشخاصَ الرَّسميِّينَ، والمزينينَ بالنَّياشينِ، وحينَ كنت بعدَها بعشرِ سنينَ أرسم أسماكًا مضروبةً بمساميرَ، وعصافيرَ مذبوحةً، كنت أرسم كلَّ هذا في سياقٍ واحدٍ، وإنْ كانتِ المواضيع مختلفةً. إنَّ اختلافَ الموضوعِ من فترةٍ إلى فترةٍ لا يلغي أنْ تكونَ هناكَ تصوّراتٌ، أو رؤيةٌ، بشكلٍ أو بآخرَ، أمينةً معَ نفسِهَا، وبالتَّالي، كثيرًا ما كنت أستغرب عندما يحدِّثني النَّاس عن المراحلِ، وكنت أقول: أية مراحل؟! هذهِ السَّمكة هيَ الحصان، والحصان هوَ لوحة العاري، ولوحة العاري هيَ الشَّخص الموجود في لوحةِ الأشخاصِ، بمعنى أنِّي، ومنذ اليومِ الأولِ، وربَّما بسببِ الجوِّ العائليِّ الَّذي عشت فيهِ، وقدْ كانَ جوًّا سياسيًّا، وجوًّا معارِضًا، وجوًّا يساريًّا..إلخ، وربَّما فيما بعد، بسببِ قراءاتي، ومطالعاتي، وربَّما أيضًا بسببِ مزاجي الشَّخصيِّ، فكلّ هذا ساقَتي لأنْ أفهمَ العملَ الإبداعي على أنَّه ليسَ عبثًا، وليسَ فنًّا للفنِّ، وليسَ تعبيرًا عن قِيَمٍ جماليةٍ. نقطةٌ على السَّطرِ.

لقدْ فهمته مباشرةً، ومنذ كانَ عمري عشرينَ سنةً، باعتبارِهِ واحدًا من منتجاتِ المجتمعِ الإبداعيةِ، وبالتَّالي، بشكلٍ أو بآخرَ، يجب أنْ يكونَ أمينًا لهذا المنبعِ، وهوَ منبع صراعِهِ الاجتماعيِّ. كانَ هذا يصاحبني دائمًا. إنَّ ما ذكرته الآنَ هوَ ما يتعلَّق بالمضمونِ، ويتعلَّق بما تريد أنْ تقولَ. ولكنِّي أرى العملَ الفني أيضًا معَ ذلكَ، وربَّما أحيانًا قبلَه، يعني أنَّ وسائلِكَ لرسمِ اللَّوحةِ، سواءً كانت لوحةً تعبِّر عن علبةِ كبريتٍ، أو عن أمِّ الشَّهيدِ، يجب أنْ تمنحَها قوَّةَ التَّماسكِ كلوحةٍ، بغضِّ النَّظرِ عن الموضوعِ، وبالتَّالي؛ هذا هوَ التَّحدِّي، تحدِّي أنْ يكون بإمكانِكَ التَّعبير بموضوعاتِكَ عن الأشياءِ الَّتي تعكس قناعاتِكَ الحقيقيةَ تجاهَ المجتمعِ، وتجاهَ قِوى الأمرِ الواقعِ فيهِ، وتجاهَ.. وتجاهَ.. وتجاهَ… ولكنْ أيضًا، بأيةِ وسيلةٍ أنتَ تؤدِّي هذا، وتحقِّق هذهِ المضامينَ الَّتي تشكِّل قناعاتِكَ العميقةَ؟ ربَّما تكون المجموعة الَّتي علمتها عن العاري خارجَ هذا السِّياقِ قليلاً، تلكَ الَّتي أثارتْ كثيرًا من اللَّغطِ حولَها. أنا أرى هذهِ المجموعةَ بحدِّ ذاتِها تندرج ضمنَ سياقٍ مفاده أنَّ الرَّسامَ، أو الموسيقي، أو المسرحي ليسَ شخصًا ذا تركيبةٍ فكريةٍ، أو نفسيةٍ، أو تربويةٍ بسيطةٍ، إنَّما هوَ كيانٌ معقَّدٌ، وبالتَّالي؛ يمكن أنْ يكونَ من حقِّهِ أنْ ينتقلَ من مكانٍ إلى مكانٍ، ومن موضوعٍ إلى موضوعٍ، ومن حساسيةٍ بالعملِ إلى حساسيةٍ أخرى؛ لأنَّه كيانٌ في منتهى التَّعقيدِ، والتَّركيبِ، وعليهِ، يمكننَا أنْ نرىَ دائمًا في تاريخِ الفنِّ فنانينَ حقَّقوا إنجازاتٍ كبيرةً في واحدٍ من المواضيعِ مثلاً، لكنَّهم، وبعدَ فترةِ؛ ينتقلونَ إلى موضوعٍ آخرَ، بالرّغمِ من أنَّ بإمكانِهم أنْ (يستثمروا) نجاحاتِهم في هذا الموضوعِ، ويستمِرّوا، ولكنَّ تركيبتَهم النَّفسيةَ، وتركيبتَهم الفكريةَ، وتطلّبَهم للعملِ الفنِّيِّ، وتطلّبَهم لأنْ يكونوا صادقينَ مع أنفسِهم أولاً، ومعَ محيطِهم ثانيًا، يجعلهم ينتقلونَ من موضوعٍ إلى موضوعٍ آخرَ، بغضِّ النَّظرِ عن أيةِ حساباتٍ.

] هناكَ سؤالٌ خاصٌّ جدًّا، وهوَ موضوع العرْيِ. ولكنَّكَ ذكرتَ أنَّه لا توجد في مسيرتِكَ مراحل، أو قدرَ الإمكانِ يمكنني أنْ أرى أنَّها مراحل متداخلةٌ، ويكون من الصَّعبِ جدًّا أنْ نضعَ فواصلَ حادَّةً جدًّا، بينما المرحلة تدخل في المرحلةِ الأخرى. ولكنِّي لاحظت في تجربتِكَ أنَّكَ تجاوزتَ أشياءَ في مرحلةٍ معينةٍ، ومصِرّ أنا على عدم استخدامِ كلمةِ مرحلةٍ، ولم تَعدْ إليها تقريبًا. لا أدري، بحسب ما هوَ منتجٌ، وما هوَ موجودٌ، على سبيلِ المثالِ، استخدامكَ للباستيلِ، والكولاجاتِ الملوَّنةِ، هل عدتَ مرَّةً أخرى لترسمَ بها؟ أمْ بقيتَ في لونٍ آخرَ سآتي إليهِ الآنَ؟

انظر.. عمليًّا، أنا أعتقد أنَّ هناكَ حلقةً واسعةً، وليستْ ضيقةً، حلقةً واسعةً من الموضوعاتِ، أبدأ فيها، وأبتعد عنها، وأنتقل لموضوعٍ آخرَ، ولموضوعٍ ثالثٍ، وأعود لها بعدَ ذلكَ…إلخ. موضوعات الطَّبيعةِ الصَّامتةِ مثلاً، والَّتي رآها النَّاس خلالَ العشرين، أو الخمسةِ والعشرينَ عامًا الأخيرة، عملت كثيرًا من المواضيعِ الخاصَّةِ بالطَّبيعةِ الصَّامتةِ، ومنذ السَّبعينياتِ، عملت مواضيعَ كثيرةً بالحفرِ على المعدنِ، وهناكَ مواضيع طبيعةٍ صامتةٍ لها علاقةٌ بفترةِ الثَّمانيناتِ. وكذلكَ العاري، لقدْ عملت على العاري، وبكثافةٍ كبيرةٍ، في السَّبعينياتِ، والثَّمانيناتِ، ولكنَّها لم تستحوذْ على كلِّ عملي كما حدثَ، في الحقيقةِ، منْ عشرِ سنواتٍ مضتْ. هذا يعني أنَّ هناكَ حلقةً، إذا أردتَ، دعنا نسمِّيها حلزونيةً. إنَّك تبدأ من نقطةٍ؛ وتذهب إلى نقطةٍ أخرى؛ ومن ثمَّ تذهب إلى نقطةٍ ثالثةٍ، ثمَّ تعود…

] يمكن أنْ تكونَ عودةً مختلفةً، بأفقٍ مختلفٍ، صحيح!

كما ذكرت لكَ، بالنِّسبةِ للموضوعاتِ، يمكن للفنَّانِ، في الحقيقةِ، أنْ يبدأَهَا؛ وينهيها؛ ويذهب إلى نقطةٍ أخرى، ثمَّ بعدَ سنةٍ، أو عشرِ سنواتٍ، أو خمسَ عشرَةَ سنةً، يعود إليها، ولكنْ بطريقةٍ أخرى، وربَّما بحساسيةٍ أخرى، وربَّما بأدواتٍ أخرى. الباستيل، والأعمال الملوَّنة الَّتي عملت عليها ما بينَ سنةِ 1989 و1995، أيْ خلالَ ستِّ أو سبعِ سنواتٍ، هذهِ الأعمال بالفعلِ أنا لم أعدْ إليها، لم أعدْ للباستيلِ، ولكنْ، انتبهْ. أنا رجلٌ مازلت في مطلعِ تجربتي، كلّ عمري ثلاثةٌ وسبعونَ عامًا. وذاكَ لا شيء! هذا يعني أنِّي سأرجع لها يالتَّأكيدِ مرَّةً ثانيةً، ومرَّةً ثالثةً. كنْ متفائلاً!!

] لهذا استوقفني تعبيرٌ فيهِ استخدامٌ لكلمةِ «فجأة». لاحظت في إحدى الكتاباتِ عنكَ، لشخصٍ اسمه أو مانيويل تاغي، يقول فيها أنَّكَ في العامِ 1995 «فجأةً» تخلَّيتَ عن استعمالِ الألوانِ، فلاحظت أنا كلمةَ «فجأةً» هذهِ، فمسألة «فجأة» تكون صعبةً في سياقِ الفنَّانِ، لأنَّ الأمورَ لا تحدث فجأةً. لقدْ تكلَّمَ عن الفترةِ ما بينَ 1995 و2007، في هذهِ المرحلةِ هناكَ مجموعة السَّمكِ، وعيون السَّمكِ المَيْتِ الحيِّ، الجماجم، عظمة الضِّلعِ، الأحذية، لوحة العصفورِ والسِّكينِ. لاحظت جريًا على كلامِهِ فيما يتعلَّق بالأسودِ، حتَّى في اللَّوحاتِ الموجودةِ هنا، أنَّ هناكَ ضربةً باللَّون الأحمرِ فقط، لاحظتها أيضًا في اللَّوحاتِ الأخرى في كتبِكَ، وتكون نادرةً جدًّا. بعيدًا طبعًا عن رمزيةِ اللَّونِ الأسودِ السَّطحيةِ، وأيضًا الأحمرِ السَّطحيةِ، كانَ في ذهني سؤالٌ: لماذا كلّ هذا السَّوادِ في هذهِ اللَّوحاتِ؟

أولاً، دعني أجِبْكَ على السّؤالِ الأوَّلِ، المتعلِّقِ بلفظةِ «فجأةً». الكلام الَّذي قالَه النَّاقد الفرنسي، في الحقيقةِ، كلامٌ صحيحٌ. بمعنًى آخرَ، لقدْ اشتغلت سبعَ سنواتٍ على مجموعةِ الأشخاصِ، واشتغلت بالألوانِ، أو تكنيكٍ مركَّبٍ فيهِ غولاج، وفيهِ جواش، وفيهِ باستيل، بالإضافةِ لأنِّي، وفي الوقتِ نفسِهِ، كنت أشتغل في الحفرِ، أبيضَ وأسودَ، على الموضوعِ ذاتِهِ. بعدَها جاءتني لحظةٌ، لحظة صدقٍ معَ النَّفسِ. أحسست أنَّ ما أريد أنْ أقولَه في هذا الموضوعِ قد قلته، فبالتَّالي توقَّفت. وبعدَ فترةٍ قصيرة، انتقلت إلى موضوعِ الطَّبيعةِ الصَّامتةِ، فكلمة «فجأة» صحيحةٌ، لكنَّها صحيحةٌ في تلكَ اللَّحظةِ، أمَّا في لحظاتٍ أخرى لاحقةٍ تعود… أعني..

] تنتفي فجأةً…

نعم… الأمر الآخر الَّذي سألتني عنه هو..

] لماذا كلّ هذا السَّوادِ؟! أعتقد أنَّ عملَكَ الأخيرَ، في السَّنواتِ الأخيرةِ، لا ألوانَ فيهِ.

لا.. كمَا ذكرت لكَ منذ قليلٍ، كنت قدْ تربَّيت في بيئةٍ سياسيةٍ، وقراءاتي تتعلَّق كذلكَ بمحاولةِ الوعيِ بما يحدث في العالمِ من حولي، سواءً في بلدي، أو في المحيطِ الأكبرِ. ومن دونِ شكٍّ، أيّ شخصٍ يتابع أوضاعَنَا العربيةَ؛ يرى كمْ هوَ هائلٌ اليومَ حجم السَّوادِ في كلِّ المناحي، سواءً كانتِ المناحيَ البسيطةَ الَّتي لها علاقةٌ بالتَّعليمِ، والَّتي لها علاقةٌ بالتَّربيةِ، بالخدماتِ الصِّحيةِ، المواصلاتِ، أو بالعلاقاتِ كعلاقةِ المواطنِ بالسّلطاتِ. هناكَ حجمٌ من السَّوادِ، حجمٌ من التَّراجعِ، والاستبدادِ يكاد لا يمكن للمرءِ تصوّره في الحقيقةِ. في بلادِنا، وفي الكثيرِ من البلادِ العربيةِ، ومحيطِنَا، عندما ننظر لحجمِ (الحرِّياتِ) في الخمسيناتِ، أو السِّتيناتِ، نراه أكبرَ بكثيرٍ من حجمِ الحرِّياتِ في السَّنواتِ الأخيرةِ، علمًا بأنَّا من المفترضِ كمجتمعاتٍ، وكعلاقةِ سلطاتٍ بالمواطنينَ، أنْ نتقدَّمَ، لا أنْ نتراجعَ. بينما ما يحدث فعلاً هوَ تراجعٌ كبيرٌ جدًّا، وبالتَّالي، إذا أرادَ الشَّخص أنْ يكونَ أمينًا لهذا الواقعِ، والَّذي، بشكلٍ أو بآخرَ، يشكِّل واحدًا من المفاتيحِ الأساسيةِ لفهمِهِ للعالمِ، أو لفهمِهِ للعمليةِ السِّياسيةِ، سيكون حجم السَّوادِ، أو التَّشاؤمِ، أو القسوةِ كبيرًا جدًّا..

] أكبرَ بكثيرٍ.. صحيح!!

عبدلكي: في الواقعِ، لا يوجد اليومَ من حولِنا فنَّانٌ، رسَّامٌ، أو موسيقيٌّ، أو شاعرٌ بمقدورِهِ حقيقةً وضع ما يحدث فعلاً على الورقةِ، أو في اللَّوحةِ، أو في القطعةِ الموسيقيةِ مباشرةً؛ فالوقائع المأساوية، والكارثية أكبر بكثيرٍ من التَّصوّراتِ. تخيلْ معي مثلاً أنَّ بلدًا لديهِ طموحاتٌ في أنْ يتقدَّمَ، ويواجِهَ المشروعَ الصّهيوني، وأنْ يكونَ بإمكانِهِ التَّقدّم في مجالِ التَّعليمِ، والصِّحَّةِ.. إلخ، وتكتشف فجأةً أنَّكَ أمامَ بلدٍ فيهِ نصف مليونِ ضحيةٍ، ونصف عدد سكَّانِهِ ما بينَ مهجَّرينَ داخلَه، أو خارجَه، بلدٍ فيهِ 300 ألفِ شخصٍ مغيبينَ في السّجونِ، ولا يعرف أحدٌ شيئًا عن مصائرِهِم، وفيهِ انهيارٌ للاقتصادِ الوطنيِّ، وانهيارٌ للعملةِ! كلّ هذا يكاد يكون سيرياليًّا؛ لهولِ الكارثيةِ فيهِ. لقدْ أشاعَ هذا بالتَّالي يأسًا كبيرًا لدى المواطنينَ من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى أشاعَ أيضًا الفقرَ، والحاجةَ إشاعةً لم تعرفْهَا البلد ربَّما منذ قرونٍ. فتِجاهَ كلِّ هذا الهولِ، أيمكن للمرءِ أنْ يتحدَّثَ عنِ الزَّهرةِ كجمالٍ؟! سيبدو بذلكَ وكأنَّما يخون نفسَه بالدَّرجة الأولى.

] صحيحٌ.. وهذا أيضًا سيقودنَا لسؤالِ العرْيِ الَّذي سيأتي لاحقًا، في موضوعِ اختصارِهِ إلى موضوعٍ جماليٍّ فقطْ. لقدْ لاحظت هذهِ التَّعبيراتِ، وسآتي عليها. في هذا الموضوعِ بالتَّحديدِ، أعتقد أيضًا أنَّكَ تجاوزتَ موضوعَ الاهتمامِ بالإنسانِ العربيِّ، واتَّجهتَ للإنسانِ عمومًا، في كلِّ العالمِ تقريبًا. كنتَ تتحدَّث عن شخصٍ يطالِب بالحريةِ، وقتِلَ، أو أعدِمَ في المكسيكِ، وشخصٍ آخرَ في دولةٍ أخرى تهتمّ بهِ. لقدْ خرجتَ إلى دائرةٍ أوسعَ من دائرةِ البلدِ، ثمَّ دائرةِ الوطنِ العربيِّ، ثمَّ إلى العالمِ كلِّهِ، وأعتقد أنَّ الفنَّانَ لا يكون محصورًا في مكانٍ معينٍ..

صحيحٌ..

] هيَ التَّجربة الإنسانية يخرج إليها، ويعبِّر عنها، وعن حالاتِها أيضًا.

أنا أعتقد أنَّ الحلمَ بالحريةِ…

] هنا كلمةٌ مهمَّةٌ جدًّا أنتَ قلتَهَا في هذا السِّياقِ: «لا أستطيع أنْ أتحمَّلَ رؤيةَ شخصٍ يموت؛ لأنَّه قالَ شيئًا، أو قامَ بأمرٍ، وهوَ لا يستحقّ العقوبةَ» هوَ سؤالٌ قلتَ عنه أنَّه وجوديّ، وفي أعماقِكَ، ويزعجكَ كثيرًا، وأنَّ كلَّ شيءٍ يمكن إصلاحه إلا الموتَ.

انظر.. من حيث المبدأِ، أعتقد أنَّنا نعيش اليومَ في عالمٍ حجم الظّلمِ فيهِ حجمٌ لا يمكننا تصوّره فعلاً، بما في ذلكَ الدّول المتقدِّمة، والأوروبية.. وإلخ. وأنا بهذا المعنى، أعتقد أيضًا أنَّ معركةَ الحريةِ هيَ معركةٌ واحدةٌ في العالمِ، معركةَ العدالةِ هي معركةٌ واحدةٌ في العالمِ، وبالتَّالي، أنا في الحقيقةِ، أقف تمامًا أمامَ أيِّ تجربةٍ إنسانيةٍ في أيِّ بلدٍ في العالمِ، وكأنِّي أراقب فعلاً حدثًا في بلدي. وعليهِ؛ قمت بعملِ قطعةِ حفرٍ في السَّبعيناتِ، تتحدَّث عن قائدِ نقابةٍ مكسيكيّ اسمه لوشو كابانيال. هوَ قائدٌ نقابيّ تمَّ اضطهاده، وإعدامه، وذلكَ لأنِّي شعرت، في الحقيقةِ، بأنَّه ينتمي لي، وأنا أنتمي له، أكثر ربَّما من جاري الَّذي يكذب، وينافق الناس، ويأكل حقوقَهم. العلاقة الَّتي تربطنِي بهذا أقوى بكثيرٍ من علاقتي بذلكَ الجارِ المفترَضِ.. بهذا المعنى…

كما أنَّ المرءَ يجب أنْ يكونَ أمينًا. والكثير من الفنَّانينَ كانتْ لديهم هذهِ الرؤية، فعلى سبيلِ المثالِ، هناكَ الفنَّان برهان كركوتلي، ذلكَ الَّذي لا يضيء عليهِ أحدٌ اليومَ. برهان كركوتلي هوَ في الحقيقةِ شخصٌ لم تكنْ لديهِ طموحاتٌ لأنْ يصبحَ رسَّامًا في منتصفِ الخمسيناتِ، لكنَّه بعدَها، وفي يومٍ من الأيامِ، شاهدَ اللَّوحاتِ الجداريةَ الخاصَّةَ بالفنِّ المكسيكيِّ، وقرَّرَ حينَها أنْ يكونَ رسَّامًا، بناءً على هذهِ المشاهدةِ، وصارَ الآنَ يدرس، ويرسم، ويتدرَّب، ويتعلَّم بكليةِ الفنونِ الجميلةِ بالزَّمالكِ، في القاهرةِ. وقد أتيحَ له بعدَ ما يقارب خمسًا وثلاثينَ سنةً أنْ يسافرَ إلى المكسيكِ، ويذهبَ ليتفرَّجَ على الأوابدِ الَّتي كانت، في الحقيقةِ، قدْ غيرتْ له كلَّ حياتِهِ. وهناكَ، في المكسيكِ، تعرَّفَ على زوجةِ سكيوروسَ، والَّتي مازالتْ على قيدِ الحياةِ حينَذاكَ، سيكيوروسَ القائدِ السِّياسيِّ اليساريِّ المعروف جدًّا، الَّذي يعتبر واحدًا من الأربعةِ الكبارِ من الفنَّانينَ الجداريِّينَ المكسيكيِّينَ، والَّذي كانَ قد توفِّيَ آنذاكَ. فنتيجةَ إحساسِهِ بهذهِ الأخوَّةِ المتعلِّقةِ بالبحثِ عن العدالةِ في المكسيكِ، وهوَ السّوريّ الَّذي كرَّسَ كلَّ حياتِهِ ليتحدَّثَ عن القضيةِ الفلسطينيةِ، ويدافعَ عن الشَّعبِ الفلسطينيِّ، قامَ بعملِ لوحةٍ بديعةٍ، رسمَ فيها رجلينِ اثنينِ، تبدو عليهما الكثير من الهيبةِ، والوقارِ، جالسَينِ بجانبِ بعضِهما، وكأنَّهما يتصوَّرانِ كما كانَ يتصوَّر آباؤنا، وأجدادنا، حينَ كانوا يجلسونَ أمامَ الكاميرا الَّتي يسمونها عدسةَ الماءِ، أو كاميرا الماءِ، ويتصوَّرونَ بجانبِ بعضِهم البعض. ولكنْ، مَنْ هما؟ هما زاباتا قائد ثورةِ 1910 في المكسيكِ، والثَّاني كانَ عبدَ القادرِ الحسينيّ، القائدَ الفلسطيني المعروفَ. فهذا الإحساس بوحدةِ المصائرِ البشريةِ، ووحدةِ بحثِهِم عن الحريةِ، والعدالةِ ليسَ أمرًا شخصيًّا، ولست أوَّلَ مَنْ تحدَّثَ عنه؛ فقد تحدَّثَ عنه آخرونَ بشكلٍ أفضلَ منِّي بكثيرٍ في الحقيقةِ.

] كنتَ تنتمي لحزبٍ شيوعيٍّ في 1979، وفي 1981 نُفيتَ إلى باريسَ، وهناكَ درستَ الفنونَ. حصلتَ على الدكتوارهِ سنةَ 1998، وعدتَ بعدَ خمسةٍ وعشرينَ

عامًا. تابعتُ حواراتِكَ، خصوصًا في مسألةِ الحِجْرِ، والمكانِ، منذُ تلكَ الفترةِ، أو منذُ 2005 تقريبًا. السُّؤالُ التَّقليديُّ: أوَّلاً.. لماذا ينتمي فنَّانٌ بكلِّ هذهِ السِّعةِ في الفكرِ، والفنِّ، ويحصرُ نفسَهُ في حزبٍ؟! طبعًا أنا لا أنتظرُ منكَ مبرِّراتٍ، إنَّما أبحثُ فقط عن فكرةٍ. سمعتُ الكثيرَ من المبرِّراتِ في أسئلةٍ مُشابهةٍ، لكنَّني لم أسمعْ فكرةً لهذا الانتماءِ. ثانيًا.. لماذا كانَ كلُّ هذا الإصرارِ على العودةِ من باريسَ؟

تدقيقًا فقط.. الأمرُ الأوَّلُ، أنا لم أُنْفَ إلى باريسَ، لقد توجَّهتُ للدِّراسةِ في باريسَ؛ ثُمَّ توقَّفُوا عن تجديدِ جوازِ سفري؛ فاضطررتُ للبقاءِ فيها مُكرهًا لأكثرَ من أربعةٍ وعشرينَ عامًا بقليلٍ.

] لم تقلْ لي عن الحزبِ شيئًا. عن موضوعِ الانتماءِ.

أعتقدُ أنَّ الكثيرَ من المثقَّفينَ العربِ، لا يقولونَ الحقيقةَ عندما يتحدَّثونَ عن السِّياسةِ. يبتعدونَ عنها، وكأنَّها واحدٌ من الأوبئةِ. علمًا بأنَّهم في سنِّ الشَّبابِ، أعمارُهم ثمانيةَ عشرَ، عشرونَ، أو خمسةٌ وعشرون، كلُّهم ينتمونَ إلى أحزابٍ. هذا جزءٌ من تاريخِنا الشَّخصيِّ، الاجتماعيِّ. لا داعيَ أبدًا لأنْ يكذبَ الواحدُ منَّا، ويقولُ أنَّ هذا الشَّيءَ لم يحدثْ، أو أنْ يُحييَ كلامًا مُضادًّا لهُ. ثانيًا: أعتقدُ أنَّ البشريَّةَ، حتَّى الآنَ، لم تبتكرْ وسيلةً سِلميَّةً، ووسيلةً ناجعةً لتغييرِ الظُّروفِ السِّياسيَّةِ، أو حتَّى لتغييرِ السُّلطاتِ السِّياسيَّةِ إلا الحزبَ السِّياسيَّ. لا توجدُ هنالكَ وسائلُ أخرى. فكلُّ ما يُقالُ عن التَّقدُّمِ التِّقنيِّ، والتَّقدُّمِ في وسائلِ المواصلاتِ، والإنترنت، لم يستطعْ أبدًا أنْ يفعلَ شيئًا لهُ علاقةٌ بإمكانيَّةِ تنظيمِ الجهودِ الاجتماعيَّةِ الواسعةِ، للسَّيرِ، ولو خطوةً واحدةً، باتِّجاهِ تغييرٍ ثقافيٍّ، أو سياسيٍّ ما، في أيِّ بلدٍ. بدايةً، أنا أعتبرُ أنَّ الحزبَ السِّياسيَّ حقٌّ للمواطنينَ. من حقّهم أنْ يكونَ لديهم أفكارُ يمينٍ، أو يسارٍ، أو وسطٍ. وحقُّهم أنْ يُنظِّمُوا جهودَهم، تمامًا مِثلَما من حقِّ السُّلطاتِ أنْ تُدافعَ عن نفسِها. فإذا اخترعتِ الإنسانيَّةُ غدًا ابتكارًا ما للتَّقدُّمِ الاجتماعيِّ، والتَّقدُّمِ السِّياسيِّ، وللحصولِ على الحريَّاتِ، والحصولِ على العدالةِ الاجتماعيَّةِ، أفضلَ من حزبٍ سياسيٍّ، فحينها سندفنُهُ دونَ أسفٍ عليهِ.

] هل قيَّدكَ هذا الانتماءُ في شيءٍ فيما يتعلَّقُ بحريَّةِ التَّعبيرِ؟ فيما يتعلَّقُ حتَّى بالـمُنتجِ الفنيِّ، أوعلى الأقلِّ، الفكرِ الفنيِّ عندكَ؟

حقيقةً ليستْ لديَّ معرفةٌ بالأحزابِ، ولكنِّي أقولُ: شخصيًّا، لو قيَّدني أحدٌ لكنتُ رفضتُ المسألةَ، وأنا واقعًا أعيشُ معَ أصدقاءَ، ورفاقٍ يحترمونَ خياراتي، مثلما ما أحترمُ خياراتِهم، فليسَ هناكَ ما يمكنُ أنْ نُسمِّيهِ تقييدًا، أو قسرًا.

] جميلٌ.. لذلكَ كنتُ أقولُ لكَ لا أبحثُ عن مبرِّراتٍ من الشَّخصِ، إنَّما أبحثُ عن فكرةٍ رصينةٍ، أكثرَ من كونِها مبرِّراتٍ.  أقصدُ في 2013 ؛ قدَّمتَ التَّجربةَ الَّتي تكلَّمنا عنها في البدايةِ، والَّتي أشرتَ إليها بنفسِكَ أيضًا. تجربةً مناقضةً تمامًا.

صحيح..

] حقيقةً، أذهلتْني، وأذهلتْني لسببٍ مُهمٍّ، وهوَ أنَّهُ أصبحَ، وبشكلٍ تقليديٍّ جدًّا، عندَما يخرجُ فنَّانٌ من السِّجنِ، أو عندما يخرجُ الكاتبُ، يُنتجُ مأساةً، أو يُنتجُ آلامًا، أو يكتبُ روايةً فيها عتماتُ السِّجن. ويكونُ الغرضُ منها، غالبًا، بيانُ الحالةِ الَّتي كانَ فيها، في تلكَ الفترةِ. ولكن، لم يخرجْ كاتبٌ، مثلاً، من السِّجنِ؛ ليكتبَ لنا كتابًا عن الأشياءِ المضحكةِ الَّتي داخلَ السِّجنِ، الأشياءِ الَّتي كانتْ فيها لحظاتُ سعادةٍ مؤقتة، بشكلٍ ما، كما في مُزاحِ السُّجناءِ مع بعضِهم البعض. حتّى الآنَ، أنا لمَ أرَ هذا النوعَ من الكتابةِ. وهذا سببٌ جعلَني أنظرُ إلى التَّجربةِ الَّتي خرجتَ بها أنتَ مناقضةِ حتَّى للتَّجربةِ اللاحقةِ شهيدٌ من درعا، شهيدٌ من حِمص، شهيدٌ من دوما، والممتدَّةِ من 2011 – 2018، وأقصدُ تجربةَ رسمِ النِّساءِ العارياتِ، تحتَ إضاءةٍ، حميميَّةٍ جدًّا. وحتَّى لا أظلمُ التَّجربةَ، وأُشيرُ إلى أضواءِ رامبرانت، أتصوَّرُ أنَّها مخزونُ طبقاتِ عتمةِ السِّجنِ، أكثرَ منها تأثُّركَ بفنَّانٍ آخرَ. هلْ تراكمتْ فكرةُ هذهِ التَّجربةِ، وهذا المشروعِ عندكَ في داخلِ السِّجنِ؟ هل كنتَ تنوي فعلاً، وبمجردِ خروجِكَ، أنْ تعملَ في هذا المشروعِ؟ ثانيًا.. فيما يتعلَّقُ بالمشروعِ نفسِهِ، الموديلاتُ ليستْ كاملةً مُكتملةً. دائمًا ما كانَ هنالكَ قَطْعٌ في مكانٍ ما. دائمًا ما كانتْ هنالكَ خطوطٌ فوقَ الأجسادِ كأنَّها أسلاكٌ شائكةٌ. بعدَ ذلكَ، رأيتُ أنَّكَ نستخدمُ هذهِ الخطوطَ في أغلبِ لوحاتِكَ بالأسودِ، والأبيضِ. أريدُ أيضًا أنْ أسألَ: كيفَ تلقَّيتَ ردَّاتِ الفعلِ؟ حتَّى لا أُسميهِ نقدًا حولَ هذهِ التَّجربةِ؟ خصوصًا وأنَّها تُعبِّرُ أيضًا عن خذلانٍ بالنسبةِ إليهم، وكأنَّ يوسفَ صارَ يتَّجهُ اتِّجاهً آخرَ، أنتجَ شيئًا بعيدًا جدًّا عن الحالةِ الثَّوريَّةِ الَّتي تُعبِّرُ عن النَّاسِ، وعنِ الإنسانيَّةِ.

دعني أكنْ صريحًا معكَ. أنا، من حيثُ المبدأِ، أخجلُ من أنْ أتحدَّثَ عن سجني؛ لأنَّهُ عبارةٌ عن سجنٍ صغيرٍ، بسيطٍ، استمرَّ شهرًا، وأسبوعًا. تبدو تجربتي، لا شيءَ أمامَ كلِّ هذهِ المعاناةِ الواسعةِ جدًّا، والكارثيَّةِ جدًّا. وعليهِ، فأنا أخجلُ من الحديثِ عن هذهِ التَّجربةِ؛ لأنِّي لا أعتبرُها مفصلاً مُهمًّا في حياتي أبدًا.

أمَّا الشَّيءُ الآخرُ، فأنا لم أُقرِّرْ في السِّجنِ أنْ أعملَ شيئًا لهُ علاقةٌ بالعاري، أو بالموديلاتِ العاريةِ، على الإطلاقِ. الَّذي حدثَ هوَ أنَّهُ، وفي بدايةِ الأوضاع السُّوريَّةِ، نمتْ في عقولِنا، وفي قلوبِنا آمالٌ كبيرةٌ للتَّغييرِ، وإمكانياتِ التَّغييرِ في البلدِ، ثُمَّ ما حدثَ بعدَها أنَّ هذهِ الثَّورةَ سُرِقَتْ. تلكَ الَّتي كانتْ ثورةً سلميَّةً، وثورةَ شبابٍ يريدونَ، ويتكلَّمونَ، ويُطالبونَ بالدِّيمقراطيَّةِ، والحريَّاتِ، أضحتْ ثورةً مُموَّلةً من الخارجِ، ومسلَّحةً من الخارجِ، وتخدمُ أهدافًا خارجيَّةً، لا علاقةَ لها بالشَّعبَ السُّوريِّ.

ما جرَى بعدَ سنةٍ تقريبًا هوَ أنَّنا صرْنَا نرى مجموعاتٍ إسلاميَّةً مُتطرِّفةً، إرهابيَّةً تهدفُ لإقامةِ دولةٍ إسلاميَّةٍ، وهذا لم يكنْ هدفَ الشَّعبِ السُّوريِّ أبدًا. أساسًا، لم يكنِ الشَّعبُ السُّوريُّ مُتديِّنًا بالمعنى الـمُتعصِّبِ على الإطلاقِ! هوَ إيمانٌ مثل إيمانِ كلِّ البشرِ بقناعاتِهم الدِّينيَّةِ، فهذا ما أسميهِ سرقةً. لقدْ سرقُوا الثَّورةَ، في الحقيقةِ، بالمالِ، والسِّلاحِ من الشَّعبِ السُّوريِّ، وقادُوا المجتمعَ كلَّهُ إلى مهاوٍ فظيعةٍ؛ فكانتِ النَّتيجةُ أنَّنا وعِوضًا عن أنْ نحصلَ على الحريَّاتِ، أو شيءٍ من الحريَّاتِ، على العدالةِ، أو شيءٍ من العدالةِ، حصلْنَا على بلدٍ مُدمَّرٍ، بلدٍ فيهِ نصفُ مليونِ ضحيَّةٍ، ومئاتُ الآلافِ من الشُّهداءِ، وعلى تهجيرٍ للمواطنينَ داخلَ البلدِ، وخارجَها، أولئِكَ الَّذينَ أُجبِرُوا على اللُّجوءِ، وعلى انهيارِ الاقتصادِ الوطنيِّ، وإشاعةِ الفقرِ، والجوع ِكما لم يعرفْهُ الشَّعبُ السُّوريُّ يومًا في حياتِهِ!! هذا كلُّهُ ليسَ لهُ علاقةٌ بالثَّورةِ، والَّتي أعتقدُ أنَّها استمرتْ فقطْ ما يقاربُ شهرينِ أو ثلاثةً، أو أربعةً، وكانتْ بدايتُها في آذارَ 2011. هذا الأمرُ كلُّهُ أشاعَ في قلبي، في الحقيقةِ، درجةً هائلةً من القنوطِ، ومن اليأسِ. وأنا الَّذي عملتُ على كثيرٍ من الأعمالِ الَّتي ترصدُ المعاناةَ، أو ترصدُ أمَّهاتِ الشُّهداءِ، وترصدُ حزنَهُنَّ، صرتُ أقفُ في النِّهايةِ مذهولاً، ويائسًا من هذهِ المصائبِ الكارثيَّةِ الَّتي وصلَ لها الشَّعبُ السُّوريُّ. فهذا هوَ السَّببُ الحقيقيُّ في أنِّي توجَّهتُ..

] لرسمِ النِّساءِ.. ؟

.. توجَّهتُ لأعملَ شيئًا ليسَ لهُ علاقةٌ بالسِّياسةِ، شيئًا لهُ علاقةٌ بالجمالِ، دعنا نقلْ، وكأنَّهُ هوَ ملجئي لكي لا أستقيلَ من قناعاتي، ومن نفسي، بكلِّ بساطةٍ، فعملتُ على هذهِ المجموعةِ. إنَّني أتعاطفُ مع كثيرٍ من النَّاسِ، وهؤلاءِ تحديدًا هم من انتقدوني، وشتموني. أنا متعاطفٌ معهم؛ لأنِّي أعتبرُهم ضحايا العزلِ الَّذي عانَوا منهُ، والقهرِ، والغربةِ، وبالتَّالي، صاروا يتحدَّثونَ، أو حتَّى ينتقدونَ بطريقةٍ فيها الكثيرُ من القسوةِ، والإجحافِ، بسببِ ألـمِهِم. ليس لأنَّهم يكرهونَ فُلانًا، أو يكرهونَ عملي، أو شخصي. ولكنِّي، في الحقيقةِ، كنتُ حينها مُتصالحًا معَ نفسي، صادقًا معها. فلجأتُ إلى أعمالِ العاري ابتعادًا عن الإيغالِ في الزَّعلِ، والحُزنِ، واليأسِ.

] هدأت.. بعدَ هذا المشروعِ؟

يضحك: لا واللهِ!! لأنَّ ما يحدثُ الآنَ، في الحقيقةِ، أكثرُ مأساويَّةً، وأكثرُ سوادًا، وأكثرُ كارثيَّةً!

] لكنَّكَ لجأتَ بحزنِكَ وبيأسِكَ إلى كون آمنٍ أكثرَ، إلى المرأةِ!

يكادُ يكونُ الأمرُ طبيعيًّا، بمعنى أنِّي أعتبرُ الحبَّ هوَ الدِّينامو الحقيقيُّ لحياةِ البشرِ كلِّهم، سواءً كانوا يشتغلونَ في الثَّقافةِ، أو يشتغلونَ في أيِّ حقلٍ آخرَ. أيْ أعتبرُ أنَّ كلَّ النَّاسِ، بشكلٍ أو بآخرَ، يبحثونَ عن الحبِّ كلّهم.. لأنَّ الحبَّ هو أعلى درجاتِ اعترافِ الشَّخص بقيمةِ الآخرِ. لا توجدُ درجةُ اعترافٍ بقيمتِهِ، وأهميَّتهِ، وإنسانيَّتهِ أكثر من الحبِّ، فبالتَّالي؛ أرى من الطَّبيعيِّ أنْ يكونَ نظري مُوجَّهًا باتِّجاهِ المرأةِ، أو باتِّجاهِ الحبِّ.

] حتى لا أقولَ مراحلَ، دعني أقلْ حالةً. فيما يتعلَّقُ بهذا المشروعِ، أينَ مكانتُهُ من بينِ كلِّ مشاريعِكَ الأخرى، بالنِّسبةِ إليكَ؟

أنا أرجو أنْ لا نعطيهِ أهميَّةً زائدةً؛ لأنِّي، وفي الوقتِ الَّذي كنتُ أرسمُ فيه موديلاتٍ عاريةً، وأنا أرسمُها حقيقةً حتَّى الآنَ، كنتُ أرسمُ أيضًا مواضيعَ أخرى لها علاقةٌ بالأسماكِ الَّتي أشتغلُ عليها، أو الطُّيورِ، أو السَّكاكينِ، أو الطَّبيعةِ الصَّامتةِ الَّتي أشتغلُ عليها عمومًا. كنتُ أشتغلُ على هذهِ وتلكَ. بمعنى أن هذهِ لا تُلغي تلكَ، وتلكَ لا تُلغي هذهِ ببساطةٍ. وبالتَّالي، فالعملُ على المرأةِ، على العاري، وعلى الجمالِ كذلكَ، جزءٌ من هذهِ التَّجربةِ الطَّويلةِ الَّتي خضتُها في كثيرٍ من الموضوعاتِ. هيَ ليستِ استثناءً، وليستْ نقيضًا لتاريخِ عملي، وليستْ نهايةَ مطافٍ، ولا بدايةَ مطافٍ.

] صحيح. حسنًا.. في تجربتِكَ الموجودةِ هنا، مجموعةٌ معَ نصوصِ صلاح جاهين، وأخرى معَ الشَّيخِ إمام. استخدمتَ النُّصوصَ أسفلَ اللَّوحةِ في الغالب. أعطيتَها لونا كأنَّها من ضمنِ اللَّوحةِ. أعرف أنّ هذا النَّصَّ لم يكنْ وصفًا للصُّورةِ، ولا الصُّورةُ تُوضِّحُ النَّصَّ، أو تشرحُهُ، إنَّما هنالك نوعٌ من التَّآزُرِ بينهما، على طريقةِ ألفرد ستيغليتز، في التَّكافؤِ بينَ الموسيقى، والصُّورِ. ما الَّذي تنتظرُهُ من النَّصِّ هنا، في لوحاتِكَ الغنيَّةِ بذاتِها؟ بمعنى، هل أنتَ محتاجٌ لوجودِ النَّصِّ في هذهِ اللَّوحاتِ، خصوصًا وأنَّها لوحاتٌ غنيَّةٌ بحدِّ ذاتِها؟

شوف.. من حيثُ المبدأِ، هناكَ تاريخٌ طويلٌ لعلاقةِ الصُّورةِ بالنَّصِّ. كانَ هنالكَ شيءٌ لهُ علاقةٌ بالتَّوضيحِ، توضيحِ الفكرةِ رسمًا. الفكرةُ نفسُها موجودةٌ في النَّصِّ. في نهايةِ القرنِ التَّاسعَ عشرَ، وبدايةِ القرنِ العشرينِ، ظهرَ شيءٌ آخرُ. الرَّسمُ بالأصحِّ هو شرحٌ للصُّورةِ، أو توضيحٌ آخرُ لها، وبالتَّالي؛ صارَ الرَّسمُ عبارةً عن نصٍّ آخرَ، نصٍّ موازٍ للنَّصِّ المكتوبِ. وهذا الأمرُ ليسَ جديدًا، فعمرُهُ أكثرُ من مئةِ سنةٍ الآنَ. هذا أوَّلاً، وثانيًا.. بالنِّسبةِ لي، اشتغلتُ على النَّصِّ، وسوفَ أشتغلُ على النُّصوصِ الَّتي هيَ في الحقيقةِ تعملُ لي نوعًا من الإثارةِ الجماليَّةِ، نوعًا من الإثارةِ الوجدانيَّةِ، نوعًا من الإثارةِ الذِّهنيَّةِ. وبالتَّالي، أنا في هذهِ حالي كحالِ آلافِ الرَّسامينَ الآخرينَ، أعملُ نصًّا موازيًا. النَّصُّ المكتوبُ هوَ عبارةٌ عن شرارةٍ، هو عبارةٌ عن تحريضٍ. ولكنْ ليسَ لتشرحَ شيئًا، فالنَّصُ بذاتِهِ يشرحُ نفسَهَ؛ لذا، فهو بهذا المعنى عبارةٌ عن تحريضٍ، وهوَ في الحقيقةِ نوعٌ من التَّعبيرِ عن الحبِّ للنَّصِّ المكتوبِ.

] ولكنْ، ألا تعتقدُ أنَّ هذا من الممكنِ أحيانًا أن يعملَ حصرًا لفهمِ الصُّورةِ ضمنَ النَّصِّ ؟ ألا يُقلِّلُ من طاقةِ التَّأويلِ؟

أرى النَّصَّ عبارةً عن مُحرِّضٍ، يُحرِّضُكَ لتُشغِّلَ ذائقتَكَ، وخيالَكَ، وقدراتِكَ على التَّعبيرِ على سطحِ الورقةِ، وبالتَّالي، أنتَ تقولُ بأنَّه من الممكنِ أنْ يكونَ في هذا…

] حصرٌ..

مُحاصرةٌ للنَّصِ. هذا واردٌ..ولكنْ، من الممكنِ أنْ يكونَ النَّصُّ قويًّا، فيُحرِّضُ الرَّسامينَ؛ لِيُعطوا عشراتِ التَّصوراتِ، ويُعْمِلُوا خيالَهم في عشراتِ الأشكالِ. ما تلقَّيتُهُ، وما عملتُ عليهِ بناءً على هذا التَّحريضِ، هذهِ هيَ نتيجتُهُ، ويمكنُ لغيري أن يُظهِرَ نتائجَ أُخرى، مختلفةً تمامًا.

] أعتقدُ أنَّ المسألةَ حسَّاسةٌ جدًّا، وأعتقدُ أنَّها تحتاجُ إلى هذهِ الفكرةِ الَّتي لديكَ في مسألةِ استخدامِ النَّصِّ بجوارِ اللَّوحةِ. لاحظتُ بعضَ الفنَّانينَ، وبعدَ أنْ يُتمُّوا العملَ، ينشرونَ اللَّوحةَ، وينشرونَ تحتها نصًّا لشاعرٍ، به يبحثُ الفنّان عن مُطابقةٍ للصُّورةِ، أو بينَ هذهِ اللَّوحةِ، وهذا النَّصِّ، ويتركُونَهُما بهذا الشَّكلِ!

انظر.. سأُخبرُكَ عن آليةِ عملي على رُباعيَّاتِ صلاح جاهين. اخترتُ من خمسًا وثلاثينَ رُباعيَّةً لأعملَ عليها. كلُّ رُباعيَّةٍ منها حرَّضتني، وأوحتْ لي بأمورٍ مُحدَّدةٍ نوعًا ما، فأحببتُ وكنوعٍ من الأمانةِ أنْ أُسجِّلَ نصَّ الرُّباعيَّةِ نفسِها على الورقةِ نفسِها؛ للحفاظِ على هذهِ الشَّرارةِ الَّتي أطلقتْ هذا الرَّسمَ. ثُمَّ أنَّهُ، وإذا أردنا أنْ نكونَ أمينينَ أيضًا، هذا حقُّ صلاح جاهين.

] صحيح.. صارَ هنالكَ الكثيرونَ ممَّن لا يتحدَّثونَ عن الـمُحرِّضِ، خصوصًا حينَ يكونُ نصًّا صغيرا. من صنيعةِ نفسِهِ..

الأيام البحرينية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى