سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسة

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 02 كانون الثاني 2025

لمتابعة التغطيات السابقة

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 01 كانون الثاني 2025

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 31 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 30 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 29 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 28 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 27 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 26 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 25 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 23 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 22 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 21 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 20 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 19 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 18 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 17 كانون الأول 2024

 
سوريا حرة إلى الأبد: المصاعب والتحديات، مقالات وتحليلات 16 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مهام اليوم التالي، مقالات وتحليلات 15 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 14 كانون الأول 2024

جمعة النصر الأولى على الطاغية، سوريا حرة إلى الأبد: سقوط الديكتاتور الفار بشار الأسد، مقالات وتحليلات

سوريا حرة إلى الأبد: سقوط الديكتاتور الفار بشار الأسد مقالات وتحليلات

——————————–

السوريون يتعلمون السياسة في شقها العملي/ بكر صدقي

تحديث 02 كانون الثاني 2025

مع انتهاء العام 2024 نكون قد طوينا ثلاثة أسابيع على سقوط نظام الأسد. لم نشبع بعد من فرحة التحرر من نظام أكل جل أعمار الغالبية الكبرى من السوريين. ها هي الحرية التي تحولت من مجرد حلم إلى حقيقة نمسك بها ونتنفس هواءها، ولا نعرف كيف نعيش فيها.

يظهر هذا الذهول أمام الحرية التي باتت واقعاً في تعبيرات ومسالك معظم السوريين. حتى الجماعة المسلحة التي حققت النجاح، هيئة تحرير الشام، تبدو مرتبكة أمام حجم التحديات والمهمات وتشعبها، تتدرب على حكم سوريا بعد تجربة الحكم المديدة في بقعة صغيرة محاصرة في حالة طوارئ دائمة راكمت عليها سجلاً من التصفيات ضد مجموعات مسلحة أخرى ومن قمع تعبيرات السكان عن احتجاجهم.

لكن أكثر ما يلفت النظر هو غياب شبه تام لتمثيلات القوى السياسية المعارضة للنظام المخلوع من خارج هيئة تحرير الشام والفصائل الحليفة، ويقتصر الأمر على تعبيرات فردية على وسائل التواصل الاجتماعي لأشخاص مبعثرين يساهمون في التعليق على الأحداث ويعبرون عن تطلعاتهم للشكل الذي يريدون أن تكون عليه سوريا ما بعد الأسد، وعن هواجسهم من تفرد المجموعة الحاكمة بالسلطة وخشيتهم من احتمال قيامها بصياغة لشكل الدولة بصورة منفردة مستمدة من خلفيتها الأيديولوجية.

سارع أحمد الشرع، قائد هيئة تحرير الشام، إلى تشكيل حكومة هي نفسها حكومة الإنقاذ التي كانت تحكم محافظة إدلب، فكانت هذه أول إشارة إلى خارطة الطريق التي في ذهنه، وتتضمن أيضاً «مؤتمراً للحوار الوطني» يشكله كما يريد منطلقاً من رؤية للمجتمع السوري تراه عبارة عن «مكونات» دينية ومذهبية وإثنية، بلا تيارات سياسية أو أيديولوجية ولا رؤى متباينة لمستقبل سوريا أو تعبيرات عن المجتمع المدني. ويبدو الشرع مستعجلاً لعقد هذا المؤتمر للحصول على ما يكفي من الشرعية للمضي قدماً في مشروعه السياسي الذي يمتنع إلى الآن عن إعلان تفاصيله بوضوح. وقال في لقائه مع قناة العربية الحدث إنه سيعلن عن حل الهيئة في هذا المؤتمر، مراهناً على ما يبدو على أن تحذو حذوه الفصائل المسلحة الأخرى، فتحل نفسها وتندمج في إطار جيش وطني قيد التشكيل.

كذلك يتوقع الشرع أن يصدر المؤتمر قرارات كوقف العمل بالدستور وحل مجلس الشعب واختيار وزراء «حكومة انتقالية» تحل محل حكومة تصريف الأعمال القائمة اليوم، على أن تأتي بعد ذلك خطوات صياغة دستور جديد (في ثلاث سنوات! كما خمّن في المقابلة المشار إليها) ثم انتخابات برلمانية (بعد أربع سنوات!). يمكن ترجمة هذه الإشارات على أنها خطة عمل لفترة لا تقل عن أربع سنوات يقود فيها سوريا كحاكم بمساعدة حكومة تنال شرعيتها من مؤتمر يقوم بنفسه بتحديد إطاره التمثيلي وبرنامجه، في حين لا يرى أنه هو نفسه في حاجة إلى شرعية تتجاوز شرعيته الثورية كقائد فوق الحكومة.

على أننا لاحظنا في تعامله مع الهجمة الدبلوماسية من الدول الإقليمية والدولية في اتجاه دمشق الجديدة أنه يولي أهمية كبيرة لنيل الشرعية الدولية بما يفوق اهتمامه بالشرعية الوطنية ربما لاعتقاده بأنه قد نالها فعلاً منذ سقوط نظام الأسد. وما لا يظهر على السطح الآن إنما هو شرعيته «الداخلية» في بيئة الفصائل المسلحة بالذات، سواء داخل الهيئة أو في الفصائل التي شاركت معها في عملية «ردع العدوان» وهذه ربما غير محسومة تماماً، الأمر الذي قد يفسر قيامه بتعيينات أثارت الجدل لمقاتلين غير سوريين. لعله في ذلك أراد نزع فتيل صراعات داخلية محتملة، من خلال عزلهم عن جسم التنظيم ووضعهم «تحت الأنظار». هذا لا يعني تبريراً لما هو غير قابل للتبرير، بل مجرد محاولة للفهم. ذلك أن الحفاظ على السلطة يتطلب سياسات متعددة المستويات، مع الدول، ومع المجتمع بتنوعه، ولكن قبل كل شيء تأمين قبول «أهل السلطة» أو القدرة على إخضاعهم.

ونفهم من تصريحات الشرع أنه لم يعد ثمة حاجة لمعارضة سياسية بعد سقوط النظام، مع أنه يدرك ولا بد أن ثمة معارضة ستتشكل للحكم الجديد بحكم طبيعة الأشياء، وربما معارضات متباينة المصالح والتوجهات. لكنه خص الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة بالذات لأنها المعارضة الوحيدة المؤطرة التي تتمتع باعتراف دولي وأعلنت عن رغبتها في المشاركة في ثمرة نصر لم تشارك في تحقيقه، فضلاً عن افتقادها لأي صفة تمثيلية شعبية. فأعلن رفضه لمشاركتها في المؤتمر الوطني بوضوح، مع ترك الباب مفتوحاً أمام مشاركة شخصيات من الائتلاف بصفتهم الفردية، الأمر الذي رفضه الائتلاف.

في ضوء هذا التطور يمكننا أن نتوقع أن يتمكن الشرع من فرض المؤتمر بالشكل الذي يريده، على رغم أنه سيلقى على الأرجح رفضاً في الرأي العام لا يمكن التكهن بحجمه. وفي غياب أي قوى معارضة منظمة ذات وزن ستبقى الاعتراضات فردية ومبعثرة، مقابل نيل السلطة قبولاً من «المكونات» التي يراد تمثيلها للتنوع السوري بديلاً عن التمثيل الديمقراطي.

الشيء الوحيد الذي يمكن تأكيده بصرف النظر عن التطورات المحتملة في الأشهر القادمة، هو أن سوريا والسوريين دخلوا عالم السياسة بكل تعقيداته، بعد ستين عاماً من حرمانهم من المساهمة في تقرير مصيرهم. على السوريين أن يتعلموا ممارسة السياسة الآن بدلاً من الاكتفاء بالنق، فتكون لهم كلمتهم في شكل الدولة التي يطمحون إلى تأسيسها، وفي اختيار ممثليهم في السلطة، وفي العمل على نيل حقوقهم بدلاً من انتظار الحاكم ليتكرم بها عليهم أو يمنعها عنهم.

كاتب سوري

القدس العربي

——————————

رحلة أحمد الشرع في قلب العاصفة السورية/ هاني عضاضة

02.01.2025

يخوض أحمد الشرع صراعاً على أكثر من مستوى، منها المستوى الداخلي، حيث لا يزال يتأرجح بين خيارات وأفكار متناقضة، بينما تتسع الهوة أكثر بين طموحاته السياسية والواقع المتأزم. ومع ذلك، فإنه يتسم بمرونة لم تكن متوقعة…

لم يعد ممكناً تجاهل التأثير المتزايد لأحمد الشرع المعروف سابقاً بأبو محمد الجولاني على المشهد السياسي السوري والإقليمي أيضاً. ولم يعد كافياً تناول شخصيته من زاوية الاستقطاب السياسي الثنائي على أساس الإنجازات التي حققها فقط أو التجاوزات التي تورط فيها فقط، بصفته قائداً لـ “جبهة النصرة” ثم “هيئة تحرير الشام”، قبل أن يصير قائداً للإدارة الانتقالية، فقد أصبح يمثل نموذجاً معقداً يجسد التحولات التي شهدتها سوريا منذ بداية الثورة التي انطلقت عام ٢٠١١.

ارتبط اسم الشرع عندما كان معروفاً بالجولاني بـ “تنظيم القاعدة” في العراق في إطار مقاومة الغزو الأميركي، حيث اعتُقل لمدة خمس سنوات بين السجون الأميركية والعراقية، ثم “جبهة النصرة” كفرع لـ “تنظيم القاعدة” في سوريا، ثم “هيئة تحرير الشام” بعد حل “جبهة النصرة” في مسعى للحصول على دعم محلي وشرعية دولية بعد أن وُضِعت الجبهة على قوائم الإرهاب الدولية.

الشرع هو أحد أكثر الشخصيات إثارة للجدل في زمن الثورة السورية، إن لم يكن أكثرها إثارة للجدل على الإطلاق. وقد كان تركيزه الأساسي خلال مرحلة الثورة على محاربة نظام الأسد والميليشيات الموالية لإيران، متبنياً خطاباً طائفياً عنوانه “الدفاع عن أهل السنّة”، قبل أن يتحول إلى خطاب أكثر وطنية بعد إسقاط بشار الأسد، يمكن تلخيصه بعنوان “وحدة الشعب السوري فوق كل اعتبار”. لكن الأسئلة تظل مفتوحة حول نواياه الحقيقية، وإذا ما كان هذا التحول في الخطاب ناتجاً عن قناعة حقيقية أم هي براغماتية من يسعى نحو السلطة…

وثبة منقوصة في غياب نقد ذاتي متكامل

باغت الشرع جميع من كانوا يخافون تمدد نفوذه، ويتوقعون منه ومن قادة الفصائل الحليفة لـ “هيئة تحرير الشام”، ارتكاب جرائم ضد الإنسانية على نطاق واسع، إثر تقدم “إدارة العمليات العسكرية” باتجاه دمشق، كما سبق أن فعلت “جبهة النصرة” بقيادته، ومعها فصائل إسلامية متشددة أخرى مثل “حركة نور الدين زنكي” و”حركة أحرار الشام الإسلامية”، حيث سُجلت بحقها تجاوزات وانتهاكات على أسس دينية وعمليات خطف، خاصة في فترة 2012-2016.

لكن تحول “هيئة تحرير الشام” من القتال إلى العملية السياسية بقيادة الشرع ساهم، بنسبة معينة، في كبح أعمال الانتقام من جهة، ومنع اشتعال الفتنة الطائفية من جهة أخرى، برغم وقوع بعض “جرائم الثأر” والتنكيل والسرقة في بعض المناطق، وأحياناً على يد أفراد من الهيئة خصوصاً في حمص ومناطق الساحل والمناطق الكردية. في الغالب، تميز مسلحو الهيئة خلال عملية إسقاط النظام بنسبة عالية من الانضباط خلافاً لجميع التوقعات. بعد إسقاط نظام الأسد، أشار الشرع إلى أنه “يجب التفكير بعقلية بناء الدولة وبناء مؤسساتها”، وأنه “لا ينبغي أن تكون عقلية الانتقام والثأر حاضرة لأنها مدمرة”. وأكد أيضاً أنه لن يتم العفو عن المتورطين بتعذيب المعتقلين في سجون نظام الأسد وقتلهم، وستتم ملاحقتهم، ووعد بتحقيق العدالة لكي ينعم جميع السوريين بالأمن والهدوء والاستقرار.

لكن برغم كل هذه التغيرات، يبرز السؤال: هل تصالح الشرع حقاً مع ذاته بشأن تجاوزات “جبهة النصرة”، ومن بعدها “هيئة تحرير الشام”، خصوصاً في مناطق حلب وإدلب؟ وذلك سواء من ناحية فرض بعض أحكام الشريعة الإسلامية بشكل تعسفي، أو من ناحية خطف المدنيين وتعذيبهم، من بينهم ناشطون معارضون للنظام السابق، خاصة في سجن العقاب في إدلب.

لم يعتذر الشرع عن هذه الممارسات، ولم يأمر بتبييض سجون إدلب من معتقلي الرأي. كما أن الحكومة الانتقالية التي عيّنها الشرع بدأت هي الأخرى بإصدار مواقف وقرارات وتعاميم مثيرة للجدل وخارج صلاحياتها الفعلية، مثل مواقفها من المرأة السورية ومشاركتها في الحياة العامة وصولاً إلى قرار تعديل المناهج الدراسية الذي اتسم بطابع “الأسلمة”، برغم نفي الشرع سابقاً نيته تحويل سوريا إلى نسخة عن أفغانستان.

لم يعلن الشرع القطيعة الكاملة مع ماضيه، ولم يمارس النقد الذاتي بشكل كامل (بعد – من دون القطع مع إمكان فعله ذلك في المستقبل) من جهة أن يكون صريحاً بشأن أخطائه وتجاربه من دون تبرير أو إنكار. لكن الأخطر أنه لم يعلن القطيعة بوضوح مع “الثقافة الأسدية”، برغم كل التطمينات ولغة التسامح والتطلع نحو المستقبل وبناء الدولة.

في حين أن ثقافة الاستبداد لا تزال تشكل مكوناً أساسياً من مكونات البناء الاجتماعي السوري، بعد 54 عاماً من القمع الممنهج وتقييد الحريات السياسية واستخدام القوة المفرطة بحق المعارضين، بخاصة وأن جزءاً من المجتمع السوري يتوق إلى الانتقام الجماعي من فلول الأسد، مستخدماً الأساليب الدموية نفسها التي مارسها النظام السابق ضده. والجهة الوحيدة التي تحول عائقاً حقيقياً دون ذلك حتى الآن، هي الإدارة الانتقالية بقيادة الشرع.

 الثابت هو انتقال الشرع الفعلي من موقع “الإسلامي المتشدد” إلى موقع “الإسلامي الأقل تشدداً”، من دون المبالغة في وصفه بالاعتدال في بداية الطريق، حيث لا يزال يحتفظ بأفكار متشددة. ومع ذلك، أثبت أنه يتمتع بمرونة عقلية وقدرة على التكيف مع متطلبات الواقع

ظاهرة اجتماعية وليست تحولاً فردياً

لم يخلع الشرع عباءة السلفية الجهادية ليظهر ببدلة رسمية وربطة عنق، كما تفعل الحرباء عند تغيير لون جلدها. أساس العقدة التي لا يدركها كثيرون هو أن التطور في شخصية الشرع ليس نتاج جهدٍ شخصي بحت، ولا هو بخدعة سينمائية للاستحواذ على السلطة، برغم سعيه الفعلي للوصول إلى الرئاسة وهذا حقه الديمقراطي. بل هو نتاج تغيرات كبيرة طرأت على المجتمع السوري المعارض عموماً، خلال 14 عاماً من الثورة التي حملت بذور ثورة مضادة فيها، وذلك برغم تراجع التيارات اليسارية والليبرالية المعارضة والفصائل الإسلامية المعتدلة وصعود الفصائل الإسلامية المتطرفة منذ بداية الثورة. فالتاريخ لا يتوقف عن الحركة، سواء إلى الأمام أو الوراء، بمجرد تراجع جزء من القوى الفاعلة فيه. كما أنه ليس شرطاً أن تنحكِم حركة التاريخ بالتراجع لمجرد تفوق قوى دينية أو أصولية في مواجهة سياسية هنا أو عسكرية هناك. فكل تغير في أي خطاب أو ممارسة هو نتاج تداخل وتفاعل معقد ومستمر بين عدد كبير من الأسباب والنتائج، وعلى جميع مستويات الواقع.

إذاً، التحولات في شخصية الشرع، لا يمكن وضعها في إطار “الظاهرة الفردية”، برغم كل تجاربه الخاصة والتناقضات التي حكمت ربما مشاعره وأفكاره وسلوكياته منذ غزو الولايات المتحدة الأميركية للعراق عام 2003 حتى اليوم، بعد إسقاط نظام الأسد. بل هي تحولات لا يمكن فصلها عن سياق تاريخي اجتماعي، تفاعلت فيه العلاقات الاجتماعية على أكثر من مستوى، وتراكمت فيه الأحداث السياسية بأكثر من اتجاه، وتركزت فيه القوة العسكرية في أماكن وشهدت انحلالاً في أماكن أخرى. كما تلاقحت فيه الأفكار والأيديولوجيات في سياق جماعي، فأنتجت مولوداً ثقافياً لا يزال مكتوم الهوية، حيث لم يبلغ مرحلة النضج بعد، ولم تكتمل ملامحه، ولم يكوّن رؤية سياسية شاملة، ولم يقم أصحابه بمراجعة ذاتية شاملة للخروج باستنتاجات نهائية وتطوير خطة عملٍ واضحة.

هذا الأمر يمكن ملاحظته بشكل بديهي في مقابلات أحمد الشرع مع وسائل الإعلام، إذ يتفادى تقديم أجوبة حاسمة في عدد من القضايا الخلافية، بخاصة الثقافية منها، كمن يسير على حبلٍ مشدود ولا يزال عالقاً بين عالمين وزمنين مختلفين.

حيرة صادقة أم تحايل ماكر؟

يُظهر الشرع انزعاجاً واضحاً، مهما حاول إخفاءه، عندما يتم التطرق إلى تاريخه مع “تنظيم القاعدة” وأيام صعود “جبهة النصرة”. يمكن تفسير هذا الانزعاج بعدة طرق، والخروج بعدة استنتاجات، لكن الثابت هو انتقال الشرع الفعلي من موقع “الإسلامي المتشدد” إلى موقع “الإسلامي الأقل تشدداً”، من دون المبالغة في وصفه بالاعتدال في بداية الطريق، حيث لا يزال يحتفظ بأفكار متشددة. ومع ذلك، أثبت أنه يتمتع بمرونة عقلية وقدرة على التكيف مع متطلبات الواقع، لذا ليس بالضرورة أن تتحول الأفكار المتشددة التي يحتفظ بها إلى واقع يُفرض قسرياً على المجتمع السوري، وليس من الضروري أن يكون هذا التحول مدفوعاً فقط بالضرورات السياسية المرحلية، برغم أن هذا الاحتمال سيظل وارداً.

الأمر الأكثر لفتاً للنظر هو اختيار الشرع القصر الرئاسي لإجراء المقابلات الإعلامية والاجتماعات مع الوفود الدبلوماسية والسياسية، مما يدل على حسمه خيار الترشح إلى موقع رئاسة الجمهورية الذي أصبح شاغراً منذ 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024. واختيار هذا المكان بالذات يهدف إلى تعزيز صورته كقائد سياسي شرعي، على الرغم من عدم إيمانه بالديمقراطية طوال مسيرته السياسية والعسكرية.

فاعتقاد الشرع الراسخ دوماً هو أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع، برغم اختلافه في تفسيرها وتطبيقها مع مختلف التيارات الإسلامية الأصولية التي تتجه نحو “إصلاح المجتمع”، عبر الاقتصاص منه وتطبيق الحدود على الأفراد فيه من دون أي تسامح أو رحمة. حتى في إعلانه فك الارتباط مع تنظيم القاعدة عام 2016، أشار إلى خمسة أهداف من بينها “العمل على إقامة دين الله وتحكيم شرعه وتحقيق العدل بين كل الناس”.

كان الشرع ولا يزال يعتقد أن الحكم الإسلامي يوحد جميع الناس، لكنه يختلف مع باقي التنظيمات الأصولية حول أولويات التحكيم بالشريعة. فهو يعتقد أن الأولوية هي لتحقيق العدالة وحماية الحقوق وتأمين الحياة الكريمة لعامة الناس، وليس للعقاب بأساليب مثل الرجم والجلد وقطع اليد أو الرأس. ومع ذلك، لا يرفض تطبيق هذه الحدود بوضوح، كما أنه لا يضع حداً فاصلاً بين حق جميع أفراد المجتمع في المشاركة في الحياة السياسية من جهة، وفرض الحكم الديني الذي يعتمد على الفقهاء في تفسير الشريعة وتطبيقها، مما يستبعد مشاركة المجتمع في العملية السياسية بشكل تدريجي من جهة أخرى. وفي هذا الأمر تناقض حساس في زمن تسود فيه مبادئ حرية التعبير، وحقوق الإنسان، والمساواة، وتداول السلطة، مما يمكن أن يهدّد مسعى الشرع في الوصول إلى الرئاسة، أو قدرته على الحفاظ عليها دون اللجوء إلى الاستبداد بعد وصوله إليها.

لم يأتِ الشرع على ذكر الديمقراطية في أي من مقابلاته أو خطاباته، برغم تركيزه على بعض جوانب الحكم الديمقراطي. لكنه لا يوضح موقفه تماماً في ما يتعلق بحقوق الإنسان، والتعددية السياسية والحزبية على أساس حرية الفكر، وليس الانتماء الطائفي أو العرقي، إضافة إلى حرية الصحافة، برغم تعهد وزير الإعلام في الحكومة الانتقالية محمد العمر، في تصريح لوكالة “فرانس برس” بضمان حرية التعبير وتعزيز حرية الصحافة.

إلى جانب ذلك، تأتي التعيينات الاستنسابية التي يجريها الشرع في مراكز أمنية حساسة بحجة ضرورة أن تكون الإدارة متجانسة، من دون تمييز بين ما هو سياسي وما هو أمني برغم التداخل بين المستويين، مما يشير إلى نيته بناء “شبكات ولاء” مكونة من أشخاص مقربين، مثل قتيبة أحمد بدوي شقيق الزوجة الثالثة للشرع وأمير “هيئة تحرير الشام” في إدلب سابقاً في الإدارة العامة للجمارك، وأنس حسن خطاب أحد مؤسسي “جبهة النصرة” في رئاسة جهاز المخابرات العامة. إضافة إلى تعيين شخصيات مقربة مثل أحمد شامية وعزام الغريب وأحمد عيسى الشيخ وعامر الشيخ وحسن صوفان وغيرهم، كمحافظين أو نواب لمحافظين في المدن الأكثر أهمية اقتصادياً وديموغرافياً، واللائحة تطول.

طموحات سلطوية وواقع متأزم

بلا شك، الشرع في الواقع في موقف لا يحسد عليه، فطموحاته تواجه تحديات جمة، داخلية وخارجية. داخلياً، أول التحديات هي مدى قبول شخصه من قبل شرائح واسعة من المجتمع السوري، التي لا تزال تنظر إليه كسليل الإسلام الأصولي. ثم تلك المرتبطة في مجال الحكم والإدارة، سواء من ناحية توحيد كامل الجغرافيا السورية وتوفير الاستقرار السياسي في بلد ممزق من أقصاه إلى أقصاه، وفي ظل وجود تهديدات أمنية مختلفة، أو من ناحية ترميم الاقتصاد وإعادة ملايين اللاجئين وتحسين الظروف المعيشية للسوريين الذين يطال الفقر 69 في المئة منهم، في حين يرزح 27 في المئة منهم تحت خط الفقر المدقع بحسب بيان للبنك الدولي في أيار/ مايو 2024، أو من ناحية معالجة الفساد حيث احتلت الدولة السورية تحت حكم الأسد عام 2023 المرتبة 178 من أصل 180 دولة في مؤشر مدركات الفساد، أي المرتبة الثالثة من بين أكثر الدول فساداً في العالم بعد كل من الصومال وجنوب السودان، وذلك بشكل رئيسي بسبب تحول سوريا إلى مصنعٍ ضخم للمخدرات.

أما التحديات الخارجية فهي لا تقل خطورة، حيث تلعب القوى الأجنبية المتواجدة على الأرض السورية، أي الولايات المتحدة وروسيا وتركيا وإيران، أدواراً تسهم في زعزعة الاستقرار الأمني وعرقلة المساعي السياسية لإعادة توحيد البلاد، إضافة إلى التواجد العسكري المباشر لها عبر عشرات القواعد العسكرية (روسيا: 21 قاعدة لا يزال وجودها قيد البحث بين الحكومة السورية المؤقتة والسلطات الروسية. الولايات المتحدة الأميركية: 17 قاعدة والعدد في تزايد. تركيا: 12 قاعدة والعدد أيضاً في تزايد. أما إيران فكانت تملك 52 قاعدة، لكنها خسرتها بعد سقوط نظام الأسد). في حين تتوغّل قوات الاحتلال الإسرائيلي في مناطق محافظة القنيطرة، ومحيط جبل حرمون (جبل الشيخ) في ريف دمشق الغربي، وعدد من بلدات ريف درعا الغربي، حيث تواجه احتجاجات شعبية. كما يحشد الجيش التركي قواته على الحدود الشمالية لسوريا مهدداً باجتياح مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، مما يؤدي إلى إسقاط المزيد من الأراضي السورية تحت السيطرة التركية.

نفذ الشرع المطالب الأميركية بعدم التعرض للأقليات منذ بداية عملية “ردع العدوان” في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، مما أدى إلى إلغاء المكافأة المعروضة مقابل الإدلاء بمعلومات عنه والبالغة 10 ملايين دولار. وعلى الرغم من تاريخه وخلفيته، يبدو موقف الشرع إيجابياً تجاه الولايات المتحدة حتى الآن، بل حتى إنه يبلغ درجة المحاباة، فمطالبه تتخطى مجرد إلغاء المكافأة لرأسه، ويريد إزالة “هيئة تحرير الشام” من قوائم الإرهاب، ورفع العقوبات الأميركية والدولية عن سوريا. هذا الموقف يمكن أن يكون حجر أساس لإعادة تكوين العلاقة بين الحكومة المؤقتة في دمشق وقوات سوريا الديمقراطية التي تحظى بغطاء ودعم أميركي كامل، برغم الأعمال العدوانية التركية. لكنه في الوقت نفسه يمكن أن يشكل حجر عثرة في وجه مساعي التوحيد بين دمشق والجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا، الأمر الذي يضع السلطات الحالية في دمشق أمام معضلة لا حلّ لها في المدى المنظور سوى بتنازل تركي.

لكن تواجد الولايات المتحدة الأميركية في أماكن سيطرة “قسد” في شمال شرق سوريا لا تقتصر على مكافحة تنظيم “داعش”، فتلك المناطق، وبالأخص في محافظتي دير الزور والحسكة، تحوي الجزء الأكبر من الثروات النفطية السورية. الهدف الأساسي من التواجد الأميركي هو السيطرة على النفط، كما أن لكل قوة أجنبية أخرى في الأراضي السورية هدفاً استراتيجياً من تواجدها. لذا، فإن هناك واقعاً مريراً وأثماناً يجب على الشرع أن يدفعها حتى يتمكن من الوصول بسوريا الجديدة إلى بر الأمان، من دون يخضع لشروط مذلة وقاهرة من جهة، أو يسقط في فخ الحرب مع أي من تلك القوى، بعد أن تعرضت سوريا للإنهاك على كافة المستويات طوال 14 عاماً من الثورة والحرب من جهة أخرى.

شخصية معقدة تواجه معضلات أكثر تعقيداً

يبدو الشرع هادئاً، وتبدو أفكاره متماسكة في جميع مقابلاته ولقاءاته، لكن لغة جسده في بعض الأحيان، تكشف عن ارتباك واضح ووعي بثقلٍ أصبح يدرك أنه يحمله على كتفيه. كما أنه يتجنب الخوض في قضايا الحريات العامة والخاصة، فعندما يُسأل عنها، يفضل دائماً القول إن “هناك قضايا أهم للسوريين في الوقت الحالي”. ومع ذلك، يبدو أنه يدرك جوهر تلك القضايا، برغم تحفظه عليها وتناوله لها من وجهة نظرٍ محافظة كانت أكثر تشدداً في السابق.

في المحصلة، يخوض الشرع صراعاً على أكثر من مستوى، منها المستوى الداخلي، حيث لا يزال يتأرجح بين خيارات وأفكار متناقضة، بينما تتسع الهوة أكثر بين طموحاته السياسية والواقع المتأزم. ومع ذلك، فإنه يتسم بمرونة لم تكن متوقعة، ويفكر في حل المشكلات بواقعية بدل تعقيدها، وبكيفية بناء التوافق بين مكونات المجتمع السوري، ولو بلغةٍ تتعامل مع المسألة وكأنها قضية تحاصص من موقع فكرٍ طائفي، وهذه إشكالية خطرة بحد ذاتها وسيكون لها تبعاتها في المستقبل على الاجتماع السوري. أما استراتيجياً، فقد أثبت تفوقه خاصة من حيث قدرته على استغلال الظروف وتحديد الأهداف بدقة. لكنه في الوقت نفسه، يدل بعد تعيين العديد من الأشخاص المقربين له في مناصب حساسة، محاولاً خلق ولاءات خاصة، على أنه يمتلك أيضاً صفات التلاعب والمكر السياسي، وأن إيلاء الشعب السوري الثقة الكاملة له من دون مساءلة، أو اعتباره “قائداً لا يمكن الاستغناء عنه”، يمثل مخاطرة بمستقبل البلاد.

درجات،

———————————

مليارات يصعب حصرها”.. أين اختفت ثروة آل الأسد، وهل يمكن للسوريين استعادتها؟

عربي بوست

تم التحديث: 2025/01/02

بعد 14 عاماً من الحرب التي دمرت سوريا ووضعت 90% من سكانها إلى تحت خط الفقر، انهار نظام الأسد في ديسمبر 2024، تاركاً خلفه إرثاً من الفساد والاستبداد الذي امتد على مدار نصف قرن. ومع سقوط النظام، برزت تساؤلات حول مصير الثروة الهائلة التي راكمها آل الأسد عبر العقود، والتي قُدّرت بمليارات الدولارات. وتُظهر العديد من الوثائق والتقارير أن هذه بعض الثروة اختفت وبعضها الآخر تم ضخه في شبكة واسعة من الاستثمارات الخارجية، مما يجعل استعادتها تحدياً كبيراً للباحثين عن استعادة أموال الشعب المنهوبة.

اقرأ أيضاً

كيف تشكلت ثروة آل الأسد؟

بدأت ثروة عائلة الأسد تتشكل منذ وصول حافظ الأسد إلى السلطة عام 1970، عندما استغل النفوذ السياسي الذي فتح له بعد انقلاب البعث في عام 1970، فيما يعرف بـ”الحركة التصحيحية” وتخلصه من جميع خصومه. نجح حافظ في بناء شبكة معقدة من الاستثمارات داخل وخارج سوريا. فيما كان محمد مخلوف، صهر حافظ الأسد، العقل المدبر وراء إمبراطورية اقتصادية بدأت من احتكار تجارة التبغ ثم توسعت إلى قطاعات البناء والمصارف والإنشاء وغيرها الكثير.

وطوال العقود التالية، تمددت شبكة واسعة لآل الأسد من الاستثمارات والمصالح التجارية، فمن بين الاستثمارات والأملاك الدولية التي قامت به العائلة، امتلاك عقارات فاخرة في روسيا وبريطانيا وفرنسا وإسبانيا، وفنادق بوتيك في فيينا، وعقارات وطائرات خاصة في دبي، وفقاً لتقارير مسؤولين أمريكيين سابقين، ومحامين، ومنظمات بحثية درست ثروات العائلة الحاكمة السابقة. ويؤكد محامون متخصصون في حقوق الإنسان أنهم يخططون لتعقب المزيد من الأصول على أمل استعادتها لصالح الشعب السوري.

يقول أندرو تابلر، مسؤول سابق في البيت الأبيض عمل على تحديد أصول أفراد عائلة الأسد في سياق فرض العقوبات الأمريكية، لصحيفة “وول ستريت جورنال”: “ستكون هناك حملة دولية لتعقب أصول النظام. لقد أتيحت لهم فرصة طويلة قبل الثورة لغسل أموالهم. كانوا دائماً يملكون خطة بديلة وهم مجهزون جيداً للعيش في المنفى”.

فرّ بشار الأسد من سوريا إلى روسيا في 8 ديسمبر 2024، بعد أن سيطرت قوات المعارضة بسرعة على دمشق، مما أنهى فترة حكمه التي استمرت 24 عاماً. هذه الديكتاتورية جاءت بعد قرابة ثلاثة عقود من حكم والده حافظ الأسد، استغل الأب والإبن أفراد عائلتهم وأنسبائهم لإخفاء الثروات في الخارج، مما أدى إلى نظام مالي معقد أفاد أفراد الأسرة لكنه أثار التوترات داخلها.

سقوط نظام الأسد، تعبرية/ رويترز

أطنان من الأموال.. ما حجم ثروة آل الأسد؟

    حتى الآن، لا يُعرف الحجم الحقيقي لثروة عائلة الأسد، ولا من يسيطر على أي من الأصول. لكن تقرير صدر عن وزارة الخارجية الأمريكية في عام 2022 أشار إلى أن الثروة قد تتراوح بين 1 مليار و12 مليار دولار. وأوضح التقرير أن هذه الأموال جُمعت غالباً من خلال احتكارات الدولة وعمليات تهريب المخدرات، خاصة الأمفيتامين المعروف بـ”الكبتاغون”، وأعيد استثمارها جزئياً في مناطق يصعب الوصول إليها قانونياً.

    ويقول تقرير وزارة الخزانة الأمريكية إن “الصعوبة في تقدير صافي ثروة الأسد وأفراد عائلته الممتدة تنشأ بشكل دقيق عن أصول العائلة التي يُعتقد أنها منتشرة ومخفية في العديد من الحسابات ومحافظ العقارات والشركات والملاذات الضريبية الخارجية. ومن المرجح أن تكون أي أصول تقع خارج سوريا ولم يتم الاستيلاء عليها أو تجميدها محتفظ بها بأسماء مستعارة أو من قبل أفراد آخرين، لإخفاء الملكية والتهرب من العقوبات”.

    وتعد مهمة تحديد الحجم الحقيقي لثروة الأسد وأقاربه شبه مستحيلة. على سبيل المثال، يقول تقرير نشرته مؤخراً صحيفة “آي بايبر” البريطانية إن الأسد يملك 55 مليون جنيه إسترليني (66 مليون يورو) في حساب شخصي ببنك “إتش إس بي سي” في لندن. وبحسب مصادر مصرفية للصحيفة، فإن هذا الحساب هو جزء من مبلغ 163 مليون جنيه إسترليني قام الأسد وعائلته وحلفاؤه في نظامه بدفنه في حسابات في المملكة المتحدة. فيما طلب ساسة بريطانيون من بينهم النائب لاين دونكان من الحكومة البريطانية التحرك “حتى يتم استخدام هذه الأموال التي جمعتها عائلة بطريقة غير مشروعة لإعادة إعمار” سوريا.

    After more than a decade of conflict in Syria, it is high time that the UK Government takes decisive action to support victims of the Syrian conflict and the Assad regime. https://t.co/uSJ34a8hBj

    Since 2011, the UK Government has reportedly frozen over £163 million in assets…

    — Iain Duncan Smith MP Chingford & Woodford Green (@MPIainDS) December 13, 2024

    فيما تقول صحيفة “فاينانشل تايمز” إن بشار الأسد نجح بالالتفاف على العقوبات الدولية لنقل نحو 250 مليون دولار من سوريا إلى حسابات بنكية في روسيا بين عامي 2018 و2019. وللتهرب من المراقبة الدولية، نقل الأسد في تلك الفترة نحو طنين من الأوراق النقدية من فئة 100 دولار و500 يورو إلى موسكو، وفق وثيقة اطلعت عليها الصحيفة البريطانية في 15 ديسمبر 2024.

    وتؤكد التحويلات غير العادية هذه من دمشق كيف أصبحت روسيا، الحليف الأساسي للأسد الذي قدم له الدعم العسكري لإطالة أمد نظامه، واحدة من أهم الوجهات للأموال السورية بعد أن دفعتها العقوبات الغربية إلى الخروج من النظام المالي.

    وكانت التحويلات النقدية السورية قد أثارت في السابق عقوبات من واشنطن. ففي عام 2015 اتهمت وزارة الخزانة الأمريكية محافظ البنك المركزي السوري السابق أديب ميالة وموظفة في البنك المركزي تدعى بتول رضا بتسهيل التحويلات النقدية بالجملة لصالح النظام إلى روسيا، وإدارة صفقات متعلقة بالوقود لجمع العملات الأجنبية. كما اتهمت الولايات المتحدة رضا بمحاولة الحصول على نترات الأمونيوم الكيميائية من روسيا، والتي تستخدم في البراميل المتفجرة.

    وبحسب تقرير نشرته “فاينانشيال تايمز” في أبريل/نيسان 2023، فقد تمكنت “السيدة الأولى” أسماء الأسد زوجة بشار، وهي مصرفية سابقة في بنك جي بي مورجان، من بناء مركز قوي يؤثر على تدفقات المساعدات الدولية وترأس مجلساً اقتصادياً رئاسياً سرياً. وقد ساعدت منظماتها غير الحكومية في بناء شبكة واسعة من المحسوبية لصالح عائلة الأسد، في حين تتحكم في مصادر تدفق أموال المساعدات الدولية في البلاد.

    بعيد هروب الأسد من سوريا إلى موسكو، قالت صحيفة “التايمز” البريطانية إنه من المرجح أن يقيم الأسد في منطقة موسكو سيتي، وهي منطقة أعمال فاخرة تقع غرب العاصمة الروسية، حيث تمتلك عائلته حوالي 20 شقة. وبحسب منظمة “جلوبال ويتنس” لمكافحة الفساد، اشترى أقارب الأسد، بما في ذلك أبناء عمومته، عقارات في منطقة موسكو سيتي المرموقة بين عامي 2013 و2019 بتكلفة إجمالية تزيد عن 30 مليون جنيه إسترليني. ويقال إن الأموال تم تحويلها إلى خارج سوريا عبر محمد مخلوف، عم الأسد.

    بحسب الصحيفة البريطانية، تقع غالبية هذه الشقق في مجمع “مدينة العواصم”، وهو ناطحة سحاب ذات برجين كانت في السابق أطول ناطحة سحاب في أوروبا حتى عام 2012. وتقع الشقق الأخرى في برج الاتحاد القريب، وهو أطول مبنى في موسكو. وتُظهِر الإعلانات عروضاً لشقق مفروشة بشكل باهظ الثمن مع إطلالات بانورامية على المدينة.

صناعة ثروة آل الأسد.. من الفساد إلى تهريب المخدرات

    وفقاً لتقارير المنظمات غير الحكومية ووسائل الإعلام، تدير عائلة الأسد “نظام رعاية” معقد يشمل شركات وهمية وواجهات شركات تعمل كأداة للنظام للوصول إلى الموارد المالية عبر هياكل شركات شرعية وكيانات غير ربحية، وغسل الأموال المكتسبة من الأنشطة الاقتصادية غير المشروعة بما في ذلك التهريب وتجارة الأسلحة والاتجار بالمخدرات وعمليات الحماية والابتزاز.

    واستمر حجم ثروة عائلة الأسد في النمو بينما واجه السوريون أهوال الحرب الأهلية التي بدأت عام 2011. لكن أفراد العائلة ورجالات النظام استغلوا موقعهم بطرق مختلفة لتكديس ثرواتهم:

    الاحتكارات الاقتصادية: سيطر النظام على قطاعات رئيسية مثل الاتصالات، والموانئ، والطاقة وغيرها من القطاعات الاقتصادية لعقود من الزمن.

    تهريب المخدرات: حققت تجارة الكبتاغون إيرادات ضخمة للنظام، فقد جلبت تجارة الكبتاجون نحو 10 مليارات دولار سنوياً على مستوى العالم. وتشير تقديرات متباينة إلى أن نظام الأسد كان يصنع 80% من الإمدادات، حصد ما بين 3 مليارات إلى 5 مليارات دولار من هذا المبلغ، وفقاً لتقارير منظمات دولية مختلفة.

    التلاعب بالموارد العامة: استفاد أفراد العائلة من إدارة موارد الدولة لصالحهم الشخصي.

    شبكة الاستثمارات الخارجية: على مدار العقود، بنى آل الأسد شبكة واسعة من الاستثمارات الدولية، منها:

    دبي: امتلكت العائلة عقارات فاخرة بملايين الدولارات، بما في ذلك في جزيرة نخلة الجميرا.

    روسيا: استثمروا في عقارات فاخرة في موسكو بقيمة حوالي 40 مليون دولار.

    النمسا: اشتروا فنادق بوتيك في فيينا بقيمة 20 مليون يورو.

    الأرجنتين: أظهرت تقارير امتلاك ماهر الأسد مزرعة شاي كبيرة هناك.

كيف يمكن الوصول لهذه الأموال.. وهل يتم الإفراج عن الأرصدة المجمدة؟

    بعد سقوط نظام الأسد، تساءل السوريون عن حجم ثروة آل الأسد وأين ذهبت وكيف يمكن استعادة أموال الشعب، وذلك في ظل خزانة خاوية على عروشها تركها الأسد لشعبه. حيث قال رئيس حكومة تصريف الأعمال السورية محمد البشير، إن “خزائن الدولة خاوية، بعد أن التهم النظام وحده كل شيء”. وأضاف في مقابلة مع صحيفة “كوريري دي لا سيرا” الإيطالية: “وضعنا المالي سيئ جداً، ليس لدينا نقد أجبني، ولا يوجد في خزائن الدولة سوى الليرة السورية، التي تكاد تكون لا قيمة لها”.

    يُعد تعقب أصول الأسد واستردادها مهمة معقدة. فقد اعتمد النظام على شركات وهمية وحسابات سرية في ملاذات ضريبية مثل دبي وسويسرا. يقول ويليام بوردون، المحامي المتخصص في حقوق الإنسان والذي نجح في تجميد أصول تعود للعائلة في فرنسا بقيمة 90 مليون يورو: “الأموال في ملاذات ضريبية مثل دبي وروسيا ستكون أصعب بكثير لاستعادتها. إن تعقب الأصول يتطلب قرارات محاكم دولية وتعاوناً قانونياً قد يستغرق سنوات”.

    وصادرت دول غربية أصول تابعة لآل الأسد على مدار السنوات الماضية، لكن من غير الواضح متى يمكن لهذه الدول أن تفرج عنها وإعادتها إلى خزانة الدولة السورية. على سبيل المثال جمدت فرنسا في عام 2019، ممتلكات لرفعت الأسد، عم بشار الأسد، بقيمة 90 مليون يورو، حيث حُكم على رفعت بتهمة غسيل الأموال واختلاس الأموال العامة. مع ذلك، من المتوقع أن تواجه جهود مماثلة لتحديد أصول عائلة الأسد في دبي وروسيا تحديات كبيرة بسبب الافتقار إلى التعاون من هذه الدول.

    من جهتها، تطالب مؤسسات حقوقية ومحامون، مثل رزان رشيدي، المديرة التنفيذية لمنظمة حملة سوريا الدولية لحقوق الإنسان، بإعادة الأموال المجمدة في الأرصدة الغربية للشعب السوري. وقالت لصحيفة “آي بيبر” البريطانية: “إن الملايين من الأموال الموجودة في البنوك البريطانية على سبيل المثال هي ملك للشعب السوري، وقد تم تخزينها من قبل الأسد على حساب العديد من الأرواح”. وأضافت:  “إن العديد من العائلات تعيش في حالة من عدم اليقين المؤلم في انتظار الحصول على معلومات عن أحبائها المفقودين الذين ظلوا محتجزين لسنوات. ومن أجلهم، يجب تحقيق العدالة. وهناك حاجة ماسة إلى الأموال لتلبية الاحتياجات الإنسانية الماسة في سوريا ويجب إنفاقها هناك”.

    وعلى الرغم من الضغوط المتزايدة على حكومة حزب العمال للتحرك، لا يوجد حاليا أي إطار قانوني لتوجيه هذه الأموال إلى الضحايا السوريين. وأضاف كريس دويل، مدير مجلس التفاهم العربي البريطاني: “يجب إطلاق هذه الأموال لصالح الشعب السوري. يجب تحويل الأموال، في الوقت المناسب، إلى سلطة جديدة في سوريا، ويجب استخدام هذه الأموال لصالح جميع السوريين”.

عربي لوست

————————————-

لماذا نسي بشار الأسد الصور العائلية عند هروبه؟/ نوار جبو

02.01.2025

ظهرت صور بشار الأسد في أوضاع يومية عادية، مثل ارتدائه الكيلوت أو لحظات لعبه، مما فكك الصورة الرسمية التي سعى النظام لترسيخها كرمز للقوة. تداول الناس هذه الصور على نطاق واسع مصحوبة بالسخرية، مما حولها إلى ذاكرة ساخرة جماعية أضعفت الرمز السلطوي للعائلة.

“بدون النسيان، لا يمكن أن تكون هناك أي سعادة أو مستقبل”

هرب بشار الأسد مؤمنّاً نفسه مالياً، وصعد إلى الطائرة من دون إبلاغ أقرب المقربين إليه، متجاهلاً ومهملاً ما يرتبط بجوانبه الشخصية العميقة، مثل صوره الشخصية وصور طفولته وصباه، بالإضافة إلى صور والديه وأصدقائه. هذا النسيان، وإن بدا عفوياً، يحمل أبعاداً نفسية ويعكس قراراً قصده الأسد من دون أن يشعر. بشار الأسد، بلا شك، ينتمي إلى عائلة منفصلة عاطفياً، حيث تشير التقارير إلى وجود صراعات داخلية مريرة: أخوان حاولا قتل حبيب أختهما الذي أصبح زوجها؛ آصف شوكت، وأخوان اتسم أحدهما بالقسوة المفرطة والآخر، وفق التقارير، اشتهر بسلوكيات أقرب للنيكروفيلية، وتوثيقه مع قواته صوراً لجثث صيدنايا خلال الإضراب بكاميرات وحركات باردة أمام الجثث. أما الأب، فغالباً ما كان ناقداً وسلبياً تجاهه، في حين وُصفت الأم ببرودها العاطفي.

هذا الإرث العاطفي المثقل هو ما هرب منه بشار الأسد. نسيانه ألبوم الصور ليس مجرد سهو، بل يعبر على الأرجح عن انفصال عاطفي عن العائلة ومحاولة واعية لقطع صلاته بذاكرته الشخصية. إنه فعل نفسي توكيدي ينطوي على رسالة مفادها أن تاريخ العائلة لا يعنيه، وأن العائلة كقيمة لا تحمل أي أهمية في نظره. يظهر هذا النسيان أيضاً أن بشار يرى العائلة كعبء رمزي، كرمز سلبي يرتبط بالفشل أو القيد بدلاً من الدعم، مما يعكس رفض القيم أو العواطف المتصلة بالتاريخ الشخصي.

من منظور فرويد، يمكن تفسير نسيان ألبوم الصور كعملية نفسية معقدة تجمع بين الوعي واللاوعي. على مستوى اللاواعي، يعكس النسيان محاولة لقمع ذكريات الطفولة والشباب، التي قد تُظهر تناقضاً مع صورته الحالية كرئيس قوي ومسيطر. الألبوم، بما يحمله من رمزية إنسانية وعاطفية، يُعتبر تهديداً لهوية السلطة التي سعى إلى ترسيخها. أما على المستوى الواعي، فإن ترك الألبوم قد يكون قراراً مقصوداً وسابقاً بمدة طويلة لفعل الهروب، حيث يُعبر عن رغبة واضحة في التخلص من الماضي والانفصال عن أي إرث شخصي يُضعف صورته التي وصل إليها.

بينما يوجّه الكثيرون أصابع الاتهام إليه بإهمال الطائفة العلوية، إلا أن هذا التحليل يشير إلى أن إهماله الأساسي يتجاوز الطائفة ليشمل كل ما هو خارج ذاته بدءاً من عائلته. نسيان الألبوم لم يكن مجرد غفلة، بل كان فعلاً يهدف إلى خلع ذاكرته الرجعية وتدميرها، في محاولة لإعادة تشكيل نفسه كشخصية خالية من أي ارتباط عاطفي أو إنساني بماضيه، وترسيخ صورة الحاضر كرمز مطلق للسلطة.

وفقاً لفكرة نيتشه “بدون النسيان، لا يمكن أن تكون هناك أي سعادة أو مستقبل”، فإن نسيان بشار الأسد يمثّل محاولة لتجاوز ذاته، لكنه يفعل ذلك بطريقة تعكس نسياناً سلبياً يعبر عن ضعف وإنكار، وليس نسياناً حيوياً خلاقاً يُعيد تشكيل الذات بقوة. إنه يواجه ذاته القديمة بضعف، رامياً بها كعبء لا يستطيع تحمله، في هروب من الماضي بدلاً من مواجهته بشجاعة لإعادة بناء ذاته على أسس جديدة.

نسيان العهود والالتزامات هو أخطر أشكال النسيان، لأنه يُعيد المجتمع إلى حالة الفوضى، حيث يصبح العقد الاجتماعي بلا معنى. هوبز

فرح الناس بانكشاف صور العائلة الأسدية، إذ كشفت الصور عن التعرية الرمزية لجوانب من حياة خاصة، كانت تُحاط بهالة من المثالية والهيمنة. ظهرت العائلة في مواقف بسيطة وساذجة نعيشها جميعاً وقد نصورها، بين صور مريبة وأخرى تُظهرهم كبشر عاديين أو حتى بُلهاء. ما كان يُنظر إليه كقدسية رمزية في شخصية حافظ الأسد، الذي صُوِّر لعقود كـ”الولي الصالح”، بدا هشاً وغير رسمي، حتى إنه ظهر مرتدياً البيجاما. أما النرجسية المنهارة للعائلة، فقد تحولت إلى مادة للسخرية، مما وفر شعوراً جماعياً بالعلاج النفسي، للناس الذين رأوا في ذلك فرصة لتفريغ قهرهم.

ظهرت صور بشار الأسد في أوضاع يومية عادية، مثل ارتدائه الكيلوت أو لحظات لعبه، مما فكك الصورة الرسمية التي سعى النظام لترسيخها كرمز للقوة. تداول الناس هذه الصور على نطاق واسع مصحوبة بالسخرية، مما حولها إلى ذاكرة ساخرة جماعية أضعفت الرمز السلطوي للعائلة وأعادت صياغة العلاقة بين الشعب والسلطة.

في سياق آخر، ظهر اللباس الداخلي لعدد من الزعماء العالميين والعرب في صور تعكس رغبة في تعزيز صورة عفوية، تُكسر فيها الهالة الرسمية بين الزعيم وشعبه. هذه الصور تمزج بين البساطة الظاهرة والبُعد النرجسي، حيث تُقدم القائد كإنسان عادي، لكنها تُمهد لاستعادة الهيبة من خلال صور أخرى تُبرز القوة، مثل ارتدائه البدلة العسكرية. السادات، على سبيل المثال، جمع بين البساطة الأوروبية والرمزية الوطنية الفرعونية التي تعكس تاريخاً وهيبة خاصة. أما بشار الأسد، فقد حافظ على صورته بالبدلة العسكرية القديمة من دون تحديث، بينما حاول الحفاظ على صورة الرئيس الشاب من خلال تعديلات تجميلية ومعايرة نفسية لنفسه.

لكن صورة الكيلوت تحولت إلى مادة سخرية انتقامية هائلة، جسدت من خلالها الجماهير قهرها ورغبتها في تفكيك الصورة الرمزية، التي حاول الأسد ترسيخها لعقود. في لحظة واحدة، تحول الكيلوت إلى رمز ساخر يعيد تشكيل الذاكرة الجماعية، كاشفاً ازدواجية النظام بين المثالية المصطنعة والهشاشة الفعلية. لقد أنهى كيلوت بشار العقد الاجتماعي السوري، إذ تفككت الصورة التي ترمز للهيبة والسيطرة، وتفسخت بشكل لا رجعة فيه.

هذه الصورة، التي أصبحت رمزاً للمرحلة الأسدية، رافقتها كلمات ساخرة مثل “جيش الشحاطة”، “جيش الرشى”، و”جيش الكبتاغون”، مما جسد تحولاً جذرياً في السرديات الشعبية.

هذا الاختلاف الحاد بين رمزية الهيبة المصطنعة والسخرية الحديثة شكّل صدمة بصرية، جعلت الكيلوت أداة لتجسيد النهاية الكارثية للهيبة التي سعى الأسد لترسيخها طوال 24 عاماً. أصبح نسيان صور العائلة ذاكرة لفضيحة جماعية في سوريا، دخلت في نسيج التاريخ الشعبي كسرديات تعكس السخرية من السلطة ورموزها. في هذا المناخ، بدا أن كل شيء يجب أن يتغير، حتى السوريون أنفسهم لم يكونوا مستعدين لإبدال بشار الأسد فيزيائياً، بل لجأوا إلى تفكيكه رمزياً من خلال استعراض ساخر لصورته وصور عائلته. ورغم ذلك، فإن التفكك الرمزي لم يكن كافياً لتحقيق عدالة حقيقية أو تهدئة الرغبة في القصاص.

النسيان هو غفلة عن الوجود، حيث يغيب الإنسان عن ذاته الأصلية، وينغمس في السطحية التي يفرضها الهم اليومي.

هايدغر

الأكثر غرابة كان نسيان أسماء الأسد لهويتها السورية الشخصية الورقية، حيث لم تملك سوريا في نظرها سوى هوية السلطة وسردياتها، ولم تُتح لها فرصة لتطوير هوية وطنية حقيقية. انعكس ذلك في انفصام دوراني، حيث تعيش أسماء تناقضاً عميقاً بين أدوارها الممكنة، كزوجة للرئيس من جهة، وبين رمزية وطنية مفقودة من جهة أخرى، وسيدة الياسمين وضحية من جهة أخرى. كان هذا التناقض بمثابة تنصل ضمني من هويتها الورقية ورمزيتها، وتخلٍ عن الشعور الحقيقي بالانتماء إلى سوريا كشعب وأرض، مقابل الانتماء إلى السلطة ككيان مجرّد.

النسيان هنا ليس مجرد فقدان للذاكرة، بل غفلة عن الوجود الأصيل، حيث تتلاشى العلاقة مع الجذور الحقيقية للهوية لصالح سرديات سطحية فرضها الهم اليومي للسلطة. تتحول الهوية من تذكّر عميق يربط الماضي بالحاضر والمستقبل إلى قناع يخفي اغتراباً عن الذات وعن الأرض. سوريا، في هذا السياق، لم تكن شعباً وأرضاً، بل رمز فارغ للهيمنة، مما جعلها لا تحمل الهوية الوطنية أبداً، بل أن تنساها في المنزل فلم تتسع حقائبهاً لهوية لا يتجاوز حجمها الخمسة سنتيمترات.

خضع السوريون لكل كوارث الامحاء في ذاكرتهم، فقدوا في القصف بيوتهم وحاراتهم وأماكن صلاتهم، بالإضافة إلى هوياتهم الشخصية وصورهم ومقاطع الفيديو التي وثقت حياتهم. لكنهم انتقلوا نفسياً إلى مرحلة أخرى بعد يوم من هروب الأسد، عندما كشفت صور العائلة عن انهدام السلطة التي هيمنت لعقود. هوية السوريين الممزقة، التي تحطمت بفعل الحرب، ترممت بطرق غير متوقعة، إذ إن من حرمهم الصور والذكريات أصبح مكشوفاً ومتفسخاً عبر صوره وذكرياته. تحول الأسد من رمز قمعي إلى مُنتهك بصدمة بصرية، لا بالحرق أو التلف.

حجم التأويلات لما شوهد في القصر كان مفتوحاً: رسائل شخصية من بشرى إلى أخيها باسل، صور فكاهية للأصدقاء، أو فيديوهات العرس للرئيس في بيت مزدحم وصغير أشبه ببيت مافيا. هذه التفاصيل مزقت العائلة الأسدية وأنهتها رمزياً، وجعلت السوريين يرون بوضوح هشاشة النظام الذي حاول تصوير نفسه ككيان لا يُقهر.

في خلقه لذاته وفي نسيانه لماضيه، كشف بشار الأسد جوانب كثيرة من شخصيته، وليس آخرها كونه رئيساً يكره عائلته، وزوجة تغسل يديها من هويتها الشخصية. أي عائلة مفككة تلك؟ لقد علمتنا هذه الصور أن السلطة التي بدت متماسكة لعقود كانت، في حقيقتها، هشة وعاجزة عن مواجهة كشف بسيط لحقيقتها الداخلية.

درج

—————————

سورية وإسلامية ما بعد التغول/ ياسين الحاج صالح

تحديث 02 كانون الثاني 2025

شهدت سوريا تحولاً غولياً إسلامياً بدءاً من عام 2013 استمر لسنوات، ارتكب خلالها سلفيون جهاديون ومجاهدون جرائم منكرة، وبدا طوال سنوات صعودهم المجنون أن الثورة السورية خسرت قضيتها نهائياً. ويبدو أن إسلاميي اليوم هم إسلاميو ما بعد التغول، نزلوا عن الشجرة العالية التي صعدوا عليها، فأخذوا يرفعون علم الثورة السورية بعد أن كانوا ينبذونه، بل صاروا يتكلمون على الثورة السورية، بعد أن كان خيالهم السياسي مسكونا بشبح «الأمة الإسلامية» واعتدلت لغتهم وممارساتهم بعد أن كانت فائقة التطرف. نتكلم على تغول إسلامي لأن الأمر كان ضرباً من جنون التطرف، ضربا من سكرة دينية مذهبة للعقل، أصابت مجموعات الإسلاميين كلهم، وإن بتفاوت، سكرة لم تكن على قطيعة مع أفكار المواطنة والمساواة في الحقوق فقط، وإنما حتى مع التقليد الإسلامي (السني) ذي المنحى الاستيعابي في إطار سيادة إسلامية سياسية ورمزية. ما يرى من اعتدال بين إسلاميي سوريا اليوم يبدو أقرب إلى عودة إلى هذا التقليد الذي يقبل بالتعددية الدينية والثقافية الموروثة من الماضي (لكن ليس بتعددية سياسية تحيل إلى مصالح ورؤى وتفضيلات اليوم).

ذروة التغول تمثلت في داعش، الذي كان مطحنة للبشر في مناطق سيطرته، وجمع بين نظام تجسسي شمولي لا يعترف بحرمة الحياة الخاصة، وبين استعمار استيطاني إحلالي مثل إسرائيل، يمنح مساكن السوريين الذين نجوا بأنفسهم لمجاهديها الجوالين القادمين من كل مكان، الذين لا تضبطهم لا أعراف ولا شبكات اجتماعية ولا لغة كلام مشتركة مع محكوميهم من «عوام المسلمين»؛ وداعش بعد ذلك منظمة إرهابية لا تميز بين مدنيين وعسكريين، وتُكفّر على «أبو جنب» حسب التعبير المحكي السوري، أي عشوائياً وفي كل اتجاه. إعدامات داعش المشهدية كانت مصدر ترويع عام، استندت إليه في حكمها مثلما استند الحكم الأسدي على مخابراته المتوحشة.

ورغم أن داعش لم يكن من نتاج ديناميكيات الثورة السورية، أو تجسداً دينياً منظماً لديناميكيات التجذر والتشدد والعسكرة والأسلمة والتطييف التي أخذت تشاهد في سوريا بتصاعد في عام 2012 وما بعد، إلا أنه استفاد من هذه الديناميكيات واستقطب قسماً من مجاهديه الجوالين من السوريين، وسيطر على مناطق واسعة من البلد طوال سنوات. لم يكن هذا الغول غولنا حصراً، لكن سوريا وفرت بيئة انتشار لمثل هذا التكوين الجهادي المعولم، الذي لا يلحظ نموذج الديني السياسي مجتمعات عينية وتجارب تاريخية مختلفة وذاكرات نوعية، والذي لذلك بالذات يعرض استعداداً غولياً. اليوم، داعش غول صغير، مقلم الأظافر، وقد يكون التحول السياسي الديني الذي جرى في سوريا هو الترياق الأنسب ضد ما بقي من هذا الغول.

جبهة النصرة بدورها لم تكن وثيقة الصلة بديناميكيات الصراع السوري، فقد وفد مجاهدوها الأولون من العراق إلى سوريا التي أخذت تبدو لهم بيئة تمدد وانتشار بفعل حرب الحكم الأسدي على الثورة السورية. كانت جبهة النصرة قوة تطرف لا ترتبط بمجتمع وتاريخ وذاكرة وحساسية خاصة، ولديها نموذجها المجرد، السلفي الجهادي، يصلح هنا والآن وفي كل مكان وزمان، ويفرض بالقوة (داعش نفسها كانت جزءاً منها حتى نيسان 2013). وجمعت هي الأخرى مجاهدين جوالين من بلدان عديدة (يبدو أن بعضهم هم من أحرقوا شجرة الميلاد في السقيلبية قبل أيام) وإن كان أكثرهم سينحازون إلى داعش في وقت لاحق. وفي سجلها هجمات على عدرا العمالية في ديسمبر 2013، وعلى قرى أرياف اللاذقية في العام نفسه، مع استهداف مدنيين علويين بالقتل والخطف في الحالين. ومن هؤلاء المحازيين من قتلوا نحو عشرين درزياً في قرية قلب لوزة في إدلب في حزيران 2015. على أن الصفة السورية لجبهة النصرة تنامت منذ انشقاق داعش، وعرضت في وقت لاحق اعتدالاً أوسع، حتى أنها لجمت مجموعات جهادية متطرفة في منطقة سيطرتها. ومعلوم أنها غيرت اسمها إلى جبهة فتح الشام، ثم إلى هيئة تحرير الشام، وفكت ارتباطها مع منظمة القاعدة، وأخذت ترفع علم الثورة وتنسب نفسها إلى الثورة السورية.

وصعد جيش الإسلام الدوماني الشجرة المجنونة، فرفّع نفسه خلال عام واحد من سرية الإسلام إلى لواء الإسلام إلى جيش الإسلام. ومنح نفسه رخصة في ارتكاب الجرائم، من الاعتقال والتعذيب في سجون مؤسسة التوبة، إلى التغييب القسري مثلما حدث لسميرة الخليل ورزان زيتونة ووائل حمادة ونظام حمادي، إلى الإعدام الداعشي المشهدي مثلما جرى لأبو علي خبية في سوق الغنم، ودوماً مع شن حرب أهلية ضمن مجتمع الثورة المحاصر من قبل النظام والمعرض لقصف يومي. وبعد التهجير من دوما إلى مناطق الشمال السوري كان ما بقي من جيش الإسلام جزءاً من الجيش الوطني، تشكيلات مسلحة سورية كلية الفساد وكلية التبعية لتركيا، ولأجندتها المضادة للكرد أساساً. جماعة جيش الإسلام بدورهم أخذوا يعرضون بعض الاعتدال الشكلي، من حيث العَلَم ومن حيث الاندراج في النسق السوري. لكنهم أسرى جرائمهم الماضية، ولا يبدو أنه يمكن أن يكون لهم مستقبل مستقل.

يمكن بطبيعة الحال التشكك في صدق وعمق الاعتدال على هؤلاء الشركاء في النموذج السلفي الجهادي، بل ويجب التشكك. يبدو أقرب إلى الصواب مع ذلك القول إننا ما بعد الذروة الغولية إن جاز التعبير. لكن ما هو جذر التغول ذاته؟ أقدر أنه نتاج تلاقح بين منطق الدولة السيدة الحديثة، ذات الولاية العامة والرقيبة على الكل، وبين صيغة خاصة من الفكر السياسي الإسلامي، السلفية، وفي صيغتها الوهابية الصارمة بخاصة. القطبية المصرية وريثة دعوة أبو الأعلى المودودي للحاكمية الإلهية هي الجسر الذي ربط بين الوهابية والسيادية، وكانت أفغانستان أرض اللقاء. ولقد ظهر أن هذا تحول فتاك، مميت، لا يقوم معه مجتمع ولا سياسة أو ثقافة أو فنون أو حياة روحية.

والأرجح أن للقوى المسيطرة الجديدة تكوينا غير متجانس، يمتد من بين من كانوا سلفيين جهاديين في الحساسية والمخيلة واللغة، ومن هم محافظون اجتماعياً، وربما وطنيون سوريون مؤمنون. وقد يقع أحد أقوى مصادر التوتر في الوضع السوري الجديد ضمن الطيف الإسلامي المسيطر بين عاقلين ومجانين دينيين.

ماذا يكون ما بعد التغول، إذن؟ يبدو أقرب إلى التقليد السلطاني الإسلامي، مزيج من مركزية إسلامية سنية مع «تطمين» الجماعات الدينية والمذهبية الأخرى إلى أن «لها ما لنا وعليها وما علينا». وقد يشمل التطمين العلويين و«المكونات» السورية غير الكتابية الأخرى بالتطمين، لكن مرة أخرى يقتصر الأمر على تعددية أمر واقع دينية ومذهبية، وليس تعددية سياسية. ما ينبع من التكوين ما بعد الغولي للفريق الإسلامي المسيطر اليوم هو ضرب من حكم عاقل، غير متطرف، لكن عقله لا يتجاوز الاستيعاب الإسلامي السلطاني التقليدي.

هل ما بعد التغول أنسنة؟ سياسة إنسانية إسلامية؟ أقل من ذلك، بالنظر إلى ما قلناه للتو عن استعادة تعددية أهلية مفتوحة على الماضي، وليس تعددية سياسية مفتوحة على المستقبل. هنا يستعيد التشكك في عمق التحول ما بعد الغولي واستدامته كامل حقوقه. فليس لهذا التحول روح تبث الحياة فيه، ولا تأتي الروح من غير جبهة فكرية نشطة، من شجاعة في الفكر والوجدان، تستجيب لقيم الحرية والمساواة في العالم الحديث وتعيد هيكلة القيم الإسلامية الأساسية لملاقاة هذه القيم. ولأن هذه الجبهة خامدة، فإن «براغماتية» الإسلاميين الراهنة ضعيفة الشخصية وقليلة العمق. الإسلامية التي يدينون بها هي الشكل التاريخي المعاصر من الإسلام الذي عرض كثيراً من الشجاعة الجسدية والاستعداد الحربي وقليلاً من الشجاعة الفكرية والروحية وتغيير النفس.

ما يبدو مستبعداً من تشكيلة السلطة ـ الإيديولوجية الحالية هو السنيين غير النمطيين من يساريين وليبراليين وعلمانيين وغير مؤمنين. ليس هناك مقولة أهلية تشمل هذا الطيف بما يتيح استيعابه، ولكنه لذلك بالذات، أعني لتكوينه المدني أو اللاأهلي يمثل موقع الانفتاح في التشكيلة ومدخل التعددية السياسية إليها. صورة النظام السياسي في سوريا ما بعد الأسدية تتحدد ليس بما يريده المسيطرون الجدد حصراً، ولكن كذلك بقدرة قطاعات أوسع من السوريين على تنظيم قواهم وإسماع أصواتهم وفرض أنفسهم كقوى فاعلة في الحقل الجديد.

كاتب سوري

القدس العربي

————————–

الحوار السوري وفرصة ولادة مشرق عربي جديد: مخاطر الإقصاء/ منير الربيع

الخميس 2025/01/02

تتيح التطورات السورية المجال لنمو فرصة جديدة لولادة “المشرق العربي” مجدداً بمشروع قائم على التكامل بدلاً من التصادم. تمّثل سوريا نقطة استراتيجية تتقاطع فيها قوى إقليمية ودولية عديدة، يمكن لها أن تتصادم وتتقاتل، كما كان يحصل أيام نظام بشار الأسد. ويمكن لها أن تتقاطع بناء على مصالح مشتركة، فتتشكل نواة الفرصة والمشروع.

كان حافظ الأسد من أبرز الذين عملوا على الفكرة الثانية أي تعزيز وضعيته في الداخل من خلال تقوية علاقاته وتحالفاته الخارجية، والحصول على اعتراف دولي وعربي بمشروعيته بناء على تلبية مصالح كثيرة لقوى خارجية، فتمكّن من التفرغ للداخل الذي حكمه بقبضة من حديد، وأغلقه على أي انفتاح سياسي، اجتماعي، ثقافي، واقتصادي. يمكن للإدارة السورية الجديدة، أن تفكر بالشروع في اللعب على التوازنات كما فعل الأسد الأب، لكن ما هو غير ممكن، إعادة المجتمع السوري بشرائحه ومجموعاته المختلفة إلى “شرنقة” جديدة. عدم الانتباه إلى هذه المسألة، قد تولد إشكالات كثيرة بالمعنى السياسي، وصراعات حول “وجهة الدولة ونظامها السياسي”، وكلاهما يمكن أن يؤديا إلى صراعات دموية.

مقتضيات المؤتمر

لم يكن تأجيل المؤتمر السوري العام الذي كان يفترض عقده يوم الخامس من كانون الثاني بالأمر السلبي، فمثله يحتاج إلى تحضير متكامل، وبالحد الأدنى توفير الخدمات الآمنة على المعابر وتشغيل المطارات لفتح أبواب البلاد أمام كل المعارضين الذين هجرهم النظام السابق، وهم يريدون العودة للمشاركة في وضع تصوراتهم. كما أن المؤتمر يحتاج إلى وضع إطار عام بين مختلف المكونات والكيانات السياسية، بما فيها من هم يمثلون النظام السابق، لأنه جزء من مكونات الشعب السوري، ولهم حضورهم في الإدارات والمؤسسات المختلفة، ولا يمكن اختزالهم، وطبعاً لا يمكن تكرار تجربة العراق في “اجتثاث البعث”، لأنه لن تولد إلا حرباً أهلية لا تنتهي.

منذ الأيام الأولى في التحضير للمؤتمر السوري العام، حصل التباس في المصطلحات، بين من يصفه بالمؤتمر العام، ومن يصفه بحوار مرحلي يمهد السبيل لانعقاد لانعقاد المؤتمر العام، والذي يفترض أن يضم كل مكونات الشعب السوري، سواء بشكل فردي أم على مستوى الكيانات من الاتجاهات المختلفة، لوضع الرؤى المتعددة وإنتاج رؤية شبه موحدة ترضي الجماعات المختلفة وتحفظ حقوقها. يمكن للحوار الذي سيجري بين هيئات مختلفة أن يكون هو المنطلق التأسيسي للمؤتمر السوري العام، وليس على قاعدة “تطعيمه أو تلوينه” بشخصيات لديها انتماءات مختلفة، بل أن يكون التمثيل فعلياً، ولكل المكونات رأيها وطرحها. ويمكن لهذا الحوار أن ينتج تكتلات سياسية جديدة تشكل توازناً بالمعنى السياسي مع هيئة تحرير الشام، كي لا تبقى وحدها كحزب أوحد والكيانات أو الكتل الأخرى هي مجرد هوامش وحواشي.

العرب ولبنان وسوريا

لطالما كان هناك رهان سوري ولبناني مشترك، على انفتاح عربي على البلدين والحصول على مساعدات واستثمارات اقتصادية، معطوفة على استقرار سياسي. هذه الفرصة قائمة اليوم ومتاحة بعد التطورات التي حصلت في سوريا، بدءاً من عدم العودة إلى “الحكم الواحد” أو التحالف مع “محور واحد”. وجعل البلدين ساحة مفتوحة لتقاطعات عربية وإقليمية ودولية، شرقية وغربية. وذلك يبدأ من تعزيز منطق الحوار الداخلي على أسس إعادة بناء الدولة، وليس على كيفية الاستئثار بالحكم أو الحجم المقتطع من “حصة السلطة”. فسوريا معنية بحوار جدي ينتج عنه مؤتمر عام يشارك فيه كل السوريين، الذين يفترض رعاية مصالحهم وتطلعاتهم وتوجهاتهم. ولبنان أيضاً معني بالعودة إلى حوار وطني شامل حول الدولة وآلية تطويرها وتطوير نظام الحكم.

في هذا السياق، تبرز اندفاعة عربية باتجاه سوريا ولبنان، من أبرز تجلياتها هي العودة السعودية والاستعداد للانفتاح والتعاون، والذي لا بد من العمل على استقطابه من جديد بعد غياب عن ساحات المشرق العربي دام لسنوات، إلى جانب غياب أي مشروع عربي واضح، ما أنتج فراغاً جرت تعبئته من خلال قوى إقليمية أخرى، كإيران، أو جرى العمل على زيادة نسبة هذا الفراغ المبني على تدمير الدول وحواضرها الاجتماعية ومؤسساتها، كما تفعل إسرائيل. أبرز ما تحتاجه سوريا اليوم هو العودة إلى نوع من التكامل الإقليمي العربي. وهذا من مسؤولية القيادة الجديدة التي لا يمكنها أن تبقى في كنف جهة معينة، ولا الانتقال إلى كنف جهة أخرى من دون غيرها. كما أنه لا يمكن للقيادة الجديد أن تستند على تعزيز العلاقات مع القوى الإقليمية والدولية التي تتقاطر إلى دمشق. فهذه الدول لها حساباتها ومصالحها، وهي لا تأتي من باب الانفتاح على هيئة تحرير الشام واحتضانها.

الأمن والأمان

إلى جانب المسؤولية السياسية المتصلة بالحوار ومستقبل الدولة السورية، لا تزال هناك مسؤوليات كبرى تقع على عاتق الإدارة الجديدة، وأبرزها التحديات الأمنية وتوفير الحماية لكل مكونات المجتمع السوري، وليس الاكتفاء بالطمأنة على المستوى الشكلي والمعنوي، بل فعلياً، بالإضافة إلى إعادة تفعيل عمل أجهزة الشرطة وتفعيل عمل المؤسسات ككل. أما المسؤولية الأكبر تبرز في التحديات الأمنية أو الانتقامية التي تحاول بعض الجهات المحسوبة على الثورة أو على الإدارة الجديدة، القيام بها، وخصوصاً في الساحل السوري. فلا بد من ضبط أي عمليات انتقام أو استفزاز للسكان في الساحل السوري ولا سيما أبناء الطائفة العلوية. بالإضافة إلى أهمية الخروج بتقارير يومية توضح حقيقة ما يجري على الأرض. وبحال كان هناك فيديوهات تحريض قديمة يتم نشرها، فذلك يحتاج إلى توضيح على المستوى الإعلامي، وعلى المستوى السياسي من خلال تعزيز التواصل مع وجهاء المنطقة والمعنيين فيها، بالإضافة إلى توفير كل ظروف الأمن والأمان واحترام المكونات. أي عملية من هذا النوع تتناقض مع مبدأ “عدم الانتقام”، لا سيما أن جهات عديدة ستسعى إلى استدراج هيئة تحرير الشام لتنفيذ مجازر وارتكابات، أولاً لتوريطها وثانياً لنزع أي صفة وطنية عنها، وحصرها في مشروع أيديولوجي يستدعي مشاريع أخرى مقابلة تدخل سوريا في الحرب الأهلية.

النفوذ التركي

هناك تركيز على الاستثمار التركي في سوريا والاستناد على قوتها الاقتصادية، وهو ما يفترض مقابلته بتوازن عربي، خصوصاً أن العنوان الأساسي في سوريا الخروج من السطوة الإيرانية. ولذلك، لا يمكن الاتجاه نحو نوع من السطوة التركية، والتي يجب أن يوازنها دخول عربي وازن. أما في حال أرادت أنقرة أن تتولى هي اختزال سوريا بتوجهاتها واستثمارتها، لا بد لذلك أن يستدعي تدخلات أخرى، فإيران جاهزة ولا تريد أن تستسلم، كما أن دولاً كثيرة في المنطقة من معارضي اتساع أو تمدد النفوذ التركي ستكون جاهزة لضرب هذا المسار وإضاعة فرصة حقيقية تتركز على إنتاج مشروع جديد في المشرق العربي، من خلال التكامل ما بين كل مكوناته الاجتماعية، القومية، العرقية والطائفية.

لا يمكن تغليب الجانب الخدماتي والاقتصادي ورفع العقوبات والاعتراف الدولي، على حساب الحيوية السياسية. ومعلوم أن مرتكزات الاقتصاد السوري موجودة في شمال شرق سوريا، وفي مناطق ذات غالبية كردية، لذا فإن الأولوية السورية هي لانتاج نظام حكم مبني على التفاهم والتعاون مع الأكراد، وعدم ترك المجال أمام أي مشروع تركي لضرب المجموعات الكردية. وما ينطبق على الأكراد يفترض أن ينطبق على العلويين والدروز والمسيحيين وكل المكونات الأخرى. هذا ما يفرض خلق الحيوية السياسية في كل المجتمع السوري وفتح المجال أمام تأسيس الأحزاب السياسية المختلفة والمتنوعة تحضيراً لخوض الاستحقاقات الانتخابية.

المدن

———————–

البيان “رقم واحد” المفقود سورياً/ سميرة المسالمة

الخميس 2025/01/02

لم يمض وقت طويل على سقوط نظام الأسد بمرحلتيه (الأب والابن) حتى بدت الدولة السورية كأنها تعيد إنتاج نفسها من جديد، أو من نقطة الصفر. وعلى رغم أنه لم تظهر حتى الآن التسميات الرسمية للجالس على كرسي الرئاسة السورية، والذي يقود الحكومة الحالية بكل مفاصلها، مكتفين بتسمية أحمد الشرع “القائد العام للإدارة السورية الجديدة”، يتم توازع وتوزيع مناصب وزارية وإدارية كثيرة، وفقاً لما هو معتاد في دولة عادية، ما يضعنا أمام حيرة عن حقيقة المرحلة الحالية، هل هي انتقال سلطة؟ أو استبدالها؟ أو تغيير مفاهيمها؟

فهذه الأسئلة كان المفترض أن يجيب عليها بيان النصر الأول من منبر التلفزيون الرسمي في الأمويين، بغض النظر عن رأينا بمدى مهنيته، أو كفاءة وولاء بعض العاملين به لثورة السوريين، إلا أنه يبقى الوجهة المحلية التي يمكن الاعتماد عليها في التعريف بطبيعة المرحلة، وما ينتظرنا فيها من واجبات وحقوق -على الأقل- بينما يتم تحرير الإعلام من رسميته. لا شك أنني كإعلامية سورية مضى على انشقاقها 13 عاما عن إعلام النظام، أعرف مدى النخر والخراب الذي أصاب مؤسساته. لكن، في كل الظروف، ما زلت أؤمن بأحقية هذا الإعلام المحلي أن يكون منبراً يتعرف من خلاله السوريون على واقعهم ومسارات مستقبلهم، بعيداً عن الهيمنة الأمنية التي غيبت حرية التعبير عن هموم الناس وطموحاتهم.

وربما يدخل ذلك في سياق رغبة وزير الإعلام في الحكومة الحالية محمد العمر: “نعمل على إعادة بناء إعلام سوري حر يتصف بالموضوعية والمهنية”. وهي المهمة التي على رأس أولويات المرحلة الحالية، وذلك لحاجة السوريين إلى التعرف إلى الجهة التي تحكمه، كما هي حاجة هذه الجهة الحاكمة لمعرفة طبيعة الشعب الذي تحكمه. فالقطيعة التي أقام حواجزها النظام السابق بين السوريين، تجعل من التنظيمات الإسلامية التي تنتمي لها معظم أسماء الحكومة الحالية “البعبع” المتربص بهم، وبحريتهم، بينما يتصور الإسلاميون مطالب الشعب بالدولة المدنية والديمقراطية أو اللامركزية بأنها اعتداء على الدين والشريعة ووحدة الأرض السورية، وفي كلا الحكمين لعب الاعلام دوراً تحريضياً مسيساً وغير توثيقي.

نعم الإعلام ليس مجرد أداة لنقل الأخبار وحسب، ما يجعل من إصلاحه ضرورة، لأنه أداة حيوية لتشكيل الوعي الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، من خلال التفاعل مع القضايا اليومية وانعكاساتها على قضايا حيوية ومصيرية. فإعادة مأسسة الإعلام السوري، هي جزء أساسي وأولي في بناء الدولة الجديدة، لخلق بيئة إعلامية تحترم التنوع وتتيح الفرصة لجميع الأصوات أن تُسمع. وتحرير الإعلام من وظيفة “التطبيل” للسلطة هو أحد أهم متطلبات المرحلة. فالإعلام الذي يكتفي بنقل ما تريده السلطة، ويغفل عن تقديم صورة حقيقية عن الواقع السوري، لن يستطيع أن يبني جسور الثقة مع متلقيه، أما الإعلام الذي يطرح الأسئلة الصعبة، ويواجه التحديات بشجاعة، هو الذي يستعيد ثقة المواطن السوري، ويكون أداة فعّالة في بناء مجتمع ديمقراطي يتيح الحوار والتفاهم بين مختلف فئات، حتى تلك المختلفة في أيديولوجياتها معه.

إن الإيمان بحرية الإعلام لا يعني الفوضى أو الفلتان، بل هو دعوة إلى إعلام مهني وموضوعي، يمارس سلطته الرقابية التي لا تتوفر مقوماتها إلا في ظل دولة ديمقراطية، ويقدم للمواطن السوري حقه في معرفة الحقيقة من دون تحريف أو تزييف. وهذا يتطلب تدريبًا مستمرًا للصحافيين، ودعمًا للمؤسسات الإعلامية المحلية، وتوفير بيئة قانونية تحمي الصحافيين من التهديدات والمضايقات، وتضمن لهم الحق في التعبير عن آرائهم بحرية، من دون أن يقعوا تحت طائلة الإقالة والتحقيق الأمني والتعذيب والتشويه الجسدي والنفسي، وإلحاق الأذى بذويهم وعائلاتهم، كما حدث لي، ولمن عبر عن رأيه من الإعلاميين، في عهد نظام الأسد الهارب، وخلال الثورة السورية العظيمة.

اليوم، تحتاج سوريا إعلامها أكثر من أي وقت مضى، تحتاجه ليكون حجر أساس في تعميق أساس بناء الدولة الحديثة، فحرية الرأي والتعبير هي معيار القدرة على استيعاب طموحات السوريين، وتأمين أولياتهم في سوريا الجديدة، كما أنه الحاضن الحقيقي لمواكبة خطوات الحكومة الحالية في الانتقال من هذه المرحلة الحرجة على الصعد كافة، من الأمنية التي لا تزال بحاجة إلى تمتين وتحصين، إلى واقع الخدمات، التي غابت عن حياة المواطنين خلال سنوات الحرب الظالمة التي خاضها النظام الساقط عليهم، وصولاً لمحاربة نمو سلطة فساد جديدة عابرة إلينا من عهد تجار الحرب، إلى لحظة التقاط الفرصة في فوضى التصنيفات والتوصيفات للسوريين.

إن رصد خطوات الانتقال إلى المرحلة الانتقالية، من دون إعلام محلي حر يواكبها في كل مراحلها التأسيسية من الحوار الوطني، الذي يؤسس لرسم عناوين المؤتمر الوطني المزمع عقده، يترك هذه العملية في عزلة عن حواملها الشعبية، حيث لا يمكن أن يبقى المتلقي يتنقل بين محطات التلفزة لرصد معلومة هنا وقرار هناك، ما يجعل من قرار تعطيل الإعلام المحلي (بغض النظر عن تبعيته للحكومة أم لا) بغرض تطويره يضر به ويؤخر عملية استعادته كمرجعية خبرية وطنية.

المدن

————————–

ما بعد” الأبد/ ريم الغزّي

سوريا

02.01.2025

يؤكد يعرب العيسى: “أفضل طريقة للتنبؤ بالمستقبل: صنعه”. هل من أتوا هم سلطة أمر واقع؟ أم شركاء بالفعل؟ هل لمن حمل السلاح ووضع روحه على كفه الحق في أن يقرّر عني؟

فرحت فرحاً غامراً… عارماً… لا وصف له…

المستحيل تحقق. أوّل العدل. يا ناس يا عالم، يوجد عدل.

كل هذا الفرح في يوم.

فرحت يوماً واحداً فقط لا غير، بعد ١٣ سنة انتظار منذ بدء الثورة، سُمِح لنا بيوم واحد فقط، يوم فرح واحد، ثم بدأ القلق، تصاعد القلق، يتضخم القلق:

إسرائيل استباحت المزيد من الأرض والكثير الكثير الكثير من عتاد البلد.

تتكشّف سجون وسجون وسجون والمزيد من السجون ورائحة الأرواح، التي نبحث عنها في كل زاوية.

فنون التعذيب، برغم كل ما عشناه، ما تزال صادمة. أُشيح بوجهي. لا أطيق النظر. لا أستطيع أن يعلق المزيد من ذاك “الأبد” فيَّ.

يرفع الدروز علماً يخصهم وحدهم دوناً عن غيرهم، ولم يعترض أحد. لم يخف أحد.

أما الذين استلموا السلطة الحالية فقد وضعوا إلى جانب علم الدولة، علم “لا إله إلا الله محمد رسول الله”.

فـثار الجميع قائلين إنه علم أحادي الجانب، علم يناقض أقوالهم. يثير المخاوف من صراعات جديدة في ما بيننا.

الكرد في وضع شديد الوطأة. كم عدد الذين يتحدثون عن ذلك؟

العلويون على وجس. من يشعر بهم؟

الشيعة؟

كيف سيلتئم هذا المشهد؟؟؟

الذي أصبح: أحمد الشرع، بعد أن خلع عنه ثوب الجولاني (بما يمثله) وارتدى البدلة العسكرية في شكل يوحي بـأنه المناضل وليس المجاهد. هل هو تجميل؟ أم هو جاد فيما يَعِدْ؟ هل نعطيه فرصة؟ أم نقف له بالمرصاد؟

يحتشد القلق في تلافيف القلب والدماغ بما لا يسمح بتنفس الصعداء بعد.

أرى أنه يجب التروّي كثيراً قبل إطلاق الأحكام. لأن البعض يتصيّد في الماء العكر.

صامتة حتى اللحظة، أراقب بشدة.

هل لأني بعيدة عن البلد أحس أن الصورة غائمة؟ هل كانت اختلفت مشاعري وأفكاري لو كنت هناك في الشوارع مع من يحتفلون؟ يبدو الأمر كذلك.

سأحاول أن ألقي عن كاهلي كل هذا التوغل في القلق. هل سيكون هذا قلة مسؤولية مني؟

يجب أن أفرح أن المستحيل تحقق. نستحق ذلك بشدة.

أما “ما بعد”، فسيأتي وسنراه في وقته. دعي الغد للغد.

اقتربي اليوم من قلبكِ وعانقيه ليبتسم.

ويقلقني من أخذوا دور البومة، وأخشى أن أصبح مثلهم.

ويقلقني تصريح الألمان: سيكون لنا دور في سوريا بالتأكيد.

ويدفعني التحليل السياسي للجميع إلى زاويتي بعيداً عنهم. عن نفسي.

يجب أن أفرح أن المستحيل تحقق. نستحق ذلك بشدة.

ومن واشنطن معنا، ومن استنبول ينضم إلينا، ومن موسكو، تقول المذيعة، مرحّبة بضيوفها.

وتبدأ بتغيير التصنيف الإرهابي ل”هيئة تحرير الشام”.

أيام مرت ولم نتحرك من أمام التلفاز ووسائل التواصل الاجتماعي، نتابع الأخبار.

كبيرة باحثي معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى تقول إن قانون قيصر قد لا يتجدد إن كانت الأمور إيجابية. لكنهم بحاجة إلى ضمانات. ونحن “الشعب” خارج الدائرة على ما يبدو، خارج دائرة الضمانات والهيئة والضيوف. كلٌ يلوي على مصالحه.

لماذا يجب أن أهتم أن ترامب يراقب الوضع؟

أقرأ عدي الزعبي، يتخفف قلبي.

قلة أولئك الذين يبثون الفرح كما ينبغي له أن يكون. نستحق ذلك بشدة.

وزير الخارجية الأميركي ليس واثقاً أن زعيم “هيئة تحرير الشام” سيحمي الأقليات في سوريا.

على أساس أن الأسد كان حاميها؟؟؟

لم ينتهِ الأسد إلا حين أراد المجتمع الدولي له أن ينتهي؟

جعلونا نحترق ١٣ عاماً. بكل ما فيها من سحق للإنسان فينا؟

لسنا وحدنا من حرر البلاد؟ الظرف العام ساهم؟ القرار الدولي فعل؟؟؟

ما الذي جرى بالفعل؟؟؟ هذا السقوط المدوي السريع السريع، كيف حصل؟؟؟

هل التدخل الخارجي قادم؟ التخوف شديد وواجب.

هل عليّ أن أخشى من التدخل الداخلي في حياتي ومهنتي وملبسي كامرأة؟

ازدحام مشاعر، ازدحام أفكار، ازدحام أقوال، ازدحام، ازدحام.

“بس بتعرفوا شو؟؟؟

كله أحسن من الجمود والشلل والخرس اللي كنا فيه”.

مغمورون بالخلاص يا شباب، يقول ياسين الحاج صالح. مغمورون بالخلاص.

حزب “البعث” يعلق أعماله حتى إشعار آخر بعد فرار بشار الأسد. تقول الأخبار.

“فْرَارِي”، كل شيء توقعته إلا “فْرَارِي”.

كم هو خسيس. بلا حدود.

لم يسلّم السلطة. هرب ليوقعنا في الفوضى.

الكل يخبرنا بما يجب علينا فعله. والجميع على السوشال ميديا يبدأ منشوراته بـ “يجب فوراً عمل…”

يقول البعض إن هذا مستفز وإنه من الواجب انتظار نتائج الحكومة الانتقالية، وأن يأخذوا فرصة ليعملوا ويثبتوا أنفسهم.

وآخرون يقولون إن الانتظار جريمة، يجب أن يكون الجميع على علم بكل شيء، وأن يكون للجميع رأي في كل شيء، وإلا ستتكرر المأساة. لا يُلْدَغ المؤمن من جحرٍ مرتين. أم أنه يتم التحامل عليهم أكثر من اللازم؟؟؟

واشنطن تدعم عملية الانتقال السياسي في سوريا.

وإسبانيا ترى أنه يجب تحديد “خطوط حمراء” في أي محادثات مع القيادة الجديدة.

أما ألمانيا فتبحث عن طرق مناسبة للتواصل مع “هيئة تحرير الشام”.

فرنسا تريد استعادة نفوذها في سوريا.

من يزيد؟؟؟

ثم أين تبخّر كل المخابرات وضباط الجيش، أين كل القتلة ومرتكبي الجرائم؟؟؟

هل سينبثقون في القريب العاجل؟؟؟ هل سيعودون للظهور في أشكال أخرى لهدم ما سيُبنى؟؟؟

مشاهد من الجو للعاصمة السورية دمشق على كل القنوات بفرح عارم.

لم يسبق لهم أن استطاعوا تصوير كل هذه المساحات.

كتابة دستور جديد يحافظ على المكونات السورية كافة، هو همّ الجميع.

الكثيرون بدأوا يساهمون بالفعل في طرح خطةٍ للطريق.

البعض من الخارج يرسلون عبر “فيسبوك” رسائل اعتراض أو توافق.

هل تتابع الإدارة السياسية الجديدة أو القيادة العسكرية (كما يدعون أنفسهم) الفيسبوك؟ هل لديهم الوقت مع كل هذا الإرث الهائل من الدمار على كل المستويات؟؟؟

كيف يمكننا أن نكون فاعلين؟

هل نترك مواقعنا التي وصلناها بشق الأنفس؟

وماذا لو اتضح أن البلد لا يُعاش فيه؟ مجدداً.

يؤكد يعرب العيسى: “أفضل طريقة للتنبؤ بالمستقبل: صنعه”.

هل من أتوا هم سلطة أمر واقع؟ أم شركاء بالفعل؟

هل لمن حمل السلاح ووضع روحه على كفه الحق في أن يقرّر عني؟

ألا أحمل روحي وآلامها على كتفي في هذه الغربة؟ ألم يدفع الجميع ثمناً لا طاقة لهم به؟ كل من موقعه؟ ألسنا سواسية؟

كل الأسئلة مشروعة.

الحيرة، المجهول، الأسئلة، الحماسة، الاندفاع، الترقب، الحذر، خليط هائل لا وصف له.

بتعرفوا شو؟

انسوا كل ما سبق…

“سقط الأبد”. سقط الأسد. هرب الأسد. هل أُعيد؟؟؟

يُدعى الآن الرئيس المخلوع. الرجاء الدقة: هو “المجرم” المخلوع.

انسوا كل ما سبق…

على الأقل الأفق مفتوح على كل الاحتمالات الآن، لم يعد مغلقاً كما كان.

درج

————————————-

سورية الجديدة وفلسطين… التوازن المطلوب/ خالد الحروب

02 يناير 2025

في سورية التي تحرّرت من قبضة عائلة الأسد المافيوية الفاسدة، تتكشّف يوماً إثر يوم وثائقُ وحقائقُ تؤكّد بالمعلومة ما كان شبه معروف بالتحليل والقرينة. النظام الذي اعتاش على شعارات المقاومة، وبنى شرعيّته على مزاعم مواجهة إسرائيل، يتبدّى تاريخه اليوم عارياً مفضوحاً. خلف الهتافات الطنّانة اشتغل النظام حارساً أميناً على أمن إسرائيل بعد أن فرّط الأسد (الأب) بالجولان، وتركه محتلّاً عقوداً، حتى يبرّر قمع الشعب وإسكات الناس بذريعة الاستعداد لتحرير الأرض المحتلة وقتال إسرائيل. المُدهش ممّا ينكشف هذه الأيام عمق الدور الوظيفي الذي لعبه النظام في سنواته الأخيرة، ومدى العلاقة المباشرة أو غير المباشرة مع إسرائيل وموسادها عبر رموزه وفاسديه.

ويدلّل على ذلك كلّه، جملةً وتفصيلاً، السرعة التي استغلّت بها إسرائيل في الأسابيع الأولى لإسقاط النظام تدمير ما تبقّى من قدرات عسكرية سورية. يشير ذلك إلى أمر واحد، أن تلك القدرات كانت في “أيد أمينة”، بحسب تقدير إسرائيل، طالما استمرّ نظام الأسد في السلطة. وعندما سقط ذلك النظام لم تعد هناك أيد أمينة تحافظ على استمرار ضمان الأمن الإسرائيلي وسكوت المدافع السورية. هكذا إذاً، وتحوّطاً للأسوأ، انطلقت إسرائيل بشهوة عارمة في تدمير ما دمّرته واحتلال ما احتلته، من الجولان وما بعده.

الآن وبعد تحرير سورية وشعبها من المافيا الأسدية، يتسلّم الحكم الجديد البلد واقتصادها وبنيتها التحتية، وديموغرافيتها المُهجّرة في أسوأ حالة ممكنة، وكأنّ العهد البائد كان قد تعهّد بتدمير الوطن السوري إلى أقصى حدّ ممكن. بعدما يقارب من نصف مليون شهيد قتلهم النظام وحلفاؤه، وتهجير أكثر من عشرة ملايين سوري في الداخل وفي أصقاع الأرض، لنا أن نتخيّل حجم المهام الرهيبة والأولويات الضاغطة التي تواجه السوريين. وفوق التحدّيات الداخلية، وفي مقدّمها بناء كيان سياسي توافقي يشمل الجميع ويتفادى مخاطر الحرب الأهلية، هناك إسرائيل، والقوى الإقليمية والولايات المتحدة، والدول الأوروبية، وروسيا وغيرها، كلٌّ يفتح عيون استخباراته ويريد أن ينهش من سورية الجديدة ما أمكنه. وهناك أيضاً الأطراف الإقليمية التي أصبح عداؤها للإسلاميين مرضياً وسايكوباثياً، وعبّرت عن توتّر متزايد من وصول إسلاميين إلى سُدّة الحكم في دمشق، حتى لو اعتدل هؤلاء والتزموا بما يُرى أنه أقصى أشكال الاعتدال. والغريب في أمر هذه الأطراف الإقليمية العربية تحديداً (استطراداً جانياً) أنه في الوقت الذي تُعادي فيه الإسلام السياسي عداءً وجودياً، فإنها تقبل اليهودية السياسية بأقصى صيغها الأصولية والعنفية والاستئصالية، وتتعامل مع رموزها الحاكمة في إسرائيل، وتمدّ لها البساط الأحمر، علناً وسرّاً. وينطبق الأمر ذاته على سياسة هذه الأطراف ودبلوماسيتها مع أرباب الصهيونية المسيحية المتطرّفة من أميركيين وأوروبيين يجولون في العواصم العربية، التي يرونها جزءاً من إسرائيل التوراتية الموعودة من الربّ.

سورياً، ووسط المشهد المُدوّي بالتدخّلات من الجميع، والتآمر من بعض، أين تقع فلسطين والهمّ الفلسطيني؟… هناك مؤشّراتٌ متناقضةٌ يمكن قراءتها في أكثر من نحو، ومن المؤكّد أن سرعة تطوّر الأحداث في الأرض وسقوط النظام أحدثا وما يزالان ارتباكاً مفهوماً إزاء تحدّياتٍ وأسئلةٍ كثيرة. كاتب هذه السطور، ومن مربّع التأييد العارم للثورة السورية منذ انطلقت، والمعارضة الطويلة لنظام الأسد الذي حرّم عليه دخول سورية منذ عام 2000، يُقدّم هذه المُقاربة، وجوهرها ضرورة بقاء مواقف الحكم الجديد في دمشق وسياساته إزاء فلسطين في المساحة الرمادية، التي توفّر توازناً دقيقاً تفرضه ظروف سورية، فلا تنزلق هذه السياسات والمواقف نحو هذا الاتجاه أو ذاك. تتيح المساحة الرمادية التي يمكن الوقوف فيها مؤقّتاً عدم التورّط في إعلان حرب على إسرائيل، وعدم التورّط في أيّ مسار تطبيعي يدمّر صورة سورية الجديدة من البداية. تتحدّد هذه المساحة الرمادية التي توفّر منطقة أمان سياسي وأخلاقي للحكم الجديد، أولاً في أن إسرائيل دولة محتلة وعنصرية، تحتلّ الجولان السوري، واحتلّت أراضي سورية أخرى بعد سقوط النظام. لا يجوز بالمنطق السياسي والوطني في حدوده الدنيا أن يُطرَح أيّ تطبيع أو أيّ علاقة سلمية مع إسرائيل، وهي تحتل أرضاً سورية (فضلاً عن احتلالها فلسطين). ثانياً، الضغوط الأميركية والغربية كلّها على الحكم الجديد سوف تكون باتجاه ضمّ سورية الجديدة إلى معاهدات ما يُسمّى “السلام الإبراهيمي”، بأيّ شكل، حتى لو لم يكن تطبيعاً كاملاً. سوف تكون مقاومة هذه الضغوط أمراً عسيراً وتحدّياً لا يُستهان به، والسلاح الأهم في هذه المقاومة المطالبة بتحرير الأراضي السورية وعودة الجولان. لا يستطيع أيّ طرف دولي تجاوز حقيقة الاحتلال الصهيوني في الجولان، الذي ترفضه قرارات الشرعية الدولية. الحكم الجديد يمكنه الاحتماء بهذه القرارات، وصدّ الضغوط السياسية والدبلوماسية كلّها عليه مهما بلغت.

في الوقت نفسه، وفي الطرف الآخر، لا يتوقّع أحد أن يعلن الحكم الجديد الحرب على إسرائيل، وكلّ مُطالبةٍ للحكم الجديد بما لا طاقة له به غير محقّة، إن لم تكن مزايدةً تهدف إلى الإحراج ليس إلا.

فلسطينياً، يتفهم أغلب الفلسطينيين، الذين اكتوى كثيرون منهم بنار الطغيان الأسدي، الأولويات الضاغطة الحالية أمام أشقائهم السوريين، ولا أحد ينتظر مواقفَ حادّة في وقت تسيطر فيه الهشاشة على المشهد. وفضلاً عن كلّ شي، فإن أولوية بناء سورية وإعمار ما دمّره العهد البائد، وإعادة ملايين المهجّرين هي التي يجب أن تستحوذ على كل جهد، ويؤيّدها كلّ مُحبّ لسورية ولثورتها، التي أنهت حكم الطاغية. خطاب المماحكات التي تظهر بين الفينة والأخرى، ويطلب من الحكم الجديد إعلان الحرب على إسرائيل، ينطوي على سوء نيّة أكثر ممّا يعبّر عن حرص على فلسطين. شروط تحرير فلسطين على المدى البعيد أن تكون سورية ناهضة وقوية ويكون الشعب السوري حرّاً، وأن تكون مصر والأردن ولبنان، وكلّ البلدان العربية، قويةً ومتماسكةً وشعوبها أبية تتنفس كرامةً وحرّيةً بعيداً من الفساد والاستبداد والطغيان. الشعوب الحرّة والقوية والمكتفية تنهض لإسناد الحقّ، حتى لو كان في الواق الواق، فضلاً عن الجوار الأخوي والجغرافي. وكما أن الطغاة جسر للغزاة، فإن الأحرار سدٌّ في وجه الغزاة.

العربي الجديد

—————————-

سورية والعبور من الثورة إلى الدولة/ مالك ونوس

02 يناير 2025

يمكن القول إن إسقاط دكتاتورية الرئيس المخلوع بشّار الأسد ثمرة سيرورة تاريخية مرّت بها الثورة السورية التي انطلقت في مارس/آذار 2011، في سياق الربيع العربي الذي بدأ في تونس، وجال على بلدانٍ عربية عدّة، مسقطاً أنظمتها وآخرها النظام السوري. إلّا أن توقُّف الثورة في دولٍ مثل تونس ومصر والسودان عند جزئية إسقاط رأس النظام، وإنهاء الثوّار حالة الجاهزية لديهم وعودتهم إلى منازلهم، وكأنهم قد دخلوا حقبة التقاعد المُبكّر، كان بمثابة الضربة القاصمة للثورات في تلك البلدان، وهو ما سمح للثورة المضادّة أن تحتلّ المجال العام وتهدم ما حققته تلك الثورات وعجزت عن صيانته. من هنا يجدر التساؤل إن كانت الثورة السورية ستكتفي بخلع رأس النظام، والقضاء على منظومته الأمنية القمعية، أم ستستكمل مسيرتها التي لا يمكن أن تتوقّف إلا مع القضاء على منظومة الاستبداد والقمع والفساد والفوارق الطبقية والقهر والتفقير والإذلال، والتي كانت بمجملها المسبّب لاندلاع ما بات يعرف بثورة الكرامة؟

الدافع لهذا الكلام تصريحان صدرا من رئيس الحكومة الانتقالية محمد البشير، والقائد العام للإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع. صرّح البشير أن الاقتصاد السوري سيتحوّل اقتصاد السوق الحرّ بعد إنهاء نمط الاقتصاد الاشتراكي، الذي كان يتبنّاه نظام الأسد. أمّا تصريح الشرع قبل أيام فكان لافتاً حين قال: “نحن اليوم في مرحلة بناء الدولة، الثورة السورية انتهت مع سقوط النظام، ولن نسمح بتصديرها إلى أيّ مكان آخر، ولن تكون سورية منصّةً لمهاجمة أو إثارة قلق أيّ دولة عربية أو خليجية مهما كان”. وإذا ما بدأنا أولاً بتشريح مقولة الشرع، نجد أنه ربّما من المُبكّر الكلام عن انتهاء الثورة، خصوصاً أنها كانت تهدف إلى بناء دولة الكرامة والحرّية لشعبها، وهي تختلف بأجندتها عن الثورة الإيرانية، على سبيل المثال، التي أحدثت توتّرات وحروباً في المنطقة العربية، حين قرّر قادتها تصديرها إلى دول الجوار. إذ إن ثورةً استمرّت أكثر من 13 عاماً، لا يمكن وقفها أو إطفاء جذوتها بقرارٍ، في وقتٍ تحتاج فيه البلاد إلى استنفار الثورة والثوار وجميع مواطنيها، وبقائهم على أتم الاستعداد للدفاع عن مكتسبات ثورتهم في وجه فلول النظام المخلوع إن أطّلوا برؤوسهم. كما من الضروري استكمال مهمّات الثورة، التي من أجلها قامت وتواصلت منتصرةً على أعتى ثورة مضادّة عرفها التاريخ الحديث، وشارك فيها النظام المخلوع وحلفاؤه في روسيا وإيران ولبنان وغيرهم، وحين تُستكمَل هذه المهمات، عندها يمكن القول إن الثورة السورية قد انتهت.

بالنسبة لتصريح محمد البشير، عن اعتماد اقتصاد السوق الحرّ بدلاً من الاقتصاد الاشتراكي الذي كان يتبنّاه نظام الأسد، من الضروري الإقرار بأن نظام الأسد الأب لم يعتمد الاقتصاد الاشتراكي الذي يعني ملكية الشعب وسائل الإنتاج، بل كان يعتمد اقتصاد رأسمالية الدولة، وهو ما كان يمنع السوريين من التمتّع بثروات بلادهم، بل ركَّزها في يد حفنةٍ صغيرةٍ من عائلة النظام والمقرّبين والمحظيين، من ضبّاط ومسؤولين اتخذوا صفة التأبيد بمناصبهم. ومع وصول بشّار الأسد إلى السلطة سنة 2000، جرى اعتماد اقتصاد السوق الحرّ على يد الاقتصادي عبد الله الدردري مبّكراً، وذلك حين تسلَّم رئاسة تخطيط الدولة، واستكملها حين تسلَّم منصب نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية بين عامي 2006 و2011. يومها أجمع كثيرون على أن سياسات النظام التي خطّط لها الدردري كانت من الأسباب التي أدّت إلى اندلاع الثورة، بسبب رفع الدعم عن المزارعين، ما أدّى إلى تراجع الإنتاج الزراعي للبلاد، وتحوُّل مئات آلاف الفلاحين إلى عاطلين. كما انتهج سياسات تشجيع الاستيراد بدلاً من تشجيع الإنتاج المحلّي والاستثمار في البلاد، ما أدّى إلى تراجع الصناعات السورية وتراجع معدّلات النمو وازدياد المعدّل العام للبطالة، وتراجع معيشة نسبة كبيرة من السكّان، وتهالك الاقتصاد.

ومع انطلاق الثورة السورية سنة 2011، أقرَّ النظام دستوراً جديداً سنة 2012، أسقط منه كلمة الاشتراكية، وحلّ محلها القطاع الخاصّ شريكاً للقطاع العام. إلّا أن تغوُّل النظام وأدواته وسيطرتهم على مفاصل اقتصاد البلاد حوَّل اقتصادها إلى اقتصاد مافيوي، بدأت ملامحه الأولى مع سيطرة رامي مخلوف على اقتصاد البلاد بالنيابة عن بشّار منذ سنة 2000. ثم أتى خلع مخلوف ليتقاسم بشّار وزوجته وأخوه ماهر السيطرة على إمبراطوريته المالية، ثمّ تحوُّلت الطبقة الحاكمة إلى التوحُّش مع إيغالها في الدم السوري، وفرض الإتاوات على الصناعيين والتجّار والمهنيين، وإيصالها الشعب إلى درجة المجاعة.

إن تبني السلطة الجديدة اقتصاد السوق الحرّ، كما جاء على لسان البشير، خصوصاً في فترة الثلاثة الأشهر الأولى لإدارتها البلاد، وربّما الفترة التي تليها، وإمكانية توجّهها لخصخصة القطاع العام، الذي يُعدّ العمود الفقري لاقتصاد البلاد، هو بمثابة اعتماد هذه السلطة النهج الذي سيفقدها أحد عناصر قوتها، التي يمكن المحافظة عليها عبر إصلاح هذا القطاع الكبير واستغلاله بدلاً من خصخصته. ليس هذا فحسب، بل سيؤدّي هذا النهج إلى تسريح أعداد كبيرة من الموظفين، وبالتالي، تأسيس جيش من الناقمين يصبحون جنوداً في ثورة مضادّة تقدّمهم الحكومة إلى فلول النظام على طبق من ذهب ليحاربوا بهم السلطة الجديدة، أيّاً كان شكل تلك الحرب، باردةً أم مسلّحةً.

لذلك تأتي هذه التصريحات بينما تواجه البلاد تحدّيات داخلية وخارجية مصيرية، يفضّل معها الحذر من اتباع سياسات كانت سبباً في إفقار الشعب السوري واندلاع ثورته على الظلم والفقر والفساد. فالتحديات الداخلية التي تتمثل بمدى القدرة على رفع الظلم عن شرائح كبيرة من أبناء الشعب السوري، وكذلك بتحقيق العدالة الاجتماعية عبر سياسات اقتصادية واجتماعية تنتشل الغالبية العظمى من السوريين من الفقر المدقع، والبؤس الذي عانوه نتيجة عقود من التمييز والاستغلال والفساد، تُعدُّ من أخطر التحدّيات. وكذلك إعادة دوران عجلة الإنتاج عبر إعادة بناء مصانع الطاقة وتأمين المحروقات، والاستفادة من خبرات السوريين جميعاً في إعادة بناء البلاد واقتصادها.

أما التحدّيات الخارجية التي تقف في وجه الحكومة من أجل إعادة بناء الدولة، فهي استمرار العقوبات الغربية، والأميركية منها خصوصاً، والقيود المالية التي تشلّ الاقتصاد السوري، واشتراط رفعها بضمانات تقدّمها السلطة الجديدة، وأهمها العمل على تحقيق انتقال سياسي سلمي ومنع عودة تنظيم داعش وحماية الأقلّيات… كلّها ترتبط مع التحدّيات الداخلية وتستكملها. وإذا كانت سياسات الأسد العدوانية تجاه دول الجوار والمجازر التي لا تحصى، والتي ارتكبها بحقّ الشعب السوري قد أدّت إلى فرض عقوبات دولية كثيرة، فإنّ تحقيق مطالب الشعب السوري في الحرّية والمساواة والعيش الكريم تُعدّ عاملاً مساعداً في رفعها. وهي عقوباتٌ إذا لم تُرفَع أو يُرفَع جزء منها، خصوصاً القيود المالية وتقييد حرّية حركة رؤوس الأموال، ستكون كفيلةً بمنع إعادة بناء البلاد وإدخالها في نفق جديد من غموض المستقبل، وربّما عدم الاستقرار، وحتى الاحتجاجات والاضطرابات، حينها سيكون من الصعب العبور من الثورة إلى الدولة المنشودة.

———————————

طاغية الشّام: هل هو نسخة شائهة من “كاليغولا” كامو؟/ عمر شبانة

2 يناير 2025

“أنا أعيش يعني أنا أقتل، أمتلك عظَمة مدمِّر…

و”عندما لا أمارس القتل أشعر بالوحدة…،

و”عمري تسعة وعشرون عامًا…”.

(من مسرحيّة “كاليغولا” لألبير كامو)

“الطغيان ليس مجرّد سلوك، بل هو انعكاس لحالة ذاتية داخلية يعيشها الطاغية… فالاستبداد في حقيقة الأمر، يمثل نزعة داخلية لدى الفرد المستبد تدعوه للسيطرة والتفرد والاستحواذ والسطوة والتملك… وهي بالتالي عبارة عن مرض سيكولوجي طفولي، نشأ من خلال الحرمان النفسي والعاطفي، الذي يغذيه الحرمان الاجتماعي” (من مدوّنة الباحث في علم النفس، وما يخص الطاغية، الدكتور خضر عبّاس).

في البدء لا بد من التساؤل عن طبيعة الشخصيتين اللتين أعرض لهما، وهما الطاغيتان كاليغولا في مسرحيّة ألبير كامو، وطاغية الشام كما عرفناه طوال ربع قرن تقريبًا، والتشابه الشديد بينهما، ولو من خلال عبارات قليلة على لسان كاليغولا، حيث سيتبيّن لنا، وبسهولة، جوانب التشابه المتعلّقة بشخصية الطاغية عمومًا، وعلى مرّ العصور. وابتداءً، هناك سؤال يتعلّق بتصنيف شخصية الأسد (الابن)، وطبيعة نظامه، هل هو شخص سويّ من البشر؟ وإن كان ليس سويًّا، والغالب أنه ليس كائنًا مريضًا بمرض خطير يجعل منه “وحشًا” في مواجهة الشعب، ولكن لماذا هذه الوحشية التي رأينا بعض آثارها، بعد “الهروب الذليل”؟ أعتقد أننا في حاجة إلى فريق من جهابذة علماء النفس لتشريح هذه الشخصية!

أما النظام الحاكم، باسم الممانعة والمقاومة، فأعتقد أن تشخيصه يصعب على أيّ مفكر سياسيّ أو محلّل، فمثلًا يُقال إنه بعثيّ، ولكن عن أي بعثيّة نتحدّث بعد انقلاب الأب حافظ على رفاقه البعثيّين، على أثر انقلابه الشهير (1970)، وزجّ رفاقه في السجون لعشرات السنوات، بل إعدام بعضهم، والانقلاب على مبادئ الحزب. وإذا كان حافظ مارس السياسة والعسكريتاريا الأمنية، حتى قيل إنه “معاوية العصر- لدهائه”، ولكن من دون أن يقدّم لسورية سوى الخراب والفساد، فإن خليفته لا يملك من سمات الوالد سوى “الوحشية”، فضلًا عن كونه لم يكن مؤهّلًا أبدًا للحكم، بل هبط في لحظة صدفة ولغياب الوريث البديل… أما القول بأن الحكم هو حكم آل الأسد، فغير صحيح، فقد كانت العائلة مفككة، حيث الأخ (رفعت) يتآمر على أخيه، مثلًا. وليس نظامًا اشتراكيًّا ولا هو رأسمالي، فأيّ نظام هو؟ وكذلك الحكم باسم الطائفة العلوية، فهو ليس دقيقًا أبدًا، فقد استمعنا إلى شهادات من أبناء الطائفة يشكون فيها الظلم والاستبداد مثلهم مثل بقيّة الطوائف.

وبخصوص تصنيف النظام البائد، يقول الكاتب السوري ياسين الحاج صالح، وأراني أميل إلى تصنيفه، إن النظام السوري رجعية شديدة حمت نفسها بنوع من المظهر التحديثي، أو ما أسماه بـ”الفاشي بربطة عنق”، الذي يحوز شرعية بالنظام الدولي النيو ليبرالي وزمن محاربة الإرهاب خصوصًا… وهذا ما عوّل عليه النظام وربح من ورائه، فإذا كانت سورية دُمرت كل هذا التدمير فلأن هناك شرعية من النافذين على المستوى الدولي مُنحت للنظام، خصوصًا بعد صعود الإسلاميين…

مع كاليغولا… انطباعات أساسيّة

كلّ شخص هو سيرورة وكينونة، في ذاته ولِذاته، فهو يسير ويتشكّل ضمن سياق ما، قد يكون السياق صحيًّا أو مرَضيًّا. مسرحية ألبير كامو “كاليغولا” هي تشريح لشخصية الطاغية المريض والهشّ المحاط بمجموعة من المرضى بالنفاق والتخاذل والتذلّل لسيد لا يعرف ما يريد، بل يريد كلّ شيء، وكلّ ما يعرفه أنه سيد وبطل وملهَم، وكلّ من حوله تابعون يأمرهم فيستجيبون، بمن فيهم عشيقته. هنا قراءة في شخصية الطاغية بين الخيال المريض والوهم الجامح من العظَمة الذي يجعله يرى نفسه ليس أقل من إله، ولا أحد يفهم طموحاته وأحلامه الطائشة! وشخص هش وشديد الهشاشة هو من يمارس، بيديه أو بأوامره، هذا القدر من العنف. هو طاغية من نوع خاصّ مختلف بحقّ، ويمتلك روح الرومانسيّ الحال،”الباحث عن المستحيل” و”يريد امتلاك القمر”.

ربما لم يسبق لكاتب، بحسب علمي، تجسيد شخصية الدكتاتور الطاغية على هذا النحو الذي نجده في كاليغولا، هذه المسرحية التي تمزج العبثي بالسورياليّ والتراجيديّ الذي يظهر في شخصية “البطل”. ولعلّ الانطباع الأوّل الذي يلحظه قارئ هذه الشخصية، هو الخلل المتمثل في عشق كاليغولا لأخته- شقيقته دروزيلا ومعاملتها معاملة العشيقة (بل الزوجة) في الفراش، والصدمة الشديدة التي تسبب له به موتها، فيعود لعشيقته السابقة سيزونيا. هذا هو المظهر الأوّل للشخصية المهووسة بالقتل، قتل النبلاء والفلاسفة والأدباء المحيطين به. إنه يشعر بأن القتل أمر بلا قيمة، وأن الحياة بلا قيمة أيضًا. ليس لأن المحيطين به يخالفونه، على العكس هم مطيعون لدرجة الخنوع. يسلبهم أموالهم وممتلكاتهم وزوجاتهم، ويمنع الأب من توريث المال للأبناء… إلخ.

كاليغولا يشعر أنه ليس أقل من إله، يقول في بعض المشاهد والحوارات، ما معناه أنه فوق الإله “مَن هو هذا الإله كي أرغب في أن أتساوى معه؟ إنّ الذي أسعى إليه الآنَ، مستخدمًا كاملَ قُواي، هو أن أترفّع عن جميع الآلهة، إنّني أتولّى سلطة دولة عُظمى لا مردّ فيها لحكم المستحيل”. حاكم وطاغية مثل هذا، له هذه اللوثة من تحدّي الإله، كيف ستكون علاقته مع البشر، بفئاتهم كلّها؟ ليست أقلّ من الازدراء والاحتقار، كما يقول كاليغولا “إنه لا يراهم”.

العلاقة مع الثقافة والإبداع

في مشهد مسرحي هزليّ- عبثيّ يصنعه كاليغولا، ويعبّر عن هذا الموقف وهذه العلاقة، نقف على المسابقة الشعرية التي دعا إليها عددًا من الشعراء، وجعل موضوعها “الموت والزمن”، ووضع جائزة للفائز، وعقوبة لمن لا يفوز، وتكون النتيجة أن لا أحد من الشعراء فاز بالمسابقة، لأنْ لا أحد من الشعراء قارب الموضوع، فهو كاليغولا الذي يردد “إنّني الفنّان الأوحد على مدى تاريخ روما… وأنا الوحيد الذي تتطابق أفعاله مع أفكاره”. ويضيف “لا أحبّ الأدباء ولا أتحمّل إفكهم”.

طاغية الشام الذي ابتكر عبارة “الأسد أو نحرق البلد”، لم يكن أقلّ استهتارًا بالشعب وبالثقافة والمثقّفين، فمثلًا كل كاتب من الكتاب السوريّين والعرب يفكر بتقديم طلب للانتساب لاتّحاد الكتّاب السوري، عليه مراجعة الأجهزة الأمنيّة للموافقة على قبوله. ولا يستطيع رئيس الاتحاد ولا يجرؤ على التدخل، بل يعلن للكاتب ضرورة مراجعة الأمن… (حدث هذا معي وقت إقامتي في الشام (1996- 2000)، فقد وافق الاتحاد على قبولي عضوًا، لكن إحدى اللجان طلبت مني مراجعة فرع فلسطين، وحين اعترضتُ وأبلغت رئيس الاتحاد (ع. ع. ع)، أكّد لي أن هذا قانون، وإن لم تراجع لن تُقبل، وهو ما أكده كاتب فلسطيني سوري كان فاعلًا ونافذًأ في الاتحاد!). هذا فضلًا عن أن النظام أشاع “ثقافة” العبودية والتبعيّة والاستزلام وتوزيع “غنائم” بائسة على أتباعه من كتاب وصحافيين وفنّانين يكرّسون جهودهم لتمجيد الأسد وتبجيله في الصحافة والإعلام عمومًا.

هذه صورة من صور التسلّط والاستبداد، فهو كما يتبجّح في القول “سيّد الشعراء”، ومن كلماته “إن طريق الحياة وعرٌ وشاقّ بدون مساعدة الدين والفنّ والحبّ”، ويكرّر “يقع في ضلالة كلّ من كان سببًا في آلام الآخرين”. لكنه في فقرة تالية يمنع توريث الأبناء أية أموال، ويأمر بأن يرث الحاكم كل شيء. وفي جملة تالية يعلن “لا أحبّ الأدباء ولا أتحمّل إفكهم”، و”لا يوجد في إمبراطورية روما إنسان حرّ سواي. افرحوا فقد ظهر عندكم في نهاية المطاف إمبراطور سيلقّنكم دروسًا في الحريّة…”. و”الناس يثيرون اشمئزازي”، ويرى أنه يستطيع “تغيير نظام العالم”، وأن يجعل “الشمس تغرب في الشرق”، وأن “يتوقّف الناس عن الموت”.

ويبقى السؤال المنطقيّ الوجوديّ الأخلاقَ: ما الذي يجني هذا الطاغية أو ذاك، وهم درجات، من طُغيانه؟

ملحوظة أخيرة: أتوقّف الآن بدون الدخول في عمليّة خلع النظام، ومن خلعوه، فهي موضوع ربما يستحقّ وقفة أخرى.

ضفة ثالثة

————————-

الحدث السوري الكبير والتعلّم من تجارب الآخرين/ هاني عواد

02 يناير 2025

ثلاثة أحداث كبرى لا رابط بينها قادت إلى سقوط نظام الأسد. أولها مسيرة مقاومة الشعب السوريّ الطويلة داخل البلاد وخارجها، بما يشمل الثورة السلميّة التي قُمعت، والتمرّد المسلّح الذي شُتّت بتحويله إلى حربٍ أهليّة قبل أن يُخمَد، وجهود النشطاء السوريين في شتاتهم التي ساهمت في إطباقِ حصارٍ على النظام زعزع علاقته بقواعده بعد تطاوله على ما تبقّى في جيوبها. وتُضاف إلى ذلك مسيرةٌ موازية لا يجوز تجاهلها من مقاومة غالبية السوريين اليوميّة لا تبدأ من تهرّبهم من الخدمة العسكريّة، ولا تنتهي مع التحايل على قنوات الجباية الرسميّة التي نُظر إليها على أنها وسائل لنهب الناس. ثاني هذه الأحداث تبدّل أولويات الحليف الروسيّ بعد اندلاع الحرب في شرق أوروبا (2022)، الذي حرم النظام مزايا الهجوم الجويّ الذي كان قد أنقذه من حتمية السقوط عام 2015. وثالثها عملية طوفان الأقصى (2023) التي استغلّتها إسرائيل لاستهدافِ شبكة الحماية العسكريّة الإيرانيّة، بموازاة انتهازيّة النظام بنأيهِ بنفسه عنها. لقد أقنعت مسيرة المقاومة الطويلة على عثراتها وطُرق قمعها من لم يقتنع من السوريين بأنّهم ضحايا عصابةٍ سيطرت على مصائرهم، كما استسلم حلفاؤه بأنَّ حليفهم لم يكن سوى قشرةٍ رقيقة بلا عمق ولا قاعدة ولا مبدأ، وأنَّ كلفة إنقاذه أعلى كثيراً من كلفة انهياره.

أنشأ توالي هذه الأحداث الكبرى فراغ قوّة، شجّع تنظيماً أيديولوجيّاً مسلّحاً من هامش سورية، هو هيئة تحرير الشام، على المبادرةِ بهجومٍ أُريد له أن يكون محدوداً، قبل أن تصحو بعد أقلّ من أسبوعين في القصر الجمهوري في دمشق، في أعقابِ انهيارٍ متتابعٍ للجيش السوري فاقت سرعته انهيار نظيره الأفغاني وسقوط نظام الرئيس أشرف غني (2021)، بعد أشهرٍ من رفعِ الحماية الأميركيّة عنه عقب الاتفاق مع حركة طالبان.

لا تُعدّ هذه أوّل مرّة يؤدّي فيها توالي أحداث كُبرى غير مترابطة إلى نتائج غير متوقّعة لم يقصدها فاعلون إقليميون ودوليون، كذلك فإنّها ليست المرّة الأولى التي تصبّ فيها المصادفة لصالح فاعلٍ سبّاقٍ بالمبادرة، فالمصادفات ليست غريبة على التاريخ. والغرض من نفي استثنائية الحدث السوري الكبير هو التنبيه إلى خطورة تجاهل تجارب الآخرين وأهميّة التعلّم منها. ليست الحالة السورية انقلاباً عسكرياً يسعى بعده جنرالات لاستغلال رمزية الجيش باعتباره رمزاً لوحدة الأمّة، بل هي حركة مسلّحة استسلم الجيش أمامها. وليست “الهيئة” حركة تحريرٍ وطنيّ جماهيرية مسلّحة كجبهة التحرير الوطني الجزائرية، التي هزمت الاستعمار الفرنسيّ (1962)، ولا هي حركة جماهيريّة شبه مسلّحة يقودها زعيم كحالة الثورة الإسلامية الإيرانية بقيادة الخميني (1979). ومع أنَّ “الهيئة” تشترك مع “جبهة التحرير” بمركزية السلاح، ومع الثورة الإسلاميّة الإيرانيّة بمركزية الزعيم الذي يمثّله في حالة “الهيئة” أحمد الشرع، إلا أنّها ليست حركةً جماهيريّة، فهي لا تملك خطاباً أيديولوجياً مقبولاً داخلياً وخارجياً، بل هي تنظيمٌ مسلّحٌ ومتطرّفٌ استولى على السلطة، وحقّق شرعية لنجاحه فيما فشل فيه الآخرون.

تتبادر إلى الذهن حالة الخمير الحمر المتطرّفة في كمبوديا، بقيادة الزعيم الماويّ بول بوت، ببنيتها الأكثر تنظيماً وأيديولوجيّةً مقارنةً بالمجموعات الكمبودية النشطة في عصرها. وقد استغلّ التنظيم الماويّ المتطرّف الصراع السوفييتي – الصيني على جنوبيّ آسيا، والغضب الشعبي من القصف الأميركي الذي استهدف خطوط إمداد فيتنام الشماليّة شرق كمبوديا، للمباغتة بهجومٍ انطلاقاً من أرياف البلاد النائية استولى من خلاله على السلطة (1975). وبقية القصة معروفة، فقد أدّت لا عقلانية مشروعه الدمويّ، والتدخل العسكريّ الفيتنامي (1978-1979) إلى إسقاط نظامه عقب تورّطه بواحدة من أكثر مجازر الإبادة الجماعية ترويعاً في التاريخ الحديث.

لا زمان الخمير الحمر هو زمان هيئة تحرير الشام، ولا تملك الأخيرة حلفاء من نوع الصين الماويّة، كذلك فإنّ سورية ليست كمبوديا، ولكنَّ ذلك لا يمنع من تعلّم الدرس. تجد الحركة الأيديولوجية المسلّحة نفسها بعد سيطرتها على الحكم أمام خيارين: التمسّك بمشروعها الأيديولوجيّ وانفرادها بالحكم قلقاً من تهديد تماسكها الداخليّ، أو تعديل خطابها وتشكيل ائتلاف واسعٍ يصعب فهمه داخلياً وخارجياً بأنّه مجرد مجموعة من الدمى.

وبينما يُعتبر الخيار الأوّل في الحالة السورية “كمبودياً”، أي وصفةً للحرب الأهلية والتدخل الخارجي، يبدو الخيار الثاني أكثر واقعيةً وعقلانيّة، لكنّه يتطلّب مواجهة احتمالات الانشقاق الداخليّة ومخاطر الفوضى المترتبّة عنها، أو الغياب “المفاجئ” للشرع؛ الشخصية التوافقية التي لا تجتمع حولها الحركة المسلّحة فحسب، بل تخطو خطواتٍ ثابتة نحو استبدال مركزية “القائد” في الثقافة السياسية السورية، على أمل ألا يكون كسلفه “خالداً”. كذلك يتطلّب آلية لتعريف “الائتلاف الواسع” في بلدٍ عاش نصف قرنٍ بلا تقاليد مشاركةٍ سياسيّة، ودُفن مجتمعه السياسيّ في مقابر جماعيّة، وفشلت “معارضاته” المنفيّة الأكثر اعتدالاً بالتوحّد في معارضةٍ موحدة.

ثمّة ما يدعو إلى التفاؤل بأن المجموعة الحاكمة الجديدة تسعى للخيار الثاني، لا بسبب طمأناتها وانضباط مقاتليها، التي لا ضمانة لاستمرارها من دون مسار عدالةٍ انتقاليّة ومن دون دعمٍ دوليّ وإقليميّ، بل بسبب لا واقعية الخيار الأوّل. ولا تقتصر اللاواقعية على حاجة السلطة الجديدة إلى تجنيد الدعم الدولي لرفع العقوبات، وإعادة الإعمار، وترميم الاقتصاد، ولمّ شمل نصف الشعب المشرّد، كذلك لا تنحصر بقلّة مقاتلي الحركات المسلّحة المختلفة والشكّ باحترافيتها، بل يتعلّق الأمر أيضاً بدولةٍ بنصف مليون موظف يسعى حُكّام سورية الجدد لإقناعهم بالعودة إلى مواقعهم، وبمؤشّراتٍ على تطييف نظام الأسد مناصبها القيادية على امتداد بيروقراطيتها.

تعلّمنا تجارب الآخرين أنَّ قلّةً قليلةً من تجارب الانتقال إلى أنظمةٍ جديدة نجحت من دون الاعتماد على إرث الأنظمة القديمة وممارساتها. وقد حاولت الدول الغربيّة المنتصرة في الحرب العالميّة الثانية الاستغناء عن الموظّفين النازيين في إدارة ألمانيا الغربية، قبل أن تتراجع عن ذلك سريعاً لأسبابٍ عملية. وفي غالبية جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، حكم رؤساء الجمهوريات الجدد اعتماداً على الشبكات نفسها التي حُكم عبرها في المرحلة الشيوعية قبل إعادة هيكلتها تدريجياً، بينما انتهى أولئك الذين قرّروا إقصاءها، إمّا إلى الفشل فوراً والسقوط وعودة القديم، كحالة أوّل رؤساء أذربيجان بعد استقلالها، أبو الفضل إلجي بيك الذي سلّم مقاليد السلطة لحاكمها الفعليّ السابق في المرحلة الشيوعيّة حيدر عالييف (1993)، وإمّا إلى الحرب الأهلية كحالة علي رحمان الذي تورّط في حربٍ أهليّة (1994-1997) بمئة ألف ضحيّة قبل أن يعود إلى التوافق مع المنظمات التي قاتلها، وإمّا إلى الحرب الخارجية، والحالة الأوكرانية لا تزال ماثلةً أمامنا.

عاجلًا أو آجلًا، ستدرك السلطة الجديدة السورية أنّها تحكم نظاماً كانت تقاتله، وسيتعيّن عليها التعامل مع تركةٍ ثقيلةٍ من الممارسات السياسيّة المتراكمة التي حُكمَ عبرها المجتمع السوريّ لعقود، لا تبدأ مع مركزية “القائد الخالد” ولا تنتهي مع سياسات التطييف، ولا السرقة والإذلال والتعذيب. ويخدع نفسه ذلك الذي يعتقد بسهولة شطب تلك الممارسات بين ليلةٍ وضحاها، وواهمٌ من يظنّ بسرعةِ صناعة ممارساتٍ سياسيّةٍ بديلة.

العربي الجديد

——————————

سيكولوجية القهر السوري/ براء الجمعة

تحديث 02 كانون الثاني 2025

في الواقع السوري الحالي، نلاحظ الانقسام والجبهات المستعرة على صفحات وجداريات التنافر الاجتماعي، يبدو أن كل طرف يسعى لإظهار نفسه في أبهى صورة أخلاقية مثالية، متقمصاً دور المدافع عن الفضيلة والحق. في هذا المناخ الملبد بالتصريحات والمجادلات، تصبح الفضيلة أداة للتباهي وليس لتحقيق التغيير الفعلي. تجد الجميع يتنافسون في إظهار معايير أخلاقية نبيلة، بينما تغيب الأفعال التي تتماشى مع هذه الأقوال. بين الردود السريعة والتعليقات الحادة، تختلط النوايا، ويسيطر الظهور على الجوهر، ما يجعلنا نواجه الحقيقة المرّة: إننا نعيش في زمن أصبحت فيه الفضيلة مجرد وسيلة للاستهلاك الاجتماعي، أكثر منها دعوة حقيقية للتغيير في مواقع التغيير العملية.

حسب الباحث السلوكي جيفري ميللر في كتابه «انتحال الفضيلة» (Virtue Signaling)، هناك خيط رفيع يفصل بين ادعاء الفضيلة الصادق وانتحال الفضيلة المنافق. عندما تتناقض الفضائل التي يدعيها شخص ما مع أفعاله الحقيقية وسلوكه في الخفاء، تصبح هذه الفضيلة مجرد «إشارة» فارغة تهدف إلى تحسين صورته أمام الآخرين، دون أن تعكس الحقيقة. كما يعرّف المفكر العربي علي الوردي هذا السلوك بـ»الشيزوفرينيا الثقافية» ـ حيث يظل الفرد محافظاً على صورة أخلاقية أمام المجتمع وفي الوقت نفسه يمارس أفعالاً مناقضة لما يدعيه، وإذا تم توجيه اللوم له أو تم تذكيره بتناقضاته، ينكر الحقيقة ويدافع عن صورته المزيفة.

في هذا السياق، يمكننا ملاحظة ظاهرة الكبت النفسي السياسي، كإحدى سمات المجتمع السوري المقهور، هذا الكبت، المتراكم على مدى عقود من القمع والاستبداد، يجعل من الأفراد أكثر عرضة للتناقض بين ما يعلنونه وما يمارسونه. فالاستبداد لا يقمع فقط الحقوق والحريات، بل يخلق أيضاً حالة من الانفصال النفسي داخل الإنسان السوري، حيث يصبح مضطراً لارتداء أقنعة متعددة ليتمكن من التعايش مع واقع ملوث بالخوف والاضطهاد.

هذا القمع الطويل الأمد أدى إلى ترسيخ ما يمكن وصفه بسيكولوجية «الشخصية المقهورة»، حيث يتبنى الأفراد سلوكيات دفاعية للتأقلم مع البيئة القمعية. من بين هذه السلوكيات نجد التردد في التعبير عن الآراء بحرية، الخوف من المواجهة، وفي كثير من الأحيان الميل إلى تصديق الشائعات ونشرها كوسيلة للتنفيس عن الإحباط. هذه السلوكيات ليست سوى انعكاس لحالة قهر داخلي تجعل الإنسان عاجزاً عن التفكير النقدي وممارسة حرية الاختيار بوعي.

تظهر هذه السمات بوضوح في سلوكيات المجتمع السوري اليوم، خاصة مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي كمنصة للتعبير. فعلى الرغم من الفرصة التي توفرها هذه الوسائل للخروج من قفص الصمت، إلا أنها أحياناً تصبح ساحة لإعادة إنتاج القمع بأسلوب مختلف، حيث يتبارى الأفراد والجماعات في فرض معايير فضيلة زائفة على الآخرين، ويمارسون نوعاً جديداً من الاستبداد الرقمي.

قد نرى كيف تُستغل الفضيلة على مواقع التواصل الاجتماعي لتحقيق مكاسب شخصية أو سياسية، بينما تكون أفعال البعض في الواقع عكس ما يتظاهرون به. هذا التناقض ليس مجرد حالة فردية، بل أصبح يشكل جزءاً من المشهد الاجتماعي الذي يعزز الانقسامات، ويسهم في تعميق الهوة بين ما يُقال وما يُفعل. في ظل هذا الواقع، تصبح الحاجة إلى وعي جمعي بمفهوم الفضيلة الحقيقية أمراً ملحاً.

إن الفضيلة الحقيقية ليست في ما نعلنه أو في ما نصرح به علناً، بل هي في الأفعال الصادقة التي نمارسها بعيداً عن الأضواء، في تلك اللحظات التي لا نكون فيها تحت الأنظار. الفضيلة تكمن في التزامنا بالقيم حتى عندما لا يكون هناك من يشهد على ذلك، وهي لا تتحقق من خلال الكلمات المنمقة، أو الاستعراضات الأخلاقية، بل في الأفعال اليومية التي تُعبّر عن حقيقتنا بعيداً عن المظاهر، خاصة مع من يخالفنا. فما نفعله في الخفاء هو ما يحدد مصداقيتنا، ويبني مجتمعا قائماً على قيم حقيقية مثل الثقة والصدق والألفة والتراحم، بدلًا من مجتمع يُلهي نفسه بإشارات الفضيلة الفارغة والطهرانية المزعومة والتراشق غير مجد.

لكن كيف يمكن للمجتمع السوري أن يكسر دائرة القهر النفسي والسياسي، التي تحكم قبضتها عليه؟ الإجابة تكمن في إعادة تشكيل بنية الثقافة المجتمعية، على أسس جديدة ترتكز على الصدق مع الذات قبل الآخرين. هذه الثقافة ينبغي أن تفتح المجال أمام الأفراد للتعبير الحر عن ذواتهم، دون رهبة من العقاب أو الوصم، ما يتيح لهم الانعتاق من قيد الكبت المتوارث، واستعادة قدرتهم على التفكير النقدي واتخاذ الخيارات الواعية.

إن الوصول إلى هذه الثقافة يستدعي تحولاً جذرياً يبدأ بإعادة صياغة نظم التعليم بحيث تصبح أداة لتحرير العقول، بدلاً من تكريس الخضوع. كما يتطلب إعلاماً مسؤولاً يكرس الحقيقة بدلاً من التلاعب بالمشاعر والحقائق، ومؤسسات اجتماعية تعمل على تعزيز الأمان النفسي بدلًا من تكريس الانقسام والريبة. إلى جانب ذلك، تبرز أهمية مسؤولية الأفراد أنفسهم في قيادة هذا التحول من الداخل، عبر مواجهة تناقضاتهم بشجاعة وممارسة النقد الذاتي الذي يعيد تعريف علاقتهم بذواتهم والمجتمع.

إن التحرر من الكبت النفسي والسياسي ليس مجرد عملية تغيير سطحية، بل رحلة عميقة تتطلب مواجهة الذات والواقع بكل صراحتهما. البداية تكمن في الاعتراف بجراح الماضي دون تزييف أو إنكار، لأن الاعتراف هو أول خطوة في رحلة التعافي الجمعي. إن المجتمعات التي تتجاوز قهرها ليست تلك التي تخفي عيوبها تحت ستار شعارات زائفة، بل تلك التي تقبل أخطاءها بوعي وتعمل على إصلاحها بروح من التواضع والمثابرة.

ما يحتاجه السوريون اليوم ليس مجرد رؤية، بل رؤية مبنية على شجاعة المواجهة وصدق الالتزام. رؤية تتجاوز الأوهام والانقسامات، وتستند إلى قيم أصيلة تُعيد بناء النسيج الاجتماعي على أساس من الثقة المتبادلة، والاحترام المتبادل، والعمل المشترك نحو مستقبل يليق بتضحياتهم وآمالهم. في عمق هذا المشهد، يكمن الأمل في أن يكون التحرر من القهر النفسي والسياسي بداية لنهضة أعمق، تُعيد تشكيل الهوية الجماعية بما يتجاوز القيود والآلام.

كاتب سوري/ مختص في الصحة النفسية

القدس العربي

——————————–

من سوريا إلى بلاد الأحرار/ توران قشلاقجي

تحديث 02 كانون الثاني 2025

نتمنى أن يكون العام الجديد بداية لمرحلة ينتهي فيها الظلم وتسود الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية، خاصة للذين يعيشون تحت وطأة وظلم الطغاة والديكتاتوريات في العالم الإسلامي وللإنسانية جمعاء، تماما مثلما جرى مع الشعب السوري مؤخرا، أملا بمستقبل يتعزز فيه التضامن والأخوة ويعم السلام والهدوء العالم كله.

بالطبع، سوف تبذل بعض الدول جهودا لتقويض فرحة السوريين بالحرية، ولكن الشعب السوري تعلم وأدرك قيمة الحرية، وكيف يقدم التضحيات لحمايتها؛ فهذه المكاسب التي تحققت في النضال من أجل الحرية لن تضيع بسهولة بعد الآن. يعيش الشعب السوري اليوم فرحة عارمة بنيل الحرية وحق الحياة بكرامة بعد سنوات طويلة من القمع والتعذيب والظلم، على يد النظام الجائر في سوريا. وكما هو الحال في البلاد الخيالية التي يتحدث عنها المفكر والسياسي التركي الشهير أحمد آغا أوغلو في كتابه «في بلاد الأحرار»، الذي كتبه كمنظّر للحزب الجمهوري الحر في عام 1930، خلال محاولة تركيا الأولى للانتقال إلى النظام البرلماني متعدد الأحزاب، فإننا اليوم نتعلم مرة أخرى، أن الحرية ليست مجرد مكسب عادي، بل هي ثمرة نضال وتضحيات عظيمة. لم تقتصر مقاومة الشعب السوري في نضاله من أجل الحرية على النظام الجائر فقط، بل إنه قاوم في الوقت نفسه الأكاذيب والضغوط، والسجون والمخابرات وانعدام الأمل.

يحكي الكتاب قصة بطل عاش لفترة طويلة تحت وطأة نظام قمعي، جعله يفقد ثقته بنفسه وقدراته الفكرية، ثم سافر ذات يوم إلى «بلاد الأحرار»، وهي بلاد خيالية. يقول أحمد آغا أوغلو في كتابه: «كم هو صعب نيل الحرية»، مؤكدا مدى صعوبة الحرية الفردية والاجتماعية، لكنه يشير في الوقت نفسه، إلى أهميتها الكبيرة. ويشكل هذا الكتاب دليلا يسلط الضوء على آلام الشعب السوري، وآماله، وعودته إلى الحياة مع نيل حريته. لا شك في أن سقوط نظام الأسد، يكشف أن الشعب السوري عاش حياة أدنى حتى من حياة الأعشاب لسنوات طويلة، لكنه اليوم نال الحرية واستعاد القيم الحقيقية للإنسان. لقد تعلم الشعب السوري، تحت حكم النظام الجائر، مدى قيمة وأهمية الحرية، ربما بأثقل الأثمان. فالحرية ليست مجرد حق، بل هي حجر الزاوية في الحقيقة والعدالة والكرامة الإنسانية. واليوم، يبني الشعب السوري مستقبلا يحل فيه الصدق والشجاعة والعدالة والتضامن محل النظام القائم على الكذب والنفاق والقمع والخوف، كما هو موضح في «بلاد الأحرار». لم يكن هذا النضال ضد النظام وحده، بل كان أيضا من أجل استعادة ثقة الناس ببعضهم بعضا، واستعادة التضامن بين أفراد المجتمع. لأن المجتمع الذي تختفي فيه الثقة والتضامن بين الأفراد، يتحول إلى مجتمع يمكن للظالمين أن يحكموه بسهولة، وهو ما يؤكد عليه الكتاب، وعلى الرغم من هذه التحديات، فإن الشعب السوري يعيد كتابة مستقبله من خلال تحطيم جدران القمع، ودفع الأثمان، وتمجيد الحرية. من المعروف أن نظام الأسد المجرم مزق النسيج الاجتماعي في سوريا ولم يقتصر على قمع الشعب السوري، فقد دمر مشاعر التضامن من خلال زعزعة ثقة الناس ببعضهم بعضا، وجرهم إلى العزلة والفقر واليأس. لكن اليوم، وبفضل الحرية، يشرع الشعب السوري في بناء علاقات جديدة تعتمد على روح التضامن. وكما يرد في «بلاد الأحرار»، فإن بناء مجتمع حر يتطلب التحرك وفقا لمبادئ الاستحقاق، والنزاهة، والعدالة. وسوف يتشكل مستقبل سوريا من خلال اختيار الشعب لحكامه على أساس الاستحقاق، وإقامة نظام يعتمد على إرادة الشعب. وبينما يناقش الكتاب بعمق العلاقة بين الحرية والإنسانية، فإنه يعلم القارئ أن الحرية ليست مجرد حق، بل إنها مسؤولية فردية واجتماعية أيضا، وأنه من الضروري الكفاح وتقديم التضحيات من أجلها.

ومثلما حدث مع بطل الرواية، فإن الشعب السوري لم يفهم تماما مدى أهمية وقيمة نعمة الحرية إلا بعد أن نالها. والكلمات التالية في كتاب أحمد آغا أوغلو، تعكس بشكل أفضل مشاعر الشعب السوري اليوم: «أدركت أن حياتي قبل أن آتي إلى هذه البلاد كانت أدنى من حياة العشب، لأن العشب ينبت وينمو ويموت وفقا لقوانين الطبيعة. أما أنا، فقد كنت أسيرا للعديد من القوى خارج هذه القوانين. كانت العبودية في الفكر والمشاعر والحركة هي قدري أنا. كان هناك شخص آخر يفكر، ويشعر ويعيش. أما أنا، فلم أكن أنا. كنت ظله، وخياله، وشبحه! باختصار؛ أنا لم أكن موجودا، بل كنت أسطورة. والآن، أدركت أنني أصبحت عاشقا لملاك الحرية!».

في العام الجديد الذي نحتفل فيه بحرية الشعب السوري، نتمنى أن تنتهي ظلمات القمع في كل أنحاء العالم، وأن يبدأ عصر من الحرية، والعدالة، والأخوة. ونأمل أن يكون النور الذي يشع من ملاك الحرية مرشدا لكل الإنسانية.

كاتب تركي

القدس العربي

—————————-

فلسطين وسورية ولبنان… الأقدار المُتقطِّعة/ دلال البزري

02 يناير 2025

إنه المشرق العربي. فلسطينيون وسوريون ولبنانيون يتقاسمون المصير نفسه، والاختلاط نفسه، ولكن بتعرّجات وموجات وأمزجة مختلفة، وتأثيرات متدحرجة. سورية الآن في أحلى حالاتها. هرب مجرمها الأكبر، وها هي تحتفل يومياً بعودة أبنائها إليها. لبنان خارجٌ من حربٍ مع إسرائيل قضت على حزبه المهيمن، حليف بشّار الأسد وداعمه الأساس. لبنان المرهق، يترقّب رئيساً جديداً، وخرق إسرائيلي يومي للنار يؤرّقه، ويطيل عذابات النازحين والفاقدين بيوتهم ورزقهم. فلسطين.. لا تسأل، ولا تسأل أيضاً الرأي العام، الغربي والشرقي، عن الفظائع التي يتعرّض لها أهلها يومياً، من دون كلَل في غزّة والضفة الغربية، وربّما في داخل إسرائيل نفسها. هل ضجر هذا الرأي من ذكر يوميات نكبتهم الثانية؟ أم أُحبِط؟ أَخرس، يئس، سُجِن أو قُتِل؟

ما يجمعهم أن قصصهم متداخلة، الواحدة منها تقرّر مجرى الثانية، ويردّ هذا الثاني بما حُمِّل من هذا المجرى الجديد. لا تجمعهم الجغرافيا وحسب، إنّما العائلات والقبائل وإسرائيل والتنقّل. تنقّل اللاجئين الفلسطينيين في سورية ولبنان أو اللاجئين السوريين في لبنان. ثلاثتهم عاشوا الخطر الأمني، بتواريخ أحياناً متقاربة، وأخرى متباعدة. ثلاثتهم معرّضون للتقسيم كلٌ بطريقته، وبوحداتٍ مختلفةٍ عن بعضها، أي أن التقسيم الفلسطيني بين السلطة و”حماس” يختلف عن التقسيم اللبناني بين الطوائف والمذاهب، أو السوري بين قوميات، وربّما مذاهب أيضاً، فحربٌ أهليةٌ، باردة أو ساخنة، هي واحدةٌ من الآفاق المطروحة على ثلاثتهم، وإنْ بدرجاتٍ متفاوتة. الثلاثة أيضاً تحت الاحتلال الإسرائيلي. الأقدم هي فلسطين، الأوسع بأراضيها المُبتلَعة منذ أكثر من ثلاثة أرباع قرن، والمحفوظ من هذه الأراضي مُهدّد باستيطان متوحّش. تليها الأراضي السورية. احتلال هضبة الجولان، كان نعمة على حافظ الأسد، إذ قبض من بعده على رئاسة سورية. ولكنّها الآن لديها احتلال إسرائيلي إضافي في هذا الجنوب نفسه، منه جبل الشيخ، أعلى قمم جبالها. ولبنان، الذي تحرّر جنوبه منذ 24 عاماً، عادت إسرائيل واحتلت جزءاً منه. وفي جميع الحالات، تريد إسرائيل بناء “جدار أمني”، الكلمة السرّية لـ”المجال الحيوي”، أيّ التوسّع بالاستيلاء على الأراضي. كانت إيران الفاعل الرئيس في البلدان الثلاثة بقرارات الحاكمين لهذه البلدان، في فلسطين عبر “حماس”، وفي لبنان عبر حزب الله، وفي سورية عبر بشّار الأسد. كان ذلك في فلسطين ولبنان بذريعة “مقاومة” إسرائيل. وفي سورية لحماية كرسّي بشّار الأسد، لكونها “الظهر” الحامي للأولين.

لم يقاوم “البعث” الحاكم إسرائيل منذ هزيمة حزيران (1967)، ولم يسمح إلّا بالمليشيات التي يؤويها، فتحميه. وقبل أن تفتك إسرائيل بالفلسطينيين وترتكب المجزرة تلو الأخرى، يقتل بشّار الأسد أكثر من مليون سوري، ويهجّر الملايين، ويدمّر قرى بأكملها، يتساوى خرابها مع ذاك الذي أصاب غزّة. فيما إيران التي كانت تمتشق سيفها ضدّ إسرائيل، تستعدّ للردّ على ضرباتها الأخيرة لمنشآتها النووية بالصواريخ البالستية، وتطلق التهديدات النارية، ها هي تنسى إسرائيل، وتنقضّ على حكّام سورية الجدد الذين طردوها. لم يعد همّها محاربة الإمبريالية والصهيونية، إنّما النظام الجديد الآخذ بالتبلور في سورية. كأنّ سورية كشفت عن وجه إيران الصادق.

أيضاً، اختلاف يتّضح يوماً بعد آخر، الأميركيون، الذين يدعمون الفظائع الإسرائيلية في غزّة، يسهّلون مهام حاكم سورية الجديد “الواعد”، ويرأسون لجنةً تُعنى بوقف النار في جنوب لبنان، هم أنفسهم الأميركيون الداعمون لـ”الدولة” اللبنانية، من أجل تثبيت وقف النار وانتخاب رئيس. فيما تأتي وفود منهم إلى سورية لتنصح زعيمها الجديد بترتيبات الديموقراطية والحوكمة والمرأة وإسرائيل… إلخ. مع تعديل سوري بسيط أن الأتراك في سورية يُشعِرون إسرائيل بأنها تنافسهم عليها، فيتدخّل الأميركي لـ”تلطيف الأجواء”. ولا مرّة بدت القضية الفلسطينية في هذا الحال المُفارِق. لبنان وسورية منحاها أفضل وأسوأ ما عندهما، لكونها شغلهما، كلٌ بطريقته. لبنان، كان يدّعي الدوران في فلكها، وسورية تملأ صفحاتها بنصرتها، وفروع مخابراتها بمُعذَّبيها. كانت فلسطين قضية عربية أيام عزّها، وعادت إلى حدود فلسطينيتها. إسرائيل تتوحّش بكل ما أوتيت من شرّ، والغزّيون يحتضرون جوعاً وبرداً وموتاً، ومن حولهم لبنان المنكوب، وسورية التي لا تسعها فرحتها.

نشأت هذه البلدان الثلاثة بحدود وضعها الفرنسيون والبريطانيون (سايكس بيكو) منذ أكثر من قرن. فرّقتها، ولم تلغِ أشياء كثيرة توحّدها؛ التداخل بين خرائطها، العائلات والقبائل الواحدة، التنقّل فيما بينهما لجوءً أو نزوحاً، أو اضطهاد متبادل، وتقاتُل بالسلاح… وربّما أمور أخرى لم نلتقطها. هذا كلّه جعل مصيرها واحداً ومتقطّعاً في آن. ومن ثقوب هذا التفرّق، وُلِدَت اللادولة وترعرعت. غابت الدولة عنها، أو هي غابت. لا دولة في أيّ من هذه البلدان. منذ نشأتها حكمها الاستبداد والفوضى والمليشيات، وجلست فوق بركان لا تنضب حممه.

قد لا تتساوى هذه البلدان في قدرتها على رسم خريطة طريق نحو الدولة العتيدة، أو تتناغم، أو تتصارع. وقد تكون الدولة عنوانها من دون مضمونها، أو شبه دولة، أو دولة ناقصة السيادة والحرّية. ولمن أراد التفاؤل، دولة مهما كان شكلها.

العربي الجديد

—————————

مصر المتأخّرة عن المشهد السوري/ عمر سمير

02 يناير 2025

بعيد سقوط نظام عائلة الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، سقوطاً سريعاً ومفاجئاً في 11 يوماً، توَّج صراعاً امتدّ أكثر من 14 عاماً، ويمدّه بعضهم ليشمل خمسة عقود من حكم آل الأسد، ارتبكت دول عربية عديدة، وبالذات في ذلك المحور العربي الذي حاول تعويم نظام الأسد بكلّ ما أوتي من وسائل، سواء باستقباله في جامعة الدول العربية، أو بدعمه سياسياً بالمكايدة في أنظمة إقليمية وفي معارضته وفصائلها في الداخل. لكن سرعان ما رتّبت عديد من هذه البلدان مواقفها وغيّرتها من النقيض إلى النقيض، فسارعت إلى التواصل مع الإدارة السورية الجديدة، بينما ترقّبت مجموعة أخرى، وإن دعت إلى اجتماع بشأن سورية خارجها (مع الأسف!)، وكان من هؤلاء المتردّدين المترقّبين مصر. وبطبيعة الحالة، انتشرت “مكلمة” مصرية بشأن الموقف المصري، بعضها يبرّر الصمت والتأخّر المصري عن التواصل مع الإدارة الجديدة بتبريرات فاشلة، قائلين: لماذا نتواصل مع تنظيمات إرهابية، ومن يحتاج لمن؟ فيما حرّض إعلام السامسونغ على لسان من يفترض أنه ليبرالي، مثل إبراهيم عيسى، على عدم الاعتراف بالسلطات الجديدة، بل واستغلال وجود بعض أفراد عائلة قائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع بمصر وابتزازه بهم.

وبينما يفترض لمصر في وضع طبيعي أن تكون أوّل المنخرطين في الشأن السوري، فإنها على مدار العشرة أعوام الماضية أبدت انعزالاً واضحاً عن الشأن السوري، واختزلته في مقولة رئاسية للتحذير من المصير السوري الذي ينتظر مصر الدولة والجيش والمجتمع، حال الانخراط في أيّ احتجاجات شعبية تهدف إلى إسقاط النظام أو رأسه في مصر، انخرط بعضهم في تضخيم مصر ودورها، وانطلق آخرون في حملة شرسة على التيارات الإسلامية برمّتها، وعلى هيئة تحرير الشام، والفصائل السورية، والإدارة السورية الجديدة، وتركيا، مُحمَّلين بشحنات عاطفية شعبوية تاريخية ومعاصرة. ويحمل النظام في مصر، كما تحمل بعض النخب المدنية المصرية والعوام، تصوّراً شديد الاختزالية، مفاده التعميم الكبير والخطير باعتبار كلّ حراك في المنطقة العربية، سلمي أو عسكري، هو امتداد للحركات الإسلامية، مع افتراض مركزية واسعة للحركة الإسلامية المصرية، وفي مقدمتها التيّار الذي تمثّله جماعة الإخوان المسلمين، التي يصفها النظام في مصر بالإرهابية، وصفاً أعاق أيّ مسارات سياسية قد تقود إلى الإصلاح في مصر طوال العقد الماضي، مع ممارسات قمعية مقصودة لتحويل بعض أفراد الجماعة ومجموعات محدودة منشقّة منها إلى العنف، الذي هو استثناء في فكر الجماعة وأدبياتها، كما تشير إليه أغلب الدراسات الغربية والعربية الموضوعية وشبه الموضوعية حتى. المشكلة أن هذه الرؤية لا ترى (ولا تريد أن ترى) التنوّع الكبير إلى حدّ التناقض بين الحركات الإسلامية، فترى “ولاية سيناء” أو “القاعدة” أو “داعش” امتداداً للإخوان المسلمين في تسطيح شديد، يُستخدَم إعلامياً وصحافياً وسياسياً على نطاق واسع وشعبوي ضارّ بالسياسة وبالدولة وبالنظام نفسه، رغم جهود عشرات الباحثين والخبراء، حتى الأمنيين منهم، لدراسة وتحليل الأفكار السياسية المختلفة لهذه الحركات الإسلامية، التي كفّر بعضها الرئيس محمد مرسي، وهو في الحكم، وعانى نظامه منها ربّما أكثر من النظام الحالي.

عندما تُجرّ السياسة الداخلية القائمة على شيطنة تيار الإسلام السياسي في نسخته الأكثر تسامحاً مع السياسة والمجتمع، إلى ساحة السياسة الخارجية، نرى مصر تابعاً لمحور إقليمي للثورات المضادّة تشكل منذ 2011، موجه باتجاه محاولات لاجتثاث هذا التيار، والنتيجة الفعلية لهذه السياسة تجلّت في صعود تيارات أكثر تشدّداً، سواء “داعش” أو غيرها، في العراق وسورية ومصر وليبيا، والتعامل معها جميعاً أفرعاً لجماعة الإخوان المسلمين أو بناتها الأيديولوجيين، قاد إلى خلل شديد في السياسة الخارجية المصرية.

رأينا فداحة الخسائر الإقليمية لمصر في أقرب الملفّات الواقعة في أفنيتها الخلفية، فقد أدّى هذا التعنّت والعناد الأيديولوجي إلى تعقيد الموقف في ليبيا، وفقدان أيّ دور حقيقي في إرساء أيّ حلول، وصعود اتجاه عام ضدّ مصر والمصريين في غالبية مدن الغرب الليبي، نتيجة الدعم السياسي والعسكري لخليفة حفتر، قائد الانقلاب، والمحاولات الفاشلة للاستيلاء على السلطة، التي انتهت بتدمير جزء مهمّ من المباني، ومئات الآلاف من الوحدات السكنية والبنية التحتية، في العاصمة الليبية، وتركت غصّةً لا تُنسى في قلوب أصحاب هذه البيوت المهدّمة تجاه حفتر وداعميه، وخسرت مصر من ذلك، ليس هيبتها دولةً فقط، بل عشرات المليارات من الدولارات، التي كان يفترض أن تحوّل في عشر سنوات بتكلفة الفرصة البديلة حال استقرار ليبيا، وذلك بعودة مئات الآلاف من المصريين هناك، وإذلال عشرات الآلاف منهم في مشاهد مصوّرة مؤلمة. ورأينا أيضاً كيف أذلّت قوات محمد حمدان دقلو (حميدتي) المليشياوية، جنود قاعدة مروي المصرية، ومحدودية الدور المصري هناك، مقارنةً بأدوار أخرى.

بينما يبرّر بعضهم الموقف المتأخّر من الأحداث في سورية، قبل اتصال هاتفي بين وزيري الخارجية مساء الثلاثاء، حدّ الذهاب إلى عدم الحاجة إلى سورية، التي يصفونها بالساقطة تحت حكم المجموعات الإرهابية، وكثيرون من هؤلاء قادمون من خلفية ناصرية، ويتناسون أن مصر ليس لديها جيش أوّل، لأن المفترض أن جيشها الأول في الشام، هكذا كانت الرؤية حتى وصلت إلى حدّ الوحدة الناصرية القصيرة، التي لم تكن إلا تتويجاً لمسارات ومحاولات تاريخية مختلفة للوحدة، وإثبات إمكانيتها، لكنّها باءت بالفشل نتيجة التعصّب والصراع الأيديولوجي الحادّ والمقيت، بين الفكر البعثي والناصري، مع الفساد والاستبداد وحكم الفرد. من حقّ النظام المصري أن يخاف ويرتبك من مصير الأسد، ومن حقّ مؤيديه أن يبالغوا في وصف مصر باعتبارها ليست سورية، لكن من حقّ مصر الدولة أن تكون موجودة وفاعلة في السياسة الإقليمية، وأن تكون حاضرة بقوة في أيّ ملفّات في حدودها الشمالية الشرقية، في الشام بمفهومه الواسع. وهذه حقيقة جيوسياسية تتجاوز الأنظمة، وتجاوزتها سابقاً، ويعتبرها بعضهم حتميةً تاريخيةً.

وبطبيعة الحال، هناك عشرات المصالح المشتركة مع سورية، بغضّ النظر عمّن يحكمها، سواء ما يتعلّق بالاستقرار في شرق المتوسط وأمن الطاقة، أو بالعلاقات العربية الإسرائيلية وبالتوترات الحاصلة فيها، أو حتى بالتبادل التجاري الاقتصادي، الذي ينبغي أن يعاد إلى مستويات أفضل كثيراً ممّا كان عليه قبل الثورة السورية، أو البحث عن دور فعّال في عمليات إعادة الإعمار. وفي أقلّ تقدير، فإن مصر، حتى وإن عادت التيارات الإسلامية المسيطرة على الحكم في سورية، فليس من الحكمة أن تعلن موقفاً كهذا في هذه اللحظات الانتقالية، بل عليها أن تثبت حضورها، سواء ضمن حضور إقليمي عربي (هو الأضعف في سورية للأسف!) أو ضمن تنافس مع قوى إقليمية، لطالما تُرِكَت لها الساحة، ثمّ ندب دعاة الانعزالية المصرية حظّهم بصعود أدوارها، مثلما هو الحال مع تركيا وإيران.

ومن غير المعقول أن إيران وروسيا اللتين أنفقتا واستثمرتا عشرات المليارات من الدولارات لتثبيت حكم الأسد كانتا من أوائل البلدان الباحثة عن تواصل مع الإدارة السورية الجديدة، فيما تبقى مصر التي لم تدعم النظام إلّا كلامياً في صفوف المتفرّجين والمتردّدين، ويطلق إعلامها حملةً إعلاميةً شرسةً ضدّ الإدارة الجديدة، تضر بمصالح البلدَين، وتصعّب مهمة التواصل الذي سيحدث لا محالة، الذي نتمنّى ألّا يتأخّر أو يُختزَل في قضايا هامشية، مثل تسليم مصريين، أو كلام عام عن محاربة الإرهاب، وإنّما عن دور مرتقب في إعادة بناء الدولة ومؤسّساتها والإعمار، والحفاظ على وحدة الأراضي السورية، وتثبيت الموقف العربي من الجولان أرضاً محتلّة.

العربي الجديد

————————–

«قيصر» وضحايا التعذيب في سوريا/ د. جبريل العبيدي

2 يناير 2025 م

المعاناة الإنسانية في سوريا ما بعد الأسد، عند الأسر التي لا تزال تجهل مصير أبنائها وذويها، خصوصاً بعدما أفرغت السجون من السجناء، لا يزال مصير الكثيرين منهم مجهولاً وبعضهم من أسر كاملة بأطفالها، الأمر الذي يؤكد بشاعة نظام الأسد في التفنن في أساليب التعذيب والقمع والسحق لمعارضيه.

اعتقالات تعسفية وجرائم حرب كشفها وفضحها «قيصر»، وهو مصور عسكري منشق عن النظام، في عام 2014 كشف عن عشرات الآلاف من الصور، وثَّق فيها جثث معتقلين مشوهة، تم تعذيبهم وقتلهم في سجون الأسد الهارب إلى روسيا الذي سيبقى ملاحقاً شعبياً وإنسانياً ومجتمعياً قبل أ ن يلاحق قانونياً كونه المسؤول الأول عن هذه المأساة الكارثية، التي كشفت عن صفحاتها سجون أكثر من 100 مركز علني وعدد غير معروف من المراكز السرية، ومنها تدمر وصيدنايا والفروع الاستخباراتية والتي كانت لها سجونها الخاصة، حيث جميعها تمارس الإعدام الميداني للسجناء والسحل والموت بالخازوق، من دون أدنى درجات التقاضي والمحاكمة، وبحسب منظمة «هيومن رايتس ووتش»، تمتعت أجهزة الأسد الأمنية باعتقال الناس من دون إذن قانوني ولا حتى محاكمة حيث يتم التنكيل بهم، ومارست بحق المساجين أعمال عنف وإذلال وقهر تنوعت بين الجسدي والمعنوي، حيث كان يعتدى على المعتقلين جنسياً أيضاً، بل واغتصاب ذويهم وبناتهم وزوجاتهم أمامهم وإجبارهم على مشاهدة ما يحدث، بل وفي شهادة مساجين كان يجبر الأبناء على سحل وجر آبائهم على أرض خشنة حتى الموت.

«قيصر» المصور المنشق عن نظام الأسد وثَّق وفاة أكثر من سبعة آلاف معتقل في سجون الأسد، قبل أن يهرب من براثن هذا النظام، مما يعني أن الرقم أكبر بكثير من الذي وثَّقه المصور المنشق، فوحشية نظام الأسد الفاسد، لم يتصور أحد حجمها إلا بعد سقوطه الهش في بضعة أيام، وكنا نحسبه يصمد شهوراً وسنوات يقاتل، بينما ظهرت حقيقته أنه مجرد «أسد من ورق» سرعان ما فر هارباً تاركاً حتى ملابسه الداخلية وصوراً شخصية له ولعائلته لا تليق به أن يتركها للعبث بها من قبل من اقتحم قصره في غيابه، ونشرها على وسائل التواصل تظهر الأسد وعائلته في مشاهد غير لائقة، مما يؤكد أنه خرج هارباً على عجل، حيث لم يسعفه الوقت في التخلص من مخلفاته الخاصة التي يخجل من رؤيتها من لديه مروءة ونخوة.

الأسد الهارب، أعتقل نظامه أكثر من 5 آلاف طفل وما يزيد على 10 آلاف امرأة، من دون أدنى درجة من الرحمة والعطف الإنساني، بل مارس الوحشية والقمع تجاه هؤلاء الأطفال والنساء، ولعل حكاية الطفل حمزة الخطيب، الذي غُطي جسده بحروق أعقاب السجائر وقُطعت أعضاؤه التناسلية لأنه رفض طلب سجانيه السجود لصورة الأسد، بل قام بالتبول عليها، فكانت نهايته مأساوية على يد «شبيحة» النظام.

ورغم التنديد الدولي، حيث علقت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون على واقعة تعذيب الطفل الخطيب، قائلة: «لا يسعني القول سوى أرجو ألا يكون موته عبثياً». ولكن نظام الأسد استمر في ممارسة التعذيب بوحشية أكثر وكدَّس السجناء في سجون تفتقر لأبسط مقوّمات حقوق الإنسان، حيث كان يجبر السجناء على أكل الطعام الذي يتبول فيه السجانون وكان يوضع الطعام للسجناء في الإناء نفسه، الذي يستخدم للتغوط، في معاملة قاسية ووحشية.

تعوّد نظام الأسد الهارب على الجرائم منذ مجزرة حماة عام 1982 في عهد الأسد الأب، حيث ضرب مدينة حماة بالطائرات وهدم البيوت على رؤوس معارضيه وقتلهم مع أطفالهم وذويهم، في حين كان يمكنه القبض على من كان يطاردهم، ولكن نظام الأسد الأب فضل القمع بوحشية وقتل أكثر من عشرين ألف مدني لمجرد البحث عن بضع عشرات من معارضيه مختبئين في مدينة حماة، وحتى الطيار الوطني الذي رفض أوامر القصف قضى في سجون آل الأسد أكثر من أربعين عاماً سجيناً.

جرائم الأسد الهارب دفعت مجلسَ الشيوخ الأميركي إلى إقرار قانون في منتصف ديسمبر (كانون الأول) 2019 سُمِّي القانون باسمِ قيصر نسبةً لمصور منشق عن نظام الأسد سرّب معلومات وصوراً لضحايا «تعذيب» في سوريا بين عامي 2011 و2014 سبق له أن وثَّقها.

«قانون قيصر» فرض عقوبات على الكيانات التي تتعامل مع الحكومة السورية ووكالاتها العسكرية والاستخبارية، وطالبت «هيومن رايتس ووتش» بالتحقيق في تقرير قيصر ثمَّ أصدرت تقريراً إضافياً بعنوان «إذا كان الموتى يستطيعون الكلام» في تعبير بليغ عن جرائم الأسد حيث عرضت صوراً تثبت بشاعة الجرائم وشبهتها بالهولوكوست.

الأسد هرب، ونظامه سقط وزال ولكن جرائمه تنتظر العدالة الانتقالية ومن حق السوريين وضحايا نظام الأسد ملاحقته ونظامه وأركان حكمه ومن شاركه في جرائمه عبر القضاء وتحقيق العدالة الانتقالية للضحايا وجبر الضرر، ومن دون ذلك ستكون سوريا في حالة ثأر دائم قد لا ينتهي.

الشرق الأوسط»

———————————–

الصراع على سوريا… وفيها/ إبراهيم حميدي

الدول العربية الرئيسية بادرت الى دعم العهد الجديد

آخر تحديث 02 يناير 2025

بشار الأسد صار من الماضي. عائلة الأسد في محكمة التاريخ. الوحشية لا توقف مساره. التاريخ يثبت أحكامه. الشعب يقهر ولا يُقهر. السقوط هو النهاية الحتمية لأي ديكتاتور. سقط النظام وبقيت سوريا. هدية ثمينة يحملها السوريون من نهاية 2024 إلى بداية 2025.

طوت سوريا 54 سنة من تاريخها. بعد 14 سنة من الثبات، يفتح السوريون صفحة جديدة. فر بشار الأسد إلى موسكو ودخل رئيس “هيئة تحرير الشام” أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) إلى دمشق. أسابيع مرت على فرار الأسد وسقوط منظومته بعد 11 يوما هزت سوريا والإقليم، لكنها تبدو للسوريين كأنها دهر. آلام مشاهد السجون والزنازين و”المسلخ البشري” في صيدنايا، ثقيلة. نزول الملايين إلى الساحات للاحتفال بـ”جمعة النصر”، احتفالي.

انتهت “جمهورية الكبتاغون”. الآن، بإمكان السوريين التفرغ إلى طرح الأسئلة الكبرى ومعالجة التحديات الكبيرة وما أكثرها، خصوصا تلك التي تركتها المنظومة. ولعل المعادلة الأساسية هي ما قاله أحمد الشرع، قائد العمليات، من أن الثورة السورية انتصرت، لكن لا يجب أن تُقاد سوريا بعقلية الثورة، بل بعقلية الدولة. المعادلة الثانية هي استعادة السوريين لقرارهم واستعادة سوريا سيادتها، في وقت يحتدم فيه الصراع الدولي والإقليمي على دمشق وتتغير المعادلات الإقليمية.

اخترنا في “المجلة” أن تكون قصة الغلاف لشهر يناير/كانون الثاني 2025، بعنوان: “الصراع على سوريا”. العنوان مستوحى من الكتاب الأول للكاتب البريطاني الراحل باتريك سيل. لخص فيه كيف كانت ساحة لصراع النفوذ العربي والأجنبي. ثم كتب كتابا ثانيا مدح فيه حافظ الأسد، بعنوان: “الأسد: الصراع على الشرق الأوسط”.

انتهت هاتان الحقبتان. تحولت سوريا من لاعب إلى ملعب. تقسمت إلى “ثلاث دويلات” وأقامت فيها وفي أجوائها جيوش خمس دول: أميركا في شمال شرقي البلاد، روسيا وإيران في وسطها وغربها، وتركيا في الشمال، إضافة إلى إسرائيل التي واصلت غاراتها. وكان واضحا من تصريحات الشرع رفضه تقسيم سوريا.

تدخل سوريا حاليا مرحلة جديدة، حيث يحتدم الصراع عليها وفيها. ونعالج هذا الملف من جميع جوانبه بأقلام خبراء وصحافيين.

إيران وميليشياتها خسرت استراتيجياً في سوريا وفي لبنان، ما أدى إلى انهيار “محور الممانعة”، لكنها تحاول التمكن في العراق. روسيا خسرت في سوريا بفرار بشار الأسد ونقله إلى موسكو، لكنها تبحث عن مستقبل قاعدتيها العسكريتين، في طرطوس واللاذقية، اللتين كانتا تاجاً لنفوذها في الشرق الأوسط بعد التدخل العسكري المباشر في 2015.

تركيا الرابح الأكبر إلى الآن بسبب العلاقة التحالفية مع الحكم الجديد. استمرت العلاقة منذ 2011، وكانت داعما لانتصار “هيئة تحرير الشام” والفصائل في حلب وحماة وحمص ودمشق. ومن أبرز التعبيرات على ذلك أن وفدا أمنيا وسياسيا تركياً زار دمشق في منتصف ديسمبر/كانون الأول، فكان أول وفد أجنبي يزورها منذ سقوط الأسد وتسلم الشرع. كما وعدت تركيا بتقديم الدعم العسكري اللازم.

الدول العربية الرئيسية بادرت الى دعم العهد الجديد. خطوة طبيعية على اعتبار ان العمق الطبيعي لسوريا هو في الخليج والعالم العربي، وهذا ضمانة لاستقرارها وبنائها.

أما الوجود الأميركي في شمال شرقي سوريا، فإنه يدخل مرحلة جديدة لثلاثة أسباب: الأول، اتفاق إدارة بايدن وبغداد على الانسحاب من العراق على مرحلتين بدءا من سبتمبر/أيلول 2025. الثاني، تسلم دونالد ترمب، وهو لا يؤمن بالوجود العسكري والتدخل الخارجي. الثالث، حكم سوري جديد يرفض هذا الوجود والدعم العسكري الذي يقدمه لقوى عسكرية كردية غير سورية مقيمة في البلاد.

هناك إسرائيل. لم تتوقف عن ملاحقة المواقع الإيرانية و”حزب الله” في السنوات الأخيرة، بل إن الوثائق التي تكشفت بعد سقوط الأسد، تدل على وجود تنسيق بينه وبين تل أبيب. وكان لافتا أنه بمجرد تغيير النظام، بادرت إسرائيل إلى سلسلة من الإجراءات العسكرية: دمرت كل الأصول الاستراتيجية العسكرية، مثل الصواريخ والطائرات والقوات البحرية ومراكز الأبحاث. واحتلت المنطقة العازلة في الجولان بموجب اتفاق “فك الاشتباك” لعام 1974. واحتلت مواقع رقابة في قمة جبل الشيخ تطل على دمشق، ووصل الجيش الإسرائيلي إلى تخوم العاصمة السورية.

أمام هذا المشهد يبدو وجود الفصائل المسلحة أمراً مهماً. لا شك أن “هيئة تحرير الشام” وحلفاءها انتصرا في المعركة. وشاركت معهما في ذلك فصائل قدمت من الجنوب إلى دمشق. وهناك أيضا “قوات سوريا الديمقراطية” الكردية-العربية في شمال شرقي البلاد. وهناك “فلول النظام” وتنظيماته في الساحل. وبدا أن “إدارة العمليات” وضعت في أولوياتها حل الفصائل وتأسيس جيش جديد للبلاد، بمواكبة دبلوماسية، من خلال تسمية وزيرين للدفاع والخارجية في الحكومة المؤقتة.

في سوريا الآن. يتداخل الخارج والداخل، تتناحر الجيوش الأجنبية والفصائل المحلية، ويتنافس الرابحون والخاسرون. وصفة مقلقة لصراع في سوريا وعليها. معركة الحكم السورية المقبلة، هي استعادة القرار والسيادة وسط معارك محتدمة ومنع التقسيم وحياكة الجغرافيا السورية من جديد.

المجلة

——————————

حكاية أخرى عن “بلاد الشطرنج”/ رستم محمود

خلال لحظات قليلة ظهر النظام السوري عاريا من كل شيء

آخر تحديث 02 يناير 2025

ما اختفى فجأة في اليوم الأخير من عمر النظام السوري السابق، لم يكن رأسه الحاكم، بشار الأسد، فحسب، بل معه ومثله كامل المؤسسات والأجهزة والمواثيق والأعراف التي تمثل كيانية “الدولة السورية” نفسها، منذ أكثر من قرن وحتى الآن، ولغير صدفة كانت المرة الأولى التي يحدث فيها هذا الأمر منذ التأسيس.

خلال سيرتها الطويلة هذه، شهدت البلاد السورية وقائع جذرية لا تُعد، كان النظام السياسي في كل واحدة منها ينهار تماما، لكن الهيكلة الدولتية لسوريا تبقى صامدة وصحية وحيوية وعلى رأس عملها، متأقلمة بالتقادم مع النظام السياسي الجديد. إذ شهدت سوريا في سنواتها الأولى مثلا انتدابا فرنسيا وانقلابات عسكرية متتالية، ومن بعدها وحدة اندماجية مع دولة أخرى، وعقبها حرب إقليمية طاحنة، وطوال هذه المدة جرت تغييرات جذرية في الدساتير والخيارات السياسية والرمزية والاقتصادية للسلطات الحاكمة، لكن الدولة بعضدها الجوهري بقيت موجودة، وإن تعرضت لتغيرات تالية بعد واحدة وأخرى من تلك الأحدث.

لكن لم يجرِ أن انهار الجيش أو غادر القضاة مكاتبهم، أو تصرف الحاكمون الجُدد دون دستور، أو خلت المخافر من أفراد الشرطة، أو نُهب البنك المركزي، أو فر عشرات الآلاف من أعضاء النظام الحاكم، أو غُيّر العلم الوطني دون قانون، خلال أي من تلك التحولات.

في الواقعة الأخيرة، حدث ما باين كل ما سبق، لم يختفِ الأسد وحده، ولا حتى المنظومة الأمنية والسلطوية المحيطة به فحسب، بل تلاشى كل شيء وتفصيلٍ يتعلق بالدولة السورية، جيشها وشرطتها وجهازها القضائي وحرس حدودها ودستورها ونظامها العام وسلطتها الرمزية والمادية والتوازنات والأعراف التي كانت بين تلك السلطة والمجتمع السوري.

ليس في ذلك مجرد سؤال عادي وعابر، بل تفكيك وكشف طويل لبنية المؤسسة وهيكلية الدولة ومعانيها في ظل النظام الشمولي. ففي اللحظة التي اختفى فيها رأس الحكم، تبددت الدولة السورية، وكأنها رقائق ثلج تسقط في ماء يغلي. ظهر جليا أن “الأجهزة البوليسية” والنظام الحديدي والاستراتيجية الممانعة والحكومة المركزية والجيش العقائدي والأيديولوجيا المقاومة كلها مجرد أدوات وظيفية، لا قيمة ولا معنى لها في ذاتها، لا هوية ولا فاعلية مستقلة دون طاقة السلطة ورأسها الحاكم تحديدا، فهي حسبما ظهرت مجرد أدوات بيد “سلطة عارية”، مصيرها وجدواها وهويتها نابعة من تلك السلطة، لا تعريف ولا شكل ولا وجود لها في ذاتها، دون تلك السلطة.

يُعيد الحدث السوري للأذهان حقيقتين متراكبتين عن الأنظمة الشمولية: فهي أولا أنظمة مضادة ومناهضة للدولة، بما تعنيه من مؤسسة مستقلة وذاتية البناء، ومواثيق تأسيسية وضابطة لعلاقة السلطة بالمجتمع والعكس، وأجهزة خدمية حرفية ومتساوية المسافة من مختلف المواطنين، ونوعية من العلاقات السليمة بين كل تلك الجهات، لا تستطيع أي واحدة منها تجيير الأخريات منهم حسب مزاجها ومصالحها.

وبحقيقة معكوسة، فإن الدولة بذلك المعنى مناهضة للشمولية واستمرارها بشكل جذري، وهذه الأخيرة تعمل طوال عمرها على خلق أشكال خُلبية ومزيفة منها، تكون فعليا أدواتها هي، أي السلطة، وليس دولة حسب تعاريفها وحقائقها الحديثة.

أما الحقيقة الثانية، فهي هشاشة النظام الشمولي، التي يستميت في سبيل إخفائها. فخلال لحظات قليلة مثلا، ظهر النظام السوري عاريا من كل شيء، من المؤيدين والجيش الذي بناه طوال عقود والمجموعات المسلحة الرديفة والتغطية الإقليمية والزبائن الاقتصاديين والنُخب الملتفة حول مركز قراره. فالنظام السوري ظهر وكأنه دون مؤيدين حقيقيين، حتى أكثر المقربين والدائرين في فلكه، تبين أنهم كانوا إما يوالون السلطة، خشية أو منفعة، وإما يسيرون مصالحهم فحسب، لكن دوما دون أي ارتباط روحي أو ولاء أيديولوجي أو إصرار سياسي عليه.

بهذا المعنى، تكشف تجربة النظام السوري الأخيرة، والتي كانت مُشيدة على 61 عاما من الشمولية المطلقة، كيف أن الشمولية لا تؤسس إلا بلدانا على شاكلة رُقعة الشطرنج، ينهار فيها كل شيء لحظة سقوط رأس هرم السلطة، تتفتت المؤسسات وتتحطم المعاني والعلاقات والروابط، يتبرأ الجميع مما كانوا عليه، تجري قطيعة سريعة مع الماضي، لكن دون أن يكون للمستقبل أي أفق، لأن اللعبة التي تكون قد انتهت مع تصفية أعلى هرم السلطة، مثلما في لعبة الشطرنج، لا تكون قد أعادت البلاد إلى نقطة الصفر، بل إلى ما دون ذلك بكثير.

متعددة هي الأمثلة التي مرت في تاريخنا الحديث خلال السنوات الماضية، التي أثبتت كل واحدة منها كيف أن استمرار الدولة بعد تغير الأنظمة مرتبط عكسا مع المستوى الشمولي للنظام الحاكم. فالنظام الليبي كان أبلغ شمولية من نظيره التونسي، لذلك انهارت الدولة الليبية بعد سقوط القذافي واستمرت الدولة التونسية بعد “بن علي”، ولو نسبيا. ومصر كانت قائمة على نظام شبه شمولي في عهد الرئيس مبارك، وحين ترك سدة الحُكم، لم يمس الدولة المصرية إلا قليل الضرر، وهكذا فيما خص سوريا والعراق والسودان واليمن وغيرها. حيث في كل واحدة منها تظهر السلطات الشمولية وكأنها “تسوّس” مستدام في هيكل الدولة. 

المجلة

—————————-

أعزائي في الائتلاف.. “دستور من خاطركم”/ محمد صبرا

2025.01.02

وأخيراً عاد الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة “سابقاً، وهيئة التفاوض السورية “سابقاً”، إلى أرض الوطن، لكنهم لم يعودوا من ساحة الأمويين التي يحتشد فيها السوريون احتفالاً بسقوط نظام المجرم الهارب، ولم يعودوا من نبض الشارع السوري، ولم يعودوا من باب شرقي أو باب توما وباب الجابية والباب الصغير، بل عادوا من باب بعثة الاتحاد الأوروبي في دمشق، ليكون أول ظهورهم وهم يهبطون درج مقر البعثة، مصحوبين بالقائم بأعمال هذه البعثة السفير ميخائيل أونماخت، وبكثير من الابتسامات والفخر الذي لا يخفى على أعين الناظرين، وبعيداً عن هذه الصورة الرمزية التي تختزل مسيرة ائتلافٍ، قام على إدارة ظهره للسوريين، وفتح يديه وقلبه وآذانه وعقله للسفراء، أقله في السنوات السبعة الأخيرة ، فإن ما يهمنا في هذا الصدد هو لماذا عادوا، وبماذا يفكرون، وهل سيبقون على رهانهم القائل، بأن الحل في سوريا هو في يد سفراء وقناصل الدول، وأن خارجيات الدول هي التي ستفرض توازنات المعادلة السياسية في البلاد، وأنها هي من ستمنحهم أدواراً تنسجم مع تطلعاتهم وطموحاتهم الشخصية..؟!

للأسف لا أملك إجابة على هذه الأسئلة التي دارت في ذهني وأنا أشاهد صورتهم على درج مقر البعثة الأوروبية في دمشق، لكني وكما قلت سابقاً في أكثر من لقاء أن يوم 8/ديسمبر لم يشهد سقوط نظام المجرم الهارب فحسب، بل شهد في حقيقة الأمر سقوط المعارضة أيضاً، فهذا اليوم شهد بداية ولادة سوريا جديدة يختلف فيها السياق السياسي عن سابقه، فنحن الآن لسنا أمام حالة انتقال سياسي، تتطلب وجود نظام ومعارضة، بل إننا أمام لحظة ولادة أمة وشعب ودولة، ومهمتنا الآن أن نبدأ بعملية بناء اجتماعنا السياسي السوري، وأن نحدد شكل هذا الاجتماع والعقد المؤسس له، أي الدستور، وهذا البناء لا يمكن أن يتم إلا عبر ممثلين حقيقيين للسوريين، يعبرون عن شبكة التوازنات والتفاهمات والمصالح المجتمعية المختلفة، وقد آلمني كثيراً، التصريح الذي أدلى به السيد هادي البحرة لمحطة العربية في 31/كانون الأول، عندما قال إن الدستور لا يحتاج لأكثر من ستة أشهر لكتابته لأننا لن نبدأ من الصفر على حد قوله، وأنه “لدينا عشرات الوثائق والفصول الجاهزة، ومشاريع الدساتير”، هذا التصريح الصادر عن رئيس الائتلاف الوطني لدورتين، والرئيس المتمترس في اللجنة الدستورية لأكثر من خمسة أعوام، دفعني لكثير من القلق والشفقة، القلق على مستقبل البلاد، والشفقة على حلم مشروع بناء الدولة التي ضحى السوريون بمهج القلوب وبماء العيون وبملايين الشهداء والجرحى والمهجرين والمعذبين في السجون، فأن يصدر مثل هذا الكلام عن الرئيس المتمترس في اللجنة الدستورية التي أسستها روسيا في مؤتمر سوتشي عام 2018، هو دليل على الخفة والاستخفاف بموضوع الدستور، بل ربما تكون تعبيراً عن عدم إدراك حقيقي وشامل لمفهوم الدستور بحد ذاته، فرئيس اللجنة الدستورية خلط بين الوثائق التي أنتجتها ” ورش العمل الكثيرة” وذلك حسب قول السيد البحرة نفسه، وبين الدستور، وأي مبتدئ في القانون أو علم السياسة يعلم أن الدستور هو مجموعة التفاهمات المجتمعية التي تحكم المصالح المختلفة في المجتمع، والتي تحدد طبيعة الاجتماع السياسي لشعب ما، وأن هذه التفاهمات هي التي يتم صياغتها لاحقاً بشكل مكتوب أو أن تبقى غير مكتوبة، كما هو الحال في بريطانيا مثلاً التي لا يوجد فيها وثيقة مكتوبة، لكنها تملك دستوراً عرفياً متفقاً عليه، وعندما يقول السيد البحرة أنه لدينا فصول جاهزة من الدستور، يثور السؤال، ما هي التفاهمات المجتمعية التي تعبر عنها هذه الفصول، وكيف تم التوصل لها، وهل يكفي عقد ورشة عمل -أو ورش عمل- من متدربين لنقول أنها تمثل المصالح الحقيقية للسوريين.

إن اختزال الدستور إلى عملية تقنية خالصة، خالية من كل دلالة مجتمعية، يتجاوز مفهوم الخطأ ليصل إلى حدود الخطيئة، وللأسف الكثير من الآراء التي أسمعها، تعبر عن هذا الفهم المغلوط، حتى أن الإدارة العسكرية الانتقالية الحاكمة حالياً في سوريا، تتحدث بمنطق شبيه بهذا المنطق، عندما يقول قائد هذه الإدارة السيد أحمد الشرع من أن هناك لجان قانونية متخصصة ستضع دستور البلاد.

إن وضع دستور البلاد، يختلف عن صياغة الدستور، فوضع الدستور هو مهمة الأمة التي يمثلها هيئة تأسيسية يتم انتخابها سواء بالانتخاب الشعبي المفتوح أو بالانتخاب المقيد، وهذه الهيئة التأسيسية يجب أن تعمل وفق التفاهمات التي يتوصل لها مؤتمر الحوار الوطني، الذي يجب أن يضم الممثلين الحقيقيين عن شبكة المصالح والتوازنات السياسية والاقتصادية والمجتمعية السورية، وعملية البدء بوضع الدستور وهو القانون الأسمى في البلاد، والذي سيحكم كل القوانين الأخرى، تبدأ بتحديد الحاجات التي يجب تلبيتها، والمصالح التي يجب حمايتها وضمانها قانوناً، فالخطوة الأولى هي حصر هذه الحاجات والمصالح ومن ثم تقييمها بشكل عام لمعرفة ما يجب الاعتراف به كقيمة أساسية في المجتمع، ورسم حدود فاعلية هذه الحاجات والمصالح، بالنسبة للمصالح الأخرى.

فالدستور يجب أن يكون التعبير الأصدق عن جوهر العلاقات في المجتمع المنظم سياسياً، وكتابة الدستور لا تكون عبر انتقاء النص الأجمل أو العابرات البراقة، أو تجميع النصوص من مدارس فقهية وقانونية مختلفة، لأن أي مجتمع يرتكز في اجتماعه السياسي على مجموعة من العناصر الأخلاقية والفلسفية والمادية، ويعرف نفسه وفقا لهذه العناصر، فالمجتمع الأمريكي مثلاً يضع أساس اجتماعه السياسي هو الحرية الاقتصادية، وبالتالي فإن الدستور الأمريكي ومجموعة القوانين الأمريكية، تجعل من حرية الإرادة البشرية هي القيمة الأسمى الأولى بالحماية، ومنها تنبثق كل المنظومات القانونية الأخرى، بينما المجتمع الفرنسي مثلاً يضع فكرة السيادة الشعبية أو سيادة الأمة والتي تتجلى في الدولة، كقيمة أعلى وبالتالي فإن الدستور الفرنسي ومجموعة القوانين تأتي تلبية لحماية هذه القيمة والتي تنبثق عنها كل القيم الأخرى، وبعيداً عن الإغراق في الشروحات القانونية، فإن لكل أمة من الأمم مجموعة من القيم الأساسية التي تحكم عملية وضع الدستور، ويأتي الدستور لتحقيق الغاية التي تتوخاها الأمة، فالدستور والقانون عموما هو ابن الحاجة، وليس ابن الرغبة، أي أنه يأتي لتنظيم الحياة في مجتمع سياسي منظم.

وبالتالي فإن الحوار الوطني الذي يجب أن ينطلق في سوريا من خلال ممثلين حقيقيين للسوريين، عليه أن يحدد ما هي المصالح والحاجات التي يريد المجتمع السوري تلبيتها وحمايتها، وبعد تحديد هذه المصالح يأتي دور صياغة الدستور ليكون تعبيرا عن هذه التفاهمات والتوافقات في المجتمع، وعلى سبيل المثال وليس الحصر، مطلوب منا نحن السوريين أن نحدد التوافقات التي ستحكم القضايا التالية:

    قضية الحرية، وما هي حدودها وما هي الضوابط التي سيتم وضعها، أو عدم وضعها، على تصرفات الأفراد لتتعايش مع الإرادات الحرة للآخرين، ومن قضية الحرية ينبثق مدى قدرة السلطات على التدخل في الحياة الخاصة للمواطنين، ومفاهيم السيادة الشعبية والقدرة على اختيار مؤسسات الحكم وعزلها، وما إلى ذلك من قواعد يتم إفراغها لاحقاً بشكل نصوص قانونية تحمي الحرية وتضع الإطار العام لممارستها على كل الصعد السياسية، والاجتماعية الاقتصادية، والدينية، والثقافية. 

    قضية الملكية الخاصة، وحدود هذه الملكية ودورها، وهل سيكون لها وظيفة اجتماعية أم لا، وهذه التحديدات والتوافقات ستؤثر إلى حد كبير على النظام الاقتصادي الذي سيتفق المجتمع السوري عليه، كذلك فإننا سنواجه حقيقة صعبة تتمثل في كيفية الحفاظ على الملكيات الخاصة في ظل عملية إعادة الإعمار والتي تتطلب في كثير من الأحيان حل الملكيات الخاصة أو استملاكها لصالح البدء بعمليات إعادة الإعمار الكبرى.  

    النظام الاقتصادي الذي سيطبق في الدولة، وهل سيكون اقتصادا حرا بالمعنى الليبرالي الكامل، أم سيكون هناك دور للدولة في الاقتصاد، وما هو موقف المجتمع من السياسات الاجتماعية للدولة والضمانات التي يجب أن تعطى للفئات الأكثر عوزاً، وقضايا التعليم والصحة والرعاية الطبية، وضمان الشيخوخة والبطالة، كل هذه القضايا هي قضايا مترابطة ومنسجمة، ويجب التوافق عليها كمفاهيم، قبل الذهاب لصياغة النص الدستوري المعبر عن هذه التفاهمات، فلا يجوز مثلاً أن أقول أن الاقتصاد في سوريا هو اقتصاد حر، ومن ثم أذهب في الدستور لوضع نصوص مستعارة من دساتير أخرى تتحدث عن كفالة الدولة للسكن والتعليم، كذلك لا يجوز أن أقول أن الاقتصاد هو اقتصاد مقيد بوظيفة اجتماعية ثم أرفع كل القيود عن الممارسة الاقتصادية في المجتمع، وقد فوجئت بتصريح قائد الإدارة العسكرية الانتقالية، عندما قال لأحد الصحف بأن الاقتصاد في سوريا سيكون حرا وسترفع عنه كل القيود، وهذا التصريح الخطير تعبير عن مصادرة حق السوريين في اختيار نظامهم الاقتصادي الأنسب لهم، والذي يجب أن يراعي أننا نخرج من حرب مدمرة شنها نظام المجرم الهارب على الشعب طيلة أربعة عشر عاماً، ودمر فيها كل مقدرات البلاد، وبالتالي فإن عملية إعادة الإعمار وإعادة تشغيل الاقتصاد وإطلاق التعليم وتقديم الرعاية الطبية، قد تحتاج لمقاربة أخرى مختلفة، تراعي هذه الظروف.

    قضية المساواة، المفترضة أخلاقيا وقانونياً، وما هو تعريف هذا المفهوم، لأن مفهوم المساواة بين البشر أخلاقيا وقانونيا، يجعل من الإرادات البشرية قابلة للقياس الكمي، واستناداً لهذا المفهوم تم تحديد أسس الديمقراطية استناداً إلى مفهوم الأغلبية العددية، وبالتالي فإن الحديث عن حقوق مكونات يتناقض مع أسس المساواة الأخلاقية والقانونية المفترضة في المجتمع السياسي المنظم.

    قضية دور الدين في المجتمع، فالسوريون جميعاً من كل الأديان والطوائف، يتزوجون ويطلقون ويثبت أنساب أبنائهم، ويورثون ويوصون، بناء على شرائع دينية، تطبقها المحاكم الشرعية للمسلمين والمحاكم الملية للطوائف المسيحية ولطائفة الموحدين الدروز، وبالتالي يجب أن يناقش مؤتمر الحوار الوطني، دور الدين في الحياة الاجتماعية وهل سيتم الحفاظ على دوره في الحيز الشخصي الناظم للأحوال الشخصية، أم سيتم توسيعه أو تضييق نطاقه، إلى آخر هذه القضايا.

هذه عينة فقط من المفاهيم التي يجب أن يتم النقاش حولها، وأن يتم بناء التوافقات عليها بين فئات المجتمع السوري، وهذه التوافقات هي الأساس الذي سيتم صياغة الدستور السوري استنادا لها، لأن دستور البلاد يأتي لتنظيم عملية الاجتماع السياسي من خلال واقع هذه التفاهمات والمصالح التي يجب أن يحميها، أما كتابة نصوص دستورية من دون إدراك شامل للواقع، فإنه يعني أننا سنأتي بدستور يعطل الحياة ويعيق عملية بناء سوريا الجديدة التي نحلم بها جميعا، ولذلك علينا أن نكون أكثر حذراً وهدوءا في إطلاق التصريحات التي تتحدث عن سهولة كتابة الدستور أو أن هذا الأمر من مهام لجان قانونية متخصصة، فالدستور من حق الشعب ولا يجب أن يكتبه إلا الشعب عبر ممثليه الحقيقيين المعبرين عن جوهر المصالح التي يريد حمايتها، ولذلك فإن التريث وعدم الاستعجال واجب في هذا الصدد، وخاصة أن المواطن الذين ما زال يعاني للحصول على الخدمات الأساسية، ربما يسمع نقاشاتنا، وهو يقف على طابور طويل، ولسان حاله يقول : ” دستور من خاطركم”، ليتمكن من المضي في طريقه ليحصل على ربطة خبز يطعم بها عياله.

تافزيون سوريا

———————————–

 “نعوات سوريّة” تحية إلى ميشيل كيلو/ مالك داغستاني

2025.01.02

في غير المنحى الذي سأذهب إليه هنا. كتب الراحل ميشيل كيلو، قبل عشرين عاماً، مقالته الشهيرة “نعوات سورية” التي، إضافة لأسباب جوهريّة أخرى، أدخلته السجن بعد نشرها بأيام قليلة عام 2005.

بروح خفيفة الظل لا تشبه كتاباته الرصينة المعتادة، اعتمد كيلو في مقالته على الفوارق في طبيعة أعمال الحواضن بين المدينة والريف في مدينته اللاذقية، من خلال طبيعة عمل المذكورين في أوراق النعوات بين مهن عسكرية في الريف ومدنية في المدينة. أشار فيها الكاتب إلى التمييز الطائفي لسلطة الأسد، وإلى أن “الطوائف ضربٌ من بنية تحتية للوعي العام في سوريا”.

ما ذكرّني بتلك المقالة اليوم هو عنوانها فقط، ولذا لن أدخل في تفاصيلها، ولا إلى ردود الأفعال الغاضبة من بعض المعارضين التي وصلت إلى حد اتهام كيلو بالطائفية!

منذ تحرير السجناء في سجن حلب المركزي وفروع الأمن في المدينة، وصولاً إلى سجن صيدنايا، والمراكز الأمنية المنتشرة في دمشق العاصمة، فجر يوم الثامن من كانون أول 2024. كانت عائلات المخفيين في سجون الأسد منذ أربعة عشر عاماً، تلاحق إن لم يكن على أرض الواقع وداخل السجون، فعلى الأقل من خلال المعلومات، اسماً بعينه لأبٍ أو ابنٍ أو أخ، علّهم يسمعون خبراً يُبرّد نيران قلوبهم المشتعلة منذ سنوات.

بحسب توثيقات الشبكة السورية لحقوق الإنسان في سوريا، فقد خرج من السجون ما يقارب 24 ألفاً، بينما تحتوي سجلات الشبكة نحو 136 ألفاً من المختفين قسرياً. وللعلم فإن توخّي الدقة في التوثيق حسب المعايير الدولية التي تعتمدها الشبكة، يجعل الخبراء والمتابعين لهذا الملف، بمن فيهم مدير الشبكة، يعتقدون أن أعداد من قتلوا في السجون خلال السنوات الماضية من حكم الأسد الابن، يزيد عن ربع مليون سوري. هذا إن لم ندخل في حساباتنا هنا، المختفين والمقتولين في سجون الأب وهم بعشرات الآلاف.

خلال أيام، بدأت تظهر على وسائل التواصل قوائم خاصة للمقتولين من قبل العائلات أو الأحياء أو القرى. شاهدت قائمة بمفقودي عائلة واحدة في بابا عمرو بمدينة حمص تضم 170 اسماً، وشاهدت مقطعاً مصوراً لخيمة عزاء لمفقودي إحدى القرى وقد عُلِّقت عليها عشرات الصور والنعوات. وتابعنا جميعا صوراً تتوزع بين ساحتي المرجة والأمويين في دمشق لمفقودين لن يعودوا للأسف، وعلى الأغلب أن جثامينهم ترقد الآن في واحدة من عشرات المقابر الجماعية. كل هذا يشي بحجم الكارثة في ملف المفقودين في سجون الأسد، مما يحتِّم على السلطات القادمة التعامل معه بجدّية ومهنية عالية.

مع اختلاف الأعداد التي لا يمكن أن تُقارَن بالحالة السورية، إلا أن هناك تجارب مشابهة في كثير من دول العالم، وخصوصاً في أميركا الوسطى واللاتينية، أهمها تجارب الأرجنتين والمكسيك، بما يختص بالتحقيق ومتابعة ملف المفقودين والمقابر الجماعية، بهدف الوصول إلى الحقيقة. مع ممانعة حكومية بوجه مطالبات العائلات لمعرفة مصير مفقوديها، احتاجت تلك الملفات في تلك الدول إلى سنوات طويلة، ولم تصل بعد إلى النتائج النهائية ولا إلى الحقيقة كاملة.

 في المكسيك، بحسب وثائق الأرشيف الوطني السري الأميركي المفرج عنه، أنه بعد عقود من إصرار الأسر والناشطين على تحدّي صمت الدولة، اضطر الرئيس المكسيكي عام 2021 إلى إصدار مرسوم بإنشاء “لجنة الوصول إلى الحقيقة والتوضيح التاريخي” بما يختص بمفقودين منذ ما قبل عام 1995. اللجنة أطلقت على الفور خمس مجموعات عمل للتعامل مع أبعاد مختلفة للمشروع. مجموعة للتحقيق في الانتهاكات وإنتاج تقرير الحقيقة، وأخرى لتعزيز العدالة، والبحث عن المختفين، والأهم مجموعة تعزيز الذاكرة بغية عدم تكرار تلك الجرائم.

ما لفت نظري في تقرير الأرشيف المُفرج عنه مؤخراً، قبل قرابة شهر واحد، أن السجلات والوثائق المنشورة تُعطي إحساساً بأولويات السياسة الخارجية الأميركية في أثناء “الحرب القذرة” في المكسيك، وتوضح أن سلطات الولايات المتحدة كانت تعطي الأهمية الأكبر لاستقرار النظام المكسيكي فوق أي شيء آخر، وبررت بعض التقارير انتهاكات حقوق الإنسان باعتبارها شرّاً ضرورياً لاحتواء التهديدات الأهم! هذا فسَّر لي جانباً من القبول العالمي الرسمي لموت السوريين المرئي والمسموع خلال أربعة عشر عاماً.

بالعودة إلى الحالة السورية، وبعد الانهيار الكامل لنظام الأسد، فلا أعتقد أن هناك مصلحة لأي جهة فاعلة وقادرة، داخلياً على الأقل، بإعاقة الوصول إلى الحقيقة. لكن المؤسف هي مشاهد الإهمال التي تابعناها للأرشيف والورقيات داخل السجون المحرَّرة والفروع الأمنية، والعبث الذي طال تلك الوثائق. وثائق كل واحدة منها كانت ستعين فرق التحقيق مسقبلاً. مما يرتِّب على السلطات الجديدة اليوم حفظ تلك الأدلّة، والبحث عن المفقود منها، بانتظار تشكيل لجنة وطنية بصلاحيات واسعة، للتحقيق والوصول إلى الحقائق حول مصير كل مفقود، من أجل أسرهم ومن أجل مستقبل سوريا. وقبل كل شيء من أجل أرواح عشرات آلاف المفقودين الذين عرفنا خلال الأيام الماضية، أنهم لن يعودوا. وختاماً من أجل ألا تتكرر تلك المجزرة.

هؤلاء رغم أنهم قتلوا على دفعات خلال أكثر من 13 عاماً. لكن وجدانياً، بعد يأس العائلات من وجودهم أحياء مع تحطيم أبواب آخر السجون، فإنهم استشهدوا في وجدان عائلاتهم وحتى في مخيلة السوريين خلال يوم واحد. نعم خلال يوم واحد بدا لنا أن الأسد قتل أكثر من ربع مليون سوري دفعة واحدة. لو عاد ميشيل كيلو اليوم، فعن أي “نعوات سوريّة” سوف يكتب؟ وهل سيتهمه منتقدوه يومها، اعتماداً على أسماء الضحايا، أنه يكتب اليوم أيضاً بطريقة طائفية؟

“أبو أيهم”، تحية لروحك النبيلة في هذا اليوم الذي انتظرته طوال حياتك، ونذرت له عمرك وبذلت من أجل الوصول إليه كل شيء، ولم يكن مقدَّراً لك أن تحتفل به معنا.

تلفزيون سوريا

——————————-

سوريا الجديدة بين الجولاني والشرع/ محمود علوش

2025.01.02

هناك ثلاثة عناصر مفاجئة في التحول السوري. السقوط السريع لنظام الأسد والصعود الكبير لهيئة تحرير الشام من إدارة إدلب إلى إدارة سوريا، والشخصية الجديدة لزعيم الهيئة أحمد الشرع وكيفية إدارته لهذا التحول.

جزئياً، يُمكن فهم بعض جوانب التحول في شخصية الشرع كامتداد للتحول الذي أحدثته هيئة تحرير الشام على نفسها منذ أن انفصلت عن تنظيم القاعدة وتخلت عن الجهاد العابر للحدود. مع ذلك، يجد الكثير من المراقبين – بمن فيهم كاتب هذه السطور – صعوبة في فهم العوامل التي ساهمت في إنتاج الشخصية الجديدة لأبو محمد الجولاني كزعيم يُدير سوريا من منظور بعيد نسبياً عن إيديولوجية هيئة تحرير الشام لجهة التفكير بمنطق الدولة وإدراك خصوصية الحالة المجتمعية السورية، ولجهة محاولة صياغة سياسة خارجية واقعية تستند بدرجة أساسية على مصلحة سوريا في التفاعل الإيجابي مع مختلف القوى الفاعلة في الملف السوري بما في ذلك روسيا.

حقيقة أن الشرع وجد نفسه في نهاية المطاف كقائد جديد لسوريا في مرحلة التحول، تُفسر جانباً رئيسياً من جوانب التحول في شخصيته. لكن هذه الحقيقة، وعلى الرغم من أنها محورية في تشكيل هذه الشخصية، إلا أنها امتداد لحقائق أخرى استطاع الشرع التكيّف معها بسرعة لبلورة شخصية تبدو للوهلة الأولى وكأنها كانت في موقع القيادة الوطنية لسنوات طويلة.

إن حاجة التحول السوري إلى النجاح تفرض قبل أي شيء على زعيم هيئة تحرير الشام التحول من منطق الفصائلية الثورية إلى منطق الدولة. في لحظة مفصلية من تاريخ سوريا، فإن منطق الدولة ومخاطبة كافة المكونات الاجتماعية والعرقية والفصائلية السورية، تُعظم في فرص نجاح التحول. كما أن حاجة الإدارة الجديدة إلى الحصول على اعتراف المجتمع الدولي بها تفرض على الشرع تبني منطق الدولة في مقاربة السياسة الخارجية لسوريا الجديدة.

تركت روسيا على سبيل المثال إرثاً سيئاً لدى الشعب السوري بفعل انخراطها في الصراع إلى جانب المخلوع بشار الأسد، لكنّها لا تزال قوة دولية قادرة على التأثير في سياقات التحول السوري. ويبدو خطاب الإدارة الجديدة تجاه موسكو مُصمم بدرجة رئيسية لتحييد احتمالية أن تلعب روسياً دوراً سلبياً في عملية التحول. يُمكن أيضاً استخلاص أن الشرع يحاول استثمار الحالة الروسية كورقة لتعزيز موقفه مع الغرب وعدم وضع رهاناته الخارجية في سلّة واحدة.

قد يتعين على الشرع في مرحلة ما أن يختار ما إذا كان سيتعين على روسيا التخلي عن وجودها العسكري في سوريا، لكنّه لن يفعل ذلك بأي حال قبل ضمان ترجمة الانفتاح الغربي على إدارته إلى خطوات عملية على غرار رفع هيئة تحرير الشام عن قوائم الإرهاب في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وإزالة العقوبات الغربية المفروضة على سوريا لتحقيق انفراجة اقتصادية.

وعلى صعيد العلاقة مع الإقليم، فإن تبني الشرع خطاباً ودياً للغاية تجاه تركيا يبدو مفهوماً بالنظر إلى الدور المحوري الذي تلعبه أنقرة كمحفز للمجتمع الدولي للانفتاح على الإدارة الجديدة والتعامل معها. علاوة على ذلك، يعكس نهج الشرع تجاه أنقرة مقاربة واقعية للغاية تجاه العلاقة مع حليف قوي لسوريا الجديدة يُمكن أن يُساعدها في استعادة عافيتها على كافة المستويات.

تبدو العلاقة بين أنقرة والشرع مُعقدة إلى حد كبير ولا يُمكن فهمها بوضوح. لكن براغماتية تركيا في التكيّف السريع مع تصدر هيئة تحرير الشام المشهد السوري، تُنتج بطبيعة الحال تكيّفاً موازياً من قبل الشرع في نقل العلاقة مع أنقرة إلى منطق مشروع تحالف استراتيجي معها للاعتبارات السالفة الذكر.

لا تقل صياغة علاقات متوازنة مع تركيا وروسيا والغرب تعقيداً عن تشكيل العلاقة مع المحيط العربي. لكنّ شخصية الشرع تُساعد إلى حد كبير في تأسيس أرضية مناسبة لعلاقة جيدة مع العالم العربي.

لا يخفى أن بعض الفاعلين العرب متوجسون من الإدارة السورية الجديدة لاعتبارات ترجع في الغالب إلى قلقهم من تصدر تنظيم جهادي المشهد السوري. إن رسائل الطمأنة التي يُرسلها الشرع لهؤلاء الفاعلين بشأن أهمية احتضان سوريا الجديدة كعنصر يُريد استعادة هويته الجيوسياسية التقليدية كجزء من المنطقة العربية وبشأن عدم رغبة سوريا الجديدة في تصدير تجربتها الثورية للمنطقة العربية على غرار ما فعلته الثورة الإسلامية في إيران، ساهمت جزئياً في تبديد هذه الهواجس العربية وحفّزت المزيد من الدول العربية على التواصل مع الإدارة الجديدة على الرغم من أن هذا التواصل لم يرتق بعد إلى المستوى الذي ينبغي أن يكون عليه.

إن حاجة سوريا الجديدة إلى العرب لا ترجع فقط إلى ضرورة انخراطهم في عملية إعادة الإعمار، بل تُشكل ركيزة أساسية لاستعادة الهوية الجيوسياسية لسوريا والتي طمسها نظام الأسد الابن والأب لما يقرب من ستة عقود.

لا يزال العالم يترقب بحذر الكيفية التي سيُدير بها الشرع عملية التحول السياسي، لكنّ الشخصية الجديدة لأبو محمد الجولاني تختصر الكثير من الوقت والمسافات على المجتمع الدولي للوقوف على الجانب الصحيح من التاريخ والوقوف إلى جانب سوريا لإنجاح عملية التحول. في هذه المرحلة، فإن انتظار إدارة مثالية بالكامل للشرع لعملية التحول، لن يكون واقعياً، لكنّ شخصية الشرع تُقدم فرصة كبيرة للسوريين للرهان على الإدارة الجديدة وللمجتمع الدولي لتبني نهج واقعي قادر على التأثير الإيجابي على عملية توجيه التحول السوري.

تلفزيون سوريا

—————————-

======================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى