سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 03 كانون الثاني 2025
لمتابعة التغطيات السابقة
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 02 كانون الثاني 2025
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 01 كانون الثاني 2025
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 31 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 30 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 29 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 28 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 27 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 26 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 25 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 23 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 22 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 21 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 20 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 19 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 18 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 17 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: المصاعب والتحديات، مقالات وتحليلات 16 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مهام اليوم التالي، مقالات وتحليلات 15 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 14 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: سقوط الديكتاتور الفار بشار الأسد مقالات وتحليلات
—————————–
ملاحظات/ سمير سليمان
لاتليق أية تسمية أخرى للواقع السوري الراهن أكثر من تسمية ” مرحلة المتاهة العمومية”. وهي عمومية لأنها تشمل كامل البنيان السياسي والإجتماعي السوري في تفاعلاته وحواراته القائمة.
– متاهة السلطة الجديدة التي رفضت استعمال مؤسسات وأدوات الدولة القائمة, فأحلتها وفككت بنيانها وسرّحت موظفيها, ثم فاتت بالحيط. وتعيش الآن متاهتها بسبب عجزها عن أن تكون هي الدولة. هؤلاء الحكام الجدد يخلطون في ذهنهم بين السلطة وبين الدولة ويعتقدون أنهما ذات الشيء. ولن نتحدث هنا عن النتائج الكارثية لهذا الخلط. وهي نتائج تقع أولاً ومباشرة على المجتمع السوري بجميع شرائحه وطبقاته. وهذا مانراه في واقع الناس اليومي. نحن في حالة مجتمع مفقر وبلا دولة وخدمات الدولة. وهذا وضع كارثي لايدوم, ويؤسس للفوضى العامة واستعداداً نفسياً للعنف.
– متاهة الشرائح الإجتماعية الواسعة التي كانت ترتبط بمعيشتها على الراتب الوظيفي الذي كان يشكل الحد الأدنى للمستوى المعيشي. شرائح تجد اليوم نفسها وقد خسرت الوظيفة والراتب وانضمت لجيش العاطلين عن العمل, دون اي أفق زمني معطى لهذا الوضع. هذه الشرائح في حالة رعب حقيقي من عدم الأمان الغذائي وحدّ الجوع. وإذا طال وضعها هذا فستشكل البيئة الخصبة لأعداء التغيير الثوري المتربصين, ولطابورهم الخامس.
– متاهة يعيشها بعض المثقفين وأنصاف المثقفين, والمتعلمين وأنصاف المتعلمين. ففي اللحظة التي يعيش بها المجتمع السوري حالة إسعافية تحتاج حلول عاجلة تتعلق بتأمين شروط العيش اليومي وتوفير خدمات المؤسسات الحكومية التي لاتقوم الحياة بدونها, ينخرط هؤلاء في تتبع الهفوات الإدارية والإشارات الصادرة عن سلطة جديدة عديمة الخبرة والمعرفة وتتخبط في تجربتها الجديدة – وهل يهم كثيراً أن تتغير المناهج الدراسية اليوم إذا كانت قابلة للتغيير غداً؟ -, أو تنهمك بتكرار الكلام حول الدولة العلمانية كمطلب عاجل. وممن؟ من الإسلاميين الجهاديين أياهم ( هل يتفق العلمانيون بين بعضهم حول مايعنونه بكلمة العلمانية؟ ).
نحن ياجماعة في وضع ليس لدينا فيه سلطة صحيحة ومعافاة, وليس لدينا دولة تعمل ولامؤسسات تخدم. نحن لسنا في موقع يصح فيه نقد هذه السلطة التائهة من موقع العداء معها, ولسنا في موقع يصح فيه منحها الولاء غير المشروط. فهؤلاء الذين فاجأوا العالم, وفوجئوا هم أنفسهم, بإسقاط نظام الطاغية ووصولهم للسلطة كالصاعقة, لايعرفون كيف يبنون الدولة ولكنهم يتعلمون, وعلينا ملاقاتهم, ونقدهم من موقع تضامني حرصاً على بقاء إمكانية وشروط الإستمرار ببناء الدولة الجديدة.
بالنهاية, ماذا نريد في هذه المرحلة سوى دولة توفر الشروط المادية للعيش الكريم لكل فرد, وتصون بقاء حرية الكلمة وحرية الإنتقاد العلني في المجال العام قبل الخاص, وتصون الحرية الشخصية لكل فرد في المجتمع بغض النظر عن هويته؟ ماذا نريد أكثر من ذلك في هذه المرحلة ( لاحظوا أنني لم أحتج لكلمة الدولة العلمانية) ؟
الفيس بوك
————————-
ملاحظات/ ماهر مسعود
السبب الأرأس لفشل الإخوان وسقوطهم السريع في مصر هو قفزهم المباشر نحو الهيمنة على التعليم والجيش والقضاء.
الانقلاب العسكري الذي قاده السيسي، والدعم أو التآمر العربي والدولي الذي ساند الانقلاب، كانا معاً نتيجة لسلوك الإخوان برئاسة محمد مرسي وتوجههم نحو أخونة الدولة.
قيادة الإخوان للدولة بعقلية الجماعة أرعب المجتمع المحلي فخرج بمظاهرات مليونية، وأرعب المجتمع الدولي فدعم الإنقلاب العسكري.
الخطأ الذي ترتكبه الهيئة بقيادة الجولاني؛ وحكومة الهيئة التي أقل ما يُقال فيها أنها خارج العصر والتاريخ، لن تؤدي إلى إنقلاب عسكري في بلد تحكمه الفصائل، لكنه الطريق المضمون نحو تقسيم البلد برغبة داخلية ودعم وتدخل دولي لذلك التقسيم.
هذا لن يكون في مصلحة أحد، ولاسيما للسنّة والعلويين والأكراد والدروز، وبالتأكيد لن يجلب اعتراف دولي ولا إعادة إعمار ولا رفع الهيئة من قائمة الإرهاب. لن يجلب إلا الضعف العام وبالتالي العنف العام.
يبدو أن تنفيذ كلام الشرع حول الانتقال من عقلية الثورة إلى عقلية الدولة تتم ترجمته عبر نقل نظام وعقلية الهيئة ليصبح معمماً على الدولة. أي توسيع الهيئة لتصبح هي الدولة..
هذا لن يحصل.. ولن ينجح، ولا يبشّر بأي خير.
لا يمكنك لوي عنق الدولة لتصبح هيئة مكبّرة
لي عنق الدولة لن ينجح إلا بتحطيمها.. وإن لم تصدقوا، إسألوا بشار قبلكم، فهو أخبر منكم بلوي عنق الدولة، وأخبر بتحطيمها.
الفيس بوك
——————–
ملاحظات/ عمار ديوب
الشيطنة لا تفيد يا هيئة تحرير الشام:
ذكرت، ومرات، إن هناك رضى شعبياً واسعاً عن الهيئة، وذلك بسبب امتناعها عن ارتكاب المجازر حينما دخلت المدن، وحينما أرسلت رسائل تطمين لكافة السوريين، وهناك من يقول، وهل يحتاجون للاطمئنان؟ هي فعلت ذلك، عبر بيانات للمسيحيين وللعلويين ولسكان المدن السنة وو، إذاً هناك ضرورة لتلك الرسائل.
سياسات الهيئة، وبعد أن صارت السلطة في دمشق أصبحت تأكل من ذلك الرضى العظيم، ورُصدت انتهاكات كثيرة، وذكّرت السوريين بانتهاكات النظام البائد! وجميعها أدى إلى بدايات تذمر، ومظاهرات المسيحيين والعلويين جاءت بهذا الاطار.
الان هناك من يشيطن الطائفة الدرزية، والسبب لأن الفصائل أعادت رتلاً للهيئة ذهب إلى السويداء ودون تنسيق مع الفصائل. ولأن الأمر كذلك، بدأت الشيطنة وسواه، وهناك أسباب أخرى، للشيطنة وللإعادة.
هذا خاطىء جملة وتفصيلاً، وقد أُعيدت القوات لأنها قوات فصيل عسكري، نعم هي كذلك، وكان الرد، أهلا بها، حينما تصبح قوات للدولة السورية، وهذا ليس قبل إقرار الدستور.
هل هذا الكلام خاطىء؟ لا. الوضع الامني غير مستقر، والمرحلة كلها مؤقتة، وفصائل السويداء بالتحديد لحماية المدينة، ولم ترتكب خطئاً واحداً، ولم تغادر المدينة. قامت الهيئة بإعادة رتلها، وحسناً فعلت، وهذا جيد.
الهام في كل ذلك، وإذا ارادت الهيئة استعادة الرضى وتعزيز الثقة والتفاف الناس من حولها، عليها أن تتوقف عن أية قرارات تعطيلية كما تم تعطيل القضاء بشكل تعسفي، أو اقتراح تغيير المناهج أو القرارات الاقتصادية الخاطئة، تحرير سعر الخبز والوقود والضغط على الموظفين لترك العمل، وسواه كثير.
أَهلُ السويداء وبقية السوريين يريدون المساهمة ببناء الدولة.
إن بناء الدولة يقتضي مشاركة كافة السوريين، ولهذا وباعتبار المؤتمر الوطني فاتحة للتغيير، وبدءا باختيار حكومة وطنية او جمعية تأسيسية وسواها، فإن دعوة شخصيات وطنية، ومشهود لها محلياً، ليشكلوا مجلسا استشاريا، ومن كافة السوريين هو أول خطوة للتمهيد لانعقاد المؤتمر وللحكومة الوطنية، ولأية قرارات سيادية.
الان الهيئة قوة عسكرية وسياسية تتسلط على الدولة السورية، وكي لا تخسر الرضى، عليها أن تبتعد عن الشيطنة، ليس للدروز أو للعلويين أو، وفقط.
الشياطين ستتكاثر ومن مختلف المدن حينما تستمر الهيئة بإدارة ظهرها للناس، وهذا ما تفعله في دمشق وحلب والساحل وحمص والسويداء ودرعا.
إن كل تأخر بإشراك الناس في أليات تشكيل الدولة، أو في أحوال المدن، سيكون كارثة على الهيئة مستقبلاً. فقد تنفجر الاوضاع، وقد تتدخل الدول الخارجية.
قوة الهيئة بمقدار ما ينال الشعب من حقوق، وبمقدار ما تتوقف عن تصدير نفسها كسلطة شرعية، وبمقدار ما تُشرك الشعب بالعمل المؤسساتي وإطلاق الحريات ودون أي تقييد سياسي؛ الاحتكار والاستئثار والتفرد سيكون المقتل الكبير للهيئة، ونأمل أن تتبنى رؤية وطنية ومواطنية في قراراتها.
الفيس بوك
—————————
سورية… هل العصبيّة في السلطة ضرورة تاريخية؟/ حسين عبد العزيز
03 يناير 2025
تلعب العصبية بالمعنى الخلدوني (نسبة إلى ابن خلدون) دوراً مهمّاً في هذه اللحظات التاريخية، فعملية تثبيت واقع جديد من رحم واقع مضطرب ومعقّد تستلزم بالضرورة (وفق منطق السلطة) الاعتماد على العصبيات. وقد تأخذ العصبية شكل الحسّ المجتمعي أو الوطني، لا سيّما في حالات الحرب مع طرف خارجي، فتنصهر العلاقات العمودية أمام التهديد الخارجي. وفي الأزمات التاريخية الداخلية، وفي ظلّ المجتمعات ما قبل الحداثية، التي تتمحور العلاقات فيها بنحو عمودي لا أفقي، تأخذ العصبية في السلطة شكلاً عشائرياً ـ قبلياً، أو دينياً، أو طائفياً، أو شكلاً أيديولوجياً إذا ما تحوّلت الأيديولوجيا عُصاباً سياسياً.
اعتمد حافظ الأسد، المسكون بهاجس السلطة والاستقرار الدولتي، منذ بداية حكمه، على العصبية الطائفية (العلوية)، وقد يكون ذلك مبرّراً تاريخياً في ظلّ الاضطرابات السياسية التي عاشتها البلاد منذ الاستقلال، ثم تبيّن أن اللجوء إلى العصبية الطائفية لم يكن مُجرَّد وسيلة لتثبيت السلطة، بل استراتيجية ممنهجة، الأمر الذي أدّى، ليس إلى تدمير الحياة السياسية والاقتصادية فحسب، بل إلى استسهال المُضيّ في الاستبداد والإجرام.
هذا الكلام مقدّمة لما يحدث في سورية منذ سقوط نظام بشّار الأسد، ونشوء سلطة جديدة من لون أيديولوجي وطائفي واحد. أن تملأ هيئة تحرير الشام الفراغ السياسي والعسكري والأمني والاقتصادي في سورية هذا من طبيعة الأشياء، فالطبيعة وعالم الإنسان وجودان منافيان للفراغ. وأن تكون السلطة الجديدة (المؤقّتة) في سورية من لون أيديولوجي وطائفي واحد، فهذا أيضاً مبرّر في ظلّ ضرورة الإسراع في ملء الفراغ، وفي ظلّ بيئة عسكرية وأمنية واجتماعية لا تزال هشّةً. في مثل هذه المراحل التاريخية التي تكون فيها البلاد في مفترق طرق، يُعطى الولاء الأولوية القصوى من أجل تحقيق قبضة حكم مركزية مهمّتها الأولى الانتقال من الفوضى إلى الاستقرار؛ السمة الرئيسة لبقاء الدولة. لكنّ ذلك كلّه مشروط بأن تكون العصبية في الحكم القائمة حالياً في سورية مؤقّتةً وليست دائمةً، ومن الصعب التكهّن بمآل الأمور، هل نحن أمام حالة مؤقّتة تفرضها الضرورات التاريخية أم نحن أمام شكل دائم من الحكم؟
بيّنت تجارب التاريخ العديدة أن حركات التحرّر الوطني والحركات الثورية تشهد تغيّراً في خطابها السياسي بعد انتقالها من هامش الحياة السياسية إلى مركزها، فتُخفَّف الأيديولوجيا لمصلحة البراغماتية، وهذا ما يحدث مع هيئة تحرير الشام مقارنة بتاريخها القريب، من دون أن يعني ذلك أيضاً أن ثمّة انعطافة أيديولوجية في فكرها، بل أن متطلّبات النجاح سياسياً على الأرض فرضت بالضرورة تغيّرات ذهنية تكتيكية لا تهدّد جوهر الأيديولوجيا السياسية للجماعة، فالخطاب السياسي الذي تستخدمه “الهيئة” مطمئن من جهةٍ، ومثير للقلق من جهة أخرى، فالحديث عن عدم الثأر الشخصي إلّا عبر مؤسّسات الدولة الناشئة، وتطمين الأقلّيات والأفراد على حقوقهم وحرّياتهم شيء جميل، لكن ليست له أيّ قيمة سياسياً، بمعنى أن هذه الظواهر والمعاملة الحسنة التي يتعامل فيها الثوار مع أفراد المجتمع ظاهرة موجودة على سبيل المثال في دول الخليج والأردن، من دون وجود نظام ديمقراطي.
دعوة السلطة الجديدة، ممثلةً بهيئة تحرير الشام، إلى ضبط السلاح وحصره بيد الدولة من طبيعة بناء الدولة، التي يجب أولاً أن تمتلك سيادةً واضحة المعالم في مساحة جغرافية معيّنة أولاً، وأن تمتلك وحدها حقّ امتلاك السلاح، وبالتالي حقّ امتلاك العنف وفق القانون. لكنّ هاتَين السمتَين اللتَين نشأتا منذ اتفاقية وستفاليا (1648) إثر الصراعات التي نشأت في أوروبا بين الدول القومية الصاعدة، لم تعودا كافيتين حين نتحدّث عن الدولة بمعايير القرنين العشرين والحادي والعشرين، فيجب أن يضاف إلى السمتَين السابقتَين (السيادة، واحتكار العنف)، نشوء المواطنة التي تتعامل مع أفراد وليس جماعات في المجتمع، وأن يكون لجميع الأفراد حقوق متساوية، ليس في التعبير الاجتماعي والسياسي والديني، بل الأكثر أهميةً المشاركة في العملية السياسية.
توحي قراءة خطاب الحكّام الجدد في سورية بوجود تناقض نظري وواقعي يتمثّل في أنهم متجهون نحو ليبرالية اجتماعية اقتصادية دينية من دون حوامل ديمقراطية، حيث لم تُذكر كلمة ديمقراطية إطلاقاً على لسان أحمد الشرع، أو أيٍّ من الوزراء، في وقت أكّد رئيس غرفة تجارة دمشق باسل الحموي أن الحكومة السورية الجديدة أبلغت رجال الأعمال أنها ستتبنّى نموذجَ السوق الحرّة، وستدمج البلاد في الاقتصاد العالمي. وبالمناسبة، يحظى هذا النموذج بدعم أميركي وعربي، أي وجود نظام شديد المركزية يمنح الحقوق الفردية لتسهيل النمو الاقتصادي، وقد بيّنت تجارب التاريخ المعاصر وجود هذا النموذج، في شكل حكومات ليبرالية تمنح حقّ تصويت مُقيّداً، فيما توزّع السلطة بين أوليغارشية، أو في شكل استبداد مطلق، كما في حالة تشيلي مع بنوشيه، الذي طبّق الحقوق فقط لحماية الملكية الخاصّة، وحريّة التعاقد، والأسواق الخاصّة غير المقيدة، بينما قمعت بشدة الحقوق المدنية والسياسية.
لم نجد في الخطابات السياسية للدول الغربية والعربية، سواء التي أجرى مسؤولوها محادثات في دمشق مع الشرع أو التي لم تتواصل مع الحكام الجدد، أيّ دعوة إلى إقامة نظام ديمقراطي ـ ليبرالي، فما يهم الجميع، بمن فيهم الغرب، استقرار أمني سياسي في سورية، مع حكم رشيد يحقّق الرفاه والأمن والطمأنينة السياسية والاجتماعية والدينية للجميع، خصوصاً الأقلّيات. لكن في الحالة السورية، حيث دولة قومية، فيها قوميات وديانات وطوائف ومذاهب، وتمايز مناطقي لا يزال قائماً، وتفاوت بين الريف والمدينة، لا يمكن للدولة والمجتمع أن يتّجها نحو حداثة سياسية من دون دولة ديمقراطية ليبرالية علمانية، قائمة على مفهوم المواطنة الكاملة عبر الحقوق، بغض النظر عن الانتماءات الفرعية الضيّقة. الشقّ الديمقراطي يُحدَّد عبر الانتخابات الدورية، كيف يُشكّل البرلمان، ومن يتولى السلطة التنفيذية في الحكومة، في ظلّ منافسة حرّة وعادلة بين المرشّحين والأحزاب، بينما يحمي الشقّ الليبرالي الحرّيات المدنية الأساسية بالقانون وبالإجراءات الوقائية الدستورية، في وقت تنفّذ التشريعات والقواعد القانونية على حدّ سواء بواسطة نظامين قضائي وقانوني مستقلّين. ومن دون تحقّق الاثنين معاً (الديمقراطية والليبرالية) سنكون أمام مأزق سياسي، لأن الحكومة المنتخبة التي لا تحمي الحرّيات المدنية يمكن أن تكون استبدادية، عبر السماح لمجموعة عرقية أكبر بقمع الحرّيات السياسية للمجموعات العرقية الأصغر. في المقابل، يمكن أن يُنشئ وجود نظام قانوني نزيه وحماية الحقوق من دون انتخابات حرّة مجتمعاً مفتوحاً نسبياً ويسمح للاقتصاد الرأسمالي بالازدهار، ولكن من دون الانتخابات يبقى المجتمع غير ديمقراطي. إن ديمقراطية من دون ليبرالية قد تنتهي (أو ستنتهي بالضرورة) إلى استبداد الأكثرية عبر صناديق الاقتراع، وليبرالية من دون ديمقراطية تنتهي إلى احتكارٍ للسلطة بيد جماعة ما.
وقد انطلق د. عزمي بشارة في كتابه “الانتقال الديمقراطي وإشكاليته… دراسة نظرية وتطبيقية مقارنة” (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2020)، من وجود ثلاثة مكونات ضرورية للديمقراطية المعاصرة، أولها، المشاركة السياسية القائمة على المساواة بين المواطنين في القيمة، وباعتبارهم قادرين على التمييز بين الخير والشر، ومن حقّهم المشاركة في تقرير مصيرهم، والتأثير في القرارات العمومية التي تمسّ حياتهم، المتمثّلة أساساً بالانتخابات الدورية النزيهة.
ثانيها، حكم القانون، ووضع حدود للسلطة لمنع التعسّف في استخدامها، وهذا يعني تحديد السلطات التشريعية والتنفيذية، أولاً بالمدة عبر انتخابات دورية، وثانياً بالصلاحيات، من خلال توزيعها بين مؤسّسات مختلفة ليتحقّق توازن ورقابة متبادلة. ثالث المكوّنات ضمان الحقوق السياسية والحرّيات المدنية، التي يحميها المكوّن الثاني وتحميه، ومن دونها يصبح المكوّن الأول غير ممكن، أو يمارس شكلياً.
باختصار، من دون اتفاق مكوّنات المجتمع السوري بأكمله على نظام ديمقراطي ـ ليبرالي تبقى العلاقات الفرعية ما قبل المواطنية عاملاً مؤجّجاً للصراع في سورية، خصوصاً في ظلّ خوف تاريخي تكشّف لدى الأقلّيات بُعيد سقوط نظام الأسد.
رفض الدروز وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي يهيمن عليها الأكراد، تسليم أسلحتهم للسلطات الجديدة قبل الاتفاق على شكل الحكم، يُشير إلى مخاوفهم من الهيمنة السنّية ذات الصبغة الدينية. ينطبق الحديث أيضاً على المسيحيين في غالبيتهم، فالتظاهرات التي اندلعت احتجاجاً على حرق شجرة ميلاد، ثمّ الشعارات التي رفعوها… تؤكّد كلّها ضرورة أن يكون الحكم المقبل أكثر من مُجرَّد تطمينات دينية واجتماعية واقتصادية، بل نظام حكم يشارك فيه الجميع عبر نظام ديمقراطي ـ ليبرالي. الديمقراطية نظام حكم متعدّد ومتنوع، وهذان التعدّد والتنوع يجب أن يكونا صادرين عن الشعب، وليس من فئة معيّنة تستأثر بالحكم على الرغم من خطابها المُطمئِن، فالحقوق الفردية لا تترسّخ وتصبح مستدامةً من دون نظام حكم قانوني.
لا يمكن أن يُختزَل الثمن الكبير، الذي دفعه ملايين السوريين خلال 14 سنة مضت، في مُجرَّد سقوط نظام الأسد، وإنما بالانتقال إلى نظام سياسي حداثي بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى.
العربي الجديد
————————–
السوريون يلاقون الاندفاعة الدولية: تصويب “الإدارة” بالمعارضة الديموقراطية/ منير الربيع
الجمعة 2025/01/03
يواصل السوريون انتفاضاتهم حتى بعد انتصار الثورة. هم يدركون أن “الانتفاضة” لن تتوقف، لا بل دخلت في مرحلة جديدة وشديدة الدقة والتحدّي. هم الذين نجحوا في تطويع الظروف والأحداث على مدى سنوات، في عقود سابقة، وتكيّفوا مع ظروف القمع والاستبداد بلا استسلام. وفي سنوات الثورة، تحمّلوا المجازر والتهجير والاعتقال. وفي سنوات ما بعد العسكرة وما ظنّه النظام السوري انتصاراً على المعارضة، وتكريساً لقوته العسكرية كطرف أوحد، تمردوا على كل محاولات “تعويم بشار الأسد” دولياً وعربياً، رفضوا الاعتراف والاستسلام، وقالوا إن ثورتهم عندما اندلعت لم تكن بتوجيهات خارجية ولا بناء على موازين قوى إقليمية، ولم يستشيروا أحداً في الخروج إلى هذه الثورة، فما استسلموا. وبالتزامن مع كل محاولات تطويعهم لصالح الأسد وتعويمه، كان النظام يتداعى من الانهيارات السياسية، الأمنية، الاقتصادية والمعيشية، وصولاً إلى سقوطه النهائي مع إطلاق عملية ردع العدوان العسكرية.
فتح انتصار الثورة السورية الباب على سجالات كثيرة، وخلافات أكثر حول الجهة التي يمكنها أن تتبنى هذا الانتصار. حتماً اتجهت هيئة تحرير الشام إلى تبني الانتصار العسكري ونسب الانتصار الثوري وحصره بها وحدها. حتى أن بعض مسؤوليها كانوا يشيرون إلى فضلهم في الانتصار وعدم الاعتراف بالعمل التراكمي الذي أقدم عليه كل الشعب السوري. ومن السجالات التي تسجّل أيضاً هو التسابق حول من هي الجهة التي وصلت إلى دمشق قبل الأخرى بعيد مغادرة بشار الأسد للعاصمة السورية.
حيوية الاعتراض
يمارس أحمد الشرع “سلطته المطلقة” كمنتصر أوحد في الثورة، وهو يتحدث بوضوح عن ضرورة الانسجام وعن الانفتاح على المكونات الأخرى. وذلك يجعل انتفاضة السوريين مستمرة ومتواصلة. من انتفاضة النساء السوريات على تصريح لعائشة الدبس، إلى “انتفاضة زنوبيا” رداً على أفكار تتصل بتغيير المناهج الدراسية. يظهر المجتمع السوري حيوية استثنائية في مواجهة أي قرارات يمكن أن تتخذ من قبل الإدارة الجديدة، وتلقى معارضة شرائح كثيرة من المجتمع، ولا سيما من صفوف وصنوف المعارضين الأساسيين للنظام الأسدي.
تدفع الحيوية السورية، ورفض الشعب السوري العودة إلى زمن يعتبرونه غبر، باتجاه تشكيل عناصر ضغط قوي قادرة على استعادة توازن القوى السياسية. وهو ما دفع الإدارة الجديدة إلى التراجع عن قرارات كثيرة، وصولاً إلى توضيح عدم إدخال تغييرات على مناهج التعليم، أو إعادة النظر في طريقة توجيه الدعوات للحوار الوطني السوري وكيفية مشاركة القوى والأطراف المختلفة فيه، بدليل أن ذلك يحتاج إلى عملية إنضاج واضحة. تلك الحيوية هي التي ستمتحن “براغماتية” القيادة الجديدة في كل الاستحقاقات الداخلية، إن على مستوى تنظيم الحوار ومحتواه والمشاركين فيه وصولاً إلى إطلاق المؤتمر السوري العام، وتشكيل الهيئات المناط بها كتابة الدستور أو تحديد شكل النظام السياسي، وكيفية تشكيل حكومة المرحلة الانتقالية التي تضم مختلف المكونات، وتحديد مواعيد الانتخابات وقوانينها. أو على مستوى تشكيل من سيقوم بمهام العدالة الانتقالية، بالإضافة إلى الاستحقاقات الاقتصادية والإدارية والأمنية.
النقد والديموقراطية
فمنذ 13 عاماً على انطلاق الثورة، راكم فيها المجتمع السوري بأكمله تجارب كثيرة، وخبرات مع ثقافة سياسية تمنع على نحو واضح أي محاولات للمصادرة أو الإقصاء أو الاستئثار. فالسوريون اكتسبوا ممارسة نقدية وديمقراطية، وهم الذين خرجوا من القمقم والصمت المفروض أسدياً، ولن يعودوا إلى أي قمقم آخر. وهذا ما يجبر القيادة الجديدة، على التراجع عن سلسلة قرارات وزارية أو سياسية، بفضل سرعة وقوة ردود فعل مختلف أطياف وشرائح المجتمع السوري، المتمسك باحترام التنوع واحترام الحريات واحترام فكرة العدالة والمساواة، بما يبشّر بسوريا حيوية وديناميكية ستفرض نفسها على أي سلطة ستنبثق بعد هذه المرحلة الانتقالية.
في المقابل، تأتي الجهود الغربية والعربية، لتلاقي رغبات وتطلعات الشعب السوري كضغط مواز على القيادة الجديدة، تحت عنوان ضرورة تمثيل كل مكونات الشعب السوري على قدر كبير من المساواة والعادلة، والحرص على أن تكون سوريا الجديدة بنظام سياسي ديمقراطي، وعلى الأقل يمثل الحرية السياسية للسوريين. وليس المقصود بالمكونات الطائفية فقط، بل المكونات السياسية أيضاً، إذ لا يمكن حصر المجتمع السوري بتوزيعه على طوائف وملل، لا سيما أن كل ملّة تحتوي على مكونات سياسية مختلفة، من دون إغفال الدافع المصلحي لكل دولة من هذه الدول في المسارعة إلى سوريا، وتثبيت الحضور السياسي أو الاقتصادي.
يواكب المجتمع السوري بحيويته السياسية، حيوية دولية مندفعة باتجاه دمشق، والتي تتجلى في توالي زيارات المسؤولين الدوليين، بعضها يصب في سياق اكتساب المشروعية الخارجية من قبل القيادة الجديدة، وبعضها الآخر يندرج في سياق البحث عن مصالح أو فرض شروط وأجندات، وما بينهما محاولات من جهات كثيرة لاستغلال أي اختلال سياسي، أو اجتماعي، لتغذيته، بالمعنى الأمني والعسكري، في محاولة لإعادة إغراق سوريا بالفوضى أو بنزاعات دموية على “وجهة” الدولة أو طبيعة النظام السياسي. وهذا بالضبط ما يحاول السوريون تجنّبه لعدم العودة إلى الاقتتال، أو إلى الانقلابات، أو إلى فرض مناطق النفوذ بما يحاكي تجربة ليبيا مثلاً.
ولذا، ومن أجل حماية سوريا وثورتها، علينا أن ننصت جيداً لنقد السوريين ورغباتهم، بوصفها غاية كل سياسة.
المدن
————————
أحمد الشرع… “أدلبة” دمشق وبناء الطبقة الحاكمة/ مراد بطل الشيشاني
03 يناير 2025
لعلّ لقاءات الحاكم الفعلي لسورية اليوم، أحمد الشرع، ذات الطابع الخارجي، تلقى اهتماماً كبيراً، لا تلقاه تلك ذات الطابع الداخلي، سواء لقاؤه مع رجال الأعمال، أو مع وفود من سوريين يقيمون في الخارج، أو رجال الدين الدمشقيين، لا بل حتى زيارته حيّه السابق، المزّة. ولكل هذه اللقاءات والزيارات أهمّية، تعطي مؤشّرات إلى دولة ما بعد الأسد في سورية. تطمين الخارج، والبحث عن قنوات تواصل وتفاهمات إقليمية ودولية أمر مفهوم، لكنّه واضح بدرجة كبيرة، لكن ماذا عن الداخل؟
كثيراً ما تستدعي هذه اللحظة التاريخية الرؤساء الذين حكموا سورية، منذ الملك فيصل بعيد الحرب العالمية الثانية. ولعلّ حافظ الأسد أكثر تلك النماذج ارتباطاً بتأسيس نموذج بنمط جديد للدولة، منذ انقلابه على صلاح جديد في “الحركة التصحيحية” (1970). ويحضر هنا كتاب الفلسطيني الأميركي، حنا بطاطو (1926- 2000)، “فلاحو سورية… أبناءُ وجهائهم الريفيين الأقل شأنًا وسياساتهم” (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، الدوحة، 2014)، بحكم الجدل الدائر حالياً همساً في دمشق، عن أدلبة المدينة، نسبة إلى إدلب، حيث كان مستقرّ المعارضة السورية، وفيها نظمت هيئة تحرير الشام “حكومة الإنقاذ”، وهو النموذج المطروح شكلاً أمثل لحكم سورية الجديدة من أحمد الشرع ونخبته. أيضاً، ارتبطت الأدلبة بتغييرات اجتماعية تشهدها المدينة، دفعت بعضهم إلى الإشارة إلى غياب المدن الكبرى عن التحوّلات السياسية الجديدة، حتى أن بعضهم يتندّر بأن “إدلب هي القرداحة الجديدة”، “فلا يوجد ولا دمشقي في الحكومة الجديدة”، على حدّ تعبير أحد الشوام الذين تحدّث إليهم كاتب هذا المقال.
يصف بطاطو حافظ الأسد بـ “الرئيس الفلّاح”، ويرى أنه بنى سلطته ونظامه اعتماداً على دوائر مقرّبة على شكل طبقاتٍ تبدأ من مسؤولي الأمن والمناصب الحسّاسة، ومن ثمّ الطبقة السياسية في حزب البعث، بحيث إنه بنى الطبقة المحيطة به بشكل دقيق. ولكن بعد عام 1976، ووصولاً إلى ذروة مواجهته مع الإخوان المسلمين في حماة عام 1982، حين ارتكب مجزرته المشهورة، بات يعتمد بشكل أكبر على أبناء طائفته العلوية. ويقدّم بطاطو مسحاً مهمّاً بالأسماء الذين يتولّون مناصب حسّاسة في الدفاع والأمن من غير العلويين، لكن القرارات بيد علويين اختارهم الأسد بعناية.
ويناقش بطاطو أن لجوء الأسد إلى طائفته نابع من طبيعته الريفية، التي دفعته إلى الالتفاف حول الأقربين. وبهذا المعنى، نعم ليس الشرع الأسد، وقد لا يقبل بمقارنة من هذا النوع، ولا هو فلاح بتعريف بطاطو الأسد، ولا من خلال خلفيته الاجتماعية. لكن من الواضح أنه ينحو، في سياسته، بهذا الاتجاه في تنصيب مقرّبين، وبناء طبقة حاكمة ترتبط بمشروعه بشكل مباشر، كما يتبدّى من الأسماء التي اختارها للمناصب الحسّاسة (الأمن وبدرجة أقل الخارجية) ويعيد إنتاج طبقة (مسنوداً بشعبية كبيرة) مدينية، تستلهم من ماضيه الدمشقي، على قصر الفترة التي قضاها فيها، وعلى تأثّره بوصف “النازح” خلال طفولته هناك. وبالتالي، يستدعي هذا أيضاً جذب طبقة رجال الأعمال، بشكل يُذكّر بالنموذج الأردوغاني، الذي أنتج طبقة جديدة من رجال الأعمال، سحبت البساط من برجوازية اسطنبول القديمة، وأعاد موضعتها في مناطق جديدة في أطراف العاصمة، حتى باتت هي المركز بحكم وجود المطار وناطحات السحاب فيها.
وهذا يستدعي، أيضاً، سياسات رعاية اجتماعية، سيلجأ إليها الشرع، لبناء قاعدة مدنية جديدة له، وهو ما تبدّى في لقاءاته مع مشايخ دمشق، وهم رعاة الأعمال الخيرية بطبيعة الحال في كثير من المناطق الأقلّ حظاً في دمشق، التي ستكون نواة تلك القاعدة. كما أن عملية عودة اللاجئين يلتفت إليها الشرع بعناية، لأنها ستفرض وقائع ديمغرافية مهمّة. لكن التحدّي الأكبر الذي سيواجهه الشرع في هذا الصدد، على المدى القصير، قدرته في التوصّل إلى اتفاق مع الفصائل المسلّحة الأخرى، التي ترفض إلقاء السلاح، وتعتقد أن دورها في إسقاط الأسد كان لا يقلّ (إن لم يكن أكبر)، من دور هيئة تحرير الشام، ومن غرفة العمليات العسكرية، على الرغم من الإعلان عن اتفاق الفصائل كافّة على نزع السلاح، وهو أمر لم يتحقّق في الواقع بعد. أمّا على المستوى الأبعد، فالتحدّي الأكبر الذي يواجهه الشرع، هو إبقاء قاعدته الصلبة، من رفاق السلاح، والجهاد، ملتفّين حول تصوّره الجديد، أو ما يسميه كاتب السطور التحوّل داخل السلفية الجهادية، إذ هناك محكّات شرعية- دينية، ستشكّل اختباراً لتلك العلاقة، التي لن يرى هؤلاء فيها إمكانية التفاوض، وتقدير المصلحة فيها، ولعلّ موضوع المقاتلين الأجانب إحداها، بكلّ ما تثيره من أزمة ترتبط بتجنيس كثيرين منهم ودمجهم في مشاريع تطوير الجيش، وهو ما قد لا يلقى قبولاً محلّياً، لكن القاعدة الصلبة ترى هذا واجباً شرعياً تجاه إخوة السلاح. ومثل هذه القضايا ما زال كثير منها قيد الانتظار في سورية.
العربي الجديد
————————–
“الهيئة” بين الداخل والخارج/ حسام كنفاني
03 يناير 2025
منذ توليها زمام قيادة سورية بعد سقوط نظام بشّار الأسد، أبدت هيئة تحرير الشام قدراً كبيراً من البراغماتية في التعاطي مع الخارج، مع تعديلٍ في الخطاب الموجّه إلى الدول العربية والغربية لمحاولة طمأنتها إلى حسن نياتها في إدارة المرحلة الانتقالية في سورية الجديدة، إضافة إلى أنها لن تشكّل خطراً على الغرب أو دول الجوار، وبعث رسائل إلى أنها لن تكون مرتهنة لدولة بعينها.
ومن الواضح أن زعيم “الهيئة”، أحمد الشرع، يغازل السعودية منذ اليوم الأول، وهو اختار منصات إعلامية سعودية للظهور عليها بمقابلتين عربيتين، إضافة إلى مقابلتيه مع “سي أن أن” الأميركية و”بي بي سي” البريطانية. غزل ردّت عليه الرياض بإيجابية، بداية من إرسال الوفد السعودي، برئاسة مستشار في الديوان الملكي، للقاء الشرع، مروراً بطائرة الإغاثة السعودية التي وصلت إلى دمشق قبل يومين، وأخيراً دعوة وزير الخارجية في الحكومة المؤقتة، أسعد الشيباني، لزيارة الرياض، وهو ما حصل أمس. واللافت في الزيارة، ورغم أن الإعلان عن الدعوة كان مخصّصاً فقط لوزير الخارجية، إلا أن الوفد ضم إضافة إلى الوزير المعني وزير الدفاع ورئيس جهاز الاستخبارات.
رفع مستوى الوفد الزائر، وهو من المؤكد بالتنسيق مع السلطات السعودية، يشير إلى أن الملفات التي ستبحث أوسع بكثير من العلاقات الثنائية، وأن “الهيئة” تسعى إلى دور أساسي سعودي في المرحلة الانتقالية السورية، خصوصاً في ما يتعلق بإعادة بناء الأجهزة الأمنية وإعادة الإعمار ورفع العقوبات المفروضة على النظام السوري السابق، والتي ما زالت البلاد تعاني منها. ولعل الطلب الأهم سيكون الضغط عبر الوسطاء والحلفاء على الفصائل المسلحة الأخرى لتسليم سلاحها، وقطع الطريق على أي تدخّل يؤجج الفوضى الحالية، وما قد تصل إليه من اقتتال أهلي في حال استمرارها.
وأن تكون السعودية المحطة الخارجية الأولى لوفد من الحكومة الانتقالية، فذلك يحمل دلالات سياسية، موجّهة بالأساس إلى تركيا التي سارعت إلى تبنّي “الهيئة” وحكومتها، غير أن من الواضح أن هناك توجّساً متبادلاً بين الطرفين، وهو ما يفسّره بقاء “الحكومة المؤقتة”، برئاسة عبد الرحمن مصطفى، المعروف أنها تعمل تحت الغطاء التركي. كذلك فإن عمل “الجيش الوطني” في الشمال، والموالي أيضاً لأنقرة، يجري من دون تنسيق مع قيادة العمليات في الهيئة. وبالفعل، تسربت معلومات عن رفض تركي طلب الهيئة تسليم “الجيش الوطني” سلاحه، خلال زيارة وزير الخارجية هاكان فيدان إلى دمشق.
هذه الرغبة في التقارب مع السعودية والإعجاب الذي أبداه الشرع في مقابلته بـ”رؤية 2030″، والتي تعني انفتاحاً اجتماعياً لم يسبق أن شهدته السعودية وبدأ يظهر فعلياً، لا تتماشى مع ما تقوم به الهيئة داخلياً، والذي سيثير حفيظة الرياض وغيرها من العواصم العربية غير المستعدة للتعايش مع “نظام حكم إسلامي” في المنطقة. وكان لنا في مصر مثال، رغم أن حكم الإخوان المسلمين كان أقلّ تشدداً بكثير مما بدأ يظهر على السطح من وزراء “الحكومة المؤقتة”، فتعديل المناهج التعليمية في سورية، وبحسب قرار من وزير التربية المؤقت، رغم أنه ليس من صلاحياته في هذه المرحلة الانتقالية، والحديث عن قالب محدد للمرأة السورية وفق مفهوم عائشة الدبس، وغيرهما من ممارسات، لا تبشر بنظام سوري من الممكن أن تتعايش معه الدول العربية القريبة والبعيدة، ولا الحكومات الغربية التي لا قيامة لسورية من دون توافقها على رفع العقوبات وتخفيف الحصار الذي خنق اقتصاد البلاد.
قد يكون من المبكر الحكم أن هذا النظام هو ما تسعى “الهيئة” إلى تكريسه، خصوصاً في حال توسع الانفتاح عليها عربياً وغربياً، الأمر المفترض أن يجبرها على تعديل في استراتيجيتها لحكمٍ لا يلائم سورية.
العربي الجديد
—————————
صليب صيدنايا… كيف ترتهن العمارة الإنسان؟/ مي بركات وبلال بيلغيلي
03 يناير 2025
تتكشف على الشاشات تراجيديا معاصرة بعد عقود خمسة من التعتيم الأسدي على أساليب التعذيب الممنهج الذي مورس بحق الإنسان السوري في سجون النظام الممتدة على طول الجغرافيا السورية. المأساة المتتالية المكثفة والمتكشّفة يومياً تتجاوز قدرة العقل البشري على الاستيعاب والتصور، إذ تختفي اللغة تماماً، وتحتقن المشاعر وتتكدّس في شِفاه السؤال الأكثر سذاجة وحضوراً عن حال أولئك الذين نجوا من السجون، هذا إن نجوا حقيقة! وعددهم يتجاوز عشرات الآلاف، فضلاً عن الذين سُلبت منهم عقولهم لهول ما عاشوا، أو الذين قتلوا تحت وطأة التعذيب أو الإهمال الصحي وظروف العيش السيئة في السجون، ويقدر عددهم منذ 2011 بأكثر من 53 ألفاً، فضلاً عن المفقودين الذين يتجاوز عددهم مائة ألف، حسب تصريح المرصد السوري لحقوق الإنسان في 21 ديسمبر/ كانون الأول 2024.
منذ سقوط نظام بشار الأسد في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024، تسابقت الكاميرات من كل نوع للولوج إلى أقبية السجون السورية التي لفّها مطولاً كثير من الغموض والسرّية، فمن فرع فلسطين إلى فرع المخابرات العسكرية (291)، يبرز سجن صيدنايا سيئ الصيت، لا بفظائعه التي شهدتها جدرانه فقط، بل أيضاً بتصميمه المعماري الفريد قُبحاً. وفي بلاد تزخر بالسجون الملأى عن آخرها بشبان وشابّات سيقوا إلى مقاصل الإعدام وزنزانات التعذيب بدلاً من مقاعد البرلمانات ودوائر المشاريع التنموية لبناء الأوطان التي ظنّوا أنها تتسع لهم ولأحلامهم، يلقي السؤال الثقيل التالي بنفسه على حواضر بلادنا: لماذا كلّ هذه السجون؟ ومن هذا السؤال بالذات، وصليب التعذيب المنصوب حتى الأمس القريب في صيدنايا، تتناول هذه المطالعة فضاء الجسد الذي تمارس الدولة سلطتها عليه من خلال توظيف العقاب والتعذيب تقنيات ممنهجة لإنشاء الفرد والمجتمع المنضبط، والكيفية التي تُطوع فيها العمارة لارتهان روح المعتقل – الإنسان وجسده، خدمةً لتحقيق أهداف التحكّم والمراقبة والانضباط الذي تسعى إليه الدولة الحداثية.
السجن: فضاء تصنيع الجسد الانضباطي
يفتتح الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو كتابه “المراقبة والمعاقبة… ولادة السجن” (نقله إلى العربية علي مقلد، مركز الإنماء القومي، بيروت، 1990)، بلوحة شديدة الفظاعة عن التعذيب الجسدي، وهو يسترجع تفاصيل حكم الإعدام الصادر عام 1757 بحقّ روبرت داميينز، المتّهم الذي حاول اغتيال الملك الفرنسي لويس الخامس عشر، ويستطرد “فوق منصّة الإعدام التي ستنصب هناك، يجري قرصه (داميينز) بالقارصة في حلمتيه وذراعيه، وركبتيه وشحمات فخذيه… ثم تحرق يده بنار الكبريت، وفوق المواضع التي قرص فيها يوضع رصاص مذوب، وزيت محمى وقار صمغي حارق، وشمع وكبريت ممزوجان معاً، وبعدها يمزّق جسده ويقطع بواسطة أربعة أحصنة، ثم تتلف أوصاله وجسده بالنار، حتى تتحول إلى رماد يذرى بالهواء”. ترسم هذه الصورة الشنيعة من الألم الذي تمارسه السلطة على الجسد لنا أبعاد “المواجهة الجسدية” بين الحاكم (أو من يفوّضه) والسجين، حيث يصبح الجسد الفضاء الذي يمارس الحاكم سلطته عليه بالانتقام من السجين، مستأثراً به، سالباً فاعليته المادية ومستعمراً روحه، فإن لم يفنَ بالموت نجح بتوجيهه بعد ذلك كيفما شاء، مستولياً على ذاتيّته وحرّيته، وهو في صنعه ذاك يهدف إلى تصنيع الجسد الانضباطي الخاضع الطيّع. لذلك يفترض فوكو أن التعذيب الذي تمارسه السلطة ليس عملاً عشوائياً وإنما منظّماً ومحسوباً بدقة متناهية، ما يؤهله ليكون تقنية وجزءاً من مراسم وطقوس منهجية تترك على الجسد آثارها الدائمة والمرئية من السجين والآخرين التي ستلتقطها عيونهم بلا شك، وتحتفظ بها ذاكرتهم جيداً، وبذلك تحقق الدولة الانضباط المنشود من خلال وسيط اسمُه “الجسد المعذّب”، والذي تعلن على ميدانه انتصارها باعتبارها صاحبة القوة القهرية العُليا.
شهد منتصف القرن الثامن عشر مطالباتٍ بإصلاح السياسة العقابية في سجون أوروبا والولايات المتحدة، التي أثمرت في أواخر القرن الثامن عشر حتى منتصف القرن التاسع عشر، سلسلة إصلاحات استهدفت فلسفة العقاب، إذ ترجمت بتقهقر ممارسة العنف في الفضاء العام (الساحة والجمهور) إلى فضاء السجن المُواري، واستبدال أساليب التعذيب بإجراءاتٍ عقابيةٍ تأديبية أخرى، مثل: السجن المؤبد والزنازين الانفرادية. وعلى الرغم من النَفس الإصلاحي، بقي الجسد حاضراً باعتباره مادة للعقوبات وخامة لها، ووسيطاً أساسياً تمارس السلطة عليه منهجياتها وأهدافها، مستحوذةً على ملكيته تماماً داخل جدران السجن؛ فهي المتحكّمة بكمية طعامه ونوعه وأوقات نومه ورياضته وأحيانا بأجله. هذا التحكّم من صاحبة السلطة القهرية المادية – الدولة بجسد السجين، يقودنا إلى السؤال الذي جاء عنواناً لكتاب “من يمتلك حقّ الجسد… قراءة في الحياة السجنية” (مركز أمم للتوثيق والأبحاث، بيروت، 2022)، للمصري أحمد عبد الحليم، الذي خلص من خلال مقابلات شخصية مع سجناء وسجينات مصريين اكتظّت بهم السجون المصرية، لا سيّما بعد الانقلاب العسكري في مصر في يوليو/ تموز 2013، إلى الكيفية التي تعاد هندسة الإنسان بموجبها داخل السجون، إذ يُفكك جسده وروحه ويُعاد بناؤهما مرّة أخرى من خلال “محو الكينونة الإنسانية لدى النفس والذات، فتنزع عنها صفات لطالما تعارفت عليها مثل الكرامة والحرية والاعتراض (…) واستبدالها بصفات أخرى مثل المهانة والخضوع والطاعة”. وبكلمات أخرى، تُهدم ذات السجين وتُبنى ذات أخرى بثقافة وسلوك جديدين، هذا الهدم والبناء يتم من خلال خطوات أولى، يستباح بها جسد السجين، سواء بضربه أو تعريته القسرية، فممارسة القوة القهرية عليه، بهدف تحقيق صدمة أولية لدى السجين ينضم بموجبها إلى جمهور المستسلمين من السجناء السابقين ليتشاركوا حالة نفسية جماعية من الخوف من سلطة السجن التي أصبحت تتحكم بهم بالمطلق، حيث الإهانة والضرب هما المتوقعان دائماً.
سجن الموت الأحمر
على بعد 30 كم من شمال دمشق تقع مدينة صيدنايا، وهي إحدى أعرق مدن الشرق القديم، التي تشتهر بطبيعتها الجميلة وآثارها المسيحية من الكنائس والأديرة، وقيل الكثير في معنى اسمها الآرامي، حتى اشتهر منها أنها كانت أرضاً لصيد الغزلان. شهد اسم المدينة نقطة تحول في ثمانينيات القرن الماضي حينما قرّرت الحكومة السورية السابقة إنشاء سجن صيدنايا الذي أُسس في البداية ليكون سجناً عسكرياً، تحوّل في ما بعد مقبرةً للمدنيين والمعتقلين السياسيين.
تُقدم منظمة العفو الدولية في تقريرها المعنون بـ”المسلخ البشري”، والصادر عام 2017، سجن صيدنايا بأنه “المكان الذي تقوم به الحكومة السورية (السابقة) بذبح شعبها بهدوء”، فهو ليس إلّا عالماً “صمّم لإذلال المعتقلين داخل السجن بهدف النيل من كرامتهم”، وذلك من خلال اعتماد أساليب تعذيب ممنهجة ومصمّمة للتسبب بأقصى درجات العذاب النفسي والبدني للمعتقلين، وهو ما دفع المنظمة المذكورة حينئذ إلى توصيف ممارسات السلطات السورية بحقّ المعتقلين داخل مراكز الاحتجاز، وتحديداً منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، بأنها من قبيل أفعال الإبادة، إحدى الجرائم ضدّ الإنسانية التي تندرج ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية وفقاً لنظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لعام 1998، وتعني (الإبادة) “تعمّد فرض أحوال معيشية، من بينها الحرمان من الحصول على الطعام والدواء، بقصد إهلاك جزء من السكّان”، وذلك متى ارتُكبت هذه الممارسات على نطاق واسع أو ممنهج، الأمر الذي يُرتّب المسؤولية الجنائية للأفراد – المسؤولين المتورطين بارتكابها.
برامج تعذيب ممنهجة
اعتمدت الشرطة العسكرية التي كانت تدير سجن صيدنايا برنامجاً ممنهجاً من الإساءة والتعذيب والمعاملة القاسية بحقّ المعتقلين، والتي كان يقصد منها حسب ما ورد على لسان أحد الحراس السابقين في السجن: “زرع الرهبة والخوف في نفوس المعتقلين منذ البداية… كنّا نريد أن نجعلهم يدركون أنهم قد أصبحوا الآن سجناء، وأنهم أصبحوا تحت نِعالِنا”. وقد تعدّدت أساليب التعذيب المعتمدة في السجن ما بين: الضرب المبرّح الذي مورس، لا للحصول على الاعترافات فقط، وإنما من أجل الإذلال سواء باستخدام العصي البلاستيكية والخشبية أو بأسلاك كهربائية نحاسية عُلقت على أطرافها عقافات صغيرة، حتى تعلق بجلد المعتقل، أو الضرب بما يعرف بالدبابة، وهي أداة مصنوعة من أسلاك إطارات السيارات مربوطة بمقبض خشبي، وكذلك الحرق بأعقاب السجائر، وإجبار المعتقلين على الوقوف في الماء لتلقي الصدمات الكهربائية، إضافة إلى استخدام العنف الجنسي الذي شمل إجبار المعتقلين على لمس بعضهم بعضاً في المناطق الحسّاسة، وأحياناً كثيرة إجبارهم على اغتصاب بعضهم بعضاً، وإلا تعرضوا للتعذيب الشديد في حال الرفض، فضلاً عن حرمانهم من الحصول على الماء والطعام الكافي، وتعريضهم أيضاً لدرجات حرارة شديدة البرودة في فصل الشتاء، وحرمانهم من مستلزمات النظافة الشخصية، وهو ما ينتج عنه انتشار الجرب والقمل في ما بينهم، والالتهابات التي أصيب بها بعضهم نتيجة التعرّض للضرب المبرّح وعدم تلّقي العناية الطبّية اللازمة لعلاجها، ما أدى إلى تفاقمها إلى حدّ الإصابة بالغرغرينا، التي استلزمت بتر العضو المصاب.
إعدامات بالجُملة
شهدت جدران السجن تنفيذ عمليات إعدام جماعية، فأُعدم شنقاً أكثر من 13 ألف سجين ما بين مارس/ آذار 2011 وديسمبر/ كانون الأول 2015، بمعدل 20 إلى 50 شخصاً أسبوعياً، حسب تقرير المنظمة المذكور، فالسجناء الذين حوكموا في محاكمات ميدانية عسكرية صورية لا تتجاوز مدتها الدقيقتَين، أُعدموا لاحقاً بعد الموافقة على قرار إعدامهم من كبار المسؤولين السوريين، منهم مفتي سورية ووزير الدفاع أو رئيس هيئة الأركان المشتركة للجيش السوري، بصفتهم مفوّضين بالتوقيع عن رئيس الجمهورية السورية آنذاك. وكانت عمليات الإعدام تُنفّذ في ليالي الاثنين والأربعاء في غرفة الإعدام الموجودة تحت غرفة المعتقلين، إذ سيق هؤلاء إلى غرفة الإعدام من دون أن يعلموا مسبقاً أنهم على وشك أن يُقتلوا، وقبل تنفيذ عملية الإعدام كان حرّاس السجن يمارسون عليهم ما سمّوه بالحفلة، وهي كناية عن الضرب المبرّح، الذي كان يستمرّ لساعات. فيما لم تمنع السقوف الإسمنتية وصول غرغرات المشنوقين التي تستمرّ عادةً عشر دقائق إلى مسامع المعتقلين الموجودين في زنزانات الطابق العلوي، الذين كان يصيبهم الذهول والغبطة في الوقت ذاته تجاه الذين أُعدموا، فالموت بالنسبة لهم “هدية وخاتمة العذاب في صيدنايا.
واستكمالاً لعملية الإعدام، كانت الجثث تنقل ما بين الساعة الرابعة فجراً والسادسة صباحاً إلى خارج السجن بواسطة شاحنة هونداي خضراء إلى مستشفى تشرين العسكري، حيث يتولى موظفو المستشفى تسجيل أسماء الضحايا. فيما لم تُعلَم عائلات الضحايا بوفاة ذويها، ولا يتم تسليمها الجثامين، كما لم تُستخرج للضحايا شهادات وفاة إلا نادراً، فبالعادة تبقى تفاصيل الجثث محفوظةً في سجلات السلطات السورية التي لا يطلع عليها أحد. ومن ثم تُدفن هذه الجثث في مقابر جماعية تابعة للجيش السوري، الموجودة في الغالب في قرية نجها الواقعة بين السويداء ودمشق، أو في بلدة قطنا الواقعة في غرب دمشق.
شكّل برنامج التعذيب والقتل المذكور تقنيات وُظّفت خلال المواجهة الجسدية ما بين الدولة والسجين على جسد السجين، بهدف الانتقام منه وتحقيق الانضباط الذاتي في حال أُفرج عنه أو التخلّص منه باعتباره “عشبةً ضارّةً لا نفع منها”، ضمن إطار واسع من الهندسة الاجتماعية للفرد فالمجتمع، لخلق مجتمع منضبط ذاتياً خاضع لسلطة الدولة الحداثية ذات القبضة الشاملة، وللوصول إلى الفاعلية القصوى من تقنية العذاب، فقد عملت الدولة الحداثية أيضاً على تطويع عنصر الفضاء المعماري أو التصميم الهندسي للسجن، وهو ما يمكن ملاحظته من خلال تصميم سجن صيدنايا.
صور سوريي لقوا حتفهم في سجن صيدنايا وغيره من سجون الأسد خلال مراسم تأبين لهم في جرمانا بريف دمشق (21/12/2024 Getty)
صور سوريين قضوا في سجن صيدنايا وغيره من سجون الأسد في مراسم تأبين بجرمانا في ريف دمشق (21/12/2024 Getty)
رهائن عمارة السجن: الروح والجسد
تقوم النظرية العامة للعمارة على ما يُعرف بثلاثية فتروفيوس المتمثلة بتحقيق عناصر الجمال والوظيفة والمتانة في التصميم الهندسي لأيّ بناء، بالمقابل تستند نظرية عمارة السجون على تحقيق عنصري الوظيفة والأمن فحسب. انطلاقاً من هذه النظرية استندت تصاميم السجون الحداثية على أحد الأنظمة المعمارية التالية: الأول نظام بانوبتيكون الذي يهدف إلى تعزيز المراقبة والانضباط؛ والثاني نظام بنسلفانيا المرتكز على تحقيق العزلة والصمت؛ بينما يزاوج النظام الثالث المعروف بأوبورن بين العمل والصمت. وليس من نافل القول التأكيد بأن التصاميم المعمارية للسجون ذات أثر كبير وعميق على الصحة العقلية والجسدية والاجتماعية على السجناء والعاملين فيها.
يتألف نظام بانوبتيكون الذي ابتدعه جيريمي بينثام من هيكل دائري مع برج مراقبة مركزي محاط بزنازين، يهدف هذا التصميم إلى خلق بيئة يمكن فيها مراقبة كل سجين في أي وقت. ومن خلال تحسين وظيفة المراقبة في السجون، سعى هذا التصميم إلى تحقيق أقصى قدر من السيطرة مع وجود حد أدنى من الموظفين بواسطة التخطيط الاسترايتيجي للممرّات بهدف التنظيم الفعّال للمداخل والمخارج ممّا سهّل مراقبة جميع تحركات وتصرفات السجناء، وتمثل الهدف النهائي لهذا التصميم في ضبط سلوك السجناء ذاتياً، من خلال إدراكهم بخضوعهم المستمرّ للمراقبة، وبعبارت أخرى اعتبر هذا التصميم وسيلة فعّالة لتعزيز الانضباط الداخلي لدى الأفراد حسب فوكو.
أما نظام بنسلفانيا فيقوم على أساس عزل السجناء بالكامل في زنازين فردية، على أن تكون كلّ زنزانة مفتوحة على فناء خاصّ، مع منع السجناء من التواصل مع بعضهم بعضاً. وقد اعتبر العزل وفقاً لهذا النظام وسيلةً لحثّ السجناء على التفكير في أخطائهم وتقييمها، فالزنازين الفردية ذات الضوء الطبيعي والمطلّة على فناءات تهدف إلى توفير مساحة للسجناء لإعادة التأهيل الصامت لذواتهم. وعلى الرغم من هذا، فقد كان للعزل الكامل آثار نفسية مدمرة على السجناء ممّا أدى إلى اصابتهم بأمراض نفسية مزمنة مثل الاكتئاب والهذيان والاغتراب الاجتماعي.
أخيراً، يسمح نظام أوبورن للسجناء بالعمل معًا أثناء النهار أما خلال الليل فيُحبسون في زنازين فردية. يستخدم هذا النظام عادةً تخطيطاً خطياً أو “عمود هاتف”. وما يميز هذا النظام توفيره نشاطات للسجناء مثل عقد ورش العمل مع منحهم مساحات عمل داخل مباني السجن لتسهيل تنمية مهاراتهم وتمكينهم من المساهمة في الإنتاج من خلال العمل، وبذلك يسعى هذا النظام إلى إعادة تأهيل السجناء مع تحقيق عوائد اقتصادية أيضاً، ونظراً لتكلفته المنخفضة وقدرته على الحفاظ على النظام الاجتماعي بين السجناء فقد اعتُمِد على نطاق واسع في تصاميم السجون.
آليات عقابية في أنظمة غير ديمقراطية
منذ القرن العشرين، أكدت تصاميم السجون الحداثية على احترام حقوق السجناء، وأصبح إعطاء الأولوية لحقوق الإنسان الأساسية ودمجها في تصميم السجون أمران محوريان. فقد دعت “القواعد الدنيا النموذجية لمعاملة السجناء” الصادرة عن الأمم المتحدة عام 1955 (قواعد نيلسون مانديلا) إلى إنشاء بيئات مادية واجتماعية تضمن ظروف معيشية كريمة للسجناء وذلك امتداداً للنهج الإصلاحي الذي شهدته السجون منذ القرن الثامن عشر فما بعد. أمّا في الأنظمة غير الديمقراطية، فلا زالت تُستخدم السجون أدواتٍ للقمع السياسي، حيث ترتكّز في أنظمة عقابية بدائية محورها العقوبة البدنية مثل سجن صيدنايا.
بدأ العمل على تشييد سجن صيدنايا عام 1981، واكتمل بناؤه عام 1986، ويقع على تلّة صخرية على بُعد 5 كيلومترات غرب بلدة صيدنايا. يتبنى التصميم الهندسي للسجن نظام بنسلفانيا حيث فرض العزلة الكاملة والمكثّفة للمعتقلين إمّا بشكل فردي أو في مجموعات، وتؤدّي الخصائص والظروف المكانية للسجن إلى تفاقم آثار العزلة والعنف الجسدي مع تضخيم الإساءة النفسية للمعتقلين لتصل مستويات غير معقولة.
لا توفّر اللقطات الجوّية والصور المرئية لسجن صيدنايا تفاصيل كافية لتحليل شامل لتصميمه الهندسي. ومع ذلك، فإن محاولة إعادة تركيب وتصميم السجن هندسياً من قبل منظمة Forensic-Architecture عام 2016، وفقاً لشهادات معتقلين سابقين كشفت مخطّطاً هندسياً بسيطاً عززته أخيراً الصور المرئية بالفعل بعد سقوط النظام السوري. يتكون هيكل السجن من ثلاث كتل مستطيلة متّصلة بنواة مركزية، في هذه الخطّة الشعاعية يمكن تمييز ممرّ خطّي وصفوف من زنازين المعتقلين بوضوح، مما أتاح لإدارة السجن مراقبتهم والتحكّم فيهم بشكل مباشر ومستمرّ.
يمتاز سجن صيدنايا بعزلته المادية والبصرية عن محيطه، فيما يهيمن الصمت الكامل عليه، ولأن رؤية المعتقلين مقيّدة ومحدودة، يصبح السمع أمراً حيوياً للبقاء لا سيّما أن المعتقلين قد أُجبروا ودُرّبوا على الصمت التام. ومع فرض القيود الحسية، ازدادات قدرة حاستَي السمع والشمّ للمعتقلين، وبالتالي ازدادت حدّة الأصوات المسموعة مثل الرياح والمطر والماء وخطوات الأقدام والضربات والأصداء ورائحة الدم. فعلى سبيل المثال، كان المعتقلون يسمعون أصوات العنف الجسدي بهدف تحديد أساليب التعذيب المستخدمة، وما إذا كانت الضربات محصورةً في زنزانةً واحدةً أو تنتقل بالتتابع إلى زنزانات أخرى، فيما يشير صوت سيارة تقترب من السجن إلى وصول سجناء جدد.
وُضع المعتقلين، إمّا بشكل فردي أو في مجموعات، داخل زنازين ضمّت دورات مياه، لم تكن المساحة المخصّصة لكلّ معتقل كافية، وبالطبع لم تكن هناك أيّ خصوصية لهم. وبالنسبة إلى تصميم الزنازين فقد كانت مغلقةً تماماً وخاليةً من الضوء الطبيعي، مع احتجاز المعتقلين عمداً في الظلام. وقد اشتلمت أبواب الزنازين الفولاذية على فتحات صغيرة بمستوى الأرض، ممّا أتاح للمعتقلين رؤية أقدام المارّة فقط، تحديداً الحذاء العسكري للسجّانين وسيلةً أخرى لإحكام الهيمنة النفسية على المعتقلين. أمّا نوافذ الممرّات فقد بُنيت على ارتفاع كافٍ لحجب العالم الخارجي مع وجود زجاج متّسخ يعيق رؤية محيط السجن.
بطبيعة الحال تغيب المساحات الطبيعية والترفيهية لتلبية الاحتياجات الاجتماعية للمعتقلين، ولا توجد مناطق للحركة والتريّض داخل المبنى، كما لم تتضمّن تصاميم ومرافق مخصّصة للمعتقلين من ذوي الإعاقة أو المسنّين. وحتى الاحتياجات الإنسانية الأساسية للأفراد الأصحّاء لم تلبَ. فضلاً عن افتقار المبنى للعزل الحراري الأمر الذي عرض المعتقلين لأجواء شديدة البرودة.
يبدو المبنى الذي بُني بتقنيات وأساليب تعود إلى ثمانينيات القرن العشرين سيء الصيانة، وبصرف النظر عن أنظمة الطاقة الشمسية وأدوات المراقبة الرقمية المستخدمة، لم يُلاحَظ أيّ تحديث كبير في ظروفه الإنشائية. وبشكل عام، لم تعطَ الأولوية لأيّ مظاهر جمالية لدى تصميمه، إذ يحتفظ الهيكل الخرساني المسلّح بالمواد النموذجية لفترة بنائه، بما في ذلك الخرسانة والمعادن وبلاط الفسيفساء للأرضيات وتشطيبات الجدران ذات الألوان الباردة، وقد ساهمت هذه المواد والعناصر مُجتمعة بترك أثر نفسي سلبي ومُدمر على السجناء مسبّبة هلوسات وأمراض نفسية مزمنة لدى الكثيرين منهم.
لم تترك الخصائص المعمارية وظروف سجن صيدنايا، المتمثّلة بالتعذيب واستخدام أدوات المراقبة الدائمة، أيّ خيار للمعتقلين سوى العيش في حالة من الخوف والقلق والتوتّر الدائم. فالنهج العقابي للنظام المتجذّر في التخويف والإذلال، لم يهدف إلى إعادة تشكيل المعتقلين فقط، ولكن أيضاً المجتمع الأوسع. فعلى الرغم من تغيّر الفلسفة التي ينظر من خلالها إلى السجون باعتبارها مرافق لإعادة التأهيل في الدول الديمقراطية، فإن العكس تماماً يُلاحظ في ظلّ الأنظمة الاستبدادية، إذ تصبح السجون مثل صيدنايا مساحات لانتهاكات حقوق الإنسان والقمع المنهجي.
التراث المظلم
لم يعد سجن صيدنايا اليوم، بعد سقوط النظام السوري (الأسدي)، مُجرَّد مبنىً مادّياً، بل رمزاً يمثّل الوجه المظلم للأنظمة الاستبدادية، ففي حال تحويله مساحةً تذكاريةً متاحةً أمام الزوار، وفقاً لتصريح الإدارة السورية الجديدة، فإن ذلك من شأنه ضمان عدم نسيان انتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة في الماضي، فضلاً عن إمكانية توظيفه موقعاً للتعليم والبحث في مجال حقوق الإنسان مسعىً لمنع تكرار أخطاء وأحداث الماضي، وهو ما يندرج تحت مظلّة التراث المظلم للإنسانية، بإعادة تفسير وتوظيف المساحات المرتبطة بالأحداث المؤلمة والصادمة في التاريخ البشري، وذلك على غرار تحويل مركز التعذيب السابق “تول سلينغ” متحفاً يؤرّخ أحداث الإبادة الجماعية في كمبوديا.
كانون يُزهِر أملاً
تسلّل الدفء فجأة إلى الشام وهي تمزّق عباءة خمسينيةً باردةً جافّةً عن أرضها والسوريين، وانتشر كما ينتشر الصباح في قلوب هَرِمت من الإنتكاسات المتلاحقة في طول الأرض العربية، يغذّيها بنهم مستمرّ الدم النازف في غزّة، وعموم فلسطين.
سقط طاغية الشام إذاً! وفُتحت أبواب السجون عن آخرها، وعانق الآلاف شمس الحرّية، من دون أيّ توظيف للمجاز. وما بين مُرحِّب ومُشكِّك بجدوى الحاصل في دمشق اليوم، ومآلاته الضبابية، حمل “كانون”، وقبل أن تصلنا مربعينيته هذا العام، هدايا الحياة على غير موعد، فحرّية المعتقلين زهرةٌ آن لشعوب منطقتنا أن تقتطفها رغماً عن أشواك سجّانيها عرباً كانوا أم عجماً.
العربي الجديد
————————–
استعلاء أيديولوجي أم عماء؟/ رشا عمران
03 يناير 2025
يبدو الشعب السوري في بعض الإعلام العربي، الذي يتحدّث ليلاً نهاراً عمّا وصلت إليه الحال في سورية، ويحذّر الشعوب الأخرى من المصير نفسه… يبدو كما لو ألّا وجود له إلا في بعض إشارات تتحدّث عن هذا الشعب الغافل، الذي يذهب بقدميه إلى مصيره الأسود، مع بعض عبارات الشفقة والدعاء لمساعدة هذا الشعب “الغلبان” وإنقاذه. يبدو الشعب السوري في عرف هؤلاء طيّباً حتى السذاجة والبلاهة، ما يجعله يصدّق أن “الإرهابيين” سوف يحملون له النجاة. يبدو السوريون أيضاً يعيشون حالياً أسوأ أوقاتهم، إذ تحدث المجازر خفية (كيف يعرف الإعلام بها إذاً؟!)، مجازر تطاول الأقلّيات التي بدأت بالنزوح جماعات. يتحدّث هؤلاء، ومثلهم كثر من أيتام محور الممانعة، وبقايا القومية، في وسائل التواصل الاجتماعي، بثقة العارف وشاهد العيان، وحين تسأل أحدهم من أين لك هذه المعلومات؟ يخبرك عن مصادر له في سورية. وحين تقول له إن لك عائلة وأهلاً وأصدقاءً يعيشون هناك، ولم يقترب منهم أحد، ولم يهاجروا، ولم يتركوا منازلهم، ولم يوجِّه إليهم أحد كلمة واحدة جارحة، يطلقون عليك سريعاً تهمة العمالة للأميركي، الذي يريدك أن تروّج هذه المعلومة كي تساعد في التغطية على المجازر (وجّه لي هذه التهمة أشخاص من دول عدّة، كما لو أنهم متّفقون معاً على ترديدها).
يتأفّف آخرون من فرح السوريين في وسائل التواصل، ويستنكرون عليهم احتفالاتهم بذريعة أن غزّة تذبح، رغم تداول مقاطع عديدة مصوّرة من قلب غزّة تبارك للسوريين حرّيتهم وخلاصهم من المجرم الساقط، يردّ عليها سوريون بأن غزّة تبقى في القلب، وأن الحرّية القادمة هي حرّية غزّة، والحلّ العادل للقضية الفلسطينية. لكن هذا لا يشفع لدى المتأفّفين الذين سرعان ما يتداركون كلامهم للحديث عن “الإرهاب الأسود” في سورية، الذي سمح لإسرائيل أن تستهدف المنظومة الدفاعية السورية ومنصّات الصواريخ والمواقع العسكرية، بدلاً من أن يتّجه المقاتلون الذين أسقطوا الأسد مع الشعب السوري لقتال العدو الصهيوني. وحين تقول لهم لماذا لا تذهب جيوشكم ومعها شبابكم إلى قتال العدو الصهيوني؟ يخبرونك بأن حكوماتهم لا تسمح لهم، بينما كان نظام الأسد “الذي سعيتم إلى إسقاطه هو الشريان الوحيد الباقي للمقاومة”.
ثمّة حالة من الاستعلاء الأيديولوجي المقيت، تكاد تفيض هذه الفترة من بعض القنوات العربية وفي وسائل التواصل، ترى في سورية مُجرَّد معبر لمّا يسمى حلف المقاومة، رغم الأهوال كلّها، التي انكشفت أمام العالم كلّه بعد سقوط الأسد. لكن هذا لا يهم، كان على الأسد أن يبقى، حتى لو أفنى الشعب السوري كلّه، المهم ألّا يهتزّ محور المقاومة، والذي لم يحرّر منذ تشكّله في أول القرن الحالي شبراً واحداً من الأراضي العربية المحتلّة، لا في فلسطين ولا في غيرها، وكان سيفاً مسلّطاً على رقاب السوريين بعد 2011، مرتكباً فيهم مجازرَ لا تُحصى ولا تُوصف تحت عناوين مذهبية يدفع ثمنها السوريون في كلّ لحظة.
هذا الاستعلاء لا يعنيه ما عاناه السوريون كلّه، ولا يكترث بحاضرهم ولا مستقبلهم، هم بالنسبة إليه أدواتٌ لإنجاح مشروع محور المقاومة، وحين فشل المشروع تحوّلوا أداة لتمرير مشاريع أخرى مضادّة. أمّا ما يريده السوريون، وما يخطّطون له، وما يمكنهم فعله، وما يسعون إليه، فغير موجود في حساب هؤلاء أصحاب الأيديولوجيات الاستعلائية. والأخطر أنهم يتعاملون مع أكثرية الشعب السوري (السنّة، لنسمّها بمسمّاها الواضح) كما لو كانت كتلة واحدة، وكلّها مساندة لما يطلقون عليه الإرهاب، بينما “الأقلّيات” السورية تدعم “مشروع المقاومة”، وتنكفئ حالياً خوفاً من المجازر التي ترتكبها الأكثرية بحقّها أو تهرب من سورية.
ننقسم نحن، السوريين بالنسبة إلى هؤلاء، إلى قسمَين: إرهابيون ومذعورون مغلوبون على أمرهم، وليس بيننا اختلافات تخرج عن هذه الثنائية، ولا نملك أي قرار أو قدرة على الفعل أو المقاومة، ولسنا واعين بالقدر الكافي لندرك ما يحاك لنا. باختصار، موت السوريين أو حياتهم لا يعني شيئاً لهؤلاء، لا لحرصهم على فلسطين، بدليل أن لا أحد منهم مستعدّ للتظاهر في بلده دعماً لغزّة، بل لأنهم مرعوبون من أنهم باتوا بمثابة الفضيحة التي لم تستحِ يوماً من دعمها المجرمين.
العربي الجديد
————————-
دعم الديكتاتوريات.. أم العمل نحو التعددية؟/ مروان المعشر
تحديث 03 كانون الثاني 2025
حالة دعم الديكتاتوريات في الوطن العربي ظاهرة قديمة، خاصة من الشعوب التي تقطن خارج البلدان السلطوية البطشية. أسباب عديدة أدت إلى ذلك في منطقتنا العربية، فالعديد من الناس في البلدان التي لم تكتو بنار الديكتاتوريات انبهرت في الماضي، إما بمحاربة هذه الديكتاتوريات للإسلام السياسي، أو لادعائها بحماية الأقليات، أو لمعارضتها اللفظية لإسرائيل، حتى لو لم تترجم هذه المعارضة لأية أفعال حقيقية تقاوم الاحتلال والغطرسة الإسرائيلية. النظام السوري المخلوع ما هو إلا آخر مثال لأنظمةٍ ما إن سقطت حتى تبين للجميع مدى البطش الذي مارسته ضد شعوبها، وعشرات، بل مئات الألوف من مواطنيها الذين قتلتهم، ويتبين دائما أن الأقليات التي تدعي هذه الأنظمة حمايتها هي الأخرى عانت من التنكيل والبطش ما عانته كل مكونات المجتمع. وها هي سجون النظام السوري المخلوع شاهدة على حجم معاناة الشعب السوري العظيم، عبر العقود الخمسة الماضية.
وها هي الاحتفالات العفوية التي عمت مختلف المدن والمحافظات السورية، تعبر عن حقيقة مشاعر الناس الذين عانوا من النظام، مقارنة بمشاعر البعض ممن يعيشون خارج سوريا وممن دعموا النظام السابق لأسباب يجدون اليوم من الصعب تبريرها.
كيف نفسر هذه الظاهرة التي تكررت مرات عديدة في العالم العربي منذ الاستقلال في العصر الحديث؟ هل تنبهر الشعوب العربية بالحاكم القوي، حتى حين يمارس هذه القوة ضد شعبه؟ ولماذا يتم تجاهل ذلك؟ هل تنخدع هذه الشعوب بالوقوف اللفظي لهذه الأنظمة ضد إسرائيل بينما لم تطلق رصاصة واحدة من النظام السوري ضد الاحتلال الإسرائيلي للجولان مثلا؟ هل تتجاهل هذه الشعوب استعمال الأسلحة الكيماوية في العراق ضد الأكراد والبراميل المتفجرة ضد المدنيين في سوريا والسجون البشعة في كلا البلدين؟
يبدو لي إننا أقدر على التبرير السلبي لدعم الأنظمة البطشية من الدعم الإيجابي. أعني بهذا أن العديد منا يدعم أنظمة لوقوفها ضد فكرة أو تيار معين، كالإسلام السياسي أو إسرائيل مثلا، أكثر من دعمنا لما تقدم هذه الأنظمة من مشاريع إيجابية لدفع بلدانها نحو التقدم والازدهار. لم يكن الدعم السلبي يوما كافيا لبلورة مشاريع تحاكي احتياجات الناس وتؤدي لدعمها لأنظمتها السياسية. لقد وحدت المعارضة للوجود السوري في لبنان، على سبيل المثال، الكثير من مكونات المجتمع اللبناني، ولكن حين فشلت هذه المكونات في تقديم مشروع لبناني إيجابي لمستقبل البلاد، فقدت هذه المعارضة الكثير من زخمها. حان الوقت في نظري للانتقال من حالة الدعم السلبي لأنظمة سلطوية بطشية، إلى العمل نحو، بل الإصرار على، أنظمة تحترم تعددية مجتمعاتنا الجندرية والدينية والثقافية والإثنية. لقد سفه العديد منا مثل هذه الأفكار التي رأوا فيها تهديدا لمجتمعاتهم، حتى أصبحت الديمقراطية والتعددية لديهم قيمة سلبية. وبشر العديد منهم بانتهاء الربيع العربي الذي رأوا فيه عامل هدم وخراب، ولكنهم في المقابل، لم يتقدموا بمشروع إيجابي لمعالجة المشاكل التي أدت للاحتجاجات العربية، بل اكتفوا بالتخويف من الإسلام السياسي، أي مرة أخرى بالدعم السلبي، من دون تقديم حلول إيجابية. والنتيجة أتت واضحة. لن تبقى الشعوب ساكنة إلى الأبد بينما لا تعالج مشاكلها، ولن ينجح البطش والقبضة الأمنية في حمل الناس على الخنوع اللامتناهي. لعل ذلك من أكبر الدروس التي تعلمنا إياها الحالة السورية، كما حاول أن يعلمنا إياها العديد من حالات انهيار الأنظمة في الكثير من الدول العربية، مثل ليبيا واليمن وغيرهما. أن إسقاط أنظمة بطشية خطوة ضرورية لمستقبل أفضل، ولكنها ليست خطوة كافية، حان الوقت لإعادة الاعتبار للتعددية وللتشاركية وللديمقراطية. إعادة الاعتبار هذه تعني إعادة تركيز البوصلة نحو الإصرار على نظم تعددية تحترم مكونات المجتمع كافة. لقد وقفت شخصيا ضد ممارسات النظام السوري طيلة حياتي السياسية، وفي الوقت نفسه فإن حكمي على النظام الجديد مرتبط ارتباطا وثيقا بمدى التزامه الفعلي، لا اللفظي، بالتعددية، أي نظام جديد لا ينظر إلى النساء أو العلويين أو الأكراد أو الدروز أو المسيحيين، أو أي مكون آخر من مكونات المجتمع السوري، نظرة متساوية، نظام لا يستحق الدعم.
في زمننا هذا، لا يجوز أن يدعي أحد احتكار الحقيقة، أو يحاول أي كان فرض نظام حياته على باقي المجتمع. من حق المسيحيين، بل من واجبهم، التظاهر إن أحرقت شجرة عيد الميلاد، ومن حق العلويين، بل واجبهم، الوقوف ضد أي محاولة للانتقام الجماعي منهم لمجرد أن بشار الأسد علوي. كما آن الأوان للاعتراف بالأكراد كمواطنين ومواطنات سوريين لهم كامل حقوق المواطنة كما عليهم كامل واجباتها.
هكذا يبنى المجتمع السوري الجديد، ليس بالبطش، ولكن بالتشاركية. على المجتمع السوري، والمجتمعات العربية كافة، واجب اليوم بعدم الاكتفاء بالانتظار ريثما تتضح معالم النظام السوري الجديد، ولكن بإعلاء الصوت والوقوف الواضح مع الالتزام بالتعددية، بل واحترامها والاحتفاء بها، ومعارضة كل من لا يقوم بذلك في المستقبل. لنعطي التعددية والديمقراطية ما تستحقان من احترام.
وزير أردني سابق
القدس العربي
————————–
مكوّنات ثقافية: ما الذي تريده «الأغلبية»؟/ محمد سامي الكيال
تحديث 03 كانون الثاني 2025
تبرز الأغلبية، في الثقافة السياسية العربية المعاصرة، بوصفها أقرب لتهديد، فهي كتلة بشرية تفوق غيرها عددياً، وذات ثقافة وهوية واضحة للغاية، ومن الممكن بالتالي أن تفرض خياراتها على الجميع، بمن فيهم من ينتمون إليها بالأصل والولادة، ولكنهم يختلفون عنها قليلاً في خياراتهم السياسية وأنماط حياتهم. وكل هذا يجعل الديمقراطية أمراً إشكالياً: هل ستؤدي إلى حكم محافظ ذي طابع ديني، كما يفترض تصورنا عن ثقافة الأغلبية؟
بالطبع، هنالك مشكلة كبيرة في هذا التصوّر، فثقافة الأغلبية، أياً كانت، لن تعني خياراً سياسياً واحداً على الدوام، وفي كل مرحلة أو مناسبة انتخابية؛ والأهم أن الحاسم في أي نظام ديمقراطي ليس التصويت فحسب، بل أساساً الإطار السياسي والدستوري، الذي يتم فيه التصويت، والذي يحدد الخيارات المتاحة والمشروعة للناخب، بل آليات وحدود السيادة الشعبية نفسها، وإلا فنحن نتحدث عن «تسلّط أغلبية» عشوائي، قد يؤدي إلى كوارث اجتماعية، لأن أغلبية اليوم قد تتفكك غداً، وتأتي أغلبية أخرى، تودّ الانتقام مما حلّ بها، إبان سيطرة الأغلبية السابقة.
إلا أن كثيراً من القائلين بـ»الأغلبية» وسيادتها، والخائفين منها كذلك، ليسوا ساذجين لهذه الدرجة، وإنما يعتمدون على تصوّر ثقافي قد يستحق النقاش: الدين الإسلامي هو جوهر ثقافة الأغلبية، أو مكونها الأبرز، ولا بد من سياسة تتوافق مع هذه الحقيقة، وتنهي كبت الأغلبية الذي طال، بسبب الأنظمة الديكتاتورية. وكما هو واضح، تلك السياسة تمثلها حركات الإسلام السياسي، التي يجب العمل معها، محلياً ودولياً، لكي لا تكون متشددة أكثر من اللازم.
الإسلام ينقلنا إلى الأغلبية إذن، والأغلبية إلى الإسلام السياسي «المعتدل». يتفرّع عن ذلك أن الإطار الدستوري والسياسي لبلدان المنطقة، يجب أن يقبل ويدعم حق الأغلبية في ممارسة ثقافتها، أي إسلامها السياسي.
الأهم في هذا التصور أنه يرى أن الأغلبية غير قابلة للتغيّر، فالمسلمون سيظلون مسلمين، وسيستمرون، لذلك، بالميل إلى الإسلام السياسي. وهذا مبرر لجعل الأطر الدستورية والقانونية إسلامية الطابع، بعبارة أخرى: مبرر أن تكون الدولة دولة الأغلبية، حتى لو على حساب قيم مثل حرية المعتقد والمساواة أمام القانون، فالأغلبية لن تقبل مثلا الارتداد عن دينها، أو نقده، أو التبشير العلني بأديان أخرى، أو برئيس ليس منها، أو بقوانين أحوال شخصية مدنية إلى جانب الدينية، أو بإزالة الإشارة إلى الفقه الإسلامي من الدساتير، إلخ. تبدو الأغلبية صاحبة حق الهيمنة الاجتماعية والسياسية الكامل، وكأنها سلطة الحزب الواحد، القائد للدولة والمجتمع. في أحسن الأحول، قد يؤكد أنصار «الأغلبية»، أن الأمور متروكة للزمن، ولتطور المجتمع، فإذا طالب الشعب، أو بالأصح «الأغلبية»، بتغيير تلك الأطر الدستورية في المستقبل، مع تطور وعيه أو تجربته الديمقراطية، فمن الممكن النظر بالانزياح عن الإسلام السياسي، ولكن هل هذا ممكن حقاً؟ أم أن الأغلبية ستظل كما هي دائماً، ما دامت ثقافتها راسخة تاريخياً لتلك الدرجة، ومكوّناً أساسياً لأمم عريقة؟
الطائفة/الأمة
تنبني هويات كثير من الدول القومية المعاصرة، وكذلك رواياتها الوطنية المؤسِّسة، على افتراض الأغلبية وثقافتها ولغتها، بل أحياناً دينها، ولهذا نشهد توترات سياسية واجتماعية، حتى في أكثر الدول ديمقراطية، مثل فرنسا والسويد وألمانيا، وجدالات لا تنتهي عن الاندماج، والمهاجرين بأجيالهم المتعددة، وكراهية الأجانب، ومعاداة السامية و»الإسلاموفوبيا»، و»المرجعية المسيحية للحضارة الغربية»، إلخ. ومع ذلك، فإن مسائل الهوية في تلك الدول لم تؤد إلى اختلال دستوري وقانوني بنيوي فيها، إلى درجة الإطاحة بمبادئ أساسية، تُعرّف ديمقراطياتها، وعلى رأسها الحد الأدنى من حرية المعتقد والتعبير، والمساواة النظرية أمام القانون. يمكن للبشر في تلك الدول تغيير دينهم، بالاتجاه الذي يروق لهم، أو التخلّي عن أي دين؛ لا يوجد قانونياً «دين أشرف»، ينال أتباعه امتيازات تجاه غيرهم في قوانين الأحوال الشخصية؛ لا إشارات دستورية إلى فقه ديني هو مصدر التشريع؛ وفي الجمهوريات، التي يمكن اعتبارها ديمقراطية، يصعب أن نجد نصّاً دستورياً يحدد دين رئيس الجمهورية، الذي من المفترض أنه في نهاية المطاف موظّف عمومي، متساوٍ قانونياً مع كل المواطنين، وليس ملكاً من عائلة معيّنة معروفة الدين. الأمر نفسه ينطبق على رؤساء الحكومات، المشرفين الفعليين على السلطة التنفيذية في الملكيات الدستورية. إنها دول علمانية، وفق أحد التعريفات الأكثر انضباطاً للعلمانية: معادلة قانونية تضمن حياد الدولة الديني، بما يؤمّن حرية المعتقد والتعبير والمساواة أمام القانون. وإذا أضفنا إلى ذلك الحيز العام، المعلمن بالضرورة، نظراً لأن كل المشاركين فيه يتكلّمون بلغة عمومية، يفهمها ويقبلها بقية المواطنين، أو على الأقل يترجمون دوافعهم العقائدية الخاصة إلى لغة عمومية، فإننا بالفعل أمام التعريف الأكمل للعلمانية: حياد الدولة الديني، إضافة إلى المجال التواصلي العمومي غير المخصص لعقيدة معينة. أتاح ذلك تاريخياً للأقليات، وحركات الحقوق المدنية، انتزاع كثير من الحقوق، أو تعميم ما كان يُعتبر، في فترات سابقة، حقاً مُحتكراً للرجل الأبيض المسيحي البورجوازي، على فئات كثيرة، وعلى رأسها النساء والعمال والملونون والمهاجرون. ذلك التعميم لا يمكن أن يكون إلا علمانياً.
ورغم انتشار كثير من الدراسات النقدية حول العلمانية، وتاريخها، بل حتى الحديث عن «بعد علمانية»، إلا أن كل تلك الدراسات والدعوات تصدر في النهاية من حيز عام معلمن، تدعمه الحقوق الدستورية، بحرية المعتقد والتعبير والمساواة أمام القانون، وتُكتب أو تُقال بلغة عمومية غير عقائدية، أي أنها توسّع العلمانية، حتى عندما تنتقدها. في دول المنطقة، نعيش أزمة مستعصية، لا تتعلق بهويات الدول ورواياتها المؤسِّسة فحسب، إنما أساساً باختلالها الدستوري والقانوني. ففي الوقت التي تؤكد فيه معظم الدساتير على المساوة أمام القانون، وحرية التعبير والمعتقد؛ تُفرغ تلك الحقوق من مضمونها، عندما تؤكد أن للدولة ديناً، عليها إعادة إنتاجه في صفوف الشعب على الدوام، ما يعرقل أيضاً قيام حيز عام فعلي ومتوازن، إذ كيف يمكن التعبير، وتداول الأفكار والحجج بلغة عمومية، في دولة دينها الإسلام؟ اللغة الدينية ستبقى دوماً «اللغة الأشرف».
يمكن اعتبار مشكلة الأغلبية، في الدول غير العلمانية مختلفة جذرياً عنها في الدول العلمانية، فهي في النوع الأول من الدول ليست مشكلة مرجعية هوياتية أو تاريخية، أو حتى نظاماً مؤسساتياً قائماً على الامتياز والتمييز، وقابلاً للنقد العلماني والتغيير، بل هي إنتاجٌ لازمٌ وضروريٌ للهيمنة الدينية، تتضمّنه البنية الأساسية للدولة. ولهذا فإن «الأغلبية» الدينية ستبقى أغلبية سياسية، ليس بسبب جوهر الإسلام الذي لا يتغيّر، والذي يفترض حكماً دينياً، بل لأن الدول، بكل أجهزتها العنفية والأيديولوجية، لن تسمح لـ»الأغلبية» بالتخلي عن أغلبيتها. إنها دول دين معيّن، تحدد نسخته الصحيحة، ويجب أن تبقى كذلك.
تزداد الأمور تعقيداً في المجتمعات المتعددة طائفياً، فالدولة ذات الدين المعيّن تعترف بوجود أديان أخرى، ولكن لا تمنحها المساواة القانونية بشكل متوازن دستورياً، ما يجعلها بالضرورة دولة طائفية، تعيد إنتاج الطوائف كلها، إما على ذمة الطائفة الأكبر عددياً؛ أو من خلال نوع من المحاصصة الصامتة، التي تضمن للأقليات نوعاً من التعويض على عدم نيلها المساواة، عن طريق التكتل في مؤسسات الدولة المركزية، ومحاولة انتزاع مراكز قوى فيها، على أسس أقرب للعصبوية. تلك كانت سوريا الأسد. عندما تشعر «أغلبية» أنها الأمة، وليست الطائفة الأكبر بين الطوائف، أي عندما تظن أنها طائفة غير طائفية، فذلك لأنها تعوّدت على أن دينها هو دين الدولة، وربما يدفعها لذلك للمطالبة بمزيد من الهيمنة الدينية/السياسية، وبدولة طائفية أكثر شدّة تجاه الأقليات، وأكثر تناقضاً في ما يتعلق بالمساواة أمام القانون وحرية المعتقد. ولكن إلى أين سيؤدي ذلك فعلاً؟
انهيار الأغلبية
قد يؤدي نظام الدولة ذات الدين إلى خلق الأقليات داخل الأغلبية الدينية نفسها، لأن الميل المتصاعد نحو مزيد من الهيمنة الدينية/السياسية، سيفرز فئات أكثر تشدداً، تعمل على فرض مفاهيمها وقيمها وأنماط حياتها على أبناء طائفتها، قبل أن تفرضها حتى على الأقليات، وسيؤدي هذا إلى نوع من الاغتراب الهوياتي بين المسلمين أنفسهم، إذ لن يعودوا قادرين على التعرّف على هوياتهم، ومجتمعاتهم، وسط كل هذا الدين السياسي، المدعّم بسلطات الدولة. وهكذا ستبرز الأقليات المارقة تباعاً، بدءاً بـ»العلمانيين» و»المدنيين» من أبناء الطائفة الأكبر، مروراً بـ»المعتدلين» و»الإصلاحين»، وصولاً إلى العقائديين المختلفين في الرؤى عن الفئة الحاكمة. لا يمكن لـ»الأغلبية» إلا أن تقمع نفسها، في نظام الدولة ذات الدين، الذي تستغلّه قوى سياسية متعددة، لإثبات أنها الممثل الشرعي لثقافة الأغلبية. ربما كان من مصلحة «الأغلبية» نفسها كسر هذه الدائرة المفرغة، التي ستؤدي دائماً للقمع السياسي، والاضطرابات الاجتماعية والطائفية، وذلك بالانتباه إلى الآليات المُنتجة للأغلبية الدينية/السياسية: ليس هذا النوع من الأغلبية موجوداً طبيعياً، وإفرازاً حتمياً للثقافة الإسلامية، بل بناءً سياسياً وأيديولوجياً، شيّدته سلطات الدول القومية الحديثة، التي اعتبرت الإسلام روح الأمة، ونوعاً من السمات العرقية لمواطنيها، وعنصراً أساسياً في روايتها عن نفسها. ولم تعرف أن تترجم كل هذا إلا بدساتير مختلّة، ومتهافتة قانونياً.
تحرير الأغلبية من كونها أغلبية قامعة لنفسها، يكون أولاً بإصلاح الاختلال الدستوري والقانوني في الدول ذات الدين: المساواة أمام القانون وحرية المعتقد لا يمكن أن تعنيا سوى دولة محايدة دينياً، تضمن حقوق مواطنيها الأساسية، وتتيح لهم الحد الأدنى من تقرير المصير الذاتي، ومنه حق تغيير الدين، والتخلي عنه، وحرية التعبير، وقانون أحوال شخصية مدني، إلى جانب الديني. إذا سمحت الدول بذلك، فربما لن تعود الأغلبية أغلبية، وسيظهر مدى اصطناعها.
عموماً، لا يمكن في الديمقراطيات الدستورية أن تكون الحقوق والحريات الأساسية شأناً تحدده أغلبية تصويتية ما، بل العامل التأسيسي للبنية السياسية والقانونية، وللسيادة الشعبية نفسها، إذ كيف يمكن للمواطن أن يكون «سيداً» فعلاً، وهو محروم حتى من حرية الضمير، ولم ينل المساواة القانونية مع غيره من المواطنين، على اختلاف أعراقهم وطوائفهم؟ الخروج من «دين الدولة» دستورياً قد ينتج أغلبيات سياسية على أسس أكثر توازناً، أي أغلبيات قابلة للتغيّر وفق الظرف السياسي، لا تقمع نفسها أو غيرها، دينياً وطائفياً، وغير ملتصقة بدين أو ثقافة عابرة للتاريخ، يزاود الجميع حول تمثيلهم لها.
كاتب سوري
القدس العربي
————————–
سورية… المستحيل على بعد جيل/ سعيد زيداني
03 يناير 2025
“وقال: إذا متّ قبلك/ أوصيك بالمستحيل!/ سألت: هل المستحيل بعيد؟/ فقال: على بعد جيل” (من قصيدة “طباق” إلى إدوارد سعيد لمحمود درويش)…
بعد حوالي جيلين، أو حوالي مستحيلين، تداعى حكم “الأسد إلى الأبد” كما يتداعى بيت العنكبوت، وفرّ الأسد (الابن) فجر 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، هارباً إلى موسكو بما ملكت يداه. وفي اليوم نفسه تهاوت تماثيل الأسد (الأب) من الميادين العامّة في مدينة دمشق، وغيرها من المدن السورية… في 8 ديسمبر، توارى “الأبد” وعاد “الزمن”، فتنفّس السوريون نسائم الحرّية الرطبة، وقد حُرِموا منها ستّة عقود ونيّف، وتحديداً، منذ استولى حزب البعث على السلطة في انقلاب 8 مارس/ آذار عام 1963، علماً أن بداية “الأبد” السوري كانت في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1971.
في الثامن من ديسمبر (2024)، توارى شبح البطريرك، وتنفّس السوريون حرّيةً. رحل البطريرك بما نهب، رحل الجمل بما حمل (كما يقال)، من دون كلمة وداع أو اعتذار أو أسف واحدة، وربّما من دون دمعة فراق واحدة. رحل بعد أن عرف أن الحلفاء تخلّوا عنه لخيبة أملهم فيه، وتخلّي حُماته من الضبّاط والجنود عنه بسب الفقر والقتال حتى التعب. أتخيّله مذعوراً يلملم أشياءه ويحزم حقائبه ويفرّ هارباً قبل أن يصل الزاحفون إلى قصره. بعد حوالي ربع قرن من الحكم، يفرّ البطريرك في خريفه هارباً، لأنه يدرك جيّداً أن الزاحفين نحو قصره لا يقبلون بشيء أقلّ من رأسه.
مذعوراً فرّ البطريرك هارباً، فهو يعرف كم من الناس كان مسؤولاً عن قتلهم، أو سجنهم وتعذيبهم، أو إذلالهم، أو إخفائهم قسرياً، وكم من الناس يتحمّل المسؤولية عن نزوحه داخل البلاد أو رحيله خارجها! ونزح داخل البلاد ورحل عنها خلال فترة حكمه ما يقارب نصف عدد السكّان، والظن أنه لا يعاني الآن من وخزات ضمير نتيجة لذلك، فضمير “أسد الأبد” لم يوجد. ربّما يعاني الآن من أوجاع أسنان، كالتي كان يعاني منها بطل رواية “ظلام وسط الظهيرة” (لآرثر كسلر)، بعد كلّ عملية اغتيال كان ينفّذها ببراعته الفائقة.
وبعد نهاية “الأبد” عاد الزمن، فهرع السوريون إلى الميادين التي صارت ملكاً لهم (وكانت حِكراً على أمن الحكام البائدين ومروّجيهم)، فحطّموا تماثيل البطريرك ومزّقوا صوره، وعبّروا عن أفراحهم وأحزانهم، كما عن أحلامهم ومخاوفهم. فمنهم من ذهب ليتفقّد ما تبقّى من بيت كان له، ومنهم من ذهب إلى السجون يسأل عن مصير قريب أو حبيب اختفت آثاره من زمن، ومنهم من أخذ يسأل عن هُويَّة هؤلاء الذين أزاحوا الصخرة الثقيلة عن صدور الناس، ومنهم من أدهشهم خلو ميدان الأمويين في دمشق من عناصر “أمن النظام”، ومنهم من أخذ يسأل عن اليوم التالي واليوم الذي يليه… وهكذا، فرحين برحيل البطريرك، مدركين في الوقت ذاته كثرة وهول التحدّيات للمستقبل القريب والأبعد.
هذه التحدّيات الكثيرة والمهولة غير خافية على العارفين، وهي من نوعَين مترابطَين، واحد داخلي والآخر خارجي. وتنضوي تحت التحدّيات الداخلية أمور وقضايا: بناء النظام السياسي الجديد، الذي يحترم الحرّيات العامّة، ويحتضن التعدّدية الفكرية والسياسية والإثنية، وإعادة بناء الجيش الوطني والاقتصاد الوطني، وإعادة بناء القوى الأمنية الوطنية، وتأهيل المرافق العامّة وتطويرها، كالمطارات والموانئ وشبكات المواصلات والاتصالات والكهرباء والطرق، وإعادة النازحين إلى بلداتهم وبيوتهم بعد إعادة إعمارها. يضاف إلى ذلك كلّه، مواجهة تحدّي أنصار النظام الراحل، وإن كان قليلاً بأسهم وعديدهم. أمّا التحدّيات الخارجية فذات شقَّين، يُعنى الأول منهما بتيسير العودة المنظّمة لمن يريد من اللاجئين السوريين في الدول المجاورة وغيرها. أمّا الشقّ الثاني (والأصعب) فيُعنى بإعادة تحديد طبيعة علاقة سورية الجديدة، من حيث النفوذ والسيطرة والتحالف، مع كلّ من دول الجوار الخمس أولاً، والدول العربية غير المجاورة ثانياً، وبقيّة الدول الوازنة والمؤثّرة في الإقليم ثالثاً.
وفي هذا الصدد، لم يعد خافياً أن محاور النفوذ والتحالف قد تحرّكت وتغيّرت كثيراً منذ “الثامن من ديسمبر”، فتصاعد نفوذ المحور التركي – الإخواني وسطع نجمه، بينما تراجع نفوذ المحور الإيراني – الشيعي وخبت أنوار هلاله. ولهذا الصعود والتراجع تأثير مباشر (وإن كان متفاوتاً) في دول الجوار العربية: لبنان والعراق والأردن. أمّا المحور المصري – السعودي – الإماراتي فما زال مرتبكاً ومختلط المشاعر والفِكَر بسبب الهُويَّة الأيديولوجية الطافية في السطح لحكّام سورية الجُدد. وسرّ هذا الارتباك واختلاط المشاعر والفِكَر يكمن في فرحٍ وارتياحٍ من أفول عهد “أسد الأبد”، يوازيه توجّس وتخوّف من غلبة حركة الإخوان المسلمين. وباختصار، الخاسر الأكبر من التغيير في سورية إيران، ومن يدور في فلكها، بينما الرابح الأكبر هي تركيا وحلفاؤها في الإقليم. أمّا العداء المتبادل بين سورية الجديدة وإسرائيل الصهيونية، فيظلّ الثابت الأكيد، رغم التحوّلات المذكورة.
وإذا كانت تركيا هي الرابح الأكبر من الوضع الجديد في سورية، يثور السؤال التالي مباشرة: ما الذي تريده تركيا حقّاً من هذا الاحتضان للحكّام الجدد، الذي تجاوز حدّ التحالف؟… لعلّ الجواب بسيط ومباشر: تريد تركيا لسورية ومن سورية أشياء كثيرة ومهمّة، في مقدّمها: أولاً، على المستوى الأمني تريد تركيا من جارتها الجنوبية التحرّر من النفوذ الأجنبي، سواء الدولي أو الإقليمي، والتعاون الجدّي معها في مجالَي محاربة الإرهاب وحلّ مشكلة أكراد سورية، في إطار السيادة السورية (وهي مشكلة تزعج الأمن القومي التركي منذ زمن طويل).
ثانياً، على المستوى السكّاني ما تريده تركيا من جارتها الجنوبية هو تهيئة الظروف الملائمة لعودة ملايين السوريين الذين لجأوا إلى تركيا أو نزحوا إلى الحدود السورية التركية.
ثالثاً، على المستوى الاقتصادي تطمح تركيا إلى تحويل سورية سوقاً للبضائع التركية، وجسراً للصادرات والواردات من دول الخليج العربي. كما وتطمح إلى لعب دور رئيس في إعادة إعمار ما دمّرته الحرب الدامية.
رابعاً، على مستوى نظام الحكم، بعد المرحلة الانتقالية، تريد تركيا تبنّي نظام حكم في سورية قريب الشبه من نظام الحكم القائم في تركيا على الدمج بين التزامات كلٍّ من الديمقراطية والعلمانية الرخوة والتوجه الإسلامي الإخواني، بما قد يتطلّبه ذلك من التخفيف من سمك المركّب القومي العربي في هُويَّة سورية الجديدة. وهناك من الأسباب والاعتبارات ما يعزّز الاعتقاد أن القيادة السورية الجديدة منجذبة إلى ذلك كلّه.
يحقّ للشعب السوري أن يفرح بخلاصه من حاكم مستبدّ، ورث الحكم عن حاكم مستبدّ كان أباه. يحقّ للشعب السوري بأطيافه كلّها أن يفرح بالخلاص من حكم استبداد دام نصف قرن وأكثر، حكم استبداد كبت أنفاس السوريين، أذلّهم وأفقرهم وفرّق بينهم، وكان مسؤولاً عن تنزيح وتهجير الملايين الكثيرة منهم. فلا تحرموهم من فرح الخلاص من الجلّاد بذريعة أن الغد غامض أو مقلق، وقد لا يكون مشرقاً. أخيراً، يعرف العارفون، القاصي منهم قبل الداني، هول التحدّيات وجسامة المخاطر للمستقبل القريب والأبعد. ولكن شعباً عرف كيف يقتلع الطاغية من الجذور سوف يعرف يوماً كيف يردّ على هذه التحدّيات، وكيف يحرص على عدم استبدال حكم استبداد بآخر، وكيف يصل في نهاية المطاف إلى ضالّته، دولة المواطنين الأحرار والمتساوين في الحقوق، غير المذيّلة لأيّ محور نفوذ إقليمي، وذلك رغم المطبّات والمنزلقات في الطريق.
العربي الجديد
———————-
سقوط سردية روائية/ ممدوح عزام
03 يناير 2025
كنتُ قد كتبت أكثر من مرّة عن تعدّد السرديات في سورية، وفكرة الكتابة هي أنّ المجتمع السوري كان قد أخذ ينقسم أُفقياً وعمودياً بين سرديّتين كبيرتين، الأُولى هي سردية الثورة وأنصار الثورة، والثانية هي سردية النظام، ومُوالي النظام. وقد بدا على السطح أنّ كلّ وحدة من تلك الوحدات باتت تتمتلك عالماً خاصّاً بها تجاه الأحداث الكبيرة التي شهدتها سورية في السنوات الماضية منذ بداية الثورة السورية.
ومن اللافت أن تكون الرواية وحدها قد تحمّلت عبء تلك السرديات والنطق بما فيها بخطاب مختلف يُكنّ عداءً عميقاً للخطاب النقيض في الجانب الآخر. سوف نشهد مثل هذا التناقض بين روائيَّين يقطنان في منطقتين جغرافيّتين متجاورتَين جدّاً، وهما ينتميان إلى موقع فكري أو طائفي أو ديني أو سياسي يتعارض مع الموقع الآخر.
كان أنصار السردية الثانية يُغلفون مواقعهم الفكرية والإبداعية بـ”سلوفان” لامع اسمُه الوطن، بينما كانوا يدافعون عن النظام حصراً، بعد أن يدمجوا الوطن بداخله، وليس العكس. كان النظام السوري قد قزّم الوطن، وفصّله على مقاس رئيسَيه، الأب والابن. وقد تتبّع بعض الكتّاب هذا الخطاب، وكان مسعاهم الوحيد، كما سيتكشّف هذه الأيام، إرضاء رأس السلطة.
اللافت أن يكون بعض الروائيّين هُم أكثر من تواطؤوا كتابةً وتأليفاً مع الطاغية، أسماؤهم ورواياتهم تشهد عليهم. لا أكتب الروائيّين بأل التعريف، فالساحة الأدبية لم تكن ملكاً لأحد، ولهذا فإنّ الأسماء التي تسلّل أصحابها إلى سردية النظام لا تمثّل الروائيّين السوريّين كي نجمعهم مع الآخرين بأل التعريف، سواء كانوا قلّة أم كثرة.
ليست الأسماء مهمّة في واقع الأمر، بل التجربة نفسها، أي تجربة إنتاج رواية كاذبة تماماً، تزيّن الأفعال الشنيعة التي تُرتكب بحقّ الإنسانية. هل هذا فريد في الأدب؟ مَن لديه معلومة عن بلد يُنتج روائيّين يتجرّأون على الحقيقة والشرف والأخلاق؟ خصوصاً أنّ الرواية أو أنّ كتابة الرواية تتطلّب رؤية للعالم تتّسم بالعُمق والمعرفة والانتصار لقضايا الإنسان، لا استعادة خطاب السُّلطة، أيّ سلطة بالمطلق، فكيف إذا كانت سلطة فاسدة مستبدّة ترتكب أبشع اشكال القمع؟
ولقد اعتقدت، ثم أثبت الزمن القصير خطأ اعتقادي، لحسن الحظّ حرفيّاً، أنّ لدى الذين ناصروا بشّار الأسد، ونظامه، أساساً فكرياً وسياسياً متيناً في داخلهم، بنوا عليه مواقفهم تجاه الثورة السورية منذ أن هبّت الاحتجاجات الأُولى في عام 2011، كان هذا الاعتقاد لديّ قائماً على قاعدة احترام الإنسان، والكاتب بالضرورة، فمن حقّ كلّ إنسان أن يكون لديه الموقف الذي يعبّر عن روحه وفكره وموقفه من الحياة والوجود، على أن لا تقفز فوق المتطلّبات الأخلاقية الأوّلية من كوننا بشراً، ومن كوننا كُتّاباً أصحاب ضمير.
غير أنّ ما حدث في الأسابيع الثلاثة الأخيرة، التي أعقبت سقوط النظام، لم يكن في الحسبان قطّ. لقد تهدّمت تلك “اليقينيات” التي ادّعى هؤلاء الكُتّاب تمسّكهم بها، وانهارت، ولم يعُد لدى أيّ واحد من بينهم ما يُدافع عنه من ماضيه، أو ماضي النظام الذي كان يواليه. انهارت قناعاتهم على الشاكلة التي انهار بها النظام السياسي السوري، وبنيته العسكرية، والأمنية، والحزبية، ومن غير المعروف ماذا سيفعلون بالرواية؟
* روائي من سورية
العربي الجديد
—————————–
صعود تركيا وهبوط إيران/ ماجد كيالي
الجمعة، ٣ يناير / كانون الثاني ٢٠٢٥
حققت تركيا، في العقد الأول من مطلع القرن الحالي، مع تسلم حزب “العدالة والتنمية” الحكم، نجاحات كبيرة، بحيث باتت بمثابة نموذج ملهم للعديد من الدول، بصعودها السياسي والاقتصادي وبقوّتها الناعمة؛ فهي دولة ديموقراطية، وتتمتع باقتصاد صاعد وقوي، وهذه الدولة، يقودها حزب إسلامي في نظام حكم علماني، وديموقراطي، انتهجت سياسة تخفيف التوترات مع محيطها، وعدم التورط في المشكلات الداخلية للبلدان الأخرى، وتوطيد مكانتها لدى جيرانها عبر العلاقات التجارية والأنشطة الاستثمارية، ما عزّز جاذبيتها.
في المحصلة، فإن تلك المكانة التي استحوذت عليها تركيا، في ذلك الحين، بواسطة نموذجها، وتطورها، عززت ميزتها بالقياس للجارة الإقليمية الأخرى (إيران)، التي انتهجت سياسة “تصدير الثورة”، وتحريض المجتمعات العربية على أنظمتها، وخلق مناطق نفوذ لها في بعض البلدان العربية، وبخاصة إقامة جماعات ميليشيوية مسلحة موالية لها، بالاستناد إلى عصبيات طائفية، ما نجم عنه تصديع بنى الدولة والمجتمع في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
وللتذكير، فإن سياسة تركيا إزاء القضية الفلسطينية، كانت أكثر قبولاً وترحيباً في المجال العربي، بالقياس لإيران، التي بدت أكثر ضجيجاً ومزايدة، وتدخلاً بأحوال الفلسطينيين، والعالم العربي، مستغلة تلك القضية، سيما مع انكشاف دورها في دعم الغزو الأميركي للعراق، وهيمنتها عليه بواسطة أذرعها الطائفية الميليشيوية المسلحة، إلى جانب تزايد نفوذها في سوريا عبر ميليشياتها (“حزب الله” و”فاطميون” و”زينبيون” و”عصائب أهل الحق” إلخ).
مع اندلاع ثورات “الربيع العربي” أبدت تركيا انحيازا لها، بخاصة في سوريا، مع كل التحفظات التي انبنى عليها ذلك الانحياز. وبينما أيدت إيران بعض الثورات، اتخذت سياسات معادية لثورات أخرى في بعض بلدان المشرق العربي، حيث منطقة نفوذها، إذ إنها شاركت نظام الأسد في قتل وتشريد السوريين، مباشرة عبر “الحرس الثوري”، أو عبر أذرعها الميليشيوية، كما شمل ذلك قمع الهبّات الشعبية في لبنان والعراق (2019)، ضد أنظمة الفساد والمحاصصة الطائفية، والتي أتت في الموجة الثانية للربيع العربي، وشملت الجزائر والسودان وقتها.
المهم أن سياسة تركيا، مع “الربيع العربي”، تغيرت، لصالح تبني سياسة تدخلية في الخارج، بخاصة لجهة دعم الثورة السورية، ودعم فصائل المعارضة السورية المسلحة، ما وضعها في مواجهة سياسة إيران وروسيا الداعمة لنظام الأسد، الأمر الذي بلغ ذروته مع إسقاط طائرة عسكرية روسية، بعد التدخل العسكري الروسي في سوريا (أواخر العام 2015).
بيد أن تركيا، بسبب تجاذبات خارجية وداخلية، ما لبثت أن عدلت تلك السياسة نحو نوع من التنسيق، أو التفاهم، مع الطرفين الآخرين، إيران وروسيا (بعد التطبيع معها في 2016)، وذلك عبر مسار آستانة الثلاثي (بدءاً من 2017)، وتبني خطة تقوم على طي الصراع المسلح في سوريا، و”خفض التصعيد”.
ومعلوم أن تركيا، في تلك المرحلة، ركزت على محاولة فرض منطقة نفوذ لها في الجغرافيا السورية، من مدخل كونها دولة جوار، والدفاع عن أمنها القومي، والقضاء على طموح قوات “قسد” (الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديموقراطي/ الكردي في سوريا التابعة لحزب العمال الكردستاني)، أي من دون صلة بصراع المعارضة السورية ضد النظام.
في النتيجة، فإن تلك السياسة، التي استمرت طوال أعوام 2016 – 2024، أفضت إلى خسارة المعارضة السورية معظم مواقعها واحداً إثر آخر، في الغوطة وجنوبي دمشق، ثم في درعا وأرياف حماه وحمص واللاذقية (2018)، بحيث لم يبق للمعارضة إلا محافظة إدلب، وشمال سوريا، بحكم صلتها بتركيا، بعدما كانت خسرت مناطق سيطرتها في حلب (أواخر 2016)، بعد التطبيع مع روسيا في حينه.
أيضاً، فقد تخلل تلك الفترة قيام تركيا بشن ثلاث حملات عسكرية ضد “قسد”، أهمها “درع الفرات” (أواخر 2016) و”غصن الزيتون” (2018)، و”نبع السلام” (2019)، كما شهدت فترتها الأخيرة استعداداً تركياً للتطبيع مع نظام الأسد، تساوقاً مع دعوات دولية وعربية أخرى، دون أن تلقى أية استجابة منه.
هكذا، فإن المرة الثالثة، التي عدلت فيها تركيا سياستها الخارجية، هي التي كانت حاسمة، وهي التي تمثلت بدعمها معركة “ردع العدوان” (منذ 27/11/2024)، التي أفضت إلى إسقاط نظام الأسد، وهرب رئيسه من البلد، في ظرف 12 يوماً، وهو الذي ظل يتحكم بحياة السوريين، وبمصير المشرق العربي، قرابة ستة عقود.
لكن إسقاط نظام الأسد، هو بحد ذاته ثورة، بمعنى الكلمة، إذ إنه بالنسبة للسوريين يعني خلاصهم من نظام تحكم بحياتهم لقرابة ستة عقود، وبالنسبة لبلدان الشرق الأوسط يعني خلاصهم من نظام تحكم بمصير تلك المنطقة طوال تلك الفترة أيضاً. وفوق هذا وذاك، فإن إسقاط هذا النظام أدى، دفعة واحدة، إلى تقويض نفوذ إيران وروسيا على الصعيد الإقليمي، مقابل صعود نفوذ تركيا في تلك المنطقة، أكثر من أية فترة مضت.
الآن، ومن موقع تأثيرها القوي في التغيير السوري، تبدو تركيا في مكانة راجحة في مقابل إيران، لذا فإن التحدي الأساسي الذي ستواجهه يتعلق بكيفية تعاطيها مع إسرائيل، التي تبدو هي أيضاً كالطرف الرابح في مجمل التغيرات الشرق أوسطية، وبالنظر للعلاقة الأوثق التي تربطها بالولايات المتحدة وبالدول الغربية عموماً.
لذا فالتحدي الأساسي الذي ستواجهه تركيا مستقبلاً، سيأتي على الأغلب من إسرائيل التي ستظل تحرص على كونها الدولة الإقليمية الأقوى، والمهيمنة، في المشرق العربي، وهو ما يفترض من تركيا أن تدركه، لإنتاج سياسات أكثر تماسكاً وفاعلية وتأثيراً من تلك التي تحاول أن تحدثها إسرائيل، بقوتها العاتية، سيما أن تركيا تمتلك مقومات وإمكانيات ذلك، مع إمكان تخليقها لعلاقات تعاون مع العالم العربي.
على ذلك، قد يمكن قبول أو رفض سياسة تركيا، لكن ما يجب إدراكه أنها تتصرف كدولة، وليس كجمعية خيرية، أو كمنظمة حقوق إنسان، أو كداعية أيدلوجية، وذلك من عدة مواقع أهمها، أولاً، مصالحها، في السياسة والاقتصاد والاجتماع، وما تراه مناسباً لأمنها القومي وسلامة عيش مواطنيها. وثانياً، باعتبارها دولة كبيرة وقوية تهمها مكانتها على الصعيدين الإقليمي والدولي. وثالثاً، باعتبارها واحدة بين ثلاثة أطراف إقليمية فاعلة (مع إسرائيل وإيران) تتبادل الهيمنة على الشرق الأوسط في واقع فراغ ناجم عن افتقاد المنطقة لنظام إقليمي عربي متماسك وفاعل وقوي.
النهار العربي
—————————–
«فتح» في الـ60: هجاء السنوار وإغفال الأسد/ صبحي حديدي
تحديث 03 كانون الثاني 2025
للمرء أن يمنح حركة «فتح» فضيلة الشكّ في أن تكون الصفحة التي تحمل اسمها على منصّة X ليست الرسمية كما يعلن القائمون عليها، لسبب أوّل هو أنها مكرّسة حالياً، وبنسبة 90٪، للتهجم على قناة «الجزيرة» ووصفها بأقذع النعوت، وتكرار نشر صورة لأقدام تدوس عليها؛ ولسبب ثانٍ يعكسه النهج ذاته تجاه حركة «حماس» والذهاب إلى درجة وصف يحيى السنوار بـ«المهرّج» تارة، و«البستار» تارة أخرى.
للمرء ذاته أن يستعيد خلفية أولى راهنة لهذا الخيار في العنف اللفظي والشتائم المقذعة، مفادها تغطيات «الجزيرة» لما يجري في مخيم جنين من اقتتال فلسطيني ــ فلسطيني، وقرار سلطة رام الله تجميد عمل القناة، في جانب أوّل؛ ولأنّ ما بين «فتح» و«حماس» تاريخ طويل من النزاع والشقاق والاحتراب، في جانب ثانٍ. غير أنّ أياً من عناصر هذه الخلفية، وسواها مما خفي ويُستبطن، لا يبرر الانحدار إلى هذه السوية،النكراء والهوجاء؛ خاصة في الظروف الراهنة من حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة، وحروب الاحتلال في الضفة الغربية والقدس المحتلة والمنطقة.
مستنكَر، كذلك، تسعير هذا الخيار في توقيت آخر يتطلب الحدّ الأدنى من الأخلاق الثورية والكفاحية والوطنية، أي الاحتفاء بالذكرى الـ60 لانطلاقة الحركة، التي كانت قد تأسست في الأوّل من كانون الثاني (يناير) 1965، بمبادرة من راحلين كبار أمثال ياسر عرفات وخليل الوزير وصلاح خلف وفاروق القدومي؛ وكانت، قبلئذ، قد أطلقت مسارات «الكفاح المسلح» خلال عملية فدائية أولى مطلع 1964، انطوت على تفجير نفق عيلبون في غور الأردن. هذا عدا عن أنّ اللغة المستخدمة في التغريدات ليست هابطة وتحقيرية فقط، بل هي فاحشة أيضاً وبذيئة.
فإذا استعرض المرء ذاته تدوينات «فتح» بتاريخ 8 كانون الأول (ديسمبر) 2024 وما بعده، فلن يجد شيئاً يخصّ سقوط النظام السوري وفرار بشار الأسد ومظاهر الابتهاج التي عمّت شوارع سوريا؛ الأمر الذي يتوجب أن يطرح أسئلة جدية حول المزاج الفعلي للصفحة، وهل هي سعيدة بانطواء 54 سنة من استبداد آل الأسد، أم محبطة إزاء الحدث الهائل، أو حتى حزينة! ذلك لأنّ الفرضية الثانية تعززها حقيقة امتناع الصفحة نهائياً عن نشر بيان سلطة رام الله ذاتها، بصدد سقوط النظام.
في كلّ حال، ولأنّ «فتح» هي الحركة الأولى الحاكمة في المقاطعة، لم تعكس تصريحات السلطة سوى نبرة دبلوماسية تقليدية وهزيلة، صدرت وتصدر عن عشرات الحكومات غير المعنية بالتضامن مع الشعب السوري. على سبيل الأمثلة:
1) دولة فلسطين وشعبها يقفان إلى جانب الشعب السوري الشقيق ويحترمان إرادته السياسية، بما يضمن أمنه واستقراره والحفاظ على منجزاته؛ و2) احترام وحدة وسيادة وسلامة أراضي سوريا، بالإضافة إلى أمنها واستقرارها؛ و3) ولعلها مدعاة الضحك حتى القهقهة: التشديد على أهمية تغليب جميع الأطراف السياسية لمصالح الشعب السوري بما يضمن استعادة دور سوريا الهام في المنطقة والعالم.
وثمة أيام يتعذر على حوليات التاريخ ألا تداولها بين الناس بصدد علاقة «فتح» مع نظام «الحركة التصحيحية» الأسد الأب مثل وريثه، عموماً؛ ثمّ خاصة خلال الأشهر الأولى من عمر الانتفاضة الشعبية السورية، وعلى وجه التحديد أكثر: في أعقاب الهجمة الكيميائية الأولى والأشنع ضدّ غوطة دمشق، صيف 2013. يومذاك، وبعد أن توجّه بالتعزية إلى دولة الاحتلال برحيل الحاخام عوفاديا يوسف، الذي وصف العرب بـ«أبناء أفاعٍ» ندم الربّ ذاته على خلقهم؛ قرّر محمود عباس رئيس سلطة رام الله إيفاد شريف علي مشعل (عباس زكي، في ألقاب نضالات أيام زمان!) إلى العاصمة السورية دمشق، للتضامن مع رأس النظام.
«سانا» وكالة أنباء النظام، نقلت عن زكي تشديده على «تضامن الشعب الفلسطيني مع سوريا في مواجهة العدوان الذي تتعرّض له»؛ واقتبست قوله إنّ «استهداف سوريا استهداف للأمة العربية، لأنّ ما يجري من استنزاف لمقدّرات شعبها وجيشها يأتي في سياق مخطط أكبر يرمي إلى تقسيم دول المنطقة وإضعافها خدمة لمصالح إسرائيل». إلى هذا، لم توحِ الصور الفوتوغرافية بأنّ جفناً قد رفّ في محيّا زكي حين تكاذب الأسد، ومخيم اليرموك يعاني الحصار والتجويع، بأنّ «الأحداث التي تشهدها سوريا لم ولن تغيّر نهج الشعب السوري إزاء أشقائه الفلسطينيين الموجودين في سوريا، بل زادتهما لحمة وتماسكاً في مواجهة الاعتداءات الإرهابية التي تستهدفهما معاً».
وكي لا تبدو هذه التصريحات وكأنها «مدسوسة» على المناضل الفتحاوي المخضرم، أو «منتزَعة من سياقاتها» كما جرت العادة في أصول التنصّل من الأقوال؛ أكمل زكي دقّ المسمار إلى النهاية، فالتقى مع مندوب «جراسا نيوز» في العاصمة الأردنية عمّان هذه المرّة، عقب عودته من دمشق، وأكمل ما استحى إعلام النظام السوري ذاته من نسبه إليه. ففي ملفّ «العدوان» ــ الذي يتعرّض له النظام السوري، وليس غزّة أو رام الله أو المسجد الأقصى… ــ شطح زكي هكذا: «دمشق عاصمة المقاومة والممانعة، دمشق العاصمة والدولة التي حافظت على هوية الفلسطيني وأعطته حقوق المواطنة كاملة بالوقت الذي أبقت فيه على هوية الفلسطيني كشاهد على جرائم الصهيونية التي احتلت الأرض وهجّرت الإنسان. دمشق لم تسقط خيار المقاومة يوماً. سوريا التي رفضت التخلي عن الفلسطيني في أدق مراحل تاريخه».
هل تناسى زكي يومئذ، هو الذي درس في دمشق وتخرّج من جامعتها، ثمّ هل تتناسى صفحة «فتح» الرسمية اليوم؛ دلالات وجود جحيم أمني مخصص اسمه «فرع فلسطين» منفرد في شراسة ضباطه وهمجية أساليبه؛ تكفّل بترويع فلسطينيي سوريا، قبل أن يوحّدهم مع أشقائهم السوريين في الترهيب والتنكيل والتعذيب؟ هل جهل الفتحاويون مشاركة حافظ الأسد، شخصياً، في التآمر على المقاومة الفلسطينية أثناء جولات «أيلول الأسود» ثمّ شنّ الحرب عليها بعدئذ في لبنان، مباشرة أو عن طريق وكلاء محليين؟ هل غفلت ذاكرتهم عن حصار المخيمات، وحصار بيروت، وحصار طرابلس…؟ ومَنْ يعلّم ابن «فتح» ربما أكثر من سواه، مجلدات ومجلدات في تاريخ غدر آل الأسد بالحركة، وذلك منذ عام 1964؟
غير أنّ زكي، على شاكلة غالبية قيادات «فتح» الراهنة، هو صوت سيّده عباس، الذي يندر أنه أخفى عواطفه تجاه آل الأسد؛ ويندر، أكثر، وعلى مستوى جوهري أعمق، أنه أفلح في تمثيل كرامة الشعب الفلسطيني على نحو مشرّف. والقبلات التي تبادلها زكي مع الأسد سنة 2013، سبق أن تبادلها سيّده مع الدكتاتور نفسه، مطلع العام 2007؛ في مسعى من عباس لطرح الزيارة بضاعةً في اسواق التبادل الأمريكية ــ الإسرائيلية، أو المساومة عليها مع بعض الأطراف العربية مثل مصر والأردن والسعودية، ثمّ إعادة تسويق دور ما للرئاسة الفلسطينية يخصّ الحوارات الأعرض نطاقاً مع طهران ودمشق.
تبقى إشارة إلى أنّ الفصائل الفلسطينية المتواجدة على الساحة السورية، والمتعاطفة مع النظام السوري البائد و/أو المناصرة له، عديدة ومتشعبة من حيث التاريخ والعقائد والتكوين التنظيمي؛ وهنالك 14 فصيلاً، لا تبدأ قياداتها من أحمد جبريل ولا تنتهي عند زياد النخالة. «فتح» مع ذلك، تظلّ الأبرز والأقدم، وتاريخ التنكيل بشخص ياسر عرفات من جانب آل الأسد يكفي في ذاته لدفع الحركة إلى مواقع أكثر تضامناً مع الشعب السوري وانتصاراته وتحدياته؛ ليس سياسياً ونضالياً فحسب، بل أخلاقياً على الأقلّ، وبادئ ذي بدء.
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
القدس العربي
———————————–
في جماعة “الأسد كان طاغيةً… ولكن”/ أسامة أبو ارشيد
03 يناير 2025
ثمَّةَ من لم يعتد بعد على التعايش مع فكرة سقوط نظام بشّار الأسد في سورية، ذلك أنهم استثمروا كثيراً من المداد والجدال في الدفاع عن “النظام الممانع” خلال تولّيه السلطة وتلمّس الأعذار له في جرائمه ضدّ شعبه، وكذلك عدم ردّه على الاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة بحقّ بلاده. لا تعنينا هنا الفئة المؤيّدة للأسد ونظامه من منطلقات مبدئية وأيديولوجية وسياسية، فهؤلاء متّسقون مع ذواتهم، بغضّ النظر عن مدى فساد تلك الذوات. من يعنونا هنا فئة ثانية ممّن كانت تنافح عن نظام الأسد متغاضيةً عن جرائمه وبطشه وفساده باسم المصلحة العليا لفلسطين، وقوى المقاومة الإقليمية ضدّ إسرائيل. لكنّها، أي تلك الفئة، وبعد تحرير دمشق وفرار الأسد وانكشاف مستوى إرهاب نظامه الفظيع بحقّ الشعب السوري، بل حتى بعض الإشارات عن تنسيقه مع إسرائيل، تراها تحاول الموازنة بين الحقائق الدامغة الصادمة وما كانت عليه (في واقع الحال ما زالت عليه) من ترويج الأوهام والأكاذيب الزاهية عن حقيقة الرئيس المخلوع ونظامه الاستبدادي. بطرف من ألسنتهم يقول هؤلاء (الآن) إن الأسد كان مجرماً مستبدّاً.. “ولكن”. والمشكلة هنا في هذه الـ”لكن”، يضيف هؤلاء أن سقوط نظامه أخلّ بالتوازنات لصالح إسرائيل، غامزين بشكل جليٍّ أو خفيٍّ من طرف الحكم الجديد في دمشق.
ذهبتُ في مقال سابق (“سورية والمناطق الرمادية في الموقف والتحليل”، العربي الجديد، 6/12/2024)، قبل يومين فقط من سقوط نظام الأسد، إلى أن ثمَّة مصالح متعارضة ظاهرياً في السياقين السوري والفلسطيني، وهو الأمر الذي يقتضي مقارباتٍ نسبيةً لا حدّية في القراءة والتحليل، وأن تكون هناك مساحات للتفاهم والعفو بين الطرفَين على خلفية تعقيدات المشهدين الماثلين أمامهما. ضعف إيران ومحورها في المنطقة يؤثّر سلباً في المدى الآني على المقاومة الفلسطينية في قطاع غزّة. ولكن هذا لا ينبغي أبداً أن يتحوّل تأييداً لممارسات إيران وأذرعها الإقليمية من عبث وإجرام في المنطقة، أو النظر إلى إسرائيل حليفاً أو ليست عدواً وتهديداً للكلّ العربي. وقطعاً، ليس مقبولاً أبداً أن يدافع بعضهم، خصوصاً بين الفلسطينيين، عن أفعال نظام بشّار الأسد الشنيعة بحقّ الشعب السوري، بذريعة الممانعة المُتوهَّمة. من يقوم بذلك لا يخدم فلسطين، بل يمارس الدوْر نفسه الذي مارسه نظام الأسد عندما سمَّى أقذر وألأم فرع من مخابراته “فرع فلسطين”، وكأنه كان يريد أن يُكفِّر الناس بها وبعدالة قضيتها.
غير أن لا شيء ممّا سبق يعني جماعة “لكن”، وهم بالمناسبة من اتجاهات ومشارب سياسية وفكرية شتى، ومن جنسيات عربية متعددة. عبثاً يحاول هؤلاء أن يحافظوا على بعض ما تبقّى لهم من مصداقية مع انفضاح حقيقة “النظام الممانع” بناء على المعطيات والمعلومات، لا التحليل والشواهد فحسب. غير أنك لا تكاد تخطئ مقاصد أصحاب “لكن” في السياق السوري، إذ يفضحهم لحن القول دالاً عليها، حتى وهم يحاولون إخفاءها. تراهم يُصدِّرون زفراتهم بإدانة “طاغية الشام” و”نظامه الإجرامي”، وكأنهما مُخدِّر يرجون أثرهما في مُخاطبيهم، ثمَّ يدلفون إلى إدانة الثورة السورية وقيادتها اليوم ملصقين بها كلّ الخطايا والرزايا. فجأة، تذكّر هؤلاء أن الردّ على اعتداءات إسرائيل ينبغي أن يكون مباشراً لا في “الزمان والمكان المناسبيْن”، وهي المعادلة التي تبنّاها نظام العائلة الأسدية أكثر من نصف قرن. أيضاً، كان هؤلاء يجدون الأعذار لنظام الأسد عندما جعل من سورية خاضعةً لوصاية الإيرانيين والروس والمليشيات الشيعية من عدة جنسيات وخلفيات، كما كانوا يسوّغون له التواصل مع الأميركيين ومحاولة التسوية معهم، دع عنك التزلّف لمحور الثورات العربية المضادّة، ولكنّهم فاضوا وطنية وثورية فجأة متهمين الحكم الجديد في دمشق بأنه أداة تركية بتنسيق مع الأميركيين.
الكلام والأمثلة في تناقض المنطق السابق كثير يصعب حصره هنا، إلا أنّه يعرّي تهافت أصحابه وزور أخلاقياتهم المزعومة ووطنيّتهم المدّعاة. هذا لا يعني أن الحكم الجديد في دمشق متحرّر من العثرات والأخطاء، كما أنه لا يعني تقديم شيك على بياض له. سيكون الحكم عليه من خلال سياساته وممارساته، لا من خلال تصريحاته ووعوده. لكن، ليس من العدل ولا المنطق البدء في محاصرة التجربة الجديدة في سورية بالأحكام المسبقة والمطالب التعجيزية، وهي لم يمضِ على استلامها الحكم، الذي لم يدن لها كلّياً بعد، شهر واحد. إن حجم البؤس والفساد والدمار الذي خلّفه حكم عائلة الأسد على مدى أكثر من نصف قرن يحتاج عقوداً طويلة لإصلاحه، هذا إذا افترضنا غياب التحدّيات والمؤامرات الداخلية والخارجية على سورية، من دون أن ننسى احتمال ارتكاب أخطاء كارثية من أبنائها.
كلمة أخيرة، إصرار بعضهم على التستّر وراء فلسطين في دفاعه الضمني عن بشّار الأسد ونظامه يضرّ بفلسطين وقضيتها. إن كنتم صادقين توقّفوا عن وضع حرّية فلسطين في علاقة عكسية مع حرّية الشعوب العربية. فلسطين لن تتحرّر من دون اجتماع كلمة العرب، وبقاء العرب خانعين خاضعين لأنظمة استبدادية تريد استعبادهم لن يأتي بالتحرير أبداً.
العربي الجديد
——————————
العلاقات العراقية الإيرانية بعد زلزال سوريا/ يحيى الكبيسي
تحديث 03 كانون الثاني 2025
مر أقل من شهر على سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، لكن تأثيرات التغيير الذي حصل لايزال يعيد تشكيل الإقليم كله، ويعيد تغيير شكل العلاقات في الدول نفسها التي تعنى بهذا التغيير، وليس العلاقة بين هذه الدول مع سوريا وحسب.
ولعل إيران المتضرر الأكبر مما حدث؛ فقد تقطعت أوصال الهلال الشيعي الذي عملت على مدى 44 عاما على صناعته، فمنذ العام 1980 استطاعت إيران أن تبني علاقات استراتيجية مع نظام حافظ الأسد الذي وقف معها بقوة في حرب الثماني سنوات مع العراق، وصل الأمر إلى حرمان سوريا نفسها من واردات مرور النفط العراقي من أنبوب كركوك ـ بانياس لنقل النفط عام 1982، الأمر الذي أفقد العراق، يومها، نصف قدرته التصديرية، ولم يبق له سوى تصدير النفط عبر خط كركوك ـ جيهان المار عبر تركيا، بعد تعذر تصدير النفط عبر الخليج العربي بسبب الحرب.
ومنذ عام 1982دخلت إيران بشكل رسمي في لبنان، بعد زيارة الشيخ صبحي الطفيلي (الذي كان يرأس وقتها تجمع علماء البقاع) لإيران ولقاء الخميني في تلك السنة، ثم إعلان التزامهم «بقرار الولي الفقيه» وتشكيل حزب الله، الذي تأخر الإعلان الرسمي عنه إلى 16 شباط/ فبراير 1985، بل إن بعض المصادر تشير إلى أن تسمية «حزب الله» كانت اقتراحا للخميني نفسه. وقد دخل الحزب في مواجهات عسكرية عديدة مع حركة أمل الشيعية، لم تنته إلى عام 1990، لغرض احتكار التمثيل الشيعي في لبنان لمصلحة إيران.
ويكتمل هذا الهلال بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، حيث استطاعت إيران أن تتغول في العراق، بسبب طبيعة العلاقات التي كانت تحكم المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، بإيران، ذلك أن هذا التنظيم تشكل في إيران بالأساس بقرار من الخميني شخصيا، ليكون بمثابة المظلة للمعارضة الإسلامية الشيعية العراقية المؤمنة بمقولة ولاية الفقيه، وترأسه لحظة التأسيس آية الله محمود الهاشمي الشاهرودي الذي كان أحد أعمدة النظام الإيراني. والخميني سمح للمجلس بالتعاون الرسمي مع الولايات المتحدة الأمريكية التي كان قد يصفها بعبارة الشيطان الأكبر. وقد اضطرت الولايات المتحدة للقبول بهذا الأمر الواقع لأسباب عديدة، كان أحدها الحاجة إلى تحييد الطرف الشيعي في سياق مواجهتها مع المقاومة السنية المتصاعدة.
لم تخسر إيران سوريا وحسب بسقوط نظامها، بل خسرت حزب الله أيضا، فلم تعد هناك إمكانية حقيقية لأي تواصل لوجستي بين إيران ولبنان، وبالتأكيد لن تسمح الولايات المتحدة، أو الاحتلال الإسرائيلي، لإيران باستخدام البحر أو الجو لتعويض هذه الخسارة، خاصة بعد الذي تعرض له حزب الله في المواجهة الأخيرة مع إسرائيل. وبالتأكيد لا تعول إيران على إمكانية استمرار الأوضاع في اليمن على ما هي عليه، لاسيما بعد تحول المواجهة مع الحوثيين إلى مواجهة ذات طابع دولي، وهو ما ستكون له تداعيات حتمية على الأوضاع في اليمن عموما، وعلى سلطة الأمر الواقع التي شكلها الحوثيون هناك بدعم إيراني مباشر.
هذه التغييرات الجيوسياسية المتلاحقة، ستفرض، بالضرورة، شروطها على العلاقات العراقية الإيرانية، خاصة في ظل إدارة ترامب وفريقه وتصريحاتهم المعلنة تجاه إيران؛ فزيادة الضغط على إيران ستفرض على الفاعل السياسي الشيعي الذي يحتكر القرار السياسي في العراق اليوم، خيارات صعبة جدا، ليس سياسيا فقط، وإنما اقتصاديا وعسكريا أيضا.
فالعراق يعتمد بشكل كبير على إمدادات الغاز الإيرانية لمحطاته الغازية لإنتاج الكهرباء، كما أنه يستورد طاقة كهربائية من إيران لسد النقص الكبير لديه، وإذا ما كانت الولايات المتحدة قد استثنت العراق من عقوباتها بشأن هذين الأمرين خلال السنوات الثماني الماضية، فليس هناك ما يمنع الصقور في إدارة ترامب الجديدة من إلغاء هذه الاستثناءات من أجل مزيد من الضغط على الفاعلين السياسين الشيعة في العراق لتحجيم علاقتهم بإيران. كما أن هيمنة الفيدرالي الأمريكي على تحويلات الدولار إلى العراق، سيعطي للإدارة الجديدة القدرة على استخدام هذه الأداة الثمينة نحو مزيد من الضغوط الاقتصادية، لاسيما أن العراق متهم بمساعدة إيران التي تعتمد بشكل كبير على الفجوات المتعلقة بإدارة الدولار في البنك المركزي العراقي، وفي البنوك العراقية الأهلية، للحصول على الدولار من العراق.
لقد غضت الإدارتان الأمريكيتان السابقتان الطرف أيضا عن حجم التجارة الكبير بين العراق وإيران، الذي وصل في العام 2024 إلى ما يزيد عن 12 مليار دولار (وفقا لمساعد وزير الاقتصاد رئيس مصلحة الجمارك الإيرانية محمد رضواني فقد بلغت واردات العراق من إيران 3 مليارات و772 مليون دولار خلال الأشهر الأربعة الأولى من عام 2024) دون حساب أثمان الغاز والكهرباء، أو استيرادات الأسلحة والذخائر من إيران، وعلى الأغلب ستكون هذه الورقة حاضرة في أذهان صانع القرار الأمريكي إذا ما قرر زيادة الضغط على إيران والعراق معا.
الملف الأهم في هذا السياق هي الميليشيات العراقية التي ترتبط عضويا بالحرس الثوري الإيراني والتي يطلق عليها في العراق الميليشيات الولائية (لإيمانها بالولي الفقيه واتباع أوامره بوصفها أوامر مقدسة واجبة الطاعة). وهي تشكل الغالبية العظمى من الميليشيات التي تنضوي تحت مسمى «الحشد الشعبي» وهي تتلقى تمويلها من الموازنة العراقية العامة دون أن تأتمر بأوامر الدولة العراقية! فقد دخلت هذه الميليشيات بمواجهات مباشرة مع القوات الأمريكية في العراق، كما وسعت عملياتها لتشمل القواعد الأمريكية في سوريا والأردن أيضا، ولتشمل إسرائيل في سياق مبدأ «وحدة الساحات» التي رفعتها إيران.
جميع المؤشرات تذهب إلى أن ثمة قرارا أمريكيا بعدم السماح لهذه الميليشيات بالبقاء على ما هي عليه، (مع أن الولايات المتحدة ساهمت بنفسها في تغول هذه الفصائل في سياق الحرب على داعش، وكانت تمدها بشكل غير مباشر بالسلاح، وتوفر لها غطاء جويا في عملياتها العسكرية) واليوم أصبح مستقبل هذه الميليشيات على المحك، وبالتالي فإن تعاطي الدولة العراقية معها سيحدد إلى حد كبير طبيعة العلاقات العراقية الإيرانية مستقبلا.
لكن إيران تمتلك عمليا ورقة أخيرة، وهي ورقة ملفها النووي، وقد تفكر في استخدام هذه الورقة لضمان الإبقاء على وجودها في العراق «غرة هلالها» في مقابل تنازلات مريرة في الملف النووي خاصة وهي تعلم أن ترامب رجل صفقات في النهاية، وليس رجل مبادئ!
في جميع الأحوال، لم تعد العلاقات العراقية الإيرانية شأنا داخليا للبلدين، بل أصبح شأنا إقليميا ودوليا، والمعضلة هنا أنه ليس ثمة قرار للدولة العراقية في هذا الشأن في ظل الغياب المطلق للعقلاء في إدارة الدولة، وسيكون موقفها تبعا لما يقرره الآخرون!
كاتب عراقي
القدس العربي
———————–
العالم العربي على مفترق طرق: مواجهة التحديات أو التبعثر والضياع/ عبد الحميد صيام
تحديث 03 كانون الثاني 2025
تواجه الأمة العربية، دولا وشعوبا، تحديات وجودية في مطلع عام جديد حافـل بالتغيرات، وقد لا ينجو منها بلد أو منطقة، خاصة في الدول الأكثر هشاشة وأقل مناعة داخلية، مثل الدول العربية بغالبيتها الساحقة. إن الإدارة الجديدة التي ستصل البيت الأبيض يوم 20 من هذا الشهر، ستكون أكثر عدوانية وعنجهية وعنصرية. فإذا لم تحصن الدول العربية بنيانها الداخلي وتمد أياديها إلى بعضها بعضا، فستدفع الثمن غاليا، ثم تندم على ما اقترفته من أخطاء «ولات ساعة مندم».
منذ نهاية الحرب الباردة وبسط الولايات المتحدة هيمنتها على المشهد الدولي لنحو عقدين من الزمان، انتشرت الحروب البينية والعابرة للحدود، وتفاقمت الأزمات الداخلية بين مكونات البلد الواحد، وانفرط عقد الدول الكبرى التي كانت تضم شعوبا متباينة، وانفجرت في بلادنا العربية الاحتقانات الداخلية، الناتجة عن فشل أنظمة الاستبداد في رفع مستوى التنمية وخفض البطالة واحتواء الفساد، ولجم أجهزة القمع المتعددة، وتأهيل الأبناء لوراثة الآباء، والاعتماد على قوى خارجية للاستمرار في الحكم.
لقد دخلت الآن هبات الربيع العربي موجتها الثالثة في سوريا، حيث أطاحت بأعتى أنظمة القمع والفساد وأكثرها دموية، واعتمادا على قوى خارجية، ليكون النظام السوري السابع الذي أطاحت به هبات الجماهير المقهورة، بداية من زين العابدين بن علي، مرورا بحسني مبارك والعقيد معمر القذافي وعلي عبد الله صالح وعمر البشير وعبد العزيز بوتفليقة، وصولا إلى بشار الأسد. أراجع هنا بعض التحديات أمام بعض الدول العربية لعلها تتعظ مما جرى، وتغير مسارها وتقترب من نبض الشارع، أو على الأقل تصحح الكثير من الاعوجاج، لعلها تواجه التحديات مسلحة بمناعة داخلية لتتحمل الضغوطات الخارجية، بدل الانهيار والتفتت والفوضى.
فلسطين: أكبر تحد يواجه الشعب الفلسطيني هو آثار حرب الإبادة على غزة، وتدمير الكيانية الفلسطينية، والعمل على إنهاء القضية الفلسطينية كقضية تحرر وطني ضد الكيان الكولونيالي العنصري الدموي، القائم على إنكار وجود الشعب الفلسطيني. فبدل أن توحد حرب الإبادة الشعب الفلسطيني وقواه الوطنية الفاعلة انطلاقا من بيانات الجزائر وموسكو وبكين، اختارت قيادة أوسلو المواجهة الدموية لاجتثاث المقاومة الفلسطينية في الضفة، وبالتالي تعمق الشرخ داخل المجتمع الفلسطيني، واصبحت السلطة منسلخة تماما عن جماهير الشعب الفلسطيني التي تتألم لما يجري من إبادة في غزة وجرائم لا حصر لها في الضفة. فبدل أن تلتئم كل القوى الوطنية صفا واحدا حول برنامج مكافحة الاحتلال بكل الوسائل المتاحة، اختارت السلطة الرسمية أن تتساوق مع مخططات الكيان، ظنا منها أنها ستكون مؤهلة لمرحلة ما بعد غزة. وأود أن أذكرهم أن من يتنازل عن حقوقه، لن يجد من عدوه إلا الازدراء.
سوريا: تواجه سوريا، شعبا وحكومة انتقالية، رزمة هائلة من التحديات، التي إن لم يتم التعامل معها بحذر شديد فقد تطيح بالتجربة المريرة التي عاشها الشعب السوري في السنوات الإحدى عشرة الأخيرة، تشرد فيها نصف الشعب السوري وقتل وسجن مئات الألوف. والتحدي الأكبر أمام الشعب السوري وقوى التغيير الحالية هو كيف يتم التجديف الآمن عبر المرحلة الانتقالية، وصولا إلى دولة الاستقرار وسيادة القانون والشمولية والتعددية، والدستور المعتمد بالاستفتاء العام والانتخابات الحرة والدورية. تواجه سوريا تحديات الحصار والعقوبات وتصنيف المجموعات التي تسيّر البلاد حاليا بالإرهاب. هناك مناطق خاصة للولايات المتحدة وحلفائها الأكراد، يجب أن تعود لحضن الدولة. إننا ننتظر مؤتمر الحوار الوطني الشامل لتنبثق عنه لجان لصياغة الدستور والعمل على إعادة اللاجئين والمهجرين وحماية أمن البلاد واحتواء كل المجموعات المسلحة (وهو الخطأ الذي وقعت فيه ليبيا). سوريا تحتاج إلى فترة للملمة الجراح وعلاج الثغرات والاتفاق بين أطياف الشعب على برنامج التعافي والبناء وإعادة الإعمار. يجب أن تبقي سوريا على علاقات مميزة مع روسيا لأسباب استراتيجية وأمنية وتنموية. أما بالنسبة للكيان الصهيوني، فلا أحد يتوقع أن تعلن القيادة السورية الحرب، لكنها لا تستطيع أن تتجاهل أن أرضها في الجولان محتلة، كما أن الكيان قام بتوسيع رقعة الأرض المحتلة من الأراضي السورية. وعلى القيادات السورية أن تربط أي علاقات مع الكيان بالانسحاب الكامل من الأرض السورية المحتلة، وتفكيك المستوطنات وإعادة اللاجئين والمهجرين، من تقدم منهم ومن تأخر. أن إعلان القيادة السورية دعمها للشعب الفلسطيني، لا بد أن يكون واضحا وصريحا وغير مشروط. فمسألة فلسطين مسألة حق وعدالة، ومن قاتل من أجل الحق والعدالة في بلده، يجب ألا يكون انتقائيا. ونحن لا نشك في هذا، فالقضية الفلسطينية جزء أساسي من تكوين الإنسان السوري مستقرة في مسامات جسده وخلايا عقله ونبضات قلبه.
المملكة العربية السعودية: ستتعرض السعودية لضغوطات هائلة في فترة إدارة ترامب المقبلة، لإقناعها للسير في طريق التطبيع مع الكيان الصهيوني مقابل بعض الوعود الكلامية والغامضة، بالتوجه نحو إقامة الدولة الفلسطينية. ونحن نعرف جميعا ما قيمة الوعود التي تمنحها الولايات المتحدة، إذا لم تكن ممهورة بتوقيع الكيان الصهيوني. إن الطريق الأسلم، في رأينا، هو أن تقوي السعودية علاقاتها الاستراتيجية مع تركيا وباكستان وإندونيسيا والجزائر، وتعمل مع تركيا على حماية سوريا من الانزلاق إلى الحضن الأمروصهيوني عبر دولة خليجية تمثل هذا الكيان وتقوم بدور العراب له في السودان وليبيا واليمن. إن موقف السعودية الآن أقوى من قبل، فالخطر الإيراني الذي استخدم شماعة للتطبيع مع الكيان من بعض الدول الخليجية، زال أو كاد، وإن اتجاه السعودية نحو التطبيع قد يلحق ضربة قاضية بالقضية الفلسطينية، حيث سيلتحق بركب التطبيع السعودي معظم، إن لم يكن كل الدول العربية والإسلامية غير المطبعة.
مصر: مصر على شفا جرف هار. اقتصاد متهالك وشبه انهيار للجنيه المصري وتطاول على مصر من إثيوبيا وإسرائيل، وحرب أهلية في السودان تدفع مصر ثمنها لأنها لم تأخذ موقفا سليما منذ البداية، وأيدت الانقلاب العسكري الذي قام به عبد الفتاح البرهان وحليفه آنذاك أحمد محمد حمدان دقلو «حميدتي» للإطاحة بالمكون المدني للحكومة الانتقالية، كي لا يكون هناك حكم مدني ولو «بصلاحيات محدودة» كي لا يقال إن ثورة شعبية أوصلت قياداتها للسلطة، كما حصل في ثورة 2011 في مصر. مصر على فوهة بركان فإما أن تعدل مواقفها وتقف موقفا شجاعا، خاصة من حرب الإبادة في غزة، وإلا فالطوفان الذي انطلق من غزة سيجرف العديد من القوى في المنطقة.
تونس: تونس ليست بحاجة إلى قمع وكبت حريات واتهام كل معارض بالخيانة وتقييد حرية الرأي والتعبير والتجمع. البلاد في أسوأ حالاتها ربما منذ الاستقلال. يتصرف الرئيس قيس سعيّد وكأنه يملك ناصية التاريخ. لكن خطاباته المصطنعة ولغته الجافة وأفكاره الهوجاء، لن تقنع الشعب التونسي بأن كل من يعترض على حكمه فهو خائن. ما زالت الفرصة أمام سعيّد سانحة. المصالحة الوطنية والعودة إلى التعددية وإطلاق الحريات هو الحل، وإلا «وسيعلم الذين ظلموا اي منقلب ينقلبون».
إن أي حكومة تستند إلى تأييد شعبها لن تهزها العواصف، ولا الضغوطات الخارجية. وأود أن استحضر دروس انقلاب يوليو 2016 في تركيا عندما هبت الملايين لتدافع، ليس عن أردوغان، بل عن الدولة والديمقراطية والمؤسسات الدستورية. لعل هناك في بلادنا العربية من يتعظ.
كاتب فلسطيني
القدس العربي
—————————-
سوريا الجديدة: خسائر روسيا مكاسب أوكرانيا/ ندى حطيط
تحديث 03 كانون الثاني 2025
يسيطر الحدث السوري بلا منازع تقريباً على حديث الفضائيات عبر العالم، إذ رغم أن الحرب الأهلية في ذلك البلد استمرت لأكثر من عقد، إلا أن السقوط السريع والغامض لنظام بشار الأسد كان مفاجئاً للكثيرين، ووضع أطرافاً عدة في الإقليم في مواجهة استحقاقات متسارعة لإعادة تشكيل سوريا تحت الحكم الجديد.
وكما كل تغيير، فإن ثمة خاسرين ورابحين جراء ما حدث. إيران مثلاً، التي دعمت النظام السوري السابق عسكريّاً ومالياً وجدت نفسها وقد خسرت جسر عبورها نحو لبنان، حيث حزب الله حليفها الأثير، وفقدت الإمكانية النظريّة لتحصيل ديونها على الدّولة السوريّة، وبالكاد حافظت على حماية شكليّة للمقامات الشيعيّة في العاصمة دمشق. واستتباعاً خسر حزب الله اللبناني حبل السرّة الذي كان يمده بالعتاد والأموال دون المرور في القنوات العلنية الخاضعة للرقابة الأمريكية اللصيقة.
لا شكّ أن رسائل سقوط حليف روسيا والصين في الشرق الأوسط قد وصلت أيضاً إلى كاراكاس (فنزويلا) و(بيونغ يانغ)، حيث تذكرت الأنظمة المعادية للولايات المتحدة أن واشنطن لا تنام. على أن الخاسر الأكبر من كل ما جرى تظل روسيا، التي تلقت ما يمكن اعتباره أسوأ هزيمة استراتيجية لها في هذا القرن.
الخاسر الأكبر: روسيا
مرحلياً يظلّ تركيز روسيا الأساسي جبهتها المفتوحة مع الغرب في أوكرانيا، سواء عسكريّاً على الأرض هناك، أو في مواجهة الحصار الاقتصادي الغربيّ الخانق، لكن سقوط نظام الأسد يمثل لها انتكاسة استراتيجيّة ستكون لها تداعيات محتمة على النفوذ الروسي كقطب دوليّ، وينسحب على صورة الرئيس بوتين في الداخل الروسي، سواء لناحية التأييد الشعبيّ – الذي يحتاجه كثيراً في خضم حربه على أوكرانيا – أو حتى في نطاق تموضعه داخل موازين القوى داخل النظام في موسكو.
لقد كان للوجود الروسيّ في سوريا طوال تسع سنوات (بداية من 2015) العديد من المزايا، إذ عزز نجاح عمليات الجيش الروسيّ العسكرية ودوره الفاعل على الأراضي السورية في مواجهة تنظيمات المعارضة السوريّة مكانة الاتحاد الروسيّ كقوة عظمى لها دورها في مشهديّة الحرب ضد الإرهاب الدولي (داعش)، ومثّل وجود قواعد عسكرية له في قلب مياه البحر الأبيض المتوسط خارج نطاق المصالح الروسية التقليدي على طول حدودها المباشرة نقلة نوعيّة في قلب منطقة بدا أن الولايات المتحدة تهيمن عليها بالكامل.
على أن هذه الشكليات اللازمة لتدعيم صورة نظام بوتين داخلياً كانت وراءها وظائف لوجستية مهمة أيضاً، إذ أن سوريا مثلت نقطة ارتكاز للوجود الروسيّ في بعض أنحاء القارة الأفريقيّة، ومنحت الروس أوراق قوة في علاقاتها اللدودة بإيران وتركيا، وفوق ذلك كله سمح النفوذ الروسي في سوريا لموسكو بتعطيل مشاريع خطوط أنابيب الغاز الطبيعي المحتملة من الخليج العربي إلى أوروبا، والتي يمكنها أن تنهي بشكل كليّ عقوداً من اعتماد القارة القديمة على إمدادات النفط والغاز الروسيّة.
مع سقوط النظام السوري تبخرت كل هذه المزايا التي تمتعت بها روسيا، وبالكاد تجنبت إذلالاً تاماً عبر سلسلة إجراءات لحفظ ماء الوجه خلال إخراج الأسد من سوريا، وتوافقها مع الحكام الجدد على حماية سفارتها وأمن دبلوماسييها في دمشق، وعلى عدم المس مباشرة بقواعدها في طرطوس وحميميم، وشرعت في برنامج غير معلن لتقليص تواجد قواتها هناك، ونقل المعدات والأسلحة النوعيّة إلى روسيا أو شرقي ليبيا – حيث قوات الجنرال حفتر حليفها هناك – وهناك اتصالات على مستوى ما مع حكام سوريا الجدد لمقايضة بقاء ولو رمزي لتلك القواعد العسكريّة مقابل الاعتراف الرسمي بهم.
بالطبع حاول بوتين في خطاب تلفزيوني مطوّل له إلقاء اللوم في ما جرى على الآخرين، لكن تقييم النظام الروسي في ما يبدو يتجه إلى الاعتقاد بان انتصاراً في أوكرانيا من شأنه أن يخفف من أثر الهزيمة في سوريا التي سيتلاشى أثرها السلبي على المدى البعيد، ربّما على النسق الذي حدث للإهانة الشكلية – لكن البليغة – النّاجمة عن انسحاب الولايات المتحدة المتعجّل من أفغانستان، لكن تلك تظل مقامرة مستندة إلى إمكانية تحقيق نصر ما على أوكرانيا، في وقت لا يزال فيه الغرب مصراً – إلى الآن على الأقل – على منع روسيا منه ولو بأثمان كثيرة، ناهيك أن عدم الاستقرار المزمن في ليبيا قد يؤدي بشكل أو آخر إلى خسارة نقطة الارتكاز البديلة عن سوريا هناك، ما يجعل المصالح الروسية عبر أفريقيا في موقع الضعف.
مستفيد ثان: أوكرانيا
وفي الجانب الثاني من أصحاب الخسارات من سقوط النظام السوريّ، فإن ثمة رابحين، على رأسهم الولايات المتحدة وحلفاؤها الإقليميون كلزز لأسبابه المختلفة، لكن وبحكم العلاقة الصفريّة بين موسكو وكييف، فإن كل خسارة لروسيا هي بالضرورة مكسب لأوكرانيا.
ولم يتأخر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي كثيراً في قطف الثمرة التي سقطت في حجره، فأوفد سريعاً وزيري الخارجية والزراعة للقاء القادة السوريين الجدد في مسعى دبلوماسي لإقامة علاقات وثيقة مع سوريا ما بعد سقوط الأسد، وأعلن بأن بلاده «مستعدة لتطوير علاقات استراتيجية طويلة الأجل» مع سوريا الجديدة وتريد المساعدة في تزويد البلد المنهك بالحصار والحرب بالإمدادات الغذائية التي تشتد الحاجة إليها، بما في ذلك شحنة أوليّة من دقيق القمح في إطار برنامج «الحبوب من أوكرانيا» الإنساني بالشراكة مع برنامج الأغذية العالمي، في وقت علقت فيه روسيا إمداداتها التي كانت أساسيّة طوال السنوات الماضية لإبعاد شبح الجوع عن أغلبية السوريين.
ولم يخف وزير الخارجية الأوكراني أندريه سيبيها شماتته بسقوط النظام السوري الديكتاتوري السابق – الذي كان اعترف بضم روسيا لأجزاء من شرق أوكرانيا بعد غزو 2022 – فقال للصحافيين في دمشق إن نظامي بوتين والأسد دعما بعضهما البعض لأنهما يشتركان في أن «أساس حكمهما العنف والاضطهاد»، لكن ذلك أيضاً مكسب عملي للنظام في كييف الذي لا بد مع دفء العلاقات المستجد يمكن أن ينسج شراكات تجارية وصناعية وتقنيّة ذات مردود في سوق مهمة مثل سوريا المتعطشة إلى إعادة إعمار خراب امتد 14 عاماً من الحرب.
موازين قوة مستجدة: ترامب ليس مغفلاً
سيكون عام 2025 حاسماً بشأن المسار الذي ستأخذه الحرب في أوكرانيا مع اقتراب موعد تولي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مهام منصبه هذا الشهر، وهو الذي كان وعد العالم بصفقة تنهي النزاع هناك. لكن ما قبل سقوط النظام السوري السابق ليس كما بعده، ولا شك أن الجانب الأمريكي والإدارة الجديدة تحديداً ليسوا مغفلين كي يمنحوا بوتين الصفقة ذاتها الآن مع تراجع أوراق قوته الملحوظ عالمياً ومحلياً، وسيكون محتماً على الرئيس بوتين القبول بسقوف أدنى لمطالبه في أوكرانيا إن هو رغب في وقف النزاع سلمياً.
والأمر هكذا، وبينما تتقاطع القوى الدولية الإقليمية على إعادة ترتيب أوراقها بعد تغيير الحكم في سوريا، فإن الأمل يبقى أن تستعيد هذه البلاد العظيمة أمنها واستقرارها وازدهاراً حُرم منه شعبها طوال عقود، وأن يتسنى للدولة السوريّة أن تأخذ مكانها الذي تستحق على رقعة شطرنج العلاقات الدوليّة.
إعلامية وكاتبة – لندن
—————————-
يوم القيامة/ د. ابتهال الخطيب
تحديث 03 كانون الثاني 2025
كل شيء يحدث هذه الأيام غريب، كأن الكرة الأرضية دخلت بعداً آخر، كأن مجرتنا مرت من ثقب أسود فخرجت من عالمنا ذي القوانين المألوفة والأبعاد الثلاثة المطلوبة لكي تنشأ الحياة وتتواجد الأشياء، ودخلت مساحة غرائبية تماماً، انقلبت فيها الموازين، وتلخبطت فيها الأبعاد، وتبدلت فيها قوانين الحياة من أقصاها إلى أقصاها، حتى لكأننا نحيا عكس الأحداث ومساراتها ومنطقيتها وطبيعتها.
من كان ليصدق أن تقوم حرب إبادة جماعية بهذا العنف والبشاعة والإصرار أمام مرأى العالم أجمع ومسمعه، وقودها المدنيون، وأهدافها الرئيسية الأطفال، وذلك تسجيلاً وتوثيقاً بالصوت والصورة، يُستهدف إبانها تحديداً الصحافيين، الطواقم الطبية، عاملي الإغاثة وأعضاء المؤسسات الحقوقية، مخيمات اللجوء، المدارس، الجامعات، دور العبادة، والأطفال، تحديداً الأطفال، والعالم بكل أنظمته وحكوماته “الديموقراطية المتطورة” يبرر للقاتل و”يتفهم” حاجته للدفاع عن نفسه؟ من كان ليصدق أن تبارك حكومات “العالم الأول” كياناً محتلاً مغتصباً يتصرف كأنه عصابة شرسة، بل وتعترف هذه الحكومات به و”بحقوقه” وهو لا أرض له ولا حدود، هَجَّرته هذه الحكومات ذاتها من أرضه الأصلية ليجثم على صدر شعب لا علاقة له به ولا امتداد له معه؟ من كان ليصدق أن يذهب هذا الكيان إلى قصف خمس دول قائمة في آن ولا يزال هذا الكيان معنوناً على أنه هو الضحية؟
من كان ليصدق أن ينقلب الحال بالكثير من الدول العربية من الشجب والاستنكار، اللذين طالما استصغرناهما أمام حجم المأساة الفلسطينية، إلى التطبيع اليوم بكل أريحية، بل وإلى مد جسور السياحة وإنشاء دور عبادة دينية ترحب بالصهاينة وتستجذبهم؟ من كان ليصدق أن جاراً عربياً يصرخ أهله تنديداً بالكيان الغاصب ورفضاً لجرائمه، تمرر حكوماته باليمين سيارات إعانة غذائية للغزاويين وتسيّر بالشمال صفقات الأسلحة للقاتل المغتصب، وكلنا نعرف، والجار يعرف أننا نعرف، ونحن نعرف أنه يعرف أننا نعرف، والكل بالسكوت ملتحف؟ من كان ليصدق أن المعبر الأوحد خارج الجحيم الذي تمر به غزة الآن والذي هو معبر عربي صِرف، مغلق في وجه الغزاويين؟ من كان ليصدق أن تنسى الشعوب العربية حتى لوم جامعة الدول العربية أو مجرد مطالبتها برفض أو تنديد نظراً للغياب التام والفضائحي والمخزي لأي دور لها وشعب عربي يباد أمام أنظار مجتمعيها ولا “حياء” للمجتمعين؟ من كان ليصدق أن تُمنع المظاهرات المؤيدة لفلسطين والمطالِبة بوقف حرب الإبادة عليها في شوارع المدن العربية وبأحكام مغلظة من حكوماتها، لتخرج بأعداد مليونية في شوارع المدن الغربية وتحدياً لحكوماتها؟ من كان ليصدق أن تقف الشعوب الأوروبية مواقف انتصار وإنسانية تجاه الغزاويين أشرف ألف مرة من مواقف الشعوب العربية؟
من كان ليصدق أن يطالب محمد الشرع، المنشق عن القاعدة والمؤسس لجبهة النصرة، التي تحولت لاحقاً لجبهة تحرير الشام، بالدولة المدنية، في حين يقبِّل فلاديمير بوتين القرآن الكريم وهو في زيارة لمسجد النبي عيسى في العاصمة الشيشانية؟ من كان ليصدق أن تَهدم مصر مساحات شاسعة من آثارها، التي هي ثروتها الحقيقية، والتي يمتد عمرها لأكثر من ألف سنة لتبني جسوراً ومولات؟ من كان ليصدق أن ترقص جينيفير لوبيز بمايوه في موسم الرياض؟ من كان ليصدق أن يمشي الصهاينة في شوارع دبي؟ من كان ليصدق أن يَهجُر الكويتيون أهم وأكثر المباني حركة وحيوية في بلدهم، مبنى مجلس الأمة، وأن تفقد آلاف الكويتيات جنسياتهن على مدى أسابيع قليلة، فيفقد الدبلوماسيون والعسكريون أبناء هذه النساء وظائفهم، وتتعطل البنوك بسبب عدم قدرة هذه النساء على دفع قروضهن بعد وقف رواتبهن ومداخيلهن، وتتضعضع الأرواح وتهتز الأُسر في أعماق أعماقها وتتغير كل مخططات الحياة، من أبسطها المتمثلة في سفرة قادمة، إلى أخطرها المتمثلة في تزويج ابن أو ابنة أو الحصول على وظيفة، في يوم وليلة؟ من كان ليصدق أن تعيد أمريكا انتخاب رجل متورط في قضايا جنسية وفساد مالي وتهرّب من الضرائب؟ من كان ليصدق أن تتوارى الحكومات الأوروبية “المتحضرة” خلف مصالح رخيصة، لتقف دول مثل الصين وإيران واليمن وقفة حق متحضرة مع شعب يباد أمام مرأى العالم أجمع؟ من كان ليصدق أن أولى الدول التي تتحول عن موقفها لتساند القرار الأخير للمحكمة الجنائية الدولية الذي يدين إسرائيل ويصدر مذكرة للقبض على نتنياهو هي فرنسا، أشد الدول مناصرة لإسرائيل وأعنفها في التعامل مع مظاهراتها الشعبية المؤيدة لغزة؟ وعلى المستوى الشخصي، هل كنت لأصدق تحولي أنا للتأييد التام والمساندة غير المشروطة لحماس وللتخفف في الموقف تجاه حزب الله وإيران ولتأييد مؤسس جبهة النصرة وجبهة تحرير الشام؟ لحظة، نسيت شيئاً غرائبياً آخر على ذكر مؤسس جبهة النصرة وجبهة تحرير الشام، من كان ليصدق أن يوالي المنشق عن القاعدة، محمد الشرع، أمريكا ويصبح حليفاً لها وبتحالفه هذا يروض المثلث الروسي الإيراني الحزبي (من حزب الله) ويقطع عليهم الطريق ويعطل كل إمكانية إمدادهم للمقاومة الفلسطينية بالسلاح؟ ومن كان ليصدق أن يقف أصحاب المبادئ، التي لا تغني ولا تسمن من جوع، وقفة الذهول والانشداه والتنافر والتضارب والفوضى هذه، مؤيدين تماماً للمقاومة الفلسطينية، محتفين تماماً بسقوط نظام الأسد، والحراكان يسيران في طريقين متنافرين؟
هناك شيء ما يحدث في الكون، لربما سُحبت مجرتنا إلى كون آخر من الأكوان المتعددة، لربما ابتلعنا ثقب أسود، وكل ما يجري الآن هو أضغاث أحلام، عقول مبددة مفتتة تمططت حد التمزق التام في الثقب الأسود، لربما وجدتنا كائنات فضائية فوضعتنا جميعاً تحت برنامج إلكتروني اختلت إحداثياته، لربما قامت القيامة وكلنا الآن موتى نتعذب في الجحيم، أو اصطدمت مجرتنا بأخرى وانتهى كل شيء فتحولنا نحن إلى غبار نجوم نتطاير معذبين بذكريات الأرض التي كانت ذات يوم في هذا الكون اللانهائي البارد (يعتمد ذلك على تدينك أو عدميتك)، لربما أشياء كثيرة، كلها محزنة مخيفة، الشيء المؤكد أننا دخلنا حيزاً غريباً مخيفاً، وأن لا أحد منا سيخرج منه سالماً، لربما لأننا لا نستحق، كلنا بربطة بشريتنا، الخروج سالمين.
القدس العربي
—————————-
الثقافة السورية في 2024: حالة احتضار انتهت بفرار الدكتاتور
العربي الجديد
03 يناير 2025
مشهد واحد لخّص بسرعة حال الثقافة السورية لعام 2024، وتجلّى في جرافات أرسلتها سلطات النظام البائد على حين غرّة لإزالة بسطات الكتب من تحت “جسر الرئيس” (تغيّر اسمه بعد انتصار الثورة إلى جسر الساروت). منظرُ آلاف الكتب والمجلدات الممزّقة على أرضية الشارع تنقلها سيارات مخصّصة لنقل القمامة التابعة لمحافظة دمشق، فجّر غضباً كبيراً وقتها في أوساط المثقفين، فلقد عمل النظام البائد لسنوات طوال على إعدام أي ملمح يتّصل بالثقافة والفنون، فمن إزالة أكشاك الرسّامين في شارع الصالحية عام 2006 واعتقال أصحابها، إلى تحويل صالات سينما إلى سوق عرض مفروشات وأدوات منزلية ومطاعم.
مجزرة الكتب تحت “جسر الساروت” واكبها اختفاءٌ تدريجي للمكتبات العامة من شوارع دمشق وحلب وحمص واللاذقية، من مثل مكتبات “ميسلون” التي تحوّلت إلى مركز للصرافة، و”الزهراء” التي تحوّلت إلى سوبر ماركت، في حين صارت “مكتبة اليقظة” محلّاً لبيع الأحذية! المصير ذاته لاقته مكتبات “الخيّام” و”الرسام المجاني للأطفال” في اللاذقية، ومثلها مكتبات “استانبولي” و”الفجر” و”عفش” في حلب.
إعدامات جماعية ترافقت مع انحسار حركة النشر في البلاد، وإلغاء “معرض دمشق الدولي للكتاب”، الذي أحاله كلٌ من اتحاد الناشرين السوريّين ووزارة الثقافة لما سموه “معرض الكتاب السوري”؛ وهو فعالية هزيلة سيطرت فيها منشورات “اتحاد الكتّاب العرب” على مجمل أجنحتها، فيما انفضّت دور النشر السورية عن المشاركة في فعالياته من مثل “التكوين” و”كنعان” و”ورد”، وانحصرت أنشطة هذا المعرض المحلي بتواقيع كتب لأعضاء اتحاد الكتّاب، واقتصرت فعالياته على ندوات خشبية لهم عن المقاومة والصمود والتصدي.
تزوير الكتب
واقع دور النشر السورية شهد هو الآخر احتضاراً مماثلاً، فعلى الرغم من الرقابة المُسبقة على الكتّاب والدوريات في “سورية الأسد”، وغلاء أسعار الورق والطباعة، إلّا أنَّ هذا القطاع شهد مبادرات جدّية لإبقاء الكتاب السوري حاضراً في معارض الكتب العربية، في الوقت الذي أفسحت وزارة الثقافة في حكومة النظام البائد لحركة تزوير الكتب بالنشاط، وغضّت النظر عن تزوير عشرات العناوين وقرصنتها في وضح النهار، بل وسمحت لهذه الدور بأخذ مواقع الصدارة لأجنحتها في “معرض الكتاب السوري”، معلنةً إعدام حقوق عشرات المترجمين والمحرّرين والمدققين اللغويين ومصمّمي الأغلفة.
اللافت أكثر من ذلك هو سيطرة أعضاء اتحاد الكتّاب على لجان القراءة في “الهيئة العامة السورية للكتاب”، إذ تحوّلت هذه الأخيرة في معظم ما تنشره إلى طباعة دواوين أعضاء الاتحاد الشعرية وتصدير رواياتهم وكتبهم عن المؤامرة الكونية، فيما أطلقت وزارة الثقافة في حكومة النظام البائد أيادي هؤلاء في تمحيص المخطوطات وفحص زمرة ولاء كتّابها، في الوقت الذي استمرت دائرة الرقابة في وزارة إعلام النظام والمؤسّسة العامة للمطبوعات في منع الكتب التي تتحدّث عن الثورة السورية، وعدم إعطاء موافقة تداول لها داخل أراضي القطر.
هذا الواقع لم يمنع دور النشر المستقلة من متابعة إصداراتها، فلقد سجّلت “دار نينوى” قائمة لافتة لعناوين في الرواية والترجمة والدراسات، ومن أبرز هذه الإصدارات كان كتاب “التاريخ الثقافي للألم” لمؤلفها خابيير موسكوسو، وترجمة حسني مليطات. في حين أصدرت “دار التكوين” أعمالاً بارزة لعل أهمّها سلسلة “إشراقات” الشعرية التي يشرف عليها الشاعر أدونيس، كما صدرت عن الدار نفسها “الأعمال الشعرية الكاملة لولت ويتمان” بترجمة عابد إسماعيل، وأصدرت “دار ورد” كتباً لافتة في هذا المجال منها “نادي المتفائلين غير القابلين للإصلاح” للفرنسي جان ميشيل غوناسيا، ورواية “علي في بلاد العجائب” للكاتب الإسباني ألبرتو باثكث فيكيروا، وترجمة عبدو زغبور.
آثار وقلاع لإقامة الأفراح
وإذا كان واقع حركة النشر السورية والمكتبات العامة في حالة اضمحلال وكساد، فإن واقع المواقع الأثرية ليس أفضل حالاً منها، فلقد أخضع النظام البائد مجمل المواقع التاريخية في كلٍّ من دمشق وحمص وحلب لتصير بمثابة ملاهٍ وصالات لإقامة الأفراح. هكذا تم تأجير خان أسعد باشا الأثري لإقامة عرس لعاصم الأسد وغيا كنعان، حفيدة وزير الداخلية السابق غازي كنعان، وبتكلفة وصلت إلى 500 ألف دولار أميركي، في الوقت الذي كان يعاني فيه غالبية الشعب السوري من الفقر والجوع والحرمان.
تأجير المواقع الأثرية لإحياء أعراس آل الأسد وحاشيته امتد ليشمل كلّاً من قلعة دمشق وقلعة الحصن والبيمارستان النوري وقصر العظم، والعديد من الأوابد الأثرية المُسجّلة على لائحة التراث العالمي في منظمة اليونسكو. اللافت هنا أنّ تأجير هذه القلاع التاريخية كان يجري بموافقة من “مديرية الآثار والمتاحف” في وزارة الثقافة، لكن بأبخس الأجور، إذ تعرضت العديد من المواقع للتخريب بسبب إطلاق الألعاب النارية في حفلات زفاف وصفت بالأسطورية، وضرب القائمون عليها عرض الحائط بأيّة حرمة لتراث سورية الحضاري والتاريخي، في حين كان يُمنع على العديد من الفنانين والمثقّفين السوريين تقديم أنشطة داخل تلك المواقع إلا بشق الأنفس، أو عبر موافقات أمنية غالباً ما تكون بشروط تعجيزيّة.
ولم يكن حال المواقع التاريخية التي كرّسها النظام البائد لإحياء الأفراح أحسن حظاً من عشرات المواقع الأثرية التي تعرّضت للنهب المنظم، وقد استرد المتحف الوطني في دمشق منذ عام 2022 ما يقارب 35 ألف قطعة، وكلّها قطع أثرية أصلية تعود لفترات مختلفة من التاريخ، ومنها السرير الجنائزي وتماثيل نصفية كانت مُعدّةً للتهريب خارج سورية، لكن ما لم يفصح عنه القائمون على مديرية الآثار والمتاحف هو مصير المومياءات التدمرية، حيث كانت الحكومة اليابانية قد قدّمت عام 2005 منحة تجهيزات متحفيّة سمعية وبصرية تقدر بـ 49 مليون ين ياباني، وذلك ليتم عرض هذه المومياءات التي تعود إلى القرن الأول للميلاد في قاعة خاصة لها ضمن حرم المتحف.
ويبدو ملف الآثار متمّماً لهول ما تعرّضت له سوق المهن اليدوية في التكية السليمانية في دمشق، والتي قامت “الأمانة السورية للتنمية” التابعة لزوجة الرئيس المخلوع أسماء الأخرس بطرد حرفيّيها وورشهم إلى الشارع بعد توجيه إنذارات لهم بالإخلاء الفوري. عشرات المهن التراثية القديمة مهدّدة بالانقراض اليوم بعد أن وجد أكثر من أربعين شيخ كار أنفسهم في العراء. من هذه المهن القديمة صناعة السيف الدمشقي، وآخر نول لحياكة البروكار والدامسكو، إضافةً لحرفيي الخط العربي والزجاج المعشّق والخزف والقيشاني والنحاسيات والأزياء التقليدية.
حديقة حيوانات تحتل متحف الفن
حركة الفن التشكيلي السوري ربما تكون هي الأكثر ابتعاداً عن هيمنة مؤسّسات النظام البائد، لكنها عانت هي الأخرى من تدمير ممنهج للذاكرة، فحتى الآن لم يعرف مصير أكثر من 14 ألف عمل فني في مستودعات مديرية الفنون الجميلة التابعة لوزارة الثقافة، فلقد ابتلعت الرطوبة والإهمال أعمالاً كانت الوزارة قد قامت باقتنائها في معرضي الربيع والخريف لكل من فاتح المدرّس ونذير نبعه ولؤي كيالي ونصير شورى ومحمود حماد، فيما تم التعتيم من قبل إدارة المتحف الوطني في دمشق على اختفاء أعمال لكلٍ من سعيد تحسين وناظم الجعفري وحمود جلال وألفريد بخاش من قسم الفن الحديث في المتحف، وذلك عبر تهريب هذه الأعمال وبيعها إلى صالات ومزادات الفن في العالم.
ولم تنجح كل نداءات الفنانين التشكيليين في البلاد بتلبية مطالبهم بإقامة متحف للفن الحديث، فلقد تم تحويل قطعة الأرض التي كانت مخصّصة لإقامة هذا الصرح الثقافي لحديقة حيوانات في منطقة العدوي في دمشق. إذ بقيت المبادرات التي قام بها فنانون يديرون صالات مستقلة في البلاد في إبقاء جذوة التشكيل مستمرة، ولعل أبرز تلك المبادرات جاءت من “صالة عشتار” لمديرها وصاحبها الفنان عصام درويش، والذي أقام معارض لكل من فدوى شهدا وغيث ضاهر وفاطمة إسبر وسيماف حسين وميسر كامل.
وقدّمت “غاليري البيت الأزرق” معرضها السنوي لنحاتين سوريين منهم مصطفى علي، ونجود الشومري، ولطفي الرمحين، وفؤاد أبو عساف، في حين واظبت “صالة جورج كامل” على إقامة معارضها الاستعادية لكلٍّ من يوسف عبدلكي ونعيم إسماعيل ومصطفى الحلاج، وتبدو هذه المبادرات مع انعدام سوق بيع واقتناء الأعمال الفنية نوعاً من مخاتلة واقع أمسى أكثر صعوبة لفناني البلاد عام 2024، حيث أمسى مصير معظم هؤلاء في أيدي تجار الفن، وصاروا عمّالاً تشكيليين ينتجون أعمالاً على القطعة مقابل أجور شهرية.
استغلالُ الفنانين التشكيليين من قبل تجار الأعمال الفنية أمسى واقعاً فعلاً، فلم يعد الفنان يبيع لوحاته، بل يعمل غب الطلب كأي عامل مياومة، وهذا يعكس حجم الانهيار الشامل في المشهد التشكيلي السوري، في الوقت الذي واظب فنانون آخرون على التزام محترفاتهم الشخصية في كل من حارة اليهود الدمشقية. مراسم ومحترفات كل من مصطفى علي وعبد الله مراد وإحسان عنتابي وسنا أتاسي، إضافة لكل من إدوار شهدا وغازي عانا ونبيل سمان وسهيل بدور وسبهان آدم بقيت هي الأخرى ملاذاً أخيراً بعد هيمنة بعثيي النظام البائد على عمل وقوانين اتحاد التشكيليين السوريين، وجعل هذا الاتحاد مركزاً لجباية الاشتراكات من أعضائه.
غياب موضوعة الثورة عن أعمال التصوير الزيتي والغرافيك والنحت في معرضي الخريف والربيع، كان أيضاً لافتاً في معظم ما قُدِّم لهذا العام، إذ اقتصر الفنانون المشاركون على تقديم مشهديات عمرانية من المدن والبلدات السورية، إضافة لأعمال البورتريه، والمناظر الطبيعية الريفية. مفارقة شطب الثورة من المحترف السوري تبقى لغزاً محيراً، وتطرح أسئلة كثيرة عن الرقابة الصارمة على الأعمال المشاركة، في حين تميزت أعمال النحت باعتماد فنانيها على خامات الخشب والمعدن واللحام، وتقنيات السكب والصب، مقدمين تكوينات تجريدية بالعموم. في حين حضرت بعض الأعمال التجسيدية متكئةً على خامتي البازلت والبرونز.
ويمكن الانتباه في معرضي الخريف والربيع لسيادة طرق العرض التقليدية، وأهمها لوحة الحامل، وغياب الفنون المعاصرة من تجهيزات الفضاء والفن التركيبي (الإنستليشن) وفنون الفيديو آرت، وفنون ما بعد الرسم والإنشاء الصناعي، والتي غالباً ما تحتاج إلى خامات متنوعة، وفضاءات متداخلة مكانياً مع الواقع. حافظت المعارض الدورية السورية على عروض اعتيادية للغاية، مما فوت الفرصة على جيل الفنانين الشباب لتطوير أعمالهم نحو ما يسمى اليوم بالفن المفاهيمي، والذي يعتمد على مؤثرات صوتية وبصرية ذات طابع حداثي ومعاصر، ويكون غالباً خارج الصيغ المعهودة لثنائية الربيع والخريف السوريين.
عروض أكاديمية أنقذت المسرح
هذا التقهقر المرعب في المشهد الثقافي السوري، واستفراد النظام البائد بواقع الثقافة والفنون، قابله عدد من المبادرات الفردية من فنانين ومثقفين آثروا ألا يتركوا مسارحهم وصالات عروضهم لإرادة الطاغية، فظلّوا يعملون على تقديم مبادراتهم في السينما والمسرح والموسيقى، ولعل المسرح السوري أنصع مثال عن حالة الاحتضار الشاملة التي شهدتها الثقافة السورية في عام 2024، فلقد انفضّ معظم المسرحيّين عن العمل مع المسرح القومي، وذلك بعد تدهور الأجور وعدم توفّر البيئة التقنية المناسبة لعروضهم.
وتبدو عروض الأكاديميات المسرحية في طليعة العروض التي يمكن التعويل عليها عام 2024، سواء من حيث السوية الفنية أو حتى على صعيد الحضور القوي لممثليها، ولعل على رأس هذه الأكاديميات يأتي المعهد العالي للفنون المسرحية بعروض أكثر حرفة وتأمّلاً على صعيد الإخراج والأداء والعناصر التقنية والجمالية، وأكثر تمرداً على عقلية الرقابة السائدة في المسارح الرسمية.
هكذا على التوالي قدّم حسن دوبا عرضاً بعنوان “بعض من شكسبير”، وفيه استقى المخرج الشاب شخصيّات من نصوص “ماكبث” و”هاملت” و”تاجر البندقية”، إضافةً لـ “ريتشارد الثالث” و”عطيل”، جامعاً إياها في سياق جرائم الاغتيالات السياسية في الدراما الشكسبيرية، فيما قدّم الفنان مجد فضة عرضه “اللعبة الخطرة” عن نص بالعنوان نفسه للكاتب الصربي برانيسلاف نوشيتش، دمجه مع نصوص أخرى للكاتب نفسه؛ هي: “الماستر دولار” و”المرحوم” و”حرم سيادة الوزير”.
وقدم “اللعبة الخطرة” أداء مغايراً لقوالب الأداء التقليدية للإطلالة على واقع أثرياء الحروب، تماماً كما كان الحال مع عرض “بتوقيت دمشق” لمخرجه عروة العربي، الذي لعب على مسرح الارتجال لتقديم فرضية الأم المحتضرة وأبنائها في لعبة درامية تكاد لا تخبو حتى تعود وتتوهج ضمن أداء جماعي لافت، فقد ناقش العربي من خلال هذا العرض ظاهرة المخفيين قسراً في سجون النظام المجرم عبر لعبة تمويه متقنة عن أعين الرقابة.
ومن أبرز العروض التي أنتجها المعهد العالي للفنون المسرحية لهذا العام كان عرض “ليلة مرتجلة” لمؤلفها ومخرجها يزن الداهوك، وفي هذا العرض يحضر فنّ التمثيل موضوعا لشخصيات العرض الست، فيما يكشف لقاء الأصدقاء في بيت أحدهم تورّمات الأنا وأمراضها المزمنة، إذ قدم العرض تشريحاً متقناً لحال الوسط الفني ومحسوبياته في ظلّ حكم الرئيس المخلوع، فقدّم تصوّراً عن نمط شركات الإنتاج السائدة في البلاد، وكيف تدير صفقاتها المشبوهة بطريقة الرشوة الجنسية واغتصاب الممثّلات الصاعدات.
وليس بعيداً عن هذا المستوى من الأداء، قدّمت كلية الفنون للأداء (اللاذقية) عرضين من كلاسيكيات النصوص المسرحية. الأول هو “المفتش العام” لنيقولاي غوغول، وجاء بتوقيع فؤاد العلي، أما الثاني فهو “حلم ليلة صيف”، وجاء بإمضاء الفنان سامر عمران، وفي كلا العرضين تابع الجمهور صيغة مبتكرة لامتحان الممثل على عتبة الاحتراف، وخرج من صالات العلبة المسرحية إلى فضاء الأماكن البديلة. ناقش العرض الأول الفساد المستشري أيام النظام البائد، فيما خلص العرض الثاني إلى تقديم رثاء غير مباشر لمدينة اللاذقية في ظل حكم البعث، وكيف استحالت المدينة البحرية إلى أطلال وحشود وظلال بشرية.
الفنان سمير عثمان الباش لم يتأخر عن هذا النوع من الطرح الفني، فلقد قدم في مدرسة الفن المسرحي (جرمانا) عرضين مميزين. الأول عمل فيه الباش على مسرح الكوميديا ديلا رتي، وجاء بعنوان “تحت شجرة الصفصاف في ضوء القمر”، أما الثاني فجاء بعنوان “لقاءات” وهو مشروع تخرج الدفعة السادسة من دفعات مدرسة الفن، وقدم الباش عبره مسرحيات ثنائية قصيرة أطلت بقوة على واقع السوريين في ظل نظام البعث، وكيف عملت المنظومة الحاكمة على بث التفرقة بين أبناء الشعب الواحد.
بدوره قدم الفنان كفاح الخوص عرضاً مفاجئاً في هذا السياق بعنوان “مع سبق الإصرار” عن نص من إعداده بالشراكة مع لوتس مسعود، والنص مقتبس عن مسرحية “المنتحر للكاتب الروسي نيكولاي إيردمن. جاء العرض من إنتاج “دراما رود” وضم أكثر من ثلاثين متدربا ومتدربة خضعوا لورش إعداد الممثل وتربية الذائقة الفنية، وقد غاص العرض في خفايا لعبة الموت السورية، وكيف استثمر النظام في صناعة ثقافة الوهم وتقديسها.
دار الأوبرا السورية أنتجت لعام 2024 عرضاً راقصاً بعنوان “خدر” لمخرجته ومصممته الكريوغراف رهف الجابر، وفيه تناولت الجابر أزمة مجموعة من الشبان والشابات لا يجدون أرضاً يقفون عليها، فلقد أحالهم النظام البعثي إلى مجرد كائنات عديمة الملامح. الأمر ذاته ناقشه العرض البصري الرقمي “كونتراست” للفنان أدهم سفر، والذي كان له قصب السبق في اقتحام مجال المسرح الرقمي الذي دمج بقوة بين الأداء والغرافيك والفيديو مابينغ من جهة، وبين الضوء والرقص والموسيقى الحية. ناقش كونتراست” موضوعة الثورة السورية عبر جسد ينفجر إلى أجساد قضت تحت التعذيب في تورية لعبها سفر موظفاً الموسيقى الحية لمساندة الأداء الراقص على الخشبة.
صالات سينما تحولت إلى مطاعم
وشهد عام 2024 تراجعاً ملحوظاً في الإنتاج السينمائي، فلقد عمل مدير عام مؤسسة السينما مراد شاهين على منع العديد من الأفلام، وتسبّب بإغلاق العديد من الصالات، من أبرزها صالة كندي حمص. هكذا على التوالي تم منع فيلمين لمخرجهما غسان شميط، وهما فيلم “ياسمين شوكي” و”حيِّ المنازل”، وهذا الأخير تمَّ منعه بسبب تصويره لمظاهرة سوق الحميدية في 15 آذار من عام 2011، أما الفيلم الوثائقي “ياسمين شوكي” فقد منع بعد أن وثّق مخرجه قيام جنود وضباط روس في قاعدة حميميم الجوية باستدراج فتيات سوريات قاصرات واغتصابهن عبر شبكة قوادة محلية. الأمر الذي أدى إلى تشكيل وزيرة الثقافة في حكومة النظام لبانة مشوح لجنة رقابية لبدء مساءلة كل من المخرج شميط وكاتب الفيلم.
كما شهد هذا العام استيلاء عدد من رجالات أعمال وتجار النظام البائد على العديد من صالات العرض السينمائية، فتحوّلت “سينما الأهرام” إلى صالة عرض مفروشات وعصرونية، فيما تحولت “صالة سينما الهبرا” في حي باب توما إلى مطعم، ومثلها “سينما راميتا” التي انقلبت بين ليلةٍ وضحاها إلى مقهى نراجيل ولعب الورق. واقع كان سيطر لسنوات على مجمل العملية الإنتاجية السينمائية في البلاد، حيث حرصت الإدارات المتعاقبة على “المؤسّسة العامة للسينما” على تحويلها إلى مزرعة شخصية.
وقامت جهة مجهولة تدعى “ميديا للمرئيات والصوتيات” بنشر أكثر من مئتي فيلم من إنتاج “المؤسسة العامة للسينما” على موقع “يوتيوب”، ليتّضح أن إدارة المؤسّسة العامة للسينما قامت ببيع هذه الأشرطة مقابل مبالغ مالية ضخمة، في الوقت الذي تم فيه إهمال السينماتك (مكتبة الأفلام) التي أسّستها المؤسسة في “صالة كندي” دمشق عام 2017، وهي غير مُتاحة للجمهور. الأمر الذي نسف حقوق التأليف لعشرات الفنانين والكتّاب الذين عملوا مع المؤسسة منذ إنشائها عام 1960، كما أن هذه الخطوة تعدُّ مخالفة لطابع المؤسّسة الاقتصادي الثقافي في استرداد عائدات الأفلام وتوزيعها لصالح خزينة الدولة.
في ظل هذا الفراغ الإنتاجي المزمن أقدمت “أكاديمية شيراز” على إنتاج العديد من الأفلام الروائية القصيرة لمخرجين جدد، وكان أبرز هذه الأشرطة “نهاري ليلي” لطارق مصطفى عدوان، و”العنزة” لعبد اللطيف كنعان، و”خلص الشحن” ليزن أنزور، و”إيجابي” لرامي نضال. السلسلة السينمائية قدمت اتجاهاً مغايراً عن أفلام القطاع العام، وتعرّضت بجرأة للقمع الذي طاول المرأة والطفل في ظلّ النظام البائد، وكيف أحال البعث البشر إلى أغنام بشرية خائفة استحكم بها الهلع من الماضي والحاضر، ودون أي أمل بمستقبل تسوده العدالة وحقوق الإنسان.
وتمكّن المخرج جود سعيد من تحقيق فيلمه “سلمى” خارج إستوديوهات المؤسسة؛ وهو شريط روائي طويل (جود بروداكشن) يتعرّض لواقع المعتقلين في سجن صيدنايا العسكري. يرصد الفيلم (100 دقيقة) حكاية معلّمة تنتظر زوجها المعتقل في سجون النظام البائد منذ عشر سنين، وتتعرّض للتحرّش والاستغلال الجنسي من أحد المتنفذين لدى النظام، وعندما لا ترضخ لإرادته في إذلالها وتصوير مقطع فيديو تساند فيه حملة انتخابية لشقيقه الفاسد، يتم الانتقام منها وطردها من وظيفتها.
موسيقى بديلة
حال الموسيقى والموسيقيّين السوريّين لم يكن أفضل من حال زملائهم في السينما والمسرح والتشكيل، إذ يمكن رصد نزيف العديد من الأسماء المهمة في الريبرتوار الموسيقي منذ قيام الثورة، والذي شمل أبرز أساتذة ومدرّسي المعهد العالي للموسيقى، وكان أبرزهم مالك جندلي وعصام رافع وكنان العظمة ولينا شماميان ورشا رزق، إضافة لكل من لبانة قنطار وديما أورشو وشادي علي، وقد وصلت نسبة هؤلاء إلى غالبية كوادر الأوركسترا السيمفونية الوطنية وأوركسترا الموسيقى العربية.
وعاماً بعد عام صار من الصعوبة إقامة حفلات دار الأوبرا التي سيطرت عليها سلطات النظام البائد، وجعلتها رهناً لحفلات تخرّج المدارس الخاصة التابعة لأبناء الرئيس الفار بشار الأسد وحاشيته، إذ شهدت دار الأوبرا تراجعاً في حفلاتها، واقتصرت على التشريفات وإقامة فعاليات تمجّد وزارة الثقافة وعيدها السنوي، والذي اقتصر الحضور فيه على موظفي الوزارة وقيادات حزب البعث.
حركة الموسيقى البديلة كانت هي الحل للخروج من هذه السكونية التي شهدتها المؤسّسات الرسمية، إذ نظّم الموسيقي وعازف القانون عبد الله شحادة أمسيات فنية في بيته في دمشق القديمة، مثلما نجح الفنان سيمون مريش في استقطاب عشرات من جمهور موسيقى الجاز والبلوز لحضور أمسياته شبه اليومية في مقهى “قهوة مزبوطة”. الأمر الذي ساق إلى الذاكرة العديد من التجمعات والفرق الفنية التي غادر عازفوها البلاد، ومنهم “كلنا سوا” و”حرارة عالية” و”مقامات” و”التخت الشرقي النسائي”.
هذا الواقع الثقافي لعام 2024 أرسل إشارات قوية عن اقتراب سقوط النظام البائد بكل تمظهراته، وأفسح في المجال اليوم لثقافة سورية حرّة من عقيدة البعث وأفكار مناصريه، إذ بدأت ترتسم معالمها منذ اليوم الأول لفرار بشار الأسد وعائلته، ومن هذه العلائم كان ظهور “التجمع الثقافي السوري” الذي يضم في صفوفه مخرجين وكتّابا وفنانين ومثقفين وناشطين من كل أطياف المجتمع. الأمر الذي يعد بولادة تيارات فنية وثقافية خارج الحياة الحزبية، ويفجر طاقات كانت مقموعة ومهمّشة على مدى أكثر من نصف قرن.
العربي الجديد،
————————————
لبنان وسوريا بين الماضي والحاضر والمستقبل/ عارف العبد
الجمعة 2025/01/03
اتجهت الأنظار والاهتمامات في المنطقة والعالم، وفي لبنان على وجه الخصوص نحو التطور الدراماتيكي الذي حدث في سوريا وتمثل في فرار رأس النظام السابق بشار الأسد الى روسيا، ما ادى الى سقوط النظام بأكمله على يد تحالف هيئة تحرير الشام بقيادة أحمد الشرع. هذا التطور الذي اعتبره كثر بمثابة زلزال دمر النظام السابق والبنية السياسية والسلطوية في الدولة والنظام السوري، اعتبره اخرون بمثابة سقوط جدار برلين الذي كان فاتحة تحول في أوروبا والعالم وتحديدا أوروبا الشرقية.
من الطبيعي، ان يكون الاهتمام في لبنان بالحدث السوري، مضاعفا ومكثفا لاكثر من سبب وسبب. وتحديدا بسب تاثر لبنان بشكل مباشر بالتطورات في سوريا. ليس الان فقط، بل عبر تجارب التاريخ المتعددة، منذ ما قبل قيام الكيان اللبناني، مرورا بكل التجارب السياسية الماضية، وصولا الى لحظة ولادة لبنان الكبير.
لقد ثبت ان هناك اتصالا والتصاقا بكامل الاحداث التي تبعت ذلك وتحديدا ولادة لبنان كجمهورية. بينت الاحداث، كما ان الذاكرة ما تزال طرية بشانها، وماثلة امام اللبنانيين في اغلب فئاتهم، على وجه الخصوص في الخمسين سنة الأخيرة، وتحديدا منذ اندلاع الحرب الاهلية وانطلاق التدخل السوري العسكري والسياسي في لبنان وشؤونه وصولا الى 2005.
لهذه الأسباب فان العيون والاذان اللبنانية شاخصة باتجاه التطورات في سوريا، بسبب تاثر لبنان الشديد، وشبه الالي، بما يحدث في سوريا الان وما يمكن ان يتطور في المستقبل.
خلال فترة سيطرة السلطنة العثمانية التي دامت اكثر من 500 سنة كانت المنطقة التي تضم سوريا ولبنان بمثابة فضاء واحد يعيش عبر ولايتين الأولى مركزها دمشق والثانية صيدا او عكا. وبالتالي فان الفضاء السياسي والاجتماعي والاقتصادي كان واحدا. وحين اندلعت المسالة الشرقية كانت منطقة لبنان وسوريا تقريبا واحدة في التاثير والتأثر المتبادل.
الجدير ذكره ان فتنة الجبل المؤلمة، 1860، كانت باحداثها حاضرة في جبل لبنان ودمشق في ذات المستوى. بل ان عدد الضحايا من المسيحيين الذين سقطوا في دمشق يومها، كان اكثر من الضحايا والقتلى الذين سقطوا في جبل لبنان.
اتوقف عند هذه النقطة، للاشارة فقط الى الترابط الوثيق الذي كان موجودا بين منطقة جبل لبنان نواة الجمهورية اللبنانية الراهنة، ومنطقة دمشق، حيث يجلس الان احمد الشرع مستقبلا الوفود اللبنانية. وحيث جلس قبله ولاة دمشق تحت اشراف السلطان العثماني الذي ورث الرئيس التركي الحالي رجب طيب اردوغان في القرن الواحد والعشرين كرسيه.
مفارقة دالة جدا، بين البلدين تكمن في ان اعلان لبنان الكبير من على درج قصر الصنوبر، تم في الأول من أيلول/ سبتمبر 1920. بعد ان كانت وقعت معركة ميسلون، وتم فيها القضاء على الجيش العربي السوري بقيادة يوسف العظمة، الرافض لسقوط وعد الدولة العربية المستقلة، بقيادة الشريف حسين، بعد تنصل الدول الأوروبية وتحديدا فرنسا وانكلترا من وعودهما للعرب بدولة واحدة.
أي ان دولة لبنان الكبير، ما كانت لتعلن وتولد بهذه السهولة واليسر والاجماع، لولم يتم قبلها القضاء على الحركة الاستقلالية التحررية العربية في سوريا.
المفارقة الثانية، الدالة ايضا. تكمن في ان انتصار وتمدد وسيطرة قوى الثورة السورية ممثلة بهيئة تحرير الشام بقيادة احمد الشرع، الذي قبض على المدن السورية انطلاقا من حلب مرورا بحماه وحمص وصولا الى دمشق. كان سبقها مقتل امين عام حزب الله السيد حسن نصرالله في لبنان، وتلقي قواته في الجنوب المدعومة إيرانيا، ضربات متتالية وقوية من قبل إسرائيل في لبنان، مما استدعى انسحابها من سوريا.
ما يجب التوقف عنده هنا، ان مقتل يوسف العظمة في 1920 سبق اعلان لبنان الكبير. كما ان مقتل السيد نصرالله وتقهقر قواته في لبنان وتدمير الجنوب والضاحية، فتح الطريق 2024 امام فرار بشارالاسد وسقوط حكم عائلته، وانتصار قوى الثورة السورية بقيادة احمد الشرع ووصولها الى القبض على سلطة دمشق.
الجدير ذكره أيضا ان الثورة السورية الكبرى التي انطلقت بقيادة سلطان باشا الأطرش في صيف 1925، هي التي مهدت الطريق امام الحركة الوطنية السورية للحصول على استقلال سوريا 1941 ما فتح الطريق امام القيادات الوطنية اللبنانية ممثلة برياض الصلح وبشارة الخوري للتقارب وتوحيد الرؤية والعمل بالتنسيق مع القيادات الوطنية السورية انذاك، على استقلال لبنان الذي اعلن عام 1943.
اليوم نحن امام متغير كبير واساسي في سوريا التي قبض على سلطتها احمد الشرع قائد اكبر ائتلاف لفصائل اسلامية متحالفة مع تركيا اردوغان قائد حزب العدالة والتنمية.
الجميع يتابع حركات وتصاريح وتوجهات هذا الرجل الذي كان يلقب بالجولاني وماذا يمكن ان يفعل والى اين يمكن ان يتجه؟
السؤال الان سوريا الى اين؟ لان الجواب سيتجه بشكل مباشر نحو لبنان الى اين ايضاً، انطلاقا من التجربة الماضية وحكم الواقع.
المطمئن حتى الان هو كلام الشرع في اتجاهين:
الاول قوله ان لا فدرالية في سوريا.
والثاني قوله ان لانية لتصدير الثورة السورية الى خارج سوريا. “فنحن نريد ان نبني بلدنا الان”.
بالرغم من ذلك ما تزال تجربة سوريا الجديدة محل اختبار وترقب ومتابعة. وبالتالي فان باقي الاسئلة ما تزال مطروحة بانتظار ما تبقى من اجوبة، اذ ان الاكيد ان استقرار سوريا هو استقرار للبنان، وفشل سوريا من المؤكد، انه سينعكس على لبنان المضطرب وغير المسقر حتى الان.
المدن
—————————
المراقد الدينية في سوريا في مرآة الإستشراق/ أحمد زين الدين
الجمعة 2025/01/03
كان الهاجسُ الطاغي على المراقبين والإعلاميين وبعض الملل الدينية، عقب دخول المقاتلين من الشمال السوري إلى أرباض دمشق، الخشيةَ على مصير المراقد الدينية، لا سيما مرقد الست زينب، من عبث المسلمين الدواعش. وذلك بناء على ما انقضى من أمرهم، قبل انكفائهم السابق، وانحسارهم عن مدن ودساكر خسروها، أمام الآلة العسكرية للنظام الأسدي وحلفائه الدوليين، والميليشيات الرديفة، والنصيرة له. في حين تبين أنّ المقاتلين الزاحفين على المدن الكبرى، لا سيما العاصمة، وإنْ كانوا من الفصائل الإسلامية، إلا أنهم يختلفون عن أفراد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) المشهورين بعدائيتهم وتحريماتهم المتشددة للمزارات الدينية، واتهامهم من يرتادها بالكفر أو الشِرك. ولوحظ بعد وصول أنصار الفصائل هذه ومن يواليهم، مراعاتهم في سلوكهم المبادئ الأساسية في الإسلام، والذوق العام في هندامهم البسيط الشائع. وخطابهم المتداول الأقرب إلى الاعتدال.
وكان بالحري على هذه العقول الخائفة الوجلة مما ينتظرها، أن تلتفت إلى استرداد حقوق الناس، وحرياتهم التي انتهكها العهد البائد. أما وأننا نعيش كطوائف أكثر من عيشنا كمواطنين، فإنه من البديهي أن يشغلنا مصير معابدنا، وخوفنا على مقدساتنا من التدنيس والامتهان. وليس جديداً علينا هذا الحرص على تبجيل الأولياء والصلحاء الذي يبلغ أحياناً مرتبة التأليه، فقد وَجد في بلادنا وثقافتنا التربة الخصبة لنموه واستمراره. وليست هذه الظاهرة التقديسية التبجيلية تختص بفئة، أو طائفة دون سواها، بل إنّ التمعّن في أصولها ودورها تجعلنا نتجاوزها، إلى ما هو أبعد من كونها مجرد شعيرة دينية، بل إلى اعتبارها ظاهرة مجتمعية سياسية، تسهم بقسط وافر في بلورة الهويات الطائفية من خلال عملية تأطير، تُستخدم بشكل متكرر للتعبئة الاجتماعية والسياسية، وتوفّر مفردات سردية ومفاهيمية تخلق أساساً صلباً لتكوين “نحن” مقابل “هم”.
وفي مجتمعاتنا الدينية تمثّل المعابد والمراقد والمزارات المرتكزات المعمارية التي تحظى بالمهابة الروحية، وتؤكد على الثنائية المكانية المتعارضة والموروثة في مختلف الحضارات التقليدية، بين الأرضي والسماوي، بين المدنس والمقدس، بين المتجانس والمغاير. وعليه، تحاول كل طائفة أن تحوز على فضائها المكاني الذي تكرّسه خالصاً لها من كل دنس. وسبق للرحّالة الملّاح الإيطالي، كريستوف كولومبوس، المسيحي، أنّه كان يختار لكل بقعة من الأرض التي يستولي عليها اسم أحد قديسي المسيحية، كضرب من ضروب الاستيلاء الرمزي، وتكريسها أرضاً مسيحية مطهّرة.
بيد أنّ المزارات الدينية عندنا، وبعضها لا يضم في أرجائه أي ضريح حقيقي، تعمل مع ما يلحق بها من مراكز اجتماعية ودينية وثقافية كمنصة سياسية. وتقوم على التنازع مع سائر الطوائف الأخرى، ومنافستها المحمومة على السلطة والموارد المالية والاقتصادية. وتعتمد هذه الإطارات التعبوية على الرموز والعوائد الموروثة، والمشاركة في الطقوس المقننة والدورية، بوصفها واجباً أخلاقياً ودينياً.
وكما لفت نظر المستشرقين ظاهرة الأولياء في المغرب العربي، والمراقد العراقية، فإنّ بعضهم يمم شطر بلاد الشام لدراسة أحوال الناس الذين يعيشون حول المراقد، أو يرتادون أنحاءها ملتمسين البركة، أو الشفاء من عللهم. ومن أشهرهم الباحثة الفرنسية صابرينا ميرفان، التي تنقلت بين لبنان وسوريا، وما زالت حتى اليوم بكامل نشاطها وحيويتها، ومتابعتها اليومية لما يجري من مستجدات في سوريا. وقد قرأتُ منذ أيام في صفحتها، وهي مغتبطة بسقوط بشار الأسد: mabrouk à tous les syriens (مبروك لكل السوريين). وموضوعها الأثير الموضوع الشيعي المعاصر. وقد أنجزت في التسعينات أطروحتها عن حركة الإصلاح الشيعي – علماء جبل عامل، وانتجت أشرطة وثائقية، عن الطقوس الشيعية. وهي زميلة باحثة في المركز الوطني للبحوث العلمية. ومن القلائل العاملين في المجال الشيعي منذ العام 1979.
وفرض عليها التمددُ الإيراني وتأثيراته في وضعية العرب الشيعة في سوريا، إشكالياتٍ فكرية وسياسية ودينية، لا سيما تعامل المحيط الشعبي السني الأكثري معهم، عقب ازدياد النفوذ الإيراني في صناعة القرار السياسي والعسكري، داخل منظومة الحكم السوري الأسدي العلوي. وبؤرة التحوّلات كانت في الدور الذي أدّاه مقام الست زينب، مع وجود مقامات أخرى أقل أهمية، مثل ضريح السيدة رقية القريب من المسجد الأموي، الذي تمّ تجديده بأموال إيرانية. وأضرحة عمار بن ياسر، والسيدة سكينة، وحجر بن عدي.
ومع صعود الشيعة إلى السلطة في العراق، شكّلت التيارات الشعبية المؤيدة لهم، رغم التباين بين الثقافة الفارسية الوافدة، وثقافتهم العربية الأصيلة، كتلة متماسكة ومتجانسة يقودها نظام الولي الفقيه في طهران. لكن السياسات الإيرانية المتغلغلة في أوساط الشيعة العرب، طرحت في كل بلد من بلادهم معضلة تشكيل خطاب سياسي، يجمع بين النموذج الإيديولوجي الإيراني الثابت والعابر للحدود، والنموذج الوطني الذي يراعي خصوصية الطوائف الأخرى التي تتقاسم مع أبناء بلدها العيش والعمل. وفي سوريا، كانت المعضلة أعمق أثراً، حيث أشرفت الدولة الإيرانية على الأنشطة الدينية الشيعية قاطبة، مثل إنشاء الحوزات الدينية التربوية والدعوية، وعملت على بناء شبكات جهادية تتوزع بين بلاد الشام والعراق واليمن، كصمامات أمان داخلياً وخارجياً، لضمان هيمنتها على مقدرات العالم الإثني عشري، وإمكاناته البشرية والعلمية.
وشكّلت منطقة الست زينب مع الوقت، رغم نفور قاطنيها الأصليين من التدخّل الإيراني المتواطئ مع نظام مكروه لديهم، مرتكزاً جغرافياً، وحصناً عسكرياً، تحتضنه بُنية شيعية مدنية حول المقام، متعاطفة معه، وداعمة لبناء ممر إيراني عسكري يمتد من الشرق إلى الغرب، لكن التطورات الميدانية المتسارعة، في المدن السورية المنتفضة على الحكم من جديد، والهجمات الإسرائيلية على الجنوب اللبناني، وعلى ضواحي دمشق، ما لبثت ان أطاحته.
وتذكر صابرينا ميرفان أنّ المموّل لرحلات زوار مقام السيدة زينب وتنقلاتهم بالحافلات، كان أحد رجال الأعمال السوريين الأثرياء المقرّب من آل الأسد، ويدعى صائب النحاس، وشركته السياحية (ترانستور) هي الوحيدة المرخّصة لرعاية الزوار الشيعة.
أما المدينة فكانت في الأصل قرية صغيرة متواضعة، تسمى راوية، ولم يكن يتجاوز سكانها المئتي نسمة من المزارعين. وقد توسّعت عقب نكبة فلسطين التي هاجر بعض سكانها القريبين من الجولان إليها، لا سيما بلدة الفوعا، وشكّلت حينذاك جزءاً من المخيمات الفلسطينية، قبل أن تجتذب الزوار المتبرّكين، وتتحوّل مع الوقت إلى مركز تبشيري، تنطلق منه المظاهر الحسينية، والمسيرات الكربلائية. وعقب هذا التطور المتزامن مع النهوض الإسلامي في العالم، حظي المقام الديني الزينبي، باهتمام دوائر الغرب الجامعية المهتمة بالمناهج الإناسية (الانتربولوجية) الدينية. وآخر هذه الدراسات الحديثة، هي “على خطى السيدة زينب” للمستشرقة في جامعة تورونتو: أدث اندريا الك زانتو، التي عاشت فصول الثورة السورية الأولى قبل إجهاضها، ووصفت بدقة الطقوس داخل المقام. وركّزت على بدايات الصراع بين الشيرازيين والخمينيين على إدارته، والإشراف عليه، وعلى موارده المالية، وما يرتبط به من حوزات لتدريس العلوم الشرعية. وفي رأيها إنّ المرقد وسواه من مراقد ومزارات في العالم الإسلامي، هي أمكنة لبناء الهويات المذهبية الجماعية، المترافقة وعملية إحياء مستمرة.
وترى المستشرقة زانتو دوراً متعاظماً لما تسميه الوعي الزائف بتحقيق الأمنيات المنشودة، عند تقديم النذور لأضرحة الأولياء والقديسين، بما فيهم ضريح الست زينب، ابتغاء التعافي، أو تجنّب ما يحدثه الجن والأرواح الشريرة من أذى وضرر، أو زيادة في البركة والنعمة. وتمثّل الأحلام أحد العناصر المهمة التي تدفع الأفراد إلى تقديم النذور للمقام بهدف إظهار الولاء والاستقامة الدينية، وكذلك بغاية الكشف عن الحظوظ، وما يخفيه المستقبل. وتزداد أهمية هذه السلوكيات في أوقات الحروب والملمّات والتفكك الاجتماعي. وعليه، فإنها تصف ما شاهدته من ممارسات طقوسية، مثل التطبير واللطم، وما سمعته من روايات عن معاجز وكرامات متخيلة ومتواترة. وتقارن بين مدينة الست زينب التي تقول عنها إنها مدينة شيعية تقليدية، تتجه نحو الشرق. بينما مدينة دمشق، رغم عراقتها التاريخية، فهي حديثة وتتجه نحو الغرب.
المدن
——————————–
سوريا بين الشرعيتين الشعبية والثورية: عودة إلى دستور 1950؟/ لؤي مريود
الجمعة 2025/01/03
الساعة الآن السادسة وثمان عشر دقيقة تماماً بتوقيت دمشق، سوريا من دون بشار الأسد. لا نبالغ إذا قلنا إنها لحظة تاريخية فارقة في تاريخ سوريا، أنهت نظام حكم بشع مستبد طائفي مجرم، ارتكب أبشع جرائم القتل الجماعي الممنهج وعمل على هدم قيم المجتمع السوري، وهي لحظة لا تقل بالأهمية عن إعلان تأسيس المملكة السورية عام 1918.
أفرح النصر السوريين وأحرار العرب، الذين اعتبروه نهاية لحقبة سوداء قاسية وأمل لبناء مستقبل جديد. ورغم هذا الكم الهائل من الفرح، على السوريين أن يدركوا أنهم أمام تحديات داخلية وخارجية كبيرة جداً ومعقدة تحتاج إلى أن يقرؤوا واقعهم بهدوء، فهناك تحديات كبيرة عليهم أن يبدأوا بحلها.
الشرعية الثورية هل تكفي لبناء الثقة؟
إذا اعتبرنا أن إدارة العمليات العسكرية تستمد شرعيتها الثورية من كونها هي التي أسقطت نظام الأسد، إلا أن عليها أن تعي أن أكبر التحديات هي الحيازة على ثقة السوريين، وهذا الأمر مهم جداً للاستمرار بخطوات نجاح ثورة السوريين ووصولها إلى أهدافها. ويبدو أن السيد أحمد الشرع يدرك أهمية هذا الأمر، وفي لقائه مع قناة “العربية” اعتبر أن النصر هو عبارة عن نتاج تراكمي لنضالات السوريين ابتداء من العام 2011.
على أرض الواقع، ومن خلال قراءة القرارات التي اتخذتها حكومة إدارة العمليات العسكرية نجد أنها أتت بلون واحد، وبرر السيد الشرع ذلك بأنه على فريق العمل أن يكون متجانساً في المرحلة الأولى، لكن ذلك لم يقنع الكثير من السوريين الذين اعتبروا الخطوة إقصاء لمجموعات كبيرة كان لها دور كبير في الوصول إلى اللحظة التي وصلوا إليها.
نشير هنا إلى السياسيين المعارضين والمنشقين، القضاة المنشقين، الضباط المنشقين والموظفين المنشقين من كوادر وزارة الخارجية والإعلام. كل هؤلاء هم خبرات يجب الاستفادة منها في سوريا المستقبل ويجب عدم إقصائهم، كي يطمئن الناس بأن المركب تسير في الاتجاه الصحيح.
وعلى ذكر الإقصاء، يحضر في الذهن ما حصل بعد 8 آذار/مارس 1963، وقد لا يعلم الكثير أن 8 آذار/مارس كانت نتاج عمل الضباط البعثيين والناصريين، فبعد حركة الضابط الناصري جاسم علوان في 18 تموز/يوليو 1963، وجد بعض البعثيين فرصة للقضاء على الرتب الكبيرة في الجيش، باتهامهم أنهم من الناصريين الذي قاموا بحركة انقلاب، وهذا ما أفرغ الجيش من القيادات الكبيرة والخبرات العالية التي كانت خريجة الكليات العسكرية في إنجلترا وأميركا، وهي خطوة أسست للحكم الديكتاتوري الطائفي، وكانت من أهم أسباب خسارة حرب الـ67.
الشرعية الشعبية
يجد السوريون أنفسهم أمام واقع جديد، والكثير منهم يرسم شكل الحكم وشخص الرئيس في المرحلة المقبلة على أساس أنه سيكون حتماً من لون معين، وذلك رداً على مرحلة الـ60 عاماً من الحكم الطائفي، وقد يبدو هذا الكلام مفهوماً بعض الشي. لكنه لا يؤسس لمشروع دولة تشعر المواطنين بالأمان والمساواة، بل سيعطي انطباعاً بأن هناك غالب ومغلوب وشعور بالغبن وضغينه في النفوس.
علينا كسوريين أن نفكر في أن يكون الحكم المقبل في سوريا يستند على مبادئ أساسية كالعدالة والمساواة والمواطنة بين كل السوريين، فالسوريون جميعهم متساوون في الحقوق والواجبات. ولا يوجد مركز أو منصب محتكر لطائفة أو شخص، بل معيار الكفاءة هو المعيار الأساس للاختيار.
لا نريد أن يجد بعض السوريين أنهم في مواجهة السوريين الآخرين، وكأن الأمر هو اقتصاص للمرحلة السابقة، هذا لا يبني دولة في المستقبل، بل يعمق الجراح. المطلوب حالياً بناء دولة للجميع، تعتمد العدالة والمساواة والمواطنة، وأن يكون هناك نصوص واضحة، تجرم أي عمل يؤدي الى تكتلات ذات طابع طائفي أو إثني تعود بنا الى تجربة العام 1966 وما تلاها.
الشرعية الدستورية
تكتب الدساتير عادة إما من خلال جمعية تأسيسية أو من خلال لجنة تكلفها السلطة، وسوريا عملياً كان لديها ثلاثة دساتير كتبت من خلال جمعيات تأسيسية. المرة الأولى كانت بعد المؤتمر السوري عام 1920. ولكن هذا الدستور لم يستمر العمل به لوقت طويل بسبب الاحتلال الفرنسي، والمرة الثانية كانت عام 1930 والتي أتت بعد إضراب وصراع مع المندوب السامي الفرنسي واعتبرت انتصاراً للوطنيين السوريين.
والمرة الثالثة حين كتب دستور العام 1950 الذي يعتبر أول دستور مدني راعى حقوق المواطنين وأعطى المرأة حق الانتخاب والترشح، وكان سباقاً في إعطاء هذا الحق للمرأة حتى على بعض الدول الأوروبية، كبلجيكا، وهذا ما دفع الكثير من السوريين بعد بدء الثورة عام 2011 للمطالبة بالعودة إلى دستور الـ1950، ونجد الآن أنه من السليم العودة إلى دستور الـ1950 خلال المرحلة الانتقالية، خصوصاً بعدما أعلن الشرع أن كتابة الدستورالجديد قد تستغرق ثلاث سنوات. لذا من المفيد أن يكون هناك مرجعية دستورية تنظم عمل الحياة السياسية إلى حين كتابة الدستور الجديد، الذي يجب أن يراعي معايير المساواة والعدالة، وضمان الحريات، ويكون متوافقاً مع متطلبات الحوكمة وأعلى المعايير الدولية في مجال المساءلة والشفافية. ويجب على جميع السوريين أن يشاركوا في صياغة الدستور، ويساهموا في بناء مستقبلهم بشكل كبير، ينتج بعد صياغة هذا الدستور، انتخابات برلمانية وانتخابات رئاسية ويبقي الأمل في أن يستطيع السوريين الوصول إلى أهدافهم.
المدن
———————-
في صيدنايا الأحمر: التعذيب الشيطاني والطّبيب الذي يقتل المرضى/ ميريلا أبو شنب
الجمعة 2025/01/03
“التغت عقوبة الدّولاب .. فعّلنا عقوبة تكسير الإيدين”. هذا ما قاله المُساعد منهل حبيب سليمان، مُساعد ضابط الأمن في سجن صيدنايا الأحمر، في الشّهر الثّالث عام 2020 لمعتقلي أحد المهاجع، ومن بينهم الشّاب محمود موصلي، الّذي حدّثنا عن معاناته ومعاناة كل شاب كان معه في الدّاخل مع رحلة التّعذيب.
الحرق ببلاستيك مشتعل
يقول محمود: في فترة بقائي في السّجن أذكر تماماً أسوأ شهرين مرّوا علينا، كانوا لا يسمحوا لنا بالحركة أو النّوم أو الأكل إلّا بإيعاز منهم! فعندما دخل المُساعد منهل حينها، أكّد لنا بأنّه إذا أردت أن تخسر يديك تحرّك أو اهمس أو تكلّم. يمنع عليكم فعل أي حركة إلّا عندما أقول. وكان كل حديثه يترافق مع الشّتائم والإهانات. وبدأت من هذا اليوم المعاناة. ففي كل صباح عندما يحضرون صينيّة الطّعام يضعونها في الخارج ثمّ يفتحون الباب ويطلبون منّي وضعها أمامنا، ولكن ممنوع علينا الاقتراب منها أو تناول الطّعام لحين يقرّروا، وإذا لم يقرّروا تنتهي مهلة الطّعام ويسحبون الصّينية كما هي.
يُكمل محمود بحسرة، كنت رئيس المهجع حينها، وكان يُطلب منّي كلّ يوم إخراج المُخالفين، وبالحقيقة لم يكن يوجد أي أحد قام بمخالفة أي أمر، فبكلّ تأكيد لا أحد يتجرّأ على ذلك. كان المساعد يَطلب منّي إحضار أكبر عدد من المُخالفين ويكون معه عدد كبير من الشّبيحة للمساهمة في تنفيذ العقوبة.
يكون العقاب أنّه يحمل “البينسه” (الأداة الّتي يفكّوا بها مصفاة زيت السّيارات)، وبعد جعلنا نمدّ أيدينا أو قدمينا من تحت باب الحديد، يقوم بقلع الأظافر. وممنوع أن تسحب يدك لأنّه يقوم بضربك بعصاة الكهرباء أو بحرق يديك ببلاستيك مُشتعل.
“إبرة هواء”
بدأت قصّة محمود عندما نُقل إلى سجن صيدنايا الأحمر في سيّارة القفص، والتقى هنالك بشابّين كانا وفقاً لوصفه “إعادة تحقيق”. قالوا له يجب أن تضع رأسك على البلاط عندما ما تدخل، ممنوع أن تنظر إلى أحد، وممنوع أن تتلفّت يميناً أو يساراً. يُخبرنا محمود: عند دخولي قضيت ثمانية أيّام في المنفردة، والّتي كانوا يضعون فيها أربعة شباب، لكنّ مساحتها فقط متر ونصف بمتر ونصف. يتركوننا أوّل يومين من دون طعام أو ماء، وبعدها “إذا حنّوا علينا” يُحضِرون لنا رغيف خبز وقطعة بطاطا، فقط لنبقى على قيد الحياة ريثما ينتهي التّحقيق.
“ماذا أُخبرك. هل أتكلّم عن الجوع، أم عن الضّرب والتّعذيب، أم عن الإهانة والشّتائم الّتي كنّا نتعرّض لها بمجرّد دخولهم علينا. كان التّعذيب بشكل يومي، وعلى مزاجهم. وبكثير من الأحيان من دون أيّ سبب. فتخيّلي أنّه إذا لم يعجبهم شكلك كانوا يقومون بجلسة تعذيب خاصّة.
فقدت الكثير من رفاقي أمام عيني تحت التّعذيب، فضلاً عن رفيق لي مات بين يديي، ففي أحد الأيّام ارتفعت حرارته، وقلنا له دعنا نُخرجك إلى الجولة الطبيّة، فقال أرجوكم لا تفعلوا. كان يخاف من الطّبيب، ذلك الطّبيب الّذي عرفت فيما بعد أنّه جزّار. وعندما ارتفعت حرارة صديقي، بقي فقط ثلاثة أيّام على قيد الحياة. في اليوم الثّالث من مرضه اضطررنا إلى إخراجه للطبيب، أعطاه إبرة. وأدركنا فيما بعد أنّها كانت “إبرة هواء”. وعندما عاد إلى المهجع طلب منّا أن يأكل ويشرب، فلم يكن لدينا شيء. ثمّ بعد ساعات قليلة فارق الحياة بين يديّ وهو جائع.
الطبيب الجزّار
يغص محمود ويحاول أن يكمل حديثه، “نعم .. إنّه الملازم أوّل لجين عبدالله خير بيك الطّبيب الجزّار، الّذي قتل كثيراً مِنّا، كان صوته مخيفاً، وكان مُقنّعاً كي لا يتعرّف أحد على ملامح وجهه. نجوت من الموت تحت يديه ثلاث مرّات. في إحدى تلك المرّات، كان يريد فحصنا، ليرى من مِنّا ضعيف فيكمل عليه وينهني حياته. جعلنا نخلع ملابسنا، ونبقى بلا حتّى ملابس داخليّة، وبما أنّي كنت رئيس المهجع طلب منّي أن أدقّ على كتف الشّباب واحد واحد بالتّتابع، كان الجميع خائفاً، حتّى من صوته. وعندما بدأت بتنفيذ أوامره وضربت على كتف أوّل شاب، من شدّة الخوف اندفع خمسة وراء بعضهم، وكانت تلك لحظة غضب الله عليّ”.
“كانت العقوبة لي، لأنّه اعتقد أنّي جعلت الخمسة يذهبون دفعة واحدة، كان ينوي إنهاء حياتي، بدأ بضربي بعصاتين على كل مكان في جسمي، حتّى رأسي لم يسلم وسالت منه الدّماء. وبعد ذلك كانت الضّربات متتالية على صدري، 14 ضربة بقدمه، الّتي كان يرتدي فيها حذاء من حديد. كان ذلك الحذاء مخصّصا للتعذيب، يضربنا به في كل مكان ولا يهتم. ممكن أن تكون الضربة على العين أو على الرّأس وقد تنهي حياتك. لم يكتفِ بذلك، أكمل ضربه، وكانت الضّربة القاتلة تقريباً بالنّسبة لي على خاصرتي. بقيت بعد ذلك ثلاثة أشهر لا أستطيع التحرّك ولا أقوى النّهوض من الأرض حتّى إلى الحمّام”.
الإعدامات
بعيداً عن التّعذيب الّذي كان محمود يتعرّض له، كان أصعب ما عاناه وفقاً لتعبيره، أنّه بقي ثلاث سنوات ونصف السنة من دون محاكمة.
يقول محمود، كنت أعيش برعب يومي، وفي كل ليلة أتخيّل أنّها قد تكون اللّيلة الأخيرة في حياتي، وبعد كل تلك الفترة أُصدر الحُكم بحقّي: إعدام. ولكن إعدام مع وقف التّنفيذ، لحين يرغبون هم بتنفيذه. هذا ما زاد عذاباتي اليوميّة.
ثمّ يحدّثنا محمود عن الإعدامات الّتي كانت تحصل قائلاً: كان الإعدام أسبوعيّاً، تحديداً يوم الأربعاء، كان يحدث في ساحة الدّم “السّاحة الحمراء” كما يسمّونها. يُخرِجونهم إلى غرفة ويقطعون عنهم الطًعام والماء، ولا يخبرونهم أنًهم سيعدمون. ثمّ في ذلك اليوم يقومون بوضع منصّة الإعدام ويقومون بإعدامهم هناك.
يقول لنا أسماء رفاقه الّذي تأكّد أنّهم أُعدموا: الأوّل كان ابن عمّتي وهو شادي الحنتوش. وإلى الآن لم أستطع أن أخبر عمّتي، لأنّها لا تزال تعيش على أمل عودته. شادي أُعدم عام 2021 ومعه ثلاثة من رفاقي: رياض حمّص، فارس فقعة، ومحمد حسن الراعي.
يُكمل محمود، تخيّلي أنّ هناك شباباً قُتلوا في المشفى، فقط لأنّهم أعطوا أسماءهم لسجّان أو لشرطي أو لممرض، بمشفى تشرين العسكري أو بمشفى قطنا، على أمل إيصال أي خبر لذويهم.
أولئك الشّباب قُتلوا بالفعل، أمّا محمود ورفاقه فكانوا يُقتلون باليوم مئات المرّات. كانوا بالاسم فقط على قيد الحياة. فقد كانوا يُخرجونهم إلى التّنفّس كل أسبوع وفي بعض الأوقات كل أسبوعين دقيقتين فقط لا غير. يخرجون إلى باحة السّجن مُجنزرين وهم يُضربون ويُهانون. ثمّ يعودون ليتنفّسوا هواء الذّل والتّعذيب في الدّاخل.
حدس الأم
بعد خمس سنوات انتهت معاناة محمود، تحرّر هو ومن بقي من رفاقه حيّاً. ذهب إلى منزله وهو بوعيه، استقبلته والدته الّتي فقدت ابنها الأوّل ببرميل متفجّر سقط على منزله، وابنها الثّاني الّذي لا تعرف عنه شيئاً إلى الآن، ولكنّ محمود أخبرنا أنّه عَلِمَ أنّهم أعدموه، ولم يخبرها إلى الآن. وابنها الثّالث عاد إليها حيّاً يرزق.
بدموع هامرة استقبلتنا أم محمود وقالت لنا: “والله العظيم يا بنتي شفتن عميفتحوا باب سجن صيدنايا، شفت ابني طالع عايش. والله يا بنتي صدقيني والله العظيم شفتن فتحوا البواب”، تعبيراً منها عن رؤيتها لما كان سيحدث قبل حدوثه. أمّا من حولها فظنّها فقدت عقلها أو أنّها تهلوس. ولكن حدس الأم لا يخيب ويقينها بأن ولدها سيتحرّر كان أكبر من كل شيء. فقد صدق إحساس أم محمود وعاد ابنها لأحضانها.
أم محمود فرحت بعودة ابنها، ولكنّ هناك عشرات آلاف الأمّهات اليوم ينتظرن عودة محمودهم.
المدن
—————————-
المناهج التعليمية في سوريا: مدخل أول للحكومة “الشرعية”؟/ عمر الهادي
03.01.2025
يترقّب السوريون بحذر أي حركة من حكومة تسيير الأعمال، ويشيرون لها لتصحيح مسارها، فللمرة الأولى بعد 50 عاماً من السلطة القمعية، يرى السوريون بعد سقوط الأسد فرصةً لبناء دولة حقيقية ومعتدلة تتسع للجميع.
موجة واسعة من الانتقادات على مواقع التواصل الاجتماعي تعرضت لها وزارة التربية والتعليم السورية، عقب إصدارها تعميماً يتضمن إجراء تعديلات على المناهج الدراسية، شملت الصفوف من الأول الابتدائي حتى الثالث الثانوي، وجاءت بقرار مفاجئ من وزير التربية الحالي نذير القادري ممثلاً عن الحكومة الانتقالية، مما أثار التساؤلات حول مدى صلاحية الحكومة “المؤقتة” في اتخاذ مثل هذه القرارات التربوية الحساسة في هذه المرحلة.
بعد ساعات من موجة انتقادات عبر السوشيال ميديا، عاد وزير التربية وأعلن أن المناهج الدراسية في سوريا ما زالت على وضعها، حتى تُشكّل لجان اختصاصية لمراجعة المناهج وتدقيقها، وأن التوجيهات اقتصرت على حذف ما يتعلّق بتمجيد نظام الأسد.
لكن ما هي التعديلات وكيف حصلت ولماذا التراجع؟
دخول “شرعي” عبر المناهج الدراسية
القرار الوزاري صدر في أعقاب عدة لقاءات أجراها الوزير القادري مع وفود من منظمات دولية مثل “Adra”، والمنظمة الايطالية “CESVI”، ووفد من منظمة “اليونيسيف” في مبنى الوزراة في دمشق، تضمنت الاجتماعات وفقاً لتصريحات صفحة الوزارة الرسمية على “فيسبوك” مناقشة التحديات التي تواجهها الوزارة، وآلية تطوير عملية التعليم وتنظيم ملف التربية وترميم المدارس وتأهيلها تلبيةً لاحتياجات الطلاب.
نُشر القرار على الموقع نفسه، وقد بدأ بصفحة أولى (تم حذفها لاحقاً لأسباب مجهولة) تضمنت التالي: بناءً على مقتضيات المصلحة العامة، يُقرر ما يأتي:
تُحذف الصور والعبارات والدروس التي تمجد النظام البائد وبعض الملاحظات الأخرى وفق الآتي:
-اعتماد عَلم الثورة بدلاً من العلم القديم أينما وُجد.
_اعتماد عبارة الحكم العثماني بدلاً من الاحتلال العثماني أينما وُجدت.
_حذف مادة التربية الوطنية كاملة.
ثم أُرفق القرار بجداول مطوّلة عن التغييرات الطارئة على المواد الدراسية في كل صف على حدة.
أبرز هذه التعديلات استبدال مادة “التربية الوطنية” بمادة “التربية الدينية” وإدخالها ضمن المجموع النهائي في الشهادة الثانوية، حيث كان على الطالب اختيار فرعه الجامعي، بعد استبعاد علامة مادة التربية الدينية (إضافة إلى إحدى اللغات) من مجموعه العام.
لا شك في أن سعادة الطلاب بخلاصهم من مادة التربية الوطنية (القومية سابقاً) بمصطلحاتها الثقيلة وتشويهها تاريخ سوريا وفق تطلعات نظام الأسد، شابها نوع من القلق تجاه إدخال مادة الديانة وأي محتوى ستتضمنه ووفق أي تفسيرات، عدا أن إصدار هكذا قرار في منتصف العام الدراسي من شأنه خلق حالة إرباك.
امتدّ القرار الوزاري حتى شمل عدة طروحات علمية وتاريخية تمت إزالتها بالكامل أو تعديلها بصيغة رخوة بأفضل الحالات، من بينها، ما ورد في كتاب التربية الدينية للصف الأول، حيث تم تغيير مصطلحات محايدة مثل “الصراط المستقيم” و”طريق الخير” وحصرها بـ “طريق الإسلام”، أما الأكثر إثارة للجدل فكان استبدال توصيف “المغضوب عليهم” و”الضالين” و”ابتعدوا عن طريق الخير” بـ “اليهود والنصارى” (أي المسيحيين) كتسمية مباشرة، ما اعتبره كثيرون تكريساً لخطاب طائفي واضح يُقصي مكونين أساسيين من مكونات المجتمع السوري، ويُهدد التعددية التي شكّلت جزءاً من الهوية السورية عبر تاريخها.
تباينت ردود الفعل حيال هذه التعديلات لكن أصواتاً سورية كثيرة خرجت علناً لتبدي ملاحظات نقدية على هذه التعديلات التي اعتبرها البعض أنها يمكن أن تُؤسس داخل الطلاب مفاهيم الإقصاء والتمييز فيما بينهم.
عائشة الدبس وتجسيد الرؤية الإقصائية
لم تقتصر هذه التعديلات على المصطلحات اللفظية فحسب، بل امتدت لتشمل تغييرات رمزية مثل استبدال عبارة “الشجاع يدافع عن تراب الوطن” بـ “في سبيل الله”، وتحويل “عطاء الطبيعة” إلى “عطاء الله”، أما في الصفوف الأعلى، فقد تم حذف موضوعات أساسية تتعلق بنظرية التطور العلمي، ابتداء من درس “أصل الحياة وتطورها على الأرض” من منهاج الصف الثامن، وصولاً إلى حذف فقرة تحت عنوان “تطوّر الدماغ” من منهاج البكالوريا، إذ تنافي هذه الحقائق السردية الدينية في نشأة الحياة والإنسان، وقد تم تغليبها على النظريات والدراسات العلمية الحديثة وفق رؤية الوزارة!.
شمل التعديل أيضاً حذف عدد من الأبيات الشعرية، وشطب قصص الآلهة القديمة وصور المسلات (التماثيل) وفقرات اللغات التاريخية كالهيروغليفية، إضافة إلى حذف دور المرأة الحاكمة والآلهة في الحضارات القديمة، مثل زنوبيا وخولة بنت الأزور، من كتاب التربية الإسلامية للصف الثالث، لاعتبارها؛ حسب وصفهم، شخصية خيالية، وهو ما رآه كثيرون تمادياً لمحو دور المرأة من الموروث الثقافي والتاريخي للبلاد.
تتقاطع هذه الأفعال بشكل أو بآخر مع خطاب عائشة الدبس مديرة مكتب شؤون المرأة السورية في الحكومة الانتقالية، كأحد مظاهر هذه الرؤية الأحادية، التي أعلنت تمثّلها لرؤية القيادة، وعدم فتح المجال لأي فكر مخالف لها، هذه التصريحات التي جاءت بلهجة حادة وصريحة جسّدت نموذجاً يحاول فرض أيديولوجية “قُبيسية” تُقصي كل من لا يتماشى معها.
التناقض لا يقتصر على مضمون التصريح ومهمة المكتب فقط، بل يظهر أيضاً في استراتيجيتها الخطابية، التي بدت أشبه بتبرير مُسبق لأي اعتراض، وكأنها تملك الحقيقة والأحقية المطلقة لتُغلق الباب أمام أي محاولات لنقاش شامل حول الهوية الوطنية الجديدة.
لماذا القلق؟
قد تبدو التعديلات في ظاهرها تغييرات بسيطة في النصوص، إلا أنها تحمل في طياتها أبعاداً مقلقة، فالمناهج الدراسية ليست مجرد أدوات تعليمية، بل وسيلة فعّالة لإعادة تشكيل الوعي الجمعي للأجيال القادمة، في بلد متنوع مثل سوريا، يعكس هذا النهج رؤية تسعى لتكريس الدين كمرجع وحيد، وتهميش كل ما يتعارض مع هذه الرؤية من مفاهيم علمية، أدبية، أو تاريخية.
ولو تجاوزنا تساؤلنا الأول عن أحقية الحكومة وجداراتها في إصدار هكذا قرارات، فسؤالنا الأهم… ماذا عن الوعود والتطمينات التي تبنّتها الحكومة تجاه الديانات الأُخرى؟!
حذف “القانون” والإبقاء على الشريعة
من بين البنود التي وردت في القرار الوزاري، جاء حذف كلمة “القانون” من عبارة “الالتزام بالشرع والقانون” في كتاب التربية الدينية للثاني الثانوي، لتُصبح “الالتزام بالشرع”، يبدو أن هذه الخطوة تختزل ما تسعى الهيئة إلى قوله، ففي حين يطالب السوريون بفصل الدين عن الدولة، تتجه الحكومة بالمقابل لفصل القانون عن الشريعة، ولتعزيز هذا التوجه، ألحقت هذا البند باستبدال وصف “الأخوة الإنسانية” بعبارة “الأخوة الإيمانية”.
هذه المعطيات يمكنها منحنا تخيلاً عن شكل البلد الذي تسعاه السلطة الجديدة في سوريا، حيث يتحول فيه النظام من اتصال بين الدولة والمواطنين إلى اتصال بين الدولة والدين، إلصاق الدين بصلب الدولة قد يبدو محاولة لأنسنة البلاد وإعطائها بعداً إيمانياً، لكن هذا النهج يغفل حقيقة أن المشكلات لا يمكن حلها إلا بالنظر إلى الواقع مباشرة، وبناء حلول تستند إلى القانون والوعي والتجربة.
ما يثير القلق ليس مضمون القرار وحده، إنما الجرأة في طرحه بهذا الوضوح، والسرعة دون أي رد اعتبار أو تحفّظ للشارع السوري المتشنج أصلاً.
أمام هذا القرار وازدياد الممارسات الفردية تبرز أهمية وجود دولة مدنية تضمن حرية الجميع وتعددية معتقداتهم، دولة ذات قانون “إنساني” يضع الأديان جميعها في اصطفاف واحد من دون وصاية على الآخر، فاليوم مفهوم القانون فوق الجميع في حالة الحكومة الحالية يطفو بـ”الاسلام السياسي” على السطح، الذي يحمل خطر تفضيل ديانة واحدة على حساب باقي المكونات المجتمعية، وهذا ما بدا واضحاً في التعديلات الأخيرة على المناهج الدراسية.
نصف خطوة إلى الوراء
ورداً على الضجة التي أحدثها القرار، أعلنت صفحة الوزارة في اليوم التالي 2 كانون الثاني/ يناير، تصريحاً إلكترونياً باسم القادري، مفاده أن المناهج الدراسية في سوريا ما زالت على وضعها، حتى تُشكّل لجان اختصاصية لمراجعة المناهج وتدقيقها، وأن التوجيهات اقتصرت على حذف ما يتعلّق بتمجيد نظام الأسد، كما أشار التصريح إلى أن التعديلات المُعلنة تهدف فقط إلى تصحيح بعض المعلومات المغلوطة في مناهج التربية الإسلامية واعتماد شرحها الصحيح، كما ورد في كتب التفسير.
إلا أن هذا التصريح لم يأتِ بصيغة قرار رسمي موقّع ومختوم مثل قرار التعديل، واكتفى بتبرير المداخلات على مادة التربية الدينية فقط، من دون الإشارة إلى التعديلات الأخرى التي طالت كتب اللغة والتاريخ والعلوم، فيما اعتبره البعض محاولة لامتصاص الغضب الشعبي، من دون تراجع صريح عن القرارات بعد أن جرى تعميمها علناً على جميع المدارس.
الشعب السوري يترصّد الحكومة
يبدو أن الاعتدال ما زال غائباً عن المشهد السوري منذ احتكام الأسد حتى الآن، وما حدث كان كافياً لجعل السوريين يفقدون ثقتهم بالسلطات الأحادية، فاليوم بدلاً من أن تراقب السلطة الجديدة مصلحة مواطنيها، يترقّب السوريون بحذر أي حركة من حكومة تسيير الأعمال، ويشيرون لها لتصحيح مسارها، فللمرة الأولى بعد 50 عاماً من السلطة القمعية، يرى السوريون بعد سقوط الأسد فرصةً لبناء دولة حقيقية ومعتدلة تتسع للجميع.
ردود الفعل الشعبية المتفاوتة على هذه القرارات، من الانتقادات الإلكترونية إلى الوقفات الاحتجاجية، تكشف عن أزمة ثقة عميقة، فلأول مرة منذ سنوات، يشعر السوريون أنهم بحاجة إلى مراقبة حكومتهم بحذر، وكأنها طرف خارجي لا يشبه الداخل، هذه الفجوة تُظهر بوضوح أن إعادة بناء الثقة بين الحاكم والشعب يتطلب شفافية حقيقية وآليات ديمقراطية تشاركية، تُعيد للسوريين الشعور بأنهم جزء من القرار وليسوا مجرد متلقين له.
من الضروري الانتباه إلى أن التجربة السورية تحتاج إلى وقت كافٍ للتعافي مما مرت به من عسف واستبداد حكم البعث وآل الأسد، وإن كان تشكيل دستور جديد للبلاد يحتاج إلى 3 سنوات وفق تقدير الحكومة، فإن تعديل المناهج التعليمية يحتاج إلى أكثر من ذلك حتماً، باعتباره مدخلاً أولاً لبناء فكر سوريا القادم.
تتشابك اليوم التحديات التي تواجه تشكيل الهوية التي يريدها الجميع، بين سياسة حكومية تحاول إعادة هيكلة المجتمع وفق ما تراه مناسباً من جهة، وبين سياسات شعوبية متعددة تمثّل أطياف المجتمع السوري من جهة أخرى، محاولات الحكومة الإمساك برأس الخيط لا تكفي لنسج دولة جديدة، بل يستجدي حدوثها عبور الخيط داخل إبرة المجتمع وإرادته، وإلا ستتحول هذه الإبرة إلى أداة وخز لكل من يظن أن سوريا مُلكية فردية يمكن تطويعها.
درج
——————–
إلى روح صديقي ثابت… وإلى خليل الذي وعدني أنه لن يموت/ هديل عرجة
02.01.2025
عاماً، وعدني خليل العشاوي، المصور الصحافي ورفيق الدرب، الذي غطى النزوح، والقصف، والزلزال، وكل الأحداث المؤلمة التي مرت على البلاد. وعدنا بأنه لن يموت، وفي كل مرة كنت أودّعه أنا وميلا، طفلتنا الصغيرة، كان يعدنا بأنه سيعود، وصدق وعده، كان ذلك الوعد هو وقودي للاستمرار.
في أكتوبر 2011، قررنا أنا وزوجي خليل مغادرة دمشق. كانت الحواجز الأمنية تخنقنا كأننا نحمل ذنباً لم نرتكبه، فقط لأن خليل ينتمي إلى دير الزور. كنا غرباء في مدينتنا.
قبل أيام من الرحيل، كنا في دير الزور نهتف ضد النظام، ولأول مرة في حياتي، صرخت: “الشعب يريد إسقاط النظام”. تلك الصرخة جاءت بعد وداعنا عبد المنعم ابن عمّة خليل، الذي قتله النظام. أردت أن أفهم: هل يُقتل الناس فقط لأنهم يهتفون للحرية؟ وجاء الجواب سريعاً: نعم، قتلونا، وقصفونا، وشردونا.
في الليلة الأخيرة قبل مغادرتنا، جاء ثابت، صديقنا ورفيق دراستنا في كلية الإعلام في جامعة دمشق، كان ينبض بالحياة، بروحه المرحة وأحلامه الكبيرة، ودعناه بوعد أننا سنعود قريباً، وأن دمشق التي نحب، لن تطول غيبتنا عنها. حزمت حقيبتين فقط، لأننا كنا على يقين أننا عائدون، لكنني لم أعد منذ 13 عاماً.
بقي ثابت يخبرنا عن دمشق الحزينة، يقول بأسى: “كلكم رحلتم”، حتى جاء الخبر: اعتقلوه ووضعوه في سجن صيدنايا؛ “الصحافي ذو السن المكسور من الرقة”، هكذا وصفوه، ومنذ 2017، توقفت الأخبار عنه.
في ديسمبر 2024، فتحوا أبواب السجون. خرج كثيرون، لكن ثابت لم يكن بينهم. “ترحموا عليه”، قالوا. كم هو قاسٍ أن يُقال ذلك. لم يكن ثابت الوحيد؛ كثيرون اختفوا، وابتلعتهم السجون، لم تترك لنا سوى الذكرى: زاهر، رانيا وأطفالها.
كيف نمحو 13 عاماً من القهر؟
أعيش نصف حياة، مثقلة بذاكرتي. بعد سقوط النظام، انفجر صندوقي الأسود، ذلك الذي خبأت فيه حزني طوال السنوات. اليوم، كبلني هذا الصندوق في السرير. الأمل انهار، لن ألتقي ثابت مرة أخرى، ولن يلتقي كثيرون بأحبائهم؟ كيف أستطيع النجاة من هذا الجنون؟
أنا صحافية، غطيت الحرب الشرسة في بلدي، لكنني أخفيت سراً، كنت أخشى الموت بالرصاص، أكره الدم. حلمي بسيط: أن أموت دافئة في سريري، ومع ذلك، ودّعت الكثيرين: أصدقاء، وأقارب وأحلاماً.
ركبتاي كانتا تذوبان كلما شممت رائحة الرصاص، عندما غطيت المعارك في دير الزور، وكلما عبرت “معبر الموت”؛ كما وصفوه، كانت قدماي تخونانني، تتخاذلان تحت ثقل الخوف.
كنت من أوائل من دخل حي الحويقة في دير الزور قبل عشرة أعوام، بعد تحريره من النظام. عبوري جسر الفرات، وقصص معبر الموت، ما زالت طي الكتمان داخلي، ومع ذلك، في كل مرة كانت ركبتاي تخذلانني.
واليوم، وأنا أوثّق قصص المعتقلين وأطفال الحرب، أشعر بالخجل، هؤلاء الأطفال الذين لم يعرفوا سوى الحرب لم تخذلهم ركبهم مثلي.
13 عاماً، وعدني خليل العشاوي، المصور الصحافي ورفيق الدرب، الذي غطى النزوح، والقصف، والزلزال، وكل الأحداث المؤلمة التي مرت على البلاد. وعدنا بأنه لن يموت، وفي كل مرة كنت أودّعه أنا وميلا، طفلتنا الصغيرة، كان يعدنا بأنه سيعود، وصدق وعده، كان ذلك الوعد هو وقودي للاستمرار.
لكن الوعد لم يكن كافياً لإقناع الآخرين. اتهموني باللامبالاة: “كيف تدعينه يغطي الحرب؟ ألا تخافين عليه؟”، لكنني كنت أؤمن بخليل وبوعوده، ووفى بوعده، ونجا برغم كل شيء.
أحب دمشق، لكن في قلبي جروحاً عميقة. مع سقوط النظام، عادت لي ذكريات الأيام الأخيرة في دمشق، وذاك الخوف الذي زرعه سجن صيدنايا في داخلي. أتذكر صديقتي رشا سرية، كيف كانت تخشى ألا يُفرج عن أخيها دياب من سجون صيدنايا. عندما أُفرج عنه، عرفتُ مبكراً ما يعنيه هذا السجن، وزرع ذلك داخلي خوفاً لا يُمحى.
لكنني ما زلت أعيش، وأكتب، وأوثّق. لأن هذه القصص يجب أن تُروى، لأننا مدينون لهم، وللحرية التي حلمنا بها والتي لن نسمح أن تُنتزع منا مرة أخرى. لروحك يا ثابت، سأستمر، ومن أجلك يا خليل، سأواصل الطريق!
درج
———————–
التعميم ومشاكله – الطائفية والعلمانية في المحاججة
Ahmad Nazir Atassi
كتبت بعض البوستات عن رأيي بما يجري من احداث ووقائع. وانتقدني احد الاصدقاء مصيبا بأني اكثر من التعميم. وهنا اريد ان اوضح اي نمط من التعميم اعني واريد.
١. التعميم الانفعالي.
مثلا قد يقول احدهم “الناس في سوريا لا يحترمون القانون”، “لم يصدقني احد حين قلت ان الجولاني مستبد”، “السوريون يحبون المظاهر”، “الحماصنة يحبون حلاوة الجبن”, “التكويع منتشر بكثرة هذه الايام”، “انتم اهل برا تنتقدوه كل شيء يفعله الجولاني”، “لا يهم العلمانيين الا الشرب والعربدة”، “العلويون دعموا النظام”. في كل جملة هناك تعميم على كامل صنف من الناس: السوريون، الحماصنة، الناس، المغتربون، العلمانيون، العلويون. وبالطبع هناك حالات خاصة لا تنطبق عليها المقولة. والغرض من التعميم هنا هو التحيز لرأي ما واظهاره بمظهر الصحيح. ولهذا النوع من التعميم نتائج قد تكون خطيرة ففي حال كانت المقولة اتهاما يتبعه عقاب، فان العقاب سيقع على ابرياء شملتهم المقولة بسبب الاجحاف والعنصرية والتحيز. ولهذا التحيز شحنة انفعالية قوية يستخدمها صاحب المقولة ليزيد من تصديق المقولة وبالتالي فعلها واثرها.
وعندما يكتسب المرء بعض الحكمة والروية والتأني فإنه يحاول التقليل من التعميم الانفعالي، فالحكمة تقتضي الاحاطة واداء الحقوق. وكما رأينا ففي التعميم الانفعالي اجحاف في الاتهام وتحيز مقصود ونية بالاذية. وعندما نشاهد الغوغاء في الشارع تتعدى على انسان فنحن غالبا امام نتائج خطيرة للتعميم الانفعالي، حيث يعمق التعميم من احساس المجموعة بالخطر ويرسم حدود النحن والآخرين، حيث النحن على صواب دون استثناء، والآخرون على خطأ دون استثناء ايضا.
وعندما يتدرب الانسان على التفكير المنطقي يتعلم ان مقولة “كل كذا هو كذا” هي مقولة شديدة الهشاشة لان اثبات خطئها يحتاج الى حالة استثنائية واحدة فقط. فاذا وجدنا حمصيا واحدا لا يحب حلاوة الجبن فان مقولة “الحماصنة يحبون حلاة الجبن” تصبح خاطئة. واذا وجدنا علويا واحدا لم يدعم النظام السابق فان مقولة “العلويون دعموا النظام”. وهذه الهشاشة تصبح سلاحا فعالا جدا في النقاش، اذا يكفي ان تجد حالة استثنائية واحدة لتثبت لمحاورك او مناظرك ان كلامه خاطئ. والعديد من المثقفين والدارسين للفلسفة يكتبون مقالات مطولة في نقد بعض المقولات الشائعة من خلال اظهار الاستثناءات المختلفة لتلك المقولات. يمكن ان نسمي هذا الاسلوب في المحاججة ب”الحجة بالاستثناء”، حيث يظهر الكاتب حساسية فائقة تجاه الاختلافات والاستثناءات فيعمل قائمة كاملة شاملة للحالات التي تصح فيها مقولة ما وللحالات التي لا تصح فيها تلك المقولة. هذه الاختلافات والاستثناءات تظهر احترام الكاتب للفردية والحق بالاختلاف وحرية الرأي.
مثلا في نقاش حول المهاجرين او الجندر فان محور النقاش يكون غالبا محاربة العنصرية العرقية و العنصرية الجندرية. هناك اتهامات موجهة لشريحة مجتمعية ما وتعميمات مجحفة بحق تلك الشريحة بغرض ابعادها او اقصائها مجتمعيا او سياسيا. التعميم الانفعالي يعمل عمله في هذه الحالات، ومحاربته تكون من خلال اظهار خطأ التعميمات. فليس كل المهاجرين كسالى او مجرمين او عبءا على نظام الضمان الاجتماعي. وليست كل النساء ضعيفات جسديا او غير مهتمات بالهندسات والعلوم او مهتمات بمظهرهن فقط او معتمدات على الذكور في اعالتهن.
والحقيقة فان سيكولوجيا الانسان تشجع على التعميم الانفعالي. وتأتي هذه الممارسة من منطق البقاء الذي حكم تطور الانسان عبر ملايين السنين. اذا اكلت ثمرة سامة وكانت مرة، فمن المفيد ان اربط المرارة بالسمية حتى اتفادى كل ما هو سام. بالطبع سأهمل كثيرا من الثمار المفيدة المرة بسبب هذه التعميم، لكن ثمرة وحيدة سامة ومرة قد تقتلني بينما اهمال عشرة ثمار مفيدة ومرة لن يجعلني اموت من الجوع. الثمرة المفيدة المرة ستثبت فائدتها وعدم سميتها مع الزمن، وسيكون هذا كسبا مهما، لكن حجم الكسب لا يقارن بأذية الموت من ثمرة سامة ومرة واحدة. اننا بطبيعتنا معممون ومجحفون في تعميمنا. وكما رأينا فان التعميم يقوي الاحساس بالجماعة وبالتالي يساعد في بقائها.
٢. التعميم الاحصائي
في العصر الحديث ظهر نوع من الرياضيات يهتم بالاحتمالات. وهو نوع من النظرة الشاملة التي ترى الاغلبية والاقليات ضمن الكل. هذه الرياضيات قللت الاعتماد على التعميمات الانفعالية، خاصة ان تلك التعميمات مضرة في المجتمعات الكبيرة. لا بل قد يفوق ضررها فائدتها في تلك المجتمعات. التعميم الانفعالي يؤدي الى العنصرية والاقصاء والانحياز الى الجماعة الاصغر. وهذه الاخطاء في العقلية والتفكير قد تؤدي الى انفصام عقد الجماعة. النظرة الشاملة هنا تصبح مفيدة بحيث نعرف الاشخاص الذين تنطبق عليهم مقولة ما والاشخاص الذين لا تنطبق عليهم المقولة. وفي حالات النقاش الحاد يعرفنا الاحصاء على الاغلبية التي تجعل المقولة المتحيزة صحيحة والاقليات التي تجعلها خاطئة ومؤذية.
ففي الحالة السورية مثلا نتعامل اليوم مع تعميمات قد تؤدي الى صراع اهلي. اذا قلنا ان كل العلويين كانوا داعمين للنظام السابق فقد ينقلنا هذا التعميم الى الاعتقاد بان كل العلويين كانوا يعملون في اجهزة النظام القمعية، وبالتالي المطالبة بمحاسبة كل العلويين على جرائم النظام السابق. ولذلك نحن بحاجة الى مؤسسة تعمل على عقلية الاحصاء. اعطني نسبة العلويين الذين كانوا يعملون في الدولة، ونسبتهم الذين كانوا يعملون في اجهزة القمع، ونسبتهم الذين ارتكبوا جرائم جراء عملهم، ونسبتهم الذين اتركبوا جرائم كبيرة. وكل نسبة تستند الى جدول كامل وشامل يحتوي كل الاسماء والصفات المقترنة بكل اسم من ناحية العمل في اجهزة القمع وارتكاب الجرائم الكبيرة. هناك اصوات علوية كثيرة تطالب اليوم بمثل هذه المؤسسة حتى لا يقع عليهم اجحاف التعميم. وان تقاعس الحكام الجدد عن انشاء مثل هذه المؤسسة مرتبط بالتأكيد بتخوف لديهم من عملية الاحصاء. انه ربما نفس التخوف الذي يمنعهم من اجراء انتخابات. وهم دون ان ينتبهوا يعطون حجة صعوبة الاحصاء. وهذا في الحقيقة يفضحهم، لان منطق الاحصاء هو الذي يحمي من اجحاف التعميمات ويكشف الاغلبية والاقليات المرتبطة بسؤال ما هو سبب الاجحاف.
كما ذكرت فان المحللين الحذرين يستخدمون قائمة الحالات الخاصة في النقاش حتى لا يقعوا في اجحاف التعميم وما يشير اليه الاجحاف من تكلس في المشاعر وعدم احترام للفردية والاختلاف. وباعتبار انهم لا يملكون احصائيات دقيقة فان حججهم تبدو وكأنها محاولة مثالية للتعمية على الاغلبية من اجل الانتصار لحالات خاصة. قد تبدو مقالات هؤلاء الكتاب مطولات مملة في الحساسية: انا اهتم بكل حالات الاستثناء لمقولة ما ومؤشراتها من نمط “اذا كان المؤشر سين صحيحا فنحن امام الاستثناء رقم واحد للمقولة”، واذا لم يكن صحيحا فنحن لسنا بالضرورة امام الاغلبية حيث تصبح المقولة صحيحة. “واذا كان المؤشر عين صحيحا فنحن امام الاستثناء رقم اثنان” واذا لم يكن صحيحا فنحن لسنا بالضرورة انا حالة الاغلبية. وهكذا تتالى عشرات المؤشرات لتشمل كل الاستثناءات. وهكذا تفقد المقولة اهميتها من حيث انها تدل على حالة منتشرة وموجودة في اغلبية نحتاج الى التعامل معها.
اذا قلنا ان “كل العلمانيين يريدون فصل الدين عن الدولة” فنحن نعطي تعميما. وهو بالطبع تعميم مجحف وخاطئ. اذا كان القائل من التوجه الاسلاموي فانه يعني ان كل العلمانيين يريدون اقصاء الاسلام ودوره في بناء الدولة باعتباره دين الاغلبية والسمة الغالبة على ثقافتها. يكفي ان نقول ان “العلمانية هي اقصاء الاسلام” حتى نحدد فرص نجاح/فشل دستور يضمن علمانية الدولة في سوريا. مثل هذا الدستور سيرفضه معظم السوريين المسلمين. وامام مثل هذه التعميمات المجحفة التي ستؤثر على دستور البلاد يقف العلمانيون المسلمون وافراد الاقليات عاجزين عن نقل افكارهم الى عموم الجمهور السوري. وفي هذه الحالة سيلجأ انصار علمانية الدولة الى منطق الاحصاء وسيكتبون عشرات المقالات في شرح معنى العلمانية وانواع العلمانيات في كل البلدان وعلى مر التاريخ، ومعاني وتاريخ شعار “فصل الدين عن الدولة” وارتباطه بالعلمانيات المختلفة. وقد بدأنا نرى مثل هذه المقالات. وهي في اعتقادي مقالات لا تفيد بشيء، وقد تعطي النتيجة العكسية، وسأشرح ذلك لاحقا.
واذا كان قائل المقولة السابقة غير اسلاموي الهوى، فانه يعني ان كل العلمانيين يريدون دولة لا تضع قوانينها بناءا على املاءات وفروض دينية ذات شرعية إلهية يصعب نقضها او تغييرها او تغيير تأويلها. بالطبع يكفي ان نجد علمانيا واحدا لا يريد فصل الاسلام او المسيحية عن الدولة حتى تصبح المقولة خاطئة. وهذا سيكون رد الاسلامويين. انظروا المفكر العظيم اياه الذي لا يريد فصل الاسلام عن الدولة لان الاسلام ليس لديه كنيسة والطريقة الوحيدة لفصل الدين عن الدولة هو فصل مؤسسة الدين، اي الكنيسة عن الدولة. او انهم سيعطون التفسير السابق، اي العلمانية هي فصل الاسلام عن الدولة في بلد مسلم، وبالتالي فالعلمانية كفر لان الاسلام دين ودولة. وعندها سيلجأ انصار علمانية الدولة الى المقالات الاحصائية سابقة الذكر. مثل هذه التعميمات لها اغراض سياسية، ولا اعني الدخول في حوار بناء، وانما اعني الاعتماد على اجحاف التعميمات وصفتها الانفعالية من اجل تكريس العداء والاستقطاب بين الناخبين. اكثر ما يخشاه السياسي هو النقاش البناء الذي يفترض احتمال الخطأ. السياسي يريد ان يضمن نسبة من الناخبين وبالتالي فهو سيحصنهم ضد الايديولوجيات الاخرى من خلال تصوير اتباعها كأعداء. السياسي يحب التعميمات الانفعالية التي تعرّف النحن والآخر.
٣. التعميم النسقي او المنظوماتي
لماذا المقالات التي تعدد معاني وتاريخ العلمانية غير مفيدة باعتقادي؟ لانها تهتم بالمقولة وليس بمنشأ المقولة. المثقفون والفلاسفة يستخدمون المنطق الصوري “مقدمة ١، مقدمة ٢، نتيجة”. اذا كانت المقدمتان صحيحتين فان النتيجة صحيحة. والمثال الممل هو: كل انسان فان، ارسطو انسان، اذن ارسطو فان. ولاحظ ان المقولة الاولى هي تعميم. المنطق الصوري لا يهتم بمنشأ المقدمتين وانما بصحتهما فقط. الرياضيات تستخدمه بكثرة لان الرياضيات تضمن صحة مقولاتها، وبالتالي فان الحصول على نتيجة صحيحة من مقدمتين صحيحتين وسيلة عظيمة للوصول الى نتائج صحيحة والاكثار من هذه النتائج. لكن في السوسيولوجيا مثلا، من النادر ان تحصل على تعميم صحيح بالمطلق ودون استثناءات. ولذلك فان الاكثار من المنطق الصوري يؤدي الى كثير من النتائج المشكوك فيها. تذكر انه في اي تعميم، يكفي ان تجد حالة خاصة واحدة حتى تضرب التعميم ونتيجة المنطق الصوري.
كل المسلمين يؤمنون بدولة الخلافة، انت مسلم، اذن انت تؤمن بدولة الخلافة. يمكن ان نحاجج بأن دولة الخلافة اساسية لصحة الايمان. وعندها نستخدم المحاكمة المنطقية اعلاه لنجعل كل المسلمين اسلامويين. انه المنطق نفسه الذي يستخدمه الاسلام السياسي مثل الاخوان والسلفية: بما ان اغلبية السوريين مسلمين، وبما ان كل المسلمين اسلامويون، اذن الاغلبية تريد دولة الخلافة، ولا داعي للتصويت على ذلك. الشغلة مفروغ منها، هكذا يقولون.
اذا اردت مناظرة الحجة الاسلاموية فيمكنني ان ألجأ الى الاحصاء. سأكتب مقالة عصماء اعدد فيها انواع المسلمين ومدى ايمان كل نوع بدولة الخلافة (وقد اعدد انواع الخلافة ايضا). وبعءه المقالة اخلق استثناءات للمقولة واضرب صحتها وبالتالي صحة الاستنتاج. لكن مثل هذه المقالات تضطر الى احترام الفردية وحرية الرأي فتعدد انواعا نادرة من المسلمين لتثبت وجود الاستثناء. هذه الانواع النادرة ستثير حفيظة كثير من المسلمين الذين يريدون حماية تعريف النحن مما سيؤدي الى معاداة تلك الاستثناءات من اجل الحفاظ على نقاء الاسلام والجماعة المسلمة. حرب الهويات هذه ستؤدي الى طرد الاستثناءات وستجعل المقولة السابقة تبدو صحيحة: “كل المسلمين يؤمنون بدولة الخلافة”. هذه الديناميكية الاجتماعية لا تظهر في المقولة ولا في نقضها ولا في المنطق الصوري. لكنها تؤثر في صحة المقولة والمحاكمات الصورية التي تستخدمها حتى ولو كانت خاطئة. ان معرفة الديناميكية الاجتماعية التي تجعل تعميما ما يبدو صحيحا ستعرّفنا على المنطق الاجتماعي الذي يستخدمها والذي يستنتج منها مقولات اخرى تبني ايديولوجيا كاملة. هذا ما اسميه بالتعميم النسقي او المنظوماتي. انه التعميم الذي يفترض معرفة بالمنظومة التي تجعل تعميما ما يبدو صحيحا رغم خطئه من ناحية احصائية.
عندما ينطلق التعميم من منطق منظوماتي، فانه سيكون صحيحا خاصة عندما تحاول ان تثبت خطأه. لان حشر المراقب (المثقف او الفيلسوف) لنفسه في المنظومة سيؤدي الى ردة فعل تؤكد التوجه العام للمنظومة، وهو التوجه الذي يعطي الانطباع بان التعميم كان صحيحا. عندما اقول ان “السوريين طائفيون” مثلا فأنا اعبر عن تعميم نسقي. اي انني لاحظت ان الممارسات اليومية وليس الشعارات المعلنة، هي طائفية، مما يدل على وجود عقلية طائفية متحكمة. الشعارات غير الطائفية او المعادية للطائفية قد تكون ايديولوجيا جديدة غير معممة لكنها ذات سطوة لاسباب متعددة: مثلا لان الدولة السابقة ادعت انها غير طائفية وجعلت من كلمة طائفية شتيمة، او لان مرجعية المثقفين غربية مما يجعلهم يقارنون الرعاع السوري بالغرب فيجدونه طائفيا مما يجعل الكلمة في محل شتيمة مثقفة، او لان الغرب تدخل مرارا في تاريخ المنطقة بدعوى حماية الاقليات شاهرا تهمة الطائفية بوجه كل من يمسهم او كوسيلة لاتهام الاغلبية واجبارها على اعطاء امتيازات للاقليات لا تتناسب مع حجمهم التمثيلي.
ولذلك قد يطرح الانسان السوري شعارات غير طائفية، لا بل شعارات معادية للطائفية، لكنه اذا وضعناه على محك الممارسة والتجربة فسيتصرف بشكل طائفي. حتى نعرف اذا كانت المقولة تعميما نسقيا، حاول ان تثبت انها خاطئة احصائيا، فاذا وجدت ان الناس تتجه نحو اثبات المقولة فهي اذن تعميم نسقي. اذا حاولنا ان نعدد انواع السوريين وان نثبت ان كثيرا من الاستثناءات ليست طائفية فسنجد مثلا الملحدين المسلمين، وسنجد القوميين المسلمين، وسنجد اليساريين من الاقليات ممن انجذب نحو اليسار كمعارضة ثقافية لانه لا يحب السطوة الثقافية للاغلبية المسلمة، وسنجد اليساريين من الاقليات ممن انجذب الى اليسار كرها بكهنوت الطائفة. هذه الاستثناءات كلها ستثير حفيظة المسلم السني الذي يعتقد بأن طائفته هي الامة، وان الاتهامات التي يتلقاها ليل نهار بأنه طائفي جعلته فريسة للنظام السابق وللاعلام الغربي. هذا المسلم السني سيزيد من تمسكه بطائفته وبالتالي من ممارساته الطائفية. والاقلوي الذي يعتد بطائفته ويرى ان الطائفية هي منقذه الوحيد من ديكتاتورية الاغلبية سيرى ان اليساري من طائفته خطر حقيقي على وجوده، مما سيجعله يضغط على ذلك اليساري ليجعله يلتزم بسياسة وهوية الطائفة. ذلك اليساري اذا كان صادقا في معاداته للطائفية سيرى نفسه معزولا ومبتعدا عن طائفته ومحققا بذلك لتجانسها. واما اذا كان يساريا فقط كرها بالاغلبية فانه سيزيد من نفاقه، اي من اعتباره الطائفية كتهمة موجهة الى المسلم فقط، غير انه سيتصرف بشكل طائفي وسيجعل المسلم العادي يتأكد بأن تهمة الطاىفية موجودة فقط لمحاربته مما سيزيد من حقده على الاقليات وبالتالي من طائفيته. وبالتالي سيتكرس الاتجاه العام نحو الطائفية. التعميم اذن نسقي.
التعميم النسقي يكرس نفسه، فكلما حاربناه ازداد انتشارا وقوة. فاذا كان يعبر عن ظاهرة حقيقية فالافضل الاعتراف بالظاهرة وبالاسباب التي ادت الى نشوئها ومعالجة تلك الاسباب. النفاق الطائفي الذي نراه اليوم في سوريا (اي الاصرار ان الطائفية غير موجودة وغير معممة) والذي تحدثت عنه في بوستي السابق يكرس الطائفية ولا يحاربها.
اضافة: ولا اقول ان التعميم النسقي شيء يجب ان نتفاداه. اذا تأكدنا من وجود النسق فهذا يعني اننا امام ظاهرة اجتماعية عميقة تعيد انتاج نفسها وتحصن نفسها وتكرس نفسها، وبالتالي فالتعميم كمقولة صحيح. اذا كان النسق يزعجنا ويخالف تطالعاتنا فهناك ادوات لمجابهته افضل من مجرد محاربة التعميم، فالمحاربة مجرد خطاب. ادوات مجابهة النسق تبدأ بالاعتراف بوجوده ومن ثم خلق بيئة يصبح فيها النسق غير ضروري. وعندها يتوقف عن تكريس نفسه.
الفيس بوك
———————-
بشار في دور إسكوبار/ عبد الرحمن الراشد
تحديث 03 كانون الثاني 2025
عندمَا خسر بشارُ الأسد مناطقَ البترول شرقَ سوريا وصارتْ معظمُها تحت سيطرة «قسد»، لجأ إلى إيرانَ للحصولِ على البترول ومشتقاتِه لتمكينِ قواتِه من القتال وعدمِ توقف خدمات المناطقِ تحت سلطته.
كانَ اقتصادُه الضعيفُ ينهار والحكومة في حالةِ إفلاس بعد أن باتَ في حربٍ وبلا مداخيل. اعتمد على المخدراتِ والإرهاب اللذين صارَا أهمَ بضاعتين يصدّرُهما النظامُ السابق.
قد يعتقد البعض أنَها مبالغةٌ ودعايةٌ ضد نظام سقطَ لا يستطيع الدفاعَ عن نفسه، لكنَه نفسَه لم يكن يخفي ذلك، وكانَ يساوم عليهَا في ترتيبِ علاقاتِه الإقليمية والدولية.
لم يصل أيُّ سفيرٍ سعودي إلى دمشقَ رغم الاتفاق منذ مايو (أيار) 2023، واقتصر التمثيلُ الدبلوماسي على العملِ من فندق الفورسيزونز، ولم ترسلِ السعوديةُ سفيرَها إلى العاصمة السورية لأولِ مرة إلا بعد دخولِ الشرع وقواتِه. تباطأتِ العلاقات حيث لم يفِ النّظام بوعوده ولم تتوقف عملياتُ تهريب الكبتاغون. الأسدُ كعادته كانَ يماطلُ في تحقيق المصالحةِ الموعودة، وكانَ يتوقّع تعويضاتٍ ماليةً بمليارات الدولارات مقابل إيقافها. الأمر لم يرقْ للرّياض إضافةً إلى أنَّ مبدأ مكافأة تجار المخدرات لوقفها كانَ سيشجّع على الابتزاز. كانَ الأسد، يقوم بدور إسكوبار، تاجرِ المخدرات الكولومبي الشهير، ويحصد من مبيعاتِ الكبتاغون – وفقَ تقديرات غربية – أكثرَ من 5 مليارات دولار سنوياً، وهذا أكثرُ من مداخيلِه من النّفط التي كانَ يحقّقها قبلَ الحرب!
التقيتُ الرّئيسَ المخلوعَ على الأقل خمس مرات في جلسات مباشرة، وتحدّثنا لساعات طويلة، مع ذلك لا أستطيعُ أن أدَّعيَ أنّني أعرفه، وقد نشرت معظم ما دارَ في تلك اللقاءات في صحيفة «الشرق الأوسط» حينَها. توقّفت عنها بعد عمليات الاغتيال في لبنان، حيث أصبحت تهديداتُه تطال الإعلاميين، وكنتُ قد وُضعت على قائمةِ الممنوعين من دخول لبنان أيضاً. ثم التقيتُه قبيل الثورة عليه، في جلسةٍ جماعية وكانَ يبدو مطمئنّاً واثقاً أنَّه في مأمن.
على أية حال، رغم ما استجد من المعلومات المروعة بعد سقوطه تضاف إلى ما كنَّا نعرفه من قبل عن نظامه المرعب، فإنَّه على المستوى الشخصي في لقاءاته كان دائماً يبدو مهذباً، ومستعداً لأن يسمعَ ويجيب، ومراتٍ قليلة خرج عن طوره. كانت تلك شخصيتِه أمام كل ضيوفه.
وهذا ما جعل كثيرين محتارين في فهمه ومعرفة حقيقته! هل هناكَ جماعة شريرةٌ خلف ما كان يحدث في سوريا ولبنان؟ هل كانَ أخوه ماهر، أم ضابطُه علي مملوك، أم زوجتُه أسماء، أم الإيرانيُّ قاسم سليماني؟
الحقيقة هي أنه كان خلفَها ومن يديرها، وليس ما كانَ يوحي به. كانَ يعوّض فشله في إدارة الدولة باستخدام القوة. زادت البلاد الفقيرةُ فقراً ولم يكن اللومُ – كما كان يدعي – يُلقَى على الدول المعادية. الحقيقةُ حصل بشار على ترحيب كبير إقليمياً ودولياً بعد توليه السُّلطة. كانَ هناك أملٌ في الخروج من تركة حافظ الأسد وقيادة سوريا نحو الانفتاح والتحديث، لكنَّه لم يفعل سوى زيادةِ السّجون، وفاقَ والدَه في عدد الاغتيالات والتفجيرات واستضافة التنظيمات الإرهابية!
لهذا، لم تكنِ الثورة السورية على بشار مفاجئة مع أنَّها اندلعت بعد ثلاثة أشهر من أحداث تونس. الأسد الذي فشل اقتصادياً لجأ للمتاجرة بالمخدرات، واستضافة الجماعات المسلحة خلال حرب العراق ضمن صفقة مع إيران، وكرَّرها لاحقاً خلال حربه في العقد الماضي. ولا أتذكر أنَّه تحدَّث عن التَّنمية والتحديث الاقتصادي وتحسينِ معيشة مواطنيه قبل الثورة.
تحتاج سوريا اليوم وحكامُها الجدد إلى التَّأملِ في قراءة تاريخ نظام الأسدين. ليس غريباً أن يسقطَ نظامٌ أصبح فيه العسكري الذي يحرسه، وأستاذُ الجامعة الذي يمثل نخبة المجتمع، دخلهما نحو عشرين دولاراً في الشهر. الدَّرس البليغ أنَّ مخاطر الفشل الاقتصادي أعظمُ من الفشل الأمني.
ففشل الاقتصاد سبقَ بسنوات الحرب، وعقوبات «قيصر»، وتجميد أصول الدولة في الخارج، وانهيار العملة. كانَ نتيجة سوء إدارة بشار، والفساد المنتشر، والحوكمة الضعيفة، واعتماد النظام على الاقتصاد الرَّمادي من مخدراتٍ وحروب خارجية.
السوريون، حتى بعد محنتهم الشديدة في البلدان التي لجأوا اليها، حقَّقوا نجاحات في كلّ ميدانٍ دخلوه. واليوم تلوح فرصة عظيمةٌ تنتظر من حكومة أحمد الشرع أولاً جمعَ كلّ السوريين بمكوناتِهم وتنوعهم ليصبحوا جزءاً من الدّولة والانفتاح على العالم ليستثمر فيها.
الشرق الأوسط
——————————
سوريا الجديدة والمؤشرات المتضاربة/ رضوان السيد
3 يناير 2025 م
سبق العراقيون والأردنيون إلى القول: العبرة بالأعمال وليس بالأقوال! بل وأضافوا إلى ذلك المخاوف على الأقليات فبدا بعضهم مثل المستشرقين من دعاة الحضارة والتحضير. فهل هناك بالفعل دواعٍٍ ومؤشرات للقلق والتوجُّس؟ الجولاني أو الشرع يمدد المرحلة الانتقالية إلى ثلاث أو أربع سنوات. والخمسون ضابطاً الذين تعينوا لتشكيل الجيش الجديد بينهم ستةٌ من غير السوريين من «الجهاديين» السابقين شأن الجولاني نفسه. وأسوأ ما يقع فيه نظام قديم أو جديد التجرؤ على القتل ويقال إنّ ذلك يحصل. والقتال لا يزال يشتعل في شمال وشمال شرقي سوريا مع «قسد»؛ فإذا كان النظام الجديد على هذه العلاقة الوثيقة بتركيا، أفلا يمون عليهم لوقف القتال والحديث المباشر مع الأكراد السوريين بدلاً من انتهاء كل «نهضات» الأكراد إلى مذابح منذ قرن ونيف. يلجأون إلى دولةٍ كبرى فتعطيهم من طرف اللسان حلاوةً حتى إذا انقضت المهمة تركتهم لمصيرهم!
المؤشر الرئيس ذو المعنى الإيجابي: الاتجاه لعقد المؤتمر الوطني المنشود لصنع الشرعية الجديدة. المؤتمر الوطني الكبير يعني مشاركة الفئات السورية الأخرى غير «هيئة تحرير الشام» وحلفائها. قالوا إنّ كل التنظيمات المسلحة ستُحلّ بما في ذلك «هيئة تحرير الشام». لكنّ الضباط الجدد للجيش السوري الجديد هم من التنظيمات المنحلة فما الفائدة؟ لماذا لا يكون المنشقّون ذوو الخبرة والتجربة في قوام الجيش الجديد؟ وهل لا يزال ذلك وارداً أم يحصل ما حصل بالعراق، بحيث انضمّ إلى «داعش» هناك آلافٌ من الجيش المنحلّ بطلبٍ من الميليشيات القادمة من إيران ومن المهاجر الأوروبية والأميركية والأسدية. لا ينبغي أن يتشرذم الجيش القديم ويجري استخدامه من إيران وغيرها في اضطراباتٍ داخليةٍ مصطنعة! المحنة أن الضباط الكبار – ممن لم ينشقوا – أشركهم النظام البائد في قمع الشعب السوري، وتتفوق عليهم في ذلك الأجهزة الأمنية المتكاثرة والتي عملت في القمع والإرهاب ومع الإيرانيين والروس؛ إضافةً إلى التنظيمات المسلَّحة التي تجندت لدعم النظام ممن سماهم الشعب السوري: الشبيحة. إنّ استخدام الجيش الوطني في قمع الداخل، وإعادة تشكيله من حزبيي النظام السائد تبدو آثاره في أزمنة التغيير، وهذا ظاهرٌ في سوريا وليبيا والسودان والعراق، بينما بقي مصوناً في تونس ومصر. فالعملية معقّدة، وتحتاج إلى عنايةٍ شديدة، وتفيد فيها التجارب المصرية والسعودية. أما إذا صارت التنظيمات المسلحة جيشاً باعتبارها هي التي أسقطت النظام ومن حقها الحلول محله، فسيكون الأمر مثل الجزائر التي يحكمها جيش التحرير منذ الستينات بعد الاستقلال.
الظاهرة الإيجابية الأخرى إلى جانب المؤتمر الوطني الموعود: الاحتضان العربي وفي الطليعة مجلس التعاون الخليجي والمملكة العربية السعودية. سيشمل ذلك بالطبع إعادة البناء وليس في العمران وحسب، بل وفي المسائل الفنية والتقنية والمرافق والحركة التجارية والمصانع، والعلاقات مع الجوار والخارج العالمي. الذين رأوا أخيراً دمشق ودرعا وحلب أشادوا بالجمال والسكينة وفرح البسطاء بالحرية. لكنهم جميعاً قالوا: كأنّ هذه المدن متروكة على ما كانت عليه في مطالع الستينات! فالبؤس الإنساني ظاهرٌ في كل شارعٍ وزاوية. ذكّرني طبيبٌ من حلب بمقولة الأسد الأصغر: الأسد أو نحرق البلد! فما لم يتخرّب أو يحترق باقٍ من زمان الستينات قبل الإنعام على سوريا بحكم «البعث» عام 1963. السوريون وهم شديدو النشاط والإبداع في المهاجر التي ذهبوا إليها بالملايين سيتمكنون من النهوض ببلادهم من جديد إذا حماهم العرب من الاستبداد التجميدي باسم «البعث» أو باسم الإسلام الأصولي، وحموهم من التحرش الإيراني وربما الميليشياوي العراقي والسوري «الداعشي».
ويُنشر الكثير الآن عن الخوف من الإمبراطورية التركية. بعضهم مثل اللبنانيين يذكرون حتى جمال باشا في الحرب الأولى. ويتشدق آخرون بالخلافة ومطامح الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في البر والبحر. وينبهون إلى أن الأتراك موجودون اليوم عسكرياً في سوريا وليبيا والصومال وجيبوتي وربما في السودان! الهدف العلني لإردوغان: التخلص من حزب العمال الكردستاني عند «قسد» وأمن الحدود المستقبلي. لكنّ العلاقات التركية تحسنت كثيراً مع المملكة ومع مصر وهي حسنة دائماً مع قطر. والأتراك والأميركيون هم الذين يدعون إلى دورٍ عربيٍّ في سورية. لا يستطيع أحدٌ أن يطغى إذا أصرّ العرب على الحضور، وعدم الانسحاب مثلما حصل في العراق وليبيا وفلسطين. لقد عادوا إلى فلسطين من بوابة الدولة الوطنية، ويعودون إلى سوريا ولبنان من البوابة ذاتها.
الشارة في سوريا كانت خضراء، لكنها بعد شهرٍ لا أكثر تتحول صفراء. لا يزال الجميع غائصين في تشريح مصائب النظام البائد. والمطلوب البدء في تشخيص ونقد ومتابعة خطوات تكوّن النظام الجديد.
الشرق الأوسط
————————–
سوريا ما بعد الأسد… تمدد المصالح التركية وانحسار الإيرانية/ هدى رؤوف
تحاول طهران استغلال أي تحديات تواجهها لخلق فرص لها ومن ثم ستعمل على استغلال ورقة الأكراد وتوتر العلاقات بين أنقرة وإسرائيل
الجمعة 3 يناير 2025
المعضلة الأخرى لإيران ليست فقد حليف “محور المقاومة” نظام الأسد وتمدد مصالح تركيا على حسابها داخل سوريا فحسب، بل إن علاقة أنقرة وطهران ستتخذ كذلك شكلاً أكثر تنافسية وتوتراً، فتركيا التي كانت تمثل لإيران شرياناً للالتفاف على العقوبات الدولية باتت منافساً وبديلاً للنفوذ الإيراني في سوريا، مما يعني أن على طهران إدارة علاقتها بتركيا على نحو دقيق في تلك الفترة.
تمثل سوريا ما بعد الأسد ساحة يحاول المشروع التركي أن يتمدد من خلالها، بينما تشهد الساحة ذاتها انحساراً للمشروع الإيراني. انحسار وليس انتهاء، فإيران دولة يقوم الإطار النفسي لسياستها على تمدد مصالحها خارج حدودها.
ويشهد الشرق الأوسط حالياً تغيرات إقليمية وتطورات يتجلى فيها تمدد المصالح التركية وتوسّعها على حساب المصالح الإيرانية داخل سوريا، ويمكن تناول ذلك من خلال أولاً كيف تعاملت إيران مع الدور التركي في التطورات السورية، وثانياً كيف تمددت المصالح التركية على حساب الإيرانية.
أولاً، في ما يتعلق بالنظرة الإيرانية لما يحدث داخل سوريا، اعتبرت طهران ابتداء من صناع القرار وحتى الإعلام أن ما يحدث في سوريا نتيجة للتدخل التركي وأن أنقرة ستتحمل كلفاً باهظة وأنها تعمل على استبدال وجود إيران ونفوذها في سوريا بالوجود التركي.
وترى طهران أن تركيا تستغل حال الضعف الإيراني لتقويض مصالح طهران وتعميق مصالح أنقرة الجيوسياسية، وتنتقد كل وسائل الإعلام الإيرانية محاولة تركيا إحياء ما يسمى “العثمانية الجديدة” والترويج لنموذج الإسلام التركي، وتراهن إيران على أن اقتراب منطقة التماس بين إسرائيل وتركيا سيكون ضمن أهم الأوراق التي يمكن من خلالها تأجيج التوترات بين الطرفين، فمن جهة لن يكون آمناً لتركيا اقتراب إسرائيل من حدودها عبر سوريا، وليس آمناً لإسرائيل وجود جماعات إسلامية بمختلف أطيافها على حدودها.
وتعتبر إيران أن سوريا ستكون مدخلاً للتقارب التركي- العربي والتقارب التركي- الغربي، وفي المقابل التباعد بين تركيا وإيران وروسيا من جانب آخر. فسوريا التي كانت ساحة للنفوذ الإيراني والروسي ومدخلاً للنفوذ على البحر المتوسط تشهد اختفاء للوجود الإيراني وانحساراً للنفوذ الروسي، ومن ثم أصبحت لتركيا اليد العليا في سوريا في مواجهة المنافسة غير المعلنة بينها وإيران وروسيا.
وتمثل سوريا الآن إحدى ساحات التنافس الجديد بين إيران وتركيا، فلم يعُد التنافس بينهما يقتصر على منطقة جنوب القوقاز فحسب، بل بات في سوريا كذلك، ومن ثم تمثل سوريا استبدال مشروع الهيمنة الإيرانية بالهيمنة التركية على أكثر من مستوى، فسياسياً سقط حليف إيران بشار الأسد، وحالياً تقوم تركيا بدور في بناء الدولة السورية الجديدة ومن ثم سيكون هناك شكل من أشكال علاقات التأثير والنفوذ مع النظام السياسي الوليد الذي من المرجح أن تتشابه رؤيته ومصالحه مع الرؤية التركية.
أما اقتصادياً، فتمثل سوريا فرصة لتوسع نفوذ تركيا على البحر المتوسط، وربما تعمل على إبرام اتفاق بحري مع الحكومة السورية الجديدة، وكذلك تمثل سوريا نقطة انطلاق اقتصادي مهمة تربط بين تركيا والعالم العربي وجنوب آسيا وغربها وأوروبا، فضلاً عن طموح تركيا إلى أن تكون نقطة عبور استراتيجية للطاقة نحو أوروبا وسيسهل موقع سوريا لتركيا هذا الهدف بدلاً من العراق ومنطقة إقليم كردستان.
المعضلة الأخرى لإيران ليست فقد حليف “محور المقاومة” نظام الأسد وتمدد مصالح تركيا على حسابها داخل سوريا فحسب، بل إن علاقة تركيا وإيران ستتخذ كذلك شكلاً أكثر تنافسية وتوتراً، فتركيا التي كانت تمثل لإيران شرياناً للالتفاف على العقوبات الدولية باتت منافساً وبديلاً للنفوذ الإيراني في سوريا، مما يعني أن على طهران إدارة علاقتها بتركيا على نحو دقيق في تلك الفترة.
وفي حين يعاني المشروع الإقليمي الإيراني ضعفاً حالياً، فإن طهران تعمل على إعادة تقييم موقفها الاستراتيجي وستعمل على التركيز على قدراتها الحالية بدلاً من شبكة وكلائها الإقليمية التي تعاني ضعفاً، وربما محاولة دعمهم ستدفع إسرائيل إلى توجيه ضربات انتقامية لطهران. لذا تعمل إيران على توظيف وضعها كدولة عتبة نووية للاستفادة منه أمام الغرب وواشنطن، كما تعمل على بناء منظومتها الصاروخية وصناعة الطائرات من دون طيار، أي إن إيران في اللحظة الراهنة تركز على مصالح النظام الإيراني داخلياً وليس على الاستراتيجية الإقليمية.
وفي المقابل، تحاول إيران استغلال أي تحديات تواجهها لخلق فرص لها ومن ثم ستعمل على استغلال ورقة الأكراد وتوتر العلاقات بين تركيا وإسرائيل، وتأجيج الفوضى داخل سوريا عبر استغلال استياء المسيحيين والعلويين وفلول النظام السوري السابق وربما تخلق بعض الجماعات التي ترفع شعارات تندد باحتلال إسرائيل لبعض الأراضي السورية لخلق مقاومة جديدة.
—————————
الصراع على سوريا… وفيها/ إبراهيم حميدي
الدول العربية الرئيسية بادرت الى دعم العهد الجديد
02 يناير 2025
بشار الأسد صار من الماضي. عائلة الأسد في محكمة التاريخ. الوحشية لا توقف مساره. التاريخ يثبت أحكامه. الشعب يقهر ولا يُقهر. السقوط هو النهاية الحتمية لأي ديكتاتور. سقط النظام وبقيت سوريا. هدية ثمينة يحملها السوريون من نهاية 2024 إلى بداية 2025.
طوت سوريا 54 سنة من تاريخها. بعد 14 سنة من الثبات، يفتح السوريون صفحة جديدة. فر بشار الأسد إلى موسكو ودخل رئيس “هيئة تحرير الشام” أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) إلى دمشق. أسابيع مرت على فرار الأسد وسقوط منظومته بعد 11 يوما هزت سوريا والإقليم، لكنها تبدو للسوريين كأنها دهر. آلام مشاهد السجون والزنازين و”المسلخ البشري” في صيدنايا، ثقيلة. نزول الملايين إلى الساحات للاحتفال بـ”جمعة النصر”، احتفالي.
انتهت “جمهورية الكبتاغون”. الآن، بإمكان السوريين التفرغ إلى طرح الأسئلة الكبرى ومعالجة التحديات الكبيرة وما أكثرها، خصوصا تلك التي تركتها المنظومة. ولعل المعادلة الأساسية هي ما قاله أحمد الشرع، قائد العمليات، من أن الثورة السورية انتصرت، لكن لا يجب أن تُقاد سوريا بعقلية الثورة، بل بعقلية الدولة. المعادلة الثانية هي استعادة السوريين لقرارهم واستعادة سوريا سيادتها، في وقت يحتدم فيه الصراع الدولي والإقليمي على دمشق وتتغير المعادلات الإقليمية.
اخترنا في “المجلة” أن تكون قصة الغلاف لشهر يناير/كانون الثاني 2025، بعنوان: “الصراع على سوريا”. العنوان مستوحى من الكتاب الأول للكاتب البريطاني الراحل باتريك سيل. لخص فيه كيف كانت ساحة لصراع النفوذ العربي والأجنبي. ثم كتب كتابا ثانيا مدح فيه حافظ الأسد، بعنوان: “الأسد: الصراع على الشرق الأوسط”.
انتهت هاتان الحقبتان. تحولت سوريا من لاعب إلى ملعب. تقسمت إلى “ثلاث دويلات” وأقامت فيها وفي أجوائها جيوش خمس دول: أميركا في شمال شرقي البلاد، روسيا وإيران في وسطها وغربها، وتركيا في الشمال، إضافة إلى إسرائيل التي واصلت غاراتها. وكان واضحا من تصريحات الشرع رفضه تقسيم سوريا.
تدخل سوريا حاليا مرحلة جديدة، حيث يحتدم الصراع عليها وفيها. ونعالج هذا الملف من جميع جوانبه بأقلام خبراء وصحافيين.
إيران وميليشياتها خسرت استراتيجياً في سوريا وفي لبنان، ما أدى إلى انهيار “محور الممانعة”، لكنها تحاول التمكن في العراق. روسيا خسرت في سوريا بفرار بشار الأسد ونقله إلى موسكو، لكنها تبحث عن مستقبل قاعدتيها العسكريتين، في طرطوس واللاذقية، اللتين كانتا تاجاً لنفوذها في الشرق الأوسط بعد التدخل العسكري المباشر في 2015.
تركيا الرابح إلى الآن بسبب العلاقة التحالفية مع الحكم الجديد. استمرت العلاقة منذ 2011، وكانت داعما لانتصار “هيئة تحرير الشام” والفصائل في حلب وحماة وحمص ودمشق. ومن أبرز التعبيرات على ذلك أن وفدا أمنيا وسياسيا تركياً زار دمشق في منتصف ديسمبر/كانون الأول، فكان أول وفد أجنبي يزورها منذ سقوط الأسد وتسلم الشرع. كما وعدت تركيا بتقديم الدعم العسكري اللازم.
الدول العربية الرئيسية بادرت الى دعم العهد الجديد. خطوة طبيعية على اعتبار ان العمق الطبيعي لسوريا هو في الخليج والعالم العربي، وهذا ضمانة لاستقرارها وبنائها. وكان لافتا مستوى الزيارات من المسؤولين العرب الى دمشق، وان الرياض كانت أول محطة خارجية لوزير الخارجية الجديد أسعد الشيباني مع وزير الدفاع ورئيس جهاد الاستخبارات.
أما الوجود الأميركي في شمال شرقي سوريا، فإنه يدخل مرحلة جديدة لثلاثة أسباب: الأول، اتفاق إدارة بايدن وبغداد على الانسحاب من العراق على مرحلتين بدءا من سبتمبر/أيلول 2025. الثاني، تسلم دونالد ترمب، وهو لا يؤمن بالوجود العسكري والتدخل الخارجي. الثالث، حكم سوري جديد يرفض هذا الوجود والدعم العسكري الذي يقدمه لقوى عسكرية كردية غير سورية مقيمة في البلاد.
هناك إسرائيل. لم تتوقف عن ملاحقة المواقع الإيرانية و”حزب الله” في السنوات الأخيرة، بل إن الوثائق التي تكشفت بعد سقوط الأسد، تدل على وجود تنسيق بينه وبين تل أبيب. وكان لافتا أنه بمجرد تغيير النظام، بادرت إسرائيل إلى سلسلة من الإجراءات العسكرية: دمرت كل الأصول الاستراتيجية العسكرية، مثل الصواريخ والطائرات والقوات البحرية ومراكز الأبحاث. واحتلت المنطقة العازلة في الجولان بموجب اتفاق “فك الاشتباك” لعام 1974. واحتلت مواقع رقابة في قمة جبل الشيخ تطل على دمشق، ووصل الجيش الإسرائيلي إلى تخوم العاصمة السورية.
أمام هذا المشهد يبدو وجود الفصائل المسلحة أمراً مهماً. لا شك أن “هيئة تحرير الشام” وحلفاءها انتصرا في المعركة. وشاركت معهما في ذلك فصائل قدمت من الجنوب إلى دمشق. وهناك أيضا “قوات سوريا الديمقراطية” الكردية-العربية في شمال شرقي البلاد. وهناك “فلول النظام” وتنظيماته في الساحل. وبدا أن “إدارة العمليات” وضعت في أولوياتها حل الفصائل وتأسيس جيش جديد للبلاد، بمواكبة دبلوماسية، من خلال تسمية وزيرين للدفاع والخارجية في الحكومة المؤقتة، وعرض تسويات على مسلحيي النظام.
في سوريا الآن. يتداخل الخارج والداخل، تتناحر الجيوش الأجنبية والفصائل المحلية، ويتنافس الرابحون والخاسرون. وصفة مقلقة لصراع في سوريا وعليها. معركة الحكم السورية المقبلة، هي استعادة القرار والسيادة وسط معارك محتدمة ومنع التقسيم وحياكة الجغرافيا السورية من جديد.
المجلة
——————————-
البحث عن “سوريا الحرة”… بين إسرائيل وأميركا وتركيا/ رمزي عز الدين رمزي
حتى في حال الشروع بإعادة تشكيل الجيش السوري وإصلاحه، فإن غياب المعدات والتجهيزات الضرورية سيجعل الأمر يستغرق سنوات
02 يناير 2025
أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بشكل واضح وصريح عن نيته إعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط. وتحت ذريعة إزالة التهديدات، سواء كانت فعلية أو محتملة، مفبركة أو وهمية، اتخذ نتنياهو إجراءات عسكرية في غزة والضفة الغربية ولبنان وسوريا، في محاولة لإعادة تشكيل البيئة الأمنية الإقليمية بما يخدم المصالح الإسرائيلية، متجاهلا بشكل كامل مصالح جيرانه. وفي هذا السياق، يبدو أن هدف نتنياهو هو إعادة تشكيل المنطقة لصالح إسرائيل، وهي سياسة تتنافى مع فكرة التعايش السلمي مع الجوار.
أولا، لا تقتصر مساعي إسرائيل على القضاء على حركة “حماس” كتنظيم عسكري فحسب، بل تهدف أيضا إلى جعل غزة منطقة غير قابلة للعيش فعليا. وهذا النهج يهدف إلى جعل القطاع عرضة للسيطرة الإسرائيلية أو للاستيطان الدائم.
ثانيا، تحت ضغوط شديدة من الولايات المتحدة، عدلت إسرائيل خططها بشأن جنوب لبنان، ولكنها في الوقت نفسه استطاعت إشراك واشنطن في إنشاء منطقة عازلة على طول الحدود الشمالية مع لبنان. الخطوة تفتح المجال للتدخل العسكري الإسرائيلي في لبنان حاليا ومستقبلا.
ثالثا، استغلت إسرائيل انهيار الجيش السوري (وسط تساؤلات عديدة عما جرى فعليا في هذا الصدد)، فأعلن نتنياهو انهيار اتفاقية “فك الاشتباك” لعام 1974، وأمر القوات الإسرائيلية بالتقدم إلى مناطق جديدة داخل الأراضي السورية، متجاوزة منطقة “فك الاشتباك” حيث يوجد مراقبو الأمم المتحدة(UNDOF)، في انتهاك صارخ للاتفاقية. ووفقا لمعهد دراسات الحرب (ISW)، أشارت تقارير إلى تقدم الجيش الإسرائيلي إلى ما وراء منطقة “فك الاشتباك” نحو الداخل السوري بتاريخ التاسع من ديسمبر/كانون الأول الماضي.
الأهم من ذلك أن الجيش الإسرائيلي احتل جبل الشيخ، مما يمنح إسرائيل ميزة عسكرية واستراتيجية حاسمة. وبهذا التقدم، أصبحت القوات الإسرائيلية على بعد 40 كيلومترا فقط من دمشق، في موقع استراتيجي يوفر سيطرة عسكرية شبه كاملة على المناطق المحيطة بالعاصمة السورية.
وللمفارقة، برر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو احتلال الجيش الإسرائيلي لمزيد من الأراضي السورية بأنه إجراء يهدف إلى منع الإرهابيين من السيطرة على هذه المناطق، رغم أن إسرائيل قدمت دعما واسعا لتنظيم “القاعدة” خلال الحرب الأهلية السورية، وهو تنظيم كان له وجود على الحدود السورية معها. ولم ينكر نتنياهو هذه العلاقة، بل اعترف بأن الكثير من أفراد التنظيم جرى علاجهم في المستشفيات الإسرائيلية، حيث وُلد أيضا أطفالهم.
إلى جانب السيطرة على الأراضي، استهدفت إسرائيل تدمير الجيش السوري بشكل شامل. ونفذت القوات الجوية الإسرائيلية حوالي 480 هجوما خلال 48 ساعة، ما أسفر- وفقا لمصادر إسرائيلية- عن تدمير ما بين 70-80 في المئة من القدرات العسكرية السورية، بما في ذلك الطائرات الحربية والطائرات المسيرة والدبابات وأنظمة الدفاع الجوي ومصانع الأسلحة ومجموعة متنوعة من الصواريخ. كما قصفت البحرية الإسرائيلية موانئ البيضا واللاذقية، مما أدى إلى تدمير 15 سفينة سورية وعشرات الصواريخ المضادة للسفن، التي يتراوح مداها بين 80-190 كيلومترا.
وبالنظر إلى تجربة العراق، يتفق المجتمع الدولي على ضرورة الحفاظ على المؤسسات الحكومية في سوريا، بما في ذلك الجيش. وما تفعله إسرائيل تجاه الجيش السوري يتجاوز بكثير ما قام به بول بريمر في العراق عندما قرر حل الجيش العراقي. فعلى الأقل، احتفظ بريمر بما تبقى من المعدات العسكرية، بينما لم تكتفِ إسرائيل بتفريق أفراد الجيش السوري، بل دمرت غالبية قدراته بشكل ممنهج.
غياب جيش سوري وطني محترف يجعل البلاد عرضة لمجموعات مسلحة متعددة، ما سيؤدي إلى وضع خطير ليس فقط على الشعب السوري نفسه، بل على جيران سوريا أيضا.
حتى في حال الشروع بإعادة تشكيل الجيش السوري وإصلاحه، فإن غياب المعدات والتجهيزات الضرورية سيجعل الأمر يستغرق سنوات قبل أن يتمكن من استعادة قدرته على أداء مهامه الأساسية في حماية الحدود.
وتدعي إسرائيل أنها قلقة من احتمال تحول سوريا إلى دولة جهادية، ولذلك قامت باتخاذ إجراءات عسكرية تهدف إلى تقليل القدرات العسكرية لحكومة سورية جديدة افتراضية قد تكون معادية لها. وهذا في وقت لا يزال فيه المشهد السوري غامضا، ولا أحد يستطيع الجزم بمن سيسيطر على سوريا في المستقبل. وفي النهاية، لا يبدو أن هوية الحاكم في سوريا تهم إسرائيل بقدر ما يهمها حجم وقدرات الدولة السورية.
وبينما تعتمد معظم الدول في تقييم التهديدات على معادلة “القدرات مقابل النوايا”، فإن إسرائيل تعتمد مقاربة مختلفة. فهي تسعى دائما إلى القضاء على التهديدات المحتملة وتحدد هذه التهديدات بناء على القدرات فقط، مع افتراض دائم بوجود نوايا معادية. وهذا المنهج يجعل القدرات العامل الوحيد المهم في حسابات الأمن القومي الإسرائيلي. وهذه الرؤية تفسر عقيدة إسرائيل العسكرية القائمة على “التفوق النوعي الاستراتيجي”، حيث تعتبر إسرائيل أن ضمان أمنها يتطلب الحفاظ على تفوق عسكري كبير على أي مجموعات دول في منطقة الشرق الأوسط.
ولكي تزداد الأمور تعقيدا، فإن الإجراءات الإسرائيلية ضد الجيش السوري الضعيف تمنح أنقرة مزيدا من التبريرات للحفاظ على سيطرتها العسكرية على مساحات كبيرة من الأراضي السورية على حدودها الجنوبية. ورغم أن أنقرة أعلنت مرارا أنها لا تملك أي مطامح في الأراضي السورية، فإنها أوضحت أنها لن تتخلى عن سيطرتها العسكرية في المناطق التي تسيطر عليها إلا إذا تأكدت من قدرة الجيش السوري بالسيطرة على جانبه من الحدود. ومع الوضع الحالي للجيش السوري، يبدو من المستبعد أن يتمكن من ضبط الحدود المشتركة، التي تمتد على طول 900 كيلومتر مع تركيا، في أي وقت قريب.
ما يجري الآن يمكن اختصاره بأنه محاولة من إسرائيل لفرض رؤيتها الخاصة للأمن الإقليمي، تكون فيها هي القوة العسكرية المهيمنة، محاطة بدول مجزأة تعاني من أزمات داخلية وضعف في الحكم، ما يجعلها أكثر قابلية للخضوع للمصالح الإسرائيلية.
ومع سيطرة إسرائيل الفعلية على جنوب سوريا، واستمرار الوجود العسكري التركي في الشمال، ودعم الأكراد من أميركا في الشرق، يبدو من الصعب تصور عملية سياسية تؤدي إلى سوريا حرة ومستقلة وذات سيادة، وهي الهدف الذي دفع السوريون دماءهم وثرواتهم لتحقيقه.
————————
مستقبل إيران بعد انتكاساتها الكبرى وسقوط الأسد/ فريدريك سي هوف
عندما حاولت إيران وروسيا دعم الجيش السوري، وجدتا بزّات عسكرية فارغة. فسنوات من الخمول القتالي، والجريمة والفساد، أدت إلى استنزاف الجيش
يشكل رحيل بشار الأسد عن دمشق والنهاية الواضحة لنظامه انتكاسة كبرى للجمهورية الإسلامية الإيرانية. وإذا ما أضفنا إلى ذلك إضعاف إسرائيل للدفاعات الجوية الإيرانية، وهزيمة “حزب الله” في لبنان، والاستياء الذي يشعر به الإيرانيون منذ أمد بعيد من كفاءة مَن يتولون قيادتهم، والعودة الوشيكة لدونالد ترمب إلى البيت الأبيض، فمن المنطقي تماما أن يخشى القادة في طهران من أن يكون مصيرهم مماثلا لمصير عميلهم السوري.
أجرى كاتب هذا المقال، قبل أكثر من 13 عاما، حوارا مع بشار الأسد تركز على ما هو مطلوب من سوريا لاستعادة الأراضي التي خسرتها أمام إسرائيل في يونيو/حزيران 1967، وخاصة مرتفعات الجولان. وفي إطار الوساطة التي اكتسبت قوة في خريف عام 2010، لعقد اتفاقية سلام بين البلدين، أبدت إسرائيل استعدادها للتخلي عن الأراضي السورية المحتلة شريطة أن تنهي سوريا علاقاتها العسكرية مع إيران و”حزب الله” و”حماس”.
لقد أخبرني الأسد حينها- في 28 فبراير/شباط 2011- أنه سيفعل ما هو متوقع منه. وأكد لي أن إيران و”حزب الله” سوف يتنازلان عن مصالحهما مقابل مصالح سوريا، فتوافقان على إنهاء العلاقات العسكرية مع سوريا إذا توصلت سوريا إلى معاهدة سلام مع إسرائيل. ولقد ساورتني بعض الشكوك، ولكن الأسد أصر على أن إيران سوف تتنازل عن علاقتها العسكرية، وأن “حزب الله” سوف يصبح حزبا سياسيا لبنانيا حالما انضم لبنان إلى سوريا في صنع السلام مع إسرائيل. والواقع أن الأسد أكد لي أيضا أن “مزارع شبعا” منطقة سورية، مقوضا بذلك الأساس المنطقي لـ”المقاومة اللبنانية”.
وعندما أبلغت رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بعد يومين بجوهر المحادثة، أعطى الضوء الأخضر للتحرك بأقصى سرعة نحو التوصل إلى معاهدة. ولكن في منتصف مارس/آذار، ضغط الأسد على المكابح بأن سمح باستخدام القوة المميتة ضد المتظاهرين السوريين السلميين، الذين احتجوا على عنف الشرطة والاعتقالات غير القانونية. وسيؤدي عنف الأسد في النهاية إلى خلق ظروف ستدمر سوريا بالكامل، وتتركها حطاما محترقا تنهبه العائلة الحاكمة وحاشيتها. ومع اختياره العنف بدلا من الدبلوماسية المحلية والمصالحة، تنازل الأسد أيضا عن الجولان لإسرائيل وأخضع سوريا لإيران و”حزب الله”.
أدت إيران دورا فعالا في إنقاذ الأسد من ثورة بدأت سلمية، ولكنها تحولت إلى مسلحة بسبب عنف النظام وإطلاق الأسد سراح المجرمين والمتطرفين من سجونه. وفي عام 2013 أمرت إيران “حزب الله” بالتدخل الحاسم لصالح قوات النظام في القصير. وفي عام 2015 أقنعت إيران روسيا بالتدخل لصالح الأسد بقواتها الجوية. وبمرور الوقت شكلت إيران ميليشيات مقاتلة أجنبية معظمهم من الشيعة تحت قيادة “الحرس الثوري” الإيراني كرديف لجيش الأسد في سوريا.
ولكن إيران ومعها روسيا، أثبتتا عجزهما عن إنقاذ الأسد، عندما شنت “هيئة تحرير الشام” هجومها في 27 نوفمبر/تشرين الثاني من هذا العام. وأعتقد أن “هيئة تحرير الشام”، التي اغتنمت هزيمة “حزب الله” في لبنان وخسارة إيران لنظام دفاعها الجوي الروسي (غير الفعال) بفعل ضربات إسرائيل، قررت توسيع حكمها المحلي في شمال غربي سوريا ليمتد إلى حلب. وقد تمكنت من ذلك دون جهد تقريبا، ولاحظتْ أمرا مفاجئا أثناء استيلائها على حلب: قوات نظام الأسد تتلاشى ببساطة، وهي ظاهرة تكررت في كل من حماة وحمص. وأصبحت بوابة دمشق مفتوحة أمامها على مصراعيها، ولا أحد يسد عليها الطريق.
بطبيعة الحال، أرادت طهران وموسكو إنقاذ عميلهما. فسوريا هي حلقة الوصل البرية الحيوية التي تربط إيران مع “حزب الله”، درة تاج طموحاتها بالهيمنة. وتعلم طهران أن لا أحد سوى الأسد يمكنه أن يخضع سوريا لها ولوكيلها اللبناني. وكانت تأمل في إعادة بناء هذا الوكيل بعد هزيمته المدمرة. أما بالنسبة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فسوريا أكثر من مجرد قاعدة عسكرية على البحر الأبيض المتوسط. فهي “الدليل” الذي يقدمه للشعب الروسي على عودة روسيا المفترضة إلى مقام القوة العظمى. فقد “أنقذت” موسكو الأسد على الرغم من مكائد الرئيس باراك أوباما المزعومة لتغيير النظام في سوريا.
ولكن عندما حاولت إيران وروسيا دعم الجيش السوري، وجدتا أيديهما تمسكان ببزّات عسكرية فارغة. فسنوات من الخمول القتالي، التي تملؤها الجريمة والفساد والسرقة وإنتاج الأمفيتامينات، أدت إلى استنزاف الجيش السوري وهدر معنوياته، وجعلته غير صالح للقتال. وكانت روسيا تعرف أن القوة الجوية التكتيكية لن تكفي لوقف المتمردين. وعلاوة على ذلك، أمضى الطيارون الروس سنوات في سوريا في استهداف المدنيين العزل، وتطوير تخصص مميت في تدمير المرافق الطبية. كما تعلم إيران أن ميليشياتها المساعدة لن تكون كافية. وشوهدت قوات “حزب الله” وهي تغادر سوريا عبر القصير، هذا المكان الذي حققت فيه انتصارها على المتمردين السوريين عام 2013.
وأفضل سيناريو من الناحية النظرية هو أن يسعى من يتولون السلطة في سوريا إلى إقامة نظام حكم يعتمد على الوطنية السورية والمواطنة السورية. لا شك أن الأقليات مذعورة مما قد يأتي بعد ذلك. غير أن جعل هزيمة إيران في سوريا هزيمة دائمة، تتطلب شيئا يقترب من الوحدة الوطنية، ولن تكون الوحدة قابلة للتحقيق إذا اتُبعت أجندات طائفية ومورست انتهاكات لحقوق الإنسان. ونعرف سجل “هيئة تحرير الشام” في محافظة إدلب في هذا الصدد. وقد تمنح واشنطن وأنقرة وغيرهما من الدول “هيئة تحرير الشام” قبولا مشروطا بتعديل سلوكها في الاتجاهات الصحيحة. إلا أن طهران تأمل وتصلي أن تعاود جذور تنظيم “القاعدة” بروزها إلى واجهة “هيئة تحرير الشام”، وهو ما سيؤدي في النهاية إلى عودة نظام صديق للهيمنة الإقليمية الإيرانية في سوريا.
اعتمدت طهران طيلة عقود على الخوف الأميركي من اندلاع حرب إقليمية لتحقيق أهدافها بـ”الضرب بما يفوق حجمها”، إذا استعرنا هذا التعبير من رياضة الملاكمة. ففي عام 1983، دبرت طهران هجمات على السفارة الأميركية في بيروت وعلى مقر قوات حفظ السلام الأميركية في لبنان، أسفرت عن مقتل 241 أميركيا في لبنان. وكان هذا الهجوم في لبنان يعادل الهجوم على بيرل هاربور عام 1941. وحتى يومنا هذا، لا يكاد زعماء أيران يصدقون أنهم أفلتوا من العقاب. ومنذ ذلك الحين، باستثناءات نادرة، افترضوا في طهران أن تجنب واشنطن للحرب مع إيران، يأتي على رأس أولوياتها.
لن تسعى إدارة ترمب القادمة إلى إيجاد ذريعة كي تشن حربا على إيران. بل ستكون منفتحة على التوصل إلى اتفاق مع طهران، يرفع جميع العقوبات الاقتصادية الأميركية عن إيران في مقابل اتفاق نووي قوي طويل الأمد وقابل للتحقق، مع إجراءات إيرانية محددة تشير إلى نهاية مغامرات الهيمنة التي اتبعتها حيال العالم العربي. ولكن ينبغي على طهران أن تتخلى عن كل وهم، وإلا فسوف يعود ترمب إلى سياسته القائمة على ممارسة “الضغط الأقصى”، كما لن تتراجع إدارة ترمب عن اتخاذ تدابير عسكرية إذا استدعت طهران ذلك، بتحركها نحو التسلح النووي، أو مهاجمة حلفاء الولايات المتحدة وشركائها في المنطقة، أو مهاجمة القوات الأميركية في العراق أو سوريا.
إن الوحشية والفساد وانعدام الكفاءة، كلها سمات الحكم في إيران، كما كانت سمات حكم الأسد في سوريا. وهذه السمات هي التي تفسر لماذا يشكل الشعب الإيراني أكبر نقاط الضعف في النظام الديني في إيران. وقد أثبت بشار الأسد أنه مزيج من عدم الاهتمام بالإصلاح الجاد وعدم القدرة عليه. ويشتبه المرء في أن الملالي وأعوانهم غير مهتمين وغير قادرين مثله. وربما يختبرون ما اختبره عميلهم السوري: انهيار مباغت لنظام فاسد.
بالنسبة لطهران، فإن خسارة سوريا ليست سوى آخر حلقة من سلسلة الأخبار السيئة غير المتوقعة. فقبل بضعة أشهر فقط بدا كأنما تشجيعها لـ”حماس” على “القيام بشيء كبير” في إسرائيل، هو ضرب من العبقرية الاستراتيجية، بعد أن بدا أنها دمرت احتمال تطبيع العلاقات بين إسرائيل والخليج. أما الآن فكل شيء أمسى رمادا. وكل ما يمكنها الاعتماد عليه الآن، لتعويض ثروتها وموقعها، هو أن يخطئ لاعبون متباينون مثل نتنياهو، والجولاني من “تحرير الشام”، وترمب، في لعب الأوراق التي في أيديهم. فمصير طهران بات في أيدي هؤلاء حقا. ولا شك أن هذا شعور غير مريح لمن اعتاد امتلاك زمام المبادرة.
——————-
احتدام الصراع على سوريا… بعد الأسد
سقطت عائلة الأسد بعد 54 سنة على تسلم حافظ–الأب، وبشار-الابن
سقط بشار الأسد. انتهى نظام عائلة الأسد. التاريخ يثبت أحكامه. الشعب يقهر ولا يُقهر. الوحشية لا توقف مسار التاريخ. السقوط، هو النهاية الحتمية لأي ديكتاتور.
طوت سوريا 54 سنة من تاريخها. بعد 14 سنة من الثبات، يفتح السوريون صفحة جديدة في تاريخهم. بعد 11 يوما من الجولة الأخيرة، فر بشار الأسد إلى موسكو ودخل رئيس “هيئة تحرير الشام” أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) إلى دمشق. تجول الثوار في قصور الرئاسة وأنفاقها السرية، واستنشق السجناء الحرية وعانقوا الشمس، وبات الأسد وعائلته في المنفى في انتظار القدر والملاحقة.
ويمكن الحديث عن ثلاثة أسباب لسقوط الأسد:
أولا- الجيش السوري: تبين بوضوح في “معركة حلب” أن الجيش السوري غير قادر ولا يريد القتال. صحيح أن الفصائل أعدت لمعركة “ردع العدوان” في نهاية نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، لكن حجم الانهيارات في خطوط الجيش غربي حلب، كان مدهشا. كان يسقط خطا وراء آخر، وقطعة عسكرية وراء أخرى، ثم مدينة بعد أخرى.
ثانيا- المحور الإيراني: تعرضت إيران ووكلاؤها في السنوات الأخيرة لضربات كثيرة، تحديدا في السنة الأخيرة، أُضعفت إيران و”حزب الله” أمام الضربات الإسرائيلية في سوريا ولبنان. فكان هروب بشار الأسد امتدادا لاغتيال حسن نصرالله كتعبير عن الضربات التي تعرض لها “محور الممانعة”.
في 2012 وصل قائد “فيلق القدس” قاسم سليماني إلى سوريا، مع السلاح والميليشيات بل إنه قاد بعض المعارك بنفسه. في 2024، لم يأت إسماعيل قاآني إلى ساحات الوغى. فالمسرح السوري تغير وبات تحت السيطرة الجوية لضربات الانتقام الإسرائيلية لـ”7 أكتوبر” 2023.
ثالثا- أولويات روسيا: منذ تدخله في أوكرانيا في 2022، باتت أولوية الرئيس فلاديمير بوتين تحصين “الحديقة الخلفية” التي تحولت قضية داخلية وشخصية لـ”القيصر”.
في 2015، زار سليماني بوتين واتفقا على معادلة: روسيا توفر الغطاء الجوي وإيران توفر الميليشيات لدعم الأسد. هذا ما حصل، خرج الأسد من حافة الانهيار واستعاد 63 في المئة من سوريا بعدما كان يسيطر على 10 في المئة. كما حصل بوتين على قاعدتين عسكريتين، جوية في اللاذقية وبحرية في طرطوس.
في 2024، لم يجد “المرشد” علي خامنئي “جنديه” قاسم سليماني كي يرسل الميليشيات الإيرانية. بوتين لم يجد “جنديه” سيرغي شويغو كي يرسل الطائرات. خامنئي مشغول بتضميد جراحه الداخلية والإقليمية. بوتين مشغول بتضميد جراحه الروسية والأوكرانية.
انتهت “جمهورية الكبتاغون”. الآن، بإمكان السوريين التفرغ إلى طرح الأسئلة الكبرى ومعالجة التحديات الكبيرة وما أكثرها، خصوصا تلك التي تركتها المنظومة.
ما طبيعة العلاقة مع إسرائيل التي توغلت إلى أطراف دمشق؟ كيف ستتصرف إيران التي خسرت بفرار الأسد؟ ماذا عن تركيا التي عززت نفوذها في سوريا؟ ماذا عن الفصائل المقاتلة في الجنوب والشمال؟ ماذا عن الأكراد الذين يتلقون دعما من أميركا وتريد تركيا معاقبتهم؟
———————-
محور دمشق.. هل تكون سوريا محطة جيوسياسية لإقليم يُعاد رسم نفوذه؟/ عبد الناصر القادري
2025.01.02
في اجتماع دول أستانا الذي أجري في قطر على هامش منتدى الدوحة في 7 كانون الأول/ ديسمبر 2024، قبل ساعات من سقوط النظام، قيل في الكواليس، إن روسيا لن تدعم بشار الأسد جوياً ولا عسكرياً في دمشق والساحل، بعد انتهاء الاجتماع عقد سيرغي لافروف ندوة عامة بحضور آلاف الصحفيين والسياسيين، قال فيها إن موسكو ستدعم جيش النظام بالطائرات في كلام يعاكس تماماً ما جرى في الاجتماع المغلق، بعد قرابة 12 ساعة، سقط النظام نهائياً، وهرب بشار الأسد إلى روسيا.
تغير وجه دمشق إذاً، وباتت محطة سياسية مهمة بعد تهميش طويل، وسيطرة روسية إيرانية على القرار السياسي النهائي مع مناورات من قبل بشار الأسد أبقته في السلطة سنوات أخرى، إلا أنه وقع من حيث ظن أنه سينجو.
وخلال الـ 14 سنة الماضية، فقدت دمشق الواقعة تحت سيطرة النظام السوري مختلف أوراقها السياسية، ولم يعد لدى النظام القدرة على الولوج في الملفات السياسية داخلياً، ليكون له مساحة التدخل بالشؤون الإقليمية، معتمداً سياسة التخريب للضغط على الدول العربية من خلال شحنات الكبتاغون وتهريب السلاح وتبادل المعلومات الاستخبارية زاعماً أنه يحاول التملص من النفوذ الإيراني إلى النفوذ العربي وهو مالم يحصل.
وبعد أقل من أسبوع، بدأت دمشق، بإداراتها الانتقالية الجديدة ترسم معالم محور جديد (محور دمشق)، كسر المحور الإيراني، وأعاد النفوذ الروسي إلى حجمه الطبيعي (مع عدم إغفال ملف أوكرانيا والتوافقات الدولية)، رافعاً شعار الاستقرار بمنطقة كانت تعج بالصراعات لأكثر من 14 عاماً من دون توقف تقريباً، ضمن إعادة ترتيبات الشرق الأوسط الجديد.
ومع زيارة رئيس الاستخبارات التركية إبراهيم كالن إلى دمشق في (12 كانون الأول/ ديسمبر 2024)، وصلاتهُ الرمزية في الجامع الأموي، بدأت تركيا تعيد تعريف الوضع الإقليمي من جديد، في منافسة بدت واضحة مع إيران التي لم يبق لها أي قوات أو ميليشيات أو نفوذ يذكر في سوريا، ثم ما يمكن أن يكون تحريك لخلايا نائمة قد تحدث بلبلة من دون أي تغيير يعيد عقارب الساعة إلى الوراء.
سنعيد في هذا التقرير استقراء زيارة أهم الوفود وتأثيرها على الوضع السوري وأهمية دمشق كمحور في الخارطة الجيوسياسية بالمنطقة:
اجتماعات العقبة.. عقبة من دون مآلات
ومن خلال استعراض الوضع السياسي لدمشق اليوم، بدت العاصمة السورية، محطة سياسية أساسية، ونقطة جيوسياسية لا يمكن المرور إلى الإقليم من دونها، كسرت على أسوارها كل الجهد الإيراني ضمن ما كان يسمى “محور المقاومة والممانعة”، وعلى ذلك بدى الحراك الدبلوماسي المكثف والرفيع، بما يحمله من اعتراف مباشر بالإدارة السياسية الجديدة في دمشق، ولتقييم الأوضاع الراهنة بعد سقوط النظام، وما يتعلق بالمصالح المشتركة في سوريا والمنطقة.
وجاءت اجتماعات العقبة في الأردن، بمنزلة محاولة لجعل دمشق محطة ثانوية في مرحلة ما بعد سقوط النظام، خصوصاً أن الأردن سبق أن قادت مبادرات عدة للتطبيع مع بشار الأسد وفق الشروط العربية، وقادت لجنة الاتصال الوزارية العربية للتفاهم معه، إلا أن النظام لم يستطع الوفاء بأي من شروطه ولم تحقق اللجنة أي من أسباب تأسيسها.
وشارك في الاجتماعات أعضاء لجنة الاتصال الوزارية العربية التي تضم الأردن والسعودية والعراق ولبنان ومصر، وأمين عام جامعة الدول العربية، بحضور وزراء خارجية قطر والإمارات والبحرين، وتركيا.
وشارك أيضاً في الاجتماعات دول أعضاء في المجموعة المصغرة حول سوريا: ألمانيا، وفرنسا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة، بالإضافة إلى الممثلة العليا للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، والمبعوث الأممي لسوريا.
وبدا البيان الختامي مناورة سياسية في الهواء، خصوصاً أن النظام السوري قد سقط فعلياً ورئيسه هرب إلى خارج البلاد، وارتكب جريمة الخيانة العظمى وفق دستور عام 2012 الذي فصل على مقاس بشار الأسد.
وكان ذلك جلياً من خلال البيان الداعي إلى بحث سبل دعم عملية سياسية جامعة بقيادة سورية “لإنجاز عملية انتقالية وفق قرار مجلس الأمن 2254، تلبي طموحات الشعب السوري الشقيق، وتضمن إعادة بناء مؤسسات الدولة، وتحفظ وحدة سوريا وسلامتها الإقليمية وسيادتها وأمنها واستقرارها وحقوق جميع مواطنيها”.
وقالت مصادر خاصة لموقع تلفزيون سوريا، إن بيان العقبة لم يرق للإدارة السياسية الجديدة معتبرة أن عملية ردع العدوان التي أدت إلى سقوط النظام في 11 يوماً، قد حققت مضمون القرار 2254، وتعمل حالياً على صياغة شكل الحكم الجديد في البلاد من خلال مؤتمر وطني سيؤدي إلى كتابة دستور جديد وإجراء انتخابات وفق جدول زمني يقرر لاحقاً.
وأضافت أن المصادر أن دمشق اليوم تنظر لجميع الدول العربية بنظرة الود وتمد يد التعاون لبناء علاقات قائمة على الاعتراف والمصالح المشتركة والاحترام المتبادل من دون أي تدخل بشؤونها الآن أو لاحقاً”.
وانطلاقاً من ذلك، بدت دمشق في شكلها الجديد، الذي لا شك أنها بحاجة للاعتراف الدولي، وتقدم نفسها في سياق الدولة التي تحترم الاتفاقيات والمواثيق الدولية بما في ذلك “ميثاق الأمم المتحدة، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، واتفاقية حقوق الطفل، والنظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية”.
وفي سياق ذلك، زار المبعوث الأممي غير بيدرسن دمشق في 16 ديسمبر 2024 لمناقشة العملية السياسية والانتقال الديمقراطي، ودعم قرار مجلس الأمن 2254 بعد تعديله، ضمن ما تم الإعلان عنه، وزار سجن صيدنايا وتعرض لمواقف محرجة من قبل بعض أهالي المعتقلين الذين فضلوا عدم استقباله.
وتبع ذلك زيارة وفد فرنسي بقيادة جان فرانسوا غيوم، وقد أكدت فرنسا دعمها للانتقال السياسي ورفعت علمها على سفارتها بدمشق. كما زار دبلوماسيون ألمان دمشق في 17 ديسمبر/ كانون الأول 2024، لتقييم الوضع وإعادة العلاقات.
ولعل الزيارة الأبرز كانت بتاريخ 20 ديسمبر/ كانون الأول 2024، التي أجرتها مساعدة وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى باربرا ليف، ورغم الغموض الذي غلف هذه الزيارة بخصوص الموضوعات التي تم التطرق إليها مع أول وفد أميركي من نوعه يزور سوريا منذ إغلاق السفارة الأميركية بدمشق عام 2012.
ومن المرجح أن أبرز الملفات التي تم نقاشها بين الجانبين كان ملف رفع هيئة تحرير الشام وقائدها من قوائم الإرهاب، وملف الاعتراف الأميركي بالإدارة الانتقالية الجديدة، ورفع العقوبات الأميركية عن سوريا، وملف مكافحة “داعش” ومآلات الانتقال الديمقراطي.
وعقد قائد الإدارة الجديدة أحمد الشرع، “لقاء إيجابياً” مع وفد دبلوماسي أميركي في دمشق، حسب ما نقلت “فرانس برس” عن ما وصفته بمصدر في السلطة الجديدة.
وقال المصدر من دون الكشف عن هويته، بشأن اللقاء: “نعم صحيح، جرى اللقاء وكان إيجابياً، وستصدر عنه نتائج إيجابية إن شاء الله”.
وكان من المفترض أن تعقد البعثة الأميركية الموجودة في دمشق مؤتمراً صحفياً، إلا أن المتحدثة باسم الخارجية الأميركية، قالت إن البعثة ألغت مؤتمرها لأسباب أمنية.
حملت الزيارة رسالة دعم دولي للإدارة الجديدة، ما عزز ثقة الأطراف الإقليمية بالتعامل مع دمشق، وبالفعل بدأت بعدها الوفود تتزايد باتجاه دمشق، حيث كان الجميع يترقب تحول السياسة الأميركية تجاه سوريا، خصوصاً مع تراجع النفوذ الإيراني والروسي لصالح التركي والأميركي.
كانت أنقرة سباقة بإعادة افتتاح سفارتها بدمشق منذ الأيام الأولى لإعلان سقوط النظام وعينت قائماً بالأعمال، ثم زار دمشق وزير الخارجية التركي هاكان فيدان في 22 كانون الأول/ديسمبر لتأكيد دعم تركيا للإدارة الجديدة وبحث التعاون الأمني والسياسي.
كانت زيارة فيدان الزيارة الأولى التي ظهر بها علم الثورة السورية ممثلاً رسمياً للبلاد قبالة العلم التركي، وتخلل الزيارة رسائل سياسية محلية وإقليمية ودولية عدة، بدأت باللقاء الحار ولم تنتهِ بشرب الشاي في جبل قاسيون الذي يطل على دمشق.
لتركيا دور مهم في الملف السوري، خصوصاً مع وجود 3 ملايين سوري في تركيا، بينهم أكثر من 240 ألف حامل للجنسية، أكبر حدود برية، ومصالح مشتركة كبرى، أهمها الملف الأمني بما يمثله من تحديات بالنسبة لأنقرة، خصوصاً بما يتعلق بقوات سوريا الديمقراطية “قسد” والمشروع التي تطرحه، وكيف يمكن للحكومة الانتقالية بدمشق أن تناور لتعيد السيطرة على محافظتي الحسكة والرقة وأجزاء من ريف دير الزور من دون أن تخوض معارك دامية عبر حوار يناسب المرحلة مع وجود القواعد الأميركية وإمكانية التخلي عن دعم “قسد” بعد مجيء دونالد ترمب إلى السلطة في 20 كانون الثاني الجاري.
والدور الذي تلعبه إيران من خلال منعها لحزب العمال الكردستاني من مغادرة سوريا أو إجراء أي اتفاق قد يضفي لاندماج قوات سوريا الديمقراطية ضمن الجيش السوري الجديد الذي يتبع كلياً لسلطة وزارة الدفاع.
لا تختلف نظرة قطر كثيراً عن تركيا بما يخص الملف السوري، فهي أيضاً أبقت على اعترافها بالثورة السورية، وكانت تسمح برفع علمها على السفارة السورية بالدوحة، ومانعت التطبيع مع النظام السوري لآخر يوم، وكانت تنتقد المجازر التي يرتكبها بحق السوريين في أهم المنابر الدولية.
وزار وزير الدولة للشؤون الخارجية القطري محمد بن عبد العزيز بن صالح الخليفي دمشق، في 23 كانون الأول/ ديسمبر 2024، وهي أول زيارة رسمية لمسؤول قطري منذ إغلاق السفارة عام 2011. وتمثل هذه الزيارة نقطة تحول في العلاقات بين الطرفين، ولا سيما أن قطر أبدت استعدادها لدعم الشعب السوري، خصوصاً في مشاريع إعادة الإعمار وتأهيل البنية التحتية، مثل مطار دمشق الدولي.
وكانت قطر الدولة الوحيدة التي رفضت التطبيع مع نظام بشار الأسد، واستمرت في دعم الشعب السوري حتى آخر لحظة. وأكدت الزيارة حضور قطر كلاعب أساسي في دعم الاستقرار في سوريا.
وكانت قطر الثانية بعد تركيا، بإعادة افتتاح سفارتها بدمشق، بعد 13 عاماً من إغلاقها، ورفعت العلم فوق مبنى السفارة، في اعتراف ضمني بالحكم الجديد.
كان السبب الأبرز لإعادة العلاقات بين السعودية والنظام السوري، هو إعادة العلاقات بين المملكة وإيران برعاية صينية، ما دفع الرياض لإعادة التطبيع مع النظام وفق شروط محددة تقودها لجنة الاتصال العربية، لإعادة تعويم النظام ودعمه مقابل التخلي عن النفوذ الإيراني، إلا أن النظام انهار اقتصادياً بشكل أكبر بعد ذلك ولم يتمكن من تنفيذ أي شرط سعودي أو عربي.
مع انطلاق معركة ردع العدوان في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، كانت الدول العربية بعمومها متريثة بما في ذلك السعودية. شاركت الرياض في الاجتماع الذي عقدته الدوحة بين دول أستانا (تركيا وإيران وروسيا) وعدة دول عربية هي (السعودية والعراق ومصر والأردن وقطر) بالإضافة للمبعوث الأممي إلى سوريا، عشية سقوط النظام، وهنا كانت رؤى مختلفة ومتباينة، إلا أنها وفق المصادر بحثت ملف سوريا ما بعد إسقاط النظام.
أرسلت السعودية وفداً برئاسة مستشار في الديوان الملكي السعودي في 22 كانون الأول/ ديسمبر والتقى أحمد الشرع، وبحث سبل تعزيز العلاقات بين الطرفين، وفتح مجالات للتعاون الاقتصادي، وضبط تهريب المخدرات، وتعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة.
ترى الإدارة الجديدة أهمية كبرى بمد علاقات متينة مع الرياض، خصوصاً أنها أقوى دولة عربية حالياً، ولديها صلاتها الخارجية خصوصاً مع إدارة الرئيس دونالد ترمب، وتعمل على مشروع اقتصادي تنموي هائل في المملكة ضمن رؤية 2023، وسيكون لها دور بارز في إعادة الإعمار.
وعند الحديث عن أبرز مقابلة إعلامية أجراها أحمد الشرع مع قناة عربية، فقد اختار قناة العربية السعودية، أولاً هي من أبرز القنوات العربية بعد قناة الجزيرة، وللمقابلة مدلولات سياسية شديدة الأهمية بدت في طائرة المساعدات التي أرسلتها الرياض في اليوم التالي، ثم الدعوة الرسمية لوزير الخارجية لزيارة المملكة.
وبالفعل وصل وفد سوري رسمي في الحكومة الجديدة إلى الرياض كأول زيارة خارجية رسمية بالنسبة للإدارة الجديدة ضمت أيضاً كلاً من وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني ورئيس جهاز الاستخبارات أنس خطاب، ووزير الدفاع مرهف أبو قصرة.
وتعيد هذه الزيارة تعريف الوجهة السورية الجديدة، بأنها ضمن العمق العربي مبتعدة عن إيران وسلوكياتها في المنطقة، ولم تكون سوريا بعد اليوم محطة لزعزعة أمن الإقليم والمنطقة العربية ضمن الإطار الذي كانت تعمل عليه إيران وما زالت تمارسه من خلال العراق واليمن.
————————
عشرةُ مفهوماتٍ أساسيَّةٌ للمرحلة/ مضر رياض الدبس
2025.01.03
المرحلة السورية الآن مرحلةُ تأسيسٍ على المستويات كلها، والتأسيس في توصيفه أعمق من الانتقال وأدَّق، وقد يكون من أكثر الأشياء أهميةً تأسيسُ الاجتماع السياسي السوري؛ فالسوريون يمتلكون اليوم فرصةً تاريخيةً رائعةً، مدهشةً ومباركةً بحق، لتأسيس الدولة السورية على أسسٍ تشببهم، ليمتلكوا دولَتَهم لأول مرةٍ منذ عام 1963، ويؤسّسوا القانون، وطرائق الحكم، والأهم أن يؤسسوا سرديتهم الوطنية الجديدة السابقة على الاجتماع السياسي، والناظمة له بصورة تجعل الدولةَ صورةَ المجتمع السوري كله، وترجمته إلى السياسة ومجال الوحدة.
المرحلةُ إذًا تأسيسية وليست انتقالية، وكل تأسيسٍ بالضرورة يتداخل في معناه مع الجديد، يعني أنَّه يتضمن بالضرورة ابتكارَ الجديد وإنتاجَه وإعادة إنتاجِهِ، بل التفنن في إتقان إنتاجه.
يطرح هذا النص أن هذا الإنتاج يبدأ من إعادة مقاربة بعض مفهومات الاجتماع السياسي السوري المهمَّة والمتداولة بكثرة، بصورةٍ أكثرَ ملاءمةٍ للمرحلة الحالية التي تتسم بالحرية، والبناء، والوحدة السياسية.
نقترح في الآتي إعادة مقاربة مجموعة من المفهومات، بهدف إثارة النقاش العام لتطوير هذه المقاربات بوصفها مقدمات ضرورية لإنتاج لغة سياسية ملائمة للموضوع، وملائمة للطموح، ومناخ الحرية القائم..
وتستند هذه المقاربة الجديدة إلى منهجيةٍ تَشتقُ نفسها من الواقع الراهن القائم؛ فتشتق المعنى في ضوء هذا الواقع، سعياً إلى تحقيق أقصى فائدة ممكنه منه، ومن ثم التأثير فيه، والتأثُّر فيه، ومن ثم الانطلاق منه إلى المستقبل.
واستناداً إلى ذلك نقترح في الآتي إعادة مقاربة مجموعة من المفهومات، بهدف إثارة النقاش العام لتطوير هذه المقاربات بوصفها مقدمات ضرورية لإنتاج لغة سياسية ملائمة للموضوع، وملائمة للطموح، ومناخ الحرية القائم:
1-مفهوم “السُنَّة” في سوريا: المفهوم السياسي لكلمة “السُنَّة” لا يعني طائفة، ومع أنهم الأكثرية الدينية، إلا أنهم لم يتحوّلوا إلى طائفة في أي مرحلة من تاريخ سوريا، ولم يسلكوا سلوكَ الطائفة بالعموم؛ بل كانوا دائماً حاضنةَ مشروعٍ وطني.
هكذا احتضن السُنَّةُ مشروعَ التحرر الوطني من الاستعمار الفرنسي، وتحت هذا المعنى بالعمق تحالف، مثلًا، عبد الرحمن الشهبندر مع سلطان الأطرش، وأدى ذلك إلى تنصيب الأخير قائداً عاماً للثورة السورية الكبرى.
لا يمكن اليوم تطييف السنة، كما لم يكن ذلك ممكناً سابقاً بسبب سلوك ومقاربات السنة الوطنية بالمجمل وبالعموم، واعتماد هذا المفهوم مهمُ جداً، وواقعي جداً، في هذه المرحلة ومستقبلًا.
2-مفهوم “الأقليات” في سوريا: بطبيعة الحال، إذا اتفقنا أن الأكثرية الدينية في سوريا، لم تتحول إلى طائفة، وتتصرف في المجال العمومي بوصفها حاضنة مشروع وطني فإن مفهوم الأقليات الدينية بالضرورة ينتهي سياسياً.
هذا يعني أن معنى كلمة “الأقليات” بوصفها كلمة تدل على مجموعاتٍ دينية، أو طائفية، سقطت مع سقوط النظام، لا يوجد في سوريا “أقليات”، والشعب السوري واحد، وإن كان لا بد من أقليات فهي بطبيعة الحال ستحيل على مجموعة من السوريين الذين يشتركون في مقارباتٍ وفهمٍ سياسي لا يلقى إجماعاً من الأكثرية الباقية؛ كأن نقول إنّ أنصار الفيدرالية على سبيل المثال أقلية في سوريا، أو إن أنصار اقتصاد السوق المفتوح أقلية، بطبيعة الحال هذا على سبيل المثال، وليس على سبيل الإطلاق؛ فقد لا يكونوا أقلية لا ندري.
الانغلاق على الذات الذي يسببه رسوخ مفهوم الأقليات بصورته الحالية، خطيرٌ جداً، وأيضاً المفهومات التي تتفرع منه مثل “حماية الأقليات”، و”طمأنة الأقليات” وما إلى ذلك، أيضاً خطيرةٌ جدًا، وغير منطقية، وتهدم أكثر مما تبني، وتفصل أكثر مما توصل، وقد تؤدي إلى المحاصصة وطغيان الشكل على المضمون، ومن ثم على مخرجات العمل السياسي السوري بكليته.
3- مفهوم الحوار الوطني: الحوار يكون عادةً بين أطراف، والشعب السوري واحد الآن، والواحد لا يتحاور، بل يُؤسس، هذا يعني أن ننتقل من مفهوم الحوار إلى مفهوم التأسيس المشترك، وإلى مفهوم تدبير الاختلاف والاعتزاز به بوصفه ضامناً من ضمانات الإبداع إذا ترافق مع منهج يُلائم التأسيس واجتراح النموذج التاريخي الملائم لنا بوصفنا جماعة وطنية واحدة لها سرديتها الوطنية التي أبدعتها بيدها.
وهذا الموضوع بطبيعة الحال يحتاج إلى مساحةٍ أوسع من المساحة المتاحة لهذا النص، ولكن الانتقال من مؤتمر الحوار الوطني، إلى مؤتمر التأسيس الوطني مثلًا يغير كثيراً من واقع الحال نحو الأفضل ونحو ما هو أكثر منطقيةً ونجاعةً.
4- مفهوم المكونات: المكونات كلمة كارثية إذا قلنا إن الشعب السوري يتكوَّن من طوائف وأديان أو من عشائر أو إثنيات، هذه التوصيفات الأخيرة قد تكون مكونات المجتمع السوري، ولكنها إطلاقاً ليست مكونات الشعب السوري، والفرق كبير بين المجتمع، وهو مجال الاختلاف ومرتع صراعات المجتمع المدني ومادته، وبين الشعب بوصفه مجال الوحدة، وبوصفه مفهوماً سياسياً أدرك السوريون معناه جيداً عندما قالوا ولا يزالون يقولون: “الشعب السوري واحد”.
يتكوَّن الشعب من أفرادٍ سوريين يسعون اليوم إلى تأسيس دولتهم، وما أن ينجزوا هذا التأسيس حتى يستحقوا بجدارة لقب “مواطنين”، فتصير مكونات الشعب السوري تعني كلمة واحدة فحسب: مواطنين أحرار.
5- مفهوم المدينة السورية: المدينة السورية لها ثقافتها، كلُّ مدينة لها ثقافتها، وكلها مجتمعةً تعطي معنى لكلمة الثقافة السورية، هذا على مستوى الفلكلور، والعادات، والتقاليد، والعلاقات الاجتماعية، والذاكرة المشتركة، والانتماء للمدينة، وطبيعة المجتمع، وإلى ما هنالك.
ولا يمكن حُكم سوريا ما لم يتم تعزيز ثقافة كل مدينة ومن ثم الاعتزاز بها لتأخذ مكانتها في الثقافة السورية الوطنية، لذلك ينبغي الحذر من صدام السياسية مع ثقافة المدن السورية الكبرى، ونخص بالذكر هنا حلب ودمشق.
هذا عن مفهوم المدينة ثقافياً، أما المدينة سياسياً فهي بالضرورة تعني الدولة، وتتطابق معها دلالةً ومفهومًا.
وبالمقابل أي انغلاق مناطقي في أي مدينة، وعزلها عن الثقافة السورية بالمجمل يعني ضرباً من ضروب البعد عن الوطنية السورية، والوجدان السوري العام إن صح التعبير، فثقافة أي مدينة سورية لا يمكن أن تعرف نفسها إلا بوصفها جزءاً من ثقافةٍ كبرى تسمى الثقافة السورية، والعكس أيضاً: تظل الثقافة السورية الكبرى منقوصةً ما لم تتزوَّد من ثقافات المدن السورية كلها من دون أي استثناء.
6- مفهوم السيادة: تعني السيادة بالدرجة الأولى، سيادة المواطن في بلده، وصون كرامته، وهذا يعني أن انتهاك حرية أي فردٍ سوري، أو إهانته، أو الانتقاص من كرامته، هو بالضرورة انتقاص من السيادة الوطنية.
7- مفهوم العدالة: العدالة مفهوم محوري، وناجز، والعدالة الانتقالية صارت مفهوماً غيرَ كافٍ، المطلوب هو العدالة الكاملة غير المنقوصة، وهذا ليس من أجل الماضي، بل إنه من أجل المستقبل وضمان ألا يتكرر الإجرام أبداً.
8- مفهوم الثقة: الثقة في السياسة لا يتم بناؤها مثل الثقة في العلاقات الاجتماعية بين البشر، ففي السياسية لا نثق بأحدٍ أو بجهةٍ لأنهم أصدقاء، أو لأنهم أقرباء، أو لأنهم يحبوننا، وإلى ما هنالك.
في السياسة يثق البشر بمن لديه خطٌ واضحٌ ورصين، يعني يستطيع الناس أن يتوقعوا سلوكه في سيناريو معين من دون مفاجآت؛ فبناء خط سياسي واضح المعالم هو ما يجعل الأفراد والجماعات أهلًا للثقة.
9- مفهوم الاقتصاد: الاقتصاد في سوريا ترجمةٌ للاجتماع السياسي، ولا يمكن فصل السياسات الاقتصادية عن طبيعة الدولة المتفق عليها، لذلك فالاقتصاد في سوريا فكرٌ سياسي ثانٍ: أي إنه يتبلور استناداً إلى السياسية وليس العكس.
وقد تتكامل الرؤيتان بطبيعة الحال وتتبادلان الأولوية أحيانًا فيصير الاقتصادُ محرك السياسية، ولكن الأكيد أن الموضوعين مترابطان جدًا، كارتباط التنظيم بالفكر السياسي.
10- مفهوم العلمانية: العلمانية مفهومٌ غربي لم يُوطَّن لدينا بعد، والعلمانية سياقٌ تاريخي متشابكٌ مع منظومة الحداثة، ومع الاكتشافات العلمية الثورية منذ كوبرنيكوس، إنها مفهومٌ تاريخي غربي يحيل على المسيحية الأوروبية؛ فإذا قبلنا بالتعريف المقتضب المتداول بأن العلمانية هي “فصلُ الدين عن الدولة”؛ فإننا نقول بدقة أكثر إنها: “فصلُ المسيحية الغربية عن الدولة”.
وأما السؤال: كيف يكون علمانياً من لا كنيسة له؟ وكيف يكون علمانياً من لا يمتلك كوبرنيكوساًَ خاصاً به، ولا شيشروناً، ولا ديكارتاً، وإلى ما هنالك؟ فهي أسئلةٌ مهمةٌ لم تتم الإجابة عنها بعد.
وكل حديثٍ عن العلمانية قبل الإجابة عن هذا النوع من الأسئلة بصورةٍ سياسية وتاريخية وفكرية هو قفزة أيديولوجية في الهواء ‑ بتقديرات الكاتب.
تلفزيون سوريا
——————————-
العلمانية بين جذورها الأوروبية والتحديات في السياق السوري/ عدي محمد الضاهر
2025.01.03
تعد العلمانية من المفاهيم المثيرة للجدل، سواء على مستوى السياق الأوروبي الذي نشأت فيه أو على مستوى تطبيقها في مجتمعات ذات خلفيات ثقافية ودينية مغايرة، مثل المجتمع السوري.
لفهم العلمانية بشكل دقيق، لا بد من تحليل جذورها التاريخية في أوروبا، ثم استعراض التحديات التي تواجه تطبيقها في سياقات اجتماعية مختلفة.
يهدف هذا المقال إلى تسليط الضوء على نشأة العلمانية في أوروبا، تطورها وأثرها، والتحديات التي تواجه تطبيقها في سوريا، مع التركيز على الفروقات الجوهرية بين السياقين.
أولاً: العلمانية في السياق الأوروبي
نشأت العلمانية في أوروبا، خلال القرون الوسطى، كرد فعل مباشر على الهيمنة المطلقة التي مارستها الكنيسة على مختلف مفاصل الحياة.
كان المجتمع الأوروبي يعاني حينها من قمع فكري وسياسي واقتصادي، فقد سيطرت الكنيسة على العلم والفكر والسياسة وحتى الاقتصاد.
استُخدمت السلطة الدينية أداةً لقمع الحريات وتعطيل التقدم العلمي، مما دفع الشعوب الأوروبية للبحث عن نظام يضمن لهم الحرية والانفصال عن الكنيسة.
أصل الفكرة وتطورها
جاءت العلمانية كفكرة تهدف إلى فصل رجال الدين عن شؤون الدولة، لكنها لم تكن دعوة لإلغاء الدين من الحياة العامة، بل كانت في أصلها محاولة لتحقيق التوازن بين الدين والدولة.
إلا أن تطور العلمانية لاحقاً أخذ منحىً مختلفاً، إذ أصبحت تتجه نحو علمنة الاقتصاد والمجتمع، فقد أدت إلى فصل القيم الأخلاقية عن المجالات الاقتصادية والسياسية، مما أحدث خللًا في تركيبة المجتمعات الأوروبية.
ثانياً: العلمانية وأثرها على المجتمع الأوروبي
مع مرور الوقت، أسهمت العلمانية في تحرير المجتمعات الأوروبية من الهيمنة الكنسية، إلا أن تبعاتها الاجتماعية كانت معقدة، فقد اتجهت المجتمعات الأوروبية تدريجياً نحو نزعة مادية وفردية، وحدث تفكك في القيم الأخلاقية والمجتمعية.
وفي دراسة معمّقة للباحث الدكتور عبد الوهاب المسيري حول العلمانية كان قد أشار إلى أنها تؤدي تدريجيًا إلى فصل الأخلاق عن الحياة العامة، مما يضعف التماسك الاجتماعي ويُشجع النزعات الفردية على حساب القيم الإنسانية.
على الرغم من النجاحات الاقتصادية والتكنولوجية التي حققتها المجتمعات الأوروبية، إلا أن العديد من الآفات الاجتماعية برزت كنتيجة مباشرة أو غير مباشرة للعلمانية، من بين هذه الآفات انتشار ظاهرة الإدمان، التحول الجنسي، وانهيار القيم الأسرية، مما أثار تساؤلات حول مدى ملاءمة هذا النموذج لسياقات ثقافية ودينية مختلفة.
ثالثاً: تحديات تطبيق العلمانية في سوريا
يختلف السياق السوري بشكل كبير عن السياق الأوروبي، مما يجعل تطبيق العلمانية وفق النموذج الأوروبي تحدياً كبيراً إذ يتميز المجتمع السوري بتركيبة دينية وثقافية تستند إلى روح الدين الإسلامي، الذي يشكل الإطار القيمي الأساسي للمجتمع.
في الوقت نفسه، لا توجد في سوريا سلطة دينية مهيمنة كتلك التي مثلتها الكنيسة في أوروبا خلال القرون الوسطى، مما يجعل محاكاة النموذج الأوروبي غير ملائمة كلياً مع التنويه على أهمية التمييز بين المصطلحات، فالدولة المدنية على سبيل المثال قد لا تعني بالضرورة دولة علمانية، ولكن من الممكن أن تكون دولة مدنية تستمد قوانينها من أديان وشرائع وعرف وتقاليد المجتمع.
التحديات الثقافية والاجتماعية:
الدين والعادات: يشكل الدين الإسلامي والعادات المرتبطة به جزءاً لا يتجزأ من هوية المجتمع السوري، تطبيق العلمانية بنموذجها الأوروبي قد يؤدي إلى تصادم مع القيم الثقافية والدينية التي تحكم المجتمع.
التجربة التاريخية: خلال حقبة الديكتاتورية التي مرت بها سوريا عانى السوريون لعقود من قمع سياسي واجتماعي أدى إلى تدهور القيم الأخلاقية وتفشي الانحلال وخصوصاً بعد الظروف القاهرة التي أثرت سلباً على التركيبة الاجتماعية خلال سنوات الحرب ضد الديكتاتورية وسلطة النظام البائد، وهو ما يجعل الحاجة إلى قوانين تستمد روحها من الدين أكثر إلحاحًا لإعادة تمكين الهوية الثقافية التي تضمن تماسك المجتمع والتي تضمن له المضي قدماً في التطور والبناء والتقدم.
رابعاً: بدائل العلمانية في السياق السوري
يمكن للمجتمع السوري استلهام نماذج مختلفة تتوافق مع طبيعته الثقافية والدينية من دون الوقوع في محاكاة غير مدروسة للنموذج الأوروبي، من بين هذه النماذج:
النموذج الماليزي:
نجحت ماليزيا في تحقيق نهضة اقتصادية واجتماعية مع قدرتها على الحفاظ على هوية إسلامية واضحة.
يعكس هذا النموذج إمكانية التوفيق بين التنمية الاقتصادية والتمسك بالقيم الدينية وثقافة وهوية المجتمع.
النموذج التركي:
رغم تبني تركيا للعلمانية منذ عهد مصطفى كمال أتاتورك، إلا أن الحكومات الحديثة أعادت إدماج الدين في الخطاب الرسمي والسياسات العامة بشكل متوازن.
تركيا اليوم تقدم نموذجاً لدولة ذات مؤسسات مستقلة، من دون التخلي عن القيم الأخلاقية للمجتمع التركي.
خامساً: أهمية التشريع المستند إلى القيم الدينية
يمكن للدين أن يشكل إطاراً أخلاقياً وقيمياً يسهم في وضع قوانين مدنية تستمد جوهرها من روح الدين، مع مراعاة تطورات العصر واحتياجات المجتمع.
فالدين تحدث في كل حالات المجتمع بشكل أو بأخر فيمكن الاستعانة به مع مراعاة الظروف المعاصرة لتعزيز العدالة والمساواة من خلال صياغة دستورية قانونية تعكس روح العدالة وتحترم حقوق جميع الطوائف والأديان وتضمن تحقيق التوازن بين الحرية الفردية والقيم الأخلاقية وتعزز القوانين التي تحارب الفساد واحتكار السوق، وتدعم الطبقة الفقيرة.
أخيراً، إن تبنّي النموذج العلماني الأوروبي في سوريا خلال هذه الفترة الحرجة يحمل مخاطر متعددة أبرزها: فقدان الهوية الثقافية والدينية وهذا ما لايناسب الأغلبية، وفي المقابل، يمكن للسوريين البحث عن نموذج مدني يناسب طبيعة مجتمعهم واحتياجاتهم يرضي تطلعات الجميع يُصاغ بعقد اجتماعي جامع ولايكون تقليد لمجتمع أخر، في حين يبقى التحدّي الأكبر هو تحقيق التوازن بين الحرية الفردية والقيم الأخلاقية، بما يضمن بناء مجتمع عادل ومتماسك.
—————————-
تدمير إسرائيل للترسانة السورية: التداعيات والنتائج/ ثائر دربي
3 كانون الثاني/يناير ,2025
حقّقت الثورة السورية انتصارًا حاسمًا بإسقاط النظام السوري وهروب بشار الأسد، في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، ولم يكن هذا التحوّل الكبير الذي طال انتظاره مجرّد هزيمة للنظام، بل كان جزءًا من عملية تحوّل في التاريخ الحديث للشرق الأوسط بأكمله، حيث يُعيد هذا الانتصار تشكيل الساحة السياسية والعسكرية في المنطقة، ومن ضمنها العلاقة بين الدول الكبرى والإقليمية. وفي أثناء هذا التغيّر الجذري، كانت إسرائيل تشنّ أكبر هجمة جوية في تاريخها، مركزة على الترسانة العسكرية السورية، حيث كان هدف هذه الضربات -بحسب بيان وزارة الدفاع الإسرائيلية- هو “تدمير مخزونات الأسلحة الاستراتيجية التي تمثّل تهديدًا مباشرًا لأمن إسرائيل، لمنعها من الوقوع في أيدي المتطرفين”[1].
لكن ماذا يعني تدمير إسرائيل لتلك الأسلحة؟ وكيف يمكن أن تؤثّر هذه الضربات في بنية الدولة السورية؟ وهل يمكن أن تغيّر هذه الهجمات موازين القوى في المنطقة؟ وما هو سياق المخاوف المصاحب لتلك الهجمات الإسرائيلية؟
1. الأسلحة الاستراتيجية تحت الاستهداف
لا يوجد إحصاءات دقيقة لحجم الخسائر للترسانة العسكرية على امتداد الجغرافية السورية، وذلك لعدم وجود تصريحات رسمية من وزارة الدفاع الناشئة يُعتمد عليها، وبسبب انقسام الجغرافية السورية بين أكثر من فاعل (عمليات ردع العدوان وقسد)، وصعوبة إحصاء الخسائر في المنطقتين، ولأنّ المصادر الإعلامية تقدّم معلومات متفاوتة الدقة، فضلًا عن عدم جدوى الاعتماد على المصادر الرسمية “الإسرائيلية”، لأنها تذكر أرقامًا مجملة بانورامية كـ “تدمير %70 إلى 80% من القدرات العسكرية لنظام بشار الأسد”[2]، لذلك قد يكون القيام بذكر الأسلحة الموجودة، بالاعتماد على بيانات سابقة، عاملًا مساهمًا في الإجابة عن جزء من السؤال، باعتبار أن تلك الأسلحة إما أنها دمرت بالفعل أو أنها مرشحة للتدمير في ظل هجمات إسرائيلية على الأراضي السورية لم تنتهِ حتى يوم إعداد هذه المادة.
الصواريخ الباليستية طويلة المدى: كانت سورية تمتلك مخزونًا من الصواريخ الباليستية طويلة المدى من طراز (سكود) الذي يتوزع بين ثلاثة أنواع رئيسة: “سكود بي” الذي استوردته من كوريا الشمالية والاتحاد السوفيتي في ثمانينيات القرن الماضي، و”سكود سي”، الذي تسلّمته من كوريا الشمالية خلال التسعينيات، و”سكود دي” وهو نسخة مُطوّرة محليًا بمساعدة من إيران وكوريا الشمالية. وقد وصل مدى تلك الصواريخ إلى 700 كم، وعُزّزت بميزات تقنية مثل القدرة على مقاومة التشويش وإضافة رأس حربي منفصل يزيد فرص تجاوز المنظومات الاعتراضية، وتشير تقارير إسرائيلية إلى أن سورية كانت تصنع نحو 30 صاروخًا سنويًا من هذا النوع، ما يُبرز حجم الاستثمار في تطوير هذه القدرات[3].
إلى جانب ذلك، كان لدى سورية منظومة صواريخ “فروغ 7” السوفيتية، التي كانت قادرة على ضرب أهداف بعيدة داخل الأراضي الإسرائيلية، كما كانت تمتلك ترسانة صغيرة من صواريخ “كروز” الروسية المضادة للسفن (ASCM) المصمّمة أساسًا للدفاع الساحلي، لكن يمكن استخدامها أيضًا ضد الأهداف البرية[4]. وإضافة إلى ذلك، في عام 1983، زوّد الاتحاد السوفيتي سورية بصواريخ “إس إس 21” التي يبلغ مداها نحو 120 كم[5].
خلال الثمانينيات، تلقّى النظام كميات كبيرة من صواريخ “توشكا”، التي اعتُبرت من الأسلحة النوعية بسبب دقتها العالية وقدرتها التدميرية، حيث يراوح مداها بين 70 و180 كم، حسب الجيل، مع ميزة تجهيزها وإطلاقها خلال 15 دقيقة فقط، وخلال مناورات 2012 الصاروخية للجيش السوري، كُشف عن جزء آخر من ترسانة الصواريخ السورية، وهي صواريخ “ميسلون” السورية والمستنسخة من صواريخ (زلزال 2) الإيرانية (أو زلزال 3) بمدى 210 كم، وصواريخ “تشرين” دقيقة الإصابة، وهي نسخة من (فاتح 110) الإيرانية بمدى 300 كم[6]، ويُضاف إلى كل ذلك صواريخ (جولان 1) البالستية متوسطة المدى التي يبلغ مداها 600 كلم، وصواريخ (جولان 2) التي يصل مداها إلى 800 كلم[7].
أنظمة الدفاع الجوي المتطورة: كان لدى الجيش السوري أنظمة دفاع جوي متطورة مثل “سام-6″، “سام-17″، “بانتسير”، إضافة إلى “إس-200” و”إس-300″، التي زوّدتها بها روسيا في السنوات الأخيرة[8]. هذه الأنظمة كانت تشكّل تهديدًا محتملًا للتفوّق الجوي الإسرائيلي، في حال استخدامها بشكل فعال. وبناءً على ذلك، سعت إسرائيل إلى تدمير هذه الأنظمة بشكل كامل، من خلال تنفيذ غارات جوية مركزة على مواقع نشرها، بهدف تقليص أي خطر محتمل على قدراتها الجوية، وفرض مزيد من الهيمنة الجوية في المنطقة.
الطائرات الحربية والمروحية: تضم الترسانة السابقة للجيش السوري، حسب آخر تحديث صادر عن موقع (WPMMA) المتخصص في الشؤون العسكرية، 231 طائرة في الخدمة، منها 141 قتالية هجومية، تضم 44 طائرة “ميغ 23″، و25 مقاتلة اعتراضية “ميغ 21″، و20 مقاتلة قاذفة من طراز “سوخوي سو 22″، وكذلك 15 طائرة “ميغ 29” و9 “سوخوي 24″، إضافة إلى طائرة من طراز “ميغ 25” اعتراضية، ولدى القوات الجوية أيضًا 79 طائرة مروحية، منها 31 طائرة من طراز “إس إي 342” الفرنسية، و25 أخرى من طراز “مي 17” الروسية، إضافة إلى 14 طائرة أخرى من طراز “مي 25″، وأنواع أخرى من الطائرات المروحية والمخصصة للتدريب[9].
استهدفت الغارات الإسرائيلية مطار المزة العسكري غرب العاصمة دمشق، وكل المطارات السورية في ريف حمص الشرقي في البادية، وأبرزها مطار الشعيرات الذي يقع على بعد 31 كيلومترًا جنوب شرقي مدينة حمص وسط سورية، ويضمّ محطات كشف راداري متقدمة، ومحطات تصنيع حربي، وتجري فيه عمليات صيانة للطيران المسيّر، وفق مصادر عسكرية سورية. وفيه 40 حظيرة إسمنتية، ومدرجان أساسيان، طول كل منهما ثلاثة كيلومترات[10]، واستهدفت الغارات أيضًا مطار القامشلي، في أقصى شمال شرق سورية الواقع في مناطق الإدارة الذاتية (قسد).
الأسلحة الكيميائية: منذ عام 1971، تأسّست أولى المحاولات السورية لامتلاك السلاح الكيميائي، حين أنشأ عبد الله واثق شهيد، الفيزيائي النووي والمستشار الأول لحافظ الأسد، مركز البحوث والدراسات العلمية لأغراض الأبحاث الكيميائية، وحقّق المركز نجاحات مكّنته من إنتاج المواد الأولية المستخدمة في تصنيع غاز السارين، لكن النجاح الأكبر كان في تطوير غاز الأعصاب “في إكس” (VX)، وهو أحد أكثر المواد الكيميائية سُمّية[11]، وحتى عام 2012 أكد بعض المختصين أن سورية تملك “أكبر ترسانة أسلحة كيميائية في العالم طوَّرتها منذ أربعين عاما”، وإن من بين الغازات الموجودة في ترسانتها غاز السارين وغاز الأعصاب وغاز الخردل[12].
وعلى الرغم من تبنّي مجلس الأمن الدولي قرارًا بالإجماع عام 2013 بتدمير مخزون الأسلحة الكيميائية السوري، والتخلّص منه نهائيًا في أعقاب مجزرة الغوطة التي استخدم فيها نظام الأسد غاز السارين مُخلِّفًا أكثر من 1400 قتيل، وإعلان الولايات المتحدة وروسيا إنجاز مهمّة التخلص منها نهائيًا في وقت لاحق، أوردت بعض التقارير أنّ النظام نجَح في إخفاء جزء كبير من ترسانته عن المراقبين، وتجديد جزء آخر منها خلال السنوات التالية[13]، وقد ظهرت دلائل على استخدام النظام الأسلحة الكيميائية بعد إعلان تفكيك ترسانته، أبرزها في دوما في نيسان/ أبريل 2018 باستخدام الكلور وغاز الأعصاب.
أشار تقرير للجزيرة نت إلى أن سلاح الجو الإسرائيلي “هاجم مؤخرًا مستودعًا للأسلحة الكيميائية تابعًا لنظام بشار الأسد المُنهار في غرب سورية” [14]، ولا يمكن فصل الاستهداف الإسرائيلي لمخازن السلاح الكيمياوي عن استهداف مراكز البحوث العلمية، حيث تُدار منها برامج الأسلحة الكيميائية، فقد استهدفت الغارات الإسرائيلية مراكز البحوث العلمية، في كلٍّ من دمشق برزة وجمرايا ومصياف.
سلاح البحرية: أضافت إسرائيل إلى هذا التمادي تدميرًا واسع النطاق للقوى البحرية السورية الراسية في ميناء اللاذقية، الذي كان يضمّ غوّاصتين من طراز “أمور” الروسية، وفرقاطتين من طراز “بيتيا”، إضافة إلى 16 زورق صواريخ روسيًا من طراز “أوسا”، و5 كاسحات ألغام روسية من طراز “ييفينغنيا”، و6 زوارق صواريخ “تير” إيرانية[15]. ويأتي هذا الهجوم في سياق مشابهٍ لتدمير قوات التحالف الدولي للقوات البحرية التابعة لنظام العقيد معمر القذافي خلال الثورة الليبية في عام 2011.
2- تداعيات تدمير تلك الترسانة:
لا يمكن فصل سياق تدمير مقدرات عسكرية استراتيجية لبلدٍ ما عن السلطة الحاكمة فيه، أيًا كانت تلك السلطة، كما لا يمكن فصل ذلك عن معادلات الإقليم وارتداداته:
تداعيات على الدولة السورية الجديدة:
صعوبة إعادة بناء القدرة العسكرية: مع تدمير الأسلحة الثقيلة مثل الصواريخ والطائرات، سيكون من الصعب على الحكومة الجديدة في سورية استعادة هذه القدرات، حيث ستتطلب إعادة بناء هذه القوة العسكرية وقتًا طويلًا وموارد ضخمة، وقد تكون هذه العملية مرتبطة بالحصول على دعم عسكري دولي وابتزاز لرفع العقوبات عن سورية في شقها العسكري، الذي بدأت بذوره بتصريحات وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكين[16]، عن شروط رفع العقوبات والاعتراف بالإدارة الجديدة بعد سقوط النظام[17].
الاعتماد على الدعم الإقليمي من الدول الصديقة: من المتوقّع أن تحتاج السلطة الجديدة إلى الحصول على دعم عسكري خارجي لإعادة بناء مقدرات الجيش الجديد “منزوع الأظافر”، وهذا ما بدأت تلوح به تركيا عبر تصريحات وزير الدفاع بأنّ تركيا على استعداد لتدريب الجيش السوري إذا طلبت الإدارة الجديدة للبلاد ذلك[18]، وهذا ما يفتح الباب واسعًا على تدخّلات قد تصل إلى المساس بـ “العقيدة القتالية” للجيش السوري الجديد[19].
التركيز على الأسلحة التقليدية: إذا لم تتمكن السلطة الجديدة من استيراد أسلحة متطورة؛ فقد تركز على الأسلحة التقليدية/ التكتيكية دون الاستراتيجية، ولا سيما أن للثورة السورية عبر كل مراحلها باعًا طويلًا مع تصنيع الأسلحة التقليدية، مثل قذائف المدفعية والصواريخ قصيرة المدى والطائرات المسيرة التي أحدثت فرقًا في المعارك الأخيرة، ولكن هذا يعني أن البلاد ستكون في وضع دفاعي خالص لسنوات طويلة، في وجه همجيّة إسرائيلية غير معروفة المنتهى على الحدود الجنوبية.
ضبابية شكل الجيش السوري الجديد: لا يمكن لأحدٍ الجزم بشكل الجيش السوري الجديد، بعد انهيار النظام وتدمير إسرائيل العمود الفقري الصلب للجيش السابق، ولكن المؤكد أنه سيشهد تحولًا جذريًا في هيكليته، فقد يتجه نحو تقليص حجمه بشكل ملحوظ، بإلغاء التجنيد الإجباري، كما صرحت الإدارة الجديدة[20]. وهذا ما سيُنتج “سلطة مشوهة للدولة”، بسبب استحالة انتشار عدد محدود من الجنود على المساحة الجغرافية الواسعة لسورية. وإذا لم يكن هذا الانتشار للقيام بمهام الضبط الداخلي في المرحلة الأولى -وهو أمرٌ متوقع ومُشاهَد في سياق ضعف قوات الأمن العام والشرطة الناشئة- فسيكون للقيام بالانتشار على الحدود السورية الكبيرة مع خمس دول، إضافة إلى قواعد عسكرية في المواقع الحساسة والاستراتيجية.
أو قد تتجه الإدارة الجديدة إلى إعادة بناء جيش منظم كبير، بدمج كلّ التشكيلات والفصائل العسكرية السورية في وزارة الدفاع، وهو ما أشار إليه أحمد الشرع في سياق حديثه عن حلّ جميع الفصائل[21]، مع الاعتماد على دعم الدول الحليفة مثل تركيا، بعد الاعتراف الدولي بالحكومة الانتقالية الجديدة، في مشهدٍ يستعاد فيه تجربة حكومة الوفاق الوطني في ليبيا، حيث قامت تركيا بتزويد الحكومة بالأسلحة في كانون الأول/ ديسمبر 2019، لمواجهة الهجوم الذي شنته “قوات حفتر” المدعومة من دول الثورة المضادة، مما يعكس تحولًا نحو حلول مبتكرة لتأمين الاستقرار الأمني في ظل محدودية الموارد العسكرية.
تداعيات على المعادلات الإقليمية:
تعزيز التفوّق العسكري الإسرائيلي على دول المنطقة: لا يمكن إنكار أن التفوق الإسرائيلي العسكري واضح منذ السابع من أكتوبر 2023، على أن هذا التفوق عُزِّز بشكل أكبر ليس على حساب سورية فحسب، بل يمتد ليشمل المنطقة بأسرها، موجهًا ضربة إلى دول إقليمية كبرى مثل تركيا وإيران مجتمعة، وهما الدولتان اللتان استثمرتا في طرفي “النزاع السوري” طويلًا على مستوى الفواعل المحلية (الفصائل العسكرية وبعض من وحدات الجيش السابق)، فإزالة الأسلحة الاستراتيجية السورية من الساحة تعزّز موقع إسرائيل الأمني على المستوى الاستراتيجي والإقليمي، وتمنحها حرية أكبر في تنفيذ عملياتها العسكرية من حدود البحر المتوسط في لبنان، مرورًا بسورية وصولًا إلى العراق وما بعده، دون الخوف من ردود فعل حاسمة من الخصوم الإقليميين، وهذا ما يدعمه تصريحات مسؤولين في سلاح الجوّ الإسرائيلي، إذ يصرّحون بأن “المؤسسة الأمنية تدرك أنه دون تهديد جوي سوري سيكون الجيش الإسرائيلي قادرًا على الوصول إلى العراق من دون مشكلة، إذا استمرت الميليشيات الموالية لإيران في تهديد إسرائيل”[22]. وفي ظلّ هذا الوضع من اختلال ميزان القوى، تصبح الدول الإقليمية ذات المصالح في “سورية الجديدة” على المدى القريب أمام خيارات غير مريحة للاستثمار في شتى المجالات في الدولة الجديدة، ولا سيما تركيا التي هي الرابح الأكبر إقليميًا من سقوط النظام.
إضعاف الدور السوري الإقليمي على المدى المتوسط: تركز إسرائيل في هجماتها العسكرية على جعل سورية دولة منزوعة الأظافر، بهدف تعطيل قدرة الجيش السوري المستقبلي على أن يصبح قوة مركزية في المنطقة أو على إعادة ترتيب صفوفه، مما يحول دون استعادة أراضيه المحتلة أو ردع “إسرائيل” عن مهاجمته، ونتيجة لذلك ستكون الإدارة السورية المقبلة مقيّدة بشروط جيوسياسية وأمنية، تمنعها من لعب دور مؤثر في مواجهة التحديات الإقليمية، وتؤدي إلى إعادة تشكيل توازن القوى لصالح إسرائيل وحلفائها[23].
تعزيز التعاون بين دول المنطقة الفاعلة: مع تدمير الأسلحة الاستراتيجية للبلاد وإنهاء حالة التوتر الإسرائيلي من احتمال سيطرة جماعات “متطرفة” -حسب وصفها- على تلك الأسلحة، ينتهي بذلك خطرٌ كان يؤرق الجانب الأقوى في المنطقة (إسرائيل)، جنبًا إلى جنب مع انتهاء السيطرة الإيرانية، وقد يجلب ذلك -بغض النظر عن مدى الخسارة العسكرية لسورية الدولة- على المدى المتوسط والطويل، بعض الاستقرار النسبي للبلاد، ومن ثم ستُقبل بعض الدول الإقليمية على الاستثمار في مشاريع إعادة إعمار المدن السورية المدمرة، ومشاريع الطاقة مثل خط الغاز القطري نحو أوروبا مرورًا بسورية، وسيعزز ذلك سبل التعاون الاقتصادي بين الدول المعنية، ويعود بالنفع -نظريًا- على سورية[24].
3- سياق المخاوف المصاحب للهجمات الإسرائيلية:
لا تكمن المخاوف الإسرائيلية على الأسلحة الاستراتيجية من وقوعها في أيدي جماعات “متطرفة” على البُعد العسكري فقط، بل يتعدى ذلك إلى مخاوف أمنية وسياسية قد تكون مفسّرًا للسلوك الإسرائيلي في الأراضي السورية.
الفواعل غير المنضبطة: سعت إسرائيل، من خلال عملياتها الجوية المستمرة على مدار سنوات الثورة، إلى إضعاف الوجود العسكري الإيراني عبر تدمير الأسلحة الاستراتيجية في سورية، مما قلل من قدرة طهران على تهديد أمنها بشكل مباشر، لكن سقوط النظام سيخلق فراغًا أمنيًا لا تريد إسرائيل لفصائل مسلحة غير منضبطة استثماره، في حال كانت الإدارة السورية الجديدة ستتسم بالضعف أو مشوشة في إدارة البلاد على المدى المتوسط وبعيد المدى، ما قد يرفع من مستويات عدم الاستقرار في المنطقة، إذ يُحتمل أن تقوم عناصر من فلول النظام السابق بعمليات على الحدود الجنوبية، بغية إثارة الفوضى في البلاد، أو أن يستعيد تنظيم “داعش” نشاطه، ولا سيما أن هناك تقارير عراقية تتحدث عن زيادة نشاطه في الصحراء السورية بعد سقوط النظام، فضلًا عن وجود بقايا خلايا “جيش خالد بن الوليد”[25] في جنوب سورية، وهي الأكثر خطرًا، في حال استفاد من أي فوضى محتملة[26].
تهريب السلاح: يُضاء في إسرائيل منبّهُ تحذير شديد من مخازن الأسلحة المتاحة للجميع، فهذه اللقطة تضع في مخيالهم صورة تهريب السلاح الليبي بعد سقوط نظام القذافي، إلى غزة[27]، حيث قادت عدة كتائب ليبية عملية تهريب كثير من السلاح المُغتَنم من مخازن القذافي إلى غزة، عبر الحدود المصرية، ولذلك نجد أن إسرائيل حريصة عند توغلها في المناطق الحدودية السورية على تدمير ومصادرة كل الأسلحة التي تجدها، سواء تلك التي كانت في مخازن النظام السابق أو التي يحتفظ بها الأهالي في بيوتهم، فهي حريصة على إنشاء منطقة منزوعة السلاح بشكل حرفي، بعد الضرر الذي نالها بوجود قوة مسلحة بأسلحة “تكتيكية” في قطاع غزة في السابع من أكتوبر[28].
دولة قوية وأرض محتلة: يأتيجزءٌ من التخوّف الإسرائيلي الآن من الديناميكية الداخلية للشعب السوري نفسه، أو من احتمالية أن تتطور العملية السياسية في البلاد لتنتج سلطة وطنية تسعى لإعادة الجولان، حيث أشارت مصادر إسرائيلية، في معرض الحديث عن هضبة الجولان، إلى أنها “مسألة حياة أو موت بالنسبة لإسرائيل، وأنها جزء لا يتجزأ من الدولة”[29]، أو لدعم القضية الفلسطينية دعمًا حقيقيًا، يختلف عن الدعم الوهمي الذي كان يتبعه النظام السابق.
الحدود والأمن: منطقة الحدود السورية-الإسرائيلية ستظل أحد العناصر الحاسمة في تحديد سياسة “إسرائيل” المستقبلية تجاه سورية، كما كانت أيام النظام السابق، ففي حين كانت إسرائيل في فترة سابقة تراقب النشاطات العسكرية للنظام السوري وحلفائه، وتستهدفهم في عمليات موضعية جراحية، فقد شهد الوضع تغييرًا في الديناميكيات الأمنية على الأرض، بعد التوغل الإسرائيلي في منطقة وقف إطلاق النار واحتلال المنطقة العازلة ومراكز مراقبة حيوية مثل جبل الشيخ الاستراتيجي وقرى حدودية أخرى[30]. وإذا تمكّنت السلطة الجديدة من فرض نوع من الاستقرار الداخلي على المدى المتوسط والطويل، فقد تفتح إسرائيل الباب لإعادة النظر في سياساتها الأمنية عبر القنوات الدبلوماسية أو الأمنية، لكن الثابت في المشهد الراهن أن الاستراتيجية الإسرائيلية قائمة على الاستهداف المُسبق وإقامة خطوط دفاعية متقدمة في المحيط بعد تضرر منظومة الردع في السابع من أكتوبر2023، مما يجعلها في حالة استنفار دائمة أمام دول وفواعل الجوار.
إن تدمير إسرائيل للترسانة العسكرية السورية يُمثّل نقطة انعطاف استراتيجية للمنطقة بأكملها، فضلًا عن سورية. فبينما يهدف هذا التحرك إلى تقليص أي تهديدات محتملة للأمن الإسرائيلي، فإنه يترك الدولة السورية الجديدة في مواجهة تحديات عميقة، تتعلق بإعادة بناء قدراتها الدفاعية، وسط بيئة إقليمية ودولية معقدة.
على الصعيد الداخلي، يفرض هذا الواقع على الحكومة الانتقالية ضرورة إعادة تقييم أولوياتها، بدءًا من استعادة الحد الأدنى من الجاهزية العسكرية، مرورًا بإعادة هيكلة الجيش على أسس وطنية حديثة، وصولًا إلى مواجهة تحديات الاستقلال في اتخاذ القرار بعيدًا عن ضغوط القوى الإقليمية والدولية. أما إقليميًا، فإنّ تعزيز التفوّق العسكري الإسرائيلي يزيد من اختلال ميزان القوى، ويعزز الهيمنة الإسرائيلية، ويُضعف موقع سورية الاستراتيجي في مواجهة التحديات المستقبلية.
إن مصير سورية الجديدة يعتمد بشكل كبير على قدرتها على تحويل هذه المحنة إلى فرصةٍ لبناء قوة عسكرية دفاعية تعتمد على الكفاءات الوطنية والابتكار المحلي، مع الحفاظ على سيادتها وعدم الانجرار إلى صراعات المحاور الإقليمية. في هذا السياق، يصبح التعاون الدولي المتوازن والدعم الإقليمي الحكيم مفتاحًا لتحقيق استقرار حقيقي ومستدام. سورية الآن أمام اختبار حقيقي يُحدّد معالم دورها في الشرق الأوسط الجديد.
[1] “Israel strikes hundreds of military targets in Syria”, AFP and ToI Staff, The Guardian, 10/ 12/ 2024, seen on 17/12/2024, – in: https://tinyurl.com/3f6yb7w3
[2] إسرائيل: دمرنا نحو 80% من القدرات العسكرية السورية، الجزيرة نت، 10/12/2024، شوهد في 30//12/2024، في: https://tinyurl.com/bd85jvht
[3] “القدرة الصاروخية السورية…أنواعها وقوتها (صور)”، سبوتنيك عربي، 22/5/2017، شوهد في 25/12/2024 في: https://tinyurl.com/ybwp9xy4
[4] “Syria Missile Overview”, The Nuclear Threat Initiative, seen on 17/12/2024, in: https://rb.gy/n13iav
[5] “Syria”- Federation of American Scientists, seen on 17/12/2024, in: https://rb.gy/vw2q3j
[6] “القدرة الصاروخية السورية…أنواعها وقوتها (صور)”، مصدر سابق.
[7] أحمد عبد الرحمن، “الحرب متعدّدة الجبهات.. نظرة على القدرات الصاروخية لمحور المقاومة 2/3″، حضارات للدراسات السياسية والاستراتيجية، 21/3/2023، شوهد في 25/12/2024، في: https://tinyurl.com/ysnb4k7m
[8] “S-300 missile system: Russia upgrades Syrian air defences”, BBC, 2/10/2018, seen on 17/12/2024 https://tinyurl.com/ckmn8b92
[9] Syrian Air Force (2025) Aircraft Inventory, World Directory of Modern Military Aircraft, seen on 31/12/2024, in: https://tinyurl.com/bdepj69h
[10] محمد أمين، “هذه أبرز المواقع العسكرية التي دمّرتها إسرائيل في سورية خلال يومين”، العربي الجديد، 10/12/2024، شوهد في 27/12/2024، في: https://tinyurl.com/34vkyesu
[11] شادي عبد الحفيظ، “أكبر عملية لقوات الجو الإسرائيلية في تاريخها.. ماذا قصفت في سوريا؟”، الجزيرة نت، 11/12/2024، شوهد في 17/12/2024، في: https://tinyurl.com/bdfr5ckd
[12] محمد يوسف، “الأسلحة الكيميائية وسر نظام الأسد المظلم الذي تخشاه إسرائيل والغرب”، الجزيرة نت، 17/12/2024، شوهد في 25/12-2024، في: https://tinyurl.com/3p9p9u93
[13] “في يوم إحياء ذكرى ضحايا الحرب الكيميائية، النظام السوري لا يزال يحتفظ بترسانة كيميائية وتخوف جدي من تكرار استخدامها”، الشبكة السورية لحقوق الإنسان، 30/11/2023، شوهد في 25/12/2024، في: https://tinyurl.com/5d5f6vyx
[14] “الأسلحة الكيميائية وسر نظام الأسد المظلم الذي تخشاه إسرائيل والغرب”، مصدر سابق
[15] “ما الأسلحة الاستراتيجية التي دمرها الكيان الاسرائيلي في سوريا؟”، قناة العالم، 12/12/2014، شوهد في 25/12/2024، في: https://tinyurl.com/2fbtanab
[16]Jennifer Hansler, “US has had direct contact with Syrian rebel group, Blinken says”, CNN, seen on 14/12/2024, in: https://tinyurl.com/39runss8
[17] الجدير بالذكر أن أحد أسباب الانهيار السوداني والحرب الطاحنة، بعد سقوط عمر البشير، هو تفاقم الوضع المعيشي بتأخر أميركا في رفع العقوبات عن الخرطوم، للمزيد: https://tinyurl.com/4d6sx2v4
[18] “تركيا «مستعدة» لتقديم التدريب العسكري لسوريا إذا طلبت الإدارة الجديدة”، الشرق الأوسط، 15/12/2024، شوهد في 17/12/2024، في: https://tinyurl.com/3wn4b54v
[19] حيث يمثل أمامنا حالة “الجيش الوطني السوري” في حالة السيطرة على القرار الخارجي.
[20] من المؤشرات التي تدل على ذلك هو تصريحات أحمد الشرع: “التجنيد لن يكون إجباريًا”، للمزيد: الشرع: “حل الفصائل قريبًا.. والتجنيد لن يكون إجباريًا”، المدن، 2024/12/16، شوهد في 18/12/2024، في: https://tinyurl.com/45wpmxrv
[21] “الشرع يتحدث عن انتخابات ودستور جديد وحل الفصائل”، الجزيرة نت، 14/12/2024، شوهد في 17/12/2024، في: https://tinyurl.com/4zx27j4a
[22] كفاح زبون، إسرائيل تستغل «فرصة نادرة» للقضاء على «الأسلحة الاستراتيجية» لدمشق، الشرق الأوسط، 10/12/2024، شوهد في 31/12/2024، في: https://tinyurl.com/2j4hnxat
[23] “تحديات المرحلة الانتقالية في سورية وآفاقها”، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 12/12/2024، شوهد في 17/12/2024، في: https://tinyurl.com/25zeep5y
[24] مراد تميزر ومحمود نابي، “مرورًا بسوريا.. مشروع نقل الغاز القطري عبر تركيا يعود للواجهة (تقرير)”، وكالة الأناضول، 15/12/2024، شوهد في 19/12/2024، في: https://tinyurl.com/4jp5feuw
[25] (بعد القضاء على جيش خالد بن الوليد، في صيف عام 2018، وهو فصيل بايع التنظيم، ويضم عناصر محليين من أبناء درعا، في منطقة اليرموك، الجيب الجنوبي الغربي من المحافظة، انتشر عناصره الفارون في أرجاء الجنوب السوري، حيث يعمل التنظيم على شكل مجموعات محلية صغيرة من بقايا جيش خالد، تنفذ بشكل مباشر أهداف التنظيم، وتجند شبانًا جددًا لديهم ذات الميول الفكري للتنظيم)، للمزيد: وليد النوفل، “داعش” في جنوب سوريا: كيف يجدد التنظيم نفسه بعد كل هزيمة؟” – سوريا على طول 9 /2/ 2024، شوهد في 19/12/2024، في: https://tinyurl.com/5xwjrdy4
[26] “صحف عالمية: إسرائيل أمام بيئة أمنية متغيرة بعد سقوط نظام الأسد”، الجزيرة نت، 13/12/2024، شوهد في 19/12/2024، في: https://tinyurl.com/ydfwxd2z
[27] داود سليمان، “طريق السلكاوي: سلاح الثورة من ليبيا إلى غزّة”، موقع متراس، 5/12/2024، شوهد في 23/12/2024، في: https://tinyurl.com/4st4dfue
[28] “انتهاكات الاحتلال في سوريا.. توغّل في ريف درعا ومصادرة أسلحة”، التلفزيون العربي، 20/12/2024، شوهد في 24/12/2024، في: https://tinyurl.com/3m9wp8h6
[29]– محمود عدامة، “إسرائيل وسوريا ما بعد الأسد: تحركات مؤقتة أم خلق وضع جديد؟”، بي بي سي، 12/12/2024، شوهد في 25/12/2024، في: https://tinyurl.com/47cudv37
[30] عبد الرؤوف أرناؤوط، “إسرائيل تتوغل برًا بالمنطقة العازلة مع سوريا وتهاجم أهدافًا بقنابل ثقيلة”، وكالة الأناضول، 9/12/2024، شوهد في 25/12/2024، في: https://tinyurl.com/mwm4rh6f
مركز حرمون
—————————–
خامنئي يُهدّد بـ”مقاومة جديدة”… ما هي مقوّماتها وإمكانيات نجاحها؟/ يحيى شمص
غضب إيران من التطورات الإقليمية تعكسه تصريحات مسؤوليها، رغم محاولات قيادات عليا فيها تخفيف وطأة التحولات العميقة على نفوذها في المنطقة. وربما تواجه طهران حالياً تحديات جدية أكثر من أي وقت مضى تهدد مشروعها التوسعي الذي طالما ارتكز على ما يُعرف بـ”محور المقاومة”.
يرى مراقبون أن إيران الخاسر الأكبر في سوريا، حتى إن النظام الجديد لم يُبدِ أي إشارة إيجابية تجاهها. وفي لبنان تراجعت قوة حليفها الأقوى، “حزب الله”.
خطاب طهران اليوم أقرب إلى مواقف الدول الغربية، حين تؤكد حرصها على “سيادة سوريا ووحدة أراضيها”، لكن مرشدها الأعلى على خامنئي توعّد بـ”مقاومة جديدة” و “مجموعة من الشرفاء” في سوريا تنتفض على الواقع الجديد. فماذا عن مقوّمات هذه “المقاومة الجديدة” وإمكانية نجاحها؟ وإلى ماذا ستستند إيران للعودة أمنياً وعسكرياً إلى الجبهات؟ وما الأوراق التي تملكها؟
يرى الصحافي علام صبيحات، في حديث مع “النهار”، أنه “طالما أنّ إيران لم تحدّد معالم واضحة لهذا المصطلح (مقاومة جديدة)، سيبقى كلّ شيء في إطار التحليل، وهذا يقودنا للبحث في التفاصيل، وتوقيت هذه المقاومة الجديدة، التي جاءت في إطار الحديث عن الملفّ السوري”.
وباعتبار التصريحات الصريحة والمباشرة لخامنئي بأنّ “سوريا تتعرض حالياً للاحتلال من قبل الولايات المتحدة، والكيان الصهيوني ودول إقليمية”، فهذا يشير إلى أنّ “إيران قد تبدأ بتنفيذ عمليات في سوريا ضدّ هذه الأطراف والجهات السورية، وهذه العمليات، قد تكون من خلال جهات داخلية سورية موالية لطهران، وقد تكون أيضاً من خلال عمليات استخبارية إيرانية على الأراضي السورية، وعلى شكل استهداف مصالح هذه الأطراف التي تتّهمها بأنها تحتل سوريا”، وفقاً لصبيحات.
لماذا تلقت أذرع إيران ضربات متتالية؟
يتحدث صبيحات عن “مزيج من أسباب عدة، لسقوط القوى الموالية لإيران. الأول، وجود جبهة واسعة تشكّلت ضدّ النفوذ الإيراني، لديها مصالح وأهداف مشتركة بين الأطراف المنزعجة من هذا النفوذ، أو المتضرّرة وغير الراغبة به لأنه يتعارض مع نفوذها ومصالحها، وهذه الجبهة تشمل إسرائيل والولايات المتحدة وعدداً كبيراً من الدول في المنطقة”.
ويشير صبيحات إلى “دعم عسكري واستخباري كبير جداً ولا محدود لإسرائيل، تحديداً من أميركا وألمانيا وفرنسا وبريطانيا ودول غربية أخرى، وهناك إجماع بين هذه الأطراف على ضرورة القضاء على أذرع إيران، انطلاقاً من ذريعة أنها تهدّد هذه الأطراف كلّها ولا تهدّد إسرائيل فقط”.
تراجع النفوذ الإيراني “جزئي ولا يعني نهايته” رغم الخسارة الاستراتيجية الأكبر فبي سوريا، التي “كانت الدينامو الرئيس للمحور الذي تقوده طهران”، فخروج إيران من سوريا وسيطرة أطراف غير صديقة لها عليها، يشكّل تحدياً كبيراً لطهران، خاصة وأن أطرافاً إقليمية أخرى بدأت منذ اللحظة الأولى بملء هذا الفراغ في سوريا، انطلاقاً من علاقاتها الوثيقة مع الأطراف التي باتت تسيطر الآن على الأرض.
نجاح ايران في تشكيل “المقاومة الجديدة”؟
من جهته، يرى الكاتب والباحث في مركز “تقدم للسياسات” أمير مخول، في حديث لـ”النهار”، صعوبة قيام “مقاومة جديدة”، خاصة أن الجبهات التي كانت جاهزة (وحدة الساحات) تفككت إلى حد كبير بعد الضربات التي تلقاها “حزب الله” في لبنان وانهيار نظام الأسد في سوريا، الذي قلب الطاولة كثيراً لجهة البعد والتواصل الجغرافي الاستراتيجي الإيراني.
يشكك مخول في إيجاد مكان لـ”مقاومة جديدة” وفق ما تسعى إليه إيران، التي ستعتمد على قوتها الذاتية وليس على القوى الحليفة في ما يسمى “محور المقاومة”، وهي ربما ستسرّع في المشروع النووي، وهذه “مقامرة كبيرة” كونها قد تخسر كل شيء، أو ستتجه إلى صفقة مع الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، و”هذا وارد إقليمياً، خاصة أن دول المنطقة تريد التهدئة، باستثناء إسرائيل نظراً لطبيعة حكومتها الحالية”.
وإذ يشير مخول إلى أن استراتيجية “وحدة الساحات” وطوق النار لم تكتمل، وقرار “حماس” المفاجئ في 7 تشرين الأول (أكتوبر) دفعا باقي الجهات إلى مواجهة غير محسوبة ومنسقة، يرى أيضاً أن قرار “إسناد حماس” ورّط باقي الجبهات، وتُطرح عليه كثير من الأسئلة والشكوك، لأن إسرائيل كانت مستعدة جداً للحرب على عكس الأطراف الأخرى.
هل يعود النفوذ الإيراني؟
“تراجع نفوذ إيران في غزة، ولن يكون له عودة”، هذا ما يراه مخول في المستقبل القريب والبعيد، وفي الضفة الغربية “ليس هنالك نفوذ إيراني كما تدعي إسرائيل. ولم يبق لطهران في الأراضي الفلسطينية المحتلة سوى حركة الجهاد الإسلامي بعد تصفية قادة حماس المقربين منها، ما ينعكس على القرارات السياسية للحركة”. يضيف: “نلاحظ أيضاً تراجعاً في سوريا ولبنان قد لا يمكن تعويضه بتاتاً”.
تخلي إيران عن” فصائل المقاومة”؟
يستبعد صبيحات تخلّي إيران عن أي طرف تدعمه ومحسوب عليها من “فصائل المقاومة”، لأن هذا يعني نهاية أي نفوذ لإيران بالمنطقة، سواء في فلسطين أو لبنان أو العراق أو اليمن، وهي ستواصل دعمها لها بأشكال مختلفة.
وحديث المرشد الإيراني عن “مجموعة الشرفاء، قد يكون المقصود به الأطراف الموالية لإيران في سوريا، ولطهران بالتأكيد علاقات مع أطراف سورية، كما علاقاتها مع أطراف لبنانية وفلسطينية ويمنية وغيرها”.
يذكر صبيحات أن لإيران اتصالات مع أطراف سورية تثق بها منذ عشرات السنوات، وبالتوازي مع ذلك “قد يكون هناك تشكيل لتنظيمات جديدة في الساحة السورية لا تعارض التعاون مع الأطراف القديمة”.
صحيح أن خسارة سوريا، استراتيجية وكبيرة بالنسبة لإيران، ولكن هذا لا يعني أن علاقاتها العسكرية والأمنية مع الجبهات المختلفة قد انقطعت وانتهت، فخسارة سوريا تزيد التعقيدات والصعوبات، ولكن التواصل الإيراني مع الجهات التي تدعمها مستمر ولم يتوقّف، كما أن دعمها لها لا يزال مستمراً.
أما عن كيفية إيصال إيران الأسلحة إلى القوى الموالية لها، فهي “تستطيع إيجاد وابتكار واستحداث طرق وأساليب جديدة ومختلفة للقيام بذلك”، والأمر هو أقرب إلى “حرب استخبارات” بالدرجة الأولى، بحسب ما يرى صبيحات.
النهار العربي
———————-
دخول العلمانية إلى المجتمع العربي/ رياض درار
لم يرتبط دخول الفكرة العلمانية في الوعي العربي الحديث بدوافع خارجية، أو بأسباب خارجة عن إرادته، أو نابعة من الضغط الاستعماري والتغريب الثقافي. فهي انطلقت من مفكرين وسياسيين وطنيين، أدركوا بحسهم العميق انحلال الروابط الاجتماعية العامة في مجتمعاتهم، وعجز المفاهيم التقليدية السياسية المشتقة من الرؤية التي كانت سائدة للدين، عن تكوين العصبية الضرورية لإعادة لِحَم التضامن، وترسيخ علاقات الاخوة الوطنية التي لا بد منها لتسيير أي مجتمع مدني. بمعنى أن هؤلاء الرواد تعاملوا مع العلمانية من حيث تطورت إلى مفاهيم حققت التقدم المدني، وأسست للوحدة الوطنية، وصنعت التقدم العلمي ومعطياته.
يقول الافغاني : ” ولا ملجأ للشرقي في بدايته أن يقف موقف الأوربي في نهايته، بل ليس له إلا أن يطلب ذلك “. فهؤلاء الرواد نظروا إلى العلمانية على إنها الوسيلة لتجديد الأسس الأخلاقية والروحية للاجتماع المدني الإسلامي والعربي، ولإعادة بناء السياسة وأخلاقها كنشاط متميز في مجتمعات خمدت فيها الروح، روح الوطنية والعصبية الجامعة من أي نوع .
والتقت هذه الفكرة – في ذهن المفكرين المسلمين المحدثين – مع العقيدة الاسلامية التقليدية التي ترفض الكهنوت، وترتبط بتأكيد حرية العقل وحقه في الاجتهاد، وما كان لها أن تثير لديهم مشكلة ضميرية أو دينية. واعتبروها، بالعكس، من الأمور التي سبق بها الاسلام المجتمعات الغربية الحديثة، ولم يشعروا أن تناقضاً يمكن أن يحصل بين الاسلام وبين مبدأ الفصل بين السلطتين الزمنية والروحية.
الفصل لا الانفصال، بمعنى التمييز بينهما على حد تعبير” محمد عمارة”. وخير من يصف لنا هذا الموقف ويعطينا الدليل الناصع البيان حول هذا الكلام، الاستاذ الامام “محمد عبده ” رائد المدرسة الاصلاحية، ومؤسس ” الجامعة الاسلامية ” مع استاذه “الافغاني” : يقول الأستاذ الإمام : ( ليس في الاسلام ما يسمى عند قوم بالسلطة الدينية بوجه من الوجوه، فالحاكم هو حاكم مدني من جميع الوجوه، بل إن الاسلام هو الذي قضى قضاءً مبرماً، لم يسبق إليه أي دين، على السلطة الدينية من جذورها، وأنه يمثل بالتالي الدين العقلي من دون منازع ). كذلك فإن “الافغاني” لم يخف في رده على رينان مثل هذا الموقف.
ففي النظرة إلى العلمانية والتعامل معها استند المصلحون العرب والمسلمون على قاعدتين اقترحوها من أجل الاصلاح :
من الناحية النظرية : الاستناد على الفلسفة العلمانية التي كانت سائدة في عالم نهاية القرن الماضي .
من الناحية العملية : استندت على نموذج فصل الدين والدولة الذي طورته المجتمعات الأوربية، بشكل خاص المجتمع الفرنسي الذي أثر بعد ثورته في القرن الثامن عشر أكبر تأثير في فكر النخبة الاسلامية، وبشكل خاص في تركيا.
وقد أصبح الحديث عن العلمانية، والفصل بين الدين والدولة، موضوعا ً شائعاً وفكرة مقبولة لدى المصلحين الكبار من المسلمين (الكواكبي – الأفغاني – محمد عبده – النائيني ).
يقول محمد عبده : ( أصل من أصول الاسلام , قلب السلطة الدينية والإتيان عليها من أساسها، هدَم الإسلام بناء تلك السلطة، ومحا أثرها، حتى لم يُبق لها عند الجمهور من أهله اسم ولا رسم .
لم يدع الاسلام بعد الله ورسوله سلطانا ً على عقيدة أحد، ولا سيطرة على إيمانه، على أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان مبلغًا ومذكرًا، لا مهيمًا ولا مسيطرًا. وليس لمسلم مهما علا كعبه في الإسلام على آخر مهما انحطت منزلته فيه، إلا حقُّ النصيحة والارشاد، فالمسلمون يتناصحون وهم يقيمون أمة تدعو إلى الخير، وهم المراقبون عليها، يردُّونها إلى السبيل السوي إذا انحرفت عنه، وتلك الأمة ليس عليهم إلا الدعوة والتذكير والانذار، ولا يجوز لها ولا لأحد من الناس أن يتتبع عورة أحد، ولا يسوَّغ لقوي ولا لضعيف أن يتجسس على عقيدة أحد، وليس يجب على المسلم أن يأخذ عقيدته أو يتلقى أصول ما يعمل به من أحد، إلا عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم) . “الاسلام بين العلم والمدنية”.
ويبدو هذا الموقف واضحًا أشدّ الوضوح في برنامج الحزب الوطني المصري الذي صاغه “محمد عبده” في كانون الأول 1881 حيث يؤكد، أن هذا الموقف ليس موقفه فحسب، ولا موقف الحزب وحده، إنما هو موقف زملاء معه في الأزهر :
تقول المادة الخامسة من البرنامج : ” الحزب الوطني حزب سياسي، لا ديني، فإنه مؤلف من رجال مختلفي العقيدة والمذهب، وجميع النصارى واليهود، وكل من يحرس أرض مصر ويتكلم لغتها منضم إليه، لأنه لا ينظر لاختلاف المعتقدات، ويعلم أن الجميع أخوان، وأن حقوقهم في السياسة والشرائع متساوية، وهذا مسلم به عند أخص مشايخ الأزهر الذين يعضدون هذا الحزب، ويعتقدون أن الشريعة المحمدية الحقة تنهى عن البغضاء، وتعتبر الناس في المعاملة سواء”.” الأعمال الكاملة للامام محمد عبده جمع وتحقيق محمد عمارة”
هذا ما عبرت عنه مواقف وأدبيات سادت في بداية العصر عن فكرة العلمانية في الاسلام، وإمكان ممارستها في المجتمع العربي الحديث دون أن تتناقض معه، إلا أن بعض الاسلاميين المحدَثين، وقف ضد الفكرة العلمانية لأسباب نذكرها دون أن نتعرض لتقييمها :
1ـــ لشعورهم أنه لا توجد حاجة تدفع إلى إشكالية علمانية في الحياة السياسية، فالعلمانية بما هي نموذج تاريخي ثابت لإعادة تنظيم العلاقات التاريخية بين الكنيسة والدولة، لا يمكن أن تعني شيئاً كثيرًا بالنسبة للمجتمعات التي لم تعرف نظام الكنيسة أساسًا.
2ـــ لشعورهم أيضا بأن العلمانية انتهت إلى صورة دين جديد يدعو للإلحاد ويسعى لتغيير قيم المجتمع، بما تظهر من قيم ومفاهيم ورؤى اجتماعية وكونية متميزة، تخالف قيم الثقافة الدينية والتراث التقليدي.
3ـــ بروز شعار العلمانية مستخدما من قبل أحزاب وتنظيمات وحكومات كسلاح يعمل على تشويه المجتمعات العربية، ويصمها بالتأخر والتعصب، والافتقار إلى القيم العلمية والمعايير الكونية والانسانية.
4ـــ للشعور بأن قيم العلمانية وأطروحاتها لم تمنع الأوربيين مبدعي العلمانية من قهر الشعوب وظلم المجتمعات، وممارسة كل ما يناقض ما يطرحون، من عنصرية واستبداد وتفرقة بين الشعوب. يقول ناجي علوش : ” أما في السياسة فإن العقلانية (احدى قواعد العلمانية ومرتكزاتها ) التي ولَدت نظريات العقد الاجتماعي، وفصل السلطات، وإرادة الشعوب، هذه العقلانية أباحت اتجاهات فيها احتلال المستعمرات، وتأييد القوى والأنظمة القمعية في العالم الثالث، ومحاربة القومية في البلدان النامية، وشن الحروب المقدسة على الشيوعية، كما ولدت الأفكار العرقية التي تفلسف حكم القوة والاستيلاء على المستعمرا ت، ومن ذلك “النازية – والفاشية – والصهيونية”. وشجعت السيطرة على الأسواق العالمية، والتفوق في كل الميادين ” السلاح – والسلع – والثقافة ” .
5ـــ رغم مناداة دول بالعلمانية وتبينها لها “الاتاتوركية – الشاهنشاهية – البورقيبية”، فإنها بقيت رمزا ً للفساد، والاحتكار والاضطهاد الشامل والمعمم للأقليات والأغلبيات على حد سواء، للمؤمنين وغير المؤمنين. ولم تستطع أن تنشئ اجماعًا وطنيًا كما انتهت إليه التجربة الأوربية. فاختلطت الدولة بالعقيدة الحزبية، ولم يتحرر مفهومها من هذه السيطرة، ولم تظهر بعد كمبدأ للإنجاز تقف إزاء موضوع الايمان والضمير والفكر، موقف الضامن والكافل للحرية والكرامة الشخصية، لا موقف السياسة الحزبية. فالاضطهاد التي تمارسه الدولة التي ترفع شعار الدولة العلمانية، وضع عقبات كبرى أمام مصداقية العلمانية ذاتها.
6ـــ ومن مبررات رفض العلمانية عند بعض الفئات، استخدام دول أجنبية هذا الشعار لوصم المجتمعات والدول العربية الاسلامية، ببعدها عن متطلبات التعاون والتفاهم الدولي في إطار بناء حضارة بشرية واحدة .
هذه مبررا ت رفض العلمانية لتي رآها البعض وهي مبررات تبدو معقولة، وهي تتمثل فشل العلمانية في تحقيق أهدافها بشكل مطلق، حيث فشلت مع شعوب ونجحت مع أخرى. وفي مظهر آخر بقيت شعارات دون أن تحقق أهدافًا مرتجاة.
ولكنها مبررات لا تقوم على نقد لمفهوم العلمانية ذاته، وهذا سبب قصورها، فهي نابعة نتيجة تشويش بعثه استخدام المفهوم استخدامًا خاليًا من أي نقد، وبعيدا عن أي حقيقة .
إن ما حصل لمفهوم العلمانية في الدول التي أساءت تطبيقه هو نفسه ما حصل لمفهوم الشيوعية في الدولة السوفيتية،” من المساس بحرية العقيدة، وحجز الحريات الشخصية وكل قيمة مستمدة منها، وإعلان محاكم تفتيش جديدة، بل هي ألغت الأديان، ولكنها أحلت محلها دينًا جديدًا، وقضت على رجال الدين واستبدادهم اللاهوتي، لتحل محلهم رجال يستبدون بالمجتمع باسم العلم ووحدة المجتمع وما إلى ذلك”.
ومثل ذلك حصل مع العلمانية في بعض وجوهها، وأبرزه محاولة الداعين لها أن يجعلوا منها مصدرًا للقيم، مما أدخلها في محنة أخلاقية، تجلت ظواهرها في فرنسا حديثًا، وهي تواجه مسألة الحجاب الإسلامي في المدارس، وتواجه قضية سلمان رشدي، مما دعا أركون المفكر العلماني، أن يرى مثل هذه المظاهر علامة على على تراجع العلمانية. يقول هاشم صالح ناطقا ً بلسان أستاذه المفكر الجزائري محمد أركون : ” وقد ارتفعت في فرنسا مؤخراً بعض الأصوات الداعية إلى المراجعة وإعادة النظر، وتشكيل علمنة منفتحة وواسعة، منها صوت (جان بوبيرو) أحد كبار مؤسسي البروتستانية في فرنسا المعاصرة الذي أصدر كتاب ( نحو ميثاق علماني جديد ” .
إن الرفض الذي تجلى هنا وهناك، ليس قائما ضد مفهوم العلمانية، فكثيرون يتفقون على ضرورتها، وهذا يستدعي لحديث في المفهوم”مفهوم العلمانية”، لنقف على أرضية حوار مشتركة تستوعب مغزى هذا الحديث، فلا يتحول إلى حوار طرشان، إذ أن توحيد المصطلح يبعد عن الشطط، ويرسى على الشواطئ الآمنة، ويبعد عن لجة البحر وأمواجه المتلاطمة.
—————————-
استعصاء السويداء يؤجّل البتّ بشكل الدولة السورية الجديدة/ عبدالله سليمان علي
تعرّضت حكومة تصريف الأعمال في سوريا لأول موقف هزّ صورة السيطرة التي حرصت على الإيحاء بها منذ فرار الرئيس السوري بشار الأسد في 8 كانون الأول (ديسمبر)، وذلك عندما رفضت المرجعية الروحية في محافظة السويداء ومن ورائها الفصائل المحلية المسلحة، دخول رتل عسكري تابع للإدارة الجديدة إلى مدينة السويداء، فعاد أدراجه إلى دمشق تاركاً صورة مشوّشة عن مصير المحافظة الجنوبية التي طالما تمتعت بخصوصية ميّزتها عن سائر المحافظات السورية الأخرى
وقد عُزي رفض دخول الرتل، إلى عدم وجود تنسيق مسبق بين الإدارة الجديدة ووجهاء المحافظة، لا سيما المرجعية الدينية ممثلة بالشيخ حكمت الهجري شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الذين يشكلون الغالبية العظمى من مواطني المحافظة.
غير أن الإعلام التابع لـ”هيئة تحرير الشام” حاول تسويق رواية مغايرة لما حدث، مشيراً إلى أن الرتل التابع لجهاز الأمن العام إنما قدم إلى السويداء بعد اتفاق بين ممثلي المحافظة وإدارة العمليات العسكرية. ولكن قام بعض الأشخاص التابعين سابقاً لـ”كفاح الملحم” (رئيس شعبة الأمن العسكري) وهم عبارة عن مجموعات أمنية سابقة بإيقاف الرتل ومنعه من الدخول.
وأضاف أنه تم التواصّل مع قائد تجمع “أحرار الجبل” الشيخ سليمان عبد الباقي الذي اعتذر عن الإشكال الحاصل. وبدوره تفهّم الرتل ضرورة عدم حصول أي إشكال داخل المحافظة فعاد ريثما يتم تنسيق الدخول بشكل أفضل.
وما يثير الانتباه في رواية “تحرير الشام” أنها حمّلت مجموعات أمنية تتبع لشعبة الأمن العسكري المسؤولية عن عرقلة طريق الرتل. وأثار ذلك شكوكاً في الهدف من الزج باسم اللواء كفاح ملحم في هذه القضية، وما إن كان المقصود هو بناء ذرائع تمهّد الأرضية لملاحقة فلول النظام والشبيحة كما يحدث في مناطق العلويين في اللاذقية وطرطوس وحمص وحماة.
غير أن الأمر أبعد من مجرد هذا الهاجس الأمني، لأنه يرتبط بقضايا أشد تعقيداً مثل شكل الدولة العتيدة وطبيعة نظام حكمها ومبادئ دستورها، والأهم هو طبيعة العلاقة بين محافظة السويداء والمركز.
وبذلك تنضم السويداء إلى منطقة نهر الفرات التي تحكمها الإدارة الذاتية التابعة لـ”قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) وتشمل مدناً ومحافظات في دير الزور والرقة والحسكة، إذ إن مصير هذه المنطقة ما زال مجهولاً بسبب خضوعه لتجاذبات إقليمية ودولية. ويبدو أن حسمه يحتاج إلى ما هو أكثر من حوار مباشر بين الإدارة الجديدة وقيادة “قسد” (جرى الحديث عن عقد جولة أولى)، لأنه مرتبط بمصالح دول مختلفة وأجنداتها مثل الولايات المتحدة وتركيا وإسرائيل. والأخيرة بدأت تركز في خطابها على قضيّة حماية الأقليات في سوريا كما فعل وزير خارجيتها في اتصاله بنظيره اليوناني قبل أيام، وذلك في مؤشر إلى وجود رغبة لديها في عدم ترك تركيا تستأثر برسم المشهد السوري الجديد وحدها.
ولا تخفي الرئاسة الروحية في السويداء، ولا قادة الفصائل المسلحة المحلية، مطالبتها بضرورة بناء الدولة السورية الجديدة على أساس لامركزي، بحيث تتمتع فيه بعض المناطق بحكم محلي ذي صلاحيات واسعة. ويتلاقى هذا الهدف مع رؤية “قسد” لمناطق سيطرتها وطبيعة علاقتها بالمركز.
وأعلن الشيخ الهجري أكثر من مرة رفضه تسليم سلاح الفصائل المحلية في السويداء إلى الإدارة الجديدة، معتبراً أن من المبكر الحديث عن هذه الخطوة. وذكر أن تسليم السلاح أمر مرفوض نهائياً إلى حين تشكيل الدولة وكتابة الدستور “لضمان حقوقنا”. ولم يخف هواجسه إزاء الوضع القائم، وطالب بمراقبة دولية تضمن عدم وجود ثغرات في عملية بناء الدولة الجديدة.
ويؤكد رفض تسليم السلاح ومن بعده رفض استقبال رتل الهيئة الذي كان يخطط لدخول مقارّ أمنية سابقة والتمركز فيها لإدارة الوضع الأمني في السويداء، أن عملية بناء الثقة بين وجهاء السويداء والإدارة الجديدة قد تحتاج إلى وقت أطول مما هو متوقع، وبالتالي سيشكل هذا الواقع معضلة أمام الإدارة الجديدة التي قالت إنها تستعد لعقد مؤتمر وطني، فهل تُستثنى السويداء من المؤتمر أم يُدعى ممثلون عنها رغم رفضهم تسليم السلاح والاعتراف بالسلطة الجديدة؟ وهو ما قد يجر عليها (الإدارة) الكثير من الانتقادات باتباع معايير مزدوجة في التعامل مع المناطق بسبب انتماء أبنائها الديني.
وفي ظل هذا الاستعصاء من السويداء، والغموض الذي يحيط بمصير منطقة شرق الفرات في ظل رغبة تركية في حسمه عسكرياً، وهو ما يقاومه أحمد الشرع حتى الآن خشيةً من رد فعل أميركي، يبدو أن شكل الدولة في سوريا وطبيعة دستورها ونظام الحكم فيها ستظل متوقفة على التوازنات الدولية والإقليمية الجديدة التي تنتظر قدوم دونالد ترامب إلى البيت الأبيض ليبلور رؤيته حولها والتفاوض مع الدول المعنية حولها.
النهار العربي
————————
عن دور التسويات في خلق الأمم: حاجاتنا السورية في المرحلة الراهنة ودروسٌ من الولايات المتحدة/ موفق نيربية
03-01-2025
يقولون إنه ظهرت على بشار الأسد حالةُ الذاهل والمصعوق ممّا جرى له ولجيشه، الذي ثبتَ أنه لم يكن «جيشاً سورياً» كما يجب أن تعنيه هاتان الكلمتان. أياً يكُن الأمر، فإن الطارئ المفاجئ الأكبر في الوضع السوري هو انهيار النظام السوري أمام زحف القوى المسلّحة المعارضة المتعدّدة، بقيادة هيئة تحرير الشام التي ما زالت مُصنَّفة إرهابية ويبدو أنها لن تبقى كذلك، غالباً… بذلك تخلَّصَ الشعب السوريّ من سلطة مستبدّة بقيت فوق ظهره عقوداً طويلاً، فهنيئاً له ولنا أولاً.
ولم يبدأ القادرون وأصحاب المصلحة في البلاد بالتسابق على المواقف وبحث المستقبل فحسب، بل معهم أيضاً كثيرون ممّن اعتادوا انتهاز الفرصة وتحقيق المكاسب. لكن عامة الناس والنخب، رغم انشغالهم بالنصر وسقوط النظام كخطوة لازمة أولى وشرطٍ لوجود سوريا القادمة، كلّهم أخذوا يتساءلون بين الابتسامة والأخرى حول المستقبل، وحول الخوف من التقسيم ومن أطماع الدول المُتدخَّلة وخصوصاً القريبة من سوريا، وحول مُحدِّدات التفاوض وعناصره وشروط نجاحه. من المطلوب والمُلحّ عودة الجميع إلى طاولة المفاوضات، للحفاظ على ما تبقّى ولو بعد حين. بخلاف ذلك، سوف تعود سوريا إلى دوامة جديدة.
يُشكّل بيان العقبة الذي أصدرته لجنة الاتّصال العربية (مصر والسعودية والأردن ولبنان والعراق والجامعة العربية بحضور قطر والإمارات)، مع لجنة الاتصال المشتركة (الولايات المتّحدة وألمانيا وفرنسا وبريطانيا والاتّحاد الأوروبي)، أساساً متيناً ومُنسجماً للمسار اللاحق الواجب اتّباعه.
وبما أن الدستور القادم سوف يكون محطّ الاهتمام والاتّفاق والاختلاف، وبما أن سوريا من بين الدول الكثيرة التي لا بدّ أن تلزمَ طريق «التوافق» ومبادئه حتى تنجو من ألغام الحاضر والمستقبل، فقد رأيتُ أن أعرضَ خاطرة أظنّها هامة جداً، عنّت في بالي منذ فترة، وربّما لا بأس من عرضها ما دمنا ننتظر ونتأمّل.
لم تتأسّس الولايات المتّحدة، وهي «الديمقراطية الأولى في العالم»، على «الديمقراطية» من حيث هي خضوع الأقلية للأكثرية، بمقدار ما تأسّست على تسويات وصفقات، من دونها لم تكن تلك الدولة لتولد وتبدأ مسيرتها إلى أن وصلت ما وصلت إليه.
كان هنالك ثلاث عشرة «دولة» آنذاك، كانت مستعمرات بريطانية تعمل معاً من خلال «كونفدرالية الولايات – الدول – الأميركية» التي؛ كما يُفهَم من تسميتها؛ تجمعُ كيانات مستقلة في مُجمَّع تنسيقي أكثر ممّا هو اتّحادي. ومن أجل إعلان الاستقلال عن بريطانيا، وكتابة إعلان ذلك الاستقلال، اجتمع ممثّلوها معاً لدراسة مستقبلهم مستقلّين ومُوحَّدين. بين تلك الولايات الفخورة كانت هنالك ولايات صغيرة وكبيرة، ولا ترضى كلّ منهما بالتنازل عن موقعها للأخرى.
في تلك المستعمرات البريطانية البعيدة، اجتمع تنوّعُ الولايات المتحدة، ثمّ تزايد وتزايد. كانت تجمع كلُّ الهاربين من أتباع الفرق الدينية التي عاشت قمعاً دينياً في أوروبا، والأقلّيات المضطهدة من أمم وإثنيات مختلفة. وكانت عملية تصنيع دستور يتوحّد حوله أولئك المختلفون عمليّة خلّاقة، تنفع دراستها وتساعدنا اليوم. كان لا بدّ من صفقات وتسويات وتنازلات متبادلة، وذلك في مسار التوافق بين المُوزَّعين على مستعمرات ستصبح عندئذٍ دولاً أو ولايات متّحدة.
حملت الصفقة الأولى اسم «تسوية ماساتشوستس»، وانعقدت للتوفيق ما بين «الفدراليين» والمُعادين للفدرالية. والمُعادون هنا لم يكونوا في وارد البحث عن مزيد من المركزية، بل عن مزيد من الاستقلالية، فقد كانوا يرون في توجّه الآخرين خطرَ المركزية الزائدة، ونوعاً محتملاً من الاستبداد قد يدفع نحو التخلّي عن الحريّات والحقوق الأساسية.
قضت تسوية ماساتشوستس بأن تكون هنالك تعديلات عشرة على الدستور، يترافق التصديق عليها مع التصديق على جسم الدستور، وتغدو جزءاً منه. أُطلق على تلك التعديلات اسم «لائحة حقوق الإنسان»، وغدت جزءاً من الدستور الذي وافق عليه الجميع مرتاحين عندئذٍ.
أمّا الصفقة الثانية المهمّة فكان اسمها «تسوية كونيكتكت»، أو الصفقة الكبرى كما عُرفت أيضاً. ففي تموز (يوليو) 1787، اقترحَ مندوبَا ولاية كونيكتيكت في المؤتمر الدستوري خطة لإنشاء هيئة تشريعية من مجلسين، ليكون ذلك حلاً للمناقشة المحمومة بين الولايات الأكبر والأصغر بشأن تمثيلها في مجلس الشيوخ المُقترَح حديثاً. اعتقدت الولايات الأكبر أن التمثيل يجب أن يستند بشكل متناسب إلى المساهمة التي قدمتها كل ولاية في موازنة الأمة ودفاعها، واعتقدت الولايات الأصغر أن الخطة العادلة الوحيدة هي خطة التمثيل المتساوي. ثم نصَّت التسوية على نظام مزدوج للتمثيل. فيها يكون عدد مقاعد مجلس النواب من كل ولاية متناسباً مع عدد سكانها، أمّا في مجلس الشيوخ فلجميع الولايات عددُ المقاعد نفسه. كانت حسابات الممثّلين في مجلس النوّاب في تلك الصفقة تحمل تمييزاً ما زال سائداً آنذاك بين السود والبيض، ولم يُقِرَّ المؤتمر الدستوري تلك التسوية الكبرى إلّا بأغلبية صوت واحد.
من بين المساومات الإضافية على الدستور، كان التعديل الثاني عشر، الذي جاء تعبيراً عن صفقة ثالثة بدوره. فلم يكن سهلاً التوصّلُ إلى طريقة انتخاب الرئيس، صاحب السلطات الواسعة، لا من خلال الانتخاب في الكونغرس، ولا عن طريق الانتخاب الشعبي الذي سيعطي للولايات الكبيرة وزناً أكبر من غيرها. فحمل ذلك التعديلُ طريقة انتخاب تعتمد على وجود ناخبين كبار من كلّ الولايات حسب عدد ناخبيها، مع وجود السيناتورات المُمثّلين لكلّ ولاية بالتساوي، وضمان أن يكون الحدّ الأدنى للتمثيل هو ثلاثة. وهذا ما رأيناه في تجميع أصواتِ ما أصبح اسمه لاحقاً «المُجمَّع الانتخابي»، الذي جعلَ عدم التطابق بين نتيجة الانتخاب الشعبي وتلك التي تحدث في ذلك المُجمَّع هو الأمر السائد، وليس كما حدث مع سعيد الحظ دونالد ترامب مؤخّراً.
كان اختيار موقع العاصمة، مثل أغلب القرارات التي اتُّخِذت في تشكيل الأمة الناشئة، نتيجة للمفاوضات وموضوعاً لصفقة رابعة. فقد سعى هاملتون، الذي كان آنذاك وزيراً للخزانة، إلى تمرير قانون تمويل الحكومة الفدرالية حتى تتمكّن من تَحمُّل ديون حرب الاستقلال الأميركية، وبالتالي منح الحكومة مزيداً من القوة الاقتصادية. وفي الوقت نفسه، أراد وزير الخارجية توماس جيفرسون تمرير «قانون المَقرّ»، القاضي بتحديد موقع عاصمة الأمة على مسار نهر بوتوماك، ومن ثمّ منح الجنوب قوة سياسية أكبر لكبح القوة الاقتصادية المتنامية للشمال من خلال وضع العاصمة في موقع ملائم للمصالح الاقتصادية الجنوبية.
توصَّلَ الرجلان إلى اتفاق: حيث تمكّن جيفرسون من إقناع ماديسون، وهو رجل يتمتع بنفوذ كبير في مجلس النواب، بدعم قانون هاملتون للتمويل وحشد الأصوات اللازمة لإقراره. وبالمقابل، ساعد هاملتون كلّاً جيفرسون وماديسون في تأمين الأصوات اللازمة لإقرار «قانون المقرّ»، حيث ستُبنى العاصمة الجديدة للبلد الجديد.
ما يهمّ هنا في تلك الصفقات المؤسِّسة هو أنه من دونها ما كانت الولايات المتّحدة الأميركية لتولد وتكون حاملة للطاقة الكامنة التي ظهرت في القرن الماضي، والتي استمرّت في القرن الحالي حتى الآن. وهذا الدرس مختلفٌ تماماً عن نشوء «الجمهورية الفرنسية»، التي ما كانت بحاجة إلى كلّ تلك التعقيدات والصفقات، لأنّها أكثر «تجانساً» بكثير ولا توجد تلك الفروق النوعية ما بين مناطقها ولا في مصالحها العامة.
تحتاج كيانات شرق المتوسّط، أو المشرق، إلى صفقاتٍ تأسيسية لطالما احتارت فرنسا وبريطانيا في التوصّل إليها، لكنّهما لجأتا دائماً في النصف الأول من القرن العشرين إلى استسهال الاحتكام إلى مصالحهما، أو ارتجال الحلول بحيث لا ينشأ وقتها أيّ صداع: أي أنّهما اختارتا أقلّ الحلول المؤسّسية صُداعاً، بل وتنقّلتا من حالٍ إلى حالٍ مراراً، كما حدث مع الفرنسيين في سوريا ولبنان: تنقّلَ الانتداب الفرنسي بين التقسيمات الاتّحادية المختلفة في سوريا بعد اقتطاع جزء منها لاستكمال لبنان «الصغير»، ثمّ اختارت الشكل المركزيّ تماماً واستسهلت الخضوع لقوة النزعة «القومية» المُتصاعدة وطلبت رضاها في ثلاثينيات القرن الفائت.
ليس هذا تأييداً للنزعة الانفصالية، بل محاولةً لفهم جذور ما حدث لاحقاً، بعد أن كان الناس في سوريا تحت ضغط مركزية متسلّطة تمنع أو تقمع ظهور النزعات الخاصة أو الإقليمية والطائفية والإثنية والقومية، لكنّها لا تستطيع منع استمرار وجودها تحت طبقة سميكة أو رقيقة، لأنّ لها قواعد وجود ونموّ أكثر تعقيداً. وفي الوقت ذاته، يُوحِّد التسلط ما بين تلك القوى الكامنة أحياناً ويعمل على تفريقها أحياناً أخرى، حسب حاجات السلطة ودرجة عدوانيّتها.
ربّما لن يكون هنالك حلّ عمليّ إلّا بالتوافق المُسبَق على أُسس الدولة، كما فعل اللبنانيون بالتعاون مع فرنسا في مطلع الأربعينيات، أو كما فعلوا في اتّفاق الطائف الأحدث بعد الحرب الأهلية. هذا التوافق المُسبَق يعتمد على الحوار والمناقشة بين ممثّلي الآراء والقوى الفاعلة المختلفة بكلّ أشكالها، والدخول في «مطبخٍ» مهما كان شكله القانوني، لا يخرجون منه إلّا متفقين على أساسيات دولتهم المستقبلية المشتركة، وغالباً من خلال «صفقات» تُوحِّد بين المواقف أو تقوم على المقايضة بين التنازلات. وللمسار التوافقي أصوله، لكنّه لا يكون فعّالاً إلّا من خلال يأس الأطراف كلّها من السياقات الدموية، ومن التمزّق والتفتّت والدمار: أي أنها تحتاج إلى «حُسن النيّة» الذي لم يَسُد حتى الآن.
يجري الحديث أعلاه عن المشرق كلّه، ولكن خصوصاً وبالأخصّ عن السوريين. هنا لا بدّ من طريق التوافق (كما ذكرتُ في المقدمة) للوصول إلى الرضا المتبادل، لأنّ طريقة الإسلاميين بمختلف ألوانهم في البحث عن حلّ بالتصويت، ومن ثم إقرار ملامح المستقبل بأغلبية 51٪ نتيجة اعتقادهم أنهم قادرون على حشد المسلمين السنّة وراءهم بطرق مختلفة؛ وكذلك طريقة القوميين العروبيين في طرح يشبه ذلك لاعتقادهم بأن وراءهم أغلبية قومية مكفولة سلفاً؛ لن تَكفلا السلام ولا التقدّم للبلاد… ولا وحدتها.
رغم ذلك، لا ينبغي أن ندعَ الوساوس والهواجس تُفسد أفراح الشعب للسوري ولا احتفالاته
موقع الجمهورية،
————————–
هل تستفيد سوريا من تجربة الانتقال الديمقراطي في إسبانيا؟/ عادل بن حمزة
تحديث 03 كانون الثاني 2025
توجد سوريا في مرحلة دقيقة وخطيرة من تاريخها المعاصر، ذلك أن إنجاز إنهاء نظام أسرة الأسد لا يجب أن يخفي المخاطر التي تحيط بسوريا في ظل غياب رؤية واضحة لرسم ملامح المستقبل واستمرار سلطة الأمر الواقع في وضع الترتيبات الأمنية والعسكري والسياسية بل وحتى تقدير عمر المرحلة الانتقالية والتاريخ الممكن لإجراء إنتخابات تنافسية تفرز السلطة التي ستحكم السوريين، بالتأكيد أن المرحلة دقيقة جدا وأن التهديدات الداخلية والخارجية جدية ودقيقة للغاية مما يعطي الأولوية تلقائيا للقضايا الأمنية والعسكرية، لكن وبكل يقين هناك خيط رفيع جدا بين جدية التهديدات وبين توظيفها لتأبيد الأمر الواقع بما يشكله ذلك من خطر إعادة إستنساخ تجربة عائلة الأسد. في هذا السياق لا بد أن نسحتضر تجربة إسبانيا في الإنتقال الديمقراطي والتي قامت على غبار حرب أهلية طاحنة خلفت وراءها أكبر المقابر الجماعية التي تم اكتشافها في العالم إلى اليوم.
مثلت تجربة الانتقال الديمقراطي في إسبانيا واحدة من النماذج التي استأثرت باهتمام السياسيين و الأكاديميين من مختلف دول العالم، وتحولت إلى موضوع بحوث خاصة في علم السياسة وعلم الانتقال الديمقراطي، كما تحولت لدى كثير من الفاعلين السياسيين في الدول التي تعرف تعثرا في بناء الديمقراطية، إلى “براديغم” مثالي يسعون إلى تطبيقه في بلدانهم، وقد شكل “الربيع العربي” فرصة أخرى لاستحضار التجربة الإسبانية في سياق المرحلة الانتقالية التي عرفتها كل من تونس ومصر و ليبيا وما تعرفه اليوم سوريا، كما أن التجربة الاسبانية كانت ملهمة للتحولات التي عرفتها أوربا الشرقية بعد انهيار جدار برلين، وشكلت نموذجا لتجارب الانتقال في أمريكا الجنوبية.
سعى مسلسل الانتقال الديمقراطي في إسبانيا من جهة إلى تحديث الدولة وهي تتجه نحول المستقبل وادماجها في أوربا وتحقيق التنمية الاقتصادية، ومن جهة أخرى إغلاق التاريخ الأسود لإسبانيا متمثلا في الحرب الأهلية وتركتها التي قسمت البلاد في ظل أربعين سنة من حكم الديكتاتور فرانكو. من زاوية النظر هاته يمكن القول أن الانتقال الديمقراطي شكل مصدرا لشرعية النظام السياسي الاسباني ولتحديث الدولة الاسبانية وللازدهار الذي تعرفه. لقد امتدت التجربة الاسبانية في الانتقال من سنة 1975 تاريخ وفاة فرانكو إلى سنة 1982 التي تحقق فيها التناوب السياسي بعد وصول الحزب الاشتراكي(PSOE) بزعامة فليبي غونزاليس (1974-1997)إلى الحكم على إثر فوزه بالانتخابات معلنا عودة الاشتراكيين إلى السلطة بعد غيابهم عنها منذ الجمهورية الاسبانية الثانية، مرورا بسنة 1978 التي اتسمت مفاوضاتها باعتدال جميع الأطراف وهو ما مكنها من التوافق على الدستور الذي أقر دولة الجهات وقطع مع مخلفات الحرب الأهلية ومرحلة الحكم الديكتاتوري، وبصفة خاصة بعد فشل المحاولة الانقلابية في 23 شباط (فبراير) 1981 التي أعلنت موت آخر قلاع مقاومة التغيير الديمقراطي من بقايا عهد فرانكو، علما أن هناك من يتحدث عن محاولات انقلابية غير تلك المحاولة، بل يمكن القول أن التجربة الاسبانية أثبتت نجاحها بصفة كاملة عندما خسر الحزب الاشتراكي انتخابات سنة 1996 التي فاز فيها الحزب الشعبي (PP) المحسوب تقليديا على إرث فرانكو، بزعامة خوسي ماريا أثنار.
يقول ضون طوركواتو فيرنانديث ميراندا رئيس الكورتيس ومربي الملك خوان كارلوس، إنه “سهل الأمر على تلميذه، الذي وضعت الأقدار في يده فرصة التصرف في مصير إسبانيا، بأن أفتى له بأنه إذا كانت مبادئ “الموفيمينتو” قانونا، فإن القانون يتم تغييره بقانون غيره” وباستيعاب هذه المقولة سقطت تفاحة نيوتن وأقبل الملك على سن قوانين جديدة استنادا إلى شرعية القوانين التي أقامها فرانكو، فعملية الانتقال الديمقراطي بإسبانيا هي عملية سياسية متناقضة إلى حد ما، لأنه يوجد نوع من الفارق أو الاختلاف بين الشكل الذي تحققت به ومحتوى هذه العملية في حد ذاتها وذلك لأن الآليات المؤسسية التي غيرت الدولة الاسبانية احترمت من حيث الشكل أسس الشرعية التي قام عليها نظام فرانكو. ومع ذلك، إذا اعتمدنا الإصلاحات كمرجع، فإنه لا يمكننا الحديث عن تغيير النظام السياسي، بل عن تحول كلي في القواعد الأيديولوجية والهياكل التي تقوم عليها مؤسسات الدولة، لذلك من الضروري الانتباه إلى جوانب معينة من تلك العملية خاصة:
– ضرورتها، لأن النظام السياسي السابق لم يتكيف مع حاجيات مجتمع خضع لتغييرات عميقة، ولأن قادة ما بعد فرانكو، وبصفة خاصة الملك، كانوا بحاجة إلى شرعية ديمقراطية يفتقرون إليها.
– كانت مطلبا مجتمعيا، فالاحتجاج الاجتماعي ضد النظام الديكتاتوري كان قويا، إذ فشلت الآليات القمعية في السيطرة على مجتمع يتغير ويتطور.
– طابعها التفاوضي، لأنها كانت ثمرة نقاش جمع بين مختلف قوى نظام فرانكو وقوى المعارضة الديمقراطية، توج بالموافقة على النص الدستوري.
التجربة الإسبانية تثبت أنها ليس بالضرورة أن تقوم عملية الانتقال نحو الديمقراطية وفق قواعد اللعبة الصفرية بمعنى الفائز يكسب كل شيء والخاسر يخرج خاوي الوفاض، بل وفق نموذج يحافظ على بنيات الدولة وضمان حق الجميع في التعبير عن الرأي وامتلاك نفس الحظوظ للوصول إلى السلطة، ويبدو أن كثيرا من بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بحاجة إلى هذا الدرس
النهار العربي
—————————-
========================