سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 04 كانون الثاني 2025
لمتابعة التغطيات السابقة
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 03 كانون الثاني 2025
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 02 كانون الثاني 2025
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 01 كانون الثاني 2025
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 31 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 30 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 29 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 28 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 27 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 26 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 25 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 23 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 22 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 21 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 20 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 19 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 18 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 17 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: المصاعب والتحديات، مقالات وتحليلات 16 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مهام اليوم التالي، مقالات وتحليلات 15 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 14 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: سقوط الديكتاتور الفار بشار الأسد مقالات وتحليلات
————————————-
لا عيب في حكومة سورية من لون الواحد، ولكن!/ وائل السواح
04.01.2025
حكومة اللون الواحد ليست أفضل الحكومات، خاصة في بلد منقسم أفقياً وعمودياً انقسامات متعددة ومتلونة. وبدهي أن تُثير سيطرة جهة سياسية واحدة على السلطة التنفيذية تفاعلات متباينة وانتقادات محقّة، خاصة بسبب قابليتها الطبيعية للانزلاق نحو الاستبداد. ولكن، من جهة أخرى، يمكن أن تُبرز حكومة كتلك مزايا محددة عندما تُدعم بضوابط وتوازنات فعّالة. يستعرض هذا المقال ميزات السلطة التنفيذية ذات الحزب الواحد، مع التركيز على نقاط قوتها في الحوكمة.
سأدافع في هذه المقالة عن فكرة قد تبدو غير مألوفة للديمقراطيين السوريين: لا يوجد إشكال جوهري، من حيث المبدأ، في وجود حكومة من حزب واحد. قلت في مقال سابق إنني كنت أفضل لو أن المنتصرين في الحرب التي أطاحت بالدكتاتور السوري الهارب قد احتفظوا بحكومة الجلالي، مع استبدال وزراء الخارجية والدفاع والداخلية فقط، أو بدلاً من ذلك إقالة جميع الوزراء وتفويض نوابهم لإدارة الحكم خلال الفترة الانتقالية. ومع ذلك، بما أن هؤلاء المنتصرين اختاروا الحكم بشكل مباشر، فلا يوجد سبب للاعتراض على حكومة تمثلهم حصرياً وتتشكل من فصيل سياسي واحد، فذلك أدنى للحكم عليهم في نهاية المرحلة. في السطور التالية، سأوضح الأسباب التي تدعم هذا الرأي. ولكنْ، قبل ذلك، دعونا نتخيل سيناريو مختلفاً.
لنفترض أن زعيم “هيئة تحرير الشام” أحمد الشرع، أراد أن يشكّل حكومة ائتلافية جامعة خلال فترة قصيرة لتسيير أعمال البلد، في أثناء المرحلة الانتقالية التي قُدرت بثلاثة أشهر. بداية سيستغرق التواصل مع الأطراف المختلفة شهراً كاملاً كحد أدنى، وستكون المفاوضات عسيرة، إذ سيطالب كل طرف بحصّة أكبر لنفسه.
ثم لنفترض أن الحكومة تشكّلت، فكيف سيمكنها بالفعل تسيير أمور البلاد؟ كيف ستتعاون حكومة فيها ممثلون عن “الائتلاف الوطني” و”هيئة التنسيق” و”منصتي القاهرة وموسكو” و”هيئة تحرير الشام” والفصائل المسلحة و”الإخوان المسلمين” والكرد والتركمان و”التحالف السوري الديمقراطي” و”مسار ستوكهولم” و”مؤتمر استعادة القرار”؟ ولا ينبغي أن ننسى السنة والمسيحيين والعلويين والدروز والإسماعيليين، وكيف ستصدر قراراتها؟ ألن يحرد (فينسحب أو يعتكف) ممثل هذه الفئة أو تلك؟ وحين التصويت ألن يستغرق كل قرار ساعات وساعات لنصل إلى قرار، وقد لا نصل؟
الكفاءة في صنع القرار
لعل أبرز المزايا التي تقدّمها السلطة التنفيذية ذات الحزب الواحد هي الكفاءة في اتخاذ القرارات وتنفيذ السياسات بسرعة. فمن خلال تجنّب التأخير المرتبط بالمفاوضات المطولة مع أحزاب المعارضة، يمكن للحكومة التعامل مع الأزمات والقضايا العاجلة بفاعلية وسرعة. وفي سياقات مثل البلدان الخارجة من ثورات عنيفة أو حروب أهلية أو أزمات اقتصادية أو كوارث طبيعية، يمكن لهذا النهج الحاسم أن ينقذ الأرواح ويضمن الاستقرار الوطني. وكمثال فقط، يُتيح نظام الحكم المبسّط في الحكومات ذات الحزب الواحد تمرير السياسات بسرعة، من دون التعطيل الناجم عن الخلافات الحزبية. وتبرز هذه الكفاءة بوضوح في تنفيذ المشاريع التنموية طويلة الأمد التي تتطلب تركيزاً واستمرارية.
إلى ذلك، تُسهم السلطة التنفيذية ذات الحزب الواحد في تعزيز الاستقرار من خلال القضاء على حالة عدم اليقين الناتجة عن التغيرات الحكومية المتكررة، وبفضل القيادة الموحدة، يصبح التخطيط والتنفيذ ممكنين أكثر، ما ينعكس إيجاباً على قطاعات حيوية كالبنية التحتية والتعليم والرعاية الصحية. كما أن الاستقرار السياسي يُشجع الاستثمار ويوفر بيئة أعمال مستقرة وقابلة للتنبؤ، وهي عوامل أساسية للنمو الاقتصادي.
علاوة على ذلك، يضمن هذا الاستقرار عدم التراجع المفاجئ عن السياسات نتيجة لتغير التحالفات السياسية أو الاختلافات داخل ائتلاف حاكم، ما يمنح المواطنين شعوراً بالثقة بقدرة الحكومة على تحقيق نتائج مدروسة ومستمرة.
تتميز السلطة التنفيذية ذات الحزب الواحد بتماسك داخلي أكبر مقارنة بالحكومات الائتلافية، مما يُترجم إلى سياسات ثابتة ورؤية واضحة طويلة الأمد. تُتيح هذه الخصوصية للحكومات التركيز على تحقيق الأهداف الاستراتيجية دون التشتيت الناجم عن الخلافات الحزبية.
على سبيل المثال، ساهم نظام الحزب الواحد في الصين في تحقيق أهداف اقتصادية وتكنولوجية طموحة باتساق واضح. وعلى الرغم من الانتقادات الموجهة إليه، فإن الاستقرار والتوجيه الذي توفره السلطة التنفيذية الموحّدة كان له دور كبير في دفع عجلة التنمية السريعة للبلاد.
المساءلة عبر الضوابط والتوازنات
ولكن لنسارع في القول إن مركزية السلطة في حكومة من لون واحد لا يمكن أن يعني غياب المساءلة. فنجاح هذا النظام يعتمد على وجود آليات فعّالة تمنع استغلال السلطة وتُعزز المبادئ الديمقراطية.
تشمل أدوات المساءلة الأساسية في مثل هذه الأنظمة قضاء مستقلاً يضمن احترام القانون وحماية حقوق المواطنين، ويحد من تجاوزات السلطة التنفيذية، وصحافة حرة تعمل كجهة رقابية تكشف الفساد وتُحاسب القادة، ومجتمعاً مدنياً يوفر قنوات للمواطنين للتعبير عن آرائهم والمشاركة في توجيه السياسات، ما يُعزز العلاقة بين السلطة والشعب.
عالم مثالي
أسهل ردّ على الرؤية الوردية أعلاه أنها مثالية وخيالية. فحكومة الشر ع الحالية لا تستند إلى أي نوع من الضوابط، التي تسم الأنظمة الديمقراطية بميسمها. يتطلب نظام الضوابط والتوازنات وجود هيئة تشريعية، تشرّع وتراقب، وسلطة قضائية مستقلة تكون الحكم بين السلطتين، وصحافة حرة ومجتمعاً مدنياً قوياً.
لا ضرورة للقول طبعاً، إن سوريا اليوم خالية من أي سلطة تشريعية، وإن حكومة الشرع تعمل بأوامر تنفيذية لا يراجعها برلمان ولا تراقبها هيئة رقابية. ولا ضرورة للقول أيضاً إن القضاء السوري حالياً معطل، وإنه – في معظمه أساساً – نظام قضائي فاسد ومفسد.
ولكن الجانب الجيد هو أن الحكم الجديد – حتى اللحظة على الأقل – لم يكمم الأفواه، ولا تزال الصحافة الوطنية والأجنبية تعمل في سوريا بحرية، ولا يزال التعبير عن الرأي مسموحاً به. وفوق ذلك يمكن لمنظمات المجتمع المدني أن تعمل بحرية، سواء لأن الحكومة تسمح لها بذلك أم بحكم الأمر الواقع وقوة هذه المنظمات وتماسكها.
أما المعارضة السياسية السابقة فلا يمكن التعويل عليها. في واقع الأمر، أثبتت المعارضة السابقة لنظام الأسد أنها هياكل فارغة وشكل بدون محتوى. ونحن نرى رأي العين كيف هُمّش “الائتلاف الوطني” (الذي كان الممثل الشرعي للسوريين في مرحلة من المراحل) وكيف يشكو رئيسُه من إهمال الشرع له. وقد أجاد محمد صبرا حين لاحظ قبل أيام أن “الائتلاف الوطني”، ومعه “هيئة التفاوض السورية”؛ وهما الآن بقايا من مجدهما الغابر، قد عادوا إلى الوطن، ولكن ليس إلى “ساحة الأمويين” حيث كان يمكن لهم مشاركة السوريين فرحتهم بسقوط النظام المجرم الهارب، بل للقاء بعثة الاتحاد الأوروبي في دمشق، حيث كان أول ظهور علني لهم عند نزولهم درجات مقر البعثة، برفقة القائم بأعمال سفير الاتحاد الأوروبي مايكل أونماخت، ووجوههم تضيئها الابتسامات العريضة والفخر الذي لم يخفَ عن أعين المراقبين، في صورة تختزل مسار ائتلاف أدار ظهره طويلاً للشعب السوري، وبدلاً من ذلك فتح يديه وقلبه وعقله للسفراء والشخصيات الدبلوماسية الأجنبية.
باختصار، تُظهر ميزات السلطة التنفيذية ذات اللون الواحد، أي الكفاءة والاستقرار والمساءلة واتساق السياسات، أنها قد تكون نموذجاً مُجدياً في سياقات محددة. إلا أن نجاحه يتوقف على وجود ضوابط وتوازنات تمنع الاستبداد وتُحقق الشمولية. وبالتالي ليست حكومة الحزب الواحد بالضرورة أفضل أو أسوأ بطبيعتها، وإنما تعتمد فعاليتها على قدرتها على تعزيز الشفافية، حماية الحقوق، والحفاظ على ثقة المواطنين. وعندما يُطبق هذا النموذج بعناية، فإنه يُمكن أن يُحقق حوكمة حاسمة وعادلة، تُوازن بين السلطة والمساءلة.
الضغط بدل الأمل والترجي
لذلك لا مندوحة من أن يقوم السوريون بأمرين اثنين وفي وقت واحد. أول هذين الأمرين تقديم الدعم الممكن لحكومة الشرع الانتقالية، من خلال اعتبارها حالياً الحكومة السورية الشرعية، وتقديم النصح والاستشارة لها. وثانيهما الضغط الحقيقي على الحكومة الانتقالية لكيلا تمدد لنفسها فترة أخرى بهذه الحجة أو تلك. ثم، يجب التأكيد أن الدولة كيان تاريخي يعكس الوعي الحضاري للشعب السوري، قائم على المواطنة المتساوية والشراكة الفاعلة بين جميع مكوناته.
ولا ينبغي السأم من تكرار أن الدولة الديمقراطية المنشودة تعتمد على سيادة القانون، حيث تضمن حقوق المواطنة الكاملة من دون تمييز، وتحمي الحريات الفردية والجماعية، بما في ذلك حرية التعبير والصحافة والتجمع السلمي، مع تمكين المجتمع المدني من تنظيم نفسه بحرية لتعزيز المشاركة الديمقراطية.
تسعى الدولة إلى إعادة بناء المؤسسات العسكرية والأمنية لتكون مستقلة عن التدخلات السياسية وتحت رقابة مدنية، وذلك بالتوازي مع عملية نزع السلاح تحت إشراف مجلس عسكري سوري يضم ممثلين عن مختلف الفصائل. كما تؤكد أهمية وحدة الأراضي السورية وسيادة الشعب، مع الالتزام بالنضال المشروع لاستعادة الأراضي المحتلة والعمل مع المنظمات الدولية لضمان حماية السيادة والاستقرار الإقليمي.
وأخيرا، لا بديل عن المساواة في الحقوق بين جميع المواطنين، مع التركيز على المساواة المطلقة في الحقوق بين الرجال والنساء. كما يكرس العهد حماية الملكية الخاصة والعامة، ويؤسس لنظام اقتصادي عادل يعزز التنمية المستدامة، ويضع خطة شاملة لإعادة الإعمار، تشمل معالجة البطالة، ودعم عودة اللاجئين والنازحين بكرامة، ومكافحة الفساد من جذوره.
لن يقدّم أحمد الشرع وحكومته منحاً كبيرة لمن لم يشترك في تحقيق النصر، وبينما منح أشخاصاً غير سوريين رتبا عسكرية عليا في الجيش السوري، فإنه حتى الآن لم يتصل برئيس الائتلاف هادي البحرة، أو ممثلي هيئة التنسيق، أو السياسيين السوريين في الخارج الذين أمضوا أربع عشرة سنة عجافاً يشكلون منصة بعد منصة ويعقدون مؤتمراً إثر مؤتمر، دون أن يسفر ذلك عن شيء. وحين التقى مع بعض السوريين الأميركان في الشهر الماضي، آثر أن يكون هؤلاء ممن يريد تحقيق فائدة شخصية، ويرغبون في الأعمال أكثر من إعادة البناء.
وفي الحديث عن مؤتمر الحوار الوطني، نجد المتنافسين لحضور المؤتمر يحاولون استجداء مكان لهم على الطاولة، من دون أن يبينوا للسوريين لماذا هم جديرون بذلك المكان. ويريد المتنافسون المشاركة في المؤتمر، على الرغم من أنه لا يزال حتى اللحظة فكرة غامضة، هلامية، وفضفاضة بدون ضوابط. ويبدو غريباً أن تسرّب وكالة الأنباء الرسمية التركية خبر احتمال انعقاد المؤتمر أواسط هذا الشهر، فكيف يمكن التحضير له وتوجيه الدعوات ووضع جدول الأعمال واقتراح المخرجات في أسبوعين أو ثلاثة؟.
شخصيا لا أريد المشاركة في أي مؤتمر للحوار، ولكنني أتمنى أن تركز نتائج المؤتمر على ما يلي:
نحن، الشعب، مصدر كل السلطات.
المواطنة المتساوية والشراكة الفاعلة.
الشرعة الدولية لحقوق الإنسان قانون يسمو على القوانين الوطنية.
الاعتقاد والتعبير حقان مقدسان لا يمكن المساس بهما.
الرجل والمرأة متساويان مساواة مطلقة.
المساواة في القانون وأمامه هي كلمة المرور لمجتمع العدل والكرامة والمساواة.
درج
—————————–
بالحنينِ للحرية وإنصافِ الأيقونات وَرَكْلِ الأصنامِ يَبْدَأُ عام 2025/ محمد جميل خضر
4 يناير 2025
رُغم أنفِ ليلى عبد اللطيف سقطت آخر معاقل العصابة المافياويّة الأسديّة التي حوّلت، خلال الـ 54 عامًا الماضية، سوريّتنا إلى مسلخٍ بشريٍّ وأقبيةِ خوفٍ لا تُشبِهُ الحياة. يذكّرني الإخفاقُ المدوّي للمنجّمةِ المدّعية بفكرةٍ طرحها المسلسل السوريّ التنفيسيّ “كسر عضم” (طبعًا الإصرار على تعجيم العربية الفصحى وفرض لهجاتها العامية على شاشات أبنائها، جزءٌ من المؤامرة على كل معنى يجمعُنا وقيمةٍ يُمكن أن نلْتقي حولَها)، حين، وعندَ مطالعِ كلِّ عامٍ، يستدعي فاجرٌ كبيرٌ من فجّار العصابة المجرمة منجّمًا، أو منجّمة، لِيَصيغا معًا ما الذي عليه/ا أن ي/تتوقّعه! نعم هذا هو واقع الحال؛ التنجيمات السنويّة هي أبعد ما تكونُ عن الاسم الذي تقْرنه الفضائياتُ ووسائلُ الإعلام بِها: فلكية! لا يا سادة إنها ليست توقّعات فلكيّة بل مخابراتيّة؛ هتلر ليس على قيد العيش، وصدّام حسين أعدمه الاستعمار الأميركي للعراق، والسيد حسن ليس حيًّا إلا بقدر ما نؤمنُ أن الشهداءَ (وأرْجو أنّهُ مِنهم) هم أحياءٌ عند ربّهِم يُرزقون.
على كلِّ حال؛ بمختلفِ ما كان منهُ وما كان عليْه، رحل عام 2024؛ وما كان منه جَلَل؛ وفاصِل، واصَلَ، من دونِ هوادةٍ، ما بدأه 2023، من أحداثٍ كبرى مفصليّة تحوّلية فارِقة فائِقة. وكما كُتِب لي ولأبناءِ جيلي عند أبواب الستين، ثم الدخول من تلك الأبواب مدجّجينَ بمعلومةِ أنّنا أبناءُ أمّة أعمارُها بين الستّين والسّبعين، أنْ نشهد الطوفان بمختلف اشتراطاتهِ الطاغيةِ الحاسمةِ المُلخَّصة بِجملةٍ لا أنفكّ أردّدها: “ما بعد السابع من أكتوبر 2023، لن يكون، ولا بأيّ حالٍ من الأحْوال، كما قبلَه”، فقد كُتِبَ لي ولإبناءِ جيلي، في النزيعِ الأخيرِ من عام 2024، شهود سقوط عصابة آل الأسد ممثّلةً في نسختِها الغابِرة بالابنِ الضّال الذي ورِث عند أبوابِ ربيعٍ عربيٍّ مغدورٍ كلَّ جرائمِ العائلة/ العصابة، وأسرارِها، وشرورِها، وتعفيشِها، وتطفيشِها، وسجونِها، ومقابرِها الجماعيّة. أما أهم ما ورثه الفارّ من وجهِ العدالة فهو شعار إنكاري توهّم أن بشرًا ما، يُمْكِنُ أن ينتزعوا الأبديةَ من خالقِها وصاحِبها… المتمسّك بِها بالعدلِ والحكمةِ والسّمو هُناك في العُلا؛ لا يفرِضُ جلالَه، ولا يستعجلُ الحسابَ في دفترِ يوميّات الخطايا. فإذا بشعاراتٍ من مِثل: “إلى الأبد يا حافظ الأسد”، “إلى الأبد يا بشار الأسد”، و”الأسد أو نحرق البلد”، تحلّ (حرفيًّا) مكان القدير المؤبّد الباقي السرمديّ المنزّه المترفّع عن فَتْحِ سجنٍ دنيويٍّ من طرازِ مسلخِ صيدنايا!
الحنينُ الأَنين…
يفرضُ الحنينُ نفسَه بوصفهِ عنوانًا جليلًا ناصعًا ساطعًا صادحًا للعام الجديد: (حانِن للحرية حانِن… يا شعب ابّيته مُش آمِن… كبار صغار منعرف إنّه ياللي بيقتل شعبه خاين… الحرية مطلب هالناس… حمص ودرعا وبانياس… والكرامة ما بتنداس… ويالّلي بيقتل شعبو خاين… الله يا ربّي الجبّار… فرّج عا كِل الأحرار… ورب الشبيحة بشّار ومالنا غيرك يا الله)… هذه الترويدةُ الحدائيّة المشلوعةُ للحريةِ بصوتِ الأيقونةِ عبد الباسط الساروت (سنفردُ لهُ في الفقرةِ الآتِية)، تُخبرنا، بما لا يضع مجالًا لأيّ شك، حول مدى توقِ الإنسان للحريّة، حول ارتباطها (الحرية) العضويّ المشيميّ (من المَشيمة) الوجوديّ بالحياةِ وأنوائِها وأحلامِها وتضاريسِها وتعاريجِها وتفاعلاتِها وتصادماتِها ومدِّها وجزرِها، وكلِّ ما يتعلّق بها وحولِها ومن أجلِها وفي سياقاتِها.
مي التي رحلت موقنة أنّها ابنة سورية العظيمة
إضافةً إلى حنين الحريّة الذي لا يموت ولا ينتهي، ثمّة (أَحانين) كثيرة أُخرى تشغلُ بالَ ناسِنا ومجتمعاتِنا العربية المقهورةَ المُستهدَفة: الحنين للبيتِ في جَباليا يبثّه ساكن إحدى خيامِ المَواصي، حنينٌ إلى المدرسة يبكيه طفلٌ في غزّة كلِّ غزّة، وربما طفلٌ في خيام النزوح، أو اللجوء السوريّ، حنينٌ إلى الحياة من دون صوت (الزنّانة) الذي يلتقي حوله أهل القطاع أجمعين، الحنينُ إلى وقارِ حمّام البيوت (غزة نموذجًا، غزّة دائمًا)، إلى دفءِ البيوت (يخصُّ الكوانينَ وكل أحلام البردانينَ فيها)، إلى مرآةِ (البيرو) في غرفةِ النّوم المستقلّة (يخصُّ صبايا غزّة)، إلى ملعب كرة القدم المسوّر بالأمان (يخصُّ فتيانَ غزّة وشبابَها جميعَها)، إلى رحلةَ صيدٍ من دونِ دماءٍ وشهداء (يخصُّ بحّارة رفح، والحاراتِ، والخانِ، والوسْطى وديرَ البلح)، إلى موسمِ فراولة خصيب (يخصُّ بيتَ لاهيا وعديدَ المناطق في القطاع، كانت تبيع الفراولة لأربعِ جهاتِ الأرض)، إلى إطلالةٍ من دون عُدوان (يخصُّ بيت حانون)، إلى صلحةٍ عشائريةٍ في (السّجاعية)، وهديةِ امتنانٍ لكلِّ أبناءِ (أبو ستّة)، إلى محاضرةٍ في الجامعةِ يسلسلُ دقائقَها أكاديميٌّ مبدعٌ من طرازِ رفعت العَرعير. الحنينُ إلى تلّةِ المِنطار، حديقةِ الشاطئ، كرومِ الزيتون، زهوِ البرتقال، رملِ (الكورنيش)، دُمى الطفولةِ الواعِدة، صلواتِ الأمّهات الراحلاتِ من دون تشييعٍ يليقُ بقصيدةِ “أحنُّ إلى خبزِ أمّي وقهوةِ أمّي”.
“لا يمكن انفجارُ فرحِ انتصارِ الثّورةِ السوريةِ من دون تذكّر حارسِ تلك الثورة الشهيد الطّريد عبد الباسط الساروت”
كل هذا الحنين يصبح رفاهًا، إِنْ علمنا أن أطفالًا كثرًا، اليوم، في غزّة ليس لديهِم أيّ وثائق تناسب أعمارَهم حول حياةٍ أُخرى غير تلك الحياة؛ كأني بحالِهم، هي حال الطفل السوريّ الذي قال لأمّه بعد خروجها من سجن صيدنايا (ماما تعالي نعود للبيتِ بَرَدِتْ…)، يظّن الحزينُ أن المسلخَ الذي كان بيتَه!! ثم يأتي من يقول لك لا تصرخ: يااااااااااااااا الله.
أيقوناتُنا بوصلاتُنا…
أَحْسَبُ، لا بَل أرجو، أن يكون عام 2025، عامَ إنصافٍ لائقٍ عميقٍ لأيقوناتِنا وهيَ كثيرة؛ سنمرّ في عُجالتِنا على أهمِّها…
أيقونيّة الساروت…
لا يمكن انفجارُ فرحِ انتصارِ الثّورةِ السوريةِ من دون تذكّر حارسِ تلك الثورة الشهيد الطّريد عبد الباسط الساروت؛ طموحُه نقلَ أسرتَه من الفقر إلى الاكتفاء، مغايرتُه جعلتهُ يغادرُ مقاعدَ الدراسة باكرًا نحو الاختلاف، نبوغُهُ في حراسة مرمى كلّ فريقِ كرة قدم انتسبَ إليه، جعله مطمعَ ومطلبَ أنديةٍ كُبرى في آسيا وأُوروبا… وفي اللحظة المفصليةِ الحاسمة بين أن تكون شخصًا عاديًّا، أو أيقونةً، أدارَ السّاروت الظهرَ لعرضٍ مغرٍ من نادي فيورِنتينا الإيطاليّ نحو العالميةّ والاحتراف، وقرّر أن ينخرط في ثورةِ شعبهِ التي تزامن انطلاقُها مع عرضِ النادي الأوروبيّ المحسوبِ على الدورياتِ الأوروبيةِ الخمسةِ الكُبرى. صعد بوجههِ وشجاعتهِ وملامحهِ التي باتَ يعرفُها السوريونَ جميعُهم؛ ريفُهم وبدوهُم وحضرُهم، مسيحيوهُم ودروزُهم وعلوييهُم وسنّتُهم، وباتَ يعرفُها أحرارُ العالمِ في كلِّ زمانٍ ومَكان. وحينَ اختلفَ مع أحمد الشرع وغيرَه (كان ما يزال الشرع، أيامها، أبو محمد الجولاني)، اختلفَ من أجلِ الثورة ولعيونِها. وحينَ قادتهُ مصائرُه نحوَ خياراتٍ صعبة، فلإنَّه رفضَ إلقاءَ السلاحِ بِوَجْهِ نظامٍ لا يتقنُ إلا لغةَ البطْشِ والقتلِ والسحلِ والطُّغيان. يحبّ الأطفالَ الذين حرّمتهُ خياراتُه الجذريّة أن يكون له مثلَهم، وهم يحبّونه. يحبّ الناس والناس يحبّونه… يحبّ الرياضةَ والفنِّ والحَياة… وهذه جميعُها تحبّه لأنّه الأمل… والفرحُ النّضيرُ في المُقَل… استشهد ولا يملكُ في جيبِه، بحسب قائد “جيش العزّة”، سوى ثلاث ليرات سورية! رغم أنه كاد يبلغ لقب (مليونير) عندما كانت تجود عليه أندية كرة القدم بالمال من دون حساب. الرائد جميل الصالح، قائد “جيش العزّة” يقول إن عبد الباسط كان يقسّم وقتَه إلى ثلاث: كان يقضي معظم النهار منذ الرابعة… الخامسة فجرًا… حافيًا… بتحصينِ دُشمِ وجودِ الجيشِ الذي انتسبَ إليه، وآمنَ بهِ، بعد غيبةٍ اسطنبوليةٍ وحيرةٍ وضَياع، ثمّ وحينَ كان جميل يعتقد أنّه تعب وأُرهِق وسوف ينام، كان الساروت يذهب إلى المعرّة والخرنبة، في الجزءِ الثاني من يومِه، إلى لعبِ كرة القدم (بدافعِ الحنينِ والحياة)، ثمّ، وفي (تالي) الليل، كان يقابل الأهالي والناشطين. يقول الصالح: “كان يستمر يومه من الساعة الرابعة صباحًا وحتى الساعة الثانية من بعد منتصف الليل”. السّاروت لم يكن ليصبح أيقونة لولا أنه لم يكن ينام أكثر من ساعتيْن، وفي أحسن الأحوالِ ثلاث ساعات يوميًا. السّاروت لم يكن ليصبح أيقونة لو أنّه لم يحبّ باسل شحادة (المسيحيّ) ويعانقُهُ ويُنشد معه. وحين استشهاد باسل يبكيهِ بحرقةٍ، ويجعلُ من اسمهِ واستشهادهِ شعاراتِ ثورةٍ سوريةٍ كُبرى في البيّاضةِ وحِمص وسوريةِ جميعِها “بدنا نفرح بزيادة… باسل نال الشهادة” و”عالجنّة باسل شهيد”.
سورية الحرّة الجديدة
ابن النقاء الفطريّ بِأحلى تجلياتِه، والذّكاء الميدانيّ بِأوفى إحالاتِه… شقيق الشهداء… ابن أخت الشهداء… خال الشهداء… لا يستقيمُ أيّ معنى إنْ لم يصبح أيقونةً. وحين تكشفُ أمُّهُ عن وجهِها المنقّب لكيّ تقبلهُ في وداعِ الشهيد (الوداع غير المسبوق في التّجربة السورية)، فاعلموا أنّكم أمامَ ظاهرةٍ سوريةٍ عربيةٍ جنوبيةٍ عالميةٍ وجدانيةٍ فدائيةٍ لا تشبهُ غيرَها: انتصارُ الكفِّ على المِخرَز… الدمِ على السّيْف… الرفضِ على الخُنوع… الإباءِ على الخَواء… وفقراءِ سوريةَ على تجّارِها وفجّارِها. (عادت، وسط استقبالٍ شعبيٍّ بهيجٍ حاشِد، أمُّ الساروتِ لِحمْصِها وسوريّتها، ولم تنسَ عند أبوابِ عودتِها، أن توصيَ السوريينَ ثوارًا وحائرينَ، بقاءَ فلسطينَ بوصلتَهم الكبرى الحاكِمة… عادت خنساءُ سوريةَ بالنّقابِ فوقَ وجهِها، والثورةِ في مختلفِ آمادِها؛ السوريةِ والعربيةِ والإنْسانية، في أعماقِ وِجْدانِها)
أيها الأسمر… يااااا عبد الباسط… يا حاديَ الأمل، وحكايةَ الثورة، وصديقَ خالد أبو صلاح، وندمَ عبد الحكيم قطيفان الجماعيّ: “آه لو ترجع”… عن جَد: آه لو تِرجَع.
مي اسكاف…
أيقونةٌ نبيلةٌ يستحقُّ عام 2025 أن ينصفَها. إنها الفنانة الحُرّة الجميلة الصديقة مي اسكاف (1969-2018) التي هتفَت تنشدُ “سورية العظيمة”، فاطمئنّي يا صديقتي: سورية دائمًا عظيمة. لا أريد أن أخوض في تفاصيل رحيلها، وما قيل وما تم تداوله حول أسرارِ ذلك الرّحيل وفق نظرية الاغتيال، من دونِ نفيِ احتمالاتِ ذلك، ما أريدُ أن أجوسَ بِهِ هُنا، أنّها كانت ابنةَ بلدٍ أصيلةٍ مُحبّةٍ لسوريةَ من دونِ وريثٍ غيرَ شرعيٍّ لنظامٍ سفّاحٍ بمختلفِ ما تحمله المفردةُ من معانٍ. قالت للسجّان: “لا أريد لابْني أن يحكمه حافظ بشار الأسد”.
“الساروت لم يكن ليصبح أيقونة لولا أنه لم يكن ينام أكثر من ساعتيْن، وفي أحسن الأحوالِ ثلاث ساعات يوميًا، فقد كان يقضي معظم النهار منذ الرابعة فجرًا في تحصينِ دُشمِ وجودِ الجيشِ الذي انتسبَ إليه”
علمًا أن حافظ (حفيد حافظ الجلاد الأول قاتل حماة واليسار واليمين والحياة)، نال الدرجة 594، من بين 595 متسابقًا في مسابقة رياضيات عالمية! (نفْسي أعرف من هو المتسابق الوحيد في العالم الأكثر منهُ غباءً).
فدوى سليمان…
من الساحلِ جاءت… من حلب… من كلِّ زاويةٍ وحارةٍ وشارِع لِتهتف مع عبد الباسط لسوريّة وحريّتها وخلاصِها من نظامٍ يُفترَض أنها تنتمي إليه طائفيًا. قادَتها نزاهتُها… إرهاصاتُ حريّة بدأتْ تشتمّ أنفاسَها… أما السرطان اللعين (رحلت بسبب السرطان الغاشم، في 2017 عن 47 عامًا) فقد عاجَلَها قبلَ أن توضحَ رسالَتها وتواصلَ فدائيتَها. في حمص (العديّة) صعدت، منذ بدايات إرهاصات الثورة، منصّة الفداء، وَهتفت مع عبد الباسط “جنّة جنّة جنّة… سورية يا وطنّا” و”إرحل… إرحل يا بشار”، و”واحد… واحد… واحد… الشعب السوري واحد”، فَعَنْ أيِّ تعدديّةٍ كان يدافع النظامُ البائدُ الهارِبُ الكاذِب؟
يحيى السنوار…
أيقونة الأيقونات… شهيدُ الشهداء… الشهيدُ المشتبِك… عرّاب الطوفان… مؤلّف الألحان… صانعُ المجدِ المستلِّ من وجعِ النّاس وتطلّعاتِهم… قد يختلفُ الحَيارى حول يحيى، ولكِن لا أحد يحقّ له أن يشكّك بما أرادَهُ يَحيى. ابنُ فلسطين… ابنُ خان يونس… ابنُ القبيلةِ الفلسطينيةِ المكوّنةُ من أَسرى ينتمونَ للفصائِلِ جميعِها… ابنُ سنواتِ الإعدادِ الأحمديةِ الياسينيةِ الكُبرى… ابنُ أوّل العمل… وأوّل الأَمل… وإعدامِ الخياناتِ جميعِها… المازجُ بين الإبداعِ والأحلامِ الرومانسيّة الواجِبة… ابنُ غزّةَ قبلَ (غوش قطيف) وغزّة بعدَها… ابنُ الخيمةِ والخيبةِ والرّوايةِ والمسدّس… ابنُ القُرُنْفلِ حينَ يدْحر الشّوك… وابنُ دوّار عينِ الشمسِ في وجهِ الضّلال… الفدائيّ الدّكتاتور الذي خدعَ الغُزاة، وجاهزٌ، دائمًا، لِخداعِ الطُّغاة. رفضَ أن يموتَ قبلَ أن يدوّن بأحرفٍ من مجدِ لحظاتهِ الأخيرةَ نصرةً للحقِّ والحقيقةِ وفلسْطين. ويبْقى سؤالُ الجُنون: نكونَ أوْ لا نَكُون؟
أيقونيّة الساروت تسكنُ عينيه
رَكْلُ الأصْنام…
لو كان لحكّامِنا أن يعتبروا، لحطّموا بأنفسِهم أصنامَهم جميعَها، فما جرى لأصنامِ طُغاةِ سورية عبرةٌ، والله، لِمن يعتبِر؛ صنمٌ كبيرٌ للأسدِ الأبِ يحوّله الصغارُ إلى (رَكوبةٍ) ويهمزونَهُ بِالعصا… صورٌ يدوسُها الجميعُ الصغارُ والكبارُ و(المقمّط) بالدّثار… هَوَت كلُّ الأصنامِ أرضًا… فقدت بطرفةِ عينٍ كلَّ هيبَتِها الزّائفة… سقوطٌ ترافقَ مع أجواءٍ احتفاليةٍ بهيجةٍ كُبرى… ما كانت أصنامُكم يا طُغاةَ سورية لِلأبَد… فلا أبَدَ إلا للواحِدِ الأَحَد… لم يكُن وقارًا، بل خوفًا زرعتموه في وجدانِ كلِّ سوريٍّ حتى بات كابوسَ مناماتِهم… ورفيقَ أيامِهِم… ونديمَ سهراتِهِم… كان الصمتُ خوفًا… كان المرورُ من أمامِ كلِّ صنمٍ من دونِ التبوّل، قلّةَ حيلةٍ، وخنوعًا، و(حُكْمَ القويّ على الضّعيف)… وإلا لَكان هُتافُ السوريينَ جميعِهم: “سأبولُ عليهِ وأسْكَر… ثمّ أبولُ عليهِ وأسْكَر… ثمّ تبولينَ عليهِ ونسْكَر”، ففي الحانةِ القديمةِ لم ينتبِه ألبير كامو الذي رحل في مثل هذا اليوم من عام 1960، أن النّدامى كلّهم أحرار، وأنّ “الغريب” لن يفهم ولا مرّة أسرارَ جَمْرِ الغَضا، ولن يبْلغ آفاقَ زهرةِ الصبّار… عاش كامو بينَنا، وطَعَنَ عن سبقِ إصرارٍ وترصّدٍ عِشْرَتَنا… فسعرهُ بسعرِ طغاتِنا، لا نحنُ منهُم ولا هُم منّا… ولم يبقَ من قولٍ لي في هذا المُقامِ والمَقالِ إلا مسكُ ختامٍ ببعضِ نبيذِ مظفّر النّواب:
“يا غريبًا يطرقُ الأبْواب
والهَوى أبواب
نَحْنُ من بابِ الشَّجى
ذِي الزّخرف الرمزيّ والألغازِ والمغْزى
وما غنّى على أزمانهِ زِرياب
كُلُّنا قد تابَ يومًا
ثم ألْفى نفسَه
قدْ تابَ عمّا تَاب
كلُّ ما في الكونِ أصحابٌ وأيامٌ لهُ إلّا الهَوى
ما يومُهُ يومٌ…
ولا أصحابُهُ أصحاب”.
ضفة ثالثة
——————————
هزّات ارتدادية متوقّعة للزلزال السوري/ حسن نافعة
04 يناير 2025
للزلزال الذي ضرب سورية قبل أسابيع هزّاتٌ ارتداديةٌ لم تنطلق بعد من عقالها، لكنّها تستحق، على أيّ حال، أن ننشغل بمحاولة استكشافها، وأن نبحث في تأثيراتها المحتملة، فبعد انهيار نظام الأسد، الذي حكم هذا البلد العربي المحوري أكثر من نصف قرن، يواجه النظام السوري الجديد، الذي لم تتحدّد ملامحه النهائية بعد، تحدّيات داخلية وخارجية ضخمة سيترتب على نهجه في التعامل معها نتائج بعيدة المدى، لن تقتصر تأثيراتها على الداخل السوري وحده، وإنما يتوقّع أن تتّسع لتشمل منطقة الشرق الأوسط كلّها. ولأن النظام السوري القديم لم يسقط بسبب ثورة سياسية واجتماعية توجّه بوصلتها رؤية موحّدة أو متجانسة، وإنّما هزم في مواجهة مسلّحة أشعلتها فصائل وتنظيمات محلّية متباينة المشارب والتوجهات، ودعمتها بالمال والسلاح قوىً خارجيةٌ متباينةُ المصالح والأهداف، يتوقّع أن يتعرّض النظام الذي سيحلّ في محلّه، والذي ما زال في طور التشكيل، لتجاذبات داخلية وخارجية قد تحول دون تمكينه من مواجهة تحدّيات هائلة تنتظره على الصعيدين الداخلي والخارجي. والخشية أن تمهّد هذه التجاذبات إلى تهيئة ظروف وأوضاع تساعد في تفسّخ المجتمع السوري وانقسامه بين كانتونات تستند في ترسيمها إلى أسس ومعايير طائفية أو عرقية.
سورية مجتمع متعدّد الأعراق والأديان والطوائف والمذاهب والملل والنحل. ولأن نظامها السياسي المنهار اتهم بالانحياز إلى الطائفة العلوية التي ينتمي إليها قادته، وبتهميش باقي الطوائف الأخرى، يتوقّع أن تمارس القوى والتيارات السياسية والاجتماعية التي عارضته ضغوطاً شديدة لضمان أن تُفسَح أمامها مجالات أوسع للمشاركة في عملية صنع القرار، وللحصول على حصّة أكبر في الناتج القومي وفي عوائد التنمية الاقتصادية والاجتماعية. غير أن قدرة النظام الذي يجري تأسيسه على الاستجابة لهذه المطالب المشروعة، وعلى تبنّي قيم التعددية والمواطنة وحكم القانون وتداول السلطة، تبدو محدودة لسببَين رئيسَين: الأول هو انفراد هيئة تحرير الشام بتصدّر المشهد السياسي الراهن، وحرص هذه الهيئة على التحكّم وحدها في مفاصل إدارة المرحلة الانتقالية.
ولأنّها لا تمثّل إلا تيّاراً سياسياً وأيديولوجياً محدّداً، هو تيار السلفية الجهادية، ضمن جبهة معارضة واسعة تضمّ ألوان الطيف السياسي والأيديولوجي، تبدو الحاجة ماسّة لأن يتّفق الجميع على شكل ومضمون النظام السياسي، الذي ينبغي له أن يحلّ في محلّ النظام الذي انهار، وإلا فسوف يدبّ الخلاف بين هذه الفصائل، إن آجلا أو عاجلاً، بل ليس من المستبعد أن يتطوّر هذا الخلاف إلى الدرجة التي قد تغري بعض الأطراف بالاحتكام إلى السلاح لحسمه. السبب الثاني هو انخراط قوىً إقليميةٍ ودوليةٍ عديدة في الأزمة السورية، سواء عبر وجود عسكري كبير ومؤثّر لهذه القوى، أو عبر ارتباطاتها السياسية والمصلحية والأيديولوجية بواحد أو أكثر من الفصائل المحلّية المتصارعة. وما لم يتمكّن النظام الذي يتشكّل الآن من تحييد هذه القوى وإقناعها بإنهاء وجودها العسكري في الأراضي السورية، فلن يكون بمقدوره أن يحظى بالشرعية التي يحتاجها لتثبيت دعائمه ووجوده في الساحة، أو ادّعاء تمثيله الشعب السوري بأطيافه كلّها، السياسية والأيديولوجية.
هناك علاقة ارتباط سببية وعضوية بين العاملَين، إذ يصعب على القوى والتيّارات السياسية والأيديولوجية المشكّلة لمجمل ألوان الطيف السياسي والأيديولوجي في سورية أن تجد أرضيةً للتوافق على شكل النظام السياسي المأمول ومضمونه، إلا إذا تمكّنت من الاتفاق على رؤية موحّدة لإدارة العلاقة التي ينبغي أن تربط بين سورية الجديدة والعالم الخارجي، خصوصاً مع القوى الإقليمية والدولية التي لها وجود عسكري في الساحة السورية، والعكس صحيح أيضاً، فلن يكون بالإمكان إقناع الأخيرة بسحب قواتها من سورية إلا إذا أيقنت أن أمامها جبهة داخلية موحّدة وصلبة، تصرّ على تحقيق هذا الانسحاب. ولأنه ليس من المتوقّع أن تسحب الولايات المتحدة وروسيا وتركيا وإسرائيل قواتها الموجودة حالياً في الأراضي السورية إلا في مقابل أثمان باهظة قد لا تقوى الجبهة الداخلية على تحملها، يصبح من السهل علينا أن نتوقّع أن الأزمة السورية تتّجه نحو التعقيد والتصعيد بأكثر ممّا تتّجه نحو التهدئة أو الانفراج.
للولايات المتحدة قاعدة عسكرية كبيرة في سورية، تدّعي أن وجودها ضروري لمحاربة “داعش”، من ناحية، ولتقديم العون لقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي تشترك معها في السعي لتحقيق الهدف نفسه المتعلّق بالقضاء على الإرهاب، من ناحية أخرى. ولروسيا أيضاً قاعدة بحرية وجوية كبيرة في مياه سورية الدافئة، حصلت عليها بموجب اتفاقية أبرمت مع النظام السابق وبناءً على طلبه. ولأن لوجود هذه القاعدة أهمية حيوية بالنسبة للنفوذ الروسي في المنطقة، لن تفرّط فيها روسيا بسهولة، ومن ثمّ يُتوقّع أن تحاول جاهدة الإبقاء عليها عبر ترتيبات خاصّة مع هيئة تحرير الشام. أمّا تركيا وإسرائيل، اللتان تربطهما بسورية حدود جغرافية مشتركة، فمن الطبيعي أن يسعيا على الدوام إلى أن يكون لكلّ منهما وجود عسكري في سورية أكثر ثقلاً وتأثيراً من أيّ طرف آخر، خصوصاً أن لكلّ منهما أطماعا ودوافع مختلفة يصعب إخفاؤها، فقد ظلّت تركيا طرفاً رئيساً حاضراً في الأزمة السورية منذ اندلاعها عام 2011، وأصبحت ممرّاً ومعبراً لكلّ القوات الأجنبية التي شاركت في الحرب على النظام القديم، ولذا تربطها علاقات وثيقة بالعديد من فصائل المعارضة السورية، في مقدّمتها هيئة تحرير الشام. ولأن لها أطماعا تاريخية في الأراضي السورية التي تحتل مساحات شاسعة منها حالياً، بدعوى حاجتها إلى منطقة عازلة تحميها من الهجمات التي تشنّها المنظمات الكردية “الإرهابية”، التي تتّخذ من الأراضي السورية ملاذاً آمنا لها، يُتوقّع أن تبذل تركيا كلّ ما في وسعها للإبقاء على نفوذ دائم لها في سورية. أمّا إسرائيل فقد انتهزت فرصة سقوط نظام الأسد وقرّرت الإجهاز على ما تبقى من مقدرات الجيش السوري، والاستيلاء في الوقت نفسه على مناطق استراتيجية مهمّة تزيد مساحتها على 400 كيلومتر مربّع. ولأنها لم تعتد تقديم هدايا مجانية لأحد، فستحاول مقايضة انسحابها من بعض هذه الأراضي بمعاهدة سلام دائم تبرمها مع سورية، وليس من المستبعد أن تحاول توظيف الولايات المتحدة لتحقيق هذا الهدف، خصوصاً بعد دخول ترامب البيت الأبيض يوم 20 من يناير/ كانون الثاني الحالي.
لدى نتنياهو قناعة تامة بأنه لعب شخصياً دوراً حاسماً في إسقاط نظام الأسد، عبر ضربات موجعة ومتكرّرة وجّهها إلى حلفاء الأسد الرئيسيّين، خصوصاً إيران وحزب الله، وبأن إسقاطه قطع طريق الإمدادات العسكرية لحزب الله الذي لن يستطيع بعد الآن أن يعيد تسليح نفسه من جديد وأدّى بالتالي إلى إضعاف النفوذ الإيراني في المنطقة. لذا يعتقد أن الوقت قد حان لتوجيه ضربة قاصمة لإيران، التي يعتبرها “رأس الأفعى”، ويراهن على إقناع ترامب بالاشتراك معه في توجيه تلك الضربة التي يأمل أن تؤدّي، ليس إلى تدمير البرنامج النووي الإيراني فحسب، وإنما أيضاً إلى إسقاط النظام الإيراني نفسه، وعندها سيكون نتنياهو قد نجح في تحقيق “النصر المطلق”، الذي قال إنه يسعى إليه منذ “طوفان الأقصى”، ومن ثمّ سيسعى على الفور للعمل على إملاء شروطه على الجميع: ضمّ جميع مستوطنات الضفة الغربية إلى الكيان، والشروع في إعادة بناء المستوطنات اليهودية في قطاع غزّة، وإبرام معاهدة سلام ليس مع سورية الجديدة فحسب، ولكن مع السعودية في الوقت نفسه.
لستُ هنا في حاجة إلى مناقشة ما إذا كانت حسابات نتنياهو هذه تستند إلى معطيات واقعية، أم أنها تصدُر من خيال جامح ومنفلت لشخصية سيكوباتية، فمصير الكيان الصهيوني هو الزوال الحتمي في جميع الأحوال، آجلاً أو عاجلاً، خصوصاً أن لدى كاتب هذه السطور إيمانا عميقا يطمئنه دائماً إلى أن المقاومة ستنتصر حتماً، طال الزمن أم قصر. لكن ماذا لو صحّت حسابات نتنياهو على المدى القصير؟… لو طلبت نصيحة إلى الأنظمة العربية الغارقة حالياً في سبات عميق لقال الكاتب إن عليها أن تستعدّ دائما للسيناريو الأسوأ، وأن تسأل نفسها عن الشكل الذي سيكون عليه حال المنطقة فيما لو أقدم الكيان الصهيوني على ضرب إيران، وردّت الأخيرة بضرب المصالح الأميركية في المنطقة.
العربي الجديد
——————————-
هل سقط نظام الأسد في الثقافة السورية؟/ عمر الشيخ
04 يناير 2025
لطالما شكّلت العلاقة بين المثقّف والشارع السوري معادلةً معقّدةً، تداخلت فيها رواسب خطاب النظام العسكري مع نظرة نخبوية أفضت إلى اغتراب مزدوج؛ اغتراب المثقّف عن واقعه واغتراب الشارع عن رموزه الثقافية. بين مثقّف أُغري بخيال النخبة وانحاز لرؤى نظرية بعيدة عن معاناة الناس، وشارعٍ يعاني التهميش والشيطنة، ضاعت فرص الحوار، وتبدّدت آمال التغيير الذي يحترم الجميع. اليوم، وبعد 14 عاماً من الثورة التي اختبرت الجميع، يبدو السؤال الأكثر إلحاحاً: كيف يمكن للمثقّف أن يعيد تعريف دوره ليصبح صوتاً جامعاً، وليس شاهداً على انقسام صنعه بنفسه؟
فيما مضى، تراجعت الهيئات التي كانت تمثّل نبض الشارع السوري عن موقفها بالانحياز إلى الشعب، خاصّة بعد أن خاض نظام البعث (انهار سياسياً في أواخر الثمانينيات) صراعاً دموياً مع كلّ معارضيه. في تلك الحقبة، غابت البيئة السياسية التي تستطيع احتواء الحراك الشعبي ومنح الثقافة مساحةً تعبّر عن فِكَر الناس وتطلّعاتهم. بدلاً من ذلك، اتجه الانتماء الجماهيري إلى طابع قَبَلي وفطري، مدفوعاً بتضخّم الجهل والخوف من القوى العسكرية التي أحكمت قبضتها على البلاد. وجد الناس في الدين ملاذاً اجتماعياً ومتنفّساً للهروب من ضيق الخيارات السياسية، بينما تحوّلت الهيئات الثقافية أدواتٍ رقابيةً تهدف إلى تقييد الفكر والسيطرة على العقول.
ظهر ذلك بوضوح في الإنتاج الثقافي للنظام مطلع الثمانينيات، إذ كُرِّست سردياتٌ تعزّز صورة الأسد (الأب) ونظامه، ووصم كلّ معارض بالعمالة، سواء كان من جماعة الإخوان المسلمين أو من أيّ تيّار سياسي آخر. استغلّ النظام هذه المرحلة لصنع ما أُطلق عليها “الطبقة المثقّفة”، وهي طبقةٌ وظيفيّةٌ أُريد لها أن تعبّر عن وجهه الثقافي والسياسي، لكنّها في الحقيقة كانت مُجرَّد واجهةٍ تروّج سياساته عبر الكتابة والفنّ. في هذا السياق، أصبحت الأعمال الفنّية والأدبية أدواتٍ لتكريس التسلّط، وشُغِل الناس بقصص البطولات الوهمية لجيش النظام ومسرحيات كوميدية سوداء تخدم في جوهرها أهدافه الدعائية. هكذا، تحوّلت الثقافة من قوة مجتمعية مؤثّرة أداةً بيد السلطة، تخدم مصالحها وتعمّق الانفصال بين المثقّفين الحقيقيين والشعب.
وكلما استُحضِرت مفردة “مثقّف” في الذاكرة السورية، تجسّدت أمامنا الصورة الساخرة التي كرستها دراما نظام الأسد في التلفزيون، والمسرح، وقصصه الإذاعية، ونوادره. صورة مشحونة بالتخبّط والاستعلاء، تعكس انفصالاً تاماً عن الواقع، سواء في الشكل أو المضمون. كانت هناك قصدية واضحة في ترسيخ هذه الصورة عبر وسائل الإعلام التي تصل إلى كلّ بيت، إذ أصبح التلفزيون وسيلةً لتعزيز خطاب يستهزئ بالثقافة ويشوّه صورتها. تحوّلت المخيّلة الشعبية، بفعل هذا الخطاب بنكاً من الصور الكاريكاتيرية عن المثقّفين، وكلّ من يهتمّ بالثقافة، وقُدِّمت رموزاً للتهريج الاجتماعي، بلا قيمة تُذكر في الحياة أو في التعبير عن هموم الناس وتطلّعاتهم.
انطلاقًا من هذا الواقع، وكما يُعتقَد، صنع المثقّف السوري لنفسه بيئةً خاصّةً انعزل فيها داخل أروقة اتحاد الكتاب العرب، أو من خلال تعاونه مع مجلات عربية، أو انخراطه في مؤسّسات وهيئات ثقافية، سواء كانت عامّة أو خاصّة. لكنّه، بدلاً من أن يصبح صوتاً حرّاً يعبّر عن الناس، وجد نفسه محاصراً بواقع تمدّد طغيان نظام الأسد، وغير قادر على استخدام أدواته الفكرية لتشريح هذا التمدّد، الذي لم يقتصر أثره على المثقّفين فقط، بل امتدّ ليطاول جميع أفراد المجتمع، سواء أولئك الذين يهتمّون بالثقافة أو الذين لا يكترثون بها. أدرك المثقّف أن النظام لن يوفّر أحداً يحاول التفكير خارج إطار المسموح به أو يقدّم أيّ محاولة لتجاوزه وفضح ممارساته.
لعب المثقّفون الذين وقفوا إلى جانب النظام دوراً محورياً في دعم ماكينة الدعاية والتزييف، التي اعتمد عليها الأسد. ومع ذلك، يكشف تحليل مواقفهم عن عوامل متعدّدة قد تكون ساهمت في هذا الانحياز. وجد كثيرون منهم أنفسهم في مواجهة ضغوط هائلة؛ الخوف من القمع؛ الحرمان من العمل؛ حتى التعرّض للاعتقال والتعذيب، كانت جميعها أسباباً تدفع بعضهم إلى التماهي مع خطاب السلطة. بعض آخر تأثّر بمصالح مادّية أو امتيازات وفّرتها لهم مؤسّسات النظام، ما جعلهم جزءاً من منظومته. بينما كانت هناك شريحة صغيرة مقتنعة بصدقٍ أن بقاء النظام ضمانة للاستقرار، وربّما كانوا يجهلون حجم الجرائم المرتكبة أو يختارون تجاهلها. هذه العوامل لا تبرّر أفعالهم، لكنّها تسلّط الضوء على البيئة الخانقة التي جعلت التمرّد على السلطة أمراً مكلفاً، حتى على المستوى الفكري.
لقد لجأ المثقف إلى التمترس في المقاهي، والأصبوحات، والأمسيات الأدبية، فأصبح خطابه أقرب إلى أدبيات حزب البعث. كانت مشاغله “الوطنية” تُحدَّد بأوامر من “التوجيه المعنوي” التابع لماكينة الحزب الحاكم، التي فرضت عليه الالتزام بثلاثة خطوط حمراء يفكّر تحتها: الرئيس، والجيش، والأمن. في ظلّ هذه الظروف الخانقة، ما الذي كان يمكن للمرء أن يكتبه؟ ربّما استطاع بعضهم أن ينمّي قدرات فنّية بارزة مكّنتهم من تمرير نقد للنظام برمزية عالية، كما فعل الراحل جميل حتمل وزكريا تامر. ومع ذلك، كانت هذه الأصوات الاستثنائية قصيرة في قائمتها، وغالباً ما دفعت الثمن غالياً، سواء بالنفي أو بالسجن، بعيداً من وطنهم. هؤلاء كانوا يمثّلون الدور الحقيقي للمثقّف المبدع؛ أن يكون صوت الناس ومعبّراً عن أوجاعهم، وليس مُجرَّد مهرج في شاشات “البعث”، يُستخدَم لتزييف الواقع وخدمة السلطة.
إبّان اندلاع الثورة السورية منتصف مارس/ آذار 2011، كان الشارع قد سبق الثقافة والمثقّف. لقد وضع الوعي السياسي حدّاً لمهزلة العزلة الاجتماعية المشيّدة فوق عقول الناس، قذفت الثورة كرة ناره في مكاتب النقابات والاتحادات والمراكز الثقافية والهيئات الرديفة لحزب البعث. لقد نضج الاحتجاج في العقل السوري، أطلق رصاصة احتجاجه رفضاً للعبودية. وبعد كفاح دام 14 عاماً، انتصرت الثورة وأسقطت نظام الأسد. ودفع السوريون ثمن ذلك من الدمار والتهجير والدم ما يُغطّي الإنتاج الثقافي البائد كلّه، الذي كان يمعن بانفصاله عن سورية الحرّة ويقوّي دعاية الأسد في أبده الواهم.
وشهدت وزارة الثقافة في سورية خلال سنوات الثورة أدنى مستويات الانحطاط من خلال إنتاج “ثقافة التجهيل”، ودعم تحالفات النظام مع رموزه الاستبدادية. تحوّلت الوزارة منصّة لتمجيد الخطابات البعثية، التي صاغتها بثينة شعبان للرئيس المخلوع بشّار الأسد، وترويج التحليلات السطحية عن “المؤامرات الكونية” التي سعت إلى تضليل السوريين عبر وصف الثورة بأنها مُجرَّد حركة إرهابية مسلّحة تهدّد “استقرار سورية” (والاستقرار هنا ليس سوى استمرار حكم الأسد). كما كرّست مطابع الصحف التابعة لوزارة الإعلام أطناناً من الورق والحبر المموّلة من جيوب السوريين لطباعة مقالات وتحليلات هزيلة عن “صمود سورية” في مواجهة المؤامرة، وعن “بطولات الجيش السوري”. ومع ذلك، كانت تلك البطولات المزعومة مُجرَّد وهم، إذ تركت القوات مواقعها مع تقدم الثوار في الأيّام التي سبقت سقوط النظام في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024. انهار تاريخ “البعث” وثقافته، وتبدّدت تلك الأوهام الانتحارية كلّها، التي ضحّت بأموال سورية وشبابها في سبيل طاغية فرّ محاطاً بهالة من التضليل. تلك الهالة التي كانت الآلة الثقافية والإعلامية للنظام بارعة في صناعتها وإجبار السوريين على العيش داخلها طوال عقود من المأساة.
ليس سقوط نظام الأسد نهاية المطاف، بل بداية مرحلة جديدة تتطلّب إعادة بناء، ليس المؤسّسات السياسية والاقتصادية فقط، بل أيضاً الثقافة السورية التي شوّهها النظام عبر عقود. لإصلاح الثقافة السورية، يجب أن تُبنى على أسس جديدة تعكس تطلّعات الشعب السوري وتحرّره من إرث القمع والاستبداد. أولاً، يتطلب هذا الإصلاح فصل الثقافة عن السلطة السياسية تماماً، بحيث تصبح الثقافة مجالاً حرّاً يعبّر عن تنوّع المجتمع السوري بدلاً من أن تكون أداةً للدعاية. ثانياً، يجب تمكين المثقّفين الحقيقيين (كانوا صوتاً للناس خلال الثورة) من لعب دور ريادي في إعادة صياغة الهُويَّة الثقافية السورية. وثالثاً، يمكن إحياء الثقافة من خلال دعم الفنون والأدب المستقلَّين، وإيجاد منصّات جديدة تتيح للشباب التعبير عن أنفسهم بحرّية، بعيداً من هيمنة المؤسّسات الرسمية التي ارتبطت بالنظام. وأخيراً، لا بدّ من معالجة الجراح الثقافية والاجتماعية التي خلّفها النظام، من خلال تسليط الضوء على قصص الضحايا والمهمّشين، لتكون جزءاً من ذاكرة وطنية صادقة تساهم في بناء المستقبل.
اليوم، قد لا تكون أيادي أولئك الذين قضوا الليالي في كتابة سيناريوهات الأفلام والمسلسلات التي شيطنت الثورة السورية، وأساءت إلى كلّ من أيّدها، ملوّثةً بالدماء مباشرةً، لكنّها كانت أدواتٍ فعّالةً في خدمة ماكينة النظام القمعية. لقد أنتج هؤلاء مئات الساعات التلفزيونية والسينمائية، التي بُثّت لكلّ ناطق بالعربية، وصُوِّرت في مواقع دمّرها الطيران الحربي وبراميل النظام وصواريخه التي استهدفت السوريين. وفي كلّ مناسبة ومهرجان، لم يتردّدوا في تقديم التحيّات لصانع المجازر بشّار الأسد ولجيشه، الذي كان مُجرَّد خادم مخلص لنظامه. كانوا يظهرون في استوديوهات التلفزيون السوري ومواقع التصوير مرتدين زيَّ هذا الجيش، رافعين علمه الذي أصبح رمزاً للقمع، فوق تلال من الأرواح التي أُزهِقت برصاص قوات زعمت أنها تدافع عن الوطن.
ترى كيف يمكن أن نفهم اليوم “توبة” هؤلاء الذين لا يزالون في مواقعهم، يروّجون لسورية المستقبل من دون أيّ شعور بالخجل أو اعتراف بتضحيات شهداء الثورة السورية؟ يزعمون أنهم يجهلون وجود المعتقلات (المسالخ) التي بناها النظام لمن يعارضه. كيف يمكن لهم أن يستمرّوا في الحديث من دون أن ينحنوا احتراماً واعتذاراً لإرادة الشعب؟ ومن دون أن يعودوا قليلاً إلى صفحات التاريخ ليفهموا أن الشعوب لا يمكن قتلها، مهما تعاظم التدمير، وتفشّى التزييف، واستمرّت النصوص المدائحية لطاغية انتهى هو وعائلته إلى مزبلة التاريخ؟
أعتقد أن سقوط نظام الأسد يستوجب الإسراع في تهديم القيادات الثقافية التابعة لهذا النظام بأسرع وقت ممكن، فمحاولات تقديم الولاءات للثورة الآن لن تُخفِي حقيقة شراكتهم الطويلة في تغييب الوعي ودعم الروايات الكاذبة التي روّجها نظام الأسد الساقط لمواجهة الثورة السورية. لقد عمل هؤلاء بفاعلية على الانتقال من خدمة منظومة إلى أخرى، من دون أن يدركوا أن كلّ شيء موثّق، وأن انتقالهم المكشوف إلى صفّ الانتصار الشعبي لا يمكن تصديقه. بل إن بعضهم بدأ يكتب النصوص “الوطنية” التي لم تخلُ من البعثية، محاولين تفسير ثورة الشباب السوري بأسلوب يعكس انفصالهم عن الواقع. يكتبون باللغة الفصيحة المُشكّلة، بينما كانت صرخات الثورة بسيطة وواضحة: “حرية للأبد غصب عنك يا أسد”، تلك الصرخات التي عبّرت عن نبض الشارع الذي انعزل عنه هؤلاء منكبّين في مكاتبهم الممولة من الخدمات الثقافية الدعائية للنظام الساقط. لا بدّ لهؤلاء أن يختاروا طريقة سقوطهم، فقد تخلّفوا عن الثورة وأهانوا الشعب السوري عبر تصدير الكذب بأشكال متنوعة ومزيّفة، تتناسب تماماً مع صدق القتل الأسدي.
مع سقوط نظام الأسد، لا بدّ أن تلعب الثقافة دوراً مركزياً في بناء الدولة الجديدة، فهي ليست مُجرَّد أداة للتعبير الفنّي أو الفكري، بل عامل جوهري في إعادة صياغة العقد الاجتماعي الذي انقطع بين السلطة والشعب. يتطلّب هذا استعادة الثقة بين المثقّف والشارع، تلك الثقة التي تضرّرت بفعل عقود من التباعد والانفصال. على المثقّف أن يتخلّى عن نخبويته وينزل إلى مستوى معاناة الناس، حيث تصبح الثقافة تعبيراً عن هموم الشارع وآماله، وليس انعكاساً لتوجّهات السلطة أو المصالح الضيقة. وفي السياق السوري الجديد، يمكن للثقافة أن تكون الجسر الذي يوحّد السوريين بمختلف مشاربهم، من خلال تعزيز قيم التسامح والتنوع والانتماء الوطني. يجب أن تُطرح مبادرات ثقافية ومشاريع تعيد تعريف الهُويَّة السورية بعيداً من إرث “البعث”، وتستوعب جميع الفئات التي تعرّضت للتهميش أو الإقصاء. كما أن الثقافة قادرة على لعب دور علاجي، تسلّط الضوء على الجراح العميقة التي خلّفها النظام، وتفتح الباب أمام مصالحة مجتمعية قائمة على الحقيقة والعدالة.
العربي الجديد
————————
فورين أفيرز: لا تكرروا في سوريا ما أخطأتم به في أفغانستان
ترجمة ربى خدام الجامع
2025.01.04
ليس لدى القيادة الجديدة لسوريا سوى نماذج قليلة لتسير على هديها في مجال سعيها لكسب الاعتراف الدولي، إذ لا يوجد أي دليل عمل حول طريقة إدارة الحكومة مخصص لفصائل مصنفة على أنها “إرهابية”، كما لا توجد قوانين واضحة تتبعها حكومات الدول الأجنبية فيما يتصل بكسر العزلة عن الفصيل الذي كان يتبع في السابق لتنظيم القاعدة، غير أن هيئة تحرير الشام التي خلعت ديكتاتور سوريا بشار الأسد في مطلع شهر كانون الأول الماضي، وغيرها من الحكومات، بوسعها جميعاً أن تتعلم من سابقة تحذيرية، وهي عودة طالبان إلى حكم أفغانستان في عام 2021.
بعد ن استولت طالبان على كابل، كانت أفغانستان ترزح تحت وطأة العقوبات وأنواع أخرى من العزلة الاقتصادية والدبلوماسية، كما لم تتصرف الحكومات الأخرى بالسرعة والجرأة الكافية للحد من أزمة الفقر التي تعصف بالبلد، بل تركت العقوبات الاقتصادية التي لم يكن لها أي أثر مخفف على طالبان، لكن تلك العقوبات قربت بالشعب الأفغاني من حافة الفقر. ثم رفضت أغلب الدول التفاوض مع طالبان بطريقة من شأنها دعم حقوق المرأة وغيرها من القواعد الدولية، واختارت عوضاً عن ذلك أن تتريث لترى كيف سينفذ القادة الجدد لأفغانستان كل ذلك بأنفسهم. غير أن رفض التعامل مع طالبان وجه ضربة قاسية لحركة الجناح البراغماتي، وهذا ما قوى المتشددين خلال الأشهر الأولى التي سادتها اضطرابات كبيرة من حكم هذا النظام.
تعامل المسؤولون الدوليون بشكل أكبر مع هيئة تحرير الشام خلال الشهر الماضي مقارنة بما فعلوه مع طالبان بعد سقوط كابول، وهذا ما شجع الهيئة بعد أن مد لها مسؤولو الدول الأجنبية يدهم على إبداء مرونة سياسية وأيديولوجية تميز بها هذا الفصيل عن طالبان، ولكن لسوء الحظ، يبدو بأن الجهات الفاعلة الخارجية ميالة لتكرار كثير من الأخطاء التي ارتكبتها في أفغانستان عقب تولي طالبان للسلطة.
فخلال الفترة الانتقالية، يمكن لكل خطوة أن تغير مسار التاريخ، ويبدو المسؤولون الغربيون على وجه الخصوص محتمسين حيال مستقبل سوريا الجديدة، ويحق لهم أن يحسوا بذلك، ولكن من دون اتخاذ أي إجراءات تسمح لسوريا بإعادة بناء اقتصادها وإنعاشه بعد سني الحرب، قد يشهد البلد مزيداً من الاضطرابات وانعداماً للاستقرار، وهذا ما لا يريده الشعب السوري ولا الغرب، إذ لدى حكومات الدول الغربية مصلحة عميقة في التعلم من تلك الخطوات العاثرة التي قامت بها في أفغانستان، لأن إطالة أمد الأزمة في سوريا من شأنه أن يتوسع ليشمل بقية دول الشرق الأوسط، وهذا ما يقوض النفوذ الغربي في المنطقة، ويدفع بمزيد من الناس إلى الرحيل عن وطنها، والأهم من كل ذلك أن الشعب السوري يستحق ما هو أفضل من كل ذلك.
ولهذا، يجب على الولايات المتحدة وشركائها أن يسرعوا في التصرف للحد من وطأة الآثار القاسية للعقوبات المفروضة على سوريا وهي تخطو أولى خطواتها نحو التعافي، كما يجب عليهم تحديد مسار واضح ينحو باتجاه رفع تلك العقوبات مع الاعتراف الدبلوماسي بهيئة تحرير الشام وذلك مقابل قيام القادة الجدد لسوريا بتنفيذ خطوات والتزامات معينة، وفي حال مراوحة الغرب لمكانه وتوانيه عن القيام بأي شيء، فإن ذلك قد يدفع بالبلد نحو الانهيار وتضييع نافذة الفرصة التي انفتحت لفترة قصيرة أمام إقناع الثوار السابقين بالسير على الطريق المستقيم.
دروس من التاريخ
يستحيل حساب مدى التأثير الذي خلفته الإجراءات والخطوات التي اتخذت من الخارج على أفغانستان عقب سيطرة طالبان على البلد في آب من عام 2021، كما لا يمكن لأحد تفكيك آثار السياسات الدولية وإبعادها عن أثر الحكم السيئ المريع الذي قدمته طالبان، ولكن ثمة درسان يتصلان بالحالة السورية يمكننا الخروج بهما من التاريخ المعاصر لأفغانستان.
والدرس الأول هو أنه في الحالة الأفغانية، تحركت العناصر الفاعلة الدولية ببطء من أجل تخفيف المعاناة الإنسانية، وخاصة فيما يتصل بالآثار التي أفقرت الناس والتي ترتبت على العقوبات التي فرضوها على أفغانستان، وكذلك بسبب القيود المفروضة على المصارف، وغيرها من السياسات الاقتصادية. فقد فرضت الولايات المتحدة والأمم المتحدة وغيرها من الكيانات في بداية الأمر عقوبات على طالبان خلال تسعينيات القرن الماضي، ثم رفعتها عقب أحداث 11 أيلول عام 2001، بيد أن ذلك الإرث من القيود المفروضة على طالبان دفع للحكم على البلد بأكمله بالفشل عقب سيطرة المتمردين السابقين على الحكومة. كما رأى الشعب الأفغاني أن طالبان طردت القوات الأجنبية التي نشرت في البلد منذ عام 2001، وذلك عندما أسقطت القوات التي تقودها الولايات المتحدة الحكومة السابقة، كما اعتبر كثيرون الإجراءات الاقتصادية التي فرضت على طالبان بمثابة انتقام أنزله بها الغزاة المهزومون. أما على الصعيد المادي، فإن العقوبات والقيود أسهمت في ظهور تراجع حاد في قيمة العملة المحلية، فلم يعد بوسع المصرف المركزي الوصول إلى الاحتياطي الخاص به، كما عطل ذلك شبكات التوريد خلال الأشهر التي أعقبت عودة طالبان، وبحلول شهر كانون الأول من عام 2021، صارت الوكالات الأممية تصف أفغانستان بأنها البلد الذي يعاني من أكبر كارثة إنسانية على مستوى العالم.
بعد مرور ستة أشهر على سقوط كابل، لاحت نذر المجاعة في البلد، فعدلت الحكومات الأجنبية من عقوباتها بنسبة يمكنها من خلالها البدء بالاقتراب من حجم الكارثة، إذ أطلقت واشنطن أكبر إعفاءات على الإطلاق في تاريخ العقوبات الأميركية المدونة، كما حسنت الأمم المتحدة من الاستقرار النقدي لأفغانستان وذلك عبر إرسال شحنات نقدية مخصصة لعمليات الإغاثة، وقد أسهمت تلك الإجراءات في التخفيف من وطأة الكارثة، لكنها أتت متأخرة جداً، كما كانت خجولة جداً، وهذا ما جعل الشركات الخاصة ووكالات التطوير والاستثمار ترفض فكرة فتح أي مشروع تجاري داخل دولة منبوذة يتصف قطاعها المصرفي بالشلل، إذ لم يدر المستثمرون المحتملون بأمر الإعفاءات الأميركية، وحتى من عرفوا بها ظلوا قلقين وخائفين من احتمال خرقهم للعقوبات أو انتهاكهم لقوانين مكافحة الإرهاب التي فرضتها دول أخرى لم تخفف من شدة قواعدها.
ثمة درس آخر لا بد من تعلمه أيضاً من فشل الغرب في تقديم التوضيح الكافي لطالبان فيما يتصل بالطريقة التي بوسعها من خلالها كسب الاعتراف الدبلوماسي والتخلص من العقوبات، إذ على الرغم من أن الجهات الفاعلة الأجنبية تحدثت عن ضرورة نشر الاستقرار واتخذت بعض الإجراءات للتخفيف من حدة الأزمة الاقتصادية، بقي التعامل الدولي محدوداً نظراً لرفض الغرب اتخاذ أي خطوة من شأنها منح شرعية للقادة الجدد لكابول. ومن دون أن توضح أو أن تحدد أي مقابل، طالبت الحكومات الغربية باحترام حقوق المرأة وتشكيل حكومة قائمة على مبدأ المشاركة، وهذا المبدأ الغامض على الرغم من النوايا الحسنة التي ينطوي عليها مايزال متداولاً بين الجهات الفاعلة الدولية التي تناقش مستقبل سوريا.
تقع حصة الأسد في المسؤولية المترتبة على وضع النبذ الذي تعاني منه أفغانستان على عاتق رجال الدين الذين أصروا على قوننة سلوك النساء والفتيات بطرق تشتمل على خروقات للقواعد الدولية وهذا ما حول طالبان إلى حركة سامة على المستوى السياسي، ولكن خرج براغماتيون بين ظهراني طالبان أيضاً، بيد أن هؤلاء المعتدلين لم يتمكنوا من إقناع المتشددين بأن وضع مزيد من السياسات السمحة من شأنه أن يؤدي إلى تحقيق مكاسب كبيرة، ويعود أحد أسباب ذلك إلى عدم عرض العالم لمثوبات واضحة مقابل سن سياسات أفضل، فلقد توجه البراغماتيون من طالبان بزيارات عديدة للقيادات الدينية في قندهار وذلك ليضغطوا عليهم بشأن المراسيم القاسية الجديدة التي فرضوها، ولكن في كل مرة، كان هؤلاء يعودون بخفي حنين.
ظهر أقرب عرض صريح في حزيران من عام 2023، في أثناء زيارة قام بها المنسق الأممي الخاص، فريدون سينيرلي أوغلو، لأفغانستان، إذ خلال تلك الزيارة، وصلت للمسؤولين في طالبان فكرة مفادها بأنه بوسع حكومتهم تمثيل طالبان لدى الأمم المتحدة في حال سمحوا بتعليم الفتيات من مختلف الأعمار، غير أن طالبان كانت تريد عرضاً واضحاً، وهذا ما لم تحصل عليه على الإطلاق، إذ بعد مشاورات مع الدول الأعضاء لدى الأمم المتحدة، خرج تقرير سينيرلي أوغلو أمام مجلس الأمن بمجموعة واسعة من الطلبات الموجهة لطالبان، ولم يشتمل إلا على وعود غامضة بشأن مسار التطبيع الذي قد يفوز به النظام مقابل ذلك.
لم تكن المقاربة القائمة على مزيد من الصفقات ضامناً لإقناع قيادة طالبان بتغيير سياساتها مقابل الاعتراف بها وتخفيف العقوبات عنها، بل إن بعض الدبلوماسيين رفض حتى فكرة المساومة مع طالبان، وأعلنوا بأن حقوق النساء والفتيات غير قابلة للتفاوض، إلا أن هذا النهج لم يجرب بما فيه الكفاية، إذ في ظل غياب أي أمل حقيقي بالحصول على تنازلات حقيقية من الدول الغربية، يئست طالبان حتى من الحصول على الشرعية على المستوى العالمي.
رياح معتدلة
مثلهم مثل قيادة طالبان، أتت القيادات الجديدة لسوريا من حركة إسلامية مقاتلة، إذ ظهرت هيئة تحرير الشام في عام 2017 إثر تحالف عدة جماعات مسلحة التفت حول فصيل جهادي يعرف باسم جبهة النصرة التي أسسها أحمد الشرع، القائد الحالي للهيئة، والذي انضم في فترة من الفترات إلى تنظيم الدولة، ولكن في عام 2013، قطع الشرع علاقته بالتنظيم وبايع تنظيم القاعدة قبل أن يفك ارتباطه بتلك الجماعة في عام 2016.
غير أن هيئة تحرير الشام لا تشبه طالبان من نواح أساسية، وذلك لأن زعيم طالبان ولد في قرية جدران البيوت فيها مبنية من الطين واللبن، ودعا لنشر التعليم الديني المتشدد، ووجه خطابه ضد الآثار الشريرة التي يخلفها العالم خارج أفغانستان، في حين أن قيادات هيئة تحرير الشام، وعلى الرغم من التزامها الديني، خرجت من مدن عصرية في سوريا، وأغلبهم درس وتعلم في الجامعات، ولهذا صاروا يسعون لتكوين مزيد من العلاقات مع العالم. وقد سعت هذه الجماعة منذ أمد بعيد إلى فك ارتباطها بأعداء الغرب، فبدأت بالجماعات الإرهابية المكروهة لديه، إذ شنت الهيئة حملة صارمة ضد جماعة حراس الدين التابعة لتنظيم القاعدة في شمال غربي سوريا والتي لم تشارك في الثورة ضد الأسد في عام 2024، كما مارست الهيئة قمعاً شديداً على العناصر السورية من تنظيم الدولة، فاعتقلت بعضهم ونفذت في بعض الأحيان إعدامات ميدانية لبعض منهم، كما تعهدت بمواصلة محاربة تنظيم الدولة في المنطقة الشرقية بسوريا.
إضافة لذلك، أمضى ثوار سوريا سنوات وهم يصدون هجمات يشنها عدوّان لدودان للغرب، هما الأسد وروسيا، فحقق انتصارهم سقوط اثنين من أعداء أميركا، في حين أن فوز طالبان يعتبر في جوهره هزيمة لأميركا، وعلى الرغم من أن الهيئة اليوم مابرحت تمسك بشعرة معاوية وهي تحاول أن تتجنب استعداء روسيا، وذلك بعد أن عرضت على موسكو فرضة الاحتفاظ بقواعدها العسكرية في سوريا، استقبلت السلطات الجديدة في دمشق مؤخراً وزير خارجية أوكرانيا وتعهدت بتمتين العلاقات مع كييف، في حين كانت علاقة هيئة تحرير الشام مع إيران أبرد بكثير، وأقرب للعدائية، وذلك عندما أكدت الهيئة على وجوب محاسبة إيران على ما مارسته من أفعال زعزعت استقرار سوريا، كما أكد الثوار السابقون على أنهم لن يشكلوا أي تهديد على جيرانهم، في لفتة رأى فيها بعض الناس تطميناً لإسرائيل التي تعتبر الحليف الإقليمي الأقرب على قلب الولايات المتحدة.
ولقادة سوريا الجدد تاريخ أكثر اعتدالاً في الحكم، إذ عندما حكمت الهيئة إدلب التي سيطرت عليها في عام 2017، لم تفرض القيود التي فرضتها الفصائل التي حكمت إدلب قبلها على غير المسلمين، مثل عدم قرع أجراس الكنائس، بيد أنها لم تشارك النساء في القيادة ولا في القضاء، غير أن هؤلاء الثوار عموماً أشد تسامحاً من طالبان، فقد أخذت شرطة الأخلاق تجوب أفغانستان، ولكن في مطلع هذا العام، علقت الهيئة القوانين المقترحة والداعية لفرض قواعد الشريعة الإسلامية على الأسواق التجارية والمطاعم والمقاهي في إدلب. وفي حين تهيمن عناصر متدينة محافظة على قيادة طالبان، نجد بأن الهيئة أقصت أشد شيوخها راديكالية وتطرفاً، ولذلك أصبحت الهيئة تفتخر بتاريخها في مجال التشجيع على تعليم الفتيات من كل الأعمار، على الرغم من قيامها بفصل الصفوف الدراسية بحسب النوع الاجتماعي.
منذ سيطرة ثوار سوريا على دمشق، تبنوا لهجة تصالحية واضحة، إذ تعهدت هيئة تحرير الشام باحترام حقوق المسيحيين والعلويين وغيرهم من الأقليات، وأكدت على حق جميع قطاعات المجتمع في المشاركة بمظاهرات سلمية، وتعهدت الهيئة بحل نفسها والانضمام إلى المؤسسات الحكومية الرسمية، ومنذ فترة قريبة عين القادة الجدد لسوريا نساء في مراكز قيادية، فكان من بينهن من ترأست مكتب شؤون المرأة وأخرى ترأست المصرف المركزي في سوريا.
غير أن الخطاب المعتدل لهيئة تحرير الشام قد يقابله جمهور يشكك بصحة أقواله في مختلف بقاع العالم، ويعود ذلك للارتباطات السابقة للهيئة والأسئلة التي بقيت معلقة حول الطريقة التي ستحكم بها هيئة تحرير الشام البلد بأكمله، غير أن القادة الجدد لسوريا يبدون حماسة أشد من تلك التي أبدتها طالبان تجاه كسب ود الغرب، ويعود أحد أسباب ذلك إلى أن قيادات الهيئة يبدو أنهم استوعبوا بأن تطوير البلد وإعادة إعمارها بحاجة لدعم غربي وإلى رفع للعقوبات، ولهذا ينبغي على القوى الخارجية أن تكسب ثقة دمشق في حال حكمت السلطات الجديدة بالانفتاح ذاته الذي أظهرته خلال أسابيعها الأولى في السلطة.
ضريبة الميراث
غير أن توجيه ثوار سوريا لرسائل براقة للقوى الخارجية لا يعني بأن هذه الطريقة أسهل من الطريقة التي اتبعتها طالبان للتخلص من العقوبات، وذلك لأن الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة وتركيا وغيرها من الدول المؤثرة جميعها مايزال يصنف الهيئة كتنظيم إرهابي، ومنذ عام 2014، اعتبرت الولايات المتحدة هيئة تحرير الشام تنظيماً إرهابياً أجنبياً، وهذا التصنيف يحمل بين طياته تداعيات أشد من تلك التي حملها تصنيف طالبان كتنظيم إرهابي عالمي، وذلك لأن تصنيف جماعة ما على أنها تنظيم إرهابي أجنبي يجعلها مستهدفة على المستوى السياسي والقانوني، ويعود أحد أسباب ذلك إلى أن الولايات المتحدة تحظر تقديم أي دعم مادي لتلك الجماعات التي صنفتها ضمن هذه القائمة، ويشمل ذلك التدريب وتقديم المشورة، كما قد تفرض عقوبات مشددة على الأميركيين وسواهم ممن يخرقون تلك القواعد، وتشمل تلك العقوبات فرض غرامات قد تصل إلى 500 ألف دولار إلى جانب الحبس لعقود في السجن. ومع تولي جماعة مصنفة كتنظيم إرهابي أجنبي للحكومة الجديدة في سوريا، أصبح أي تعامل مع هذا البلد محملاً بخطر قانوني من الناحية العملية، وهذا ما يعيق عمل الجهات الإغاثية، وأصحاب المشاريع التجارية، بل حتى الدبلوماسيين، ويمنعهم من العمل في هذا البلد. وحتى في حال حل الهيئة لنفسها، لن تسقط عنها صفة التنظيم الإرهابي الأجنبي بشكل تلقائي، وذلك لأن التراجع عن تصنيف جماعة ضمن هذه القائمة قد يستغرق سنوات طويلة.
وإلى جانب القيود المفروضة على هيئة تحرير الشام هنالك عقوبات معقدة مفروضة على الدولة السورية نفسها، وهذا ما لا بد لقادة سوريا الجدد أن يرثوه، فقد صنفت الولايات المتحدة سوريا كدولة راعية للإرهاب في عام 1979، وشددت عقوباتها عليها خلال السنوات الأولى من هذا القرن، وفي العشرية الثانية من الألفية الثالثة، وبعد قمع الحكومة السورية السابقة للانتفاضة الشعبية بشكل متوحش ما أدى إلى إغراق البلد في الحرب، أصدرت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وغيرهما من الكيانات الدولية عقوبات اقتصادية جديدة على سوريا ماتزال مفروضة عليها حتى اليوم، وتشتمل هذه العقوبات على عقوبات فرضت على قطاعات الطاقة والمصارف والاتصالات، وقيوداً على استيراد معظم السلع الأجنبية، بالإضافة إلى سلع قادمة من دول أخرى تحتوي على قطع صنعت في الولايات المتحدة، ناهيك عن القوانين التي تحظر المشاريع التجارية غير الأميركية من ممارسة التجارة مع الشركات السورية، وقد فرضت معظم تلك القيود بموجب تشريعات، وهذا ما يصعب أمر رفعها، وقد أسفر عن هذا التداخل في العقوبات والقيود حظر تجاري شبه كامل.
قبل سقوط الأسد الذي تم خلال الشهر الفائت، أسهمت العقوبات إلى جانب عوامل أخرى مثل سوء إدارة نظام الأسد إلى انهيار الاقتصاد السوري وإلى ظهور أزمة اقتصادية جعلت 70% من أبناء الشعب السوري بحاجة ماسة إلى الغذاء والماء وغيرهما من أساسيات الحياة. كما منعت القيود الاقتصادية عمليات تسليم المساعدات، فلقد سعت المنظمات الإنسانية جاهدة للعثور على مصارف تستقبل دفعات موجهة إلى سوريا، غير أن المعاملات الإضافية المطلوبة للالتزام بتلك القيود بشكل قانوني استهلكت الوقت والموارد، وقد ترتب ضرر كارثي على تأخر تسليم المساعدات في بعض الأحيان، إذ في إحدى المرات، بقي مقدمو الاستجابة الأولية الذين توجهوا لتقديم خدماتهم إثر زلزال 2023 الذي ضرب سوريا وتركيا ينتظرون طوال أسابيع قبل أن يؤذن لهم بإدخال الحفارات التي احتاجوا إليها لمساعدتهم في الوصول إلى الضحايا تحت الركام، وذلك بسبب القيود المفروضة على الصادرات الأميركية والتي تحظر استيراد تلك المعدات.
لا بد لتلك الأمور المزعجة أن تستمر مع بقاء القيود الاقتصادية الموسعة على حالها، على الرغم من أن معظم تلك العقوبات لم يعد لها أي معنى بما أن نظام الأسد لم يعد موجوداً الآن، لذا، ومن دون رفع العقوبات أو تخفيفها، قد يزداد وضع الفقر والعوائق المفروضة على عمليات تسليم المساعدات سوءاً في سوريا وذلك لأن الحكومة الجديدة تخضع لسيطرة جماعة ذات تصنيف إرهابي، وفي السابق وتحديداً في الأجزاء الواقعة شمال غربي سوريا والتي خضعت لحكم الهيئة طوال سنين، تسبب الخوف من الملاحقة بعرقلة توفير السلع الأساسية وتقديم المساعدات، أما الآن، فإن المشكلات نفسها قد تتوسع لتشمل سوريا كلها.
مصيدة للفقر
في حال لم تتم معالجة الأمر بسرعة، فإن العزلة التي فرضها العالم على هيئة تحرير الشام وعلى الدولة السورية قد تخلق أزمة تفوق تلك التي ظهرت في أفغانستان، فلقد تسببت سلسلة المعارك التي أدت لإسقاط نظام الأسد بتشريد نحو 900 ألف سوري خلال الشهرين الأخيرين من عام 2024. ولقد توقعت الأمم المتحدة بأن الشعب السوري البالغ تعداده 33 مليوناً قد يحتاج إلى مساعدات خلال العام المقبل، وحتى في حال تحرك القوى الأجنبية بشكل سريع على الجانب الإنساني، قد لا تكفي المساعدات القادمة من الخارج لتغطي البلد بأكمله، ولهذا فإن سوريا لا تحتاج إلى مواد عاجلة فحسب بل أيضاً إلى دعم مخصص لإنعاش اقتصادها الذي توقفت عجلته خلال الحرب. أما إصلاح الاقتصاد فسيحتاج إلى دعم مالي وفني من الجهات المانحة والمنظمات الدولية، غير أن مؤسسات مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي مايزال التصنيف الأميركي لسوريا على أنها دولة راعية للإرهاب يمنعها من مد هذا البلد بكل ذلك، لأن ذلك سيدفع واشنطن التي تتمتع بصوت حاسم على طاولة تلك المؤسسات، إلى الوقوف ضد هذه المساعدات. في حين أن جهات فاعلة أخرى مثل الاتحاد الأوروبي ماتزال تطبق قوانين تمنع تقديم القروض والمنح لسوريا، والأدهى من ذلك هو أنه طالما بقيت هيئة تحرير الشام ضمن قائمة التنظيمات الإرهابية الأجنبية الأميركية، فإن أي خبير يسدي أي نصيحة للنظام الجديد قد يتعرض لخطر مخالفة القوانين الأميركية.
قد يحتاج التعافي الاقتصادي إلى عملية استئناف سريعة لنشاط القطاع الخاص والتجارة الدولية التي تراجعت بنسبة 80% منذ عام 2010 وحتى عام 2022. إلا أن معظم الدول تحرم على مواطنيها ممارسة النشاط التجاري مع سوريا، لذا، وطالما بقي المصرف المركزي في سوريا تحت وطأة العقوبات، فإن مؤسساته المالية سوف تبقى مغلقة دون العالم، كما قد تظهر مضاعفات أخرى عند محاولة أي مصرف مركزي تحقيق المعايير العالمية المعنية بمحاربة تمويل الإرهاب وذلك في حال كان الشخص المحكم المسؤول عن التعيينات الجديدة في البنك شخصية إرهابية أدرج اسمها ضمن قوائم الإرهابيين.
هذا وقد يهدد استمرار العزلة المفروضة على الاقتصاد السوري في دفعه نحو تبني مزيد من أشكال اقتصاد الظل، إذ في حال عجز السوريين عن الحصول على إذن لمزاولة التجارة مع العالم، قد يعتمدون عوضاً عن ذلك على صناعات غير مشروعة بقيت ضمن الموارد القليلة للتربح في البلد خلال السنوات الماضية، فقد اعتمد نظام الأسد على إنتاج منشط الكبتاغون المحظور وتصديره، ولذلك فإن المسؤولين الدوليين سيحثون هيئة تحرير الشام على القضاء على ظاهرة الإتجار بالمخدرات، غير أن قادة سوريا قد يواجهون صعوبات في تحقيق ذلك، ما لم تقترن تلك المطالبات بفرص اقتصادية جديدة تعمل على تأمين سبل عيش مستدامة.
كما أن الأزمة الاقتصادية والإنسانية المتجذرة في سوريا قد تقوض المصالح الجيوسياسية الغربية، وبما أن الأسد كان معزولاً عن بقية العالم، لذا اعتمد على روسيا وإيران بشكل كبير، ولهذا يحاول القادة الجدد لسوريا النأي ببلدهم عن هذين الطرفين الفاعلين، إذ بعد أيام من طرد الأسد، ابتعدت ناقلة نفط محملة بنفط إيراني خام عن سوريا، ما يشير إلى أن طهران قد تقطع دعمها لقطاع الطاقة عن البلد، ولكن في حال بقاء القيود الغربية المفروضة على الاقتصاد السوري على حالها، فإن الخيارات قد تضيق أمام القادة الجدد في دمشق، فلن يبقى أمامهم أي خيار سوى أن يطلبوا المساعدة من الدول المعادية للغرب وذلك حتى لا تنقطع الكهرباء عن سوريا.
الخروج من عنق الزجاجة
ما تريده حكومات الدول الغربية من سوريا هو أن تعود لسابق عهدها، وأن تصبح أفضل مما كانت عليه، وأن توقف تدفق المهاجرين، وأن تعمل على كبح جماح الإرهاب. ولذلك زادت النقاشات في الكواليس خلال الأسابيع الماضية ما بين الدول الغربية والعربية بشأن طريقة التعاون مع القادة الجدد لسوريا، فقد أجرى مسؤولون رفيعون من كل من فرنسا وألمانيا وتركيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة ودول الخليج والأمم المتحدة وغيرها محادثات مع هيئة تحرير الشام، وزار عدد منهم دمشق، وفي أواخر كانون الأول الماضي، رفعت الولايات المتحدة الجائزة التي تبلغ قيمتها عشرة ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات عن الشرع، إذ إن إجراء محادثات مباشرة على أعلى مستوى كان أمراً بعيداً عن تفكير أي منهم قبل شهر من الآن فحسب، بما أن معظم الدول اتبعت سياسة عدم التعامل مع الهيئة.
ولكن، ثمة مؤشرات أخرى على أن العالم قد يرتكب في سوريا أغلب الأخطاء التي ارتكبها في أفغانستان بعد عام 2021، إذ لم ترغب الدول الغربية بالالتزام بخارطة طريق من أجل تخفيف العقوبات والاعتراف النهائي بالسلطات الجديدة، إذ بموجب هذه الخارطة ستقابل إجراءات محددة تتخذها الهيئة بخطوات محددة تقوم بها الدول الغربية، كما لم تقم الدول بأي إجراءات أصبحت الآن مطلوبة على الفور لتخفيف أثر العقوبات التي تسببت بأزمة إنسانية واقتصادية في سوريا.
وخلال الأسابيع الماضية، تحدث مسؤولون أوروبيون وأميركيون عن عدد من الشروط التي طالبوا بها هيئة تحرير الشام، مثل الاشتراط عليها بأن تتخذ إجراءات ضد نزعتها النضالية العابرة للدول، مع تشكيل حكومة تعتمد بشكل أكبر على مشاركة الجميع، ومراعاة حقوق المرأة والأقليات، وإغلاق القواعد الروسية، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة، من دون أن يوضح أي منهم بدقة ما الذي سيقدمه العالم للثوار السابقين مقابل ذلك أو مقابل الطريقة التي ينبغي للهيئة من خلالها إعطاء الأولوية لهذه الشروط، بل على العكس، أرجأ السياسيون وماطلوا في معالجة هذا الأمر.
لاشك أن الهيئة مسؤولة عن ممارسة دورها في إنجاح عملية الانتقال السياسي، غير أن مشاركتها لفصائل مسلحة أخرى في ثورتها، ومن بينها تلك الفصائل التي فرض مجلس الأمن عقوبات عليها بسبب ارتباطها بتنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية، قد يثير مخاوف كثيرة، كما أبدى بعض المراقبين قلقهم تجاه فكرة وجود قاعدة صلبة من المتشددين ضمن هيئة تحرير الشام وهؤلاء يخفون مطامحهم الحقيقية إلى أن تعزز الهيئة سيطرتها على الحكم، كما أعربت بعض الحكومات عن قلقها تجاه القرار الذي أصدرته الهيئة والمتعلق بتكليف عدد ضئيل من المقاتلين الأجانب بمناصب رسمية ضمن الجيش السوري الجديد، فيما خشيت عواصم دول أخرى من أن مد يدها في وقت مبكر للهيئة ما هو إلا مكافأة للثوار وذلك قبل أن يصبح لديهم تاريخ مع الحكم الصالح، ولذلك حذر وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكين الهيئة منذ فترة قريبة من كل ذلك ونبههم إلى ضرورة تجنب الزلات التي وقع بها قادة طالبان الذين قدموا وجهاً معتدلاً قبل أن تظهر “الألوان الحقيقية” لهذه الجماعة على حد وصفه.
لا وقت للانتظار
في ظل غياب إجراءات حازمة من الجهات الفاعلة الدولية، أصبحت سوريا عرضة للوقوع في أزمة كتلك التي وقعت بها أفغانستان، وحتى تتجنب هذا المصير، يتعين على الحكومات الأجنبية أن تعمل بسرعة على منع العقوبات من دفع سوريا نحو حالة طارئة أشد على المستويين الاقتصادي والإنساني.
والآن، ومباشرة، يتعين على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة وغيرها من الجهات الفاعلة إصدار إعفاءات أوسع على غرار الرخصة العامة التي أصدرتها وزارة الخزانة الأميركية لصالح أفغانستان عام 2022، وذلك للسماح لسوريا بممارسة النشاط الاقتصادي والتجاري، وذلك لأن هذه الأذونات قد تنقذ أرواح الناس على المدى القصير، مع الانحياز للمصالح الغربية الساعية لتعزيز الاستقرار في المنطقة ووقف تدفق المهاجرين، وهذه الخطوات يمكن أن تتخذ في غضون أيام عبر الإجراءات التي تقرها وزارة الخزانة الأميركية ومجلس الاتحاد الأوروبي ووزارة الخزانة البريطانية، كما قد تقوم على إعفاءات موجودة بالأصل مخصصة للمساعدات الإنسانية.
كما لابد من اتخاذ إجراءات أخرى فورية من دون فرض شروط وذلك لتخفيف الضغط على القطاعات الأساسية مثل قطاع الطاقة والمصارف في سوريا، إذ على الرغم من أن النمو الاقتصادي للبلد سيتأخر طالما بقيت سوريا خاضعة للعقوبات، لا يمكن البدء بعملية التعافي في ظل حجب للأنشطة الأساسية للقطاعات الرئيسية في البلد. وهذه الإصلاحات لن تضر بالنفوذ الذي تمنحه العقوبات للقوى الغربية، نظراً لوجود كم هائل من القيود المفروضة على سوريا في الوقت الراهن. ثم إن سن قوانين لتخفيف العقوبات سيحتاج إلى زمن طويل، كما يتطلب اتخاذ إجراءات تشريعية وتنظيمية وغيرها والتي لم تتخذها الأذرع المختلفة للحكومة الأميركية والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة وغيرها من الجهات الفاعلة، ولهذا يتعين على الحكومات الغربية أن تشرع بعملية رفع تلك القيود الآن.
خلال الأسابيع القادمة، يتعين على الحكومات الأجنبية أن تنسق لعرض مطالب واضحة وواقعية ومحددة بزمن معين أمام القادة الجدد لسوريا وذلك مقابل تخفيف كبير يطرأ على كل من العقوبات المفروضة على الإرهاب والتي تضر بهم بصورة مباشرة إلى جانب تخفيف القيود الاقتصادية التي فرضت على نظام الأسد البائد. ويمكن لتلك المفاوضات أن تتم عبر التحاور بين طرفين، إلى جانب المحاورات التي تتم خلال مؤتمرات تضم أطرافاً متعددة، وإذا حددت الحكومات الأجنبية معايير واقعية بوسع قادة سوريا الجدد تحقيقها وذلك للحصول على تخفيف للعقوبات، عندئذ يصبح بمقدروهم أن يحصلوا على تنازلات واقعية من هيئة تحرير الشام مثل الالتزام بتطبيق الحكم الرشيد والضمانات التي تؤكد عدم تشكيل الدولة السورية ولا الجماعات الأخرى الموجودة داخل البلد لأي خطر على الخارج، بيد أن التوصل إلى اتفاقات بخصوص ذلك يتطلب في أغلب الأحيان تقديم تنازلات صعبة، غير أن القيام بذلك قد يعرض الثوار السابقين والمسؤولين الدوليين للمحاسبة على الدور الذي لعبوه في هذه الصفقة. أما الحكومات التي يقلقها أمر التنازل عن نفوذها فيجب أن تتذكر بأن إخراج هيئة تحرير الشام من قائمة التنظيمات الإرهابية وتخفيف العقوبات عن سوريا الآن لن يمنع الهيئة عن القيام بإجراءات عقابية أخرى فيما بعد إن اقتضت الظروف.
للأسف يبدو أن العناصر الفاعلة الدولية تضيع فرصتها في تهيئة سوريا الجديدة للنجاح، إذ في 23 كانون الأول، وقع الرئيس الأميركي جو بايدن على تشريع لتمديد قانون قيصر الصادر في عام 2019 والذي فرض أشد العقوبات على سوريا لخمس سنين أخرى، على الرغم من أن معظم المعايير المتعلقة بتعليق تلك العقوبات تحققت منذ سقوط الأسد، وهذا ما دفع النواب للقول بأنه من السابق لأوانه رفع العقوبات، ولكن في أواسط شهر كانون الأول، قال النائب الجمهوري البارز من ولاية إيداهو السيناتور جيم ريش وهو عضو في لجنة العلاقات الخارجية التابعة لمجلس الشيوع الأميركي بإن الكونغرس سوف “يراقب ويرى” كيف ستحكم هيئة تحرير الشام.
غير أن الانتظار والمراقبة ينطويان على مخاطر جمة، وخاصة في الوقت الذي تتزايد فيه احتياجات السوريين، كما لن يفيد الانتظار والمراقبة شيئاً في منع البلد من الانهيار، وذلك لأن سوريا تقف اليوم على مفترق طرق، أحدها يقدم فرصة لإعادة البناء والتعامل مع العالم، والآخر يفضي نحو عزلة أعمق ومعاناة أكبر للشعب السوري، ولهذا يجب على العناصر الفاعلة الدولية أن تتعلم من أخطائها وفشلها في أفغانستان وأن تتحرك بحزم، كما عليها أن تقتنص الفرصة لتحث هيئة تحرير الشام على تقديم تنازلات تعمل على تهيئة سوريا ووضعها على الطريق المفضي إلى الانتعاش الاقتصادي والحكم المستدام مع اتخاذ خطوات حقيقية لمعالجة الأمور المقلقة للأمن الدولي، ويمكن للاستجابة العالمية المحكمة أن تقلص فرص سوريا في التحول إلى مأساة أخرى على الطريقة الأفغانية.
المصدر: The Foreign Affairs
تلفزيون سوريا
——————————-
سوريا وفرنسا: أي مستقبل بعد طيّ الماضي؟
تحديث 04 كانون الثاني 2025
كثّف الاتحاد الأوروبي حراكه الدبلوماسي في اتجاه سوريا، وكان لقاء الوزيرة الألمانية أنالينا بيربوك ونظيرها الفرنسي جان نويل بارو، بأحمد الشرع، قائد الإدارة السياسية الجديدة في البلاد، أمس الجمعة، واحدا من الخطوات اللافتة في هذا السياق.
تمثّل الزيارة، من جهة، تفهّما للتغيير السياسي الهائل الذي طرأ على سوريا، وإعلانا لتقبل وجود الحكم الجديد، ومحاولة، من جهة أخرى، للاشتباك الإيجابي مع هذا الحكم، كمقدمة للاعتراف السياسي به، ولحجز مكان في قائمة الدول المؤثرة على المجريات اللاحقة للمرحلة الانتقالية التي بدأت مع خلاص السوريين من نظام بشار الأسد الدكتاتوري في 8 ديسمبر/ كانون أول الماضي.
لفرنسا «علاقة خاصة» بسوريا، تتمثّل بحقبة الاستعمار التي دامت 26 عاما (تموز/يوليو 1920 حتى 17 نيسان/ابريل 1946) والتي تركت آثارها العميقة على بنى دولة الاستقلال، وبالخصوص في ما يسمى «الفيلق السوري» (وسمي لاحقا «القوات الخاصة في المشرق») والذي اتبعت فيه مبدأ «فرّق تسد» فتم استبعاد سكان سوريا المسلمين السنّة وتكون من الأقليات العلوية والمسيحية والدرزية والشركسية!
اتبعت فرنسا أيضا سياسة تقسيم بلاد الشام، ففككت أقضية بعلبك والبقاع وراشيا وحاصبيا عن دمشق وألحقتها بجبل لبنان، وأعلنت بعد ذلك بعشرة أيام «دولة لبنان الكبير» ثم رسّمت حدود «دولة دمشق» عبر فك الأردن وفلسطين عنها (الملحقين بالانتداب البريطاني حسب اتفاقية سايكس بيكو ومؤتمر سان ريمو) وأعلنت «دولة حلب» و«دولة جبل العلويين» (نوفمبر/تشرين ثاني 1920) ثم «دولة جبل الدروز» (آذار/مارس 1921) وفصل لواء إسكندرون عن حلب (ضمته تركيا عام 1939). وكان تأسيس ما يسمى «المكتب الثاني» (وكالة الاستخبارات العسكرية) إحدى البنى التي ورثتها دولة الاستقلال الحديثة من فرنسا.
كافح السوريون، في حينها، هذه التقسيمات، ونجحوا بعد إضراب عام 1936، ومفاوضات مع الحكومة الفرنسية فأعيد ضم دولتي العلويين والدروز للجمهورية السورية، وتنازل ممثلو الدولتين عن «الامتيازات الفدرالية» لتحقيق المساواة بين جميع السوريين، لكن ذلك الإرث ظل موجودا في البنى التحتية للسياسة والجيش، ويمكن اعتبار ما حصل الشهر الماضي، بداية لنهاية «جيش الشرق» ولإعادة بناء سوريا جديدة يؤمن أبناؤها فعلا بضرورة توحّدهم.
لا نعلم إذا كان وزير الخارجية الفرنسي قام بمراجعة لتاريخ بلاده مع سوريا قبل الزيارة الحالية لدمشق لكن تصريحاته تبدو أقرب للحاضر الذي يتشكّل حاليا في سوريا، والمستقبل الذي يأمل به السوريون، ومن ذلك إعلانه أن بعثة بلاده الدبلوماسية ستعود قريبا لمزاولة أعمالها، وعن تنظيم مؤتمر لمرافقة الفترة الانتقالية، والمبادرة بإرسال خبراء لتفكيك ونزع الأسلحة الكيميائية، وتأكيده على المشاركة «في نهضة السوريين بعد عقود وسنوات من ظلام نظام الأسد» وعلى أن «لا مصالحة في سوريا من دون تحقيق عدالة انتقالية» و«عقاب رموز النظام السابق». واحد من التصريحات اللافتة لبارو كانت دعوته الأكراد إلى تسليم السلاح والاندماج في الحياة السياسية وتوضيحه أن بلاده «لن تقبل بالإرهاب» وأن بلاده تعمل للتوصل لاتفاق بين تركيا والأكراد.
يقدّم التغيير السياسي الجاري في سوريا مناسبة مفيدة لإعادة قراءة التاريخ الحديث لبلاد الشام، التي ما تزال تكابد تداعيات الاستعمار ونتائج الحرب العالمية الثانية، ويمكن اعتبار سنوات الدكتاتورية المتوحشة منذ عام 1970، وضمنها 14 سنة من الثورة على آل الأسد، نضالا مستميتا للتخلّص من تلك «الدولة العسكرية ـ الأمنية» التي استندت إلى الإرث الاستعماريّ في التقسيم الطائفي والحكم العسكري ـ الأمنيّ، الذي افتقد، مع ذلك، أساسيات بناء الدولة الديمقراطية التي مكّنت الغرب من الخروج من إرث الجنرالات، ولكنه ما زال حاضرا في سياسات اليمين المتطرّف، الذي يهدد بالعودة لحكم أوروبا.
القدس العربي
————————————
حوض اليرموك والأطماع الإسرائيلية/ غازي دحمان
04 يناير 2025
تسلّلت قوات كوماندوس إسرائيلية، في جنح الليل، واعتقلت الفلسطيني خليل العارف من قرية عابدين في حوض اليرموك. وقبل أيام، كانت قوّة إسرائيلية قد وصلت إلى مشارف القرية، وطلبت حضور المختار والشيخ للتفاوض معهما على تسليم السلاح الذي حصل عليه أهل القرية من معسكرات جيش النظام السوري المحيطة بقريتهم، لكنّ الأهالي، نساءً ورجالاً وأطفالاً، تصدّوا لهم بالحجارة وطردوهم من القرية، وفي بلدة معرية (المجاورة) أطلقت قوّة عسكرية إسرائيلية، تتمركز غرب القرية، النار على المتظاهرين وأصابت أحد الأطفال.
تقع منطقة حوض اليرموك في نطاق منطقة تشكّل شريطاً حدودياً مع الجولان، تمتدّ مسافة 80 كيلومتراً، وتدخل في إطارها أجزاء من ريفي درعا الغربي والشمالي، وأجزاء من أرياف القنيطرة، وهي منطقة غنية بالمياه والينابيع والسدود التي تغذّي في أغلبها نهر اليرموك، وكان ينتشر فيها العديد من معسكرات الجيش السوري نظراً إلى ملاصقتها هضبة الجولان.
تمتاز هذه المنطقة، وفي القلب منها حوض اليرموك، الذي يشكّل رأس زاوية بين وادي الرقاد ونهر اليرموك، وبين الجولان والأردن، بتركيبة سكّانية نادرة، ويبدو أنها تشكّلت في بدايات القرن الماضي، وربّما قبل ذلك أيضاً، حيث تسكن في المنطقة عائلات فلسطينية قدمت بعد النكبة عام 1948، وعائلات فلسطينية جاءت قبل النكبة، وحصلت على الجنسية السورية، ولا تزال تحتفظ بأسماء مناطقها مثل عوائل الجاعوني، الصفدي، الترعاني، النابلسي. وهناك عوائل أردنية قدمت في مرحلة مبكّرة من القرن الماضي: العبيدات من حرتا، والطوالبة من سحم الكفارات، وعائلات جزائرية يسميها أهل المنطقة “المغاربة”، الذين تعود أصولهم إلى مدينة سيدي عيسى في ولاية المسيلة، وقد جاؤوا مع عبد القادر الجزائري، بالإضافة إلى الهلالات (الهلاليين القادمين من تونس)، وثمّة عائلات مصرية كثيرة قدمت إلى المنطقة زمن حملة إبراهيم باشا، بالإضافة إلى أعداد كبيرة من نازحي الجولان في قريتي صيدا والرفيد.
واجه نظام الأسد مقاومةً شرسةً من أبناء منطقة حوض اليرموك، وكانت أولى المناطق التي حُرّرت في حوران في وقت مبكّر من عام 2013، وطُرِدت جميع قوات النظام السابق وأجهزته، التي كانت تنتشر بكثافة في منطقة حوض اليرموك، ما سمح لأعداد كبيرة من أبناء حوران بالعبور منها إلى الأردن طلباً للجوء عبر اجتياز نهر اليرموك الفاصل بين الجهتَين. ولم يستطع نظام الأسد العودة إليها إلا بعد تدخّل روسيا، على أن تبقى الكتلة الثورية في المنطقة، وجرى في الأثناء تشكيل اللجنة المركزية لريف درعا الغربي التي قامت بدور ضابط الصراعات في المنطقة، والتفاوض مع أجهزة النظام، وهي ذاتها الجهة التي أشرفت على انسحاب قوات النظام من المنطقة في 6 ديسمبر/ كانون الأول 2023، واستلام الأسلحة الثقيلة التي كانت في المعسكرات المنتشرة في المنطقة. وهذا السلاح، هو الذريعة التي تدفع إسرائيل إلى التحرّش بمنطقة حوض اليرموك، وإلى تهديد السكّان بتدمير قراهم وتهجيرهم، لكنّ سكّان المنطقة اتخذوا قرار البقاء وعدم مغادرة قراهم، ولتفعل إسرائيل ما تريد. وعلاوة على ذلك، استمرّ أهالي المنطقة بممارسة نشاطاتهم في الزراعة والرعي في الوديان الملاصقة للجولان.
يدرك أهالي المنطقة أن منطقتهم الخصبة والغنية بالمياه كانت (ولا تزال)، مطمعاً لإسرائيل، ومن ثمّ فإن خروجهم منها سيكون خبراً سارّاً لإسرائيل، التي تسعى إلى إعادة تشكيل البيئة الاستراتيجية في المناطق المحيطة بها، وتقليل المخاطر المحتملة ضدّها، ولا سيّما بعد قرار زيادة الاستيطان في الجولان، كما أن منطقتهم تشكّل جزءاً من الفضاء الجيوسياسي، الذي تسعى إسرائيل إلى إقامته في إطار مشروع إعادة تشكيل الشرق الأوسط، التي تنطوي على إحداث تغيير ديمغرافي في المناطق القريبة من الأراضي المحتلّة.
لا ينتظر أهل المنطقة دعوات ملالي إيران إلى إطلاق مشروع مقاومة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي. بالأصل لم تكن هذه المنطقة صديقة لإيران، ولم تستطع اختراقها رغم محاولات عديدة قامت بها وبمساعدة أجهزة النظام، وظلّت منطقة حوض اليرموك عصيّةً على مليشيات إيران طوال سنوات سيطرة نظام الأسد على المنطقة. بوادر المقاومة التي بدأ يبديها أهالي المنطقة تنطلق من أسباب موضوعية، واستجابة لتحدٍّ يفرضه الاحتلال الإسرائيلي، وإدراك سكّان المنطقة أنهم في عين الاستهداف الإسرائيلي، نظراً للمزايا الاستراتيجية لمنطقتهم في المنظور الإسرائيلي، وحسابات إسرائيل الجيوسياسية في عهد الحكومة المتطرّفة، التي باتت تقيّم سياساتها بقوّة طائراتها وقدرتها على تدمير المناطق المحيطة بالأراضي المحتلّة، مثلما فعلت في غزّة وجنوب لبنان.
أبلغت القوات الإسرائيلية سكّان المنطقة أن أيّ محاولة لاستهداف العناصر الإسرائيليين، سينتج عنها تدمير للمنطقة، وإنزال العقاب الجماعي بأهلها، من دون تمييز بين متّهم وبريء، في محاولة استباقية لإخضاع السكّان وردعهم عن أيّ محاولة للمقاومة، كما انسحبت قوّاتها من العديد من القرى في حوض اليرموك، وتمركزت في موقع الجزيرة غرب قرية معرية، مع التهديد بالعودة لاحتلال أيّ قرية تشكّ بوجود أسلحة فيها أو تحرّكات مشبوهة. ورغم أن سكّان المنطقة يواجهون وحيدين قوّة الاحتلال الإسرائيلي، من دون أي سند، وإدراكهم حجم القوّة التدميرية الإسرائيلية بعد ما شاهدوه في جنوب لبنان وغزة، إلا أن ذلك لم يمنعهم من الاعتراض والتظاهر، وحتى مهاجمة القوات الإسرائيلية بالحجارة والعصي، كما أن هناك اتفاقا بين سكّان المنطقة على تطوير مقاومتهم في حال استمرار إسرائيل في سياساتها أو بروز مؤشّرات إلى نيات إسرائيل بالبقاء في المنطقة تمهيداً لضمّها إلى الجولان المحتلّ.
العربي الجديد
——————–
ما قبل سجن صيدنايا/ بشير البكر
04 يناير 2025
هناك جو احتفالي سريع في سورية بنهاية نظام الأسد، وهذا مشروع بالقياس إلى ما عاناه الشعب من حرب إبادة وتهجير في العقد الأخير على يد النظام الساقط وحلفائه من الروس والإيرانيين والمليشيات الطائفية العابرة للحدود. وفي غمار ذلك، يمكن ملاحظة إشارات ذات أهمية عالية، لكنّها غير مطمئنة، لأنها تعكس روحية القفز عن محطّات أساسية من نضال السوريين من أجل الحرّية. وعلى سبيل المثال، يتركّز النقاش بصدد تاريخ السجون التي بناها النظام في سورية في سجن صيدنايا، وكأنّه الوحيد الذي حوّله النظام مسلخاً بشرياً، من دون التطرّق إلى بقية السجون، وخاصّة ما هو أكثر رعباً منه، وهو سجن تدمر الصحراوي، الذي وصفه تقرير منظمة العفو الدولية بأنه “مصمّم لإنزال أكبر قدر من المعاناة والإذلال والخوف بالنزلاء”، كونه يشكّل مختبرَ (وجوهرَ) فلسفة التوحّش، التي أرساها وطبّقها الأسد (الأب)، ومن ذلك إعدام رفعت الأسد أكثر من 900 سجين دفعة واحدة في 27 يونيو/ حزيران 1980. ورغم أن تنظيم داعش دمّر السجن وأخفى معالمه في 2015، فإن شهوداً عديدين على ذلك المسلخ الرهيب لا يزالون أحياء، ومنهم من عاش تجربتَي تدمر وصيدنايا، وسجّل شهادته في كتاب.
ليس سجن صيدنايا المحطة الأولى في تاريخ القمع في سورية، مثلما أن الثورة ضدّ حكم عائلة الأسد لم تبدأ عام 2011، وتاريخ المعارضة والنضال ضدّ الاستبداد لا يمكن تلخيصه بعقد، وأكثر ما هو لافت اليوم هو أن لا أحد يأتي على الصفحات الكثيرة من نضالات السوريين التي سبقت ثورة الحرّية والكرامة. هناك سجون كثيرة وضحايا بالآلاف من النساء والرجال على مستوى سورية كلّها. لا يمكن القفز عن أهوال السجون كافّة، ولا طمس تضحيات جيل كامل من الشباب السوريين، الذين دخلوا السجون في السبعينيّات والثمانينيّات والتسعينيّات، وهم يرفعون شعار إسقاط النظام، وهنا تحضر رابطة العمل الشيوعي، والحزب الشيوعي – المكتب السياسي، وحزب البعث الديمقراطي، وحزب العمّال الثوري، وجماعة الإخوان المسلمين. لا يمكن نسيان نضال كوكبة طويلة من “الرموز” الكبار الذين ضحّوا من أجل بناء سورية ديمقراطية، مثل صلاح الدين البيطار وجمال الأتاسي ويوسف زعيّن ونور الدين الأتاسي وعصام العطار ورياض الترك وحمود الشوفي وضرار فراس وعمر قشّاش، وعدنان سعد الدين وحسن العلي الأحمد وناصر سابا. هناك أجيال من المثقّفين والكُتّاب والفنّانين والحقوقيين، الذين واجهوا الاستبداد، وبعضهم دخل السجون، وبعضهم الآخر عاش في المنفى عدّة عقود، ولم يساوم على موقفه واستمرّ في فضح النظام. هؤلاء كلّهم شركاء في الانتصار الذي حقّقه الشعب السوري في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024، ولا يمكن لأيّ رواية عن ملحمة الشعب السوري أن تُعدّ أمينةً وصادقةً وموضوعيةً، من دون أن تضع هؤلاء في الصدارة.
حتى لا يعتمد السوريون تاريخاً مُجتزَأً ومبتوراً من سياقه يجب التروي قليلاً، والنظر إلى ما عانته سورية من حكم عائلة الأسد وحزب البعث، الذي أرسى قانون الطوارئ في عام 1963، بوصفه مساراً واحداً لا يقبل التجزئة، مع الأخذ بالاعتبار أن الموجة الأكبر هي التي بدأت مع الربيع العربي في مارس/ آذار 2011، ولها الفضل في إسقاط حاجز الخوف، وهزّ جدران مملكة الصمت، ولكن لا يصحّ أن تمحو ما قبلها من نضالات كبيرة، مهّدت لها الطريق وراكمت خبرات كبيرة، شاركت في الدفع بها إلى مستويات متقدّمة جدّاً. ومن هنا يتطلّب الأمر اعتماد مقاربات غير متسرّعة، ومعايير ذات طابع يحترم إسهام الأجيال السابقة، ويضع المسائل كلّها في نصابها الصحيح، على نحو لا يُقصي الذاكرة.
القدس العربي
————————-
دروس وتساؤلات في مستقبل سورية والمنطقة/ أحمد ماهر
04 يناير 2025
يعيدنا سقوط الأنظمة التي بدت عقوداً طويلة غير قابلة للهزيمة دائماً إلى التساؤل: ما الذي يجعل بعض الأنظمة تنهار فجأة؟ وما الذي يمكننا أن نتعلّمه من تلك اللحظات الحاسمة في التاريخ؟ فقد تبخّر نظام الأسد الذي حكم سورية بالحديد والنار، على الرغم من أن هذا الانهيار كان مفاجئاً، تماماً كما حدث مع الاتحاد السوفييتي قبل أكثر من ثلاثة عقود.
الدرس الأول والأكثر أهميةً أن دولة المؤسّسات دائماً أقوى من دولة الفرد، فالأنظمة التي تعتمد على شخص واحد أو أقلية تتحكّم بمفاصل الدولة تكون أشبه ببيت من ورق، ينهار بمُجرَّد أن يواجه رياح التغيير، وتركيز السلطة في يد مجموعة صغيرة لا يؤدّي إلى ضعف الدولة فقط، بل يجعلها عُرضةً للانهيار التام عندما يفقد هذا الفرد أو تلك المجموعة قدرتهم على السيطرة. سورية الأسد أو رومانيا تشاوتشيسكو أو إسبانيا فرانكو، تقدّم مثالاً حياً على أن الأنظمة المستبدة مهما بدت قويةً، تبقى هشّةً من الداخل.
تفقد الأنظمة التي تعتمد على القمع وبثّ الخوف شرعيتها تدريجياً أمام شعوبها. كان نظام الأسد رمزاً لهذا النوع من الحكم، رغم نجاحه في قمع الثورة سنواتٍ، فالظلم مهما طال أمده لا يدوم، والنهاية انهيار شامل يعيد تشكيل الواقع السياسي، ليس في سورية فقط، بل في المنطقة بأكملها. ومنذ هروب الأسد وانتصار أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) يشتعل الفضاء الإلكتروني العربي بالمناظرات والملاسنات، ما بين احتفالات لدى بعضهم، تقابلها بكائياتٌ لدى بعضهم الآخر، فيما ينظر فريق كبير للوضع في سورية بنظرة فرح يشوبه القلق، الفرح بإزاحة بشار الأشد وتحرير الأسرى بشكل عام، وبعضهم قلق من انتصار الإسلاميين وإمكانية إقامة نظام حكم إسلامي في سورية، أو من حرب أهلية محتملة، تخوضها الفصائل كما حدث في أفغانستان. بعضهم فرح بسقوط بشّار، لكنْ لديه قلق مفهوم من المستقبل الغامض.
وأيضاً، هناك أطراف إقليمية انتابها الحزن والهلع من سقوط نظام بشّار الأسد، فهذا السقوط المفاجئ يهدم السردية التي تعتمد عليها بعض الأنظمة لتبرير قمعها، وإذا نجح السوريون في بناء دولة ديمقراطية تستوعب جميع الأطراف، فإن ذلك يمثّل تحدّياً كبيراً لأنظمة أخرى، تعتمد على الفشل المتكرّر للإسلاميين ذريعةً للبقاء في السلطة، أمّا نجاح الحكّام الجدد في سورية (إن حدث) فسيضع الجميع في اختبار حقيقي: هل يمكن للتغيير أن يحدث من دون قمع ومن دون فرض رؤية طرف على الآخر؟
أنصار السلطوية في مصر منزعجون من سقوط نظام الأسد، ليس قلقاً على سورية، بقدر ما هو قلق على مستقبل الأنظمة السلطوية، سواء في مصر أو في المنطقة، فسقوط الأسد يرسل إشارات مقلقة إلى أيّ نظام سلطوي يعتمد على القمع أساساً للبقاء، ونجاح الأسد في قمع الثورة كان بمثابة نموذج تحتذي به بعض أنظمة عربية، ولكن سقوطه الآن يهدم هذه الفكرة. كيف يمكن إقناع الدوائر الحاكمة بأن القمع ليس ضمانةً للبقاء في السلطة؟
الأخطر في الأمر انتصار فكرة العنف والسلاح وسيلةً للتغيير، وكاتب هذه السطور من أنصار اللاعنف والسلميّة والحوار بشكل عام، فانتصار فكرة العنف قد تترتب عليه مسائل عديدة. وبشكل عام يمكن القول إن الصراع الدائر في العالم العربي تاريخي مستمرّ منذ عدّة عقود بين القوى القومية/ السلطوية وتيّارات الإسلام السياسي، يستمدّ كل من الطرفَين قوته من وجود الآخر عدواً. يبرّر القوميون العرب (السلطويون) قمعهم بخطر الإسلاميين، ويبرّر الإسلاميون استبدادهم المضادّ بما فعله السلطويون (القوميون) عندما تمسّكوا بالسلطة. في النهاية، لا تقدّم هذه الثنائية المدمّرة أيّ حلول حقيقية، بل تعيد إنتاج الصراعات نفسها التي عاشتها المنطقة منذ خمسينيّات القرن الماضي.
وبشّار الأسد كان المثال الوحيد الناجح للتوريث الجمهوري في المنطقة. ومع انهياره، تنهار آمال الأنظمة الأخرى في تكرار هذا السيناريو، بالإضافة إلى ذلك، يُثبت سقوط النظام السوري أن الدولة لا تُهدَم بسبب سماعها شعبها، بل عندما تتجاهل أصواتهم وتصرّ على قمعهم. والمخاوف بشأن المستقبل مشروعة، فتفكّك الدولة السورية أو وقوعها تحت سيطرة جماعات متطرّفة سيناريو كارثي للجميع، ليس لسورية فقط، بل للمنطقة بأكملها. يشيطن الإعلام المصري (الموالي أغلبه للسلطة) الثورة السورية ويشكّك في دوافعها، يفشل في إدراك أن الحلّ لا يكمن في إقصاء طرف لصالح آخر، بل في مساندة السوريين (أيّاً كانت حكومتهم) لضمان استقرارها في المستقبل.
لا تتوقّف التساؤلات عن مستقبل سورية عند هذا الحدّ، فكيف ستتعامل القوى المنتصرة مع رجال النظام القديم؟ هل سيكون هناك انتقام عنيف قد يؤدّي إلى فوضى جديدة؟ أم ستُعتمَد العدالة الانتقالية وسيلةً للتصالح وإعادة البناء؟ وهل سيرضى أهالي الضحايا ومن نُكِّل بهم بالعدالة الانتقالية ومبدأ الاعتراف والاعتذار مقابل الصفح؟ وكيف ستُدار العلاقة بين الفصائل المختلفة التي كانت متّحدةً ضدّ النظام، وكيف لا يتكرّر ما حدث في أفغانستان بعد خروج السوفييت؟
يتعلّق السؤال الأكبر بدور قوى إقليمية، رغم عدائها إيران ونظام الأسد، قد تجد صعوبةً في قبول انتصار الإسلاميين، وإن تقبّلت الوضع الجديد إعلاءً للمصلحة فكيف سيكون الموقف المصري الرسمي؟ يزيد هذا التعقيد من الضغوط على الدول العربية لإيجاد صيغة تضمن استقرار سورية من دون أن تتحوّل ساحةً لتصفية الحسابات الإقليمية.
القلق من الوضع في سورية مشروع، ولكن استخدامه فزّاعةً للحفاظ على مكاسب شخصية أو لتبرير قمع الشعوب ليس الحلّ. درس سورية واضح: يكمن الحلّ في التعايش، في العدالة، وفي بناء دول تقوم على المؤسّسات لا الأشخاص، وما يحدث في سورية اليوم اختبار حقيقي للمنطقة بأكملها، أنظمة حاكمة وجماعات معارضة، ولذلك يبقى السؤال المطروح: هل نملك الشجاعة للتعلّم من أخطاء الماضي والوصول إلى صيغة للتعايش بين الجميع، أم أننا سنظل عالقين في صراعات الماضي ودوّامة الفشل؟
القدس العربي
————————–
لا وألف لا لنظام المحاصصة في سوريا الجديدة/ د. فيصل القاسم
تحديث 04 كانون الثاني 2025
لا نكشف شيئاً جديداً أبداً عندما نقول إن نظام المحاصصة الطائفية يعتبر أسوأ نظام سياسي عرفه التاريخ الحديث في المنطقة لأن النماذج التي أفرزها باتت رمزاً للدول الفاشلة في العالم، وكلنا رأى أين وصل العراق ولبنان والسودان وحتى سوريا بعد اعتماد نظام المحاصصة بحجة إرضاء كل مكونات المجتمع، فقد تحول النظام اللبناني إلى نكتة سمجة، فلا يستطيع أن ينتخب رئيساً جديداً مثلاً إلا بعد سنوات على انتهاء فترة الرئيس الحالي، وكلنا رأى مسلسل انتخاب الرئيس في لبنان منذ عقود، بحيث تحول إلى مهزلة المهازل وبات مثاراً للسخرية والتهكم والكوميديا، لإن إرضاء زعماء الطوائف في لبنان أشبه بالمستحيل، ولا يمكن أن يتوافقوا على شيء إلا بشق الأنفس، لأن العملية السياسية في لبنان باتت أشبه ببازار سخيف يخضع لكل أنواع المساومات والصفقات والسخافات والحروب الباردة.
وليت الأمر اقتصر على انتخاب الرئيس، فنظام المحاصصة الطائفي نفسه يحول البلد ليس إلى شركة مساهمة، بل إلى شركة مساومة، وهل بربكم شاهدتم شركة ناجحة يستخدم المساهمون فيها لعبة المساومة ويضعون العصي في عجلاتها ويعرقلون انتاجيتها؟
بالطبع لا، لكن هذا ما يحدث بالضبط في لبنان، فهذا النظام لا ينتج سوى الفساد والإفساد والترهل والمناكفات والانقسامات والتعصب والتمييز بين المكونات الاجتماعية بدلاً من تعزيز الوحدة الوطنية والتماسك الاجتماعي والسياسي. وما زال المجتمع اللبناني يعاني حتى الآن من هذا النظام خاصة بعد الاعتراف به وشرعنته بالدستور والقوانين ومن ثم تقاسم المناصب الكبيرة ومراكز النفوذ ومقاعد البرلمان على أساسه. والملاحظ هنا كما يرى الدكتور رحيل الغرايبة، أن كل فئة تريد زيادة قوتها والحفاظ على مكاسبها وزيادة نفوذها مما أدى إلى تشكيل الميليشيات والأحزاب الطائفية والسلاح الطائفي، وجعل اللجوء الى العنف والدماء والفوضى والحروب الأهلية خياراً حتمياً لهذا المنهج الذي يعترف بالمرض ويتكيف معه ولا يعالجه.
أما النموذج العراقي فلا يقل سوءاً وقد صار مضرباً للمثل في الفشل والفساد والتفرقة والسمسرة والتعصب والانقسام وعدم الكفاءة في الإدارة، إذ يعوق توزيع المناصب على أساس المحاصصة الطائفية عملية اختيار الكفاءات المناسبة لشغل المناصب الحكومية بسبب تفضيل الولاء الطائفي على الكفاءة المهنية، مما يؤدي إلى تعيين أشخاص غير مؤهلين في مناصب حيوية، وبالتالي تتأثر كفاءة وفعالية الإدارة الحكومية. وحدث ولا حرج عن تعطيل العملية الديمقراطية كما يوضح نموذج انتخاب رئيس مجلس النواب العراقي مما أدى عدم توافق ممثلي المكون السني على مرشح واحد لرئاسة مجلس النواب ذات مرة إلى تأخير انتخاب رئيس المجلس وتعطيل العملية الديمقراطية.
ويؤكد الكاتب العراقي محمد عبد الجبار الشبوط بأن مثل هذه العقبات تعوق عملية صنع القرار وتؤخر تنفيذ السياسات الضرورية للتنمية والاستقرار. أضف إلى ذلك أن نظام المحاصصة يزيد من فرص الفساد والمحسوبية، حيث يتم توزيع المناصب والموارد بناءً على الولاءات الطائفية والشخصية بدلاً من الاحتياجات العامة أو الكفاءة. وهذا يعزز من شبكات الفساد ويعوق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، مما يؤدي بدوره إلى إضعاف المؤسسات العامة، فالمحاصصة تسهم في إضعاف المؤسسات، حيث يتعزز دور الزعماء الطائفيين والعرقيين على حساب الدولة التي تتحول إلى مجموعة من المناطق الطائفية التي يديرها زعماء طائفيون، مما يضعف من قدرتها على تقديم الخدمات العامة بشكل فعال ويفسد العملية السياسية بأكملها ويعقدها ويزيد في صعوبة تحقيق التوافق بين الأطراف المختلفة. وكثيراً ما تؤدي التنازعات والمنافسات الطائفية إلى جمود سياسي وتأخير في تنفيذ القوانين والإصلاحات الضرورية. وهذا بدوره يولد تراجع الثقة بين المواطنين والدولة إذا يشعر المواطنون بالتمييز وعدم العدالة نتيجة لنظام المحاصصة، مما يقود إلى تراجع الثقة في الدولة ومؤسساتها، كما يشعر الأفراد بالانتماء لطوائفهم بشكل أكبر من انتمائهم للدولة، مما يعوق بناء دولة قوية ومتماسكة.
ورغم أن نظام المحاصصة الطائفية في العراق جاء بهدف تحقيق التوازن وتمثيل جميع المكونات، إلا أنه زاد الفساد والمحسوبية وأضعف المؤسسات العامة، وأدى إلى تزايد الانقسامات الداخلية بين الشيعة والسنة والعرب والأكراد وأنتج فرزاً مذهبياً شديد الحساسية في الانتخابات التشريعية وكذلك فرزاً عرقياً شوفينياً شديداً مازال يهدد بتقسيم العراق وإضعاف الدولة ومستقبلها السياسي، ويضعف أثرها في الإقليم، فضلاً عن تعثر عملية الإصلاح الاقتصادي والاقتتال الداخلي الذي يتغذى على التعصب والثارات الدموية التي لا تنتهي.
والمثال العربي الثالث لنظام المحاصصة الكارثي هو السودان، فقد أدى ذلك النظام إلى تقسيم الدولة الواحدة إلى دولتين وشعبين، وهذا التقسيم كان يحمل في طياته دائماً بذور المواجهة والحروب التي أنهكتهم جميعاً وأدت في النهاية إلى خراب السودان الحاصل حالياً.
ولا يمكن طبعاً تجاهل نظام المحاصصة المقنع الذي استخدمه حافظ الأسد ومن بعده ابنه في سوريا بالرغم من أنه كانا أكثر تحكماً به، مع ذلك فقد كان نموذجاً للفشل والنصب والاحتيال والتلاعب بالنسيج الطائفي، إذا كان حافظ وبشار يعمدان إلى تعويم الحثالات من كل الطوائف بدل اختيار الأفضل لإدارة الوزارات والمؤسسات على أساس الكفاءة. ولو نظرتم مثلاً إلى الذين كان يختارهم النظام الساقط من الدروز مثلاً لوجدنا أنه كان يختار الأفسد بحيث يخدم العصابة الحاكمة أكثر مما يحكم حتى طائفته، وآخر تلك النماذج منصور عزام وزير شؤون رئاسة الجمهورية الذي لم تستفد منه طائفته بشيء، لأنه كان شريكاً لبشار في تجارة المخدرات وغسيل وتهريب الأموال.
وفي مقابل تلك النماذج العربية الفاشلة، «فإن مجتمع الولايات المتحدة أكثر تنوعاً وتعددية من حيث الأديان والمذاهب، ومن حيث الأصول والأعراق. وقد أدرك النظام الأمريكي مبكراً خطورة الانزلاق نحو منهج المحاصصة، وتوجه نحو خلق المجتمع الأمريكي الواحد والأمة الأمريكية الواحدة، وتمت معالجة مظاهر التعصب بشكل متدرج، واستطاع أن يصنع قوة مجتمعية موحدة وصلت الى مرتبة القوة الأولى على مستوى العالم سياسياً واقتصادياً، وعسكرياً، وعلمياً».
وأخيراً أهلنا في سوريا، لا بد أن تعلموا أن أكبر المستفيدين من نظام المحاصصة هم زعماء العصابات المذهبية والطائفية والعرقية والمناطقية، وكلهم كانوا أكبر الأعوان للنظام الساقط على مدى أكثر من نصف قرن، وبالتالي فإن العودة إلى ذلك النظام هو بمثابة إحيائه من جديد، ولو تمكن هؤلاء من تعزيز أوضاعهم هذه المرة لكانت النتيجة الحتمية تقسيم سوريا في وقت يتجه فيه العالم أجمع إلى التكتلات الكبرى والعملاقة. هل تريدون بعد كل ذلك إذاً تكرار النماذج اللبنانية والعراقية والسودانية والأسدية، أم النموذج الحضاري القائم على مبدأ المواطنة الحقيقية؟
كاتب واعلامي سوري
الققدس العربي
————————
ملاحظات
Ahmad Nazir Atassi
البارحة كتبت بوست عن التعليم اسخر فيه من تضارب الاراء، لان النفاق اصبح فعلا مزعجا ومضللا.
عادتي ان اكتب تحليلا بغض النظر عن تطبيقه على ارض الواقع وبغض النظر عن الحاملين لهذا التحليل. واهتمامي هو كيفية وعي الناس للسياسة. وسأتابع هذا العمل لان اهتمامي نظري بالاصل.
لكن اريد ان افش خلقي ببضع كلمات عن التطبيق وما يجري على ارض الواقع:
اولا – السوريون بشكل عام عندهم ضعف في الثقافة السياسية (من دون معلمية على حدا)، وصراحة لا يعرفون الفرق بين الديكتاتورية والديمقراطية لانهم يركزون على شخص المسؤول وليس على المؤسسة. هذا الضعف يؤدي الى مواقف متناقضة من جميع الاطراف. وهذا ما اتحدث عنه.
ثانيا – التقسيمات الطائفية لا تزال هي التقسيمات الاكثر تعبيرا عن المواقف والاراء. وحتى ضمن صفوف من يعتقدون او يدعون انهم مثقفون او علمانيون او يسار، الطائفية هي الثقافة اليومية والطبيعية التي تحكم ردود الافعال.
ثالثا- بالنسبة للسنة (طبعا نعود الى هذه التقسيمات)، الغالبية العظمى تعتقد ان الجولاني والهيئة تمثلهم خير تمثيل. طبعا لا فرق عندهم بين الدولة والجولاني وهذا يحيلنا الى النقطة الاولى. بعد ستين عاما من السياسات الطائفية، لا نتوقع من الناس غير ردود طائفية. الجولاني في اعين الناس هو باختصار محرر السنة ومنقذهم، تماما كما كان الاسد في اعين الناس محرر الاقليات ومنقذهم.
رابعا- الاقليات التي تتكلم من خلال خطابات علمانية او مدنية او يسارية لا تستطيع ان تخفي اساسها الطائفي. ان مشكلتهم مع الجولاني باختصار هو انه سني. ولو جاءهم ديكتاتور اخر اقلوي لما فكروا حتى في مراقبته. نادرون من ينتقدون الجولاني من وجهة نظر مؤسساتية، الكل ينتقده لانه سني سلفي، ولو كان سني مغسول الف زوم لانتقدوه كذلك. اليوم خرج مطران الروم الارثوذكس وقال بان الجولاني يتحدث عن مؤتمر وطني ولم نتلق اية دعوة. مثله مثل اي شيخ سني، انه يتوقع ان يتلقى دعوة لانه يعتقد انه يمثل رعيته في المحافل السياسية. لا احد انتقده، لان الجميع يؤمنون كذلك بأنه يمثل رعيته دينيا وسياسيا. وانا متأكد ان هذا المطران يمضي معظم وقته على التليفون مع السفارات الغربية ينقل لهم انتهاكات القيادة الجديدة ويطلب العون. وعندما يجتمع مع الشرع يطلب الاستمرار بتطبيق قانون الاحوال الشخصية الطائفي.
الجميع انتقد التعديلات على منهاج الديانة الاسلامية والتاريخ، لكن احدا لم يطلب الغاء مادة الديانة او ازالة الايديولوجيا القومية من كتب التاريخ. الجميع يعتقد ان تدريس مادة الديانة اساسي ولا يمكن التخلي عنه. والجميع يعتقد ان زنوبيا كانت مؤسسة الامة السورية رغم ان الفلاسفة في بلاطها كانوا ربما يتكلمون اليونانية. ولم يلاحظ احد ان معظم التعديلات مست الاسد. بغض النظر عن رأيي الشخصي في هذه التعديلات، لكن هناك كثير من النفاق في ردود الافعال عليها. كلها ردود افعال طائفية وليست وطنية او نسوية او علمية.
الجميع يشيد بثورة الكرامة في السويداء (ساحة الكرامة، ثورة الكرامة، رجال الكرامة، كله كرامة)، لكن لا احد تحدث عن منع الهجري لاي تواجد لقوات الجولاني في السويداء حتى اعلان الدستور والانتخابات. واليوم تشاجر فصيلان من فصائل الكرامة على ملكية سيارة وراح فيها قتلى. الجولاني طائفي، لكن الهجري طائفي ايضا. كلاهما مشايخ يتكلمان نفس اللغة. اذا كان هذا يناسبكم، فاعملوا فصائل طائفية في كل منطقة لحمايتها (المظاهرات المسيحية طلبت ان يكونوا جنود المسيح)، شيء طبيعي. انعدام الثقة سببه طائفي وليس وعي مؤسساتي بأن الجولاني لا يمثل احدا ويسيطر على المؤسسات.
ماذا تتوقعون من الجولاني. تدافعون عنه لانه حرركم حسب زعمكم، لكن تنسون انه سلفي جهادي. هكذا يفكر السلفيون الجهاديون. وبما ان الاغلبية من السنة تقبل بهم فلا معنى من الاعتراضات الطائفية، اعملوا شوية اعتراضات مؤسساتية ليس فيها نفاق طائفي حتى يكون عندكم مصداقية. الديكتاتورية لا مفر منها في سوريا و كذلك الطائفية، اننا فقط ننتقي الطعمة، ديكتاتورية اغلبية سنية ام ديكتاتورية اقلية دينية.
في الحقيقة المتدينون السنة هم الاوضح في هذه المعمعة، انهم يريدون دولة تشبههم. اما الاقليات فيتغطون بغطاء العلمانية واليسارية والحقوق المدنية. لم يطلب احد ان يكون قانون الاحوال الشخصية تابعا للدولة، الجميع يريد قانونا خاصا بالطائفة. في النهاية، وكما توقعت اوائل الشهر الماضي، سوريا ستكون فيدرالية محاصصة طائفية. الجميع يدفعون في هذا الاتجاه بوعي منهم او دون وعي. وهذا الفيدرالية هي فعلا التعبير الحقيقي عن الوعي السياسي المنتشر في سوريا.
الفيس بوك
————————–
الإعلامي المهيب الركن… والجولاني المقتول سابقاً!/ تحديث 04 كانون الثاني 2025
لماذا كل هذا الغضب على أحمد الشرع، من جانب قناة «سكاي نيوز عربية»، وهو حسب سجلات القناة لقي حتفه في عملية عسكرية في مارس/آذار الماضي؟!
فمدير القناة المذكورة أعلن أنه لن يسمح بعودة محمد مرسي في سوريا، وقد زالت الخطوط التي تفصل بين مسؤول في قناة فضائية وبين الرئيس الهارب بشار الأسد، فلا نعرف باسم من يتحدث الرجل، ويتمدد، والأصل أن ينكمش بالبرودة، فيعلن سماحه أو عدم سماحه، بأمر خارج عن اختصاصه الوظيفي، وكأنه ترامب، أو أنتوني بلينكن على أقل تقدير!
بحثت عن اسم القائل، فاكتشفت أنه ليس رئيس قسم شرطة حلب، والضباط في عالمنا العربي يتملكهم الإحساس أحياناً بأنهم نابليون بونابرت، وإذا سنحت الفرصة أمامهم فإنهم يدلون بتصريحات، تتجاوز حدودهم الجغرافية، ونظراً لتورم الذات، فقد يشعر أحدهم أنه السيد رئيس الجمهورية، وكذلك فعل مدير قناة «سكاي نيوز عربية»!
تمدد الفتى في البرد القارس، فأدهش البشرية بتصريحه الجبار هذا، فهم لن يسمحوا بعودة محمد مرسي إلى سوريا، وعندما بحثت عن فخامته (بصوت ضيف الجزيرة السابق محمود عطية)، علمت أنه صحافي لبناني، وليس سورياً، وبالتالي يمكنه من خلال جنسيته أن يوجه مثل هذه التحذيرات لرئيس حكومة بلاده نجيب ميقاتي، فهل يستطيع؟!
ثم انهالت علي المعلومات من جانب «غوغل»، فزعيم «سكاي نيوز»، عمل في تلفزيون «المستقبل»، وهو محطة محلية فمن الطبيعي ألا يكون من عمل بها معروفاً خارج حدود لبنان، لكنه عمل في «العربية»، قبل أن ينتقل إلى «سكاي نيوز»، ويقدم برنامجاً فيها يحمل اسمه «الليلة مع نديم» تماماً مثل برنامج «مع قصواء»، ومع ذلك فلم نعرفه إلا بهذا التحذير الإمبراطوري!
وكنت أعتقد أن «نديم» مسؤول عن السبق التاريخي، في ليلة المحاولة الفاشلة للانقلاب التركي، حيث كانت قناتا «العربية»، و»سكاي نيوز عربية» تقفان على خط النار، كجزء من العملية، وبدا للمشاهد أن التنسيق على أعلى مستوى تم مبكراً، ليتم نشر بيانات عسكرية منسوبة للانقلابيين دون أن يصدروها، وكانت الفضيحة الكبرى عندما أذاعت «سكاي نيوز عربية» هروب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان واستقراره في ألمانيا، وبعد قليل كان الرئيس التركي على الهواء مباشرة، يقود بنفسه النفير العام ضد الانقلابيين، ولم تعتذر إدارة «سكاي نيوز عربية» عن هذه الجريمة، أو تفضح مصادرها، ومن تلاعب بها، وأفقدها الثقة والاعتبار، فيبدو أنه لا مصادر هناك، فالعربية، والمذكورة، بجانب الحدث، كنتا ماكينات لإنتاج الأكاذيب في هذه الليلة!
بيد أنه بالبحث والتنقيب تبين أن تعيين زعيم الكوكب، مديراً للمذكورة، كان في يناير/كانون الثاني الماضي، وفي مارس/آذار نشر أن الجولاني لقي حتفه، والخبر منسوب إلى «مصادرنا»، ومقتله كان في معارك في ريف اللاذقية، وبدلاً من أن ينشغل بمهنته، اندفع في اتجاه آخر وأعلن أنهم لن يسمحوا بعودة محمد مرسي إلى سوريا، فبلسان من يتحدث؟ بلسانه باعتباره عنترة بن شداد، أم بلسان أصحاب القناة؟!
فإن كانت الأخيرة فكيف يندمج موظف في دولة ما مع الحالة، حتى يظن أنه عبد الخالق عبد الله، أو المهيب الركن الفريق ضاحي خلفان.. أين اختفى الأخير؟!
وهل من المسموح أن يتجاوز اعلامي اختصاصه الوظيفي، ليتحدث كجنرال نيابة عن دولة ما، فيكون القرار أنه يسمح أو لا يسمح، ويندفع إلى حيث الاعتقاد أنه صاحب حق تقرير المصير في سوريا؟!
لم ينتبه الإعلامي الركن، أن إعلانه الذي يحاكي فيه صولة الأسد، (الأسد ذاته وليس بشار الأسد)، ليس هو محمد مرسي، الرجل الطيب الذي أمكن لخصوم الربيع العربي أن يطيحوا به، فهل لا يعرف زعيم «سكاي نيوز عربية» فعلا طبيعة الشخص الذي قتل سابقاً في معارك بريف اللاذقية؟!
الشرع المقتول في ريف اللاذقية من قبل، والذي من الواضح أنه عاد للحياة بعد مقتله، إذا سلمنا بصحة خبر «سكاي نيوز عربية»، ليس هو محمد مرسي، وليس من الإخوان، وأفكاره الدينية مختلفة، والثورة السورية ليست هي ثورات؛ مصر، واليمن، وتونس، وسيخسر كثيرا من يصور له شيطانه أن الشرع سهل الهضم، لذيذ الطعم!
إنه يبدو كدرويش في طريقة صوفية، لكن هذا هو الغلاف الخارجي، فالرجل الذي قاد المواجهة مع نظام الأسد، ووحد الفصائل خلفه طوعاً وكرهاً، سلماً وحرباً، ثم أسقط الأسد، ونظامه، وجيشه، وأجهزته الأمنية، وسجونه، ليس هو من يمكن للقطة أن تأكل طعامه!
إن مدير قناة تلفزيونية فشلت في أن تكون «الجزيرة»، لا ينشغل بالنهوض بقناته، ولكنه ذهب يحاكي الجنرالات، فهدد بأنهم لن يسمحوا بمحمد مرسي في سوريا!
عزيزي المهيب الركن، من في سوريا ليس محمد مرسي!
ليلى عبد اللطيف: رئيسا لحكومات الوطن العربي
لا يأخذ المشاهدون، ضيفة عمرو أديب السنوية بسنت يوسف على محمل الجد، وهي تقلب في أوراقها، وتصدر التصريحات الوردية عن الأوضاع الاقتصادية في مصر، والرخاء الذي يعم ويفيض!
ولم تتمكن وعود رئيس الحكومة المصرية في إزالة العبوس، والرجل ومن معه يبشرون بالرخاء في عام 2025، وأعلن مذيع قناة «القاهرة والناس» إبراهيم عيسى بما يفيد أن العام الجديد سيكون عام الدلع، وكأنه منبت الصلة بالسنة الماضية، وكأنهم سيكتشفون مغارة علي بابا، حيث الذهب والياقوت والمرجان، من دون جهد، وبدون زرع في عام 2024، تُجنى ثماره في العام الجديد!
فكان لا بد من حلقة مع ليلى عبد اللطيف، لعلها تنجح في مهمة الضحك على الذقون، وهي «عرافة»، كما الحكومة، وكما الأبواق الإعلامية، فالجميع في وعودهم البراقة، لم يخرجوا عن الاختصاص الوظيفي، للعرافين، وقارئي الفنجان!
وجاءت عبد اللطيف مع برنامج «أم بي سي مصر» لتبشر بالرخاء على يد الرئيس السيسي، لكن في الوقت نفسه كان هناك من يتعقبها بإعادة إذاعة حلقة لها مع نيشان في بداية العام المنصرف توقعت فيه استمرار بشار الأسد في حكم سوريا في عام 2024، كما توقعت خروج المظاهرات تحمل صوره.
يسألها نيشان عبر تلفزيون «الجديد»: البعض يتوقع أن يتنحى بشار الأسد؟ فتقول في ثقة إنه باق.. باق الرئيس بشار الأسد. فليتها قالت إنه لن يتنحى، كخط رجعة لتقول إنها توقعت أنه لن يتنحى والحاصل أنه هرب!
لماذا لم يناقشها عمرو أديب في توقعاتها في العام الماضي، ولم يحاكمها نيسان على هذه المسخرة؟ الإجابة: لأنها تؤدي مهمة بالتراضي!
فماذا لو تم كشفها أمام المشاهدين، فمن يدعم تصريحات الحكومة والأبواق الإعلامية عن جني ثمار التنمية في هذا العام؟!
إن ليلى عبد اللطيف وظيفة لا اسما!
القرار المهم للهيئة الوطنية للإعلام
أخيراً، صدر قرار الهيئة الوطنية للإعلام، بوقف إذاعة الإعلانات عبر محطة إذاعة القرآن الكريم، وهو الأمر الذي ضج منه مستمعو هذه الإذاعة، ولا نعرف إلى الآن من صاحب قرار إذاعتها، وهو أمر غير مسبوق في تاريخ هذه المحطة!
الجميع أيدوا قرار الهيئة، والذي يُذكر لها فيُشكر، وقد راعني أن يشكر القرار، المستشار الديني السابق للسيسي، ووزير الأوقاف الحالي، أسامة الأزهري، الذي قال في معرض تأييده لقرار المنع، إن القرار يعيد لإذاعة القرآن الكريم هيبتها. فما هو موقفه عندما تم أذيعت الإعلانات، وضربت هيبة ووقار الإذاعة في مقتل؟!
إن من لم يندد ببث الإعلانات ليس له أن يؤيد قرار وقفها!
أرض جو: ومن جديد تعود لميس الحديدي ببرنامجها، ومن جديد كذلك يعود أسامة كمال ببرنامجه، وخلال العشر سنوات الماضية، تم وقف برنامج لميس، ثم أعيد، ثم أوقفوه مؤخراً، ليعيدوه أيضاً مؤخراً، لكن عدد مرات إيقاف وعودة أسامة كمال لا تعد ولا تحصى. فلماذا أبعدوهما ولماذا أعادوهما؟ لا أحد يعرف!
لا بأس، فيبدو أنها هورمونات!
٭ صحافي من مصر
القدس العربي
——————————
في المقارنة بين حافظ الأسد وأحمد الشرع/ عمر قدور
السبت 2025/01/04
ضمن أجواء النقاش السوري الذي لا يهدأ حالياً، يستعيد البعض تجربة حافظ الأسد، مع التحذير من أن يكون رأس السلطة الحالي أحمد الشرع في سبيله إلى اقتفاء أثر ذلك المستبد. حتى من دون إجراء مقارنة مباشرة، يجوز القول أن شبح حافظ الأسد لم يختفِ نهائياً مع تحطيم الألوف من تماثيله في الساحات والطرقات، فالشبح ماثل مع تخوّف فئات عديدة من عودته بلبوس آخر، ولدى فئات عديدة أخرى تريد الانتقام منه وإزاحته ولو بصناعة بديل له.
باستخدام مفردات العهد البائد، يظهر الشرع كأنه قام بـ”حركة تصحيحية” انقلب بها على الجولاني. إلا أن هذا الوصف، في الحالتين، يشير إلى براغماتية مطمئنة لجهة ضرورتها لممارسة السياسة، وغير مطمئنة إذا كانت على سبيل اكتساب القبول من أجل الاستفراد بالحكم لاحقاً. المخاوف تتغذى من أن حافظ الأسد أيضاً، عندما قام بانقلابه على زملائه في البعث، حظي بقبول واسع من فئات ترحّب اليوم بالشرع. فالأسد قدّم نفسه وجهاً معتدلاً بالمقارنة مع رفاق الأمس الذين اتجهوا إلى اليسار، تحديداً إلى اليسار الماوي، ما جعلهم يفقدون حتى الدعم السوفياتي. والصورة الرائجة أنه أحسن أولاً مخاطبة البرجوازية السنية وأرضاها، ولولا ذلك لما كان قادراً على الإمساك بالسلطة ثم الاستفراد المطلق بها، وصولاً إلى الاستثمار الطائفي المغاير لما أبداه من قبل.
تدبّر الأسد إنجاز وحشه المخابراتي-العسكري على مهل، في حين وجد الشرع الفرصة سانحة أمامه للبدء من الصفر على قاعدة التخلص من ذلك الوحش. هكذا أتى حلّ الجيش وأجهزة المخابرات القديمين متوافقاً مع مطلب سوري كان يُعبَّر عنه بالدعوة إلى إعادة هيكلتهما، لكنّ (كما هو واضح ومعلن) حلّت “هيئة تحرير الشام” مكان “النواة الصلبة” للجيش القديم، وحلّ جهاز المخابرات التابع للهيئة مكان الأجهزة القديمة. ومن دون أن يعني هذا اتهاماً للأجهزة الجديدة، فإن تجربة استثمارها من قبل الأسد تجعل التشكك إزاء الجديد مفهوماً، بما في ذلك التخوف من استثمار طائفي مضاد.
في موضوع الجيش والمخابرات تحديداً، ثمة أسئلة برسم العهد الجديد، لم تكن موجودة في زمن التأسيس الأسدي. فضمن فصائل الجيش الجديد هناك تشكيلات متهمة بعمليات اعتقال واختطاف وقتل ناشطين مدنيين في الثورة، وهناك تشكيلات متهمة بعمليات أقل ما يُقال عنها أنها ثأرية. سلوك عناصر ما كان يُسمى الجيش الوطني في عفرين هو مثال صارخ يتعدّى ما هو فردي، سواء من حيث التمييز ضد الأكراد، أو من حيث ارتكاب جرائم تخضع للقوانين الجزائية، إذا لم يُنظر إليها كجرائم حرب ممنهجة.
نظرياً على الأقل، هناك عدد قد لا يكون قليلاً من منتسبي الجيش الجديد الذين سيكونون عرضة للاتهام على جرائم، بموجب دعاوى من حق المتضررين رفعها حتى إذا أُسقطت عن المتهمين دعاوى الحق العام. هذا قد يكون استهلالاً جيداً لإنشاء جيش يحظى بمشروعية وترحيب وطنيين. وهذا العامل يتضافر مع صعوبة بناء جيش من الصفر، بعدما أودت الغارات الإسرائيلية بمعدات الجيش السابق، بصرف النظر عن التقادم التكنولوجي لمعظمها. يبقى، على الصعيد الشكلي، أن الأسد انتقل من فكرة الجيش إلى الميليشيات عبر قوات النخبة المعدَّة لحماية السلطة، والمعلَن أن الشرع يأتي من الاتجاه الآخر، إذ يريد حل الميليشيات لإنشاء جيش نظامي، وهذا ما سيُختَبر عملياً في زمن لن يطول.
خارج المنظومة المخابراتية-العسكرية، استولى الأسد على السلطة بانقلاب شديد السهولة، واستولى على مقدرات بلد غير محطم بمؤسساته وبنيته الخدمية والصناعية والزراعية، ولا مثقل بالديون ويحتاج مئات مليارات الدولارات لإعادة الإعمار. المقارنة بين سوريا 1970 وسوريا 2025 تشير إلى وعورة ما ينتظر الشرع إذا سلك سبيل الأسد نفسه، فتجربته في حكم إدلب غير كافية لمداواة بلد بأكمله. وحديث مسؤولة مكتب شؤون المرأة في إدارته، عن الموارد التي ستُجنى مع ضم مناطق سيطرة قسد الحالية، فيه سوء تقدير لموارد سوريا الفعلية، وعدم معرفة أو عدم اعتراف بأن “ثرواتها” الطبيعية أقل بكثير من احتياجات سكانها.
ورغم كل يُقال عن أهمية رضا الخارج، وهذا صحيح نسبياً على الأقل، فإن قوى الخارج لم تكن في سوريا كما هو الحال الآن، أي أن الأسد وقت انقلابه لم يكن محكوماً بتوازنات شديدة الوطأة كما هو الحال الآن. على الأراضي السورية الآن، هناك أربع قوى لا تخفي نواياها للتدخل، أو لمعاقبة السلطة الجديدة في حال لم تُنفّذ شروطها. هناك الولايات المتحدة، بوجودها العسكري وسلاح العقوبات الاقتصادية، وتركيا التي ورثت مكان إيران فوق نفوذها السابق، وروسيا بقواعدها العسكرية وديونها، وقبلهم وبعدهم إسرائيل. والسؤال الذي يطرح نفسه هو عمّا إذا كانت الظروف الاقتصادية الكارثية وحضور قوى الخارج يسمحان للشرع بأن يقتفي أثر الأسد.
كان حافظ الأسد، في أفضل أيامه، يتقرّب من السوريين لا عن خبث فحسب، بل عن حاجة حقيقية لاكتساب شرعية داخلية، وقد نال الأخيرةَ بعد حرب تشرين إلى أن تدخل في لبنان. ويجدر التوقف عند واقع أن الأسد استغنى عن التودد للسوريين عندما صار له وزن إقليمي بعد دخوله لبنان، ومنذ ذلك التاريخ بدأت مخابراته حملات الترهيب والاعتقال الكبرى، أي أن علاقته الجيدة بالخارج تُرجمت استقواءً على السوريين بالثقل الإقليمي المكتسب. هذا ما يخشى سوريون كثر تكراره اليوم من الجهتين، من جهة الشرع الذي يُخشى أن يغلِّب رضا الخارج على رضا الداخل، ومن جهة قوى الخارج المؤثِّرة التي يُخشى ألا تتحلّى ببعد النظر في العلاقة مع السلطة، وهذا ليس بغريب عن سياساتها.
إلا أن خشية السوريين من تغليب اعتبارات الخارج على الداخل قد يكون مبالغاً فيها، لأن إهمال السوريين لم يعد ممكناً على النحو الذي كان ممكناً قبل نصف قرن. فقد استلم حافظ الأسد السلطة في بلد أُفرِغ من السياسة بانقلاب البعث، والحراك شبه الوحيد بين عامي 1963 و1970 هي عداوات الرفاق فيما بينهم. أما الآن، فالشرع إزاء سوريين خاضوا تجربة مريرة وشاقة منذ انطلاق الثورة عام 2011، والذين شاركوا فيها (والذين لم يشاركوا أيضاً) يرون أنهم دفعوا ثمناً يعفيهم من العودة إلى ما يشبه حكم الأسد.
من المستحسن التوقف ملياً عند العبارة الأخيرة، لأن المقارنة بين الأسد والشرع تستحضر الفوارق الفردية بينهما ومجمل الظروف العامة، من دون توقف كافٍ عند السوريين أنفسهم، رغم أنهم (ضمن تحول ديموقراطي منشود) هم المناط بهم تبديد المخاوف من شبَه محتمل بين الأسد والشرع، بصرف النظر عن إسلامية الثاني منهما. ولعل أزمة الثقة بين السوريين، فوق ما قد يكون قلة ثقة بالنفس، هي المصدر العميق للخشية من تكرار الماضي.
السوريون اليوم لا يُقارنون بما كان عليه الأسلاف قبل نصف قرن، لجهة المعرفة وما يُبنى عليها، وتحديداً لجهة الخبرة بالاستبداد، وهذا ما يؤهّلهم لعدم التخوّف من الآتي، لولا أن هناك ما يستدعي المخاوف بوجود أصحاب رؤوس حامية يريدون الثأر من الماضي الأسدي بالتحريض على اصطناع أسد للسنة، وهو ما يعزز في المقابل رؤوساً حامية خذلها الأسد بهروبه. وفيما عدا هؤلاء على الجانبين هناك كتلة هي الأوسع لم تنتقل إلى ما بعد سقوط الأسد، إما بسبب هول الصدمة، أو بداعي الفرح. من المرجّح أن هذه الشريحة المتعددة الواسعة لا تريد العودة إلى الاستبداد، إلا أنها لم تختبر بعدُ فعاليتها السياسية، ولم تمتلك التجربة التي تجعلها واثقة من قدراتها.
فيما مضى، كان الكثير مما يُنسب إلى حافظ الأسد، من حنكة ودهاء… إلخ، يجد تبريرُه الأهم (الذي لا يُفصح عنه) في غياب السوريين أولاً، ثم في القدرة على تغييبهم. ولا تزال ماثلة في أذهان كثر من السوريين تلك الصورة التي اصطُنعت لبشار الأسد، ثم هوت وتلاشت ما أن انطلقت الثورة ضده. اليوم ثمة فرصة (بالسياسة) ليتخلص السوريون من شبحي الأسد الأب والابن، ومن ذكرى استغفالهم مع انقلاب الأول، وبها أيضاً (بالسياسة وحدها) يستطيع الشرع أن يصنع لنفسه صورة تستبعد المقارنة بتلك الحقبة السوداء.
المدن
——————————
سوريا: خلط الأوراق وإرباك الحسابات الأمريكية/ د.جيرار ديب
تحديث 04 كانون الثاني 2025
أشار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وهو يقف على الجانب السوري من جبل الشيخ الثلاثاء، 17 ديسمبر/كانون الأول الماضي، إلى أن «إسرائيل ستبقى في ذروتها حتى يتمّ التوصل إلى ترتيب آخر يضمن أمن إسرائيل»، مشيرا إلى أن الموقف يعيد الحنين إلى الماضي». وأضاف، «لقد كنت هنا منذ 53 عاما مع جنودي في دورية «ساريرت متكال»، المكان لم يتغيّر، إنه المكان نفسه، لكنّ أهميته لأمن إسرائيل تعززت فقط في السنوات الأخيرة، خاصة في الأسابيع الأخيرة مع الأحداث الدرامية التي تجري هنا في سوريا».
تعتبر تل أبيب أن اتفاقية «فك الاشتباك» التي وقعت مع الجانب السوري عام 1974 في جنيف بحضور ممثلين عن الأمم المتحدة والاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية قد سقطت، مع هروب الرئيس السوري بشار الأسد إلى روسيا. وترى أن من يحكم دمشق اليوم، قد يعيد ترتيب أولويات الدولة السورية، في ما يخصّ هذه الاتفاقية، لهذا سارعت القوات الجوية الإسرائيلية إلى شنّ غارات لضرب الأسلحة الثقيلة ومراكز القرار والتصنيع العسكري كافة في العمق السوري، كي لا تقع في يدّ الثوار، الأمر الذي سيشكل خطرا على أمنها.
تغيّر الواقع السياسي في سوريا، وأصبحت البلاد اليوم بيد شعبها، بعدما صادر «آل الأسد» الرأي والسلطة لأكثر من 54 عاما، ومنع أي تحركات عسكرية تجاه إسرائيل، مكرسا واقعا يطغى عليه الهدوء على جبهة الجولان. سقط الأمان مع سقوط الأسد، فسارعت القوات الإسرائيلية إلى فرض أمر واقع جديد على هذه الجبهة، الذي تمثّل في توسيع رقعة احتلاله لمزيد من المناطق، حتى المنطقة العازلة تحت عبارة «وجود مؤقت». لم يخطأ نتنياهو في توصيفه بأن الجغرافية لم تتغيّر منذ أكثر من 50 عاما، هذا يعود إلى أن النظام في سوريا، لم يضع في اهتماماته ولا أولوياته هذه المنطقة، فظهر وكأنه قدّم أوراق «التنازل» عنها. لهذا لم يسمح بفتحها أمام السوريين كجبهة مقاومة لردع العدو، الذي احتلها بعد نكسة يونيو/حزيران عام 1967، بل جعل منها ورقة تفاوضية لاستمرارية حكمه، مع إسرائيل والراعي الرسمي الأمريكي، فكان حارسا أمينا لأمن العدو، وحذرا في عدم تخطي بنود الاتفاقية، على الرغم من أنها لم تكن لصالح الدولة السورية.
لكنّ ما تغيّر يا سيدّ نتنياهو، وما أنت جاهله حتى هذه اللحظة هو «إرادة الشعب» السوري في التحرير والتحرر، مع وصول الفصائل المعارضة إلى السلطة. لم يستطع النظام السوري، على الرغم من سياسة القمع التي اتّبعها، أن يعمد على «قتل الوعي» المقاوم لدى السوري، ولم يجعله يتناسى قضيته بتحرير الجولان، هذا ما شهدته منطقة درعا من حراك في وجه الاحتلال، وما عبّر عنه الثوار الأحرار في تظاهراتهم. أفادت منصات محلية سورية الجمعة 20 ديسمبر 2024، بإصابة شاب سوري برصاص الجيش الإسرائيلي خلال مظاهرة رافضة لتمركز القوات الإسرائيلية في درعا جنوب غربي البلاد، حيث خرجت المظاهرات الشعبية التي طالب عبرها المتظاهرون القوات الإسرائيلية بالخروج من المنطقة، وإيقاف توغلها داخل الأراضي السورية. مثل هذه المظاهرات لم تخرج عن طريق «الصدفة»، ولم تكن مفتعلة، بل هي عفوية نابعة من روح كل مواطن أصيل طالب بالحرية من نظام أسر البلد لصالح «الزمرة» الحاكمة. مسيرة التحرر مستمرة، ولن تتوقف عند حدود ملاحقة الشبيحة في الداخل، بل ستخرج للمطالبة بوقف الاعتداءات الإسرائيلية اليومية على سوريا، ومطالبتها بالعودة إلى حدود عام 1967 وتطبيق القرار الأممي رقم «242». قد يعتقد نتنياهو لوهلة، أن نشوة الانتصار التي انتشى بها بعد نكسة يونيو، قد استعادها اليوم مع سقوط الأسد، ومع ضرب حزب الله في لبنان وتدمير غزة في فلسطين. لكنّ ما فاته إن من وصل إلى سدّة الرئاسة في سوريا، هم جماعة يريدون أن يروا سوريا حرة. قالت ليف باربرا مساعدة وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط، للصحافيين، مؤخرا، بعد زيارتها لدمشق للقاء أحمد الشرع، «أريد أن أوضح أنه لم تكن هناك مخاوف أمنية وراء تأجيل المؤتمر الصحافي، فكل ما في الأمر أننا لم نتكمن من الوصول إلى المكان في الوقت المناسب، قبل أن نضطر إلى مغادرة المدينة». أرجعت باربرا السبب إلى أن الاحتفالات الشعبية أعاقت وصول الوفد، لكنّ الأمر في الحقيقة يعود إلى التطورات الأمنية التي حدث في درعا، إذ فاجأ الجميع خروج المظاهرات لوقف التدخل الإسرائيلي في الشأن السوري الداخلي. فهذا على ما يبدو لم يكن في الحسبان، وإن ما سمعه الوفد من قبل أحمد الشرع، حسب مصادر مقربة من الفصائل، لم يكن على خاطر الأمريكي في ما خصّ الوجود الأمريكي في سوريا، وفي ما خصّ التدخلات الإسرائيلية في سوريا.
هذا الأمر قد يعيد خلط الأوراق، ويعيد عقارب الساعة الأمريكية إلى الوراء، لاسيما وإن الوفد لمس لدى الفصائل حرصهم على ما يحصل في غزة. إن التخوّف الأمريكي ارتبط أيضا بوجود الفصائل الكردية (قسد) ومصيرها بعدما طالب أحمد الشرع بأن تتحرر كل أراضي سوريا بما فيها المناطق التي تقع تحت سلطة الفصائل وتحت سيطرة الإسرائيلي.
أمام هذه المشهدية التي تتعقّد في سوريا في ظل وصول فصائل ناضلت لسنوات ليس فقط في سبيل اقتلاع بشار الأسد ونظامه، بل في سبيل تحرير البلاد من كل التدخلات، لن يكون الاحتلال الإسرائيلي في منأى عن ما حدث وسيحدث. فهل ستكون درعا بوابة النضال لتحرير الأرض هذه المرة من الاحتلال الإسرائيلي؟
كاتب لبناني
القدس العربي
—————
هآرتس: زعيم سوريا الجديد لا يسارع إلى أي مكان ويحاول أن يتعلم من الأخطاء التي حدثت في الربيع العربي
منذ 21 ساعة
قائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع
حجم الخط
4
محسنة المحيثاوي هي الاسم الجديد واللامع في لائحة تعيينات أحمد الشرع، زعيم سوريا الجديد. المحيثاوي، الدرزية ابنة الـ 52 سنة هي المرأة الأولى، التي تم تعيينها كمحافظة لمحافظة السويداء في جنوب سوريا. وكصاحبة خلفية اقتصادية بعد أن تولت إدارة البنك الزراعي في المنطقة، وعلى اعتبار أن لديها علاقات وطيدة مع الدروز، فإنها كانت المرشحة المناسبة، ليس فقط للوظيفة نفسها، بل أيضا للشخصية الجديدة التي يريد الشرع أن يزين فيها حكومته، كمشجع لتقدم المرأة وكمحافظ على حقوقها.
السويداء هي محافظة معقدة ومتحدية، فيها يمكن أن يتم فحص قدرة الشرع على إدارة كل الدولة. الامتحان الأول ظهر يوم الثلاثاء عندما منعت ميليشيات محلية دخول قافلة سيارات عسكرية أرسلت من قبل “إدارة العمليات العسكرية” في دمشق، الجسم الذي يسيطر في الوقت الحالي على سوريا من أجل إدارة مركز الشرطة بدلا من القوات السورية التي انسحبت عند سقوط نظام الأسد. قيادة الميليشيات المحلية طلبت من القوة الحكومية القادمة عدم دخول المدينة والعودة إلى دمشق. السبب الرسمي الذي قدمته قيادة الميليشيات هو أنها جاءت بدون تنسيق مع القيادة المحلية. القوة الحكومية عادت حقا على أعقابها إلى دمشق بدون مواجهة أو نقاش، لكن التفسير البيروقراطي لعدم التنسيق يغطي على تحد معقد أكثر بكثير.
قيادة السكان الدروز، وعلى رأسها الزعيم الروحي الشيخ حكمت الهجري، تسعى إلى تحويل السويداء إلى إقليم يتمتع بالحكم الذاتي الذي سيكون جزءا من الدولة، لكنه سيدير شؤونه بنفسه. هم يطالبون بالاعتراف بمنظومة القضاء المحلية وتعيين قائد الشرطة، لديهم أيضا. والأكراد في شمال الدولة التقوا هذا الأسبوع مع الشرع لمناقشة مكانتهم في ظل النظام الجديد. ممثلو ميليشيا الأكراد الذين يحاربون هذه الأثناء ضد القوات التركية والميليشيات التي تعمل تحت رعايتها، يطمحون إلى الحفاظ على المكانة المستقلة للمحافظات الكردية التي تسيطر، ضمن أمور أخرى، على آبار النفط والغاز للدولة، وحتى أن يكونوا جزءا من الجيش السوري، الذي سيتم تشكيله. في المقابل، هم يطالبون بحماية من الهجمات التركية وأيضا انسحاب القوات التركية من المناطق الكردية التي احتلت وعودة كاملة للسكان الذين طردوا أو هربوا من المدن الكردية المحتلة. في هذه البؤر تجنب الشرع حتى الآن التصريح بأقوال صريحة، باستثناء الإعلان الذي بحسبه أنه في سوريا سيكون فقط جيش واحد تحت علم واحد. أي أنه لن تكون ميليشيات “خاصة”، طائفية، دينية وقبلية.
ثورة الربيع العربي التي أسقطت نظام القذافي في ليبيا وعلي عبد الله صالح في اليمن، والحرب في العراق، التي أزاحت صدام حسين، علمت الشرع درسا مهما في التداعيات التي يمكن أن تكون للأنظمة التي تسمح للمليشيات بأن تأخذ لنفسها استقلالية وحرية عمل عسكرية. وهو نفسه مثال واضح على التهديد الذي ينتظر النظام الذي لا يسيطر على جميع القوات المسلحة في الدولة. الشرع نجح في إدارة محافظة ادلب إدارة مستقلة تحت سيطرته بعد أن قام بإخضاع، بشكل وحشي، الميليشيات الأخرى التي تجمعت في هذه المحافظة أثناء الحرب الأهلية. والسؤال هو هل سيكون قادرا على شق طريق مختلفة في قيادة كل الدولة، بدون التدهور إلى مواجهات عنيفة.
الشرع، الذي حتى الآن لا يحمل منصبا رسميا، يحذر أيضا في معالجة عملاء نظام الأسد وبالأساس التعامل مع الأقلية العلوية. وخلافا للعراق، الذي بدأ فيه على الفور بعد الحرب تطهير قوات الأمن والأجهزة الحكومية من كل الذين كانوا أعضاء في حزب البعث، حتى لم يبق من سيدير الدولة، فإنه في سوريا هذه الأثناء الموظفون بقوا في أماكنهم، ولا توجد حملات ملاحقة ضد من يسمون “بقايا النظام السابق”. الطلب الوحيد من هذه الجهات هو تسليم سلاحهم لقوات الأمن، بدون تنازلات.
في محافظة اللاذقية التي يتركز فيها معظم السكان العلويين، والتي هرب إليها عدد من رجال الأسد، سجلت مواجهات بين قوات الأمن للشرع وبين المدنيين. من الجيش السوري لم يبق الكثير، ومعظم الضباط الكبار هربوا إلى العراق ودول أخرى. وخلافا لمصر، حيث سارع هناك الجيش إلى إعطاء رعايته للثورة بعد إسقاط حسني مبارك، وفي نهاية المطاف سيطر على الحكم، فإنه في سوريا لا يوجد مثل هذا التهديد ولا حزب حاكم يجب مواجهته. يوجد للمتمردين في سوريا جيش خاص وحتى زعيم كاريزماتي، الذي سارع إلى نزع الزي العسكري وارتداء البدلة وربطة العنق. هذا مقابل معظم الدول التي مرت بانقلابات الربيع العربي بدون أن تولد قيادة سياسية جذابة.
الشرع لا يسارع إلى ترسيخ إجراءات ديمقراطية. صياغة دستور جديد ليس على رأس سلم أولوياته، وقد أعلن أن الانتخابات يمكن أن تجرى بعد أربع سنوات. في هذه الاثناء شكل لجنة للأعداد لـ”حوار وطني” برئاسة مؤيد رسلان قبلاوي، الباحث المعروف في العلوم السياسية. في مقابلة مع صحيفة “الشرق الأوسط” السعودية شرح أن العملية فقط هي في بدايتها، وفي هذه الأثناء هو يقوم ببلورة الخطوط الرئيسية ويحدد الممثلين الذين ستتم دعوتهم. حسب تقارير سابقة فإنه ستتم دعوة حوالي 1200 شخصية، إلى هذا المؤتمر والتي من شأنها أن تمثل الطوائف، الأديان، التنظيمات، المليشيات وجهات أخرى سيكون عليها تقديم الاقتراحات لصياغة الدستور الذي سيحدد طابع الدولة.
ولكن التوصية هي عدم حبس الأنفاس قبل عقد “الحوار الوطني”. فهذه الحوارات جرت في عدة دول بعد ثورة الربيع العربي، بما في ذلك في مصر، ولكن لم تخرج منها أي فائدة كبيرة. الشرع أعلن أن الحكومة المؤقتة التي شكلها ستنتهي في شهر آذار/مارس المقبل، وبدلا منها سيتم تشكيل حكومة دائمة، ليس على أساس الانتخابات، وبالتأكيد ليس طبقا لدستور جديد، ويبدو أنه هو الذي سيقوم بتعيينها.
مقابل سلوكه المحسوب على المستوى السياسي فإنه تجاه الخارج يوجد الشرع في ذروة حملة سياسية كثيفة هدفها هو بناء غطاء حماية ودعم سياسي واقتصادي. ولكن مطلوب منه أكثر أن يغازل الشخص الذي يطلب وده. تركيا كانت الأولى التي هبطت في دمشق، وأقامت علاقات دبلوماسية مع النظام الجديد، ولكن في غرفة الانتظار للشرع يوجد الكثير من الزبائن.
ممثلون أوروبيون كبار صافحوا الزعيم الكاريزماتي، والإدارة الأمريكية أقامت حتى حوار تعارف معه، لكن المنافسين الأقوياء هم السعودية وقطر. فقد قامت بإرسال إرساليات مساعدات كبيرة، وهذه لم تكن الوجبة الأولى. فقد هبط أمس في الرياض وزير خارجية الشرع أسعد الشيباني، ووزير الدفاع مرهف أبو قصرى، ورئيس المخابرات أنس الخطيب. الشرع أعلن في السابق بأنه “يتوقع أن يكون للسعودية دور كبير في مستقبل سوريا”. ولكن أيضا تم وعد قطر بـ “أفضلية خاصة”، وقبل ذلك حصلت تركيا على مكانة دولة مفضلة.
هذه الدول الثلاث تعتبر مؤيدة للغرب ولها علاقات قوية مع الولايات المتحدة، لكن كل واحدة منها توجد لها مصالح خاصة بها في سوريا. فتركيا التي تسيطر على مناطق في الدولة تسعى إلى التوصل إلى اتفاق يضمن حدودها الجنوبية وازاحة تهديد الأكراد والتحرر من ملايين اللاجئين السوريين الموجودين فيها.
وقطر التي عارضت استئناف علاقات الدول العربية مع نظام الأسد، ومثل تركيا أيدت بعض الميليشيات التي تشكل هيئة تحرير الشام (منظمة الشرع)، تعتبر دمشق جزءا لا يتجزأ من فضاء نفوذها، واضافة إلى ذلك هي تريد أنبوب غاز يربط بينها وبين أوروبا عبر سوريا. السعودية، التي تستأنف تدخلها في لبنان وتوثق علاقاتها مع العراق، تعتبر سوريا موقعا حيويا لصد نفوذ إيران وإضعاف قوة حزب الله في لبنان. إضافة إلى هذه الدول، فإن الدول الأوروبية التي تطمح إلى التخلص من ملايين اللاجئين السوريين تطمح إلى الفرص الاستثمارية التي تستدعيها سوريا. الشرع لم يكن يتوقع عناقا أكثر دفئا من ذلك.
سوريا المدمرة، وخزينتها فارغة والبنى التحتية فيها في كل المجالات تدمرت كليا، ومواطنوها يعيشون تحت خط الفقر، والملايين منهم مهجرون خارج البلاد أو داخلها، تحتاج عشرات مليارات الدولارات لإعادة الإعمار. ولكن المساعدات الضخمة والاستثمارات الأجنبية تأتي بشكل عام مع شروط وقواعد، تخلق الاعتماد وتملي الاستراتيجية. التحدي الكبير الذي يواجهه الشرع هو بناء سوريا كدولة لها أهمية استراتيجية وإقليمية وتجنب شرك العسل الذي سيحولها إلى دولة حماية.
بقلم: تسفي برئيل
هآرتس – 3/1/2025
كلمات مفتاحي
القدس العربي
—————
هل انتهى الانقسام اللبناني حول «المسألة السوريّة»؟/ وسام سعادة
تحديث 04 كانون الثاني 2025
انقسم اللبنانيّون حول الموقف من انتداب النظام السوريّ الأسديّ على دولتهم واحتلال جيشه لبلدهم. ذلك قبل سنوات عديدة من انفجار صاعق المجتمع السوري نفسه بين منتفضين ومترددين وقاعدين ومناصرين للنظام. ثم حصل التضاد في موقف اللبنانيين من الثورة والحرب في سوريا.
تخاصموا بضراوة أكثر مع إيثار «حزب الله» القتال إلى جانب النظام الدموي ذي الصبغة الفئوية والرطانة القومجية. توسعت الحرب من المقلب السوري إلى الجانب اللبناني من سلسلة جبال لبنان الشرقية. ثم مضت الحال لغير صالح الفصائل الإسلامية السنية، نظراً لتضافر التدخلين الروسي والإيراني، أضف لتداعيات الحرب الأمريكية الإيرانية المشتركة عملياً على «تنظيم الدولة» وحرب التنظيم على الفصائل الأقل تشدّداً منه.
حُسمت حرب السلسلة الجبلية الشرقية، كما في الأماكن الأخرى من سوريا بسياسة «الباصات الخضر» التي ظهر عملياً أنها سمحت بتحشيد أكبر نسبة كان من الممكن تخيل اجتماعها في بقعة واحدة من المسلحين المتمردين على نظام آل الأسد، في ريفي إدلب وحلب، وهي بقعة توازي مساحة لبنان، وساهم هذا التجميع لاحقاً في إسقاط النظام الأسدي في بضعة أيام.
لم يدفع هذا التحشيد بهذه الفصائل الى تصادم دموي لا يبقي ولا يذرّ في إدلب، بل إلى انبثاق «هيئة تحرير الشام» الجامعة بين الفصائل، تتقدّمها «جبهة النصرة» بعد أن فكّت الأخيرة عرى ارتباطها مع تنظيم القاعدة، بالتفاهم مع أيمن الظواهري عام 2016.
والحال أن تنظيم القاعدة ككل لم يعد هو نفسه، خاصة بعد انشقاق تنظيم الدولة عنه، ودخول الأخير في تجربة إحياء الخلافة والسيطرة على مساحة ترابية واسعة النطاق تمتد من الموصل 2014 ـ 2016 حتى تدمر، وبعد التدخل الفرنسي 2013 ـ 2014 لإنهاء توسع «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» في منطقة الساحل والصحراء الكبرى، وصولا إلى انسحاب أمريكا من أفغانستان وتركها لحركة طالبان، التي استمرت مع ذلك تأوي زعيم القاعدة أيمن الظواهري، إلى حين مقتله أواخر يوليو 2022 بمسيّرة أمريكية بعد عام على هذا الانسحاب. ويرجّح أن يكون خليفة الظواهري غير المعلن، المصري سيف العدل، مختبئاً هو الآخر في أفغانستان. لكن معنى استمرار تنظيم القاعدة كحالة عابرة للحدود بات يلفه الغموض اليوم، حيث باتت السمة المحلية لفروعه الحيوية، كما في اليمن ومالي والنيجر، أن كل فصيل يتدبّر أمره بنفسه، مع ميل متفاوت بين حالة إلى أخرى إلى تراجع خطاب «الجهاد العالمي» لدى هذه الفروع، وزيادة التركيز على أدبيات وديناميات «تحكيم الشريعة».
في المقابل، نجحت عملية تفكيك السيطرة الترابية لتنظيم الدولة أو داعش على مدن العراق وسوريا ومن ثم اغتيال أبو بكر البغدادي، من دون أن يعني ذلك اندثار داعش نفسها، بل عادت تتطور في الاتجاه المعاكس لفروع القاعدة أو الفصائل المتحدرة منها. أي يزيد تركيز خلاياها على خطاب «الجهاد العالمي» في مقابل اندثار «النموذج التطبيقي ـ الترابي» لدولة الخلافة وتحكيم الشريعة بالشكل القروسطي الذي فهمته داعش وطبقته.
ومع أنه، قلما اصطدم «حزب الله» مع «داعش» في سوريا، بل دارت معاركه في غالب الوقت مع فصائل إسلامية جهادية تقاتلها داعش بل تكفرها، إلا أنه عمد في تلك المرحلة إلى «دعشنة» كل الفصائل، بل كل الثورة. هذا في مقابل ظهور حساسية سلبية لدى بيئات ومناخات محسوبة على النظام الأسدي نفسه من الأدلجة الدينية المصاحبة لانتشار الميليشيات الإيرانية والعراقية واللبنانية في سوريا.
تجميع كل مسلحي الفصائل السنية في الشمال الغربي من سوريا أدى لاحقاً، إلى نجاح نسبي لتجربة الإدارة الذاتية لهذه المناطق، في مقابل التحلل الإداري المريع للنظام الأسدي، الذي لم تفده عودته إلى «الحضن العربي الرسمي» لا في تخفيف العقوبات الاقتصادية عليه، ولا في الإقلاع بعملية إعادة الإعمار، بل أفادته فقط في الاسترسال بالصلف ضد كل مسعى للتسوية السياسية، الأمر الذي أخذه رأساً الى المزبلة.
والنتيجة أنه، وبعد أن استفحل الوهن بالبنية العسكرية الإيرانية والإيرا-لبنانية في سوريا، بخاصة في أعقاب الحرب الأخيرة، كان الزحف السريع لقوات المعارضة الإسلامية السنية على حلب. وكرت السبحة سريعاً، فطويت صفحة خلافة بشار الأسد لأبيه. فتح السبيل للتداول على التغلّب.
الأب كان طاغية مستبداً. لكنه نجح بتسويق سرديتين. واحدة في سوريا، وهي أنه خلّصها من تخبّط رفاقه في حزب البعث قبل الحركة «التصحيحية». وثانية حيال لبنان، وهي أنه أخرجه من الحرب الأهلية التي كان نظامه في طليعة رعاتها.
السرديتان تلفيقيتان إلى أبعد حد إلا أن القيمة التسويقية أو التداولية لهما لم تكن معدومة.
في المقابل بشار الأسد نموذج على طاغية فشل في أن يكون مستبداً. تحول طغيانه إلى عملية تدمير متواصلة للمجتمع والبلد كما للدولة إلى أن شمل التدمير الجيش السوري نفسه، منذ اليوم الذي زج فيه هذا الجيش ضد جموع المتظاهرين، وحتى اليوم الذي ترك فيه هذا الجيش تتحلل ألويته، وتدمّر قطاعاته تحت مرمى النيران الإسرائيلية. زد على ذلك كان طاغية غير قادر على تسويق أي سردية. كان يعكّز على سردية الإيرانيين. تكفل فقط بفضح سرديتي الأب، إن في سوريا أو في لبنان، وإتلاف أي عنصر قابل للتداول بهما، أو لتسويقهما، في الشرق والغرب.
لم يترك بشار الأسد في انهياره الهزلي الأخير فرصة جديدة للبنانيين كي ينقسموا مجدداً، بشكل عميق، حول المسألة السورية. لم يفرحوا بذات القدر، بطبيعة الحال، ولا هم يتوجسون من العواقب والتداعيات بالدرجة نفسها.
مع ذلك، ثمة مجال للاستشعار المتبادل بين اللبنانيين والسوريين بأن المرحلة لا يمكن أن تكتفي بالخطابية والغنائية. ما بين وضع لبنان الخارج من الحرب التدميرية، بوقف إطلاق نار هش، ومؤقت، بل ومن جانب واحد إلى حد كبير، وما بين وضع سوريا وقد كنست نظام آل الأسد، ولم تتبلور فيها بشكل واضح كفاية قواعد اللعبة الداخلية من الآن فصاعداً بعد، ولا قواعد التصرف العربي الرسمي والغربي معها على المستوى الزمني الأطول، هذا في مقابل اتسام الوضع الداخلي، باللاتوازن الكبير لصالح الإسلاميين، وبروز قطب يتمتع بمواصفات كاريزمية في شخص أحمد الشرع، وهو يدرك أن بناء شبكة تفاهمات إقليمية ودولية لا تقل أهمية عن تأمين السبل الداخلية لنجاحه. في غضون ذلك، لا تزال إسرائيل، وعلاوة على توسعة نطاق احتلالها في الجنوب السوري، تستهدف بغاراتها منشآت في العمق السوري.
توفر التطورات كما الالتباسات السورية الراهنة أرضية لفتح كوة في جدار العنجهيات اللبنانية الداخلية المتبادلة. أقل الإيمان في لبنان اليوم الاعتراف أن التحوط والتحسب من تداعيات التحول في سوريا لا يرد وكاتالوغ التفاعل معه مرفق به. وفي الوقت نفسه، لا مصلحة لأحد في لبنان اليوم في الانفعالية والسلبية حيال سوريا. ثمة في المقابل عناصر يمكن تقديرها في الاتجاه المعاكس، تخاطر بتأجيج التناقضات الداخلية والأهلية اللبنانية على محك الوضع في سوريا. وهذه يمكن التحكم بها بشكل أفضل كلما انخفض منسوب المكابرة في الداخل اللبناني على حقيقة الوضع الكارثية بعد الحرب الأخيرة، وعلى خطورة الاستمرار في حال الفراغ الرئاسي وتعطل المؤسسات الدستورية. هذا في مقابل أهمية عدم الاسترسال في أوهام «تطبيق» الوضع السوري الحالي على لبنان. في سوريا ثمة غالب ومغلوب اليوم. في لبنان، ثمة أفق لتفكيك تغلبية معينة، إنما فقط إذا انوجد الاستعداد للبحث عن صيغة لتسيير شؤون المجتمع التعددي والدولة المفترض أن تعكس هذا المجتمع وأن تساعد على انتظام حاله، بشكل لا حاجة فيه إلى البحث عن استبدال تغلبية إثنو-دينية بأخرى.
عناوين الانقسام اللبناني الداخلي عديدة. وطرائف نفي «داخلية الانقسام» عديدة بحجة ارتباط القوى المختلفة بالخارج، بشكل يجد كماله في الارتباط الإيديولوجي العضوي الكامل لحزب الله بالحرس الثوري الإيراني. هذه الارتباطات، لا تلغي أهلية الخلاف. عمقه الإثني، الطائفي، المجتمعي، القيمي. في الوقت نفسه، ثمة عنوان للخلاف اللبناني، وللارتباط اللبناني بالخارج، غير تفصيلي، يتراجع: هو الانقسام حول المسألة السورية. مع ذلك، يبرز «الخوف من أن يتكرر ما حدث في سوريا في لبنان» كما الشوق إلى تكرار الأمر نفسه: التداول على التغلب. هذا الخوف، كما هذا الشوق، سببان منطقيان للقلق على كيانية لبنان نفسها.
كاتب من لبنان
القدس العربي
—————————–
عن ضرورة الحوار السياسي في سوريا ما بعد الأسد/ مها غزال
04.01.2025
التسرع في عقد مؤتمر وطني دون تمهيد مسبق، قد يؤدي إلى نتائج عكسية. لهذا لا بد من مرحلة انتقالية طويلة تتضمن إطلاق الفضاء السياسي والمدني وفتح المجال للأحزاب السياسية، ومنح وسائل الإعلام حرية حقيقية.
ما تعيشه سوريا اليوم هو حالة معقدة من التعافي المأمول، ولكن تعترضها عقبات واقعية تكاد تجعل المستقبل حلماً بعيد المنال. بلد أنهكته الحرب، تمزقت بنيته التحتية، وتفكك مجتمعه إلى فئات متناحرة؛ وبين أمل المضطهدين باستعادة حقوقهم وخوف الموالين السابقين للنظام من الانتقام، تسود حالة من الفوضى السياسية والاجتماعية.
التدمير الذي طال سوريا ليس مجرد دمار مادي في البنى التحتية، بل يمتد إلى النسيج الاجتماعي والثقافي. الجوع والفقر والبطالة هي نتائج طبيعية لسنوات من سوء الإدارة، والتعليم السيئ، وانتشار الأمية. يُضاف إلى ذلك تمدد الأفكار المتطرفة التي غذّتها جهات متعددة: الميليشيات الموالية للنظام، “تنظيم داعش”، و”القاعدة”، وصولاً إلى النزعات القومية في شمال شرق البلاد.
وسط هذه التحديات، يظهر جلياً أن أي محاولة لإعادة بناء سوريا يجب أن تبدأ بمواجهة هذه الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، قبل الحديث عن أي استحقاقات سياسية بعيدة المدى.
يتجلى الوهم الزمني للإصلاح السياسي في الحديث عن مؤتمر وطني سوري خلال أشهر قليلة لتشكيل حكومة انتقالية، ووضع دستور، والتمهيد لانتخابات ديمقراطية، يبدو بعيداً عن الواقع. في دولة غابت فيها الأنشطة المدنية والسياسية لعقود، من الصعب تصور أن مؤتمراً كهذا يمكن أن يحقق تمثيلاً حقيقياً لشعب يعاني من الانقسامات الفكرية والجغرافية.
من هنا، فإن التسرع في عقد مؤتمر وطني دون تمهيد مسبق، قد يؤدي إلى نتائج عكسية. لهذا لا بد من مرحلة انتقالية طويلة تتضمن إطلاق الفضاء السياسي والمدني وفتح المجال للأحزاب السياسية، ومنح وسائل الإعلام حرية حقيقية.
وإجراء مشاورات وطنية واسعة عبر تنظيم ندوات وحوارات بين مختلف الفئات السورية، بالإضافة الى تحقيق العدالة الانتقالية ومحاسبة مرتكبي الجرائم وإنصاف الضحايا لضمان المصالحة الوطنية.
وقد تكون تجربة جنوب إفريقيا بعد نظام الفصل العنصري ملهمة، حيث سبقت الانتخابات عملية طويلة من المصالحات الوطنية والحوار المجتمعي. في المقابل، تجربة العراق بعد الغزو الأميركي تبرز مخاطر التسرع في صياغة الدستور دون معالجة القضايا الأمنية والاجتماعية، مما أدى إلى استمرار الصراعات الطائفية.
مما يؤكد ضرورة مرور سوريا في مرحلة انتقالية، وفي ذات الوقت يمكن تجنب الفراغ الدستوري والقانوني، عبر العودة إلى دستور 1950 كإطار مؤقت، مع تشكيل حكومة انتقالية تجمع بين التكنوقراط وشخصيات وطنية تمثل مختلف الأطياف السياسية. ولضمان رقابة فعالة، يمكن إنشاء مجلس ثوري يضم خبراء سوريين في الداخل والخارج.
هذه المرحلة تحتاج إلى دعم عربي وإقليمي متوازن وغير مشروط سياسياً. يجب أن تكون سوريا قادرة على اتخاذ قراراتها السيادية دون ضغوط خارجية.
وبطبيعة الحال لن تكون عملية تشكيل الدولة السورية الحديثة قصيرة الأمد. قد تحتاج فكرة المؤتمر الوطني السوري إلى عامين على الأقل من التمهيد السياسي والاجتماعي. ولكن، كما قال غاندي: “السرعة لا تعني شيئاً إذا كانت في الاتجاه الخاطئ”.
سوريا بحاجة إلى خطوات بطيئة ولكن ثابتة نحو إعادة بناء مجتمعها ودولتها، بحيث يصبح المستقبل مشتركاً لكل أبنائها، بعيداً عن إرث الحرب والانقسامات.
درج
—————————
الناجون من التعذيب… هل يمكن إستعادة نبض الحياة بعد أن خفت؟/ زينة نصر الدين
04.01.2025
يواجه الآلاف من المفرج عنهم حديثاً من معتقلات الأسد تحديات جمة. فهم بحاجة ماسة إلى عناية صحية شاملة، ومساندة نفسية عاجلة، فضلاً عن المساعدة في إيجاد فرص كسب الرزق. غير أن عودتهم تأتي في ظل ظروف بالغة الصعوبة، حيث يرزح وطنهم تحت وطأة أزمة اقتصادية خانقة.
في 8 كانون الأول/ ديسمبر، استفاق العالم على خبر سقوط نظام الأسد في سوريا، لتُفتح أبواب السجون ويبدأ تدفق شهادات الناجين من سجون هذا النظام. روايات مروعة عن سنوات من الرعب، الظلم، التجويع، والجرائم ضد الإنسانية بدأت بالظهور. تحدث الناجون عن “المسلخ البشري”، “مخيم الموت”، والاغتصاب، إلى جانب تفاصيل عن أبشع أساليب التعذيب والإذلال.
كانت هذه الأخبار بمثابة صدمة للعالم بأسره. قصص لا يستوعبها العقل وتقشعر لها الأبدان، كشفت عن جلادين فقدوا كل مشاعر الإنسانية والرحمة. هؤلاء الجلادون أتقنوا أساليب مروعة لإلحاق الألم الشديد بالسجناء وإذلالهم بشكل ممنهج. هذه اللحظة التاريخية ليست فقط شهادة على وحشية النظام، بل دعوة للعالم للتحرك ومحاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم التي ستظل وصمة عار في تاريخ الإنسانية.
تُعدّ ممارسة التعذيب انتهاكاً وتعدياً ممنهجاً على إنسانية الشخص وعلى هويته وكرامته وضرباً مبرحاً لكل قيم ومعايير حقوق الإنسان. لا تزال ممارسة التعذيب تحصل في عدد كبير من دول العالم، بحيث يتعرض عدد لا يحصى من الأشخاص في جميع أنحاء العالم للتعذيب. في كانون الأول/ ديسمبر 1984، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، وفتحت باب التوقيع والتصديق عليها والانضمام إليها. لقد دخلت هذه الاتفاقية حيز التنفيذ في حزيران/ يونيو 1987.
وحتى تاريخ حزيران/ يونيو 2024، وافقت 173 دولة على الالتزام قانوناً بالتزامات هذه الاتفاقية، غير أن الحكومات في جميع أنحاء العالم تواصل تحدي القانون الدولي من خلال ممارسة التعذيب. استناداً إلى اتفاقية الأمم المتحدة، يتم تعريف التعذيب على أنه أي فعل تقوم به السلطات أو أشخاص لهم صفة رسمية، يؤدي إلى إلحاق ألم أو معاناة شديدة، سواء جسدية أو عقلية، يلحق عمداً بشخص ما وذلك لغاية معينة. غالباً ما يُستخدم التعذيب كعقاب لنشر الخوف في المجتمع، أو للحصول من السجين أو من شخص ثالث على معلومات أو اعتراف بارتكاب جريمة، أو لمعاقبة السجين على عمل ارتكبه هو أو ارتكبه شخص ثالث.
وفقاً للمركز الدولي لإعادة تأهيل ضحايا التعذيب (IRCT)، يُعالج أكثر من 70.000 ناجٍ من التعذيب كل عام في مراكز(IRCT) حول العالم. غير أن هذا العدد يعتبر أقل بكثير من من العدد الفعلي للناجين من التعذيب في جميع أنحاء العالم، والحالة السورية تكشف صعوبة معرفة الرقم الحقيقي.
كم من جرائم اقترفها هذا النظام، وكم من سجناء تمنّوا الموت داخل تلك السجون. تطالعنا قصص كثيرة وشهادات صادمة عن ناجين يعانون من اضطرابات نفسية صعبة ومن حالات فقدان للذاكرة. كما تتجلى أمامنا روايات مروعة ومؤلمة، حيث يكشف الناجون عن الأساليب الوحشية والممارسات اللاإنسانية التي تعرضوا لها أثناء فترة اعتقالهم القسري كالضرب المبرح والصدمات الكهربائية، واقتلاع الأظافر، وإطفاء السجائر في أجسادهم، وإجبارهم على اتخاذ وضعيات جسدية مؤلمة، أو تعليق أجسادهم لفترات طويلة من الزمن، بالإضافة الى التعذيب الجنسي الذي يشمل الاغتصاب أو الإذلال الجنسي والتعري القسري.
كذلك، إن الحرمان القسري من المقومات الأساسية للحياة – كالغذاء والماء والدواء – يُعد ممارسة وحشية ترقى إلى مستوى التعذيب المركب، حيث تجمع بين الإيذاء الجسدي والاضطهاد النفسي. وهنا نستذكر إحدى الشهادات التي رويت عن مريض سرطان يرجو سجّانه قائلاً: “مشان الله أنا معي سرطان”، ليرد عليه السجّان باستهزاء قائلاً: “ليش تجيبو معك”. كما لا تخلو شهادات المعتقلين من مشاعر القهر والحزن والمعاناة من الإذلال والمهانة والسخرية التي تعرضوا لها خلال فترات اعتقالهم. ونستحضر هنا قصة مؤثرة لأحد ضحايا القمع والظلم الذي عاد بخطوات مترددة إلى موقع اعتقاله بعد انهيار صرح الطغيان، حيث وقف هناك بعينين دامعتين يستعرض مشاهد الماضي القاسي والذكريات المؤلمة.
آثار التعذيب
يمكن أن تستمر الآثار الجسدية للتعذيب مدى الحياة، بما في ذلك الألم الجسدي المزمن، وتشمل: الندبات، الصداع، الإعاقات، آلام العضلات والعظام، آلام الأسنان، آلام البطن، فقدان السمع، مشاكل الرؤية، مشاكل القلب والأوعية الدموية، الصعوبات الجنسية، الأضرار العصبية وغيرها.
وللتعذيب جروح نفسية عميقة لا تقل خطورة عن الجروح الجسدية، بحيث تؤدي المعاملة المهينة إلى أضرار طويلة الأمد على الصحة العقلية. إن تقنيات التعذيب يمكنها أن تسبب صدمة نفسية طويلة الأمد، تشمل اضطراب ما بعد الصدمة Post-traumatic stress disorder، والاكتئاب، والقلق. بالإضافة إلى فقدان الذاكرة، فقد تبين أن عدداً كبيراً من الناجين فقدوا ذاكرتهم نتيجة سنوات الاعتقال والتعذيب في السجون السورية.
إن الإذلال الجنسي، بما في ذلك التعري القسري، يجرد الضحايا من هوياتهم، ويسبب العار الفوري ويخلق تهديداً دائماً بالاعتداء الجنسي والجسدي. يؤدي ذلك إلى الاكتئاب الشديد وإلى ظهور أعراض اضطراب ما بعد الصدمة ومشاعر من الخوف والحزن والخجل يصعب التغلب عليها. وهنا تكمن ضرورة الوعي الأسري والمجتمعي في تصحيح مفهوم العار والخزي، الذي يجب أن يكون مرتبطاً فقط بمرتكبي هذه الجرائم وليس بضحاياها.
بحسب موقع Mayo Clinic، يعتبر اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) حالة صحية عقلية تنتج عن حدث مرهق للغاية أو مرعب، وغالباً ما يكون لدى الضحايا ذكريات الماضي والكوابيس والقلق الشديد والأفكار التي لا يمكن السيطرة عليها حول تجاربهم. قد تشمل الآثار النفسية الأخرى: تجنب أي شيء يذكر بتجربة التعذيب، المشاعر السلبية المستمرة من الخوف أو اللوم أو الذنب أو الغضب أو العار، فرط اليقظة، بما في ذلك صعوبات النوم والقلق المستمر، صعوبات التركيز، فقدان القيمة الذاتية والعزلة عن المجتمع.
أما آثار الحبس الانفرادي، فتشمل الهلوسة والبارانويا وتشوهات الإدراك، بالإضافة إلى الاكتئاب والقلق وصعوبة التركيز والذاكرة. كما تؤدي إلى فرط الحساسية تجاه المنبهات الخارجية ومشاكل في التحكم في الدوافع.
من هنا لا بد من تسليط الضوء على الحاجة الملحة لمعالجة الآثار النفسية المترتبة على التعذيب والعمل على تخفيف وطأتها لمنع تفاقم هذه الاضطرابات، والتي قد تؤدي – إن أُهملت – إلى نتائج مدمرة تزعزع أركان الأسرة وتهدد تماسكها.
معالجة ضحايا التعذيب وإنصافهم
يواجه الآلاف من المفرج عنهم حديثاً من المعتقلات تحديات جمة. فهم بحاجة ماسة إلى عناية صحية شاملة، ومساندة نفسية عاجلة، فضلاً عن المساعدة في إيجاد فرص كسب الرزق. غير أن عودتهم تأتي في ظل ظروف بالغة الصعوبة، حيث يرزح وطنهم تحت وطأة أزمة اقتصادية خانقة. ومن هنا تبرز أهمية إدراج الناجين من التعذيب ضمن الأولويات الملحة التي تستدعي اهتماماً فورياً، واستجابة عاجلة بحيث يتمكن الناجون من الوصول إلى الإنصاف الشامل.
تعتبر الرعاية التأهيلية الشاملة ضرورة حتمية لمساعدة ضحايا التعذيب على الانخراط والاندماج في المجتمع من جديد وعلى استعادة حياتهم. إن تبني النهج الشامل للشفاء المتمثل بتأمين العلاج الجسدي والنفسي من جهة، وتوفير الدعم العائلي والمجتمعي والتعويض المالي من جهة أخرى، يعطي فرصة حقيقية للناجين من التعذيب للتغلب على هذه التجربة وعلى إعادة بناء حياتهم واستعادة الشعور بالأمان والثقة وتقدير الذات.
وتبقى عملية الإنصاف ناقصة حتى يتم تقديم معذبيهم إلى العدالة، إذ لا بدّ من رفع دعاوى في سوريا وخارجها لمحاسبة المرتكبين قضائياً على جرائمهم وتحقيق العدالة.
ويعدّ وضع وتعزيز الأطر القانونية الفعالة التي تحظر التعذيب ركيزة أساسية في أي برنامج لمكافحة هذه الممارسة اللاإنسانية. يتطلب ذلك مراقبة شفافة ومستقلة لمراكز الاحتجاز، إلى جانب التحقيق الجاد في ادعاءات التعذيب والتعاون مع الآليات الدولية. كذلك، إن تدريب الموظفين المكلفين بإنفاذ القانون على حقوق الإنسان ومنع الجرائم ضد الإنسانية، بالإضافة إلى تعزيز الوعي العام، يمكن أن يُسهم بشكل كبير في التصدي للتعذيب ومنعه.
لكن يبقى السؤال: إلى متى سيستمر هذا الإجرام في السيطرة على عالمنا؟ وهل الشعور بالإنسانية صعب إلى هذا الحد؟ أليس من الممكن وضع حد حاسم ونهائي لهذه المأساة العالمية؟ إن إنهاء التعذيب ليس مجرد مطلب أخلاقي، بل هو ضرورة إنسانية وقانونية تستوجب العمل الجماعي الجاد من قبل الحكومات والمجتمع المدني والمؤسسات الدولية لتحقيق العدالة والكرامة الإنسانية للجميع.
وفي انتظار تحقيق ذلك، نوجه تحية للشعب السوري الذي واجه أحد أعنف أنظمة العالم الحديث بشجاعة وصمود.
درج
——————————-
ضحالة حجج المكوّعين/ حسن مراد
04.01.2025
قد تكون هذه التكويعة قناعة لدى البعض، لكن ألا يتطلّب أقل الإيمان نقداً ذاتياً أو اعتذاراً، عما صدر عنهم بحق معارضي النظام السوري المخلوع، سواء كانوا سوريين أم لبنانيين أم فلسطينيين؟
مفردات جديدة شاع استخدامها بعد سقوط النظام السوري، أبرزها “مكوّع”،المكوّع هو من انحاز إلى صف النظام إبان الثورة السورية، متبنياً سرديته بحذافيرها، كما امتاز بحس المبادرة في اختلاق حجج تخوينية دفاعاً عن نظام الأسد.
الشخص ذاته تنصّل من مواقفه تلك بعد 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، مدعياً عدم انحيازه إلى صف بشار الأسد، بل غايته الفعلية كانت مقارعة “الإمبريالية الصهيونية الاسلاموية”، وبالتالي تموضعه السابق ليس إلا ترجمة لأهداف مشتركة جمعته بالنظام السوري.
المكوع دون نقد ذاتيّ
شخصيات عامة وأفراد واظبوا على تخويننا منذ العام 2011، إن على وسائل الإعلام أو في المجالس الخاصة والعامة كما على وسائل التواصل الاجتماعي. هؤلاء باتوا يدّعون اليوم أنهم لم يكونوا يوماً في صف النظام.
بعيداً عن كل المواد الموثقة لانحيازهم، تنطوي تكويعتهم على إيجابية، تتلخّص في إقرارهم الضمني بجرائم النظام، جرائم لم يعد ينفع معها أية عملية تجميل، مما أفقدهم جرأة الدفاع عنه، بخلاف ما كان يجري في السنوات الماضية، حين أنكروا تلك الجرائم والانتهاكات.
قد تكون هذه التكويعة قناعة لدى البعض، لكن ألا يتطلّب أقل الإيمان نقداً ذاتياً أو اعتذاراً، عما صدر عنهم بحق معارضي النظام السوري المخلوع، سواء كانوا سوريين أم لبنانيين أم فلسطينيين؟
عدم تحلّيهم بهذه الشجاعة يدفع إلى التشكيك في صدق نواياهم، فمن الركائز الدعائية لمحور الممانعة هو عدم الاعتراف بالخطأ، لأن الاعتراف هو نقطة ضعف برأيهم وفرصة للتصويب عليهم. وعليه من المبرر افتراض أن تكويعتهم ليست سوى انحناء للعاصفة.
سبب آخر يدفع إلى التشكيك في عدم انحيازهم إلى النظام، إذ لم يصدر عنهم ما يشير إلى فرحتهم بسقوطه، والمقصود بهذا السياق الأفراد الذين نحتك بهم يومياً في العالمين الواقعي و الافتراضي. لم يذرفوا دمعة فرح ولم ترتسم الضحكة على وجهوهم ولم يكتبوا منشورا أو تغريدة للتعبير عن سعادتهم، كل ما صدر عنهم عبارات ارتياب وتحذير من المستقبل المجهول، التي تسبقها تهنئة مقتضبة للشعب السوري على حريته.
جميعنا لدينا هذا الهاجس من المستقبل، ولا يتوهم أحد منا أن سقوط النظام هو خاتمة الطريق. بالمقابل كل من عارض النظام السوري بصدق، أخذ قسطاً من السعادة، وأفرجت عيناه عن دمعة فرح بعد سنوات من دموع القهر.
من جانب آخر، مضمون كلامهم يرتكز على ادّعاء أن مشاهد السجون، لا سيما في صيدنايا، هزّتهم من أعماقهم.
خطورة منطق “لو كنت أعلم”
من حقنا أن نسأل، لماذا الآن؟ ألم يتصفّحوا رواية القوقعة؟ ألم يطّلعوا على شهادات المحررين؟ ألم يشاهدوا الوثائقيات، لا سيما ذاك الذي تناول اغتصاب النساء؟ ألم يسمعوا بمحاكمة قادة وضباط وعناصر النظام أمام المحاكم الوطنية الأوروبية؟ يا ليتهم يخبروننا ما الذي هزّهم على وجه التحديد، حتى تفتّحت أعينهم عما كان غافلاً عنهم؟ كيف نجحت ثوانٍ معدودة في إفراغ مخزون حججهم التخويني الذي لم ينضب يوماً؟
على أي أساس يتبنّون، وعن حق، ما يصدر عن المحررين والمنظمات الحقوقية حيال ما يدور في المعتقلات الاسرائيلية من انتهاكات؟ واستطراداً كيف جزم وئام وهاب وسالم زهران، في معرض الرد على فظاعات صيدنايا، أن هذا الواقع موجود في باقي الدول العربية؟
استناداً إلى هذا المنطق الشبيه ب “لو كنت أعلم”، ألا يدركون أنهم بذلك يوفّرون لأنصار إسرائيل والديكتاتوريات العربية حجة دفاعية، إذ على مبدأ المعاملة بالمثل قد ينكرون ما يدور في المعتقلات المذكورة حتى إشعار آخر؟
المقاومة…مرة أخرى !
ودائماً في معرض الدفاع – الهجومي، يتمسك السواد الأعظم من المكوّعين بفكرة أن مساندتهم للنظام ليس موافقة على ممارساته، إنما لدعمه حركات المقاومة ضد إسرائيل. يظنون بذلك أنهم نجحوا في التملّص من هذا العار، لكنهم لا يدركون أن كلامهم يدينهم ولا يبرّئهم، بل تساهم حجتهم هذه في تأكيد المؤكد: لا مانع لديهم في انتهاك الحريات وقمع الشعوب، طالما يحدث ذلك باسم فلسطين “بخلافنا نحن الذين نساوي بين القضيتين ونرفض اعتبار إحداها أرفع شأناً من الأخرى”، كما لا نرى في القمع تعبيداً لطريق القدس.
الخلاصة: استناداً إلى أولوياتهم تلك، التي يبدو أنهم متمسكون بها، لا يُنتظر من المكوّعين إلا وضع العصي في الدواليب، والترحّم عند أول مناسبة على “الأسدين” الأب والابن، وحتى التباكي على إهدار فرصة توريث سوريا للأسد الحفيد.
خير مثال على ما سبق، هو تعليق على منشور يعود للفنان سميح شقير، إذ كتب صاحبه (بما معناه): “لازم تغني يا حيف لما تشوف الإسرائيليين بدرعا”. كلمات ذُيلت بعبارات تقليدية من نوع أنه مع حرية الشعب السوري وضد القمع.
بعيداً عن مناهضة الشخص المذكور للثورة السورية منذ بدايتها، التدقيق في مضمون تعليقه يضعه حكماً في خانة المكوّعين. فأغنية “يا حيف” تحاكي بدايات الثورة السورية، بالتالي أداؤها بغرض مناهضة الاحتلال الإسرائيلي هو خارج السياق.
علاوة على ذلك، لسميح شقير أرشيف حافل بالأغاني التي تمجّد حركات المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، لماذا لم يطلب منه أداء إحداها بدلاً من يا حيف؟
لا أجد إلا تفسيراً واحداً: سميح شقير هو أحد الذين يجسّدون بشخصهم الترابط بين مقاومة الاحتلال الإسرائيلي والتصدي للاستبداد. ترابط لا قدرة للممانعين (مكوّعين كانوا أم لا) على استيعابه، بنظرهم هما “خطان متوازيان لا يلتقيان”.
درج
—————–
رحلة أحمد الشرع في قلب العاصفة السورية/ هاني عضاضة
02.01.2025
يخوض أحمد الشرع صراعاً على أكثر من مستوى، منها المستوى الداخلي، حيث لا يزال يتأرجح بين خيارات وأفكار متناقضة، بينما تتسع الهوة أكثر بين طموحاته السياسية والواقع المتأزم. ومع ذلك، فإنه يتسم بمرونة لم تكن متوقعة…
لم يعد ممكناً تجاهل التأثير المتزايد لأحمد الشرع المعروف سابقاً بأبو محمد الجولاني على المشهد السياسي السوري والإقليمي أيضاً. ولم يعد كافياً تناول شخصيته من زاوية الاستقطاب السياسي الثنائي على أساس الإنجازات التي حققها فقط أو التجاوزات التي تورط فيها فقط، بصفته قائداً لـ “جبهة النصرة” ثم “هيئة تحرير الشام”، قبل أن يصير قائداً للإدارة الانتقالية، فقد أصبح يمثل نموذجاً معقداً يجسد التحولات التي شهدتها سوريا منذ بداية الثورة التي انطلقت عام ٢٠١١.
ارتبط اسم الشرع عندما كان معروفاً بالجولاني بـ “تنظيم القاعدة” في العراق في إطار مقاومة الغزو الأميركي، حيث اعتُقل لمدة خمس سنوات بين السجون الأميركية والعراقية، ثم “جبهة النصرة” كفرع لـ “تنظيم القاعدة” في سوريا، ثم “هيئة تحرير الشام” بعد حل “جبهة النصرة” في مسعى للحصول على دعم محلي وشرعية دولية بعد أن وُضِعت الجبهة على قوائم الإرهاب الدولية.
الشرع هو أحد أكثر الشخصيات إثارة للجدل في زمن الثورة السورية، إن لم يكن أكثرها إثارة للجدل على الإطلاق. وقد كان تركيزه الأساسي خلال مرحلة الثورة على محاربة نظام الأسد والميليشيات الموالية لإيران، متبنياً خطاباً طائفياً عنوانه “الدفاع عن أهل السنّة”، قبل أن يتحول إلى خطاب أكثر وطنية بعد إسقاط بشار الأسد، يمكن تلخيصه بعنوان “وحدة الشعب السوري فوق كل اعتبار”. لكن الأسئلة تظل مفتوحة حول نواياه الحقيقية، وإذا ما كان هذا التحول في الخطاب ناتجاً عن قناعة حقيقية أم هي براغماتية من يسعى نحو السلطة…
وثبة منقوصة في غياب نقد ذاتي متكامل
باغت الشرع جميع من كانوا يخافون تمدد نفوذه، ويتوقعون منه ومن قادة الفصائل الحليفة لـ “هيئة تحرير الشام”، ارتكاب جرائم ضد الإنسانية على نطاق واسع، إثر تقدم “إدارة العمليات العسكرية” باتجاه دمشق، كما سبق أن فعلت “جبهة النصرة” بقيادته، ومعها فصائل إسلامية متشددة أخرى مثل “حركة نور الدين زنكي” و”حركة أحرار الشام الإسلامية”، حيث سُجلت بحقها تجاوزات وانتهاكات على أسس دينية وعمليات خطف، خاصة في فترة 2012-2016.
لكن تحول “هيئة تحرير الشام” من القتال إلى العملية السياسية بقيادة الشرع ساهم، بنسبة معينة، في كبح أعمال الانتقام من جهة، ومنع اشتعال الفتنة الطائفية من جهة أخرى، برغم وقوع بعض “جرائم الثأر” والتنكيل والسرقة في بعض المناطق، وأحياناً على يد أفراد من الهيئة خصوصاً في حمص ومناطق الساحل والمناطق الكردية. في الغالب، تميز مسلحو الهيئة خلال عملية إسقاط النظام بنسبة عالية من الانضباط خلافاً لجميع التوقعات. بعد إسقاط نظام الأسد، أشار الشرع إلى أنه “يجب التفكير بعقلية بناء الدولة وبناء مؤسساتها”، وأنه “لا ينبغي أن تكون عقلية الانتقام والثأر حاضرة لأنها مدمرة”. وأكد أيضاً أنه لن يتم العفو عن المتورطين بتعذيب المعتقلين في سجون نظام الأسد وقتلهم، وستتم ملاحقتهم، ووعد بتحقيق العدالة لكي ينعم جميع السوريين بالأمن والهدوء والاستقرار.
لكن برغم كل هذه التغيرات، يبرز السؤال: هل تصالح الشرع حقاً مع ذاته بشأن تجاوزات “جبهة النصرة”، ومن بعدها “هيئة تحرير الشام”، خصوصاً في مناطق حلب وإدلب؟ وذلك سواء من ناحية فرض بعض أحكام الشريعة الإسلامية بشكل تعسفي، أو من ناحية خطف المدنيين وتعذيبهم، من بينهم ناشطون معارضون للنظام السابق، خاصة في سجن العقاب في إدلب.
لم يعتذر الشرع عن هذه الممارسات، ولم يأمر بتبييض سجون إدلب من معتقلي الرأي. كما أن الحكومة الانتقالية التي عيّنها الشرع بدأت هي الأخرى بإصدار مواقف وقرارات وتعاميم مثيرة للجدل وخارج صلاحياتها الفعلية، مثل مواقفها من المرأة السورية ومشاركتها في الحياة العامة وصولاً إلى قرار تعديل المناهج الدراسية الذي اتسم بطابع “الأسلمة”، برغم نفي الشرع سابقاً نيته تحويل سوريا إلى نسخة عن أفغانستان.
لم يعلن الشرع القطيعة الكاملة مع ماضيه، ولم يمارس النقد الذاتي بشكل كامل (بعد – من دون القطع مع إمكان فعله ذلك في المستقبل) من جهة أن يكون صريحاً بشأن أخطائه وتجاربه من دون تبرير أو إنكار. لكن الأخطر أنه لم يعلن القطيعة بوضوح مع “الثقافة الأسدية”، برغم كل التطمينات ولغة التسامح والتطلع نحو المستقبل وبناء الدولة.
في حين أن ثقافة الاستبداد لا تزال تشكل مكوناً أساسياً من مكونات البناء الاجتماعي السوري، بعد 54 عاماً من القمع الممنهج وتقييد الحريات السياسية واستخدام القوة المفرطة بحق المعارضين، بخاصة وأن جزءاً من المجتمع السوري يتوق إلى الانتقام الجماعي من فلول الأسد، مستخدماً الأساليب الدموية نفسها التي مارسها النظام السابق ضده. والجهة الوحيدة التي تحول عائقاً حقيقياً دون ذلك حتى الآن، هي الإدارة الانتقالية بقيادة الشرع.
الثابت هو انتقال الشرع الفعلي من موقع “الإسلامي المتشدد” إلى موقع “الإسلامي الأقل تشدداً”، من دون المبالغة في وصفه بالاعتدال في بداية الطريق، حيث لا يزال يحتفظ بأفكار متشددة. ومع ذلك، أثبت أنه يتمتع بمرونة عقلية وقدرة على التكيف مع متطلبات الواقع
ظاهرة اجتماعية وليست تحولاً فردياً
لم يخلع الشرع عباءة السلفية الجهادية ليظهر ببدلة رسمية وربطة عنق، كما تفعل الحرباء عند تغيير لون جلدها. أساس العقدة التي لا يدركها كثيرون هو أن التطور في شخصية الشرع ليس نتاج جهدٍ شخصي بحت، ولا هو بخدعة سينمائية للاستحواذ على السلطة، برغم سعيه الفعلي للوصول إلى الرئاسة وهذا حقه الديمقراطي. بل هو نتاج تغيرات كبيرة طرأت على المجتمع السوري المعارض عموماً، خلال 14 عاماً من الثورة التي حملت بذور ثورة مضادة فيها، وذلك برغم تراجع التيارات اليسارية والليبرالية المعارضة والفصائل الإسلامية المعتدلة وصعود الفصائل الإسلامية المتطرفة منذ بداية الثورة. فالتاريخ لا يتوقف عن الحركة، سواء إلى الأمام أو الوراء، بمجرد تراجع جزء من القوى الفاعلة فيه. كما أنه ليس شرطاً أن تنحكِم حركة التاريخ بالتراجع لمجرد تفوق قوى دينية أو أصولية في مواجهة سياسية هنا أو عسكرية هناك. فكل تغير في أي خطاب أو ممارسة هو نتاج تداخل وتفاعل معقد ومستمر بين عدد كبير من الأسباب والنتائج، وعلى جميع مستويات الواقع.
إذاً، التحولات في شخصية الشرع، لا يمكن وضعها في إطار “الظاهرة الفردية”، برغم كل تجاربه الخاصة والتناقضات التي حكمت ربما مشاعره وأفكاره وسلوكياته منذ غزو الولايات المتحدة الأميركية للعراق عام 2003 حتى اليوم، بعد إسقاط نظام الأسد. بل هي تحولات لا يمكن فصلها عن سياق تاريخي اجتماعي، تفاعلت فيه العلاقات الاجتماعية على أكثر من مستوى، وتراكمت فيه الأحداث السياسية بأكثر من اتجاه، وتركزت فيه القوة العسكرية في أماكن وشهدت انحلالاً في أماكن أخرى. كما تلاقحت فيه الأفكار والأيديولوجيات في سياق جماعي، فأنتجت مولوداً ثقافياً لا يزال مكتوم الهوية، حيث لم يبلغ مرحلة النضج بعد، ولم تكتمل ملامحه، ولم يكوّن رؤية سياسية شاملة، ولم يقم أصحابه بمراجعة ذاتية شاملة للخروج باستنتاجات نهائية وتطوير خطة عملٍ واضحة.
هذا الأمر يمكن ملاحظته بشكل بديهي في مقابلات أحمد الشرع مع وسائل الإعلام، إذ يتفادى تقديم أجوبة حاسمة في عدد من القضايا الخلافية، بخاصة الثقافية منها، كمن يسير على حبلٍ مشدود ولا يزال عالقاً بين عالمين وزمنين مختلفين.
حيرة صادقة أم تحايل ماكر؟
يُظهر الشرع انزعاجاً واضحاً، مهما حاول إخفاءه، عندما يتم التطرق إلى تاريخه مع “تنظيم القاعدة” وأيام صعود “جبهة النصرة”. يمكن تفسير هذا الانزعاج بعدة طرق، والخروج بعدة استنتاجات، لكن الثابت هو انتقال الشرع الفعلي من موقع “الإسلامي المتشدد” إلى موقع “الإسلامي الأقل تشدداً”، من دون المبالغة في وصفه بالاعتدال في بداية الطريق، حيث لا يزال يحتفظ بأفكار متشددة. ومع ذلك، أثبت أنه يتمتع بمرونة عقلية وقدرة على التكيف مع متطلبات الواقع، لذا ليس بالضرورة أن تتحول الأفكار المتشددة التي يحتفظ بها إلى واقع يُفرض قسرياً على المجتمع السوري، وليس من الضروري أن يكون هذا التحول مدفوعاً فقط بالضرورات السياسية المرحلية، برغم أن هذا الاحتمال سيظل وارداً.
الأمر الأكثر لفتاً للنظر هو اختيار الشرع القصر الرئاسي لإجراء المقابلات الإعلامية والاجتماعات مع الوفود الدبلوماسية والسياسية، مما يدل على حسمه خيار الترشح إلى موقع رئاسة الجمهورية الذي أصبح شاغراً منذ 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024. واختيار هذا المكان بالذات يهدف إلى تعزيز صورته كقائد سياسي شرعي، على الرغم من عدم إيمانه بالديمقراطية طوال مسيرته السياسية والعسكرية.
فاعتقاد الشرع الراسخ دوماً هو أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع، برغم اختلافه في تفسيرها وتطبيقها مع مختلف التيارات الإسلامية الأصولية التي تتجه نحو “إصلاح المجتمع”، عبر الاقتصاص منه وتطبيق الحدود على الأفراد فيه من دون أي تسامح أو رحمة. حتى في إعلانه فك الارتباط مع تنظيم القاعدة عام 2016، أشار إلى خمسة أهداف من بينها “العمل على إقامة دين الله وتحكيم شرعه وتحقيق العدل بين كل الناس”.
كان الشرع ولا يزال يعتقد أن الحكم الإسلامي يوحد جميع الناس، لكنه يختلف مع باقي التنظيمات الأصولية حول أولويات التحكيم بالشريعة. فهو يعتقد أن الأولوية هي لتحقيق العدالة وحماية الحقوق وتأمين الحياة الكريمة لعامة الناس، وليس للعقاب بأساليب مثل الرجم والجلد وقطع اليد أو الرأس. ومع ذلك، لا يرفض تطبيق هذه الحدود بوضوح، كما أنه لا يضع حداً فاصلاً بين حق جميع أفراد المجتمع في المشاركة في الحياة السياسية من جهة، وفرض الحكم الديني الذي يعتمد على الفقهاء في تفسير الشريعة وتطبيقها، مما يستبعد مشاركة المجتمع في العملية السياسية بشكل تدريجي من جهة أخرى. وفي هذا الأمر تناقض حساس في زمن تسود فيه مبادئ حرية التعبير، وحقوق الإنسان، والمساواة، وتداول السلطة، مما يمكن أن يهدّد مسعى الشرع في الوصول إلى الرئاسة، أو قدرته على الحفاظ عليها دون اللجوء إلى الاستبداد بعد وصوله إليها.
لم يأتِ الشرع على ذكر الديمقراطية في أي من مقابلاته أو خطاباته، برغم تركيزه على بعض جوانب الحكم الديمقراطي. لكنه لا يوضح موقفه تماماً في ما يتعلق بحقوق الإنسان، والتعددية السياسية والحزبية على أساس حرية الفكر، وليس الانتماء الطائفي أو العرقي، إضافة إلى حرية الصحافة، برغم تعهد وزير الإعلام في الحكومة الانتقالية محمد العمر، في تصريح لوكالة “فرانس برس” بضمان حرية التعبير وتعزيز حرية الصحافة.
إلى جانب ذلك، تأتي التعيينات الاستنسابية التي يجريها الشرع في مراكز أمنية حساسة بحجة ضرورة أن تكون الإدارة متجانسة، من دون تمييز بين ما هو سياسي وما هو أمني برغم التداخل بين المستويين، مما يشير إلى نيته بناء “شبكات ولاء” مكونة من أشخاص مقربين، مثل قتيبة أحمد بدوي شقيق الزوجة الثالثة للشرع وأمير “هيئة تحرير الشام” في إدلب سابقاً في الإدارة العامة للجمارك، وأنس حسن خطاب أحد مؤسسي “جبهة النصرة” في رئاسة جهاز المخابرات العامة. إضافة إلى تعيين شخصيات مقربة مثل أحمد شامية وعزام الغريب وأحمد عيسى الشيخ وعامر الشيخ وحسن صوفان وغيرهم، كمحافظين أو نواب لمحافظين في المدن الأكثر أهمية اقتصادياً وديموغرافياً، واللائحة تطول.
طموحات سلطوية وواقع متأزم
بلا شك، الشرع في الواقع في موقف لا يحسد عليه، فطموحاته تواجه تحديات جمة، داخلية وخارجية. داخلياً، أول التحديات هي مدى قبول شخصه من قبل شرائح واسعة من المجتمع السوري، التي لا تزال تنظر إليه كسليل الإسلام الأصولي. ثم تلك المرتبطة في مجال الحكم والإدارة، سواء من ناحية توحيد كامل الجغرافيا السورية وتوفير الاستقرار السياسي في بلد ممزق من أقصاه إلى أقصاه، وفي ظل وجود تهديدات أمنية مختلفة، أو من ناحية ترميم الاقتصاد وإعادة ملايين اللاجئين وتحسين الظروف المعيشية للسوريين الذين يطال الفقر 69 في المئة منهم، في حين يرزح 27 في المئة منهم تحت خط الفقر المدقع بحسب بيان للبنك الدولي في أيار/ مايو 2024، أو من ناحية معالجة الفساد حيث احتلت الدولة السورية تحت حكم الأسد عام 2023 المرتبة 178 من أصل 180 دولة في مؤشر مدركات الفساد، أي المرتبة الثالثة من بين أكثر الدول فساداً في العالم بعد كل من الصومال وجنوب السودان، وذلك بشكل رئيسي بسبب تحول سوريا إلى مصنعٍ ضخم للمخدرات.
أما التحديات الخارجية فهي لا تقل خطورة، حيث تلعب القوى الأجنبية المتواجدة على الأرض السورية، أي الولايات المتحدة وروسيا وتركيا وإيران، أدواراً تسهم في زعزعة الاستقرار الأمني وعرقلة المساعي السياسية لإعادة توحيد البلاد، إضافة إلى التواجد العسكري المباشر لها عبر عشرات القواعد العسكرية (روسيا: 21 قاعدة لا يزال وجودها قيد البحث بين الحكومة السورية المؤقتة والسلطات الروسية. الولايات المتحدة الأميركية: 17 قاعدة والعدد في تزايد. تركيا: 12 قاعدة والعدد أيضاً في تزايد. أما إيران فكانت تملك 52 قاعدة، لكنها خسرتها بعد سقوط نظام الأسد). في حين تتوغّل قوات الاحتلال الإسرائيلي في مناطق محافظة القنيطرة، ومحيط جبل حرمون (جبل الشيخ) في ريف دمشق الغربي، وعدد من بلدات ريف درعا الغربي، حيث تواجه احتجاجات شعبية. كما يحشد الجيش التركي قواته على الحدود الشمالية لسوريا مهدداً باجتياح مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، مما يؤدي إلى إسقاط المزيد من الأراضي السورية تحت السيطرة التركية.
نفذ الشرع المطالب الأميركية بعدم التعرض للأقليات منذ بداية عملية “ردع العدوان” في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، مما أدى إلى إلغاء المكافأة المعروضة مقابل الإدلاء بمعلومات عنه والبالغة 10 ملايين دولار. وعلى الرغم من تاريخه وخلفيته، يبدو موقف الشرع إيجابياً تجاه الولايات المتحدة حتى الآن، بل حتى إنه يبلغ درجة المحاباة، فمطالبه تتخطى مجرد إلغاء المكافأة لرأسه، ويريد إزالة “هيئة تحرير الشام” من قوائم الإرهاب، ورفع العقوبات الأميركية والدولية عن سوريا. هذا الموقف يمكن أن يكون حجر أساس لإعادة تكوين العلاقة بين الحكومة المؤقتة في دمشق وقوات سوريا الديمقراطية التي تحظى بغطاء ودعم أميركي كامل، برغم الأعمال العدوانية التركية. لكنه في الوقت نفسه يمكن أن يشكل حجر عثرة في وجه مساعي التوحيد بين دمشق والجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا، الأمر الذي يضع السلطات الحالية في دمشق أمام معضلة لا حلّ لها في المدى المنظور سوى بتنازل تركي.
لكن تواجد الولايات المتحدة الأميركية في أماكن سيطرة “قسد” في شمال شرق سوريا لا تقتصر على مكافحة تنظيم “داعش”، فتلك المناطق، وبالأخص في محافظتي دير الزور والحسكة، تحوي الجزء الأكبر من الثروات النفطية السورية. الهدف الأساسي من التواجد الأميركي هو السيطرة على النفط، كما أن لكل قوة أجنبية أخرى في الأراضي السورية هدفاً استراتيجياً من تواجدها. لذا، فإن هناك واقعاً مريراً وأثماناً يجب على الشرع أن يدفعها حتى يتمكن من الوصول بسوريا الجديدة إلى بر الأمان، من دون يخضع لشروط مذلة وقاهرة من جهة، أو يسقط في فخ الحرب مع أي من تلك القوى، بعد أن تعرضت سوريا للإنهاك على كافة المستويات طوال 14 عاماً من الثورة والحرب من جهة أخرى.
شخصية معقدة تواجه معضلات أكثر تعقيداً
يبدو الشرع هادئاً، وتبدو أفكاره متماسكة في جميع مقابلاته ولقاءاته، لكن لغة جسده في بعض الأحيان، تكشف عن ارتباك واضح ووعي بثقلٍ أصبح يدرك أنه يحمله على كتفيه. كما أنه يتجنب الخوض في قضايا الحريات العامة والخاصة، فعندما يُسأل عنها، يفضل دائماً القول إن “هناك قضايا أهم للسوريين في الوقت الحالي”. ومع ذلك، يبدو أنه يدرك جوهر تلك القضايا، برغم تحفظه عليها وتناوله لها من وجهة نظرٍ محافظة كانت أكثر تشدداً في السابق.
في المحصلة، يخوض الشرع صراعاً على أكثر من مستوى، منها المستوى الداخلي، حيث لا يزال يتأرجح بين خيارات وأفكار متناقضة، بينما تتسع الهوة أكثر بين طموحاته السياسية والواقع المتأزم. ومع ذلك، فإنه يتسم بمرونة لم تكن متوقعة، ويفكر في حل المشكلات بواقعية بدل تعقيدها، وبكيفية بناء التوافق بين مكونات المجتمع السوري، ولو بلغةٍ تتعامل مع المسألة وكأنها قضية تحاصص من موقع فكرٍ طائفي، وهذه إشكالية خطرة بحد ذاتها وسيكون لها تبعاتها في المستقبل على الاجتماع السوري. أما استراتيجياً، فقد أثبت تفوقه خاصة من حيث قدرته على استغلال الظروف وتحديد الأهداف بدقة. لكنه في الوقت نفسه، يدل بعد تعيين العديد من الأشخاص المقربين له في مناصب حساسة، محاولاً خلق ولاءات خاصة، على أنه يمتلك أيضاً صفات التلاعب والمكر السياسي، وأن إيلاء الشعب السوري الثقة الكاملة له من دون مساءلة، أو اعتباره “قائداً لا يمكن الاستغناء عنه”، يمثل مخاطرة بمستقبل البلاد.
درج
——————————-
ما تم اكتشافه بعد سقوط النظام السوري!/ محمد الرميحي
تحديث 04 كانون الثاني 2025
لقد عانى الإقليم منذ عقود من الأزمات السياسية؛ وتسيّدت قوى ما دون الدولة على الدولة، واستغلّت قضية فلسطين استغلالاً سلبياً لتمرير هذا التغوُّل على الدولة، الذي أدّى إلى اضطراب هائل ببنية الدولة، وفي العلاقات العربية خاصة، وفي خطط التنمية التي تتوق إليها المجتمعات العربية.
انتشر السوريون في كل مكان في الجوار، المعروف أنهم في تركيا ولبنان؛ حيث بقي كثير منهم كمجموعات على الحدود أو قريباً منها، أما الدول العربية فقد احتضنت السوريين في نسيجها الاجتماعي، في مصر والسعودية ودول الخليج والمغرب، في هذه الدول وجدوا الملاذ الآمن، والعيش الشريف.
وعلى الرغم مما تكشّف من طغيان للنظام السوري السابق ضد مواطنيه، الذي كان بعضه معروفاً للعالم، مثل استخدام الكيماوي، وأيضاً البراميل المتفجرة، فإن ما تبيّن لاحقاً، وقد شهده العالم على قناتي «العربية» و«الحدث» أكثر من مرة، هو الكم الهائل من أنواع المخدرات التي كانت تُصنع وتُجهز في عقر معسكر الفرقة الرابعة، وتُصدر إلى الخارج والجوار، الفرقة التي كان يقودها ماهر الأسد. هذا الكم من المخدرات، وأساسها الكبتاغون والحشيش، كان المصدر الأساسي لتمويل كل الأذرع، فيما عرف بـ«المقاومة». أهمية هذا الاكتشاف تعني عكس ما كان سائداً للكثرة في السابق، والقائل: «إن إيران صرفت البلايين من أجل تقويم أذرعها في المنطقة على حساب شعبها!». واضح مما ظهر من كم هائل من المخدرات وتجارتها، أنها لم تصرف على كل تلك المجموعات، التي روّج لها حسن نصر الله في خطاب مشهور في 17 نوفمبر (تشرين الثاني) 2017؛ حيث قال: «إن سلاح (حزب الله) ومعاشاته وشربه يأتي من الجمهورية الإسلامية»، وقد رُدد ذلك الخطاب، حتى غدا ما جاء فيه كلاماً نهائياً غير قابل للتساؤل.
تبيّن الآن أن معظم التمويل جاء من صناعة وتجارة المخدرات، التي تدر بلايين الدولارات، وتُصرف على تلك المكونات التي خرّبت الأوطان، ونشرت الكراهية في صفوف المواطنين، وفي النهاية كما يرى الجميع لم تُحرر شبراً واحداً من فلسطين، بل ساعدت في قتل الفلسطينيين في بعض مخيماتهم. اكتشاف هذه الخدعة له أهمية في هذا الظرف، ليعرف الجمهور إن كان هناك مشروع آخذ في التوسع لا غير.
على مقلب آخر، فإن ما اكتشف جراء سقوط النظام، أن جيلاً سوريّاً قد نشأ في الشتات، بل إن عدداً من السوريين قد وجدوا لهم ملجأ آمناً في مناطق نزوحهم الخارجية، وبنوا على أثره حياتهم العملية والثقافية، ومن بقي في الداخل أصابه «سندروم» (الخوف الشديد)، فقد كانت الحيطان في (سوريا الأسد التي سمّاها سوريا المفيدة) لها آذان، وشجع الناس على أن يصبح الابن واشياً على أبيه، لا لأنه يريد ذلك، بل لأنه مجبر؛ وتحت التهديد في نظام ظلامي وفاسد، وأصبحت الوشاية صناعة منظمة.
هنا سوف نجد في سوريا الجديدة شعبين؛ الخائف، والآخر الراجي، الذي يريد التغيير بالسرعة القصوى، على الأقل ليرى شيئاً قريباً مما تعوّد عليه في بلاد الشتات. تقريب النصفين إلى بعضهما يحتاج أولاً إلى فهم الدافع النفسي لما سوف يطرح من مطالب، وثانياً إلى وعي بهذا الانقسام المفروض بسبب الظروف. تجاوز ذاك الشق، أو اعتبار أنه غير موجود، سوف يعرض قيام دولة مدنية على أسس قانونية إلى مخاطر.
على الرغم مما عاناه الشعب السوري بمكوناته المختلفة، وهي كانت معاناة هائلة، فإن ما ينتظره لبناء دولة حديثة، هو الأكثر صعوبة، ربما الفرق بين تجربة العراق وسوريا، أن الأخيرة قد مدّ لها العرب أيديهم في وقت قياسي، فقد قام مجلس التعاون بزيارة قادها وزير خارجية الكويت -رئيسة الدورة الحالية- مع الأمين العام للمجلس، من أجل إيصال رسالة واضحة للنظام الجديد، ثم تبعتها أول زيارة خارجية لوزير الخارجية السوري في النظام الجديد إلى المملكة العربية السعودية، والأخيرة هي عمود الخيمة العربية، ونشاطها الضخم في السنوات الأخيرة على الساحتين العربية والدولية، يمكن أن يكون رافعة ومساعدة لتجاوز العقبات المتوقعة بتعاون صادق من النظام الجديد.
آخر الكلام: يُعرض الحوثي في اليمن الدولة والشعب اليمني لمخاطر، ويعيد تجربة فشلت، فكل جهده لن يقود إلا إلى إفقار الشعب اليمني، وتحطيم ما تبقَّى من بنيته التحتية.
الشرق الأوسط
————————-
بشار في دور إسكوبار/ عبد الرحمن الراشد
3 يناير 2025 م
عندمَا خسر بشارُ الأسد مناطقَ البترول شرقَ سوريا وصارتْ معظمُها تحت سيطرة «قسد»، لجأ إلى إيرانَ للحصولِ على البترول ومشتقاتِه لتمكينِ قواتِه من القتال وعدمِ توقف خدمات المناطقِ تحتَ سلطته. استمر اقتصادُه الضعيفُ في الانهيار، والحكومة في حالةِ إفلاس بعد أن باتَ في حربٍ وبلا مداخيل. اعتمد على المخدِّراتِ والإرهاب، وصارَا أهمَ بضاعتين يصدِّرُهما النظامُ السابق. قد يعتقد البعض أنَّها مبالغةٌ ودعايةٌ ضد نظام سقطَ لا يستطيع الدفاعَ عن نفسه، لكنَّه نفسَه لم يكن يخفي ذلك، وكانَ يساوم عليهما في ترتيبِ علاقاتِه الإقليمية والدولية. لم يصل أيُّ سفيرٍ سعودي إلى دمشقَ رغم الاتفاق منذ مايو (أيار) 2023، واقتصر التمثيلُ الدبلوماسي على العملِ من فندق «الفورسيزونز»، ولم ترسلِ السعودية سفيرَها إلا بعد دخولِ الشرع وقواتِه. تباطأتِ العلاقات حيث لم يفِ النّظام بوعوده، ولم تتوقف عملياتُ تهريب الكبتاغون. الأسدُ كعادته كانَ يماطلُ في تحقيق المصالحةِ الموعودة، وكانَ يتوقّع تعويضاتٍ ماليةً بمليارات الدولارات مقابل إيقاف عمليات التهريب. الأمر لم يَرُقْ للرّياض، إضافةً إلى أنَّ مبدأ مكافأة تجار المخدرات لوقفها كانَ سيشجّع على الابتزاز. كانَ الأسد يقوم بدور إسكوبار، تاجرِ المخدرات الكولومبي الشهير، ويحصد من مبيعاتِ الكبتاغون – وفقَ تقديرات غربية – أكثرَ من 5 مليارات دولار سنوياً، وهذا أكثرُ من مداخيلِه من النّفط التي كانَ يحقّقها قبلَ الحرب! التقيتُ الرّئيسَ المخلوعَ على الأقل خمس مرات في جلسات مباشرة، وتحدّثنا لساعات طويلة، مع ذلك لا أستطيعُ أن أدَّعيَ أنّني أعرفه، وقد نشرتُ معظم ما دارَ في تلك اللقاءات في صحيفة «الشرق الأوسط» حينَها. توقّفت عنها بعد عمليات الاغتيال في لبنان، ووُضعت على قائمةِ الممنوعين من دخول لبنان. ثم التقيتُه قبيل الثورة عليه، في جلسةٍ جماعية، وكانَ يبدو مطمئنّاً واثقاً أنَّه في مأمن. على أية حال، رغم ما استجد من المعلومات المروعة بعد سقوطه لتضاف إلى ما كنَّا نعرفه من قبل عن نظامه المرعب، فإنَّه على المستوى الشخصي في لقاءاته كان دائماً يبدو مهذباً، يسمعُ ويجيب، ومراتٍ قليلة خرج عن طوره. كانت تلك شخصيتَه أمام كل ضيوفه. وهذا ما جعل كثيرين محتارين في فهمه ومعرفة حقيقته! هل هناكَ جماعة شريرةٌ خلف ما كان يحدث في سوريا ولبنان؟ هل كانَ أخوه ماهر، أو ضابطُه علي مملوك، أو زوجتُه أسماء، أو الإيرانيُّ قاسم سليماني؟ الحقيقة هي أنه هو مَن كان خلفَها ومَن يديرها، وليس ما كانَ يوحي به. كانَ يعوّض فشله في إدارة الدولة باستخدام القوة. زادت البلاد الفقيرةُ فقراً، ولم يكن اللومُ – كما كان يدَّعي – أنه نتيجة عقوبات الدول المعادية. الحقيقة أنَّ بشار حصل على ترحيب كبير إقليمياً ودولياً بعد توليه السُّلطة. كانَ هناك أملٌ يرجَى في الخروج من ترِكة حافظ الأسد، وقيادة سوريا نحو الانفتاح والتحديث، لكنَّه لم يفعل سوى زيادةِ السّجون، وفاقَ والدَه في عدد الاغتيالات والتفجيرات واستضافة التنظيمات الإرهابية! لهذا، لم تكنِ الثورة السورية على بشار مفاجئة، مع أنَّها اندلعت بعد ثلاثة أشهر من أحداث تونس. الأسد الذي فشل اقتصادياً لجأ للمتاجرة بالمخدرات، واستضافة الجماعات المسلحة خلال حرب العراق ضمن صفقة مع إيران، وكرَّرها لاحقاً خلال حربه في العقد الماضي. ولا أتذكر أنَّه تحدَّث عن التَّنمية والتحديث الاقتصادي وتحسينِ معيشة مواطنيه قبل الثورة. تحتاج سوريا اليوم وحكامُها الجدد إلى التَّأملِ في قراءة تاريخ نظام الأسدين. ليس غريباً أن يسقطَ نظامٌ بعد أن أصبح فيه العسكري الذي يحرسه، وأستاذُ الجامعة الذي يمثل نخبةَ المجتمع، دخلهما نحو عشرين دولاراً في الشهر. الدَّرس البليغ أنَّ مخاطر الفشل الاقتصادي أعظمُ من الفشل الأمني. ففشل الاقتصاد سبقَ بسنوات الحرب، وقبل عقوبات «قيصر»، وتجميد أصول الدولة في الخارج، وانهيار العملة. كانَ نتيجة سوء إدارة بشار، والفساد المنتشر، والحوكمة الضعيفة، واعتماد النظام على الاقتصاد الرَّمادي من مخدراتٍ وحروب خارجية. السوريون، حتى بعد محنتهم الشديدة في البلدان التي لجأوا إليها، حقَّقوا نجاحات في كلّ ميدانٍ دخلوه. واليوم تلوح فرصة عظيمةٌ تنتظر من حكومة أحمد الشرع أولاً جمعَ كلّ السوريين بمكوناتِهم وتنوعهم ليصبحوا جزءاً من الدّولة، والانفتاح على العالم ليستثمر فيها.
الشرق الأوسط
———————————
حضور تركيا في سوريا وتغيير موازين القوى الإقليمية/ حلمي موسى
3/1/2025
ما إن سقط النظام السوري حتى أدركت إسرائيل أن فرصة ذهبية توفرت لها لإعادة تشكيل محيطها، خصوصا أن هذا السقوط عنى أيضا انهيارا لـ”محور الشر” ولنظرية “طوق النار” الإيراني.
ولكن ما لم تكن مستعدة له هو احتمالات أن تحل مكان هذا المحور قوة جديدة تملك مطامح وأهدافا لا تقل خطورة عما كان وربما أكبر. والأمر يتعلق بتركيا القوية الطامحة إلى إعادة تشكيل الشرق العربي بشكل يضمن لها فيه موقع ريادة حتى في مواجهة إسرائيل.
وسرعان ما بدأت التحليلات في إسرائيل تتطرق إلى ما بات ينظر إليه كخطر جديد يتمثل في كون تركيا أو نفوذها صار على خط الحدود.
وزاد في الطين بلة من وجهة نظر إسرائيل التقارب الجاري -وبقوة- بين تركيا وكل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية خصوصا بعد اتفاق السعودية شراء 100 طائرة تركية حديثة من طراز قآن.
وتخشى إسرائيل أكثر من أي شيء تبلور محور “سني” يحل بديلا عن المحور الشيعي، ويقف في مواجهتها.
الاستثمار بسوريا
وكانت “معاريف” نشرت أن “سقوط نظام بشار الأسد في سوريا يوشك على تغيير خريطة موازين القوى في الشرق الأوسط – في ظل دخول متجدد لتركيا كقوة عظمى إقليمية، الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى مواجهة مباشرة مع إسرائيل”.
ولاحظت الصحيفة أن تركيا استثمرت منذ عام 2011 في سوريا موارد عسكرية واقتصادية كبيرة ليس فقط لضرب المشروع الكردي وإنما أيضا ضمن تطلعات لاستعادة مكانة عثمانية.
ولاحظ الدكتور حاي إيتان ينروجيك، الخبير في الشؤون التركية في مركز موشي ديان في جامعة تل أبيب، أن الأتراك “بعد أن نجحوا، بخطوة سريعة في دحر إيران وروسيا من سوريا، يسعون لأن يملؤوا الفراغ الناشئ”.
وفي نظره لا يقتصر السعي على الشمال السوري وإنما يتجه أيضا نحو الجنوب، ومن مراقبة المواقف التركية ترى إسرائيل مخططات أنقرة لإعادة شق خط الحديد الحجازي، إسطنبول دمشق، وشق طريق سريع بين تركيا وسوريا.
فضلا عن إقامة مطارات وموانئ تركية في سوريا. كما تخشى إسرائيل كذلك ضم أجزاء من سوريا مما يقلص المياه الاقتصادية القبرصية، ويمنع تمديد أنابيب الغاز التي تربط إسرائيل – قبرص – اليونان.
وقبل نشر الأنباء عن تطورات العلاقة بين تركيا وكل من السعودية ودولة الإمارات كانت إسرائيل، كما يقول ينروجيك، تتخيل نشوء تحالفين مركزيين في المنطقة: التحالف الإسرائيلي، ويتشكل من قبرص واليونان وإلى جانبهما الأردن، ودولة الامارات وفي الخلفية العربية السعودية.
وفي المقابل تحالف تركيا، مع سوريا، لبنان وليبيا”. وفي هذا السياق لا يمكن تجاهل التحسن الكبير في العلاقات التركية المصرية والتي تفتح الباب واسعا أمام تبلور قوة إقليمية مهمة في مواجهة إسرائيل.
تركيا والسعودية
وجاءت أنباء الاتفاق التركي السعودي على صفقة شراء 100 طائرة شبح تركية مشابهة لـ”إف35″ الأميركية والتي تبلغ قيمتها مليارات الدولارات لتهز المفاهيم الإسرائيلية عن شدة التنافر بين الدولتين.
ورغم أن الصفقة في أحد معانيها تعني نية السعودية تقليص اعتمادها على أميركا، فإنها بمعانيها الأخرى توفر دعما قويا ليس فقط للاقتصاد التركي وإنما أيضا لمكانة تركيا الإقليمية.
ومن الجائز أن هذه الصفقة تنبئ عن تحالف تركي سعودي لتوجيه مستقبل سوريا بما يعزز مكانتهما ويبعدهما عن دائرة الصدام. وليس مستبعدا أن يقود الأمر إلى توسيع هذا التحالف للتأثير أيضا في مستقبل كلٍّ من العراق ولبنان.
ويحذر الخبير الإسرائيلي ينروجيك، من واقع “أن اللاعب التركي لاعب عدائي تمامًا تجاهنا. في الوقت الحالي، لا أعتقد أن لديهم القدرة على التأثير على عملية صنع القرار في المملكة العربية السعودية. ورغم ذلك يمكن القول إنه اتجاه غير سعيد لدولة إسرائيل، ففي نهاية المطاف نرى السعودية كلاعب أكثر اعتدالًا، فيما نرى تركيا تسير فعليًا في الاتجاه المعاكس”.
ويرى أن “تركيا حاليا تتبنى سياسة خارجية عدوانية للغاية هنا فيما يتعلق بمبيعات الأسلحة. فهم يمتلكون صناعة عسكرية راقية توفر لهم مصدر دخل، وهم يعرفون كيفية تقديم خدمة هنا، تتم مقارنتها بمنتجات الولايات المتحدة أو مقدمي خدمات آخرين بينهم إسرائيل، على سبيل المثال، فتبدو أرخص بكثير”.
“أردوغانستان”
ومن جهة أخرى، يرى العميد احتياط عميت ياغور في مقالة نشرها أيضا في “معاريف” بعنوان “الخطر الذي لا يتحدثون عنه: أردوغان يقرب حدوده من إسرئيل”، أن على إسرائيل أن تعلم أن “أردوغانستان” تنشأ في سوريا بدعم تركي قطري وأن تركيا تنشئ نظاما جديدا في الشرق الأوسط.
وكتب أنه “بصمت نسبي في قنوات الأخبار في إسرائيل ينشأ هذه الأيام سياق إستراتيجي بالغ الأهمية – تركيا (وقطر) تسيطر على سوريا، وقد شرعت ببلورة النظام الإقليمي الجديد. معنى ذلك – أمام أنظارنا نموذج الإمبريالية العثمانية على نمط أردوغانستان -أي- منطقة حركة ونفوذ لمحور الإخوان المسلمين السني المتطرف”.
وأضاف أن هذا المحور “يحل عمليا مكان محور المقاومة الشيعي الذي انهار بإخراج سوريا من المعادلة”. وفي نظره “في النهاية، كل فراغ مصيره أن يملأ، وفعلا بدأ أردوغان بملئه بسلسلة خطوات سريعة. ووسيلته هي سوريا الجديدة”.
وتطرق ياغور إلى سلسلة تصريحات أطلقها مسؤولون أتراك، بينهم أردوغان نفسه، تتحدث عن سوريا وكأنها ولاية في تركيا الكبرى وإلى اهتمام تركيا بالقضايا الداخلية السورية خصوصا المسألة الكردية.
وأشار على وجه الخصوص إلى تصريح وزير المواصلات التركي بشأن البدء بمفاوضات مع سوريا حول ترسيم الحدود البحرية “ما يسمح للبلدين بزيادة مناطقهما الاقتصادية البحرية للتفتيش عن مصادر الطاقة”، وكذلك حديثه عن التعاون في مجال توسيع البنى التحتية للموانئ على البحر المتوسط.
وربط هذه التصريحات بالاتفاق التركي الليبي عام 2019 لرسم الحدود البحرية بين البلدين عبر تجاهل اليونان وما تبعه من إرسال تركيا سفن تنقيب عن الغاز مصحوبة بسفن حربية. وأشار إلى أن تركيا حاولت أيضا الحصول على موطئ قدم بحري في لبنان لهذه الغاية.
هيمنة إقليمية
ومن الملاحظ أن صراعا سافرا أحيانا ومستترا أحيانا أخرى قائمٌ بين إسرائيل وتركيا على أرضية تنافس بينهما على هيمنة إقليمية. ويجد هذا الصراع أحد تجلياته في العلاقة الإسرائيلية اليونانية في مقابل العلاقات التركية العربية.
ويدور جزء من هذا الصراع أساسا حول البحر والتنقيب عن النفط والغاز فيه وأحيانا حول مشاريع مد خطوط غاز أو كهرباء في البحر. وطبعا توجد قبرص والموقف منها في قلب هذا الصراع.
وقد طوّرت إسرائيل من علاقاتها العسكرية والتعاون في مجالات الطاقة (الغاز) مع اليونان وقبرص اليونانية حيث باعت اليونان منظومات دفاع جوي وزادت من تدريباتها الجوية معها. وبالتعاون مع إسرائيل قررت اليونان إنشاء منظومة دفاع جوي ضد المسيّرات والصواريخ فضلا عن مشروع كامل لتحديث قواتها البرية.
وزادت إسرائيل مؤخرا من مساعيها لتكثيف التعاون مع اليونان في مجال الطاقة ومنشآت الغاز على أمل أن تغدو مصدرا أساسيا للغاز إلى أوروبا عبر اليونان وقبرص.
وفي هذا السياق أعلن وزير الطاقة الإسرائيلي، إيلي كوهين، أن “الطاقة الإسرائيلية باتت مصدر قوة سياسية. وقد وصلت لليونان لتعزيز العلاقات بين الدولتين في مجالات الطاقة عموما، والغاز خصوصا، الذي يعتبر ذخرا إستراتيجيا لدولة إسرائيل”.
وأكد كوهين أن “هذه العلاقات تعزز مكانتنا كقوة طاقة عظمى إقليمية، ما يخدم الاقتصاد الإسرائيلي ويعزز الاستقرار والازدهار في الشرق الأوسط”.
مثير للاستفزاز
ولكن ما يثير استفزاز تركيا من إسرائيل أكثر من أي شيء آخر على الصعيد اليوناني هو ما عبر عنه أيضا وزير الطاقة الإسرائيلي عندما قال: “إن اتفاق توسيع التعاون مع اليونان يمتلك أهمية إستراتيجية للدولتين. فقد اتفقنا على تسريع إنشاء الكابل الكهربائي التحت مائي الذي سيربط آسيا بأوروبا عن طريق دول الخليج، إسرائيل واليونان”.
ورأى كوهين أن “مثل هذا التعاون سينوع مصادر الطاقة في أوروبا، وسيسهم في استقرار وازدهار الشرق الأوسط، وسيزيد أمن الطاقة عندنا، ويحول إسرائيل إلى جسر بين الشرق والغرب ويعزز مكانتنا كقوة عظمى إقليمية في مجال الطاقة”.
فالدور الذي تتطلع له إسرائيل على هذا الصعيد ينظر إليه في تركيا على أنه سرقة للدور وللمكانة التركية. فتركيا هي الدولة الوحيدة القائمة على أرض كل من آسيا وأوروبا وهي الأقرب بريا إلى مصادر الطاقة العربية ويمكنها من دون جهد كبير أن تكون الجسر المتين والأوفر بين آسيا وأوروبا.
ولذلك فإن تركيا، وبعد تعاظم نفوذها في سوريا وإصلاح علاقاتها مع السعودية ودول الخليج العربية الأخرى، ترى أن هذا الدور من حقها الحصري وهي لن تتخلى عنه لإسرائيل.
وهنا ثمة أهمية للعودة مباشرة إلى الأنباء الأخرى حول الدور التركي في مواجهة إسرائيل في سوريا. فعدا عن الإدانة التركية لاعتداءات واحتلالات إسرائيل لمناطق ومواقع سورية ومطالبة الأمم المتحدة بالعمل على إخراج إسرائيل وإلزامها باحترام السيادة السورية، طلبت منها إشعارها بأي هجمات قد تخلق صداما مع قواتها.
ويذكّر هذا بالطلب الروسي من إسرائيل حين أنشأت روسيا قواعد عسكرية في سوريا عام 2015 وتدخلت قواتها لدعم النظام.
ويشير هذا الطلب إلى أن تركيا تحل مكان روسيا كلاعب فائق الأهمية في الحلبة السورية وإلى رغبتها في نيل الاعتراف بذلك، كما يعكس التغييرات في توازن القوى الإقليمي.
تسهيلات تركية
على كل الأحوال فالمؤسسة العسكرية الإسرائيلية تتابع التطورات في سوريا بقلق وهي لا تثق بإدارة الجولاني للحكم هناك وتعتقد أن تركيا بعلاقاتها الدولية سهّلت لهذه الإدارة تسلم مقاليد الحكم.
ويقول رجال المؤسسة العسكرية بإسرائيل إن تركيا دولة ذات تطلعات إقليمية، وإنها باتت “تعنينا جدا في هذه اللحظة”. ويضيفون: “هذه دولة مع سكان يبلغ عددهم 84 مليون نسمة، الاقتصاد رقم 17 في العالم، مع قوة إنتاج ناجعة على نحو خاص”.
كما يؤكدون أن لدى تركيا “قوة بحرية عسكرية كبيرة ومهمة، سلاح جوها مثل سلاحنا (إسرائيل) في العدد، وإن لم يكن مثله في النوعية، ولديهم أيضا قوة برية مهمة وقوية”.
المصدر : الجزيرة
——————————
تحديات روسيا “السورية”/ رفيق خوري
هل يساعد أردوغان صديقه بوتين أم يعود للدفاع عن الدور الأطلسي لتركيا؟
السبت 4 يناير 2025
سقوط النظام السوري أخرج إيران من دون دور روسي ويكاد يخرج موسكو، لا بل إن الاتحاد الأوروبي يصر على إخراج روسيا من سوريا كشرط لإعادة الإعمار وتقديم المساعدات وشطب “هيئة تحرير الشام” من لائحة المنظمات الإرهابية
روسيا “السورية” في مأزق الحفاظ على الموقع والدور، ولو جرى ترتيب لمسألة القاعدتين الجوية والبحرية في سوريا.
ومن السهل على الرئيس فلاديمير بوتين القول إن “روسيا لم تخسر في سوريا، وهي حققت أهدافها”، لكن من الصعب تجاهل الوقائع، بصرف النظر عن التوقعات في المستقبل، فالنظام الذي أنقذه بوتين بعملية عسكرية كبيرة عام 2015 سقط، ورئيسه هرب إلى موسكو تاركاً كل شيء ينهار بعده، إلى جانب خروج إيران خاسرة وروسيا في ورطة. وهو، في الأساس، لم يقدم على العملية العسكرية إلا بعدما تراجع الرئيس باراك أوباما عن ضربة مقررة مع باريس لدمشق التي تجاوزت الخط الأحمر الأميركي عبر استخدام الأسلحة الكيماوية، في غوطة دمشق.
كان تفسير أوباما للتراجع “فلسفياً” بالقول لمعاونيه: “إن إلقاء القنابل على شخص ما لإثبات أنك راغب في إسقاط قنابل هو أسوأ سبب لاستخدام القوة”، وكان بوتين نفذ تكتيك لينين الذي خلاصته: “اضرب الجدار بقبضة ناعمة، فإذا كان صلباً تراجع، وإذا كان ليناً اضرب بقوة”.
المفارقات مذهلة، كانت على الطاولة صفقة أميركية معروضة على موسكو حول إخراج إيران من سوريا في مقابل مكاسب مهمة للروس، لكن حرب أوكرانيا بدلت اللعبة، لأن روسيا صارت في حاجة إلى طهران والمسيرات والصواريخ التي تنتجها، فتوسع الدور الإيراني كثيراً في الجغرافيا ودخل في النسيج الاجتماعي السوري إلى جانب القواعد العسكرية والأمنية.
وها هو التبدل الثاني: سقوط النظام السوري أخرج إيران من دون دور روسي، ويكاد يخرج موسكو. لا بل إن الاتحاد الأوروبي يصر على إخراج روسيا من سوريا كشرط لإعادة الإعمار وتقديم المساعدات وشطب “هيئة تحرير الشام” من لائحة المنظمات الإرهابية، كما جاء على لسان كايا كارس، المسؤولة العليا عن السياسة الخارجية والأمن.
والسؤال هو: هل يساعد الرئيس رجب طيب أردوغان صديقه بوتين أم يعود للدفاع عن الدور الأطلسي لتركيا؟ وما ثمن الحفاظ على القاعدتين الروسيتين بالنسبة إلى حكام سوريا الجدد؟ وماذا لو فعل الحكام الجدد مع بوتين ما فعله الرئيس السادات حين أخرج القوات السوفياتية من مصر عشية الحرب؟
مهما يكن، فإن بوتين يخسر شيئاً في سوريا ويربح أشياء في أوكرانيا، حيث اللعبة الكبيرة مع الغرب والأطلسي. والمعروف أن الرئيس حافظ الأسد لم يسمح للأسطول الروسي إلا بالتزود بالوقود والماء في ميناء طرطوس، قبل اضطراره إلى معاهدة الصداقة مع موسكو، وقبل أن يفتح خليفته بشار كل شيء أمام الروس والإيرانيين، لكن روسيا لم تخسر الشرق الأوسط، فهي موجودة وعلى علاقات جيدة مع ليبيا والجزائر والعراق ومصر والسودان. وإذا سحبت أصولاً من قاعدة طرطوس، فإن قاعدة بنغازي جاهزة لاستقبالها.
وإذا كان بوتين يتكل على دعم الصين وكوريا الشمالية حتى في إرسال عسكر كوري شمالي للقتال في كورسك الروسية التي تحتل أوكرانيا أجزاء منها، فإن الحاجة إلى إيران لا تزال قائمة، لكن التطور الجديد الذي يضعه الجميع في الحسابات هو عودة الرئيس دونالد ترمب للبيت الأبيض مع تشدده مع إيران ورغبته في علاقات جيدة مع بوتين، بعدما وصلت العلاقات بين موسكو وواشنطن إلى أخطر نقطة في المواجهة مع الرئيس جو بايدن. فما يجمع بين بوتين وترمب، كما تقول “الإيكونوميست” البريطانية، هو الحرص على تقسيم السياسات الأوروبية. بوتين لأنه يريد تقسيم أوروبا، وترمب لأنه يريد إضعاف أوروبا في المفاوضات الاقتصادية.
ليس حديث ترمب عن إنهاء حرب أوكرانيا باتصال هاتفي سوى “فانتازيا” ترمبية، فعندما اقترب الجد قال ترمب “إن مشكلة أوكرانيا أصعب من مشكلة الشرق الأوسط”، فضلاً عن أن ترمب مصر على ضغوط أقصى من كل من عرفته إيران، إذ سيطلب، بحسب “الإيكونوميست”، من “إيران” التخلي عن طموحاتها الإقليمية، وإلا كان احتمال القيام بعمل عسكري مع إسرائيل ضد البرنامج النووي الإيراني، وربما تغيير النظام. وهناك من يتصور أن كل ما يريده ترمب هو صورة مع المرشد خامنئي، كما فعل مع الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون.
وفي رأي مارا كارلين من جونز هوبكنز فإن “حرب أوكرانيا والشرق الأوسط في اتجاه الحرب الكلية عبر كل المصادر وحشد المجتمعات، وإعطاء الأولوية لمسائل الحرب على نشاط الدولة”.
—————————–
سوريا وعنق الزجاجة/ سلوى أكسوي
2025.01.04
منذ الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024 دخلت الثورة السورية مرحلة جديدة لم تصل إليها أي من ثورات الربيع العربي منذ العام 2011. الثوار السوريون تحت قيادة أحمد الشرع “الجولاني”، انطلقوا في سيل مباغت جرف أمامه عناصر نظام الأسد الهارب والميليشيات الإيرانية والأجنبية الموالية له وتركهم أمام خيارين لا ثالث لهما، إما الاستسلام وتسليم السلاح أو الملاحقة الأمنية.
منذ الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024 دخلت الثورة السورية مرحلة جديدة لم تصل إليها أي من ثورات الربيع العربي منذ العام 2011. الثوار السوريون تحت قيادة أحمد الشرع “الجولاني”، انطلقوا في سيل مباغت جرف أمامه عناصر نظام الأسد الهارب والميليشيات الإيرانية والأجنبية الموالية له وتركهم أمام خيارين لا ثالث لهما، إما الاستسلام وتسليم السلاح أو الملاحقة الأمنية.
صفعة قوية أذهلت الأسد وداعميه وعلى رأسهم إيران، وتركتهم في حالة اضطراب شديد وكأن القيامة وقعت على رؤوسهم. هرب بشار الأسد وعائلته إلى روسيا، ودخل الثوار قصور عائلة الأسد وبدؤوا بتفكيك نظام أمني استخباراتي معقد بهدف حمايتها وضمان استمرار هيمنتها على سوريا، وبهذا أعلنت الثورة سقوط نظام الأسد الذي حكم سوريا لنصف قرن. الفرق الأساسي بين المرحلة التي تمر بها الثورة السورية الآن وبقية ثورات الربيع العربي التي أدت إلى تغيير رأس الحكم فيها فقط، هو أن الثوار السوريين وحدهم من سيعيد بناء نظام حكم جديد وجيش جديد بعيد كل البعد عن أذرع وأرجل النظام القديم، فالوعي الجمعي السوري وصل لمرحلة متطورة من النضج والخبرة السياسية والعسكرية لمواجهة المحاولات الداخلية والخارجية لإعادة إنعاش النظام البائد بشكل أو بآخر، عن طريق فرضه على السوريين في المرحلة المقبلة تحت حجة “المشاركة السياسية” و”التمثيل العادل”، وبالتالي فإن السوريين حالياً هم الذين يضعون قواعد جديدة تشكّل منارة للثورات القادمة على الأنظمة الديكتاتورية الفاسدة.
الوعي الآن ليس لدى الثوار السوريين فقط، بل الدول الإقليمية أيضاً تعلم بالضبط ما يمكن أن تحمله الأيام القادمة، من هذه الدول من يسعى ويتأمل ويحلم بعودة النظام الهارب، ومنها من هو حريص على بناء سوريا جديدة مستقلة وقوية وترسم مستقبلاً آمناً لأبنائها وللمنطقة ككل.
ما نشهده في بعض المحافظات السورية حالياً من جهود لتنظيف الطرق والمخابئ والحجرات فيها من فلول النظام القديم، والعناصر التي باعت نفسها لأنظمة شيطانية خبيثة تنخر الجسد السوري لإضعافه وحتى قتله، هو من أهم مراحل الثورة السورية الطاهرة، وهي المرحلة التي غفل عنها أو أهملها من سبق السوريين للثورة في المنطقة. لا مجال للعودة الآن، نحن في طريقنا لعبور عنق الزجاجة، ونحتاج لصبر أكثر قليلاً ونفس طويل وتصميم عال ومهارة وخبرة ورص الصفوف لتكون متينة يصعب هدمها أو خرقها. إن أي تخاذل أو تسامح الآن مع من وقف بجانب النظام الهارب وساعده على ارتكاب المجازر، هو خذلان لدماء مئات الآلاف من السوريين وعائلاتهم.
فالأنظمة الفاسدة الفاجرة لا تستمر من دون الموالين والداعمين لها والساكتين عنها، وهؤلاء هم فئة فاسدة لا يجب القبول بها في المرحلة المقبلة، وعليهم أن يعلموا أن سوريا الآن وإن بدت ضعيفة إلا أن ساعدها قوي وما تتجاهله اليوم من مقتضيات السياسة والمرحلة الراهنة سيتم التعامل معه في الوقت المناسب. جروحنا عميقة وما زالت ملتهبة، لكنها لن تعيقنا ولم يحن وقت الاسترخاء والراحة بعد، فحملة مواجهة هذه الفلول واجبة الآن وعلى الكل المشاركة فيها. لهذا، من يستطيع الانضمام لقوات الأمن فليفعل، ومن لا يستطيع فليقل قول الحق ويواجه الخطاب الطائفي القائم على بث الفتنة والمنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي وكله تحت شعارات زائفة من أناس الجميع يعلم أنهم لم يكونوا يوماً من الأيام جزءاً من الثورة أو حتى كانوا صامتين بل كانوا جزءاً أصيلاً من النظام البائد وأدوات هدمه، اليوم عادوا بثوب جديد تحت شعار الثورية.
على السوريين عدم استعجال البناء والرفاه في هذه المرحلة حتى لا يقعوا فريسة للانتهازيين، بل عليهم التأكد من صحة وسلامة كل مرحلة قبل الانتقال إلى غيرها، وتنظيف القواعد الآن والتأكد من نظافة ووطنية المشاركين وانسجامهم فيها أمر في غاية الأهمية. على الأطراف الداعمة للشعب السوري في نضاله المشروع ضد الوحوش بهيئة بشر، والسفاحين القتلة المختبئين خلف الأطقم الرسمية والشعارات الخبيثة، عدم التخلي عن هذه الثورة بأهدافها المشروعة، ومساعدة السوريين بكل الطرق لبناء دولة مدنية جديدة قائمة على احترام الإنسان وإعلاء قيمه الإنسانية.
وهذا الدعم ليس فقط واجب إنساني، بل واجب سياسي وعسكري وفيه مصلحة كبرى للداعم، فسوريا بدستورها وجيشها ونظامها الجديد ستصبح شريكاً أساسياً لجيرانها في المنطقة لرفعتهم وقوتهم وأمنهم. وإلى كل المتأملين والحالمين بعودة نظام الفساد والكبتاغون والمسالخ، وفروا على أنفسكم المجهود النفسي والمادي والعسكري، فالثورة السورية انتصرت، ولن يتراجع السوريون الآن خصوصاً بعد زوال الظلام ورؤيتهم لإشراقة الشمس بحلة جديدة، وتنفس هواء بنكهة شامية كلها حرية وأمل في بناء دولة حديثة قوية تقوم على العدل والحرية والمواطنة.
—————————-
هل ستكون سوريا ممراً لخطوط أنابيب الطاقة بعد سقوط الأسد؟/ حسن الشاغل
2025.01.04
يعد العامل الجغرافي وموقع الدولة من العوامل الاستراتيجية التي تنعكس على صناعة السياسة الخارجية للدولة وصنع القرار. فالدول الحبيسة تكون تحركاتها الخارجية معدومة، وتبقى سياساتها مرهونة لدول أخرى، لأنها لا تمتلك منافذ بحرية أو موقعاً جغرافياً يضعها على خطوط التجارة الدولية والتبادل التجاري. في حين أن الدول التي تتموضع على موقع استراتيجي على طرق التجارة البرية والبحرية يسمح لها بممارسة سياسة خارجية أكثر نشاطاً وفعالية.
ولا شك أن لسوريا موقع جيوسياسي على خطوط التجارة الدولية وخطوط أنابيب الطاقة، وينبع ذلك من إشرافها على سواحل شرق المتوسط، وربطها بين مناطق إنتاج الطاقة (الغاز والنفط) في دول الخليج العربي والعراق وبين تركيا التي تشكل بوابة السوق الأوروبية. ومن جهة أخرى سوريا هي عقدة لطرق التجارة الدولية البرية والبحرية، فهي تعد صلة الوصل بين قارة آسيا وأوروبا برياً وبحرياً، وبين أسواق الخليج العربي وتركيا ودول الاتحاد الأوروبي. ومن هذا المنطلق، تتموضع سوريا على موقع جيوسياسي يسمح لها أن تكون جزءاً من مشاريع تجارية دولية، منها ما يحمل جدوى اقتصادية وبعضها الآخر فقد الجدوى من بنائه. انطلاقاً منذ ذلك، تسلط المقالة الضوء على الجدوى من إعادة طرح تأسيس بعض مشاريع خطوط أنابيب الغاز التي أعلن عنها قبل الثورة السورية وبالتحديد بين عامي 2008 – 2009، والمشاريع التي من الممكن أن تطرح مستقبلاً.
تتناول العديد من وسائل الإعلام العربية والأجنبية مشروع خط أنابيب الغاز بين قطر وتركيا، على أنه أصبح من الممكن تنفيذه بعد سقوط النظام البائد وانتهاء نفوذ إيران وتقلص النفوذ الروسي. واستندت فكرة المشروع التي طرحت عام 2008 إلى بناء خط أنابيب مشترك بين قطر وإيران، يمتد من قطر ليعبر الأراضي السعودية والأردن ليرتبط بخط الغاز العربي عند مدينة دمشق، ليتم بعدها تنفيذ خط أنابيب من دمشق إلى الأراضي التركية وصولاً إلى الأسواق الأوروبية، ولقي المشروع دعماً من تركيا ودول الاتحاد الأوروبي، ورفضاً من روسيا التي ضغطت على بشار الأسد بعدم القبول حينذاك.
في الحقيقة هناك نقطة مغيبة عند كثير حول هذا المشروع والتي قد سيء فهمها، وهي أن المشروع كان يقوم بمعظمه على تصدير الغاز الإيراني، وبدرجة قليلة على الغاز القطري، وليس مشروعاً قائماً على تصدير الغاز القطري، لأن خط الأنابيب كان سيضخ الغاز المنتج من حقل الشمال المشترك بين إيران وقطر إلى السوق الأوروبية. وفي عام 2008 كانت قطر تصدر الحصة الكاملة من إنتاجها للحقل إلى أسواق شرقي آسيا، في حين أن إيران لم تكن تستغل احتياطياتها بعد، بمعنى أن قطر في تلك الفترة لم تكن تملك إنتاجاً للتصدير.
أما من ناحية الجدوى الاقتصادية من المشروع لم تعد موجودة وغير ممكن تنفيذه في الوقت الحالي، ففي تاريخ طرح المشروع عام 2008، كانت إيران وبدرجة أقل قطر تمتلكان احتياطيات قابلة للإنتاج والتصدير، لكن لم تكن أدوات التصدير متوفرة وهي خطوط الأنابيب أو محطات التسييل وسفن الشحن المخصصة للشحن.
أما في الوقت الحالي في عام 2024، لا تمتلك قطر وإيران فائض تصدير الغاز إلى السوق الأوروبية، حيث إن غالبية إنتاج الدولتين يتجه إلى أسواق شرقي آسيا بعقود طويلة الأجل، ومن جهة أخرى، أصبحت الدولتان لاسيما قطر تمتلك محطات تسييل ضخمة وسفن شحن قادرة من خلالها على تصدير كل إنتاجها من الغاز. وبالتالي لم تعد الدولتان تحتاجان لخط الأنابيب العابر إلى تركيا لتصدير إنتاجهما من الغاز. ومن المهم ذكره أن تركيا لا تمتلك في الوقت الحالي بنية قادرة على استيعاب الغاز القادم من قطر وإيران وإعادة ضخه وتصديره للسوق الأوروبية. بالنتيجة لم يعد هناك أي فائدة من طرح وتأسيس خط أنابيب من قطر إلى تركيا عبر سوريا لعدم توفر الشروط والجدوى منه، فضلا عن أن كلفة بناء خط الأنابيب قد تصل إلى 5 مليارات دولار.
العراق، على الرغم من الخلاف السياسي الكبير معه، ودوره السلبي في سوريا، إلا أن المصلحة تقتضي إيجاد صيغة للتعاون في مجال استيراد وتصدير النفط العراقي إلى الأسواق الدولية عبر الأراضي والموانئ السورية. فمن المعروف أن العراق لا يملك خيارات واسعة لتصدير إنتاجه من النفط لمحدودية ميناء الفاو التصديرية، لكن إذا ما تم تمديد خط أنابيب من مراكز الإنتاج في العراق إلى الموانئ السورية، سترتفع قدرة بغداد التصديرية إلى الأسواق الدولية بمقدار مليون برميل يومياً.
وسيناريو تمديد خط أنابيب بين البلدين يحمل جدوى اقتصادية عالية، فعلى الجانب العراقي، سيحقق القدرة على ضخ كميات كبيرة من النفط والتي قد تصل لمليون برميل يومياً إلى الأسواق الدولية عبر سوريا فقط، الأمر الذي سيكون له إيرادات مالية ضخمة على خزينة العراق. أما على الجانب السوري، قد تستورد الدولة كميات من النفط بحسب الحاجة، وتحصل على إيرادات مالية من مرور خط الأنابيب، ويعزز موقع سوريا على خطوط التجارة الدولية. لكن يبقى تحدي تمويل بناء خط الأنابيب، واجتياز التحديات السياسية والأمنية بين البلدين عائقاً أمام تنفيذ المشروع مستقبلاً.
تسعى السعودية لأن تكون دولة رائدة في إنتاج الهيدروجين الأخضر عالمياً وذلك لتوفر البنية التحتية اللازمة لإنتاجه عبر مشاريع ضخمة وبكميات كبيرة قابلة للتصدير مستقبلاً. وفعلياً حققت السعودية في السنوات الأخيرة طفرة في مجال إنتاج الهيدروجين الأخضر. وبحسب رؤية 2030 تهدف السعودية إلى أن تصبح أكبر منتج للهيدروجين في العالم بإنتاج سنوي يبلغ 2.9 مليون طن، وبحسب الرؤية ستصل الكمية المنتجة من الهيدروجين إلى 4 ملايين طن سنويًا في عام 2035، وهو رقم كبير مقارنة بخطة الصين لإنتاج ما بين 100 إلى 200 ألف طن سنويًا، وخطة أوروبا لإنتاج مليون طن من الهيدروجين سنويًا. وتطور الرياض مجموعة من المشاريع الداخلية الخاصة بإنتاج الهيدروجين الأخضر وهي من أكبر المشاريع على مستوى العالم بحسب ما نشرته شركة أكوا باور السعودية المتخصصة بإنتاج الطاقات المتجددة. وتعتزم الرياض أن تصبح المورد الرئيس للهيدروجين في العالم كما هو الحال في النفط. وتهدف السعودية إلى التصدير للسوق الأوروبية، وسيكون هدف السعودية ممكناً وقابلاً للتنفيذ ويحقق الجدوى الاقتصادية عبر خط أنابيب يعبر الأردن وسوريا ليغذي السوق التركية ومن ثم السوق الاوروبية.
بالنتيجة لابد للحكومة السورية الجديدة أن تستغل موقع البلاد لتكون جزءًا من مشاريع طرق الأنابيب الدولية التي قد تطرح مستقبلاً من قبل العراق والسعودية. وبذلك تحقق الدولة إيرادات مالية من مرور خطوط الأنابيب، وتصل إلى نقطة توازن في تنويع واردات واستهلاك موارد الطاقة، والأهم من ذلك، يصبح أمن واستقرار سوريا مرتبط بمشاريع ومصالح دولية.
—————————
ماذا يعني حكم الأكثرية في سوريا؟/ رشا عمران
2025.01.04
ثمة جملة تتردد حاليا في وسائل التواصل الاجتماعي يتركها أشخاص سوريون أو عرب ردا علي منشورات أو تعليقات تتحدث عن أخطاء ترتكب حاليا من قبل حكومة تصريف الأعمال، وتتناقض مع ما يطلقه أحمد الشرع، قائد العمليات القتالية لهيئة تحرير الشام التي سيطرت على الحكم بعد فرار الأسد، في مقابلاته مع وسائل إعلام دولية وعربية، ويقدم فيها رؤية متجاوزة للمنظومة الفكرية الجهادية التي عرفت عن جبهة النصرة قبل أن تصبح هيئة تحرير الشام، وتتمايز أيضا عن الآلية التي يتم بها، حتى الآن، حكم مدينة إدلب التي انتقلت حكومة الإنقاذ فيها إلى العاصمة دمشق؛ الجملة تقول بما معناه” إن الأغلبية هي من تقرر شكل الحكم ومجريات الحياة، والأغلبية في سوريا هي أغلبية مسلمة سنية، وبالتالي على الجميع الخضوع لإرادة الأغلبية”.
مبدئيا هناك سوريون كثر يؤمنون بهذه النظرية، أقصد نظرية حكم الأغلبية، وهي ما يطبق في الدول ذات الأنظمة الديموقراطية، على أن أغلبية تلك الدول هي أغلبيات حزبية لا دينية ولا مذهبية. بمعنى أن حزب ما يضم بين أفراده شرائح مختلفة من المجتمع ومن خلفيات دينية ومذهبية وعرقية وطبقية مختلفة. مخرجات ما ينتج عن هذا الحزب من مبادئ هو نتيجة خلاصات لاتفاق الأغلبية فيه، فإن استلم الحكم سوف يقر مبادئه، لكن هذه المبادئ يجب أن يوافق عليها البرلمان أولا، والبرلمان هو ممثل المجتمع بكل فئاته وبكل أحزابه.
بمعنى أن الحزب الحاكم لا يستطيع الانفراد بقرار يتعلق بالشؤون الداخلية التي تمس حياة المواطنين اليومية، وحتى بالقرارات السياسية الكبرى المتعلقة بتحالفات الدولة وأمنها القومي دون الرجوع إلى المرجعية الأولى وهي البرلمان.
أيضا، يمكن للأغلبية ذاتها أن تعدل قراراتها بعد عدة أيام أو تغيرها تماما بناء على توصيات البرلمان أو على المصلحة العامة للدولة والمجتمع. هناك آليات دستورية ناظمة لكل سلوك يمارسه الحزب الحاكم، كما أنه، وهنا أكثر أهمية، لا يوجد في المجتمعات الديمقراطية ما يسمى أغلبية دينية أو عرقية ولا توجد أقليات مذهبية أو إثنية، الجميع مواطنون لهم الحقوق نفسها وعليهم الواجبات نفسها. لا تمييز في هذا لعرق أو لجنس أو لدين أو للون.
والحال إن ما سبق هو بديهيات في أدبيات العمل السياسي وفهم الآليات السياسية الديمقراطية. لكن في بلد مثل سوريا، تم فيه إعدام كل النشاطات السياسية، الفردية والجمعية، يبدو من الضرورة أولا، استعادة المجال العام للعمل السياسي وتنشيطه، وثانيا، استخدام المفكرين والنخب السياسية لوسائل التواصل الاجتماعي لتبسيط مفاهيم الديمقراطية وآلياتها والحديث عن شروطها ومساحاتها، وما يناسب مجتمعنا منها. ذلك أنه، وللأسف، لم يصل السوريون يوما إلى مرحلة المواطنة التي تمكنهم من وعي مالهم وما عليهم كمواطنين، إذ سيطرت عقلية المحسوبيات القبلية والعائلية والمذهبية على المجتمع السوري بفعل سياسات الإقصاء التي مارسها نظام الأسد وحزب البعث منذ استلامه السلطة في سوريا. تحول المجتمع السوري مع هذه السياسات إلى مجتمع ينتمي إلي ولاءات متعددة تفرض هويات ضيقة أسهمت في القضاء على الهوية الوطنية الجامعة. وهو ما ظهر في بداية ثورة 2011 من انقسامات مجتمعية خطيرة أوصلت سوريا إلى حافة الحرب الأهلية.
يبدأ نقض فكرة (إن الأغلبية السورية تفرض ما تريد لكونها أغلبية) من سوء فهم طبيعة الأغلبية السورية (السنية)، ذلك أن هذه النظرية تتعامل مع الأغلبية بوصفها كتلة واحدة ومتجانسة، وهذا خطأ فادح وتجاوز للواقع ولوي حقيقته. الأغلبية السنية السورية هي طبقات مختلفة ومتعددة وشديدة التنوع، وتفاديا للخوض في البعد المذهبي لنسمي الأكثرية بالمسلمة، فالإسلام المديني السوري لا يشبه الإسلام الريفي السوري، لا يعني أن أحداً من الإسلاميين يتفوق على الآخر، بل هما فقط مختلفان ولكل منهما خصائص تميزه رغم كل الانزياحات الثقافية (اقتصادية واجتماعية) التي طرأت على المجتمع المديني والريفي والتي غيرت في خصائص كل منهما خاصة بعد 2011 حيث أسهم فائض العنف الذي وجه نحو مناطق الريف والمدن البعيدة عن المركز في التمسك بالهوية الدينية التي أصبحت هي الهوية الوحيدة التي تشكل مصدر النجاة من الفراغ الهوياتي الذي أمعن فيه نظام الأسد وحلفاؤه الطائفيون. هذا التمسك تحول مع دخول الفصائل الجهادية على خط الحدث إلى تشدد وانغلاق ظهر في نمط الحياة في المناطق المحررة وفي محاولة إسكات ناشطي تلك المناطق الرافضين لفرض ذهنية التطرف والتشدد، هذا يظهر أيضا حاليا على وسائل التواصل لدى أي نقاش عن شكل الدولة السورية المستقبلية.
في المقابل ثمة إسلام مديني يميز المدن والحواضر الكبيرة في سوريا يمكننا أن نسميه إسلاما محافظا لكنه ليس متطرفا ولا متشددا، تعزز وجوده في المدن الكبرى بعد عام 2011. وبين هذا وذاك خرج مسلمون في التغريبة السورية إلى كل دول العالم واحتكوا بمجتمعات جديدة وثقافات أخرى، وواجهوا ليبرالية ما بعد حداثية تركز على الحريات الفردية وعلى تغييرات لمفاهيم وبديهيات جندرية صادمة، هذا الاصطدام خلخل الكثير من الثوابت الدينية لصالح رحابة في الرؤية وفي التعاطي مع الهوية الإنسانية ضد الهويات الأصغر والأقل اتساعا.
أيضا، من يعرف المجتمع السوري سوف يدرك أن العلمانيين واللادينين السوريين هم في غالبيتهم العظمى من الأكثرية المسلمة، على عكس ما يظهر على السطح من أن الأقليات الدينية والمذهبية هي التي تشكل صيانة للمجتمع من التطرف بسبب سلوكها الاجتماعي. لكن الحقيقة مختلفة، فالأقليات السورية منفتحة اجتماعيا نعم لكنها مؤمنة بعقائدها إلى حد كبير، هي تسلك في حياتها اليومية سلوكا يبدو علمانيا لكن عقائدها راسخة وثابتة، ولو كانت تلك العقائد متشددة لكان سلوك أبنائها متشددا. تلجأ الأقليات عموما إلى التمسك بهوياتها الدينية والمذهبية نوعا من الحماية من التماهي مع الأكثرية. هذا سلوك نفسي للدفاع عن الحيثية الوجودية للأفراد المختلفين وللمجموعات المختلفة. لهذا نادرا ما نجد مساهمة للأقليات في أي مجتمع، في عمليات التغيير الكبرى، التغيير تقوم به الأكثرية مع أفراد من الأقليات، لأن التنوع الذي في الأكثرية، خصوصا إذا كانت غالبة كما في سوريا، يساعد على نشوء أفكار ونظريات وحراك يكون هو نواة التغيير.
باختصار، يمكن القول بما لا يعطي مجالا للشك إن تركيبة الأكثرية المسلمة في سوريا تسقط هي ذاتها نظرية “أن الأغلبية المسلمة في سوريا تفرض ما تريده من شكل الدولة أو من قوانينها أو دستورها”. التي يتبناها حاليا كثر في ردهم على أي انتقاد لسلوك حكومة تصريف الأعمال الحالية التي تصدر قرارات ليست من اختصاصها وليست قانونية ولا دستورية. أو حتى تتبناها هيئة تحرير الشام بحكومتها الحالية. فعن أي أكثرية نتحدث؟ وهل المنظومة الفكرية لهيئة تحرير الشام هي المنظومة الفكرية لكل مسلمي سوريا في الداخل وفي الخارج؟ وهل يساعد فرض هذه المنظومة (الإقصائية خصوصا للمرأة) على المجتمع السوري في تحقيق الاستقرار والأمن والازدهار الاقتصادي والتنموي الذي لا يمكن إنجازه دون تشاركية كاملة من كل فئات المجتمع؟ هل سيقبل المستثمرون (وهم من مختلف التوجهات) فرض رؤية واحدة متشددة علي المجتمع السوري؟ هل سيقبل المجتمع الدولي بهذا أيضا؟ والأهم هل سيقبل السوريون، نخبا سياسية وثقافية وفنية واقتصادية، هذا النمط، وهم في غالبيتهم من الأكثرية المسلمة السورية؟
في ظني أن مشروع أسلمة سوريا، إن كان واردا في ذهن الهيئة وقائدها، سوف يصطدم أولا بالمجتمع السوري المسلم الذي سيكون هو السد في وجه مشروع كهذا، ليس كرها بالإسلام حتما، لكن لأن المجتمع السوري في أصله مجتمع مدني، والإسلام السوري إسلام مدني، ما إن تنتفي الأسباب التي حولت بعضه إلى متشدد حتى يعود إلى طبيعته المعتدلة المحبة للحياة. لن تنجح مشاريع أدلجة سوريا مجددا بلون واحد على طريقة البعث البائد. لم تتمكن كل الفصائل الجهادية من فعل ذلك بمدينة شبه متجانسة مثل إدلب، لطالما وقف ناشطو وناشطات إدلب في وجه هذه المشاريع، ولن يتمكن أحد، حتى لو بقوة السلاح، من فعل ذلك بسوريا كلها.
—————————–
عشرةُ مفهوماتٍ أساسيَّةٌ للمرحلة/ مضر رياض الدبس
2025.01.03
المرحلة السورية الآن مرحلةُ تأسيسٍ على المستويات كلها، والتأسيس في توصيفه أعمق من الانتقال وأدَّق، وقد يكون من أكثر الأشياء أهميةً تأسيسُ الاجتماع السياسي السوري؛ فالسوريون يمتلكون اليوم فرصةً تاريخيةً رائعةً، مدهشةً ومباركةً بحق، لتأسيس الدولة السورية على أسسٍ تشببهم، ليمتلكوا دولَتَهم لأول مرةٍ منذ عام 1963، ويؤسّسوا القانون، وطرائق الحكم، والأهم أن يؤسسوا سرديتهم الوطنية الجديدة السابقة على الاجتماع السياسي، والناظمة له بصورة تجعل الدولةَ صورةَ المجتمع السوري كله، وترجمته إلى السياسة ومجال الوحدة.
المرحلةُ إذًا تأسيسية وليست انتقالية، وكل تأسيسٍ بالضرورة يتداخل في معناه مع الجديد، يعني أنَّه يتضمن بالضرورة ابتكارَ الجديد وإنتاجَه وإعادة إنتاجِهِ، بل التفنن في إتقان إنتاجه.
يطرح هذا النص أن هذا الإنتاج يبدأ من إعادة مقاربة بعض مفهومات الاجتماع السياسي السوري المهمَّة والمتداولة بكثرة، بصورةٍ أكثرَ ملاءمةٍ للمرحلة الحالية التي تتسم بالحرية، والبناء، والوحدة السياسية.
نقترح في الآتي إعادة مقاربة مجموعة من المفهومات، بهدف إثارة النقاش العام لتطوير هذه المقاربات بوصفها مقدمات ضرورية لإنتاج لغة سياسية ملائمة للموضوع، وملائمة للطموح، ومناخ الحرية القائم..
وتستند هذه المقاربة الجديدة إلى منهجيةٍ تَشتقُ نفسها من الواقع الراهن القائم؛ فتشتق المعنى في ضوء هذا الواقع، سعياً إلى تحقيق أقصى فائدة ممكنه منه، ومن ثم التأثير فيه، والتأثُّر فيه، ومن ثم الانطلاق منه إلى المستقبل.
واستناداً إلى ذلك نقترح في الآتي إعادة مقاربة مجموعة من المفهومات، بهدف إثارة النقاش العام لتطوير هذه المقاربات بوصفها مقدمات ضرورية لإنتاج لغة سياسية ملائمة للموضوع، وملائمة للطموح، ومناخ الحرية القائم:
1-مفهوم “السُنَّة” في سوريا: المفهوم السياسي لكلمة “السُنَّة” لا يعني طائفة، ومع أنهم الأكثرية الدينية، إلا أنهم لم يتحوّلوا إلى طائفة في أي مرحلة من تاريخ سوريا، ولم يسلكوا سلوكَ الطائفة بالعموم؛ بل كانوا دائماً حاضنةَ مشروعٍ وطني.
هكذا احتضن السُنَّةُ مشروعَ التحرر الوطني من الاستعمار الفرنسي، وتحت هذا المعنى بالعمق تحالف، مثلًا، عبد الرحمن الشهبندر مع سلطان الأطرش، وأدى ذلك إلى تنصيب الأخير قائداً عاماً للثورة السورية الكبرى.
لا يمكن اليوم تطييف السنة، كما لم يكن ذلك ممكناً سابقاً بسبب سلوك ومقاربات السنة الوطنية بالمجمل وبالعموم، واعتماد هذا المفهوم مهمُ جداً، وواقعي جداً، في هذه المرحلة ومستقبلًا.
2-مفهوم “الأقليات” في سوريا: بطبيعة الحال، إذا اتفقنا أن الأكثرية الدينية في سوريا، لم تتحول إلى طائفة، وتتصرف في المجال العمومي بوصفها حاضنة مشروع وطني فإن مفهوم الأقليات الدينية بالضرورة ينتهي سياسياً.
هذا يعني أن معنى كلمة “الأقليات” بوصفها كلمة تدل على مجموعاتٍ دينية، أو طائفية، سقطت مع سقوط النظام، لا يوجد في سوريا “أقليات”، والشعب السوري واحد، وإن كان لا بد من أقليات فهي بطبيعة الحال ستحيل على مجموعة من السوريين الذين يشتركون في مقارباتٍ وفهمٍ سياسي لا يلقى إجماعاً من الأكثرية الباقية؛ كأن نقول إنّ أنصار الفيدرالية على سبيل المثال أقلية في سوريا، أو إن أنصار اقتصاد السوق المفتوح أقلية، بطبيعة الحال هذا على سبيل المثال، وليس على سبيل الإطلاق؛ فقد لا يكونوا أقلية لا ندري.
الانغلاق على الذات الذي يسببه رسوخ مفهوم الأقليات بصورته الحالية، خطيرٌ جداً، وأيضاً المفهومات التي تتفرع منه مثل “حماية الأقليات”، و”طمأنة الأقليات” وما إلى ذلك، أيضاً خطيرةٌ جدًا، وغير منطقية، وتهدم أكثر مما تبني، وتفصل أكثر مما توصل، وقد تؤدي إلى المحاصصة وطغيان الشكل على المضمون، ومن ثم على مخرجات العمل السياسي السوري بكليته.
3- مفهوم الحوار الوطني: الحوار يكون عادةً بين أطراف، والشعب السوري واحد الآن، والواحد لا يتحاور، بل يُؤسس، هذا يعني أن ننتقل من مفهوم الحوار إلى مفهوم التأسيس المشترك، وإلى مفهوم تدبير الاختلاف والاعتزاز به بوصفه ضامناً من ضمانات الإبداع إذا ترافق مع منهج يُلائم التأسيس واجتراح النموذج التاريخي الملائم لنا بوصفنا جماعة وطنية واحدة لها سرديتها الوطنية التي أبدعتها بيدها.
وهذا الموضوع بطبيعة الحال يحتاج إلى مساحةٍ أوسع من المساحة المتاحة لهذا النص، ولكن الانتقال من مؤتمر الحوار الوطني، إلى مؤتمر التأسيس الوطني مثلًا يغير كثيراً من واقع الحال نحو الأفضل ونحو ما هو أكثر منطقيةً ونجاعةً.
4- مفهوم المكونات: المكونات كلمة كارثية إذا قلنا إن الشعب السوري يتكوَّن من طوائف وأديان أو من عشائر أو إثنيات، هذه التوصيفات الأخيرة قد تكون مكونات المجتمع السوري، ولكنها إطلاقاً ليست مكونات الشعب السوري، والفرق كبير بين المجتمع، وهو مجال الاختلاف ومرتع صراعات المجتمع المدني ومادته، وبين الشعب بوصفه مجال الوحدة، وبوصفه مفهوماً سياسياً أدرك السوريون معناه جيداً عندما قالوا ولا يزالون يقولون: “الشعب السوري واحد”.
يتكوَّن الشعب من أفرادٍ سوريين يسعون اليوم إلى تأسيس دولتهم، وما أن ينجزوا هذا التأسيس حتى يستحقوا بجدارة لقب “مواطنين”، فتصير مكونات الشعب السوري تعني كلمة واحدة فحسب: مواطنين أحرار.
5- مفهوم المدينة السورية: المدينة السورية لها ثقافتها، كلُّ مدينة لها ثقافتها، وكلها مجتمعةً تعطي معنى لكلمة الثقافة السورية، هذا على مستوى الفلكلور، والعادات، والتقاليد، والعلاقات الاجتماعية، والذاكرة المشتركة، والانتماء للمدينة، وطبيعة المجتمع، وإلى ما هنالك.
ولا يمكن حُكم سوريا ما لم يتم تعزيز ثقافة كل مدينة ومن ثم الاعتزاز بها لتأخذ مكانتها في الثقافة السورية الوطنية، لذلك ينبغي الحذر من صدام السياسية مع ثقافة المدن السورية الكبرى، ونخص بالذكر هنا حلب ودمشق.
هذا عن مفهوم المدينة ثقافياً، أما المدينة سياسياً فهي بالضرورة تعني الدولة، وتتطابق معها دلالةً ومفهومًا.
وبالمقابل أي انغلاق مناطقي في أي مدينة، وعزلها عن الثقافة السورية بالمجمل يعني ضرباً من ضروب البعد عن الوطنية السورية، والوجدان السوري العام إن صح التعبير، فثقافة أي مدينة سورية لا يمكن أن تعرف نفسها إلا بوصفها جزءاً من ثقافةٍ كبرى تسمى الثقافة السورية، والعكس أيضاً: تظل الثقافة السورية الكبرى منقوصةً ما لم تتزوَّد من ثقافات المدن السورية كلها من دون أي استثناء.
6- مفهوم السيادة: تعني السيادة بالدرجة الأولى، سيادة المواطن في بلده، وصون كرامته، وهذا يعني أن انتهاك حرية أي فردٍ سوري، أو إهانته، أو الانتقاص من كرامته، هو بالضرورة انتقاص من السيادة الوطنية.
7- مفهوم العدالة: العدالة مفهوم محوري، وناجز، والعدالة الانتقالية صارت مفهوماً غيرَ كافٍ، المطلوب هو العدالة الكاملة غير المنقوصة، وهذا ليس من أجل الماضي، بل إنه من أجل المستقبل وضمان ألا يتكرر الإجرام أبداً.
8- مفهوم الثقة: الثقة في السياسة لا يتم بناؤها مثل الثقة في العلاقات الاجتماعية بين البشر، ففي السياسية لا نثق بأحدٍ أو بجهةٍ لأنهم أصدقاء، أو لأنهم أقرباء، أو لأنهم يحبوننا، وإلى ما هنالك.
في السياسة يثق البشر بمن لديه خطٌ واضحٌ ورصين، يعني يستطيع الناس أن يتوقعوا سلوكه في سيناريو معين من دون مفاجآت؛ فبناء خط سياسي واضح المعالم هو ما يجعل الأفراد والجماعات أهلًا للثقة.
9- مفهوم الاقتصاد: الاقتصاد في سوريا ترجمةٌ للاجتماع السياسي، ولا يمكن فصل السياسات الاقتصادية عن طبيعة الدولة المتفق عليها، لذلك فالاقتصاد في سوريا فكرٌ سياسي ثانٍ: أي إنه يتبلور استناداً إلى السياسية وليس العكس.
وقد تتكامل الرؤيتان بطبيعة الحال وتتبادلان الأولوية أحيانًا فيصير الاقتصادُ محرك السياسية، ولكن الأكيد أن الموضوعين مترابطان جدًا، كارتباط التنظيم بالفكر السياسي.
10- مفهوم العلمانية: العلمانية مفهومٌ غربي لم يُوطَّن لدينا بعد، والعلمانية سياقٌ تاريخي متشابكٌ مع منظومة الحداثة، ومع الاكتشافات العلمية الثورية منذ كوبرنيكوس، إنها مفهومٌ تاريخي غربي يحيل على المسيحية الأوروبية؛ فإذا قبلنا بالتعريف المقتضب المتداول بأن العلمانية هي “فصلُ الدين عن الدولة”؛ فإننا نقول بدقة أكثر إنها: “فصلُ المسيحية الغربية عن الدولة”.
وأما السؤال: كيف يكون علمانياً من لا كنيسة له؟ وكيف يكون علمانياً من لا يمتلك كوبرنيكوساًَ خاصاً به، ولا شيشروناً، ولا ديكارتاً، وإلى ما هنالك؟ فهي أسئلةٌ مهمةٌ لم تتم الإجابة عنها بعد.
وكل حديثٍ عن العلمانية قبل الإجابة عن هذا النوع من الأسئلة بصورةٍ سياسية وتاريخية وفكرية هو قفزة أيديولوجية في الهواء ‑ بتقديرات الكاتب.
تلفزيون سوريا
———————————
الجنوب السوري مفتاح الاستقرار الذي لا يملكه أحمد الشرع
2025.01.03
بينما كانت إدارة العمليات العسكرية وقواتها في غرفة عمليات “ردع العدوان” تسيطر على مدينة حلب وتتوسع في أرياف الشمال السوري، كانت القوى العسكرية جنوب البلاد تضع خططها وتنظم صفوفها في ثلاث غرف عمليات، هي: “عمليات الجنوب”، و”فتح دمشق” في درعا والقنيطرة وريف دمشق الغربي، و”العمليات المشتركة” في السويداء.
تأخرت حوران عن الركب قليلاً، فتحديد ساعة المعركة فيها كان بمنتهى الحساسية، لكون المجاميع المقاتلة القليلة فيها لا تملك سوى أسلحة خفيفة وبعض الأسلحة المتوسطة. وأي فشل في الجنوب، الذي يعج بقوات الأسد والقريب من خزان الميليشيات التابعة لإيران في دمشق وريفها، سينعكس سلباً على النجاحات العسكرية في الشمال.
اتُخذ القرار بفتح المعركة في السادس من كانون الثاني بعد سيطرة قوات “ردع العدوان” على حماة مباشرةً. واستطاع مقاتلو الجنوب إخراج جيش الأسد من محافظات درعا والسويداء والقنيطرة، ثم ريف دمشق الغربي بسرعة فائقة. ولم تغب شمس اليوم الثاني من المعركة إلا وهم داخل أحياء العاصمة دمشق.
انعدام الثقة.. سمة العلاقة بين فصائل الجنوب وإدارة العمليات العسكرية
في النهار التالي لسقوط النظام، وصلت طلائع قوات “ردع العدوان” إلى العاصمة، فانسحبت منها قوات الجنوب. تلا ذلك ادعاء فصائل حوران وإدارة العمليات العسكرية أنهما على تنسيق دائم فيما يتعلق بملف الجنوب، إلا أنهما لم يتمكنا من إخفاء سمة علاقتهما الأبرز، وهي انعدام الثقة. وبرز ذلك بشكل واضح في قضية الخلاف على حل الفصائل العسكرية وتأسيس وزارة دفاع سورية.
وفي إجابة للناطق باسم غرفة عمليات الجنوب، العقيد نسيم أبو عرة، على سؤال موقع تلفزيون سوريا عن سبب الإبقاء على غرفة عمليات الجنوب وعدم حلها أو دمجها بإدارة العمليات العسكرية، قال: “بياننا الأول جاء تحت عنوان وجهتنا دمشق والملتقى ساحة الأمويين. غرفة عمليات الجنوب أُسست لتحرير حوران ودمشق، دخلنا العاصمة ليلة الثامن من كانون الأول وباشرنا بتأمين المباني الحكومية والسفارات، ونقلنا رئيس الوزراء الأسبق والبعثات الدبلوماسية وموظفي الأمم المتحدة إلى فندق الفورسيزن وقمنا بحراستهم. وحين وصلت قوات إدارة العمليات العسكرية سلمناهم العاصمة وعدنا إلى درعا، لكننا بقينا على تنسيق معهم”.
وأضاف أبو عرة: “غرفة عمليات الجنوب ستبقى قائمة حتى تشكيل وزارة دفاع وجيش سوري وطني. وما زلنا بانتظار طرح عملي من الإدارة في دمشق لرؤيتها والآليات التي ستتبعها لإنشاء الوزارة لمناقشتها”. لكن أبو عرة أكد أن فصائل الجنوب ستحل نفسها وتنضم إلى وزارة الدفاع بعد الاتفاق على آليات وخطوات إنشائها.
وحول طبيعة التنسيق الحالي، قال أبو عرة: “فوضنا ثمانية أشخاص يمثلون غرفة العمليات للتحدث مع دمشق. النقاشات ما زالت في طور وضع العناوين، لكنها تترافق مع تنفيذ خطوات ضرورية وعاجلة، مثل اتفاقنا على جمع السلاح المنفلت من أيدي المدنيين والسلاح الثقيل الذي خلفه النظام في الجنوب في ست نقاط، سوف تُحرس من قبل غرفة عمليات الجنوب وإدارة العمليات العسكرية ريثما تتشكل وزارة الدفاع وتتسلمه.
كذلك فإن قواتنا تحرس معبر نصيب الحدودي، لكنها في الوقت نفسه لا تتدخل بعمل موظفيه، بمن فيهم مديره المعين من دمشق”.
وشدد أبو عرة في حديثه لموقع تلفزيون سوريا على أن فصائل وأبناء الجنوب يقفون ضد أي مشروع مناطقي، وأكد على وقوفهم إلى جانب كل السوريين في بناء سوريا موحدة.
وعندما حاول موقع تلفزيون سوريا الحصول على تصريح من مشهور المسالمة، المفوض بإدارة الشؤون السياسية في الجنوب السوري، حول خارطة قوى المنطقة والمآلات المحتملة، رفض التصريح واكتفى بالقول: “الآن الأمور غير مستقرة، يجب مراجعة وزارة الإعلام!”.
لا تصور واضح في دمشق عن كيفية حل الفصائل وبناء الجيش
من جهته، قال أنس الصلخدي، القيادي في غرفة عمليات فتح دمشق وأحد المشاركين في اجتماع أحمد الشرع الأول بفصائل الجنوب: “الاجتماع كان تشاورياً وهو أولي، وسيتبع باجتماعات أخرى”.
وأضاف: “تمحورت النقاشات حول تبديد مخاوف الفصائل وسبل حلها وبناء وزارة دفاع وجيش موحد”، ولم يوضح القيادي إن كانت الفصائل وغرف العمليات ستنخرط في الجيش الجديد بكتلها أم أنها ستفكك ويتم التعامل مع عناصرها الراغبين بالتطوع كأفراد.
وشدد الصلخدي على ضرورة عدم بقاء أي فصيل خارج الجيش الموحد، وإلا فسيتم التعامل معه كميليشيا متمردة.
وحول مشاركة بعض القيادات التي اكتسبت سمعة سيئة بسبب ارتباطها الأمني بعد عام 2018 مع نظام الأسد، قال الصلخدي: “في هذه المرحلة نعمل على احتواء الجميع وعدم التصادم مع أحد، وحين تستقر الدولة وتبنى المؤسسة القضائية، يمكن محاسبة الجميع تحت سقف القانون”.
خريطة القوى والتشكيلات العسكرية في الجنوب السوري
يمكن ملاحظة وجود عدد من الكتل العسكرية في درعا والقنيطرة وهي:
اللواء الثامن: وهو نسخة التسويات من قوات شباب السنة سابقاً ويقوده أحمد العودة، ومركزه ريف درعا الشرقي، لكن لديه مجموعات في شتى مناطق حوران.
اعتباراً من العام 2018، شكل اللواء ملاذاً آمناً لشباب حوران المنشقين والرافضين للخدمة في جيش الأسد وعمل بالتنسيق مع القوات الروسية، وكان جزءاً من الفيلق الخامس من الجيش السوري السابق. ويمكن اعتباره اللواء الوحيد المتبقي من الجيش السوري السابق، إذ إنه لم ينحل ولم يهرب عناصره، وذلك لأنهم من أبناء حوران وكانوا سابقاً في صفوف المعارضة السورية المسلحة.
يبلغ تعداد عناصر اللواء المسجلين رسمياً 1585 مقاتلاً، لكن لديه مئات إضافية من قوات الاحتياط، ويمكن أن يصل تعداده إلى ستة آلاف في حال توفر الدعم المالي.
المركزيات: وهي لجان عسكرية ذات عمق اجتماعي تشكلت بحسب التوزع الجغرافي للمجموعات التي لم تخرج من درعا بعد تسويات عام 2018، وتنتشر في درعا البلد وريف المحافظة الغربي. وأبرز قادتها محمود البردان (أبو مرشد) ومؤيد الأقرع (أبو حيان حيط).
يبلغ تعداد مقاتلي المركزيات 600 عنصر ويمكن أن يصل إلى ثلاثة آلاف في حال تلقت دعماً مالياً.
هيئة تحرير الشام: الموجودة بخلاياها السرية أصلاً، يضاف إليهم العائدون من أبناء الجنوب المنضوين في صفوف الهيئة من الشمال إلى مدنهم وقراهم.
يبلغ تعداد عناصر الهيئة مجتمعين ألفي مقاتل، وسيكون من الصعب تطوير هذا الرقم في ظل العجز المالي الذي تعانيه الهيئة بفعل انتشارها الواسع في معظم الأراضي السورية، لكنها تستطيع حشد حلفاء محتملين.
القادة العائدون من الأردن لتنظيم عناصرهم السابقين والمجموعات غير المنضوية في المركزيات. وهذه كتلة لا يُستهان بها، وهي التي شكلت غرفة عمليات فتح دمشق وكانت أول من دخل العاصمة. وقد اكتسبت زخماً جديداً بعودة مقاتلي الجنوب المهجرين إلى الشمال من غير هيئة تحرير الشام.
مجموعات البدو المنتشرة من شرق السويداء حتى ريف دمشق الغربي مروراً بدرعا والقنيطرة. وقد تلقت زخماً كبيراً بعودة أحد زعمائها التقليديين وهو راكان الخضير من الأردن.
بقايا من عناصر ومجموعات التنظيمات المتطرفة، ويبلغ تعدادهم نحو 400 مقاتل في المنطقة وفضائها الجغرافي.
توزع الكتل العسكرية ضمن تحالفات رئيسية
يمكن ملاحظة توزع هذه الكتل الستة في ثلاثة تحالفات رئيسية:
تحالف اللواء الثامن مع المركزيات: وهو تحالف أمر واقع بدأ عام 2018 وتكلل أخيراً بإنشاء غرفة عمليات الجنوب، لكن مراقبين يعتقدون أن الظروف التي فرضت إنشاءه انتهت، وأنه سيتفكك قريباً وستنخرط مجموعات المركزيات في الحلفين الآخرين.
تحالف غرفة عمليات فتح دمشق مع مجموعات البدو: وقد تنضم إليه قريباً بعض مجموعات المركزيات.
تحالف هيئة تحرير الشام: وهو إما أيديولوجي يضم الهيئة مع المجموعات والمقاتلين الذين يوصفون بالمتطرفين، أو مصلحي، حيث ربما تنضم إليه بعض مجموعات المركزيات، وهو أمر بدأت ملامحه تظهر بالفعل في درعا البلد على سبيل المثال.
لفهم أعمق للصورة يمكننا العودة إلى ما قبل عام 2018، إذ لم تكن هيئة تحرير الشام تملك وزناً عسكرياً وسياسياً كبيراً في الجنوب، وكانت حوران تنقسم إلى تيارين سياسيين بذراعين مسلحين هما:
تيار الإسلام السياسي: ممثلاً بمجلس حوران الثوري وذراعه العسكري جيش الثورة، وفصائل أخرى هي من تشكل اليوم معظم المركزيات وجزءاً من غرفة فتح دمشق.
تيار يطلق على نفسه ضمنياً اسم التيار الوطني: ممثلاً بما كان يُعرف بهيئة الإشراف والمتابعة وبعض القوى المدنية والشخصيات السياسية، وذراعه العسكري فصيل شباب السنة بقيادة أحمد العودة ومجاميع أخرى هي من تشكل اليوم اللواء الثامن.
ومع عودة زعماء سياسيين ومجتمعيين من تيار الإسلام السياسي كخالد زين العابدين وعبد المولى الحريري وعصمت العبسي وغيرهم من الشمال، واستمرار وجود العناصر الفاعلة من التيار الثاني، فقد يعود المشهد إلى ما كان عليه قبل عام 2018، مع فارق جوهري هو أن هيئة تحرير الشام عادت كلاعب قوي هذه المرة مدفوعة بزخم الانتصار وتأييد شعبي لنسختها الجديدة ودعم السلطة في دمشق.
لكن تياري الجنوب القديمين الجديدين، المتناحرين سابقاً، قد يتحالفان اليوم في مواجهة هيئة تحرير الشام، مدفوعين بشعور مظلمة يمكن وصفه بالعام في حوران، سببه الاعتقاد بأن الهيئة تحاول الاستحواذ على كامل المنطقة قسراً والانفراد بالسلطة وإقصاء كل القوى المحلية فيها.
عوامل مؤثرة
رجال الأعمال الحورانيون في الخليج: قد يدعمون هذا التحالف ويسهمون في ترجيح كفته على حساب كفة الهيئة المنهكة مالياً، إلا في حال قررت الهيئة استخدام موارد الدولة السورية لدعم وجودها ككيان في الجنوب، وهذا إن حدث سيزيد الأمر تعقيداً.
القوى السياسية والعسكرية في السويداء: المتحالفة بشكل أو بآخر مع نظيراتها في درعا والقنيطرة وريف دمشق، قد تلعب دوراً حاسماً في مواجهة ما يصفه البعض بـ”تغوّل” هيئة تحرير الشام.
خريطة القوى العسكرية في السويداء
أما في السويداء، فيمكن ملاحظة وجود خمسة فصائل رئيسية وقوة عسكرية مجتمعية خفية:
حركة رجال الكرامة: أكبر الفصائل وأهمها، وتقول إنها تضم أكثر من خمسة آلاف مقاتل موزعين على 36 بيرقاً، وتتمتع الحركة بعمق اجتماعي إذ تحتوي على عناصر من معظم عائلات ومناطق السويداء تقريبًا. يقود الحركة يحيى الحجار، الذي يوصف بصاحب المواقف المتوازنة، وعُرف عنه عدم تورطه في مواقف حادة تجاه الثورة أو النظام أو أي أطراف سياسية أخرى.
لواء الجبل: يقترب في تعداده من فصيل رجال الكرامة، وكان قد انحاز لحراك السويداء منذ انطلاقه، وعمل على حراسة مظاهراتها. وهو منخرط في غرفة عمليات مشتركة مع حركة رجال الكرامة، ويقوده شكيب عزام.
تجمع أحرار جبل العرب: الفصيل المقرب والموثوق في السويداء بالنسبة لهيئة تحرير الشام. وكان لقائده سليمان عبد الباقي تواصل قديم مع قيادتها في إدلب.
تجمع أبناء الجبل: معظم عناصره من المشايخ (المتدينين الدروز)، ويضم عدة مجموعات يُقال إنها تتبع بشكل مباشر للشيخ حكمت الهجري، رغم نفيه للأمر. وقد بدأ ينمو بشكل ملحوظ بعد سقوط النظام.
مسلحو العائلات: قوى عائلية غير منظمة لكنها واسعة الانتشار. وهي مسلحة بدعم من أبناء العائلات المغتربين، حيث يحمي مسلحو كل عائلة مصالح وأفراد عائلتهم، ويتحركون وفق مبدأ “الفزعة”. ولا يقتصر تسليح هذه الفئة على السلاح الخفيف بل يتعداه في كثير من الأحيان إلى الأسلحة المتوسطة.
أما سياسياً، فقد أكسب سقوط النظام الرئاسة الروحية لطائفة الموحدين الدروز، ممثلة بالشيخ حكمت الهجري، شرعية أوسع، حتى باتت قنوات المرجع والممثل السياسي الوحيد لكل القوى العسكرية في المحافظة.
التنسيق بين السويداء وباقي الجنوب السوري
وفي تصريح لموقع تلفزيون سوريا، قال زياد أبو طافش، الناطق باسم لواء الجبل: “لدينا تنسيق قديم وعلى أعلى المستويات مع فصائل حوران، وفي الأول من كانون الأول أظهرناه بشكل علني حين قمنا بالاشتراك مع اللواء الثامن في درعا بإزالة حاجز للنظام كان قد أقامه بين المحافظتين”.
وأضاف أبو طافش: “آخر اجتماع لنا مع غرفة عمليات الجنوب كان في الخامس من كانون الأول، حيث أنهينا تخطيطنا وتنسيقنا لمعركة تحرير السهل والجبل وصولاً إلى العاصمة دمشق. وكان يُفترض أن نطلقها في السابع من كانون الأول، لكن تهاوي النظام بعد تحرير حماة جعلنا نستعجل بدءها في اليوم التالي وفي ساعة صفر واحدة”.
وأكد الناطق باسم اللواء وجود موقف موحد لدى فصائل درعا والسويداء والقنيطرة وريف دمشق، مبني على رفض الفئوية والتفرد والتهميش.
وضرب القيادي مثالاً على ذلك عندما رفضت السويداء تسمية القيادة في دمشق لقائد شرطة جديد للمحافظة، وأشار إلى تقبل دمشق للأمر وترك تسمية قائد الشرطة للقوى المحلية.
وحول حل الفصائل وتسليم السلاح، قال أبو طافش: “لدينا أزمة ثقة مع القيادة الجديدة في دمشق، ولن نناقش حل الفصائل إلا تحت مظلة دستور توافقي ومع حكومة شرعية. وحينها سيكون أبناء السويداء أول المنخرطين في وزارة الدفاع وجيش سوريا الوطني”.
وشدد القيادي في لواء الجبل على أن سلاح السويداء خط أحمر، وهو للدفاع عن أهلها وكرامة أبنائها.
وحول العمل الحالي لغرفة العمليات المشتركة للواء الجبل مع حركة رجال الكرامة، قال أبو طافش: “عملنا من اللحظات الأولى على حماية المؤسسات الحكومية والأملاك العامة والخاصة وحفظ الأمن، كما بدأنا الآن بعملية جمع السلاح الذي خلفه النظام من المناطق المأهولة ونقله إلى نقاط عسكرية لتنظيمه وحراسته”.
لا مشروع مناطقي ولا جيش لحد في جنوب سوريا
وحول الشائعات والأخبار المتداولة عن مشروع إماراتي يجري العمل عليه في الجنوب السوري، قال الرائد حسن إبراهيم (أبو أسامة الجولاني)، القيادي السابق في الجبهة الجنوبية وعضو هيئة التفاوض سابقاً: “إن دولة الإمارات تقف إلى جانب الشعب السوري بكل أطيافه، ودعمت وتدعم الدولة الموحدة التي يختارها الشعب السوري”، مؤكداً أن أحداً لم يكلمه في أي مشروع مناطقي خاص بالجنوب السوري. كما نوه الجولاني، الذي يقيم في الإمارات العربية المتحدة، إلى ضرورة عدم معاداة الدول العربية، فهي تشكل العمق الاستراتيجي لسوريا، بل إنه يجب الاستعانة بها للمشاركة في إعادة إعمار سوريا.
ويرى الجولاني، الذي ينسق مع الفصائل والقوى الفاعلة في محافظات درعا والقنيطرة وريف دمشق، أنه لا يمكن إقصاء فصائل الجنوب عبر حملات تشويه منظمة، مشدداً على أنه لن يكون هناك جيش لحد كالذي كان في جنوب لبنان لحماية الحدود الإسرائيلية. لكن حالة العداء السياسي مع إسرائيل يجب أن تنتهي، ومن عليه إنهاؤها هي الدولة السورية وليس الأفراد. كما أكد أن سوريا لن تكون مثل ليبيا بأي حال، ولن يُقبل بوجود ميليشيات لا على الحدود ولا في الداخل السوري.
وفي سؤال عن التعامل مع برنامج “حسن الجوار” الذي يُشاع أن إسرائيل تنوي إعادة تفعيله، أجاب الجولاني: “لم نكن طرفاً في البرنامج قبل العام 2018، وكان دعمنا الإغاثي والتنموي للمنطقة مصدره عربي لا إسرائيلي، والآن أصبح هناك دولة، وعليها أن تتخذ القرار بالتعاون أو الرفض إن أرادت إسرائيل تفعيل البرنامج”.
وعن المشهد الفصائلي في الجنوب السوري، قال القيادي: “إن من حرر درعا والقنيطرة وريف دمشق الغربي ودخل دمشق هم فصائل الجنوب، ثم اتخذوا قراراً واعياً بالانسحاب منها بعد وصول فصائل ردع العدوان، وتلك نقطة تُحسب لهم”.
ونوه الجولاني إلى خصوصية وأهمية الجنوب، فهو يجاور أربع دول إقليمية هي لبنان وإسرائيل والأردن وصولاً إلى العراق، وتقطنه عشائر ممتدة. كما أنه يشمل السويداء ذات الخصوصية الطائفية.
وأضاف: “إلى كل ما سبق، فإن أحياء جنوب العاصمة دمشق تقطنها أغلبية من درعا والقنيطرة”.
وشدد الجولاني على أن القيادة الجديدة في دمشق يجب أن تلحظ كل هذه العوامل، وأن تدرك أن عشائر وفصائل الجنوب لها مكانتها ولا يمكن استثناؤها وتهميشها بتعيين حاكم عسكري من مكون فصائلي محدد على مناطقها.
وحذر من أن سياسة الإقصاء المتبعة ستخلق مشكلة في كامل الجنوب السوري، بما في ذلك العاصمة دمشق، مستدركاً: “لن نكون سبباً في سفك دم أي سوري، لكننا نتمسك بحقنا السياسي مستخدمين بذلك أدوات ناعمة، إذ نعمل الآن على تنظيم حاضنتنا لإفراز نخب سياسية وعسكرية ومجتمعية لتنخرط في مؤسسات الدولة السورية الجامعة”.
وحول رؤيته لحل معضلة الفصائل في الجنوب وعموم سوريا وبناء الجيش، قال الجولاني: “بناء الجيش يدخل ضمن معايير الدول في الاعتراف بالدولة الجديدة، ولا يمكن أن يُبنى جيش إلا بالطرق العلمية والمعايير العالمية، وستة أشهر لا تكفي لتخريج ضباط. يجب الاستعانة بالضباط وصف الضباط المنشقين وكل الخبرات العسكرية والأكاديمية من كل الأطياف السورية”.
ولم يخف الجولاني عدم ارتياحه لما وصفه بالمؤشرات غير المبشرة في هذا الصدد، إذ يرى أن السلطة في دمشق تتبع سياسة إرضاء مجموعة على حساب الدولة، الأمر الذي سينعكس، بتقديره، سلباً على الحياة السياسية والجيش، وسيفرز جيشاً من لون واحد يكون جيش سلطة لا جيش دولة.
ويرى القيادي أن دمج الفصائل لا يبني جيشاً، وأنه يجب إقناع الفصائل بأنها قد حققت مبتغاها في إسقاط النظام وتحرير سوريا من الميليشيات الأجنبية. ولا بد من دمج قادتها بالمؤسسات العسكرية أو السياسية أو المجتمعية، وحلها بشكل كامل، وفتح الباب لمن يرغب من أفرادها بالتطوع في الجيش الوطني.
وختم الجولاني حديثه لموقع تلفزيون سوريا بالقول: “سوريا لكل السوريين، والثورة لأبنائها، نتطلع لمستقبل يعيش فيه السوريون بكرامة وحرية ورخاء، ولن نكون أدوات لأي مشاريع خارجية. وعلى القيادة الجديدة إشراك كل السوريين، فسوريا ليست غنيمة حرب ولا يصح إرضاء البنية الفصائلية على حساب الشعب”.
الجنوب بوابة الحل أو شرارة الانفجار
شكلت فصائل درعا والقنيطرة وريف دمشق الغربي، حتى النصف الثاني من عام 2018، جسماً عسكرياً مناوئاً لنظام الأسد أطلق على نفسه اسم “الجبهة الجنوبية لتحرير سوريا”. امتد نشاطه ليشمل فصائل في القلمون والبادية السورية، وتجاوز عدد عناصره العشرين ألف مقاتل، جميعهم من أبناء المنطقة. وكانت تعرف عن نفسها كجسم عسكري وطني يسعى للوصول إلى دمشق وإسقاط النظام، وتطمح لأن تكون نواة لجيش سوريا المستقبلي. كما ربطت هذه الفصائل علاقات مع الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي وبريطانيا وعدد من الدول العربية.
وفي هذا الصدد، يقول الصحفي سمير السعدي لموقع تلفزيون سوريا: “يمكنني الجزم أن هذه العلاقات لم تنقطع يوماً، كما يمكنني التأكيد أن الاتصالات مع تلك الدول قد شهدت ازدياداً كبيراً في الأسبوعين الأخيرين. استمرار نهج الإقصاء الذي تنتهجه القيادة الجديدة في دمشق قد يدفع قوى الجنوب إلى تنظيم مشروع مناوئ، سيفتح الباب أمام تغيرات كبرى قد تدعمها بعض الدول”.
وأضاف السعدي: “قيل سابقاً: لو أن بشار الأسد زار درعا وعزى بشهدائها ووعد بمحاسبة قاتليهم، لاستطاع إخماد شعلة الثورة في مهدها. لكن الجميع أدرك لاحقاً أن في تلك المقولة تقزيماً لمطالب السوريين ولمزاً إلى بساطة أهل حوران، الذين ظن القائل بأنه يمكن إرضاؤهم (ببوسة شوارب)”.
ولفت السعدي إلى أن أبناء الجنوب اليوم يريدون حقهم الوطني (بالصاع الوافي) كما يُقال، ولن يلهيهم التقاط الصور الجماعية وخطاب التسويف عن المطالبة بالمشاركة الحقيقية والكاملة.
تلفزيون سوريا
——————————–
لبنان مأوى الموالين لنظام الأسد… برعاية “حزب الله”/ محمد أبي سمرا
90 ألفا من “النازحين الجدد” إلى بلاد بلا دولة أو بدولة مهترئة
آخر تحديث 04 يناير 2025
أدى زوال كابوس “الأبد” الأسدي عن سوريا إلى أن ينبعث فيها فرح من عمق أكثر من 50 سنة من الألم والعذاب والرعب، تلك التي أنزلها بالسوريين ذاك الكابوس المهول الذي وعد زوالُهُ معظم الشعب السوري وعدا لا يزال غامضا بالحرية والعدالة، رغم أن دونه عقبات كبرى، وقد يتحقق أو لا يتحقق في الآتي من الأيام.
لكن حيوية التغيرات التي تلابس يوميا المشهد السوري تُنبئ الآن بشيء جديد، أقله ذاك الاندفاع السياسي والدبلوماسي العربي والدولي النشيط للتواصل مع الإدارة العامة السورية الجديدة التي يتصدرها في دمشق قائدها العام أحمد الشرع، بعدما استعاد اسمه هذا الذي اختاره له أهله منذ ولادته، أو هو كشف عنه أخيرا ليباشر نشاطه الرسمي من القصر الرئاسي السوري الدمشقي، بقيافة وإطلالة جديدتين. وهو بهذا نسخ عنه (في العلانية العامة على الأقل) اسمه الحركي والعسكري والإسلامي، وشرع يطلق تصريحات سياسية ودبلوماسية “هادئة” و”مطمئنة” على الصعد الداخلية والإقليمية والدولية.
لبنان الشلل والتبلد
أما في لبنان الذي كان الراحل حافظ الأسد قد حكمه من دمشق وربط مصيره، أقله منذ 1990، بمصير نظامه، فيبدو في حال من الشلل والتبلد المديدين. فبعد انقضاء أكثر من شهر على النهاية غير الأكيدة بعدُ لتلك الحرب- وقد بادر إليها “حزب الله” قبل أكثر من سنة ضد إسرائيل “مشاغلة” لجيشها و”إسنادا” لغزة، فارتدت على “الحزب” المذكور وجماعته ولبنان كله عاصفة دموية مدمرة في شهريها الأخيرين- عادت البلاد والجماعات اللبنانية إلى سوابق عهودها التي لم تغادرها أصلا، ونسيت أن حربا مهولة قد وقعت. وحتى الجماعة والمناطق التي نالها الشطر الأعظم من الدمار والقتل والترويع، تعيش آلامها ونكبتها في صمت، وكأن ما حدث من أفعال القدر.
نعم، لقد تعوّد سكان لبنان- ربما منذ أوغلوا في حروبهم الأهلية سنة 1975- على أن ما يعيشونه من نكبات وفواجع، ومن خروجٍ وتعافٍ، ليس سوى قدرٍ محتوم يشبه أفعال الطبيعة، ولا يد لهم فيه ولا هم مسؤولون عنه. وهكذا استسلموا للقدر منتظرين أفعاله فيهم، لتعيش كل جماعة منهم قدرها الخاص ونكباتها وفواجعها وآلامها الخاصة. لذا يبدو أن ما يحدث في لبنان لا يحدث فيه، أو هو يحدث فيه كي يُطوى ويُنسى فورا، وهذا يعني أن لبنان بلدٌ على سبيل الاستعارة والتشبيه والكناية، ويتصرف أهله وتتصرف جماعاته على هذا الأساس.
ومن الأمثلة على ذلك أن معظم اللبنانيين يقرون أنهم مع بلدهم، استُعيروا أو استُعملوا “ساحة” لحروب أهلية مديدة. وهذا أيضا ما ارتضوه عندما استعار حافظ الأسد لبنان وجماعاته، وكذلك سوريا وشعبها كـ”ساحة” لمشاريعه الإقليمية والدولية. وهم حين مانعوا أن يرث “حزب الله” عن الأسد الأب “الساحة” اللبنانية ويستعملها في خدمة مشاريع إيران المشرقية، روعهم “الحزب” المذكور وهزمهم، وجعل مع الأسد الابن سوريا ذاتها ملعبا إيرانيا منذ عام 2012.
وقد تكون حال لبنان “الساحة” قد تأرثت عميقا ومديدا في غرائز جماعاته، فصارت مبدأ عاما للشلل والتبلد. وعلى هذا النحو جاء تأثير سقوط “نظام سوريا الأسد” على لبنان وجماعاته. وهو ما اقتصر على احتفالات كيدية صغيرة متفرقة، تعكس التمزق اللبناني وشعائره الراسخة. أما فرار عشرات الألوف من السوريين إليه- وهم من الجماعات الموالية لنظام الأسد المخلوع، ومن ضباط جيشه وأجهزته الأمنية- فلم يحظَ بغير الصمت والتعتيم، بعدما ضلع “حزب الله” في تدبير فرارهم واستقبالهم وحمايتهم.
الضباط وبطانة الأسد
بعد أكثر من 3 أسابيع على خلع نظام الأسد في سوريا، وفرار أو “لجوء” عشرات الألوف من مواليه وضباطه إلى لبنان، فإن “لبنان الحكومي” الذي لم يبق منه أصلا سوى ظلٍ خاوٍ، يخيم عليه السكوت والتنصل، وفي أحسن الحالات الكلام الفارغ الذي لا يعني شيئا. أما لبنان الجماعات المتحاجزة والمتربصة كلٌ منها بالأخرى، وكذلك زعماؤها، فكل منها ومنهم يغني على ليلاه. فالزعيم الدرزي وليد جنبلاط مثلا، زار دمشق والتقى قائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع، فأعلن من هناك عن ضرورة محاكمة مجرمي نظام الأسد المخلوع الذي كان قد اغتال والده كمال جنبلاط في عام 1977، وجلس نجله الوريث على ضفة النهر، منتظرا جثث أعدائه تعبر فيه، كما قال مرة وليد جنبلاط.
لكن من هم السوريون الفارون إلى لبنان؟
هناك أولا رهط من كبار ضباط النظام المخلوع، أولئك الذين كانوا في أجهزته الأمنية وقطاعاته العسكرية، وسواهم من بطانة المقربين النافذين في دائرة عائلة الأسد. وهؤلاء غالبا ما تمكنوا من اجتياز الحدود البرية اللبنانية بتسهيلات من أجهزة أمنية لبنانية رسمية أو حكومية، لـ”حزب الله” نفوذ واسع فيها. وقد غادر شطر من هؤلاء لبنان إلى الخارج من مطار رفيق الحريري في بيروت، كبثينة شعبان مستشارة الرئيس الفار الإعلامية.
الشطر الآخر من هذا الرهط، لا يزال في لبنان موزعا على أماكن وفنادق في البلاد، من أمثال اللواء جميل الحسن مدير جهاز الاستخبارات الجوية الأسدية، وصاحب فكرة قصف المدنيين السوريين بالبراميل المتفجرة، أثناء ثورتهم على النظام. وأصدر جهاز الإنتربول الدولي مذكرة لملاحقة الحسن وإلقاء القبض عليه، بصفته من مرتكبي جرائم “إبادة جماعية”.
ويلف الغموض هذه الفئة التي لديها حظوة قديمة وراسخة لدى نافذين وسياسيين في لبنان. حظوة تمكن الفارين من الحصول على خدمات كثيرة، أقلها تأمين إخفائهم المؤقت، وتسهيل سفرهم إلى خارج لبنان. وهؤلاء خائفون من ملاحقتهم جراء الجرائم التي ارتكبوها بالشعب السوري، خصوصا منذ عام 2011.
وأفادت مصادر قضائية لبنانية أن مجموعات من ضباط النظام السابق اجتازوا الحدود اللبنانية، وبحوزتهم أسلحة حربية وأموال بالدولار الأميركي. وألقت أجهزة أمنية لبنانية القبض على عشرات الضباط، بعضهم من “الفرقة الرابعة” التي كان يقودها ماهر الأسد. لكنهم باعوا أسلحتهم بأثمان بخسة في لبنان. وأعلن بسام مولوي وزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال في بيروت، أن بثينة شعبان وابن ماهر الأسد وزوجته دخلوا لبنان بطريقة غير قانونية، سهلها لهم ولسواهم من الضباط الفارين- حسب مصادر خاصة في جهاز الأمن العام اللبناني- المقدم في الجهاز أحمد نكد الذي كان مسؤولا عن معبر المصنع الحدودي بين سوريا ولبنان. وتفيد معلومات خاصة أن الضابط نكد أُقصي من مركز عمله في المصنع. وذكر مولوي أيضا أن 21 ضابطا في الجيش السوري جرى توقيفهم في لبنان، وأن هناك 8400 شخص اجتازوا الحدود اللبنانية بطرق غير شرعية.
مأوى “حزب الله”
الفئة الأكبر من الفارين السوريين خليط من جماعات النظام الخائفة في الساحل السوري وجباله، ومن شيعة موالين لــ”حزب الله” أو منخرطين في مجموعاته المسلحة في سوريا. ومعظم هؤلاء من الفقراء، وبينهم جنود سوريون فروا ومعهم عائلاتهم وعبروا إلى لبنان طرقا حدودية غير شرعية، وغض الجيش اللبناني نظره عن دخولهم. ونظم “حزب الله” استقبالهم وإيواءهم في قرى وبلدات بعلبك والهرمل. وفي الأيام التي تلت سقوط نظام الأسد، احتشد ألوف من هؤلاء على معبر المصنع الحدودي، فلم يُسمح لهم بالدخول. لكن حسب عاملين في منظمات المجتمع المدني البقاعية، عبر هؤلاء لاحقا الحدود من طرق غير شرعية.
عدد الفارين الذين استقبلهم “حزب الله” في مراكز إيواء بقرى وبلدات بعلبك والهرمل بلغ 39300 شخص، ومعظمهم أسر وعائلات بائسة. وجرى إيواؤهم وتقديم الغذاء لهم في حسينيات ومدارس وقاعات وشاليهات ومطاعم متوقفة عن العمل. وبعض تعاونيات “البتول” التابعة لـ”الحزب” المذكور، آوت أعدادا من هؤلاء. وأما أعداد الذين من لم يجر إيواؤهم فبلغت 52 ألف شخص. وتشير مصادر جهات حكومية لبنانية إلى أن مجموع هؤلاء الفارين إلى لبنان يتجاوز 90 ألف نسمة. وتضطلع منظمات المجتمع المحلي الموالية لــ”حزب الله” بإدارة شؤونهم.
أما “المفوضية العليا لشؤون اللاجئين في الأمم المتحدة” (UNFCR) فلا تزال حائرة في تصنيف هؤلاء الفارين كلاجئين، ولم تتخذ بعد قرارا بتسجيلهم في لوائحها. وهي تضع في أولوياتها، في حال قررت التعامل معهم كلاجئين، استبعاد تسجيل المقاتلين والجنود، ومن هم على صلة بأجهزة أمنية، ويقتصر تعاملها مع العائلات فقط في حال قررت مساعدتهم بعد درس أوضاعهم. هذا فيما المنظمات الدولية الأخرى لا تزال تستطلع أحوال هؤلاء الفارين في مقار إيوائهم في البقاع.
وتصف عاملة في أحد مقار الإيواء أن أوضاع الفارين مزرية، ويعيشون حالا من الهلع، ويقولون إنهم طُردوا من بيوتهم التي صودرت. وقالت صاحبة هذه الشهادة إن هؤلاء الفارين الجدد الموالين للنظام المخلوع، يشبه مشهدهم اليوم أولئك الذين فروا إلى لبنان بعد عام 2011، وكانوا من الثائرين على النظام نفسه. وأفادت مصادر أمنية خاصة لــ”المجلة” بأن من مكثوا أياما خلف معبر المصنع الحدودي على الجهة السورية، قبل دخولهم الأراضي اللبنانية من معابر بقاعية غير شرعية بينهم مقاتلون سوريون شيعة وإيرانيون وعراقيون وأفغان منخرطون في “حزب الله”.
مفارقات إيواء السوريين
وتنطوي تصرفات الجماعات اللبنانية، وقرارات الحكومة اللبنانية، فيما يتعلق بقدامى اللاجئين السوريين منذ عام 2011 والفارين الجدد بعد سقوط نظام الأسد، على فوضى وتضارب صارخين يعكسان حال التمزق والضياع السياسي في لبنان. ويمكن تلخيص ذلك على الوجه التالي:
– فور سقوط نظام الأسد أعلنت الحكومة اللبنانية عدم فتح المدارس الرسمية التي تعلم التلاميذ السوريين من أبناء قدامى اللاجئين. وهذا بحجة أن النظام الذي طردهم من بلادهم قد سقط، وصار يمكنهم العودة إليها. لكن المنظمات الدولية التي تمول تعليم هؤلاء التلاميذ شرعت في مفاوضة الجهات الرسمية اللبنانية لثنيها عن قرار عدم فتح مدارسهم. وذكّرت هذه المنظمات من تفاوضهم بأن 86 في المئة من تمويل تعليم اللبنانيين في القطاع الرسمي قد يتوقف في حال عزوفهم عن تعليم قدامى أبناء اللاجئين السوريين. هذا فيما احتج معلمو المدارس اللبنانيين الذين يتقاضون رواتبهم من المساعدات الدولية لقطاع التعليم.
– قرر “حزب الله” منع قدامى اللاجئين السوريين من العودة إلى جنوب لبنان، حيث كان يعمل ويقيم شطر منهم قبل الحرب الأخيرة. وسرت أقاويل كثيرة تفيد بأن قرار “الحزب” المذكور هدفه استبدال هؤلاء بالفارين السوريين الجدد الذين يؤويهم، لإسكانهم في الجنوب، واستخدامهم يدا عاملة في عملية إعادة البناء والإعمار.
– قدامى اللاجئين السوريين منذ عام 2011، لا تزال بلدات بقاعية سنية هي مراكز إيوائهم ومخيماتهم. أما الفارون السوريون الجدد بعد سقوط نظام الأسد، فالحسينيات في قرى بقاعية شيعية هي مقار إيوائهم. ومن غرائب مشاهد الإيواء في القرى الشيعية التي تعرضت للتدمير في الحرب الأخيرة، ونزح عنها أهلها وعادوا إلى بيوتهم المدمرة والمتصدع بعضها، ذاك الخليط من الهاربين السوريين من بلادهم خائفين بعد سقوط نظام الأسد، ومن العائدين اللبنانيين إلى تلك القرى التي تعرضت أجزاء منها للتدمير. فبعض القرى الشيعية البقاعية التي قصفتها إسرائيل في الحرب الأخيرة، ما إن عاد أهلها إليها ليقيموا فيها كالمهجرين بسبب دمار بيوتهم، تستضيف حسينياتها ومدارسها فارين سوريين موالين للنظام السوري المخلوع، ويرعاهم “حزب الله”.
– بعض القرى الحدودية الجنوبية اللبنانية الشيعية لا يزال أهلها غير قادرين على العودة إليها، لأن إسرائيل تحتل أجزاء منها، وهي مدمرة تدميرا كاملا تقريبا. وأهالي هذه القرى لا يزالون ينزلون في مدارس النزوح في بيروت وجبل لبنان والشمال. وعدد هؤلاء النازحين 5600 شخص موزعين على 64 مدرسة تؤويهم.
هل التاريخ لعنة؟
هذا هو المشهد اللبناني بعد سقوط نظام الأسد: ضياع وخواء في بلاد بلا دولة أو بدولة مهترئة، وجماعات منكفئة على عوالمها ومصائرها الداخلية المتكلسة والمتبلدة، وهي تنتظر أقدارها الغامضة التي تسقط عليها من الخارج خبط عشواء.
وسوريا التي دمرها نظام الأسد المخلوع، مجتمعا ودولة وجماعات وعمرانا وطبيعة، ينتظرها مسار جديد لا يزال غامضا ومحفوفا بمخاطر كبرى، بدأت تطل برأسها وتتفاعل في البلاد السورية.
لقد أُرغم السوريون بالحديد والنار والسجون والقتل على كتمان مآسيهم وكوارثهم المديدة، ونسيانها أو تناسيها والسكوت عنها في أزمنة الظلم والطغيان الدموي الذي محقهم. فهل يظل التاريخ، تاريخهم، يلاحقهم بما سكتوا عنه وكتموه، حتى بعدما قاموا من المحق وانتفضوا على الطغاة الدمويين؟
وهل هناك لعنة ما تتربص بهذه البلاد المشرقية، أم إن تاريخها ذاته كناية عن لعنة؟
المجلة
———————–
================