سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 05 كانون الثاني 2025
لمتابعة التغطيات السابقة
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 04 كانون الثاني 2025
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 03 كانون الثاني 2025
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 02 كانون الثاني 2025
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 01 كانون الثاني 2025
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 31 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 30 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 29 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 28 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 27 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 26 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 25 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 23 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 22 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 21 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 20 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 19 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 18 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 17 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: المصاعب والتحديات، مقالات وتحليلات 16 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مهام اليوم التالي، مقالات وتحليلات 15 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 14 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: سقوط الديكتاتور الفار بشار الأسد مقالات وتحليلات
———————————–
فهم التهديدات التي تواجه سوريا الديمقراطية والتقدمية اليوم/ جوزيف ضاهر
على الطبقات الشعبية السورية أن تنظّم صفوفها لتحقيق التطلعات الأولية للثورة السورية
هل نموذج الانقلاب المصري محتمل في سوريا؟ وهل النظام القديم وبقاياه يشكلان التهديد الرئيسي لسوريا؟ أم أن التهديد الأساسي اليوم يتمثّل في سعي “هيئة تحرير الشام” والقوى الإقليمية والدولية الداعمة لها لفرض استبداد جديد؟ هذا ما يجيب عليه الباحث القدير الدكتور جوزيف ضاهر في هذا المقال الموسّع، من خلال تحليل التهديد الذي تمثله بقايا النظام القديم أولًا، ومن ثم تحليل سياسة “هيئة تحرير الشام” لتعزيز سلطتها على سوريا الجديدة.
04 كانون الثاني 2025
1. النظام القديم، ما هي طبيعته؟ ما هو التهديد الذي يواجه مستقبل سوريا؟
كان سقوط نظام بشار الأسد نتيجة تراكم النضالات التي خاضتها الجماهير السورية منذ الانتفاضة الشعبية في أذار/مارس 2011. وكان الهجوم العسكري الذي قادته مجموعات المعارضة المسلحة في تشرين الثاني/نوفمبر 2024 بمثابة الضربة النهائية لنظام الأسد، الذي انهار سريعًا في كانون الأول/ ديسمبر 2024.
منذ سقوط الأسد، تُثار العديد من الأسئلة حول مستقبل سوريا، وخاصة فيما يتعلق بماهية التهديدات الرئيسية التي تواجه تأسيس مجتمع ديمقراطي.
ركز العديد من المعلقين والمثقفين والناشطين الليبراليين والديمقراطيين على “الفلول” أو بقايا النظام القديم، وخاصة في القطاعين الأمني والعسكري، باعتبارهم التهديد الرئيسي اليوم للبلاد. وغالبًا ما يتم ذكر سيناريو مصر في هذا السياق، المتعلق بالانقلاب الذي قاده السيسي ضدّ الرئيس محمد مرسي، عضو جماعة الإخوان المسلمين، في تموز/يوليو 2013.
من ناحية أخرى، تتجنب بعض قطاعات المعلّقين والديمقراطيين انتقاد الإدارة الحالية التي تقودها هيئة تحرير الشام أو لا ينتقدونها بشكلٍ كبير، بل تمنح “الهيئة” عمومًا أوراق اعتماد لإدارة المرحلة الانتقالية.
تسعى هذه المقالة إلى دراسة التهديدات الرئيسية لمستقبل سوريا الديمقراطي والتقدمي، والعدالة الاجتماعية والمساواة بين جميع السوريين في البلاد.
يحلّل المقال أولًا التهديد الذي تمثله بقايا النظام القديم، ثم يدرس سياسة هيئة تحرير الشام لتعزيز سلطتها على سوريا الجديدة.
(2): ما هي طبيعة نظام الأسد؟
أسّست عائلة الأسد نظامًا استبداديًا وميراثيًا مطلقًا في سوريا، قائم على امتلاك الدولة من قبل مجموعة صغيرة من الأفراد المرتبطين بروابط عائلية وقبلية وطائفية وزبائنية، يُرمز إليها بالقصر الجمهوري، بقيادة بشّار الأسد وعائلته. وكان الحرس البريتوري (قوة عسكرية ولاءها للحكام، لا للدولة)، ممثلًا في الفرقة الرابعة بقيادة بقيادة ماهر الأسد، يهيمن على القوات المسلّحة والوسائل الاقتصادية وأدوات الإدارة. وقد طوّر النظام السوري نوعًا من رأسمالية المحاسيب التي تهيمن عليها مجموعة صغيرة من رجال الأعمال الذين يعتمدون بشكل كامل على القصر الجمهوري (بشّار الأسد وأسماء الأسد وماهر الأسد)، الذين استغلوا موقعهم المُهيمن الذي ضمنه لهم القصر الرئاسي لجمع ثروات كبيرة. وبعبارة أخرى، فإنّ مراكز القوّة (السياسية والعسكرية والاقتصادية) داخل النظام السوري كانت متركّزة في عائلة واحدة وزمرتها، الأسد، على غرار ليبيا في عهد معمر القذافي، أو صدام حسين في العراق، أو ممالك الخليج. وهذا ما دفع النظام إلى استخدام كلّ العنف المتاح له لحماية حكمه.
أسس حافظ الأسد الدولة الميراثية الحديثة بعد وصوله إلى السلطة في العام 1970. وبنى الأسد بصبرٍ دولةً استطاع فيها تأمين السلطة بوسائل مختلفة مثل الطائفية والجهوية والقبلية والزبائنية، يديرها عبر شبكات سلطة ومحسوبية غير رسمية. ترافق ذلك مع القمع العنيف ضدّ أيّ شكل من أشكال المعارضة. لقد سمحت تلك الأدوات للنظام بدمج أو رفع أو سحق الجماعات المنتمية إلى مختلف الإثنيات والطوائف الدينية، ما تُرجم على المستوى المحلي من خلال التعاون بين مختلف الجهات الفاعلة الخاضعة لسطوة النظام، بما في ذلك مسؤولي الدولة أو حزب البعث، وضبّاط المخابرات، وأعضاء بارزين في المجتمع الأهلي (رجال دين، وشخصيات قبائل، ورجال أعمال، وما إلى ذلك) في إدارة كلّ منطقة على حدة. كما فتح وصول الأسد للسلطة، المجال لبداية اللبرلة الاقتصادية، في تناقضٍ مع السياسات الراديكالية التي سبق اعتمادها في الستينات.
وفي العام 2000، أدى وصول بشّار الأسد إلى السلطة إلى تعزيز هائل في الطبيعة الميراثية للدولة، مع إعطاء وزن متزايد بشكل خاص للمحاسيب الرأسماليين. هذا فيما أدت السياسات النيوليبرالية المتسارعة التي تبنّاها النظام إلى تحوّل تدريجي في القاعدة الاجتماعية للنظام، والتي كانت تعود في أصولها إلى الفلاحين والموظفين الحكوميين وبعض قطاعات البرجوازية، إلى ائتلاف جديد يقع في قلبه الرأسماليون المحاسيب، تحالف الاقتصاد الريعي مع سماسرة السلطة (بقيادة آل مخلوف وهي عائلة أم بشار الأسد) والنظام الداعم للطبقة البرجوازية والمتوسّطة العليا. تزامن هذا التحوّل مع إضعاف مؤسسات الدولة الأكثر اجتماعية كنقابات العمال والفلاحين والشبكات الراعية لهم، مع استمالة الفئات التجارية والطبقات المتوسطة العليا عوضًا عنهم. لكن ذلك سبّب اختلالًا مع قاعدة الدعم السابقة. بشكل أعم، جعل تنامي الطبيعة الميراثية للدولة وإضعاف جهاز حزب البعث والمؤسسات التقليدية (هيمنة جماعات المصلحة) العلاقات الزبائنية والقبلية والطائفية أكثر أهمية من ذي قبل، الأمر الذي ألقى بظلاله على المجتمع ككل.
بعد اندلاع الانتفاضة في العام 2011، اعتمد قمع النظام وسياساته إلى حدٍّ كبير على قاعدة دعمه الرئيسية، القديمة والجديدة: الرأسماليون المحاسيب، والأجهزة الأمنية، والمؤسسات الدينية العليا المرتبطة بالدولة. وفي الوقت نفسه، استفاد من شبكات المحسوبية القائمة على شبكات الرعاية من روابط طائفية وزبائنية وقبلية بهدف التعبئة على المستوى الشعبي. وخلال الحرب، كان للمكوّن الزبائني والعلوي الطائفي للنظام أن حماه من أيّ انشقاقاتٍ كبرى، فيما لعبت علاقات المحسوبية أدواراً أساسية في ربط مصالح الجماعات الاجتماعية المُتباينة بمصالح النظام.
لقد أظهرت القاعدة الشعبية للنظام طبيعة الدولة والطريقة التي تتواصل بها النخبة الحاكمة مع بقيّة المجتمع، أو على وجه التحديد (في هذه الحالة) مع قاعدتها الشعبية، من خلال مزيج من الأشكال الحديثة والعتيقة من العلاقات الاجتماعية، وليس من خلال مجتمع مدني كبير ومتماسك. كان على النظام الاعتماد بشكل أساسي على السلطات القهرية التابعة له، بما في ذلك الإجراءات القمعية وبثّ الرعب في النفوس، ولكن ليس ذلك فقط. فقد أمكن للنظام أن يعتمد على السلبية أو على الأقل خمول المعارضة لدى شرائح كثيرة من موظفي الحكومة المدينيين، وبصفة عامة الطبقات المتوسّطة في المدينتين الكبريين دمشق وحلب، رغم أنّ ضواحي المدينتين مثلت بؤرًا ثورية هامة في كثير من الأحيان. لقد كان هذا جزءًا من الهيمنة السلبية التي تمكن من فرضها النظام.
علاوة على ذلك، أثبتت هذه الحالة أنّ القاعدة الشعبية للنظام لم تقتصر على القطاعات والمجموعات المنتمية إلى العلويين و/أو الأقليات الدينية، رغم أهمية الأخيرة في صفوف مؤيديه. بل شملت تلك القاعدة أيضًا شخصيات ومجموعات من مختلف الطوائف والإثنيات ممّن تعهدوا بدعمهم للنظام. وبشكل أعم، كانت هناك شرائح كبيرة ضمن القاعدة الشعبية للنظام جرت تعبئتها من خلال الروابط الطائفية والقبلية والزبائنية، وأخذت تعمل بشكل متزايد كوكلاء لقمع النظام.
لكن هذه المرونة جاءت بتكلفة عالية، بالإضافة إلى زيادة التبعية لدول وجهات أجنبية. فخصائص وميول النظام الحالية تضخمت، وسلطة الرأسماليين المحاسيب تنامت إلى حدٍّ بعيد، فيما أخذت قطاعات واسعة من البرجوازية السورية تغادر البلاد وتسحب دعمها السياسي والمالي للنظام. أجبر ذلك النظام على الاستشراس أكثر فأكثر لتحصيل الإيرادات المطلوبة بشكل متزايد. وفي الوقت نفسه جرى تعزيز الخصائص الزبائنية والطائفية والقبلية للنظام. لقد تعزّزت هوية النظام الطائفية العلوية، خاصة في المؤسّسات السيادية مثل الجيش، وإلى درجة أقلّ في إدارات الدولة، وهي قضيّة سيتوجب على قيادة الأسد التعامل معها بعد انتهاء الحرب واستلام البلد الممزّق. كما جرى أيضاً تعميق ومأسسة الممارسات الإقصائية القمعية. ولكن في الوقت نفسه، كانت مشاعر الإحباط تتزايد بين السكان العلويين في السنوات القليلة الماضية بسبب الإفقار المستمر للمجتمع والابتزاز الذي تمارسه ميليشيات النظام ضدهم أيضًا.
بشكل عام، هذا ما يجعل النظر إلى النظام كنظام علوي فقط، دون الانتباه إلى “علونة” بعض المؤسسات، ولا سيما الجهاز القمعي المسلّح، قاصراً عن استيعاب ديناميات السلطة ومنظومة الحكم. علاوة على ذلك، لا يقوم النظام على خدمة المصالح السياسية والاجتماعية-الاقتصادية للسكان العلويين ككلّ، بل بالعكس. إنّ عدد القتلى الهائل في صفوف الجيش والميليشيات الأخرى يضم الكثير من العلويين. كما أدى انعدام الأمن وتفاقم الصعوبات الاقتصادية إلى توتّرات وأذكى عداوات ضدّ مسؤولي النظام في صفوف السكان العلويين.[1]
أظهر سقوط النظام هشاشته الهيكلية، عسكريًا واقتصاديًا وسياسيًا، وانهار مثل بيت من ورق. وليس هذا مفاجئًا لأنّه بدا واضحًا أنّ الجنود لن يقاتلوا في صفوف نظام الأسد، بالنظر إلى رواتبهم القليلة وظروفهم الهشّة. وقد فضلوا الفرار أو عدم القتال بدلًا من الدفاع عن نظام لا يكنون له سوى تعاطفًا ضئيلًا جدًا، خاصة وأنّ الكثيرين منهم مجنّدون قسرًا.
كما أضعفت إسرائيل حليفي النظام الرئيسيين الآخرين، حزب الله اللبناني وإيران بشكل كبير منذ أحداث 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023. فقد اغتالت تل أبيب قيادة حزب الله، بمن فيها حسن نصر الله، وأهلكت كوادره بهجمات أجهزة الاستدعاء (البيجرات)، وقصفت قواته في لبنان. ومن المؤكّد أنّ “حزب الله” يواجه الآن أكبر تحدٍّ منذ تأسيسه. كما وجّهت إسرائيل سلسلة من الضربات ضدّ إيران، وكشفت نقاط ضعفها، وصعّدت من وتيرة قصفها للمواقع الإيرانية ومواقع حزب الله في سوريا في الأشهر القليلة الماضية.
مع انشغال داعميها الرئيسيين في شؤونهم الخاصة وإضعافهم، كانت ديكتاتورية الأسد في وضع ضعيف. وبسبب كلّ نقاط ضعفها الهيكلية، ونقص الدعم من السكان الذين تحكمهم، وعدم موثوقية قواتها، ومن دون دعم دولي وإقليمي، تبيّن أنها غير قادرة على الصمود أمام تقدّم المتمردين، وانهارت بسرعة سيطرتها في المدينة تلو الأخرى كما يتداعى بيت من ورق.
وفي هذا السياق، يمكننا القول إنّ هياكل السلطة المرتبطة بالقصر الجمهوري قد ماتت سياسيًا. فقد غادرت عائلة الأسد البلاد، ولم يعد للفرقة الرابعة بقيادة ماهر الأسد أي وجود كوحدة عسكرية منظّمة، وما تبقى من شبكات السلطة الرئيسية، سواء كانت رأسمالية المحاسب أو دينية أو قبلية، إلخ… أصبحت غير ذات أهمية وتقلّصت إلى عدد صغير من الأفراد بلا سلطة. وفي الوقت نفسه، غيّر بعض زعماء القبائل والقادة الدينيين والغرف الاقتصادية ولاءهم للسلطات الحاكمة الجديدة، وهو ما يرمز إليه تبنيهم للعلم السوري الجديد.
(2): عودة النظام القديم؟
بناء على ذلك، هل نموذج الانقلاب المصري محتمل في سوريا؟ هل النظام القديم وبقاياه يشكلان التهديد الرئيسي لسوريا؟ أعتقد أنّ هذا تحليل إشكالي. هناك سببان رئيسيان مترابطان: الاختلاف في طبيعة النظام والتهديد لا يمكن اختزاله في الأفراد بل في هياكل السلطة.
نظام الأسد ما زال يتكئ على شظايا البرجوازية السنية
02 كانون الثاني 2018
وعلى النقيض من سوريا، لم يكن السقوط الأولي للديكتاتور حسني مبارك يعني نهاية النظام المصري. ففي حالة مصر، كان النظام السياسي أقرب إلى شكل من أشكال النظام المراثي الجديد، بمعنى آخر، لم يتم توحيده بعد حول عائلة معينة أو مجموعة صغيرة. وكانت المحسوبية والمحاباة حاضرة في النظام المصري من خلال عائلة مبارك، ولا تزال حاضرة اليوم مع النظام الحالي برئاسة السيسي. كان النظام الجمهوري الاستبدادي المؤسسي يتمتّع بدرجة أكبر أو أقل من استقلال الدولة عن الحكّام، الذين كانوا عرضة للاستبدال. والواقع أنّ القوات المسلّحة في الدولة المصرية تشكل المؤسسة المركزية للحكم السياسي والسلطة. ولا تملك أيّ عائلة الدولة إلى الحدّ الذي يسمح لها بصنع ما يريده أعضاؤها، كما هي الحال في النظام السوري في ظل عائلة الأسد. أما الدولة المصرية فهي تهيمن عليها القيادة العسكرية العليا. وهذا يفسّر لماذا انتهى الأمر بالجيش إلى التخلّص من مبارك وحاشيته من أجل حماية النظام في عام 2011. وتم إخراج جمال مبارك ورفاقه من الائتلاف الحاكم، وتمّ إضعاف شبكات الحزب الحاكم السابق، الحزب الوطني الديمقراطي، كما تمّ إضعاف سلطة وزارة الداخلية في علاقتها بالقوّات المسلحة.
وعلى نحو مماثل، لم يعنِ وصول جماعة الإخوان المسلمين إلى السلطة بانتخاب مرسي رئيساً في عام 2012، نهاية النظام المصري الذي تقوده القيادة العسكرية العليا. فضلًا عن ذلك، حاول مرسي والإخوان في البداية تشكيل تحالف مباشر مع الجيش منذ الأيّام الأولى للانتفاضة في عام 2011، وهم يدركون جيدًا ثقله السياسي ودوره القمعي على مدى عقود من الزمان. ومنذ الأيّام الأولى للثورة، عمل الإخوان كحصن ضدّ الانتقادات والاحتجاجات ضدّ الجيش حتى بعد الإطاحة بمرسي في يوليو/تموز 2013. وقبل ذلك، أدانوا أولئك الذين يحتجون ضدّ الجيش باعتبارهم معادين للثورة وينشرون الفتنة. واستمر دستور ديسمبر/كانون الأول 2012 الذي روّج له الإخوان المسلمون في حماية ميزانية الجيش من تحكّم البرلمان وضمان سلطة القوّات المسلحة. وعارض مرسي والإخوان، بل وقمعوا حتى التعبئة الشعبية والطبقة العاملة في مصر ودافعوا عن الجيش. في الواقع، عيّن الرئيس الأسبق محمد مرسي الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي رئيسًا للجيش وهو يعلم تمامًا أنه قام بسجن وتعذيب المتظاهرين.
وعلى الرغم من جهود الإخوان المسلمين للتعاون مع الجيش، فقد أطاحوا بمرسي وقمعوا حركة الإخوان المسلمين وجميع أشكال المعارضة، بما في ذلك اليساريين والديمقراطيين. وفي النهاية، كان الجيش والإخوان يمثلان أجنحة مختلفة من الطبقة الرأسمالية، مع داعمين إقليميين مختلفين، ولم يتمكنوا من إيجاد تسوية. وقرّر الجيش الأكثر قوّة في النهاية تأكيد حكمه الدكتاتوري المباشر على حساب الجميع في مصر. لقد خلق السيسي النظام الأكثر قمعًا الذي شهدته مصر منذ عقود، وهو نظام نيوليبرالي دكتاتوري، نفذ بوحشيّة النطاق الكامل لتوصيات التقشف الصادرة عن صندوق النقد الدولي، مما أدى إلى إفقار هائل وتضخم هائل.
في هذا السياق، لم يتم في أيّ وقت من الأوقات، وحتى اليوم، الإطاحة بمركز السلطة في مصر، بل على العكس تمامًا. وفي حالة سوريا كما شرحنا أعلاه، لم تعد هياكل القوى المرتبطة بالقصر الجمهوري موجودة، وبالتالي فإن المقارنات مع السيناريو المصري ليست مفيدة.
ومع ذلك، فإنّ أفراد النظام السابق، وخاصة من الميليشيات والأجهزة الأمنية والفرقة الرابعة، يمكن أن يمثلوا تهديدًا لاستقرار سوريا. ولديهم مصلحة في تغذية الازدهار الطائفي، وخاصة في المناطق الساحلية، حيث يتمركزون إلى حدٍّ كبير منذ سقوط نظام الأسد، وإلى حدٍّ أقل في حمص. وقد انعكس هذا في الهجمات ضدّ قوات هيئة تحرير الشام بالقرب من مدينة طرطوس الساحلية، والتي أسفرت عن مقتل 14 منهم وإصابة 10 آخرين، في 25 ديسمبر/كانون الأول. ورداً على ذلك، شنّت قوات الهيئة غارات “لملاحقة بقايا ميليشيات الأسد”. وعلى نحو مماثل، لدى إيران مصلحة أيضًا في خلق حالة من عدم الاستقرار من خلال التوتّرات الطائفية باستخدام أفراد مرتبطين بشبكاتها في البلاد.
وقد تمّ بالفعل حشد بعض بقايا النظام السابق في أحدث التحرّكات في حمص والمناطق الساحلية في أعقاب مقطع فيديو تمّ تداوله على شبكات التواصل الاجتماعي يظهر تخريب مزار علوي في حلب، والذي حدث قبل أسابيع قليلة من نشره. ولكن لا ينبغي لنا أن ننظر إلى هذه المظاهرات باعتبارها مجرّد مظاهرات تحركها إيران أو بقايا النظام القديم من الخارج، فهناك مخاوف بين قطاعات من السكان العلويين من الجهة الحاكمة الجديدة، هيئة تحرير الشام، ودعوات للانتقام بعد سقوط نظام الأسد.
ولهذا السبب، لا بدّ من الانتباه إلى الزيادة في الحوادث، التي كانت حتى الآن معزولة أو على الأقل غير منهجية، ذات طبيعة طائفية منذ سقوط النظام، وخاصة عمليات الإعدام والاغتيال في ديناميكية الانتقام. وكانت هذه هي الحال ضدّ الأفراد الذين تورّطوا في جرائم مع النظام السابق، حيث تختلط الأسباب السياسية والطائفية للانتقام في كثير من الأحيان، وخاصة ضدّ العلويين. لقد مزّقت جرائم نظام الأسد المجتمع السوري، مخلّفة وراءها إرثًا من الفظائع والمعاناة على نطاق واسع. وفي هذا السياق، من الضروري وضع إجراءات منسّقة للاستجابة للاحتياجات الفورية للضحايا وإنشاء آليات لإطار شامل وطويل الأمد للعدالة الانتقالية. إنّ معالجة إرث الوحشية المنهجية لنظام الأسد أمر ضروري لخلق مسار مستدام وسلمي. يمكن للعدالة الانتقالية أن تلعب دورًا حاسمًا ضدّ أعمال الانتقام وزيادة التوترات الطائفية.
وبالإضافة إلى عملية تشجيع العدالة الانتقالية ومعاقبة جميع الأفراد المتورطين في جرائم الحرب، سواء من النظام القديم أو من جماعات المعارضة المسلحة الأخرى، فإنّ دورة سياسية جديدة تسمح بالمشاركة الواسعة من أسفل الطبقات الشعبية في اتخاذ القرار ومعالجة مختلف القضايا الديمقراطية والاجتماعية، وحدها القادرة على استعادة الاستقرار على المدى الطويل.
خاتمة الجزء الأوّل
إنّ بقايا النظام القديم، وخاصّة من الأجهزة الأمنية والعسكرية، تشكّل تهديداً لاستقرار سوريا على المدى القريب كما ذكرنا آنفاً. ولابدّ من إيقافهم ومحاكمتهم على جرائمهم.
ومع ذلك، ورغم عدم التقليل من شأن المكافآت التي تمثلها هذه المجموعات من الأفراد، فإنّها لا تشكل تهديداً في شكل العودة إلى السلطة وإعادة فرض الدكتاتورية. فهي لا تملك الوسائل السياسية والعسكرية والاقتصادية لتحقيق مثل هذا الهدف. ومن المهم أن نفهم طبيعة نظام الأسد والفرق بينه وبين السيناريو المصري. ففي حين أنّ النظام القديم في سوريا ميّت هيكليًا، وهو ما ينعكس في اختفاء القصر الجمهوري وشبكاته، فإنّ مراكز القوة داخل القيادة العسكرية العليا في مصر ظلّت في السلطة، على الرغم من سقوط مبارك في عام 2011 وحكم مرسي بين يوليو/تموز 2012 ويوليو/تموز 2013.
إنّ فهم هذه الديناميكيات مهم أيضاً للتحذير من اتهامات الفلول التي يقودها بعض المعلّقين ووسائل الإعلام القريبة من الجهة الحاكمة الجديدة، هيئة تحرير الشام، ضدّ أيّ شخص ينتقدها أو يتظاهر ضدها. وهذه وسيلة لتشويه سمعة الأفراد والجماعات ومطالبهم السياسية. وعلى نحو مماثل، أثيرت اتهامات الفلول ضدّ مظاهرة من أجل دولة ديمقراطية وعلمانية في دمشق قبل بضعة أسابيع، لأنّ العديد من الأفراد اتُهموا، في بعض الأحيان ظلمًا، بأنهم من أنصار النظام القديم. وبصرف النظر عن وجود العديد من الأفراد المؤيدين المحتملين للنظام السابق بين آلاف المتظاهرين وأكثر، فإنّ الهدف الحقيقي كان تشويه سمعة المظاهرة والمطالب المرتبطة بها. فضلًا عن ذلك، هناك استعداد لوصف بعض القضايا مثل العلمانية والاشتراكية بأنّها مرتبطة بالنظام القديم و/أو مستوردة من الغرب لتشويه سمعتهم.
في الواقع، يرتبط هذا بالجزء الثاني من المقال. مرّة أخرى، إذا كانت مجموعات من أفراد النظام القديم تشكّل تهديدًا لاستقرار البلاد، فإن التهديد الكبير لسوريا الديمقراطية والتقدّمية يكمن في تعزيز سلطة هيئة تحرير الشام وفروعها من الجيش الوطني السوري، بدعم من تركيا وقطر.
2- تعزيز حكم هيئة تحرير الشام، أو تهديد لسوريا الديمقراطية والتقدمية المستقبلية
لقد جلب الدور القيادي لهيئة تحرير الشام في الهجوم العسكري الذي أدى إلى سقوط الأسد شعبية هائلة للمنظّمة وزعيمها أحمد الشرع. لقد استفادوا منذ ذلك الحين من شكل من أشكال الشرعية “الثورية”، والتي يتم استخدامها لتعزيز حكمهم سياسيًا وعسكريًا في المناطق الخاضعة لسيطرة الهيئة.
ورغم أنّ الهيئة تطوّرت سياسيًا وأيديولوجيًا، وتخلّت عن أهدافها الجهادية العابرة للحدود الوطنية لتصبح طرفًا فاعلًا يسعى إلى العمل ضمن الإطار الوطني السوري، فإنّ هذا لا يعني أنّها أصبحت طرفًا فاعلًا يدعم المجتمع الديمقراطي ويعزّز المساواة والعدالة الاجتماعية، بل على العكس تمامًا.
ومن هذا المنظور، من المهم تحليل الكيفية التي تسعى بها هيئة تحرير الشام إلى تعزيز سلطتها على المجتمع وإقامة نظام استبدادي جديد.
هيئة تحرير الشام، تعزيز السلطة
بعد سقوط النظام، التقى أحمد الشرع في البداية برئيس الوزراء السابق محمد الجلالي لتنسيق انتقال السلطة، قبل أن يعيّن محمد البشير رئيسًا للحكومة الانتقالية المسؤولة عن إدارة الشؤون الجارية. وكان البشير قد ترأس في السابق حكومة الإنقاذ، وسيظل في منصبه على أيّ حال حتى الأوّل من مارس/آذار 2025. وتتكون الحكومة الجديدة من أفراد من صفوف هيئة تحرير الشام أو مقرّبين منها فقط.
عيّن أحمد الشرع وزراء جدد وشخصيات أمنية ومحافظين لمختلف المناطق التابعة للهيئة أو الجماعات المسلحة التابعة للجيش الوطني السوري. على سبيل المثال، تمّ تعيين أنس خطاب (المعروف أيضاً باسم أبو أحمد حدود) رئيساً لأجهزة الاستخبارات. وهو عضو مؤسّس في جبهة النصرة وكان المرجع الأمني الأوّل للجماعة الجهادية. واعتباراً من عام 2017، كان يحكم الشؤون الداخلية والسياسة الأمنية للهيئة. وبعد تعيينه، أعلن عن إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية تحت سلطته.
وبالمثل، فإنّ إنشاء الجيش السوري الجديد يتم على يد أحمد الشرع وحلفائه في السلطة. وقد عيّنوا قادة هيئة تحرير الشام من الضباط الأعلى رتبة، مثل وزير الدفاع الجديد والقائد الأعلى لهيئة تحرير الشام منذ فترة طويلة، مرهف أبو قصرة، الذي تمّ تعيينه جنرالاً.
وفي عملية إعادة تشكيل الجيش السوري، تسعى حكومة هيئة تحرير الشام أيضًا إلى تعزيز سيطرتها وهيمنتها على الجماعات المسلحة المتشرذمة في البلاد من خلال تبرير إجراءاتها وهذه العملية بمنع أيّ طرف آخر من حمل الأسلحة خارج سيطرة الدولة، وأنّ وزارتي الدفاع والداخلية السوريتين هما الطرفان الوحيدان المسموح لهما بحيازة الأسلحة. ورغم أنّ توحيد كلّ الجماعات المسلحة في جيش سوري جديد لا يلقى معارضة في حدِّ ذاته، إلا أنّ هناك معارضة من قطاعات كبيرة من المجتمع الدرزي في السويداء والأكراد في شمال شرق البلاد، دون وجود بعض الضمانات، مثل اللامركزية وعملية انتقال ديمقراطية حقيقية.
وفي إحدى مقابلاته الأخيرة، صرّح أحمد الشرع أيضاً أنّ تنظيم الانتخابات المقبلة قد يستغرق أربع سنوات، وصياغة دستور جديد قد يستغرق ثلاث سنوات. وفي الوقت نفسه، تمّ الحديث عن تنظيم “مؤتمر الحوار الوطني السوري” في 4 و5 يناير/كانون الثاني 2025، والذي من المفترض سيجمع 1200 شخصية ,ولكن تم تأجيله في النهاية إلى موعد غير معروف حتى الآن. ولكن لم يتم تقديم أيّ معلومات عن كيفية اختيار هذه الشخصيات، باستثناء أنّ كلّ محافظة ستمثلها ما بين 70 و100 شخصية، مع الأخذ بعين الاعتبار جميع الشرائح من مختلف الطبقات الاجتماعية والعلمية مع ممثلين عن الشباب والنساء.
وأطلق محامون سوريون مؤخرًا عريضة للمطالبة بإجراء انتخابات نقابية حرّة إثر تعيين السلطات الجديدة مجلس نقابة غير منتخب.
تسعى هيئة تحرير الشام إلى تعزيز قوّتها مع تنفيذ انتقال متحكّم فيه من خلال السعي أيضًا إلى تهدئة المخاوف الأجنبية، وإقامة اتصالات مع القوى الإقليمية والدولية، والاعتراف بها كقوّة شرعية يمكن التفاوض معها. تتمثل إحدى العقبات أمام هذا التطبيع في حقيقة أنّ الهيئة لا تزال تعتبر منظمة إرهابية من قبل الولايات المتحدة وتركيا والأمم المتحدة، بينما لا تزال سوريا خاضعة للعقوبات. علاوة على ذلك، كجزء من قانون تفويض الدفاع الوطني للسنة المالية 2025، وقع الرئيس الأمريكي جو بايدن في 23 كانون الأول /ديسمبر على تمديد تطبيق قانون قيصر حتى 31 كانون الأول/ديسمبر 2029، على الرغم من سقوط نظام الأسد. ينصّ هذا النص، الذي وقع عليه الرئيس السابق دونالد ترامب قبل خمس سنوات، على فرض عقوبات على جميع الجهات الفاعلة (بما في ذلك الأجانب) التي تساعد النظام السوري في الحصول على الموارد أو التقنيات التي تعزّز أنشطته العسكرية أو تساهم في إعادة إعمار سوريا.
ولكن العناصر المؤيدة لتغيير توجّهات العواصم الإقليمية والدولية حيال هيئة تحرير الشام أصبحت واضحة بالفعل. ومن الواضح أنّ أنقرة هي الداعم السياسي والعسكري الرئيسي لسوريا الجديدة، في حين ستلعب قطر دورًا رئيسيًا كركيزة اقتصادية. وفي الوقت نفسه، يعمل الشرع على بناء علاقات مع دول عربية أخرى، إقليمية ودولية. على سبيل المثال، التقى زعيم هيئة تحرير الشام بوفد سعودي في دمشق وأشاد بخطط التنمية الطموحة للمملكة، في إشارة إلى مشروع رؤية 2030، وأعرب عن تفاؤله بشأن التعاون المستقبلي بين دمشق والرياض. وبالنسبة للمملكة، وغيرها من دول الخليج، فإن تطوّر العلاقات مع القادة السوريين الجدد سيعتمد على قدرتهم على معالجة مخاوفهم بشأن الطبيعة السياسية للبلاد ومنع سوريا من أن تصبح مصدرًا آخر لعدم الاستقرار الإقليمي. و زار وفد سوري المملكة، يضم وزير الخارجية ووزير الدفاع ورئيس أجهزة المخابرات.
وحتى على مستوى القوى الغربية، فإنّ التغيير في الاتجاه ملحوظ، بما في ذلك من جانب الولايات المتحدة. فقد قالت رئيسة قسم الشرق الأوسط في الدبلوماسية الأميركية، باربرا ليف، بعد لقائها بأحمد الشرع في دمشق في أواخر ديسمبر/كانون الأول 2024، إنهما عقدا “اجتماعًا جيدًا ومثمرًا ومفصّلًا للغاية” حول مستقبل الانتقال السياسي في هذا البلد. كما وصفت أحمد الشرع بأنه “رجل عملي”، وأعلنت أنّ واشنطن سحبت مكافأة العشرة ملايين دولار التي كانت مقرّرة على رأسه منذ عام 2013 لدوره في جبهة النصرة.
وقد تؤدي التصريحات الأخيرة التي أدلى بها الشرع حول حل هيئة تحرير الشام أيضا إلى حلّ بعض هذه المشاكل.
ولكن إسرائيل لا تزال تشكل تهديدًا لاستقرار سوريا، وهي لا ترغب بشكل خاص في رؤية عملية التحوّل الديمقراطي. فبعد الإطاحة بنظام الأسد، الذي ضمن لإسرائيل الاستقرار على حدودها، وسّع جيش الاحتلال الإسرائيلي احتلاله للأراضي السورية بغزو الجزء السوري من جبل الشيخ في مرتفعات الجولان ونفذ أكثر من 480 غارة على بطاريات مضادة للطائرات ومطارات عسكرية ومواقع إنتاج أسلحة وطائرات مقاتلة وصواريخ. كما ضربت السفن الصاروخية المنشآت البحرية السورية في ميناء البيضا وميناء اللاذقية حيث كانت 15 سفينة بحرية سورية راسية. وتهدف هذه الغارات إلى تدمير القدرات العسكرية السورية لمنع استخدامها ضدّ إسرائيل. كما أنها تزرع رسالة مفادها أنّ جيش الاحتلال الإسرائيلي يمكن أن يتسبّب في عدم الاستقرار السياسي في أيّ وقت، إذا تبنت الحكومة المستقبلية موقفًا عدائيًا لا يخدم مصالح إسرائيل.
يبدو مستقبل سوريا بعد سقوط الأسد مفعمًا بالتحديات، وبخاصة ما يتعلّق بتقويم اقتصادها وإعادة إعمارها. قُدِّر الناتج المحلي الإجمالي لسوريا، في العام 2023، بـ 17.5 مليار دولار أمريكي، مقابل 60 مليار دولار أمريكي قبل العام 2011، حسب تقديرات الحكومة السابقة. من جانبه، قدّر البنك العالمي في مايو/ أيار العام 2024، في تقريره نصف السنوي عن الوضع الاقتصادي في سوريا، الناتج المحلي الإجمالي للبلد في العام 2023 بنحو 6.2 مليار دولار، استنادًا إلى بيانات شبكة NTL ،(Night-time Ligh)، هذا النظام الذي يتتبع النشاط الاقتصادي باستخدام صور الأقمار الصناعية للأضواء الليلية.
لا تزال العقوبات المفروضة على سوريا عقبة أمام تقويم اقتصاد البلد، وأمام الاستثمارات الأجنبية المباشرة في المستقبل القريب. وبرغم أنّ هيئة تحرير الشام باتت الفاعل العسكري والسياسي الرئيس في سوريا اليوم، لا تزال تُعتبر على نطاق واسع على الصعيد الدولي منظمة إرهابية. وبرغم التغيّر الحاصل في تعامل العواصم الإقليمية والدولية، قد يستغرق رفع العقوبات بعض الوقت، إذ أنّ الحكومات تطالب بضمانات من الماسك الجديد بالسلطة.
إن عدم وجود وضع اقتصادي آمن ومستقر في سوريا، يشكل عقبة في وجه تحفيز الاستثمار المحلي والأجنبي على حدٍّ سواء. فقد ظلّ الاستثمار الأجنبي المباشر محدودًا، ومركّزًا بنحو أساسي على إيران وروسيا منذ العام 2011. قد تكون دول الخليج مهتمة بالاستثمار في البلد لإنماء نفوذها، لكن دور هيئة تحرير الشام الراهن قد يكون عائقًا، حيث تنظر إليها دول عديدة بالمنطقة نظرة سلبية.
فعلى سبيل المثال، صرح المستشار الدبلوماسي للرئيس الإماراتي، أنور قرقاش، بأن “طبيعة القوى الجديدة في السلطة وعلاقاتها بالإخوان المسلمين وتنظيم القاعدة مؤشرات باعثة على قدر من القلق”.
ويمثّل عدم استقرار الليرة السورية مشكلة كبيرة أيضًا. ففي حين ارتفعت قيمتها في السوق السوداء بشكل حاد في أعقاب سقوط النظام قبل أن تستقر عند 15000 ليرة للدولار الواحد، لا يزال الطريق طويلًا. فعدم استقرار العملة السورية يُقوّض جاذبيتها من حيث عوائد الاستثمار في البلد وفوائده المحتملة على المدى القصير والمتوسط.
وفضلًا عن ذلك، يحوم عدم يقين في المناطق الشمالية الغربية المستعملة لليرة التركية منذ عدة سنوات لتحقيق استقرار الأسواق المتضرّرة بسبب انخفاض قيمة الليرة السورية الحاد. وقد تكون إعادة استخدام الليرة السورية عملة رئيسيةً في هذه المناطق إشكالية إن لم يتم إرساء الاستقرار.
تضرّرت جدًا، في الآن ذاته، البنية التحتية وشبكات النقل. كما يشكل ارتفاع تكلفة الإنتاج، ونقص المنتجات الأساسية وموارد الطاقة (خاصة الوقود والكهرباء) مشاكل إضافية. وتعاني سوريا أيضًا من نقص في العمالة الماهرة، إذ لا تعد عودة أصحاب المهارات مؤكّدة بعدُ.
وحتى القطاع الخاص، المكوَّن بشكل أساسي من مؤسّسات صغيرة ومتوسطة الحجم ذات قدرة محدودة، بحاجة ماسة إلى التحديث وإعادة بناء بعد أكثر من 13 عامًا من الحرب.
وبنحو مواز، تظلّ موارد الدولة محدودة للغاية، ما يقلّص أيضًا نطاق الاستثمار في الاقتصاد، لا سيما في القطاعات الإنتاجية.
وفضلًا عن ذلك، يعيش 90% من السكان تحت خط الفقر، ما يجعل قدرتهم الشرائية ضعيفة جدًا، ما يؤثّر سلبًا على الاستهلاك الداخلي. هذا لأنّ الناس في سوريا لا يحصلون، رغم توافر فرص العمل، على أجور كافية لتلبية حاجاتهم اليومية. ويعتمد السوريون، في هذا السياق، بشكل متزايد على التحويلات المالية لمواجهة ضرورات الحياة.
وقد أعلن بعض المسؤولين في الحكومة الجديدة، مثل أحمد الشرع، أنهم سيسعون إلى زيادة أجور العمال بنسبة 400% في الأيام المقبلة، ليصل الحدّ الأدنى للأجور إلى 1,235,360 ليرة (حوالي 75 دولارًا). وبرغم أنّ هذه خطوة في الاتجاه الصحيح، إلا أنها لن تكون كافية لتغطية حاجات العمال في سياق ارتفاع مستمر لتكاليف المعيشة. فقد، قدّرت وسيلة الإعلام قاسيون في أكتوبر/ تشرين أوّل 2024 متوسّط تكاليف معيشة أسرة سورية من خمسة أفراد في دمشق بـ 13.6 مليون ليرة سورية (الحد الأدنى للدخل 8.5 مليون ليرة) (ما يعادل 1077 دولار و673 دولاراً على التوالي).
وعلاوة على هذا كلّه، لا يزال نفوذ القوى الأجنبية في سوريا مصدر تهديد وعدم استقرار، كما دلّ الغزو الإسرائيلي الأخير والتدمير المتواصل للبنية التحتية العسكرية، فضلًا عن الهجمات والتهديدات المستمرة من تركيا في شمال شرق سوريا، لا سيما في المناطق التي تقطنها أغلبية كردية.
تتمثل إحدى المشاكل الرئيسية، في خضم ما تغرق فيه سوريا من انعدام يقين، في غياب أيّ برنامج اقتصادي وسياسي بديل لدى معظم القوى السياسية الرئيسية، ومنها هيئة تحرير الشام.
ليس لدى الهيئة بديل عن النظام الاقتصادي النيو ليبرالي؛ وهي تسعى، وفق ديناميكيات رأسمالية المحاسيب وأشكالها المميّزة للنظام القديم، إلى تطوير هذه الممارسات نفسها ضمن شبكات الأعمال (المكوّنة من فاعلين قدامى وجدد). في السنوات السابقة، شجّعت حكومة الإنقاذ السورية، وهي الإدارة المدنية التابعة لهيئة تحرير الشام في إدلب، على تطوير القطاع الخاص، مفضّلةً العلاقات التجارية مع المقرّبين من هيئة تحرير الشام ومن الجولاني. وفي الآن ذاته، تمّت إتاحة معظم الخدمات الاجتماعية، وخاصة الصحة والتعليم، من قبل منظمات غير حكومية محلية أو دولية.
صرّح رئيس غرفة تجارة دمشق، باسل حموي، أنّ الحكومة السورية الجديدة التي عيّنتها هيئة تحرير الشام أبلغت رؤساء الشركات بعد سقوط النظام، أنها ستعتمد نظام السوق الحرة ودمج البلد في الاقتصاد العالمي. وكان الحموي قد “انتُخب” لمنصبه الحالي في نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، أي قبل أسابيع قليلة من سقوط الأسد. وهو أيضًا رئيس اتحاد غرف التجارة السورية.
كما عقد الشرع ووزير الاقتصاد لقاءات عديدة مع ممثلي هذه الغرف الاقتصادية ورجال الأعمال من مختلف المناطق لشرح رؤاهم الاقتصادية والاستماع إلى شكاواهم من أجل تلبية مصالحهم، ولا تزال الأغلبية العظمى من ممثلي الغرف الاقتصادية المختلفة في النظام القديم يشغلون مناصبهم.
وقد أكد وزير الاقتصاد الجديد، المنتمي للهيئة، هذا التوجه النيو ليبرالي بعد أيام قليلة، معلنًا “سننتقل من اقتصاد اشتراكي… إلى اقتصاد السوق الحر الذي يحترم الشريعة الإسلامية”. وبصرف النظر عن مدى صحة اعتبار النظام السابق اشتراكيًا، أظهر الوزير بوضوح توجهه الطبقي بإصراره على أن “القطاع الخاص… سيكون شريكًا فعالًا للإسهام في بناء الاقتصاد السوري.” ولم يأتِ الوزير على ذكر مكان الشغيلة والفلاحين وموظفي الدولة والنقابات العمالية والجمعيات المهنية في اقتصاد البلد المستقبلي.
وفي نهاية المطاف، سيؤدي بلا شك هذا النظام الاقتصادي النيو ليبرالي، المقترن باستبداد هيئة تحرير الشام، إلى مزيد من التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية وإلى إفقار مستمر للشعب السوري، الأمر الذي كان أحد أسباب انتفاضة 2011 الرئيسية.
تتوقف عملية إعادة البناء على القوى الاجتماعية والسياسية التي ستلعب دورًا في تشكيل مستقبل البلد، وكذا على توازن القوى بينها.
في هذا السياق، سيكون بناء منظمات نقابية مستقلة وجماهيرية أمرًا ضروريًا لتحسين ظروف معيشة وعمل السكان، وبشكل عام النضال من أجل الحقوق الديمقراطية والنظام الاقتصادي القائم على العدالة الاجتماعية والمساواة.
أيديولوجيا رجعية
وعلى نحو مماثل، أصدرت هيئة تحرير الشام عدّة تصريحات وقرارات تؤكّد أيديولوجيتها الرجعية.
وعلى نحو مماثل، صدرت تصريحات رجعية عن مسؤولين في هيئة تحرير الشام بصدد دور النساء في المجتمع، لا سيما قدرتهن على العمل في قطاعات معينة. فعلى سبيل المثال، قال عضو الهيئة، والمتحدث في الشأن السياسي في قيادة العمليات العسكرية، عبيدة أرناؤوط، في مقابلة أجريت معه في 16 ديسمبر/كانون الأول “يجب أن تطابق مسؤوليات المرأة ما تستطيع انجازه. فعلى سبيل المثال، إذا قلنا أن امرأة يجب أن تكون وزيرة للدفاع، فهل يتوافق ذلك مع طبيعتها وتكوينها البيولوجي؟ بلا شك لا”.
من أبو صقار إلى جمعية تعدد الزوجات، ورطة المعارضة السوريّة الأسديّة
02 تشرين الثاني 2021
وبعد أيام قليلة، ردّت وزيرة شؤون المرأة المعينة حديثًا في سوريا والمرأة الوحيدة حتى الآن في الحكومة الانتقالية السورية، عائشة الدبس، على سؤال حول “المساحة” التي ستُمنح للمنظمات النسوية في البلاد، قائلة: “إذا كانت تصرفات مثل هذه المنظمات “تدعم النموذج الذي سنبنيه، فسيكون موضع ترحيب”، مضيفة “لن أفتح الطريق لمن لا يتفق مع تفكيري”. وقالت: “لماذا نعتمد النموذج العلماني أو المدني؟ نريد تطبيق النموذج المناسب للمجتمع السوري، والمرأة السورية ستحقق ذلك” وواصلت المقابلة في تقديم رؤية رجعية لدور المرأة في المجتمع من خلال حثّ النساء على “عدم تجاوز الأولويات التي وهبها الله لهن” ومعرفة “دورهن التربوي في الأسرة”.
وبالإضافة إلى ذلك، قامت وزارة التربية بإجراء تغييرات على المناهج الدراسية نحو رؤية إسلامية أكثر محافظة، بما في ذلك إزالة نظرية التطوّر من المناهج العلمية، ويتم الإشارة إلى اليهود والمسيحيين الآن على أنهم “الضالون” أو تم استبدال الإشارة إلى “للحفاظ على تراب الوطن” لتكون بـ “ضحوا في سبيل الله”.
وبعد العديد من الانتقادات التي وجهت لهذه التغييرات، أعلن وزير التربية في اليوم التالي أن “المناهج الدراسية في جميع مدارس سوريا ما زالت على وضعها حتى تُشَكِّل لجان اختصاصية لمراجعة المناهج وتدقيقها، وقد وجهنا فقط بحذف ما يتعلق بما يمجد نظام الأسد البائد واعتمدنا صور علم الثورة السورية بدل علم النظام البائد في جميع الكتب المدرسية…”. وليس من الواضح إن كان ذلك يعني إلغاء بعض التغييرات التي تم إجراؤها.
ومن ثم، فإنّ الإدلاء بتصريحات غير واضحة بشأن التسامح مع الأقليات الدينية أو العرقية أو احترام حقوق المرأة ليس كاف. فالقضية الأساسية هنا هي الاعتراف بحقوقهم كمواطنين متساوين يشاركون في تقرير مستقبل البلاد. وعلى نحو أكثر عمومية، أعلن مسؤولو هيئة تحرير الشام بوضوح تفضيلهم للحكم الإسلامي وتطبيق الشريعة الإسلامية.
لا حل للقضية الكردية
من غير المرجح أن يكون لدى هيئة تحرير الشام أيّ استعداد لدعم مطالب وتوجّهات قوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية، وخاصة فيما يتعلّق بالحقوق القومية الكردية. فضلًا عن ذلك، فإنّ المناطق الشمالية الشرقية استراتيجية لأنها غنية بالموارد الطبيعية والنفط والزراعة.
المسألة الكردية في سورية (10)
18 نيسان 2015
وفيما يتعلّق بالقضيّة القومية الكردية في سوريا، فإنّ هيئة تحرير الشام لا تختلف عن المعارضة السورية في المنفى التي تهيمن عليها جهات عربية معادية للحقوق القومية الكردية، ممثلة أولًا بالمجلس الوطني السوري ثم بالائتلاف الوطني لقوى المعارضة والثورة.
وهذا هو الحال بشكل خاص، حيث أصبحت تركيا الفاعل الإقليمي الأكثر أهمية في البلاد، بعد سقوط نظام الأسد. فإلى جانب الدعم المستمر لوكيلها الجيش الوطني السوري، فإنّ دعم أنقرة لهيئة تحرير الشام يهدف إلى تعزيز سلطتها على سوريا من خلال مساعدة المجموعة في المرحلة الانتقالية. والآن لدى تركيا ثلاثة أهداف رئيسية في سوريا. إلى جانب تشجيع أو تنفيذ العودة القسرية للاجئين السوريين في تركيا إلى سوريا والاستفادة من الفرص الاقتصادية المستقبلية في سوريا، وخاصة في مرحلة إعادة الإعمار، فإنّ الهدف الرئيسي لتركيا في سوريا هو حرمان الأكراد من تطلّعاتهم للحكم الذاتي وبشكل أكثر تحديدًا تقويض الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا التي يقودها الأكراد، وهو ما من شأنه أن يشكّل سابقة لتقرير المصير الكردي في تركيا، وهو ما يشكّل تهديدًا للنظام الموجود في تركيا حاليًا. في الواقع، أعلن وزير الخارجية التركي حقان فيدان خلال مؤتمر صحفي مشترك مع أحمد الشرع أنّ وحدة أراضي سوريا “غير قابلة للتفاوض” وأن حزب العمال الكردستاني “ليس له مكان” في البلاد. وبعد أيّام قليلة، أعلن الرئيس أردوغان أنّ قوات سوريا الديمقراطية “إما أن تسلم أسلحتها، أو سيتم دفنها مع أسلحتها في الأراضي السورية”. كما استهدف الجيش التركي باستمرار المدنيين والبنى التحتية الحيوية في شمال شرق سوريا بحملات قصف منذ نهاية عام 2023.
وبينما لم تشارك الهيئة خلال الأسابيع القليلة الماضية في أيّ مواجهات عسكرية ضدّ قوات سوريا الديمقراطية، لم تظهر المنظمة أي علامة على معارضتها للهجمات التي تقودها تركيا على قوات سوريا الديمقراطية، بل على العكس تمامًا. فقد صرّح أحد كبار قادة هيئة تحرير الشام ووزير الدفاع المعيّن حديثا للحكومة الانتقالية، مرهف أبو قصرة، على سبيل المثال بأن “سوريا لن تنقسم ولن تكون هناك فيدرالية إن شاء الله. إن شاء الله، ستكون كل هذه المناطق تحت سلطة سوريا”.
وعلاوة على ذلك، قال أحمد الشرع لصحيفة تركية إن سوريا ستطوّر علاقة استراتيجية مع تركيا في المستقبل، وأضاف: “نحن لا نقبل أن تهدد الأراضي السورية تركيا أو أماكن أخرى وتزعزع استقرارها”. كما صرّح بأنّ جميع الأسلحة في البلاد يجب أن تخضع لسيطرة الدولة، بما في ذلك تلك الموجودة في المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية. هذا دون أن ننسى أنه في الماضي، دعمت هيئة تحرير الشام مرارًا وتكرارًا الهجمات التركية ضدّ قوات سوريا الديمقراطية.
وهذا على الرغم من تصريحات عدّة أدلى بها مسؤولون في قوات سوريا الديمقراطية للسعي إلى التفاوض مع هيئة تحرير الشام. فقد أعلن قائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي أن ّمجموعته تؤيد شكلًا من أشكال اللامركزية والإدارة الذاتية لمنطقتهم، ولكن ليس الفيدرالية، مع انفتاحها على أن تكون جزءًا من جيش وطني سوري مستقبلي، عندما يتم تشكيله. بالإضافة إلى ذلك، أعلن أن قوات سوريا الديمقراطية ليست امتداداً لحزب العمال الكردستاني وهي مستعدة لطرد المقاتلين غير السوريين فور التوصل إلى هدنة.
وكان الشرع قد صرّح في الأيّام الماضية أنهم يتفاوضون مع قوات سوريا الديمقراطية لحل الأزمة في شمال شرقي سوريا وأنّ وزارة الدفاع السورية ستدمج القوات الكردية في صفوفها، لكن هذا الأمر يبقى غير واضح، لتبقى الأسئلة عالقة، كيف وتحت أيّ شروط.
سباق مع الزمن للدفاع عن مساحة ديمقراطية
لقد تعرّضت الغالبية العظمى من المنظمات والقوى الاجتماعية الديمقراطية التي كانت سبباً في اندلاع انتفاضة 2011 للقمع الدموي. أولًا، وقبل كلّ شيء من قبل نظام الأسد، ولكن أيضًا من قبل مختلف المنظمات الأصولية الإسلامية المسلّحة. وكان الأمر نفسه ينطبق على المؤسسات أو الكيانات السياسية البديلة المحلية التي أنشأها المتظاهرون، مثل التنسيقيات والمجالس المحلية التي قدّمت الخدمات للسكان المحليين. ومع ذلك، هناك بعض المجموعات والشبكات المدنية، التي وعلى الرغم من ارتباطها في الغالب بنمط من المنظمات غير الحكومية في جميع أنحاء الأراضي السورية، وخاصة في شمال غرب سوريا، إلا أنها كانت تتمتع بديناميكيات مختلفة عن تلك التي كانت في بداية الانتفاضة.
وفي الوقت نفسه، تطوّرت تجارب نضالية أخرى، وإن كانت أقل كثافة. على سبيل المثال، استمرت الاحتجاجات الشعبية والإضرابات في محافظة السويداء، التي يسكنها في الغالب الأقلية الدرزية، منذ منتصف أغسطس/آب 2023. وعلى نطاق أوسع، أكدت حركة الاحتجاج باستمرار على أهمية الوحدة السورية، والإفراج عن السجناء السياسيين، والعدالة الاجتماعية، مع المطالبة بتنفيذ القرار الأممي رقم 2254، الذي يدعو إلى انتقال سياسي. في الواقع، كانت الشبكات والمجموعات المحلية هي التي اختارت مؤخرًا الناشطة المخضرمة محسنة المحيثاوي لتكون محافظًا لمحافظة السويداء.
كما شهدت مدن ومناطق أخرى خاضعة لسيطرة النظام السوري، ولا سيما محافظة درعا وبدرجة أقل ضواحي دمشق، احتجاجات عرضية، وإن كانت على نطاق أصغر كثيرًا.
وقد أرست هذه الأشكال من المعارضة الأساس جزئيًا لانتفاضتهم في الأيام التي سبقت سقوط نظام الأسد.
وبعد سقوط النظام، تزايدت المبادرات المحلية لإنشاء أشكال من تنسيقيات أو شبكات محلية من الناشطين في مختلف المناطق لتشجيع التنظيم الذاتي والمشاركة من الأسفل وضمان السلم الأهلي. وقد حدثت بالفعل مظاهرات، ولا سيما للتنديد بتصريحات رجعية معيّنة صدرت ضدّ المرأة.
علينا أن نواجه الحقيقة الصعبة المتمثّلة في وجود غياب صارخ لكتلة ديمقراطية تقدمية مستقلة قادرة على تنظيم ومعارضة النظام السوري والقوى الأصولية الإسلامية بشكل واضح. وسوف يستغرق بناء هذه الكتلة وقتًا. سيتعيّن عليها الجمع بين النضال ضدّ الاستبداد والاستغلال وجميع أشكال الاضطهاد. وسوف تحتاج إلى رفع مطالب الديمقراطية والمساواة وتقرير المصير الكردي وتحرير المرأة من أجل بناء التضامن بين المستغَلين والمضطهَدين في البلاد.
لتعزيز مثل هذه المطالب، سيتعيّن على هذه الكتلة التقدمية بناء وإعادة بناء المنظمات الشعبية، من النقابات إلى المنظمات النسوية، والمنظمات المجتمعية والهياكل الوطنية لجمعها معًا. وسيتطلب ذلك التعاون بين الجهات الفاعلة الديمقراطية والتقدمية في كلّ أنحاء المجتمع.
بالإضافة إلى ذلك، ستكون إحدى المهام الرئيسية هي معالجة الانقسام العرقي المركزي في البلاد؛ وهو الانقسام بين العرب والأكراد. يجب على القوى التقدمية أن تخوض نضالًا واضحًا ضدّ الشوفينية العربية للتغلّب على هذا الانقسام وتأسيس التضامن بين فئات الشعب. كان هذا تحديًا منذ بداية الثورة السورية في العام 2011 ويجب مواجهته وحلّه بطريقة تدريجية من أجل تحرير الشعب حقًا. ثمّة حاجة ماسة للعودة إلى التطلعات الأساسية للثورة السورية نحو الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة، مع احترام حق تقرير المصير الكردي.
الخاتمة
من المهم أن نتذكر أنّ هيئة تحرير الشام هي نتيجة للثورة المضادة التي قادها النظام السوري، الذي قمع الانتفاضة الشعبية ومنظماتها الديمقراطية بدموية، وعسكر نفسه بشكل متزايد. إنّ صعود هذا النوع من الحركات الأصولية الإسلامية هو نتيجة لأسباب مختلفة، بما في ذلك التسهيل الأولي لتوسّعها من قبل النظام، وقمع حركة الاحتجاج مما أدى إلى تطرّف بعض العناصر، وتنظيم وانضباط مجموعاتها بشكل أفضل، وأخيرا الدعم من الدول الإقليمية.
وبعد ذلك، شكلت هيئة تحرير الشام، مثل غيرها من المنظمات الأصولية الإسلامية المسلحة، الجناح الثاني للثورة المضادة بعد نظام الأسد. وتتعارض رؤيتها للمجتمع ومستقبل سوريا مع الأهداف الأولية للانتفاضة ورسالتها الشاملة المتمثلة في الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة. وقد أثبتت أيديولوجيتها وبرنامجها السياسي وممارساتها أنّها عنيفة ليس فقط ضدّ قوات النظام، بل وأيضاً ضدّ الجماعات الديمقراطية والتقدمية، سواء كانت مدنية أو مسلحة، أو أقليات عرقية ودينية ونساء.
في الختام، إنّ الحفاظ على مجتمع ديمقراطي وتقدّمي والنضال من أجله لا يتم من خلال الثقة في سلطات هيئة تحرير الشام الحالية أو منحها درجات جيّدة أو رضا عن حكمها وإدارة مرحلتها الانتقالية، بل من خلال بناء قوّة مضادة مستقلة تجمع الشبكات والجمعيات الديمقراطية والتقدمية. إنّ الإطار الزمني لتنظيم الانتخابات وكتابة دستور جديد، أو اختيار الشخصيات في “مؤتمر الحوار الوطني”، يمكن أن يكون موضوعًا للنقاش والانتقادات، لكن القضية الأساسية هي غياب المشاركة من الأسفل في عملية صنع القرار وعدم القدرة على الضغط على هيئة تحرير الشام لتقديم التنازلات. بات صنع القرار في أيدي هيئة تحرير الشام فقط… بدعم من داعميها الرئيسيين تركيا وقطر، ولكن بشكل عام الغالبية العظمى من القوى الإقليمية والدولية. وبشكل عام، لديهم هدف مشترك في (إعادة) فرض شكل من أشكال الاستقرار الاستبدادي في سوريا والمنطقة. وهذا بالطبع لا يعني الوحدة بين القوى الإقليمية والإمبريالية. لكل منها مصالحها الخاصة، والتي غالبًا ما تكون متعارضة، لكنها لا تريد زعزعة استقرار الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
إنّ الأمل في مستقبل أفضل يلوح في الأفق بعد سقوط الأسد. وكلّ هذا مرتبط بقدرة السوريين على إعادة بناء النضالات من الأسفل. في الوقت الحالي، لم تكتمل سيطرة وتحكّم هيئة تحرير الشام على المجتمع، حيث إنّ قدراتها البشرية والعسكرية لا تزال محدودة للسيطرة الكاملة على كامل سوريا، وبالتالي هناك مساحة للتنظيم، وهذا الأمر يحتاج إلى استغلال.
في النهاية، لن يمهد الطريق نحو التحرير والتحرّر الفعلي إلا التنظيم الذاتي للطبقات الشعبية التي تناضل من أجل المطالب الديمقراطية والتقدمية.
الآن على الأقل، الفرصة سانحة لتحقيق ذلك، ولكننا في سباق، ويتعيّن على الطبقات الشعبية السورية أن تنظّم صفوفها للدفاع عن كلّ التضحيات التي قدّمت لتحقيق التطلعات الأولية للثورة من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة…
____________________________________________________________________________________________________
[1] من المثير للاهتمام أن نرى في نفس الوقت أن نظام الأسد الأب ومن بعده الابن، حاول بشكل متواصل تقليل وإخفاء جميع العلامات الظاهرة للتدين العلوي، مشجّعاً الاندماج في التيار السني السائد. لقد كان كل من بشار وحافظ الأسد يؤديان الصلاة العامة في المساجد السنية، فيما تكاثرت المساجد السنية المبنية في كافة مناطق العلويين المأهولة. ولم يسمح النظام لأي شكل من أشكال الفعاليات الأهلية بإنشاء مجلس أعلى علوي، وليس ثمة إشارات دينية عامة للمجتمع العلوي. فالعلويون يتبعون نفس القوانين الدينية التي تتبعها الطائفة السنية فيما يتعلق بقانون الأحوال الشخصية (الزواج والطلاق والميراث، إلخ…) وكسائر الأقليات الإسلامية الأخرى يتلقون التعليم الديني السني في المدارس ووسائل الإعلام والمؤسسات العامة.
ناشط سياسي، له منشورات بالعربية والفرنسية والانكليزية. يدوّن في SyriaFreedomForever (سوريا حرية للأبد). نال درجة الدكتوراة من كلية الدراسات الآسيوية والمشرقية (سواس) بلندن. ركزت رسالته على المادية التاريخية وحزب الله. يعيش د. ضاهر في سويسرا، حيث يدرس في جامعة لوزان.
حكاية ما انحكت
————-
على هامش سؤال «النظام» و «المجتمع» في سوريّا/ حازم صاغية
5 يناير 2025 م
غالباً ما استُخدمت، في تناول الوضع السوريّ، نظريّة مؤدّاها أنّ الثورة الحقيقيّة هي التي تغيّر مجتمعاً، لا التي تغيّر نظاماً. والنظريّة هذه تبقى أقرب إلى شعار، بمعنى أنّ الشعار يقول كلّ شيء ولا يقول شيئاً. فمن البديهيّ أن تقاس الثورات بمدى تغييرها العلاقات الاجتماعيّة والأفكار والثقافة والتعليم ومسائل الجنس والجندر، ومن ثمّ النظرة إلى الذات وإلى العالم. لكنْ هل يكون هذا ممكناً دون تغيير النظام السياسيّ كشرط ضروريّ غير كافٍ، خصوصاً أنّنا لا نتحدّث عن دول تحترم استقلال المجتمع المدنيّ وخصوصيّته وتمتنع عن التدخّل في عديد العمليّات الاجتماعيّة والثقافيّة. وما دام الكلام عن سوريّا تحديداً فإن ذاك الجهاز الأسديّ المسمّى دولةً كان دوماً مشهوراً، وأكثر من أيّ شيء آخر، باثنين: بتدخّله في الشاردة والواردة من حياة مواطنيه اجتماعاً وتعليماً، بل تواصلاً بأبسط معاني كلمة التواصل، كما بالعقاب الوحشيّ الذي يُنزله بالمواطنين الذين لا يمتثلون لمعاييره المفروضة. ولوحات الموت التي رأيناها في صيدنايا وسواها باتت أبلغ من كلّ كلام.
لهذا كان من المشروع تماماً أن تُقرأ نظريّة «تغيير المجتمع لا تغيير النظام» بوصفها محاولة للتهرّب من الإسهام في تغيير النظام، وبالتالي علامة على عدم اكتراث فعليّ بتغيير المجتمع.
في المقابل، فإنّ سوريّا ما بعد إطاحة بشّار باتت تطرح على السوريّين وعلى المعنيّين بشأنها مشكلة من نوع آخر: ماذا حين يطاح النظام ولا يبدأ تغيير المجتمع، أو يجد المجتمع نفسه، وفق ما يرى سوريّون كثيرون، مهدّداً باحتمال التغيّر إلى الأسوأ؟
هنا قد تواجهنا نظريّة نقيض للنظريّة الأولى، مفادها اعتبار أنّ تغيير النظام كافٍ بذاته، وأنّه يغني عن تغيير المجتمع، أو بلغة أدقّ، عن إتاحة الحرّيّة للسكّان كي يغيّروه بأنفسهم وعلى هدي تجربتهم وطموحاتهم.
والحال أنّ النظريّتين يجمع بينهما اتّفاقهما، ولو من موقع الضدّ، على تجزئة معنى الثورة، ومن ثمّ الاستعاضة عن الكلّ بالجزء. لكنّهما تشتركان أيضاً في أنّ كلّاً منهما تخدم وضعاً سلطويّاً قائماً، ضدّاً على رغبة الراغبين في إزالته. وهذا فضلاً عن صدورهما عن مقدّمات أهليّة نزاعيّة ليس صعباً تقصّي أسبابها. فالنظريّة الأولى كانت تقليديّاً ترى في العلمانيّة ما يغيّر المجتمع، فتحمّست لها ولافتراض أنّها، من خلال تحييدها الدين، تمحو الفارق بين أكثريّة وأقلّيّات. وبدورها فالنظريّة الثانية ذهبت تقليديّاً، وتذهب، إلى أنّ الخلاص تضمنه صيغة حكم شعبويّة، شبه ديمقراطيّة أو غير ديمقراطيّة، إلاّ أنّ العدد الأكثريّ هو ما يتحكّم بمسارها، محدّداً طبيعة «الضمانات» و»التطمينات» التي تُقدّم للأقلّيّات.
وما يمكن قوله اليوم إنّ إسقاط النظام بات يفتح الباب للمهمّة المديدة، الصعبة والمعقّدة، التي هي «تغيير المجتمع». وهنا يحتلّ الصراع الثقافيّ موقعاً متصدّراً بحيث تُستعرض وتشتبك الآراء المتباينة حول السوريّا التي يريدها السوريّون. فما كان يبدو سابقاً «ثقافويّة»ً تضع الثقافة حيث ينبغي أن تكون السياسة، وتدعو إلى تغيير المجتمع تهرّباً من تغيير النظام، لم يعد كذلك. وأغلب الظنّ أنّ مسائل كالحرّيّات الشخصيّة والعامّة، وعلاقة الدين بالسياسة، وأوضاع المرأة، وكتابة التاريخ ومناهج التعليم، ستطرح نفسها بحدّة، ومعها خصوصيّات الجماعات السوريّة طوائفَ ومناطق وإثنيّات. يعزّز هذا الميل أنّ قوى «القوميّة» و»المقاومة» على أنواعها تعرّضت، في سوريّا كما في عموم المشرق، لضربات مميتة، ما يزيح «قضايا المصير» التي لا تُحلّ عن كاهل المسائل المجتمعيّة والثقافيّة التي تُحلّ.
وبالطبع فأولئك الذين سيخوضون هذه المعركة اليوم لا يمتّون بصلة إلى أصوات من دعوا بالأمس إلى تغيير المجتمع دون تغيير النظام. فهؤلاء أبناء ثورة 2011 وبناتها ممّن دفعوا غالياً ثمن محاولتهم تغيير النظام ليجدوا أنفسهم الآن مواجَهين بمهمّة تغيير المجتمع.
وقبل أن يكون مدار المسألة الملحّة راهناً مدّة الثلاث سنوات والأربع سنوات لإعداد الدستور وإجراء الانتخابات، فإنّ مدارها هو المناخ الذي سيسود هذه السنوات الثلاث أو الأربع. فهل سيُتاح المجال لجوّ حرّ وسلميّ للانطلاق في مسيرة هذا التغيير، أي للتنظيم وبناء الروابط والأحزاب وعرض الأفكار، أم أنّ القمع هو ما سيواجه السوريّين الطامحين إلى تغيير يتعدّى تغيير النظام؟
واقع الحال أنّ المعركة الجديدة، في ظلّ أزمة اقتصاديّة طاحنة وبعثرة سكّانيّة وتفاوت بين الأوضاع السياسيّة للمناطق، فضلاً عن البناء على العدم السياسيّ الذي خلّفه النظام الساقط، لن تكون بالأمر السهل. فوق هذا، لم تترك حدّة القمع على مدى عقود للنضالات المجتمعيّة والثقافيّة ما كان يمكنه أن يكون تأسيساً صلباً أو تراكماً أوّليّاً يُعتدّ به. مع هذا فإنّ أيّ منع أو إعاقة يفرضهما النظام الجديد سيكونان تمهيداً لتنازع يُرجى لسوريّا الجديدة أن تنجح في اجتنابه. فإمّا أن يتيح الوضع الناشىء خوض صراع حول المجتمعيّ والثقافيّ، يحلّ العمل السلميّ فيه محلّ العسكريّ، أو أن يغدو الخراب أفقاً شديد الاحتمال.
الشرق الأوسط»
—————————
“النسخة السورية”… موجة جديدة من الثورات العربية؟/ محمد أبو رمان
05 يناير 2025
ما تزال هنالك حالة من القلق والشكوك والهواجس لدى العديد من الحكومات والأنظمة العربية من التطورات المستجدة أخيراً في سورية، والتي أدّت إلى انهيار نظام بشّار الأسد وعودة الإسلاميين إلى ملعب التغيير، ولكن عبر بوابة جديدة تتمثّل بالثورة المسلّحة الداخلية، لا من طريق الإخوان المسلمين والعمل الديمقراطي، ولا من طريق الجهادية العالمية والأعمال العنيفة ضدّ المدنيين والشرطة، بل هي صيغة مختلفة بالكلية، وذات طبيعة متصالحة حتى مع الغرب الذي تقاطر مسؤولوه على زيارة دمشق ولقاء “القادة الجدد”.
عملت قيادة هيئة تحرير الشام لتقديم كمّ كبير من رسائل التطمين إلى الداخل والخارج، إلى العرب والغرب، عشيّة دخول دمشق، في إدراك منها لما يحمله موضوع “الإسلام السياسي” من مخاوف ودلالات لدى عديد من الجهات الدولية والإقليمية. وبالرغم من حالة الانفتاح من بعض الدول العربية والغربية على الواقع الجديد، ما تزال حكوماتٌ عديدة متخوّفةً، ويرى أحد السياسيين العرب (في جلسة مغلقة) أنّ التطوّرات في سورية أعطت الإسلام السياسي قبلةَ الحياة مرّةً أخرى، وسواء صدّر الحكم الجديد في سورية الثورة أو لم يفعل، فإنّ المشكلة هي في العدوى وبثّ الروح من جديد للأفكار الثورية، ولمفهوم التغيير الذي كاد أن ينتهي في العالم العربي، بعدما انتهى حكم الإخوان والإسلاميين في كلٍّ من مصر وتونس والمغرب (حكومة العدالة والتنمية)، فهي صفحة كان يرغب النظام الرسمي العربي في طيّها، لكن من الواضح أنّه لم تكن لحظةً عابرةً، بل مرحلة أو حِقبة جديدة من تاريخ الشعوب العربية.
لا يوجد خيار آخر استراتيجي أمام المجتمعات والشعوب العربية إلّا البحث عن أفق سياسي. وإذا كانت الموجة الأولى من “الربيع العربي” انتهت بمآسٍ وكوارثَ في دول عربية عديدة، كذلك الحال في الموجة الثانية في بعضها خاصّة في السودان، فإنّ ذلك لا يعني أنّ الحلم بالتغيير أو الخروج من الواقع القائم انتهى، بخاصّة أنّ أغلب النظم العربية لم تتعلّم الدرس ولم تُدرِك أنّ الاستقرار المرتبط بعامل الخوف ليس حقيقياً، بل وهمياً وسرعان ما يزول، بل إذا دقّت ساعة الحقيقة فإنّ الجيوش هي أيضاً ليست مستعدّةً للدفاع عمّن ترى فيه مستبدّاً وفاسداً، كما حدث مع جيشَي صدام حسين وبشّار الأسد. ولا توجد دلالة أكبر من أن يهزم العسكريون بسرعة وبلا تردّد فور الدخول في مواجهة مع ثورة مسلّحة، وأن يكون الخيار الرئيس لعشرات الآلاف من أفراد الجيش استبدال الثياب المدنية بالعسكرية والهروب إلى المنازل.
تتمثّل إحدى الدلالات الخطيرة في انهيار الجيش السوري بصورة كارتونية أمام الثوّار المسلّحين، ما يجعل مئات الملايين من العرب يتساءلون عن مبرّرات العسكرتاريا في العالم العربي، ولماذا تُصرَف مليارات الدولارات سنوياً على جيوش في وقت كانت فيه غزّة تباد أمام أعين الجميع، من دون تدخّل أيّ جيش أو قوات عربية، وبدعم غربي. ما حدث بعد “طوفان الأقصى”، وحرب الإبادة الإسرائيلية، ثمّ التطوّرات الكُبرى في سورية، بمثابة تراكمات حالة الانهيار السياسي والاستراتيجي العربي، وهي استمرار لمرحلة “ما بعد الربيع العربي” (أو أيّاً كانت التسمية التي يفضلها بعضهم)، ففي المحصلّة، نحن أمام حالة غير مستقرّة، وأمام أنظمةٍ تعاني أزمةَ شرعيةٍ عميقة وجذرية، وما حالة الاستقرار التي تمرّ بها دولٌ عديدة إلّا وهم، لأنّ الأرض التي تقف عليها الحالة العربية بأسرها تتخلخل جميعاً، فما عادت الشروط التاريخية التي انبثقت منها “سايكس بيكو” قادرةً على حمل المرحلة الراهنة، ولم تعد الأيديولوجيات التي حكمت العالم العربي، ومصادر الشرعية التي سادت عقوداً قادرة على مواجهة التغيّرات والتحوّلات الهائلة في العالم العربي. هنا بيت القصيد، وربّما الدلالة الأكثر خطورة، فإذا كان مسار الثورات السلمية والأساليب الديمقراطية وصل إلى الحائط، فإنّ البديل القادر على إيجاد حلول للمواطن العربي المقهور والمغلوب على أمره، ليس سلاح الخوف (أو التخويف) ممّا قد يصيبه من مصائب، فهو سلاح آني ومؤقّت، إنّما الحلول تأتي عبر التنمية الاقتصادية والمجتمعية والثقافية، ووجود مشروعات توافقية يؤمن بها المجتمع أو (و) الحرّية السياسية والديمقراطية، وإمّا الثورة.
يا سادة… من الواضح أنّ المنطقة العربية ما تزال محتفظةً بمفاجآت وتحوّلات كبيرة.
العربي الجديد
————————
تحدي الحفاظ على وحدة وسيادة سورية/ عبسي سميسم
05 يناير 2025
تواجه الإدارة الجديدة لسورية بعد سقوط نظام بشار الأسد تحدياً جدياً يتعلق بالحفاظ على وحدة الأراضي السورية، سواء لناحية سيطرة الدولة على كامل الأراضي ومنع أي توجه لتقسيم البلاد، أو لناحية ضمان عدم قضم أي مساحات منها لصالح أي من دول الجوار، بما يضمن سيادة واستقلال الدولة السورية المنشودة.
ويعتمد نجاح الإدارة الجديدة بتجاوز هذا التحدي على عاملين رئيسيين؛ الأول يتمثل في إقناع المليشيات والفصائل خارج إطار تحكم هيئة تحرير الشام، والتي تسيطر على قطاعات جغرافية من الأراضي السورية، بالانخراط ضمن مؤسسات الدولة، خاصة فيما يتعلق بالمؤسسة العسكرية، وهو أمر لا يزال حتى الآن موضع أخذ ورد بين بعض تلك الفصائل وإدارة العمليات العسكرية. ففي جنوب البلاد لا تزال مشكلة اللواء الثامن، المدعوم من كل من الإمارات وروسيا، موضع جدال لناحية قبول قائد الفصيل أحمد العودة حل فصيله والانخراط بشكل كامل ضمن وزارة الدفاع التابعة للإدارة الجديدة، وكذلك الأمر بالنسبة للفصائل المحلية في محافظة السويداء التي لا تزال إلى الآن ترفض تسليم سلاحها إلى حين ظهور شكل دولة ترضى بها.
وفي شرق سورية لا تزال قوات سوريا الديمقراطية (قسد) تسيطر على نحو ثلث مساحة سورية بدعم أميركي. ورغم المفاوضات بينها وبين الإدارة الجديدة إلا أنها لا تزال تتحدث بمطالب تؤسس لانفصال أكثر من تأسيسها لدولة، مثل مطلب أن تنضم “قسد” ككتلة مستقلة وبتبعية شكلية لوزارة الدفاع، من دون أن يكون لأي جهة سلطة عليها، إضافة إلى طلبها نصف إنتاج النفط السوري في مناطق سيطرتها، وشروط أخرى لا يمكن للقائمين على الإدارة الجديدة القبول بها، ما ينذر بصراع عسكري مع تلك القوات.
أما في شمال سورية فلا تزال هناك خلافات بين الإدارة الجديدة وبعض الفصائل، المدعومة من تركيا، والتي تسيطر على ريف حلب الشمالي، والتي تتهم الأولى بتهميشها وعدم إعطائها الدور الذي تستحقه ضمن الإدارة الجديدة، ما يخبئ صراعاً ربما يكون مؤجلاً مع تلك الفصائل. وحتى في غرب سورية لا تزال فلول النظام تتحصن بسلاحها في بعض جبال الساحل السوري، فيما تقوم إدارة العمليات العسكرية بحملات أمنية للقبض عليهم. إن تحدي استعادة وحدة الأراضي السورية والخطر المحدق بها من جهاتها الأربع يحمل خطر تقسيم البلاد، ما لم تنجح الإدارة الجديدة في كسب هذا التحدي والحفاظ على وحدة البلاد.
وعلى الطرف الآخر لا تزال قوات الاحتلال الإسرائيلي تقضم يومياً أراضي سورية دون أي رد فعل من الإدارة الجديدة، ولا أي رد فعل دولي. كما أن سعي تركيا لترسيم حدودها البحرية مع سورية قبل قيام حكومة منتخبة، يؤسس لتدخلات خارجية تمس السيادة السورية ويضعف من قدرة الإدارة الجديدة على إنشاء دولة بكامل حدود سورية وبسيادة كاملة على كل أراضيها.
——————————
إعلان دستوري قبل نزع السلاح: الخيار الضامن للشرع وسوريا/ سميرة المسالمة
الأحد 2025/01/05
يعد الواقع السوري بما يحمله من عبء الماضي، ومخاطر المستقبل المفتوحة على كل الاحتمالات، أحد أعقد الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في العصر الحديث. ولعل أولوية الأمن التي يضعها قائد الإدارة السورية الحالية (أحمد الشرع) لتحقيق الاستقرار تمثل جوهر أي عملية لاحقة للنهوض ببلد لم يبق منه على مستوى المؤسسات أكثر من أسمائها. ومن ذلك الجيش السوري الذي اختطفه نظام الأسد (الأب والابن) وحوله إلى حرس خاص لمزرعته. وهو ما يفسر ضلوع معظم ضباطه ومسؤوليه -ممن حافظوا على مواقعهم معه خلال حربه ضد معارضيه- بجرائم إبادة ضد الشعب السوري. ما يعني أن البناء على ماضي هذه المؤسسة ليس خيارًا متاحًا عند الحديث عن جيش سوري بمهام وطنية كبرى.
من هنا تبرز أهمية التفكير في آلية تشكيل بنية الجيش الجديد، وضمانات الانتساب له، إضافة إلى طبيعة علاقته بالقوى السياسية والسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية. فالسؤال المطروح هنا هو: ما هي الأحكام الدستورية التي تضبط مرجعية الجيش؟ وهل تكون الأولوية لصياغة إعلان دستوري يحدد معالم المرحلة الانتقالية، أم لإعادة تشكيل الجيش الوطني من الفصائل المسلحة رغم الاتهامات الموجهة لبعضها بارتكاب انتهاكات؟ وما العلاقة بين نزع السلاح وتحديد هوية الوطن ومهام الجيش؟
في كل التجارب التي يمكن الركون إليها، يعد الإعلان الدستوري أساسًا لأي عملية انتقالية ناجحة. فهو يُحدد القواعد العامة للمرحلة الانتقالية ويضع خارطة طريق تُطمئن الجميع. والحالة السورية ليست استثناءً، بل هي ضرورة في ظل واقع فصائلي مشتت الهويات والأهداف والمرجعيات الإيديولوجية، وحتى رغبات مقاتليها في الاستمرار من عدمه في حمل السلاح، واستخدامه كقوة موجهة إلى الداخل أو الخارج.
وجود إعلان دستوري واضح يمكن أن يُجنب البلاد فراغًا قانونيًا وسياسيًا، ويوفر ضمانات لحقوق الجميع. هذا الإعلان يمكن أن يضع مبادئ أساسية مثل وحدة الدولة، حيادية المؤسسات الأمنية، والالتزام بالعدالة الانتقالية. كما أنه يُرسل رسالة واضحة للفصائل المسلحة وللشعب بأن هناك خطة جدية للمستقبل، ويوضح حقوق المنضمين للجيش وواجباتهم ووحدة توجهاتهم كجيش وطني بأجندة واحدة وطنية.
فتشكيل جيش وطني من الفصائل المسلحة التي تأسست في ظروف الفوضى والحرب وانفلات السلاح، والشعور بالغضب والرغبة في رد عدوان النظام على شعبه، إضافة إلى الواقع المالي الصعب لبعض المنتسبين إليها، أو دخول جماعات مرتزقة وقبولهم الأجندات الخارجية، يجعل من هذه الأمر قبل وجود إعلان دستوري يضبط ويحمي المشاركين فيه، مغامرة غير محسوبة العواقب. وهو حتما ليس بالمهمة السهلة.
كما أن طلب نزع السلاح من الفصائل المسلحة هو عملية شائكة، ولن تحدث بالسلاسة التي جرى فيها الاتفاق على إسقاط النظام. فبعد التحرير تنبت بذور الشكوك، مما يجعل عملية تسليم السلاح من دون ضمانات حقيقية لمستقبل أفرادها وقادتها عرضة للرفض من بعضها، والقبول الحذر من بعضها الآخر. في المقابل، قد يظل البعض محتفظًا بسلاحه لأنه صاحب مصلحة ومالك للسلطة.
من أبرز التحديات التي تواجه دمج الفصائل المسلحة في جيش وطني موحد هو اختلاف الأيديولوجيا وأسباب الانضواء في العمل المسلح. فبعض الفصائل تحمل رؤى متناقضة حول شكل الدولة ومؤسساتها، مما يجعل التنسيق بينها معقدًا. هذا التباين الأيديولوجي يمكن أن يؤدي إلى تصادمات داخلية، ما لم يتم وضع إطار واضح يحدد مهام الجيش الجديد كقوة حيادية تعمل لصالح الدولة فقط، بعيدًا عن أي أجندات حزبية أو فكرية. ومن هنا يأتي دور الإعلان الدستوري الذي يمكن أن يحدد هوية الدولة ويطمئن الجميع بأن حقوقهم محفوظة.
يستدعي الوضع الحالي البدء في حوارات داخلية لمعرفة الراغبين في الاستمرار في العمل العسكري تحت إطار حيادي يخدم الدولة ومؤسساتها. وفي الوقت ذاته، يجب الاتفاق على حل الفصائل تدريجيًا، مع ضمان استمرار الدعم المالي لفترة محددة، ما يمكّن الأفراد من اتخاذ قرارهم (الحر) سواء بمتابعة العمل العسكري أو التحول إلى نشاطات مدنية أخرى. هذه الخطوة ضرورية لتجنب تشكيل مجموعات مسلحة قد تتحول إلى نواة لثورة مضادة.
من المفيد التذكير بأن كثيرًا من العاملين حاليًا على حماية مناطقهم انضموا إلى الفصائل المسلحة بشكل تطوعي، لكن مع مرور الوقت لن يكونوا قادرين على متابعة هذا العمل من دون مقابل مادي. لذا، فإن توفير فرص عمل أو إدماجهم في مؤسسات الدولة بشكل يضمن لهم مصدر رزق مستدام يُعد جزءًا أساسيًا من أي خطة لنزع السلاح وإعادة التأهيل.
الإعلان الدستوري وتشكيل الجيش مترابطان. الأول يُحدد دور الجيش ومهامه، والثاني يُنفذ هذه المهام ويحمي المرحلة الانتقالية. لذلك، العمل على المسارين معًا قد يكون الخيار الأفضل. ترتيب الأولويات في سوريا يجب أن يكون مدروسًا، فالإعلان الدستوري يُعطي إطارًا واضحًا للمرحلة الانتقالية، بينما يُعد تشكيل الجيش شرطًا أساسيًا لضمان الأمن. وتحقيق التوازن بينهما هو المفتاح لتجنب الفشل ولبناء دولة جديدة تقوم على سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان.
المدن
—————————
في الحوار الوطني السوري/ مضر رياض الدبس
05 يناير 2025
تدور في فلك كلمة الحوار مجموعة من الكلمات، ومجموعة من التوجّسات أيضاً، ومجمل ما يخرج من أخبار عن مؤتمر الحوار الوطني، السوري، تستند إلى مبدأ التسريبات، ومنها لجنته التحضيرية، والهدف منه، والمدعوون إليه… وما إلى هنالك. الانتقال السياسي، والإعلان الدستوري، وإدارة المرحلة، كلّها مفهومات تدور اليوم في فلك مصطلح الحوار الوطني إضافةً إلى كثير غيرها، وكثير من الإشاعات أيضاً.
بدايةً، ثمّة مجموعة من الأسئلة ليس لها أجوبة، وهي بطبيعة الحال لها أولوية: مَن يتحاور مع مَن؟ هل من الملائم أن يتحاور السوريون بوصفهم طوائف وقبائل، وهذا لا يلبّي طموحَ المزاج العام بطبيعة الحال؟ أو يتحاورون بوصفهم أفراداً، وهذا ليس له صيغة تمثيل متّفق عليها؟ ثمّ ما الحاجة إلى الحوار؟ وهل مبدأ الحوار بحدّ ذاته ملائمٌ للمرحلة، خصوصاً أن المرحلة في سورية اليوم تأسيسية أكثر ممّا هي انتقالية. هذا إضافةً إلى مقدّماتٍ كثيرة تنتمي إلى نمط التفكير نفسه، تدعونا إلى مقاربة المسألة.
في الواقع القائم، قادت هيئة تحرير الشام، والقوى المتحالفة معها في إدارة العمليات العسكرية، معركة تحرير مدهشة أوصلتنا جميعاً إلى دمشق، ثمّ صدرت منهم مقاربات تقول بمجملها إن الثورة قد انتهت، وإننا الآن في مرحلة بناء الدولة، وهذا جيّد في المجمل، ومنطقي. وأيضاً، قالوا إنهم يريدون أن نبني نموذجاً خاصّاً بنا، وهذا موضوعٌ مهم، ويبدو أن هذا توجّهٌ عام على المستويات كلّها عندهم، وفيه قرار مركزي في القيادة الجديدة، يبدو واضحاً في تحليل خطاب القياديين والمسؤولين الجُدد، وهذا أيضاً (بتقديرات كاتب هذه السطور) حميدٌ وجيّد، لكنّه يحتاج إلى إبداع منقطع النظير، وعقولٍ جديدة غير التي تعوّدنا عليها في مسير المعارضة السورية السياسي، وغير الفكر الأيديولوجي في قيادة دفّة السياسة، وبناء السردية الوطنية بعمومها.
ثمّة إرهاصات تفكير إيجابية في هذا السياق، ومنها، مثلاً، أن المحاصصة مبدأ مرفوض، وأن الشعب ينبغي أن “يُترَك على فطرته”، كما قال الشرع في مقابلة مع إحدى القنوات العربية. وعبّرت القيادة الجديدة أيضاً عن نيّتها بناء مناخ حيادي، وهذا المناخ الحيادي، إضافةً إلى المناخ الآمن، ضروري جدّاً للبناء الجديد بطبيعة الحال. أيضاً، ثمّة مناخُ حرّيةٍ سياسية، ومناخٌ من الودّ في دمشق مثلاً بين العسكر والشارع، وابتسامات يوزّعها العسكر (المنتشرون بحدودٍ) قليلة على المارّة، وعلاقة ودّية تشعر المرء بالتغيير حقيقةً. وفي هذا المناخ العام، قدّمت القيادة الجديدة مصطلح “مؤتمر الحوار الوطني”، وبدأت النقاشات تحت هذا العنوان العريض، الذي أتى سريعاً، وبدأت التسريبات بشأنه تنتشر سريعاً. أهم ما نعرفه رسمياً خارج هذه التسريبات نيّة حلّ هيئة تحرير الشام في هذا المؤتمر، وأنه سيتّخذ مجموعةً من القرارات، مثل حلّ بعض المؤسّسات، لأن الإدارة الجديدة لا تريد أن تأخذ هذه القرارات منفردةً.
أما في مبدأ الحوار نفسه، فكانت فكرة الحوار حاضرةً في الأدبيات السورية قبل سقوط النظام، بوصفها عناوين تقليدية تفتقد الدقّة، مثل الحوار الإسلامي العلماني، أو الحوار العربي الكردي، أو الحوار مع النظام… وما إلى ذلك من حوارات بين أطراف لم تنتج شيئاً إلا التمترس الأيديولوجي، ولا يبدو أن هذه الخلفية الذهنية تغيّرت، فالتفكير في الحوار لا يزال هكذا، أي أن الكلمة لا تزال تفترض “ذاتاً” و”آخر”. وانطلاقاً من هذا المبدأ يحقّ القول إن الحوار اليوم فكرة تتنافس سياسياً مع فكرة “الشعب السوري واحد”، التي صارت اليوم حقيقةً وواقعاً، على الأقلّ في ساحات الوطن الكبرى، وعلى مستوى المزاج الشعبي العام. والواحد لا يتحاور، لكنّه يؤسّس، ويدبر الاختلاف ضمنه، ويعتزّ به، لذلك قد تكون فكرة التأسيس أكثر ملاءمة للواقع؛ فنقول: “المؤتمر الوطني التأسيسي”، وليس “مؤتمر الحوار الوطني”. ليس تغيير هذا الاسم مسألةً لغويةً، بل تغيير المقاربة كلّها لتلائم التوجّهات الإبداعية التي تتحدّث عنها الإدارة الجديدة على المستوى النظري.
التأسيسُ إبداع، ومن ثمّ يتضمّن التأسيس تمثيل أفكارٍ وثقافات وليس تمثيل جماعاتٍ أيديولوجية أو طائفية أو مناطقية. وهذا يعني أن نأخذ نَفَساً قليلًا، نفكّر، نتجمّع حول فِكَرٍ سياسية، نجهّز أنفسنا لتطوير هذه الفِكَر بالتشارك مع الفِكَر الأخرى، نجترح الجديد بصورة تعاونية، وهذا بطبيعة الحال يحتاج إلى وقتٍ وأمنٍ، حبذا لو أن الإدارة الجديدة تستمر في ضمان وجودهما.
أما بشأن الأقليات والأكثرية والوحدة السياسية، فنطلق هنا حكماً يعرفه جيّداً من يعرف تاريخ سورية وحاضرها، وهو أن السُنّة في سورية لم يكونوا يوماً طائفةً، بل كانوا حاضنةَ مشروعٍ وطني. وهذا حكمٌ مهم، ولو اتسعت مساحة هذا المقال للسرد التاريخي لكان لنا في ذلك براهين كثيرة. وعليه، يأتي المعنى السياسي للسُنّة في هذا السياق “حاضنة المشروع السوري الوطني”. وعلى ذلك؛ معنى مصطلح الأقلّيات كما يُتداول غير صحيح، وغير ملائم للمرحلة، وثمّة واجبٌ وطني هو أن نقول إن هذه المقاربة للأقلّيات بوصفهم طوائف قليلة العدد قد سقطت مع النظام، ومن ثمّ سقطت معها المصطلحات المرتبطة بها، ومنها طمأنة الأقليات وحماية الأقلّيات ومشاركتها واستيعابها… وما إلى ذلك من مصطلحات تُفرِّق ولا تجمع، وتفصل ولا توصل. العنوان اليوم هو “الوحدة السياسية”، والأقلّيات السياسية لا تكون إلّا عندما تتبلور هذه الوحدة فحسب، ولا تكون على أساس انتماء طائفي، أو أيّ انتماء غير سياسي، وتثبيت هذا النهج أجدى وأنفع.
وثمّة هنا نقطة ضرورية تتعلّق فعلاً بالضمير “نحن” في أثناء صياغة الخطاب السياسي، أو الضمير المتّصل “نا”. فمثلاً عندما نقول “نحن نريد أن ندير منطقتنا بكوادرنا”، “نحن نتمهّل في التعامل مع الوضع الجديد”، “نحن مع سورية”، “نحن يدنا بيدكم”، نحن لن نسلم سلاحنا”، أو “سلاحنا مثل قمحنا”، وما إلى ذلك من هذا القبيل، فلنا أن نطرح السؤال عن المعنى السياسي الوطني لهذه الـ”نحن”، وهذه الـ”نا”، خارج معنى نحن الطائفة أو القبيلة. ليس لهما أيّ معنىً سياسي، لأن المعنى الوحيد للجماعة سياسياً هو الجماعة السورية، والـ”نحن” في السياسة اليوم تعني نحن السوريين كلّنا، وغير ذلك كلامٌ لم ينضج فيرتقي إلى مستوى الفرصة التاريخية التي بين أيدينا.
من يحتاج إلى التطمينات والضمانات ليست الأقلّيات، وليست الدول، ولكن إن كان لهذا المصطلح دلالة فهي أن تضمن هيئة تحرير الشام، والقوى التي تشاركها السلطة اليوم، للشعب السوري، وتطمئنه في ثلاث مسائل. أولاها أنها لن تتقاتل فيما بينها في المستقبل، فتجرّ البلاد إلى الفوضى والحرب من جديد. وثانيتها أنها لن تقمع الشعب إذا أبدى رأياً معاكساً، حتى ولو كان متطرّفاً برأيها، ما دام سلمياً وضمن حدود الرأي الذي ينطلق صاحبه من رؤيته لبناء الوطن، وأن يبقى الفصل في هذه المسائل ديمقراطياً وبموجب مناخ الحرّية القائم. وثالثة تلك المسائل أنها لن تُقدِم منفردةً في اتخاذ قراراتٍ كُبرى يصعب التراجع عنها لاحقاً، مثل الدستور الدائم للبلاد. ومع أن الإيجابيات كثيرة إلّا أن الإدارة لا تزال في حاجة إلى عملٍ يُطمئِن السوريين أكثر، ومن ثمّ يتعاونون أكثر بما ينعكس أيجاباً على الجميع؛ فالسلطة الجديدة في حاجة إلى ثقة السوريين لكي تخدمهم داخلياً، ولكي تكون قويةً خارجياً، وفي كيفية ذلك حديث يطول بطبيعة الحال.
العربي الجديد
—————————
العدالة الانتقالية… الطريق الوعر و”الوحيد” للمصالحة الشعبية، فهل تفعلها سوريا؟
السبت 4 يناير 202503:31 م
تُعدُّ الحروب الأهلية وسقوط الأنظمة الدكتاتورية من أصعب وأخطر الفترات التي قد تمر بها الدول، حيث تنشأ تحديات هائلة وخيارات لا يحبذها “المنتصر” عادة، تعرقل مسيرة الانتقال إلى السلام والاستقرار. وبطبيعة الحال، تعاني المجتمعات التي شهدت نزاعات طويلة أو أنظمة قمعية من إرث ثقيل ينعكس على مختلف جوانب الحياة السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والأهم الأمنية.
اليوم، سوريا هي الأحجية الكبيرة التي يحاول العالم فك طلاسمها، حول كيفية تحقيق العدالة الانتقالة والسير في طريق الغفران وصولاً بالدولة إلى بر الأمان، وبحسب الخبراء، وبرغم وجود تجارب قانونية عدة في العالم مثل تشيلي ورومانيا وجنوب أفريقيا، إلا أن المسار القانوني يختلف باختلاف الدولة، وتجربتها، وكذلك باختلاف طبيعة النظام ونوع النظم الإدارية والدستورية السابقة. لذا تستطيع سوريا الاستفادة من تجارب دول سبقتها للنجاح في العدالة الانتقالية، لكنها لا تستطيع نسخ التجربة كاملة.
ويرى خبراء أن العدالة الانتقالية يجب أن تأخذ في الاعتبار خصوصية الموروث الثقافي والسياسي، كتقاليد الثأر والمصالحة، ودور الطوائف في إخماد الصراعات، والبعد القبلي في تكريس المصالحة الشعبية بحسب مفاهيمه المحلية السائدة، ونوع التعويضات التي يقبل بها الضحايا، وأيضا عدد ونوع الجرائم المرتكبة وأثرها في كل مجتمع بحسب خصوصيته، وقدم الجريمة وإصرار المتهمين على تكرارها من عدمه، ومسؤولية التراتبية العسكرية والتي تختلف من تلقي أو إعطاء الأوامر، وكذلك تداخل حالات الدفاع عن النفس للأفراد المسلحين مع حالات النزاع المسلح لا سيما لصغار المجندين أو للمواطنين العاديين. وغيرها الكثير.
هل تنضم سوريا لتاريخ العدالة الانتقالية؟
بدأت العدالة الانتقالية كأداة قانونية عقب الحرب العالمية الثانية لكنها تطورت بشكل كبير في السبعينيات والثمانينيات، ثم أصبحت أكثر وضوحاً بعد نهاية الحرب الباردة. حتى صار يمكن وصفها اليوم بأنها منظومة قانونية دولية تهدف إلى كشف المسؤوليات عن الماضي تحقيق العدالة وتعزيز المصالحة في المجتمعات التي عانت من الصراعات أو القمع السياسي.
هي مجموعة من التدابير القضائية وغير القضائية التي ظهرت لمعالجة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بعد انتهاء النزاعات المسلحة أو سقوط الأنظمة القمعية. والتي تهدف إلى تحقيق العدالة والمساءلة والمصالحة الوطنية لضمان عدم تكرار الجرائم التي شهدتها تلك المجتمعات.
يمكن تتبع جذور هذا المفهوم من خلال محطات تاريخية، حيث ظهرت بوادر العدالة الانتقالية مع محاكمات نورمبرغ وطوكيو التي استهدفت محاكمة قادة الأنظمة النازية واليابانية على جرائم الحرب والإبادة الجماعية. كرست هذه المحاكمات مفهوماً جديداً في القانون الدولي غير الكثير لاحقاً، وهو أن الجرائم المرتكبة خلال الحروب لا تسقط بالتقادم.
مع بداية السبعينيات والثمانينيات، برزت العدالة الانتقالية بشكل أوضح في دول أمريكا اللاتينية التي شهدت سقوط الأنظمة العسكرية الديكتاتورية مثل الأرجنتين وتشيلي والبرازيل. في تلك الفترة، سعت هذه الدول إلى معالجة إرث القمع من خلال إنشاء لجان لتقصي الحقائق ومحاكمة المتورطين في الجرائم التي ارتكبت في حق شعوبها، كما حدث في الأرجنتين بعد انهيار الحكم العسكري عام 1983 بإنشاء لجنة “الحقيقة والعدالة”.
مثلت هذه الفترة بكل أخطائها نقلة نوعية في تطور مفهوم العدالة الانتقالية، حيث انتقلت من نموذج المحاكمات الدولية إلى نموذج لجان الحقيقة المحلية التي تهدف إلى استعادة الثقة بين المواطنين والدولة. وفي تسعينيات القرن العشرين، ظهرت تجربة جديدة للعدالة الانتقالية في جنوب إفريقيا عقب انتهاء نظام الفصل العنصري، حيث أُنشئت لجنة الحقيقة والمصالحة بقيادة ديزموند توتو.
اعتمدت اللجنة السابقة على مبدأ المصالحة من خلال الاعتراف العلني بالجرائم المرتكبة والاعتذار عنها، مقابل منح عفو مشروط للمجرمين الذين تعاونوا مع التحقيقات. هدفت هذه التجربة إلى ترميم النسيج الاجتماعي وتحقيق العدالة التصالحية بدلاً من التركيز على العقاب فقط، وهو ما جعلها نموذجاً يحتذى به في العديد من الدول الأخرى.
وفي التسعينيات، وللدقة بعد انتهاء الحرب الباردة، تفاقمت النزاعات الأهلية والحروب الداخلية في مناطق مختلفة مثل رواندا ويوغوسلافيا السابقة، الأمر الذي أدى إلى إنشاء محاكم دولية خاصة لمحاكمة المسؤولين عن جرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية، مثل المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا التي تأسست عام 1993، والمحكمة الدولية لرواندا عام 1994.
مع مطلع القرن الحادي والعشرين، تأسست المحكمة الجنائية الدولية عام 2002 لتصبح أول محكمة دائمة مختصة بمحاكمة المتهمين بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. ورافق هذا التأسيس اعتماد الأمم المتحدة سياسات وإرشادات تدعم الدول الخارجة من النزاعات في بناء أنظمة عدالة انتقالية تشمل المحاسبة، وكشف الحقيقة، وتعويض الضحايا، وإصلاح المؤسسات. وقد جرى تطبيق هذه السياسات في عدة دول مثل سيراليون وليبيريا والعراق بعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003.
بذلك، تطورت العدالة الانتقالية من مفهوم ظهر بعد الحرب العالمية إلى منظومة شاملة تسعى لضمان حقوق الضحايا وترسيخ العدالة في المجتمعات التي مرت بفترات قمع أو نزاعات. أصبحت هذه المنظومة جزءاً أساسياً من عملية إعادة البناء الوطني وتحقيق المصالحة، وهو ما يجعلها أداة قانونية وسياسية لا غنى عنها لضمان عدم تكرار المآسي وإرساء دعائم السلم والاستقرار.
لكن السؤال حول قدرة الحكومة الانتقالية في سوريا التي يرأسها أحمد الشرع “الجولاني سابقاُ”على تنفيذ أحد النماذج السابقة يظل مفتوحاً على مصراعيه ومتروكاً للوقت ليجيب عنه، لا سيما في ظل اتهام بعض أعضائها أنفسهم بارتكاب جرائم خلال الحرب الأهلية السورية.
الشرط الأول والأهم للبدء في مسار العدالة الانتقالية في أي بلد هو استقرار النظام السياسي بعد الحرب من خلال صناديق الاقتراع والنتائج القائمة على انتخابات نزيهة متفق عليها من كافة شرائح الشعب، لذا تعتبر المطالبة بعدالة انتقالية في المرحلة الحالية في سوريا مطلبا مستعجلاً حتى وإن كانت ضرورياً، لعدة أسباب أهمها أن الحكومة الانتقالية لا تملك حق تعديل الأطر التشريعية كونها غير منتخبة ومؤقتة، وثانياً أنها تمثل طرفاً قائماً شارك في الحرب الأهلية، الأمر الذي يجعلها عرضة للتحقيق ككل الأطراف التي شاركت في حمل السلاح، وهذا ما نستخلصه من تجارب العدالة الانتقالية في العالم. إذ يجب أن تكون لجان التحقيق محيّدة وغير مسيسة.
لذا تعد استعادة الأمن من أعمدة الاستقرار بعد النزاعات وأحد شروط عملية العدالة الانتقالية. تعاني الدول الخارجة من الحروب من انتشار السلاح، وضعف أجهزة الأمن، ووجود جماعات مسلحة تهدد الأمن الداخلي. ووفقًا لتقرير البنك الدولي “إعادة بناء الأمن بعد النزاعات” فإن إصلاح قطاع الأمن ونزع السلاح من الجماعات المسلحة هما أولويتان ضروريتان لتحقيق الاستقرار، ومن ثم البدء بإصلاح البنية التشريعية ووضع القوانين المخصصة للتحقيق والمحاكمات في الجرائم التي ارتكبت قبيل مرحلة انتهاء الديكتاتورية.
الإصلاح المؤسسي يحتاج إلى صبر
غالبًا ما تُخلف الأنظمة الدكتاتورية مؤسسات هشة غير قادرة على أداء مهامها في ظل غياب الحوكمة والممارسات الفضلى. بحسب المفكر العالمي فرانسيس فوكوياما، في كتابه “بناء الدولة: النظام العالمي في القرن الحادي والعشرين” (State-Building Governance and World Order in the 21st Century)، إذ يقول إن “بناء المؤسسات الفعالة يُعدُّ التحدي الأكبر للدول الخارجة من الحروب أو الأنظمة القمعية”، مشيرًا إلى “أهمية تأسيس مؤسسات قادرة على توفير الأمن والخدمات الأساسية كشرط للاستقرار”.
أحد العقبات الكبرى التي تواجه المؤسسات الحكومية بعد سقوط الأنظمة هي أن مفاصل الدولة والمناصب الكبرى المتعلقة برسم وتنفيذ السياسات والمطلعين على سير العمل عادة ما يكونوا من المقربين من النظام الساقط. هذا بالإضافة إلى العديد من المشاكل الإدارية التي تطرأ مع اختفاء أو تراجع من يطلق عليهم لقب “Know How people” المختصين بالجوانب التقنية.
إصلاح المؤسسات وإعادة بناء هيكل الدولة يتطلب جهودًا مكثفة وإرادة سياسية وصبراً طويلاً، لكن هذا الإصلاح يصطدم بعوامل مثل الفساد، والمحاصصة الطائفية، وعدم الثقة بين الأطراف المختلفة. لذا يشير خبراء العدالة الانتقالية إلى “الصبر” وعدم الاستعجال في هذه المرحلة حتى لو عنى الأمر تسيير أعمال المواطنين الإدارية وفق النظم الإدارية السابقة، وهنا يقول جوزيف مسعد أستاذ السياسة وتاريخ الفكر العربي الحديث في جامعة كولومبيا إلى الفرق العظيم بين “الوقت في زمن الثورة والوقت في زمن الإصلاح”، فالأول يمر بسرعة خاطفة حاملاً معه نشوة كبيرة، بينما يمر زمن الإصلاح ثقيلاً ببطء شديد”.
وإصلاح القانون يحتاج إلى” حياد سياسي”
بحسب الورقة المعنونة بـ “إصلاح الدستور والنظام السياسي بعد الربيع العربي” للباحث في القانون الدولي أحمد البوعينين، فالشرط الأول لتطوير وإصلاح المؤسسات الرسمية والاجتماعية، وتدعيم مؤسسات الدولة القانونية وتحريرها من سيطرة الأنظمة الفاسدة هو بناء “عقيدة سياسية ذات إجماع وطني”، بعيدًا عن الحزبية والعرقية والطائفية. الأمر الذي يزداد صعوبة كلما كثرت الأقليات الدينية والعرقية، أو كلما تعددت التوجهات السياسية، أو كلما كثرت الفصائل المسلحة، وجميع الأطياف السابقة موجودة اليوم في سوريا.
يشير مدير قسم الأبحاث في مركز حرمون وأستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة إكستر- بريطانيا د. سامر بكور في بحثه المعنون بـ “العدالة الانتقالية، تحديات ومسارات نحو بناء مستقبل جديد” إلى أن مسار العدالة الانتقالية ليس مجرد إجراء قانوني أو إداري، بل هو عملية تحويلية تهدف إلى إعادة بناء الثقة في المؤسسات، وإرساء أسس عقد اجتماعي جديد.
ويقول: “هذه العملية ليست سلسلة، كما قد يتصوّر البعض، إذ تواجه هذا المسار تحدّيات جمّة، على الصعيدين العملي والسياسي. فعلى المستوى العملي، تشكّل الأعداد الكبيرة من المتورطين في الانتهاكات السابقة تحدّيًا هائلًا قد يتجاوز قدرة أي نظام قضائي، وإن كان ذا كفاءة عالية، على التعامل معه. وفي العديد من الحالات، تجد الأنظمة الجديدة نفسها عاجزة عن مواجهة هذا العبء، حيث تضطر إلى إعادة بناء مؤسساتها السياسية والقضائية من الصفر، وهو ما يعوق جهود معالجة الماضي”.
ويضيف: “أما على المستوى السياسي، فإن العدالة الانتقالية تحمل في طياتها تحديات شائكة، فمحاكمة المتورّطين في العنف السياسي والعسكري، أو تحميل الدولة مسؤولية الانتهاكات من خلال الاعتراف أو التعويضات، قد تثير الجدل وتزعزع استقرار النظام السياسي الوليد. وهذا التوتر بين تحقيق العدالة وضمان الاستقرار يجعل عملية الانتقال السياسي أكثر تعقيدًا”.
تركت الحرب السورية كأي حرب أهلية المجتمع في حالة انقسام واختلاف في رؤى الإصلاح بعدد اختلاف المكونات الطائفية أو العرقية، الأمر الذي يتوقع خبراء أن يعيق تحقيق المصالحة الوطنية قليلاً. أما السيناريو الأسوأ فهو أن تتحول هذه الانقسامات إلى أداة تستخدمها النخب السياسية لتعزيز سلطتها وتكريس الارتداد الطائفي والاحتماء بها، كما حصل في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين، وفي لبنان بعد الحرب الأهلية.
كذلك، عادة ما تكون البنية التحتية للدول الخارجة من النزاعات مدمرة بشكل كبير، إضافة إلى ضعف الاقتصاد وهروب رؤوس الأموال وارتفاع معدلات الفقر والبطالة. ويتطلب تجاوز هذه العقبة استثمارات ضخمة وإدارة فعّالة للموارد، ومع عدم قدرة أي شخص على المفاضلة بين أولوية العدالة على أولوية الاقتصاد، إلا أن مسارات العدالة الانتقالية مكلفة للغاية، وتحتاج إلى موازنات ضخمة لتغطية لجان التحقيق والرواتب وعمليات البحث واستقصاء الشهادات ومقابلات الشهود ومراجعة البيانات، وغيرها من العمليات الطويلة التي تحتاج جيشاً من الموظفين المتفرغين. وعلى الرغم من غرابة الفكرة، إلا أن الإصلاح الاقتصادي يعد جزءا أصيلا من عملية العدالة الانتقالية، ويشير جيفري ساكس في كتابه “نهاية الفقر” (The End of Poverty) إلى أن التنمية الاقتصادية في الدول الخارجة من الحروب تحتاج إلى استثمارات دولية ضخمة ومساعدات إنسانية تُدار بشفافية، مع ضرورة وجود خطة وطنية شاملة لإعادة الإعمار.
برغم العوائق وتداخل الأولويات الاقتصادية والأمنية والسياسية، ورغم أن العدالة الانتقالية طريق صعب للغاية، لكن إرادة الشعوب كثيراً ما تفوقت على هذه العقبات، وتمكنت من تحقيقها، بينما ظلت مجزوءة أو غير متحققة في دول أخرى.
رواندا… العدالة الانتقالية الشعبية
بعد الإبادة الجماعية عام 1994، تبنّت رواندا أحد أكثر نماذج العدالة الانتقالية جرأةً من خلال محاكم الجاكاكا التقليدية، التي اعتمدت على مشاركة المجتمع المحلي في تحقيق العدالة والمصالحة. كانت المحاكم تهدف إلى كشف الحقيقة ومنح الضحايا فرصة للحديث والمطالبة بالعدالة، مع التركيز على إعادة بناء العلاقات المجتمعية.
ورغم الانتقادات التي طالت هذه المحاكم لافتقارها إلى بعض الضمانات القانونية، فإنها نجحت في تخفيف التوترات وإعادة بناء الثقة بين الفئات المختلفة. تعد تجربة رواندا في هذا المجال ناجحة، خصوصًا في تحقيقها المصالحة الوطنية والاستقرار، لكنها لا تزال تواجه انتقادات بسبب القيود على الحريات السياسية.
جنوب أفريقيا… عدالة تصالحية
عقب سقوط نظام الفصل العنصري في 1994، أنشأت جنوب أفريقيا لجنة الحقيقة والمصالحة برئاسة ديزموند توتو، والتي تعدّ واحدة من أبرز تجارب العدالة الانتقالية عالميًا. اعتمدت اللجنة على سرد الروايات والاعتراف بالانتهاكات المرتكبة من أجل تحقيق المصالحة الوطنية بدلاً من الاقتصار على العقوبات الجنائية. أثبتت هذه التجربة نجاحها في تقليل احتمالات نشوب نزاع عنصري جديد وفي بناء نظام ديمقراطي مستقر، لكنها لم تكن كافية لحل الفجوة الاقتصادية والاجتماعية التي ما زالت قائمة بين السود والبيض، ما أضعف بعض جوانب العدالة الاجتماعية.
رومانيا… محاسبة محدودة
بعد الثورة التي أطاحت بحكم تشاوشيسكو عام 1989، واجهت رومانيا صعوبة في التعامل مع إرث النظام السابق، حيث اقتصرت العدالة الانتقالية على محاسبة بعض القيادات المسؤولة عن الجرائم، دون فتح تحقيقات واسعة النطاق بشأن الانتهاكات التي ارتكبت بحق الشعب الروماني.
رغم اعتماد دستور جديد وإجراء إصلاحات مؤسسية، ظلت أجهزة الدولة تحمل بعض مظاهر النظام السابق، كما استمر الفساد ليصبح أحد أبرز العوائق أمام تحقيق عدالة شاملة. ومع ذلك، أسهم انضمام رومانيا إلى الاتحاد الأوروبي في تعزيز استقلال القضاء ومكافحة الفساد، وإن لم تحقق العدالة الانتقالية أهدافها بالكامل.
تشيلي… عدالة الاعتراف والمصالحة
بعد انتهاء حكم أوغستو بينوشيه عام 1990، بدأت تشيلي عملية عدالة انتقالية من خلال إنشاء لجنة الحقيقة والمصالحة التي كشفت عن الجرائم التي ارتكبها النظام العسكري، بما في ذلك عمليات الاختفاء القسري والتعذيب. ورغم تحقيق بعض المحاكمات وإصلاح المؤسسات، فإن رموز النظام السابق احتفظوا ببعض النفوذ السياسي، ما أبطأ من وتيرة تحقيق العدالة الكاملة. ومع ذلك، ظلت تشيلي نموذجًا ناجحًا نسبيًا بفضل الاستقرار السياسي وإجراء انتخابات حرة، رغم استمرار الاحتجاجات الاجتماعية المطالبة بتحقيق عدالة اقتصادية أكبر.
العراق… عدالة لم تتحقق
بعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003، حاول العراق تحقيق العدالة الانتقالية من خلال اعتماد دستور جديد وإجراء محاكمات للمسؤولين عن جرائم النظام السابق، مثل محاكمة صدام حسين وقياداته.
ورغم ذلك، اتسمت هذه المحاكمات بطابع انتقامي وطائفي في بعض الأحيان، ما أدى إلى تعميق الانقسامات بدلاً من تحقيق المصالحة الوطنية. كما أن غياب خطة شاملة للعدالة الانتقالية، واستمرار الفساد والصراعات الطائفية، جعلا العراق يفشل في تحقيق انتقال سلمي ومستقر.
لبنان… هل كرّس “الطائف” الطائفية؟
بعد انتهاء الحرب الأهلية عام 1990، ركّز اتفاق الطائف على إعادة توزيع السلطة وإعادة الإعمار، لكنه أغفل مسألة محاسبة مرتكبي الجرائم، إذ مُنح عفو عام شمل معظم الأطراف المتورطة في الحرب.
غياب آليات العدالة الانتقالية، مثل المحاكمات ولجان الحقيقة، أدى إلى استمرار هيمنة زعماء الحرب في المشهد السياسي، وتعميق النظام الطائفي الذي عزز الفساد والمحسوبية. وبدلاً من تحقيق المصالحة، دخل لبنان في دوامة من الأزمات السياسية والاقتصادية المستمرة.
البوسنة والهرسك… تعقيدات عرقية
بعد انتهاء الحرب عام 1995، تم إنشاء محاكم دولية ووطنية لمحاكمة المسؤولين عن جرائم الحرب، وكان أبرزها المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة. وتم وضع نظام سياسي فيدرالي يهدف إلى تقاسم السلطة بين المجموعات العرقية الرئيسية.
رغم تحقيق بعض العدالة ومحاسبة عدد من المسؤولين، إلا أن النظام السياسي المعقد والمبني على التقسيم العرقي أدى إلى استمرار التوترات وعدم استقرار البلاد بشكل كامل. لذلك، تعتبر تجربة العدالة الانتقالية في البوسنة والهرسك جزئية، حيث حققت محاكمات دولية بارزة، لكنها لم تتمكن من معالجة الأسباب الجذرية للصراع.
يمكن القول إن تجارب العدالة الانتقالية الناجحة نسبيًا تشمل رواندا وجنوب أفريقيا وتشيلي، حيث نجحت هذه الدول في تحقيق جزء كبير من أهداف المصالحة الوطنية وكشف الحقيقة. ورغم نجاحها السياسي، ظلت هناك تحديات متعلقة بالعدالة الاقتصادية والاجتماعية. في المقابل، أخفقت العراق ولبنان والبوسنة والهرسك في تحقيق عدالة انتقالية شاملة، بسبب الانقسامات العرقية والطائفية وغياب الإرادة السياسية، ما جعل هذه الدول تعاني من اضطرابات مستمرة تهدد استقرارها.
رصيف 22
———————————-
سورية… التوجّه عربياً أم دولياً؟/ فاطمة ياسين
05 يناير 2025
ضمّت الزيارة الخارجية الأولى للسلطات الجديدة في سورية، وفداً رفيعاً يتألّف من وزيري الخارجية والدفاع ورئيس جهاز المخابرات العامّة، ويحمل بنوداً سياسيةً وأمنيةً. كانت الوجهة هي السعودية، وشهدت دمشق (قبلها) زيارتَين متتاليتَين لوزير الخارجية التركي. وبعد زيارات جسّ النبض لوفود عربية خليجية، ومكالمات هاتفية متضامنة، جاء الانطلاق إلى السعودية، بما يمثّله هذا البلد من ثقل عربي كبير، وتعكس نوعية الوفد اهتماماً استثنائياً من دمشق، وقد تكون زيارة الرياض قبل زيارة أنقرة تحديداً لبعض الأولويات الأساسية لحكومة أحمد الشرع الانتقالية، ورغبةً في ترميم العلاقات التي كانت مشوبة بالقلق، وكان الشرع قد شدّد، في مقابلة في شاشة “العربية”، على الأهمية الكبيرة للسعودية بالنسبة لسورية.
سورية في هذه المرحلة بحاجة إلى دعمٍ مالي ضخم لقضايا إعادة الإعمار، وتأمين الخدمات الأساسية، كما هي بحاجة إلى غطاء سياسي كبير، وفي السياق السياسي تأتي، في جانب من الأهمية، زيارة وزيرَة الخارجية الألمانية ونظيرها الفرنسي دمشق قبل يومين، وتعتبر الزيارة الأولى رفيعة المستوى يقوم بها وزراء من الاتحاد الأوروبي إلى سورية منذ سقوط نظام الأسد في الثامن من الشهر الماضي (ديسمبر/كانون الأول 2024)، وأشارت زيارتهما إلى “بداية جديدة” محتملة في العلاقة بين أوروبا وسورية، إذ أعرب الضيفان عن رغبتهما في انتقال سلمي وشامل في سورية، وتبدي كلّ من برلين وباريس تفاؤلاً حذراً تجاه التعامل مع القيادة السورية الجديدة، بهدف تحقيق الاستقرار وإعادة الإعمار، مع حثّهما على الاعتدال وحماية حقوق الأقلّيات، وقد أوضح الوزيران أن دعم دولتيهما مشروط بطبيعة الإجراءات التي ستتّخذها السلطات الجديدة.
لم ترفع الدول الغربية العقوبات المفروضة على سورية بعد، ولم تزل هيئة تحرير الشام في قائمة المنظّمات الإرهابية، على الرغم من رفع الولايات المتحدة المكافأة المالية لتسليم أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع). ويمكن أن تؤمّن الدول العربية طيفاً دبلوماسياً واسعاً قد يساعد سورية في العودة إلى الباحات السياسية الدولية بعضوية كاملة، بعيداً عن وجه الأسد البغيض، وقد يشكّل الحضور العربي في الساحة السورية مقابلاً إقليمياً للوجود التركي، الذي سيكون قوياً، نظراً إلى الموقف الذي اتخذته تركيا منذ بداية الثورة، وحدودها الجغرافية الطويلة مع سورية، وخبراتها الاقتصادية والفنّية، ودورها في دعم العملية العسكرية التي انطلقت من إدلب بقيادة هيئة تحرير الشام.
من الضروري أن تلعب السلطات الجديدة بقيادة الشرع دوراً في ضبط العلاقات العربية والتركية في سورية، لتكون علاقات تعاون وتكامل، بما يفيد الوضع السوري المتدهور في المجالات كافّة، وألا يتحوّل هذا الحضور إلى علاقاتِ تنافس وشدّ وجذب واستقطاب، وكانت قد سادت في سورية إبّان عهد الأسد حالةُ تنافرٍ بين الجميع، ما خلّف فوضى كثيرة، وجعل البلاد ساحةَ حرب مفتوحةٍ استغلّتها ماكينات الفساد المغذّية للنظام في تنسيق تجارة المخدّرات وتهريبها خارج البلاد.
رغم جرح السنوات الماضية، التي تقارب فيها العرب مع نظام بشّار الأسد، يبقى احتمال أن يكون التوجّه نحو هذه الدول خياراً مفيداً، ويفتح الأبواب نحو وجود دوليٍّ أكبر، ولكن هناك تحدٍّ داخليٍّ هو توحيد الفصائل المسلّحة وحصر السلاح في يد وزارة الدفاع الوليدة، وتمكينها من أخذ دور في إحلال الأمن، الذي يشكّل العامل الحاسم في الاستقرار، ويُؤمّن البنية الأساسية في عملية البناء السياسي والاقتصادي، ومن الضروري توسيع هامش المشاركة، وعدم الاقتصار على بلدان بعينه. وقد أطلق الشرع إشارات إيجابية في عدّة اتجاهات، وهناك معطيات عن ميل بعض الجهات الفاعلة الدولية إلى منح الأولوية للاستقرار والمصالح الاستراتيجية والقفز فوق الماضي، إذ تشير تصريحاتهم إلى أن الضرورات الجيوسياسية قد تؤدّي إلى قبول عملي لقيادي مثل الشرع، خاصة إذا كان بوسعه خلق نظام بديل معقول، أو العمل على تحجيم تهديدات قوى مثل “داعش”، أو النفوذ الإيراني.
العربي الجديد
————————
سورية… فرص نجاح جمعها القدر لمن يُحسن استثمارها/ عبد الرحمن حللي
05 يناير 2025
لو أن الثورة السورية نجحت في إسقاط النظام في سنواتها الأولى، ربّما كانت سورية حالياً في أتون فوضى وحروب أهلية تفوق ما عاناه السوريون من مجازر وتهجير طوال العقد الماضي، فالفرقة بين فصائل الثوّار لم تخلُ من اقتتال عنيف، حتى وهم متّحدون في الهدف، فضلاً عن تماسك قوى النظام وداعميه حينها، حتى وضعت الحرب العنيفة أوزارها قبل سنوات قليلة، كان لا بدّ من تحوّلات على جميع الأصعدة لصناعة ساعة نصرٍ فاجأت الجميع، طمح إليها السوريون من اليوم الأول وعُذِّبوا حتى كادوا ييأسون، واغترّ النظام البائد بهزيمة خصومه، حتى أصبح التفكير في خطرهم من الماضي، فمن حيث لم يحتسب عركت السنون الثوّار رشداً وقوةً، والنظام غروراً وهشاشةً.
كانت سورية عقوداً سجناً كبيراً، معظم أهلها لم يغادروا مدنهم أو قراهم إلا اضطراراً (كالسوْق إلى خدمة العلم) أو لحاجة (كالدراسة أو الحجّ)، وكانت دمشق (على ما فيها من عَسس وجلاوزة الأمن في كلّ مكان) عالماً آخر للقادم إليها من غيرها من شدّة التهميش والإهمال فيه. وفجأة، وفي غضون بضع سنين أصبح نحو نصف سكّان سورية خارجها، كثيرون منهم غادروا بلدانهم وقراهم للمرّة الأولى إلى خارج سورية لاجئين مهجّرين، من بينهم أطفال ويافعون أمضوا خارج سورية جلّ عمرهم، تعلّموا وخَبِروا عالماً آخر ما عرفه آباؤهم، وما حلموا به، من بين هؤلاء الملايين المهجّرين عشرات الآلاف درسوا وتعلّموا في جامعات حديثة غربية وتركية وعربية، كان حلم الشباب السوري المتفوق (قبل الثورة) أن يفوز بمنحة بحثية للهجرة للدراسات إليها، فقد كانت المنح المتاحة للجامعات المرموقة في الخارج تُحتَكر لعِلْية القوم لا يسمع بها المتفوّقون، فيما كانت تخصّص منح أخرى حزبية واجهةً للانتفاع المادي، وتصنيع الأتباع، لا ينالها إلا أبناء المسارعين في التزلف.
فكان من محاسن الأقدار التي رافقت آلام ملايين السوريين أن كان من تهجير السوريين أكبر حركة ابتعاث علمي خارجي (غير مقصودة) في تاريخ سورية، لأناس ما كان في قائمة أحلامهم في الحياة أن يدرسوا في جامعات خارجية، أو أن يدرسوا لغات مختلفة، واختصاصات متنوّعة، وقد فاز بها المستحقّون من النابغين والمؤهّلين، وتفوّقوا في تلك الجامعات، وأصبحوا متخصّصين ينافسون نظراءهم. وبينما كان مبتعثو جامعات النظام للدراسات في الخارج (سيما إلى الجامعات الغربية) يرجع منهم إلى سورية أقلّ من الخمس (قبل 2011)، فإن أكثرية النُّخَب التي درست في ألمانيا (على سبيل المثال) يفضّلون العودة إلى بلدهم، رغم ما يتمتّعون به من مزايا في بلدان هجرتهم، بل أصبحت عودتهم المتوقّعة موضوع نقاش ألماني لما سيحدثونه من فراغ في المؤسّسات التي يعملون فيها، هذا عن النُّخَب المتخصّصة والأكاديمية. أمّا اليد العاملة الماهرة من بين اللاجئين والمهاجرين، وما اكتسبته من خبرات ومهارات فيمكن الحديث عن مئات الآلاف، وهم يطمحون أن يستأنفوا أعمالهم في بلدانهم من جديد، وعليه فإن الوجه المشرق من ألم التهجير واللجوء أن تلك النُّخَب والمهارات الجديدة يعودون مرفوعي الرأس لعمارة مدنهم وقراهم بخبراتهم. وبهذا، فإن فرص النجاح على مستوى الخبرات البشرية واليد العاملة متوفّرة للغاية، إن توفّرت شروط توظيفها في سورية الجديدة، سيّما لناحية تحقق شروط الحوكمة التي تضمن عودة رجال الأعمال السوريين المهجّرين والمستثمرين ورأس المال العربي.
هرب الأسد، بتخطيط أو من دونه، بطريقة قدّمت خدمةً جليلةً لكلّ السوريين والعالم، فغدر بأتباعه وزبانيته الذين كان يمكن أن يرتكبوا مجازر لو لم يُفاجؤوا بما قُذِف في قلوبهم من رعب، فكان أن فكّك النظام نفسه بنفسه جيشاً وحزباً وعصابات، كلّ فرد منهم يقول “نفسي نفسي” باحثاً عن مهرب، فعبَّد السبيل لفتح دمشق من غير قتال، وهذا كان من أعظم الأقدار التي هيأت لنجاح الثورة، فأثبت الشعب أنه الضامن الأكثر أهمية، فخرج في جمعة النصر ليثبِّته، التي كشفت أن السوريين سلمٌ بعضهم لبعض، خرج الملايين في أنحاء سورية فرحاً، لا يحرسهم من بعضهم سوى الثقة، ووحدتهم في نبذ الكابوس، وفرحهم بزواله، وهذه الوحدة الصادقة، التي افتقدها خائفاً، هي أهم فرصة للنجاح في سورية المستقبل، وأيّ طرف يعبث بها أو يفرّط بتماسكها يقضي على أيّ أمل لأيّ جهة تطمح بغنيمة مشروعة في مسقبل سورية الواعد.
سال حبر كثير في الحديث عن التغيير الديمغرافي والاستيطان الطائفي في سورية، وتغيير هُويَّتها خلال العقد الماضي، وكانت تتواتر الأخبار عن قسمة الجغرافيا السورية بأجمعها بين مليشيات مسلّحة، كلّ منها يمتلك القرار في مساحة سيطرته، ولم يكن من حضور الدولة السورية سوى البيروقراطية التي تضفي الشرعية الدولية للوثائق التي تصدرها، واستمرار العمل الشكلي للمؤسّسات، وكان الهمّ الأكبر الذي يشغل الجميع من مثقّفين وسياسيين وثوّار هو مخاطر تلك المليشيات، الأجنبية منها بشكل خاص، والتغيير المُحدَث في هُويَّة المجتمع الدينية والثقافية، وكان السؤال: كم من سنة سيحتاج المجتمع السوري للتعافي من هذا التغيير القسري بعد التحرير؟ قبل أن يُفاجأ الجميع بتطهّر سورية من هؤلاء الدخلاء تدريجياً بدءاً بـ”طوفان الأقصى” وانتهاءً بفتح دمشق.
كان النفوذ الإيراني في سورية عنوان تفاوض دول الإقليم مع النظام السوري، وكان موضوع العصا والجزرة التي يُفاوَض بها، ورغم كثرة الجزر الذي أُلقِمه النظام، لكنه كان أعجز (وأغبى) عن التعامل بجدّية مع هذا التخوّف الإقليمي، وكان سياسيون في إيران لديهم من الوقاحة والثقة ما يكفي لتسمية دمشق وسورية ولايةً إيرانية، وكانت السياسات العربية أعجز من أن تستعيد دمشق بأيّ وسيلة، رغم ما بذلته من جهود سياسياً واقتصادياً، فجاءها ما سعت إليه لأكثر من عقد في طبق من ذهب، ففي أقلّ من أسبوعين، صحّح السوريون تاريخ سورية وجغرافيتها، فكان انتصار الثورة نصراً عربياً لكلّ من كان يشعر أن النفوذ الإيراني يشكّل تهديداً للمنطقة، وإن من أغبى السياسات أن يُفرِّط العرب بهذه الفرصة لتمتين التحرّر السوري من النفوذ الإيراني، الذي يمكن أن يكون مقدّمة لدحر ما تبقّى من تدخّل في أماكن أخرى، وأصبحت الجغرافية، من البحر الأسود إلى عموم الجزيرة العربية، محرّرةً من النفوذ الإيراني ومهيأةً لأن تكون إقليماً منسجماً في سياساته الاستراتيجية، لناحية الاستقرار والنمو الاقتصادي واستقلال قرارها والتكامل فيما بين بلدانها، إذا ما أُحسِن استثمار تلك الفرصة التاريخية، التي جاءت من غير حروب، بعد أن بُذِل من أجلها كثير من قبل، ولم تثمر بعض هذه الفرصة المتاحة لجميع المخلصين.
إن التاريخ استُؤنِف في سورية بعد أن تركها الأسد قاعاً صفصفاً، والجغرافية السياسية تُكتَب من جديد، والأقلام في صفحاتها متكاثرة، كلّ يريد أن يخطّ رؤاه، والصفحة البيضاء رسم حدودها السوريون منذ إعلان قِيم ثورتهم، والقدر هيّأ فرصاً رائعةً لمن يمتلك أجود الأقلام والأحبار وأحسن الخطوط، ويمتلك السوريون نخبةً متميّزة من أصحاب المهارة العالية في الخطّ والرسم، وتمتلك الدول العربية والحليفة أقلاماً وأحباراً عالية الجودة، ومسؤولية من يتصدّر المشهد السوري أن يجمع تلك النخبة في مرسم واحد، ويوفّر لها أدوات النجاح، وسيكون كارثياً أن يعبث بنصاعة اللوحة السورية من لا يجيد الخطّ ويرسم لوحة رديئةً بدماء الشهداء.
العربي الجديد
———————————-
المشيخة الدرزية في سوريا تشترط كتابة الدستور لتسليم السلاح/ منهل باريش
تحدبث 05 كانون الثاني 2025
تتوسع الهوة بين الإدارة الجديدة في دمشق التي يقودها أحمد الشرع من جهة ومحافظة السويداء من جهة أخرى، والتي بدأت في الهجوم على عبيدة أرناؤوط المتحدث باسم الإدارة السياسية عندما أطلق تصريحات اعتبرها عشرات آلاف السوريين بانها غير لائقة. وما كاد السوريون ينسون تلك التصريحات حتى أعلنت وزارة التربية تغييرات كارثية على كتب التعليم في الوزارة، ما دفع الحكومة إلى التراجع عنها، وعاد السخط على الحكومة بسبب قرار نقابة المحامين بتوقيف إصدار عدد من الوكالات.
في ساحة الكرامة بالسويداء، خرج المئات من أهالي المدينة يوم الجمعة الفائت، في مظاهرة احتجاجية على عدة قرارات أصدرتها حكومة تصريف الأعمال التابعة للإدارة السورية الجديدة، وحمل المتظاهرون لافتات تطالب بحقوق المرأة وتشيّد بدورها، ولافتات أخرى مطالبة بعدم إجراء تعديلات غير مدروسة وواعية للمناهج الدراسية، وكتب على إحدى اللافتات «لا لتديين وتطييف المناهج الدراسية وخاصة العلمية»، كما طالب المتظاهرون الإدارة الجديدة بالتعددية، واحترام التنوع الديني والعرقي في سوريا، وعدم إعادة تدوير الزعامات الدينية والشخصيات العشائرية التي استخدمها سابقا نظام الأسد المخلوع.
وعلى الصعيد النقابي، رفض فرع نقابة المحامين في السويداء قرارات النقابة المركزية في سوريا، الصادرة في 31 كانون الأول (ديسمبر) الماضي، القاضية بـ«وقف سند التوكيل العام والوكالات القضائية بكافة أنواعها، عدم منح صورة طبق الأصل عن الوكالة القضائية والاكتفاء بالوكالة الأصلية» وأثار القرار جدلا واسعا وانتقادات من قبل عموم المحامين في سوريا، وبعد نشر نقابة المحامين في سوريا القرار على صفحتها على «فيسبوك» علق مئات المحامين اعتراضا على القرار، وما أثار الغضب هو رد مدير الصفحة على المنصة وسخريته من المحامين واتهامهم بتفضيل العودة «لعهد الفساد والرشاوى».
وأعلن فرع نقابة المحامين في السويداء «عدم قبوله بكل القرارات الصادرة عن مجلس نقابة المحامين المؤقت» وإعلام المحامين في الهيئة العامة لفرع نقابة المحامين في السويداء «بتنظيم أي سند توكيل وعلى المسؤولية الشخصية لأعضاء مجلس الفرع». وأضاف الفرع أنه سيعمل على «تسليم موظفي النقابة رواتبهم وتسليم الزملاء المحامين حصصهم من صندوقي التعاون والإسعاف وحصة المحامي من الحد الأدنى للوكالات القضائية» في حال الإفراج عن الحسابات المصرفية. كما رفض فرع السويداء أن يكون مصدر رزق المحامين «رهينة قرارات عشوائية وجائرة وغير مدروسة ومخالفة لقانون تنظيم المهنة». حسب نص البيان. وأشار مجلس فرع نقابة المحامين في السويداء إلى أن مجلس النقابة المؤقت «لا يملك اتخاذ القرار بحل وإلغاء أي من مجالس الفروع ولا تعيين بدلاء عنها، كما لا تملك هذا الحق الحكومة المؤقتة باعتبارها حكومة تصريف أعمال».
وفي سياقٍ متصل، أعادت فصائل السويداء المسلحة ليلة رأس السنة، رتلاً عسكريًا تابعًا لهيئة تحرير الشام، و«جهاز الأمن العام» كان قد توجه من دمشق ووجهته إدارة شرطة محافظة السويداء، وحسب ما أفاد به مصدر محلي، فإن الرتل عاد من حيث أتى بدون أي اشتباكات، وتجاوب مع مطالب فصائل السويداء بكل هدوء، وأضاف المصدر أن قرار رفض دخول الرتل صدر عن الرئيس الروحي لطائفة الموحدين الدروز، الشيخ حكمت الهجري، والذي يرفض تسليم سلاح فصائل السويداء للإدارة الجديدة حسب ما أعرب عنه في لقاء تلفزيوني عقب إعادة رتل إدارة العمليات، وقال الهجري في اللقاء، «الحديث عن تسليم السلاح مبكر جدًا، وهو مرفوض في المرحلة الحالية حتى كتابة دستور جديد ضامن لحقوقنا».
وكان وفد إدارة العمليات التابع للإدارة الجديدة قد التقى الرئيس الروحي للموحدين الدروز الثلاثاء الماضي، للتنسيق والعمل على ضبط السلاح المنفلت، والحد من حالات السرقة والنهب في المدينة، إلا أن الشيخ الهجري أعرب للوفد عن رفضه لتدخلات الإدارة الجديدة في الفترة الحالية، وقال حسب ما نقله مركز إعلام السويداء، «نحن مسؤولون عن ضبط الأوضاع العسكرية أو الإدارية أو المدنية، في مناطق الموحدين الدروز، ريثما يتم بناء دولة بشكل تشاركي تضم كل ألوان وأطياف الشعب السوري».
وأشار الرئيس الروحي للموحدين الدروز إلى أن زمن التعيينات كما كان في عهد النظام قد انتهى، مؤكدا على أن السويداء لديها كوادر وكفاءات قادرة على إدارة المدينة.
ولفت الهجري إلى أن بناء الدولة الجديدة يجب أن يكون تشاركيا، بناء على أن سوريا ليست لونًا واحدًا وكافة الألوان تتواصل، ومع مباركته للإدارة الجديدة، أكد على انه لم يتم الوصول إلى سلطة الدولة.
إلى ذلك، لا تزال الفصائل المسلحة في السويداء على تواصل مع الإدارة الجديدة فيما يخص تعيين محسنة المحيثاوي كمحافظة للمدينة، إلا أن الإدارة الجديدة لم ترد على المطالبات على الرغم من إجراء مشاورات عدة بين الزعامات الدينية والوجهاء من جهة، والإدارة في دمشق من جهة أخرى.
وتعتبر السويداء بما تحمله من خصوصية مرتبطة بطائفة الموحدين الدروز، من أبرز الملفات المعقدة التي ستتعامل معها الإدارة السورية الجديدة، بالإضافة إلى ملفات أخرى مشابهة من حيث التعقيد والخصوصية ولا سيما سيطرة قوات سوريا الديمقراطية «قسد» على شمال شرق البلاد.
بموازاة ذلك، أطلقت إدارة العمليات بمشاركة قوات «الأمن العام» الخميس الفائت حملة أمنية في مدينة حمص تستهدف من وصفتهم إدارة العمليات بمجرمي حرب وفلول النظام السابق، وقال المرصد السوري لحقوق الإنسان أن إدارة العمليات ألقت يوم الخميس القبض على ما يقارب من 25 شخصا منهم عناصر سابقين في قوات النظام وهم مطلوبون لمراكز التسوية التي أطلقتها الإدارة الجديدة لعناصر الجيش والأمن التابعين للنظام المخلوع.
وحسب مصادر مقربة من إدارة العمليات فإن الحملة أسفرت عن إلقاء القبض على عدد من الأشخاص المتورطين في مجزرة حي «كرم الزيتون» التي وقعت في آذار (مارس) 2012، وأضافت المصادر أن قوات الأمن العام تمكنت من إلقاء القبض على محمد شلهوم المتهم بسرقة ملفات سجن صيدنايا، وتعطيل كاميراته قبيل إعلان سقوط النظام، وهروب رئيسه بشار الأسد، كما اعتقل إثر الحملة الضابط أحمد زكريا عبد القادر، أحد ضباط سجن دير الزور العسكري.
وكانت وكالة الأنباء الرسمية «سانا» قد نقلت عن مصدر عسكري في الإدارة الجديدة أن الحملة «تستهدف بشكل رئيسي مجرمي الحرب والفارين من قبضة العدالة، بالإضافة للبحث عن الأسلحة والذخيرة المخبأة»، وأضاف المصدر أن الحملة أتت «استكمالاً لحملة تمشيط حمص، ودخلت أحياء السبيل والزهراء والعباسية والمهاجرين».
الجدير بالذكر، أن الحملة الأمنية للإدارة الجديدة ضد فلول قوات النظام المخلوع بدأت عقب مقتل ما يقارب 14 عنصرا من قوات الأمن العام بكمين لفلول النظام في «خربة المعزة» بريف طرطوس في 25 من الشهر الماضي.
من جهة أخرى، استهدف سلاح الجو الإسرائيلي فجر الجمعة الماضي، مستودعات لمعامل الدفاع، والبحوث العلمية في منطقة الواحة بريف السفيرة شرق حلب، وأكدت وكالة الأنباء السورية الرسمية «سانا» عملية القصف وذكرت أن غارة جوية استهدفت معامل الدفاع في السفيرة بريف حلب الشرقي، وقالت مصادر محلية من المنطقة أن سبعة انفجارات قوية جدا هزت المنطقة فجر الجمعة جراء استهداف طائرات لمعامل الدفاع في السفيرة.
بالمقابل قالت وكالة «الأناضول» نقلا عن مصادر محلية، إن عملية إنزال جوي نفذته القوات الإسرائيلية على منطقة السفيرة، ترافق مع سماع أصوات اشتباكات، وتحدثت عن سقوط قتلى وجرحى من دون ذكر أي تفاصيل إضافية.
وكان سلاح الجو الإسرائيلي قد استهدف قبل يوم واحد من قصف معامل الدفاع والبحوث العلمية في السفيرة، مقر اللواء 90 في منطقة سعسع بريف دمشق.
وكشف الجيش الاسرائيلي النقاب عن تفاصيل الانزال الجوي (الأبرار) الذي نفذه جنوب مدينة مصياف في أيلول (سبتمبر) 2024، وزاد المتحدث باسم الجيش «داهم ودمر أكثر من 100 مقاتل من وحدة شلداغ الخاصة قبل أربعة أشهر موقعا تحت الأرض لإنتاج الصواريخ الدقيقة في عمق سوريا».
ووصف رئيس الأركان الإسرائيلي هيرتسي هليفي، العملية العسكرية بانها «بطولية» واعتبرها جزءا من العمليات الممتدة من غزة إلى لبنان مرورا بسوريا وصولا إلى إيران.
وبث الجيش الإسرائيلي مقاطع مصورة لمروحيات إسرائيلية لحظة اقلاعها وتحركها باتجاه مصياف، إضافة إلى لقطات للجنود في محيط المنشأة التابعة للبحوث العلمية السورية والتي كانت مخصصة لإنتاج الصواريخ الدقيقة بواسطة خبراء إيرانيين. كما نشر جيش الدفاع مقاطع مصورة داخل المنشأة ولحظة عثورها على خلاط الوقود وأربع محركات للدفع.
وحسب الشريط المصور فإن قوات النخبة الإسرائيلية تجولت في المكان بشكل كامل وعثرت على وثائق ورقية جرى نقلها إلى تل أبيب.
وأكد الناطق العربي باسم الجيش الإسرائيلي أن المركز وضع تحت المراقبة منذ العام 2017 حيث بدأت أعمال الحفر والبناء والتي انتهت عام 2021. واستغرق تجهيزه ثلاث سنوات أخرى، ما يعني أن خطوط الإنتاج ما زالت قيد التجريب أو أنها حديثة للغاية. وشدد على أن هذا المجمع كان «مخصصا لتسليح حزب الله بمئات الصواريخ والقذائف الصاروخية سنويا».
إلى ذلك يضاف توغل جيش الاحتلال الإسرائيلي في مناطق متعددة في محافظة القنيطرة جنوب غرب سوريا، وإذا ما ربط التحرك البري مع القصف الجوي المستمر ضد مستودعات الصواريخ ومراكز البحوث العلمية ومستودعاتها فذلك يعني أن العدوان الإسرائيلي لن يتوقف ضد سوريا بحجة وجود السلاح الكيميائي، وهذا ما يجب أن يدفع بالإدارة السياسية مخاطبة منظمة حظر السلاح الكيميائي والطلب منها إرسال بعثتها الخاصة بسوريا وفتح كل مستودعات الأسلحة والمراكز التي جرى تدميرها أو تلك المستثناة من القصف الإسرائيلي حتى اليوم، عدا عن ذلك فإن القصف الجوي لن يتوقف وما تزال الدبابات تتحرك على سلاسلها.
القدس العربي
——————————
المكوّعون… مثقّفو الديكتاتوريات/ عباس بيضون
05 يناير 2025
بعد سقوط نظام الأسد ودعوة النظام الجديد ما سمّاه فلول النظام البائد إلى التسوية، هال الجميع رؤية أنصار السُّلطة الأسدية وأتباعها يتساقطون بالعشرات ويُعلنون توبتهم، ويتبرّؤون بملء أفواههم من الحُكم الذي التفّوا حوله من قبل واستفادوا من نفوذه، وخدموه بكامل طاقاتهم، واستعدوه على معارضيه ومعارضيهم. لا شكّ أنّ هؤلاء منبثّون في شتّى الزمر وشتّى الفئات. هُم بالطبع تجّار ومستثمرون وموظّفون كبار ومهرّبون، إنّهم حاشية النظام وبيئته.
لسنا هنا لنتعرّض لهذه الطبقة كلّها، ما يهمّنا هو استتباع مثقّفين وأدباء وشعراء وفنّانين، استتباع المثقّفين الذين تتوسّل بهم السُّلطات الموازية للسُّلطة الأسدية، لتزيين حُكمها، وامتداحه والدعاء له. يهمّنا هذا المحيط الثقافي الفنّي الذي تتّخذه هذه السُّلطات لنفسها، وتتوسّله لتجميل صورتها وتصنيمها، ورفعها إلى مستوى الدين والعقيدة.
الأنظمة التي تستدعي ذلك وتبني منه وعليه، هي أنظمة الديكتاتوريات العسكرية. أنظمة كهذه قفزت إلى الحُكم بدعوى التحرير والتحديث والعدل الاشتراكي، أي إنّها تُقدّم نفسها على أنّها أكثر من حكومة، إنّها عقيدة وبرنامج وفكر وثورة واقتصاد وإرادة شعبية، أي إنّها، بكلمة، تُشبه أن تكون ديناً سياسياً وقدراً اجتماعياً وتاريخاً. أنظمة كهذه ذات دعاوى فكرية ونظرية تحتاج إلى إطارات فكرية وفنّية، تحتاج إلى بروباغندا ومظاهر ثقافية وصياغات نظرية تحتاج دعاويها الثورية إلى هذا الرديف الفكري، من حملات وأنشطة ومناسبات تخدم صورتها، وتخلق حولها مناخاً مناصراً، وسجالات ودعوات وتبريرات، ما يجعل منها فلسفة وديناً جماهيرياً. حاجة هذه الأنظمة إلى الفنّانين والمثقّفين صادرة عن هذه الحاجة. الحُكم هنا هو عقيدة الشعب، ولا بدّ أن تكون له احتفالات ومناسبات وأعياد. هكذا يتمّ ضخّ هذه الشعائر وتلك الأغراض، ولا بدّ في سبيل ذلك من جيش من الدعاة والمنظّمين، جيش من الفنّانين والكتّاب والمفكّرين.
أنظمة الديكتاتوريات العسكرية هي أيضاً أنظمة رأسماليات الدولة، وهي أيضاً عبادة الدولة برموزها الأعلى، الرئيس أوّلاً. الدولة تسيطر على كلّ شيء على الاقتصاد والاجتماع والثقافة، ولا بدّ لها من إطار حزبي وإطار عقائدي. هنا يأتي دور المثقّفين والفنّانين، لكنّهم إذ ذاك ليسوا إلّا موظّفين أو أتباعاً. هكذا تنحطّ الثقافة إلى أن تصبح محض دعاوى. يتعلّم المثقّف كيف يُصبح داعية، وكيف يبيع الكلمة واللحن واللون لتصير هذه مواد للبيع، كما يصبح المثقّف نفسه مبيعاً. هكذا نفهم ما سمّاه أحمد بيضون “التكويع” أي الانعطاف إلى موقع جديد، بمجرّد أن يتغيّر الحُكم. التكويع من كوع؛ وهو الطريق الذي ينعطف إليه المرء ما إن ينقطع طريقه الأوّل.
التكويع هو إذاً تبديل الولاء، ما إن ينتهي الوليّ الأول ويبرز وليّ ثان. التكويع هكذا هو سُنّة عدد من فنّاني سورية ومثقّفيها الذين، ما إن سقط الحُكم الأسدي، حتى كوّعوا، أي بدّلوا ولاءهم وانتقلوا إلى ولاء آخر، بأيّ حجّة كانت. قد نفكّر هكذا في مسرحيٍّ تهافَتَ في خدمة الأسد، وتخلّى عنه صبيحة رحيله، بشاعر أو أكثر، وبآخرين من كلّ صنف. المثقّف الداعية هو في الخدمة، إنّها وظيفته وهو يُمارسها أيّاً كان الحاكم، يُمسي على بشّار الأسد ويصبح على أحمد الشرع، فينقل هكذا ولاءه من كتف إلى كتف.
لن يكون وحده في ذلك، هناك عشرات سواه، بل مئات الذين يستحقّون، بحسب أحمد بيضون أن يكونوا عائلة كاملة، عائلة المكوّعين، بأسمائهم التي يبقى منها كنية الكوع أو اسمه بأيّ وجه كان. أحمد بيضون يمازح حين يضيف إلى اسم كلّ منهم لفظة الكوع، أو ما يشتقّ منها. إنه ضحكٌ لكنّه يردّنا إلى أن نفكّر في حال مثقّفينا وفنّانينا، الذين ينحدرون بالثقافة إلى أن تكون، ليس أكثر من بيع صوت. ربّما كان هذا مآل رأسماليات الدولة ومثقّفيها، إذ هنا تملك السلطة المجتمع والدولة والحياة العامّة والخاصّة والكلام والفكرة.
* شاعر وروائي من لبنان
—————————-
رسائل دمشق… تناقضات مقلقة/ لميس أندوني
05 يناير 2025
صحيح أن من غير العدل الحكم المبكّر على القيادة السورية الجديدة، لكن هناك غموضاً ورسائل متناقضة تبعثها حكومة “الأمر الواقع”، تثير تساؤلات، بل القلق، بشأن ماهية النظام الذي تنشده هيئة تحرير الشام، ورؤيتها إلى دور سورية، وموقفها من قضايا استراتيجية، فقد عانى الشعب السوري طويلاً كبح الحرّيات، ودفع ثمناً باهظاً في السجون والأقبية وغرف التعذيب، إضافة إلى أن موقف القيادة الجديدة من مسألة السيادة غير واضح أو غير مفهوم، خصوصاً أن هناك احتلالاً إسرائيلياً يتوسّع وأن ثمّة مطامع لدول أخرى في سورية. التناقض سيّد الموقف داخلياً، مع الإقرار بأن القيادة تحتاج إلى وقت أطول لترتيب وضع صعب جدّاً، خاصّة توفير المحروقات والمواد الغذائية للشعب السوري.
لكنّ إعلان أحمد الشرع أن دمشق تحتاج إلى أربع سنوات لوضع دستور جديد، ولتنظيم انتخابات نيابية وسياسية، يعني أن على الجميع قبول التعيينات الحالية في الوزارات ومفاتيح الدولة إلى أن تثبّت القيادة الحالية سيطرتها، وتصبح الأقوى، وعلى الجميع قبول هيمنتها، وترسيخ أيّ إجراءات تفرضها وشرعنتها. بمعنى أنها تبدأ ما يفترض به أن يكون مرحلةً انتقاليةً من دون إفساح مشاركة واسعة في المؤتمر المزمع عقده، وإذا كان هذا، فهي بداية إقصاء تنمّ عن قِصَر نظرٍ، إن لم تكن متعمّدة فإنها تثير الاستغراب. عدا عن أن التطمينات وحدها لا تؤسّس دولةَ المواطنة التعدّدية، مع التقدير لموقف الشرع، الذي هنّأ بأعياد الميلاد المسيحية، وهو موقفٌ يتجاوز بمسافات أحزاب الإسلام السياسي التقليدية، وقد تجاوب مع ممثّلي الكنائس المسيحية واستقبلهم، والأكثر أهمّية دعوة بطريرك أنطاكية للروم الأرثوذكس إلى التعددية ودستور ديمقراطي يشارك فيه الجميع، من دون أن يتعرّض لمضايقات أو هجوم من أنصار هيئة تحرير الشام أو المتعصّبين.
لا يقتصر الأمر على المسيحيين السوريين بالطبع، إذ يجب التعهّد بمأسسة المساواة في الحقوق، وعدم التمييز ضدّ جميع السوريين، بغضّ النظر عن ديانتهم ومذاهبهم وإثنياتهم، من العلويين والدروز والأرمن والأكراد، وهو طريقٌ قد يبدو وعراً، خصوصاً أن هناك احتمالات حقيقية لانفصال المناطق الكردية، ومحاولة إسرائيل العلنية ضمّ مناطق درزية إليها. فكلّ كلمة ورسالة تصدر من دمشق حسّاسة، والمسألة لا تعتمد على القيادة الجديدة فحسب، لأن هناك تدخّلات، بل توغّلات في الأراضي السورية، حتى من داعم القيادة الجديدة وصديقها في أنقرة. لذا، تحتاج سورية إلى خبرات بناتها وأبنائها، متعدّدي المذاهب والإثنيات والاتجاهات، لخوض المعترك الصعب.
الأولوية التي يعيها الشعب السوري هي خطر تقسيم سورية، وأن الحفاظ على السلم الأهلي والتزام حقوق متساوية ضرورةٌ لإحباط أيّ خطط لتقسيم سورية أو قضم أراضيها. لذا، من غير المفهوم المباشرة بتغيير المناهج التعليمية بصورة ارتجالية، من دون تشاور ولجان متخصّصة، فما نشرته وزارة التربية والتعليم الجديدة يعكس توجّهاً لتلقين قيم التمييز المذهبية، وزرعها في الأجيال الحالية والقادمة، ولا ندري ما تُخبّئ الوزارة من مفاجآت بشأن التعريف بالأكراد والدروز من أبناء سورية. سعت القيادة الجديدة من اليوم الأول إلى إظهار “النقلة الفكرية” من تفكير جبهة النصرة و”داعش” إلى تفكير قيادة منفتحة بعيدة عن التعصب ولغة الكراهية. لا ندري ما الذي يجري تماماً، وما إذا هناك خلافات داخلية، أو محاولة لإرضاء جناح متشدّد، لكن النتيجة واحدة، ترسيخ نهج تمييز لا يؤسّس لحرّية أو عدالة أو سلم أهلي. وفي الوقت نفسه، يعلن الشرع إعجابه بالتجربة السعودية، وبرؤية ولي العهد محمّد بن سلمان، وهي رؤية من إنجازاتها تحويل المملكة واحدةً من أكثر وجهات الترفيه الفنّي الاستعراضي أهميةً في العالم. لذا الموقف من الانفتاح غير مفهوم، لا يعني ذلك اللحاق بالسعودية، لكنّ سورية كانت دائماً مركزاً ومنارةً للفنّ والأدب في العالم العربي، أي هل سيكون متّسع من الحرّية لازدهارها؟ فما هو الموقف من الحرّيات الاجتماعية والفنون نفسها؟.
الغريب أن الشرع، منذ وصوله إلى دمشق، بعث عدّة رسائل طمأنة إلى الغرب من خلال اختياره إعطاء أول مقابلتَين لمحطتَي “سي أن أن” و”بي بي سي”، مركّزاً على أن سورية “لا تشكّل خطراً على دول المنطقة”. ما يعني ليس عدم التدخّل في شؤون الدول العربية فقط، فما يعني الغرب هو الموقف من إسرائيل، بل قال إن نجاح حركته في إسقاط نظام الرئيس بشّار الأسد “منعت حرباً كونية”، يقصد بين إيران وإسرائيل، مع أنه يعي أن إسرائيل هي التهديد الرئيس للمنطقة وتحتلّ هضبة الجولان السورية (مسقط رأسه)، ودمّرت سلاح الجيش السوري ومراكز أبحاث وتوغّلت في أراضي سورية، ومستمرّة في القصف والتصرّف على أن لها الحقّ في السيطرة على الأراضي السورية.
لم يسأل مراسلا القناتَين الغربيتَين الشرع عن إسرائيل، لكنّ مراسل قناة الجزيرة الإنكليزية سأل وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، عن موقف دمشق من الحرب الإسرائيلية في غزّة، فأجاب أن دوراً كان لسورية فيها، لكنّه انتهى، مضيفاً أن مفاوضات ستكون مع إسرائيل بشأن الجولان. وهي أجوبة أقلّ ما توصف به أنها “غريبة” وأنها لـ”طمأنة الغرب”، فليس مطلوباً من سورية المساندة المسلّحة لغزّة، بل أن تبني نفسها، لكن ليس عليها أن تعلن موقفاً قانونياً وأخلاقياً، فهو أسلوب لا ينفع مع الغرب، إلا اذا أرادت سورية عزل نفسها عن العالم العربي. الأكثر أهميةً هو الموقف من الاحتلال الإسرائيلي لأراضي سورية، صحيح أن الوزير حديث التجربة، لكنّنا نرى ذلك يتكرّر، ما قد يدلّ على نهج، خصوصاً أن هناك خبراء سوريين مبدعين قادرون على وضع تصوّر للسياسة الخارجية، ويستطيعون إعداد أجوبة مبنية على القوانين الدولية ومقرّرات مجلس الأمن، إذا كان الأمر هو التخوّف من أن يعتبر الغرب سورية “دولة معادية”.
الانفتاح على الغرب يقابله عدم وضوح الموقف السياسي في الرسائل حيال مستقبل التعدّدية والحرّيات في سورية. نعي أن هيئة تحرير الشام تحتاج إلى التوافق مع داعميها، لكن أهمّ مساند لها هي تركيا، لكنها لا تتمثّل النموذج التركي، ولا داعي لذلك. نأمل بموقف سوري من كلّ القضايا نابع من إجماع داخلي ومشاركة في إعلان مبادئ تأسيسية جديدة يتشارك فيها الجميع، فما يحدث في سورية، إيجاباً أو سلباً، يؤثّر في المنطقة، والأهم في العالم العربي، بل يجعل سورية مع مصر (التائهة حالياً) الدولتَين المرشّحتَين لقيادة العالم العربي. فهذه سورية الحضارة والتاريخ والثراء الثقافي، التي لا تحتاج إلّا إلى عودة أبنائها وبناء مجتمع الحرّيات والحرّية، لأجلها ولأجلنا جميعاً.
العربي الجديد
—————————
“تعديل” المناهج السورية مقلق/ حسن مدن
05 يناير 2025
كما هو متوقّع، لقي حذف المُكلّفين بشؤون التربية والتعليم في الإدارة الجديدة في سورية كلّ “ما يُمجّد نظام بشّار الأسد في مناهج التعليم في البلاد” ترحيباً واسعاً في أوساط الناس والنُّخَب، لكنّ قرار الحذف نفسه نحا منحىً أبعد، أثار الاستغراب، لا بل القلق. فتحت عنوان “تعديل المعلومات المغلوطة”، التي اعتمدها النظام السابق، “في منهاج التربية الإسلامية مثل شرح بعض الآيات القرآنية واعتماد التفسير الصحيح لها”، نصّ القرار، فيما نصّ، على استبدال عبارات وطنية مثل “الدفاع عن الوطن” لتصبح “في سبيل الله”، وأخرى دينية مثل “المغضوب” عليهم و”الضالين” لتصبح “اليهود” و”النصارى”، فكيف لدولةٍ يشكّل المسيحيون تاريخياً مكوّناً رئيساً من مكوّناتها، ولنخبهم دور مشهود في النهضة الثقافية والفكرية في سورية وفي بلاد الشام عامة، أن يوضعوا في مقابل “الضالّين”! وكيف يمكن لتوجهٍ مريب ومقلق مثل هذا أن ينسجم مع التطمينات التي وجهتها الإدارة الجديدة إلى مكوّنات المجتمع المختلفة لحظة وصولها إلى السلطة، بأنها ستعاملهم وفق مبدأ المواطنة الذي لا يفرّق بين مكوّن وآخر.
يضاف ذلك إلى التساؤل الوجيه عن حدود صلاحية الإدارة المؤقّتة لتسيير الأعمال، التي حُدّدت مدّتها بشهور لا تتجاوز الثلاثة، في إصدار تعديلاتٍ مثيرةٍ للجدل، وباعثة على الانقسام، مثل هذه، فالأمر يتّصل بجوهر الوحدة الوطنية السورية ومستقبلها، وقد تكون هناك حاجة إلى إعادة النظر في المناهج الدراسية، أو في بعض جوانبها، لكنّ مهمّةً مثل هذه يجب أن تُعهَد إلى لجانٍ متخصّصة بعد صياغة دستور جديد للبلاد، متوافق عليه، يضمن التعددية السورية ويصونها، ويساوي في الحقوق والواجبات بين مكوّنات هذه التعددية، التي أثرت المجتمع السوري في مراحله التاريخية المختلفة. لم يقف الأمر عند هذه المسألة وحدها، وإنّما طاول ما هو أبعد وأخطر، حين قاربت التعديلات المشار إليها الجوانب المتّصلة بتاريخ العلاقة مع السلطنة العثمانية، عبر شطب ما تضمّنته مناهج التاريخ السورية في المدارس عن المجازر المرتبطة بالعثمانيين، ونضال السوريين ضدّ هيمنة هؤلاء على وطنهم، ما يحمل على الاعتقاد بأن هذا الشطب تمّ إرضاءً للسلطات التركية، وتعبيراً عن العلاقات الممّيزة التي تجمع بين أنقرة والإدارة السورية الجديدة.
أشار الكاتب السوري رامي كوسا إلى مجموعة من المسلسلات التي تناولت مقاومة السوري للعثمانيين، مثل “حمام القيشاني”، قائلاً: “حتى لو حوّلتم مناهجنا الدراسية إلى ملحقات صحف شرعية، ستغلبكم أغنية أو مقطع منها يتغنّى بشهداء 6 أيّار (مايو)، الذين (تمرجحوا) على مشانقهم بعد أن أصدر العثماني العصملّي المحتلّ الجزار جمال باشا السفاح قراراً بإعدامهم. هؤلاء شهداؤنا، وباقون في الأغنيات والوجدان وفي المناهج التي ستعود كما كانت، يعني ستعود كما كانت”. ونشر كوسا صورة فارس الخوري، أحد الآباء المؤسّسين للجمهورية السورية، مُعلقاً: “أحد الضالّين في تاريخ هذه البلاد”.
عقد نشطاء سياسيون ومثقّفون سوريون عديدون مقارنةً بين استعانة حكم الأسد بالدعم الإيراني، واستعانة الإدارة الجديدة بالدعم التركي، ففي الحالَين هناك تغييب للقرار الوطني السوري المستقلّ، الذي يتعيّن أن ينطلق أولاً، وقبل كلّ شيء، من عروبة سورية، لأن هذه العروبة بالذات هي الضامن لوحدة النسيج الوطني السوري، بمكوّناته المذهبية والعرقية والدينية المختلفة، السُنّة والعلويون والدروز والمسيحيون، وبما يضمن حقوق الأكراد وغيرهم من غير العرب، فمنذ نشوء الدولة السورية الحديثة، كانت الهُويَّة العروبية، ليست ضامناً لوحدة المجتمع السوري فقط، وإنّما منطلق الدور المهم لسورية عربياً أيضاً، قبل أن تؤدّي الاستقطابات الإقليمية المعقّدة، وتشبّث نظام الأسد بالسلطة، إلى تمكين طهران في سورية، والحريصون على مستقبل سورية واستقرارها، من أبنائها ومن أشقائهم العرب، لا يريدون لها استبدال نفوذ إقليمي بآخر، بأن يحلّ الأتراك في محلّ الإيرانيين.
ولا تلغي عروبة سورية تاريخها العريق السابق للإسلام، فله هو الآخر، دور محوري في تكوين هُويَّة المجتمع السوري، وما دام حديثنا يدور حول التعديلات على المناهج الدراسية، نشير إلى اعتراض الناشطين السياسيين والفنّانين السوريين على ما تضمّنته هذه “التعديلات” من حذف زنوبيا (ملكة تدمر) تحت ذريعة أنها شخصية خيالية، وكذلك إلغاء تاريخ الآراميين والكنعانين والآلهة القديمة، وما يتعلّق بتطوّر القانون وفق شريعة حمورابي. ولم تقتصر التعديلات على الجانبين الديني والتاريخي فقط، وإنّما طاولت أيضاً الجانب العلمي، ومن ذلك حذف فقرة “تطور الدماغ” بالكامل من مادّة العلوم.
العربي الجديد
—————————
رهانات وضغوط.. هل تنجح براغماتية الشرع في إدارة لعبة التوازنات بسوريا؟
2025.01.05
لطالما شكلت سوريا عقدة الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط، حيث لا تكتمل الخرائط الاستراتيجية من دون أن تتوسطها دمشق التي تحتل موقعا يجعلها نقطة التقاء للمصالح أو صراع على النفوذ ومسرحا دائما للتنافس السياسي والعسكري بين القوى الكبرى.
خلال الأسابيع الماضية التي أعقبت سقوط الأسد، تحولت سوريا لمحور اهتمام دولي وإقليمي فسلكت وفود الدول طريق دمشق، ورغم أن الهدف هو جس النبض لقائد الإدارة الجديد أحمد الشرع القادم من خلفية جهادية، وتقييم الواقع على الأرض فإنها تؤسس لمرحلة المفاوضات والمساومات المستقبلية.
وفي ظل مطالب الدول وتخوفات البعض منها، يبرز التساؤل عن الكيفية التي ستدير بها القيادة السورية الجديدة لعبة التوازنات الدقيقة والمصالح المتشابكة على الجغرافيا السورية؟
الصراع على سوريا
تحت عبارة “من يقود الشرق الأوسط لبد له من السيطرة على سوريا” ركز الكاتب البريطاني الشهير باتريك سيل في كتابه “الصراع على سوريا” على أهميتها في المنطقة، وكيف أصبحت خلال أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي مركزا للصراعات.
ولأن “سوريا مرآة للمصالح المتنافسة على المستوى الدولي مما يجعلها جديرة بعناية خاصة”، كما يقول سيل، تحولت خلال العقد الماضي، إلى واحدة من أكثر الساحات تعقيدا للصراعات الإقليمية والدولية، حيث تنافست قوى متعددة لتحقيق مصالحها الاستراتيجية وتوسيع نفوذها.
وتوزع اللاعبون، خلال السنوات الماضية، على مختلف الجبهات السورية، فالولايات المتحدة في الشرق، وروسيا وإيران في الوسط والغرب، وتركيا في الشمال، إلى جانب بعض الدول العربية وخاصة الخليجية التي دعمت نظام الأسد لمنع أي تمدد تركي.
في شرقي سوريا قادت الولايات المتحدة ومن ورائها الغرب، تحالفا دوليا لمحاربة تنظيم داعش وضمان عدم عودته إلى الأراضي السورية، واستخدمت واشنطن هذه الحرب ذريعة لتبرير وجودها العسكري ودعم قوات سوريا الديمقراطية كحليف رئيسي على الأرض، الأمر الذي أدى إلى توتر العلاقة مع تركيا الحليف القوي في الناتو.
إضافة إلى ذلك، كانت أولويات واشنطن الاستراتيجية تشمل ضمان أمن إسرائيل، والحد من النفوذ الإيراني، وإضعاف روسيا ومنعها من تحقيق سيطرة كاملة في سوريا.
على الجانب الآخر، شكلت سوريا بالنسبة لروسيا منصة حيوية لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط وإظهار قوتها كدولة عظمى على الساحة الدولية، فقدمت دعما مطلقا لنظام الأسد، عسكريا وسياسيا، مقابل الحصول على قاعدة استراتيجية على البحر الأبيض المتوسط، تمثلت في قاعدة حميميم، مما منحها موطئ قدم في المنطقة.
أما الدول العربية فتباينت مواقفها تجاه الملف السوري، فركز بعضها على الحد من النفوذ الإيراني، بينما دعم البعض الآخر النظام في مواجهة أي نفوذ لتركيا في سوريا، والتي تعتبر الرابح الأكبر مما يجري بسبب علاقتها الجيدة مع الإدارة الجديدة.
تغير المعادلة
مع سقوط الأسد، تغيرت المعادلة وموازين القوى وظهرت شروط ومطالب جديدة، ترافقها مخاوف متزايدة، خاصة من الدول العربية، بشأن احتمالية عودة تيارات التشدد الإسلامي أو تصدير الثورات، مما يضيف مزيدا من التعقيد إلى المشهد السوري.
بدورها ربطت الدول الغربية أي تعاون مستقبلي مع الإدارة الجديدة بخروج روسيا من سوريا، معتبرة ذلك شرطا أساسيا للمشاركة في إعادة الإعمار ورفع العقوبات، إلى جانب ضمان حقوق الأقليات، خاصة الأكراد، الذين يحظون بدعم أميركي كبير في الشرق.
هذه الشروط جسدتها تصريحات بعض المسؤولين الأوروبيين، إذ قالت رئيسة دائرة السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، كايا كلاس، إن “أحد شرط حوار الاتحاد الأوروبي مع السلطات السورية الجديدة يجب أن يكون انسحاب القواعد العسكرية الروسية من سوريا”، مشددة على أن إيران وروسيا “يجب ألا تلعبا أي دور في بناء مستقبل سوريا الجديد”.
من جانبه قال وزير الخارجية الهولندي، كاسبار فيلدكامب، إن رفع العقوبات عن سوريا سيكون مرتبطاً بإطلاق مسار سياسي وضمان حقوق الأقليات، كما أن إغلاق قواعد روسيا بسوريا سيكون ضمن الشروط الأوروبية لدعم دمشق”.
وخلال زيارتها إلى العاصمة دمشق، الجمعة، أكدت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك على ضرورة انسحاب القوات الروسية من سوريا.
وقالت عقب لقائها الشرع في دمشق إن “أوروبا ستدعم سوريا الجديدة لكنها لن تقدم أموالا للهياكل الإسلامية”، مشيرة إلى أن “أوروبا حضت على عدم إقامة حكومة إسلامية عقب إسقاط النظام.
وشددت الوزيرة الألمانية على أن رفع العقوبات عن سوريا سيعتمد على تقدم العملية السياسية وإشراك كل الطوائف.
الرد الروسي لم يتأخر عبر وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الذي قال إن “قائد السلطات الحالية في سوريا أحمد الشرع يتعرض لضغط كبير من الغرب لوقف تعامله مع روسيا”.
براغماتية الشرع
على مدى الأسابيع الثلاثة الماضية، وخلال تصريحات إعلامية ولقاءات رسمية، حاول الشرع إيصال رسائل إلى الدول كافة بأن سوريا مهمة للغاية من الناحية الجيوستراتيجية، وأن الغاية الأساسية التي يسعى إليها هي التنمية الاقتصادية، التي لن تحصل من دون علاقات استراتيجية ومصالح متبادلة مع الدول الأخرى.
“سوريا لديها شخصية مستقلة ولا تخضع للضغوط” بهذه الكلمات حدد الشرع ملامح المرحلة المقبلة فيما يتعلق بالتعامل مع الدول ومصالحها والضغوط التي قد يتعرض لها، مؤكداً على تجنيب سوريا أي عملية تجاذبات سياسية يمكن أن تؤثر على الدول المجاورة.
وشدد الشرع، خلال مقابلته الأولى مع وسيلة إعلامية عربية، أن “سوريا لن تكون ساحة صراع بين روسيا والغرب، ولا تخضع للضغوط ونحن ننظر إلى مصالح شعبنا بالدرجة الأولى ونتعامل مع الدول على هذا الأساس.
أمام هذا المشهد والتصريحات، تدخل سوريا مرحلة جديدة ممتلئة بالتحديات ولعبة توازنات معقدة وحادة تتطلب قدرة على المناورة وإدارة المصالح المتضاربة من قبل الشرع الذي وصفته باربرا ليف مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط، عقب لقائه في دمشق بأنه “براغماتي”.
ويرى الباحث السياسي محمود علوش أن تشكيل علاقة متوازنة مع مختلف القوى الفاعلة في الملف السوري هي من بين التحديات الكبيرة التي تواجه الإدارة الجديدة.
وقال علوش لموقع تلفزيون سوريا إن هناك أولويات للإدارة الجديدة على رأسها إقامة علاقات جيدة مع محيطها العربي والدول الغربية بسبب المزايا التي تحصل عليها وخاصة على المستوى الاقتصادي وإخراج سوريا من دائرة العزلة والعقوبات، وهذه المزايا تتجاوز في أهميتها بالنسبة للإدارة الجديدة أي مزايا يمكن أن تجلبها العلاقة الجيدة مع روسيا على سبيل المثال.
ورغم أن العلاقة مع روسيا لن تجلب مزايا كبيرة لسوريا الجديدة، بحسب علوش، لكن يمكن من خلالها أن تحد الإدارة الجديدة من مخاطر أن يتحول الدور الروسي إلى عقبة محتملة تفسد عملية التحول السياسي والاستقرار الأمني.
واعتبر علوش أن العلاقة مع روسيا لا تزال استراتيجية بالنسبة لسوريا، ما يفرض على الإدارة الجديدة إعادة تشكيل العلاقات من منظور مختلف، وبالتالي فإن العلاقات مع الغرب والمطالب التي يقدمها فيما يتعلق بمستقبل وجود القواعد الروسية سيضغط بشكل كبير على دمشق لإيجاد نوع من الموازنة في علاقاتها مع كل من موسكو والغرب.
إدارة اللعبة
يدير الشرع لعبة توازن دقيقة في إدارته الجديدة، مستهدفا تحقيق الاستقرار بين إرضاء بنيته الداخلية وخاصة القوى المقاتلة الأجنبية والمؤسسات الناشئة، وبين طمأنة دول الإقليم المتوجسة من النفوذ الإسلامي، وبناء علاقات متوازنة مع القوى الدولية الكبرى.
يرى مدير الأبحاث في مركز عمران للدراسات، معن طلاع، أن محددات التعاطي السياسي للإدارة السورية الجديدة تنقسم إلى أربعة محددات رئيسية، أولها يرتبط بالصورة العامة التي تسعى الإدارة إلى تقديمها عن نفسها، من خلال التأكيد على قدرتها على التحول من فاعل ما دون الدولة إلى فاعل دولة منسجم مع محيطه الإقليمي والدولي، مع الحرص على عدم إثارة مخاوف الدول المجاورة.
المحدد الثاني يركز على البعد السياسي والدبلوماسي، حيث تسعى الإدارة الجديدة إلى تقديم سوريا كبلد استقرار وليس ساحة للصراعات بين الدول، انطلاقا من قناعة بأن استقرار سوريا يمثل مفتاحا لاستقرار المنطقة كلها.
والمحدد الثالث، يرتبط بتحديات الإدارة نفسها، إذ اضطرت إلى تبني نموذج إدلب، ليس لأنه النموذج الأمثل أو الأكثر كفاءة، بل لأنه يمثل الخيار الأكثر أمانا في المرحلة الحالية لتحقيق الاستقرار المؤقت.
أما المحدد الرابع فيرتبط بالجانب المجتمعي سواء الشق الخدمي وتحديد الأولويات وتقديم حلول ملموسة لقضايا ملحة مثل ملف الطاقة والأمن الغذائي وتأمين الرواتب، أو فيما يتعلق بالسلم الأهلي والتعامل بحس الدولة مع قضايا حساسة مثل الأقليات.
وبحسب طلاع تواجه الإدارة الجديدة تحديات كبيرة في تحقيق التوازن بين الداخل والخارج، ومن أبرز هذه التحديات كيفية التعامل مع الدول التي تبدي توجسا كبيرا من أي نموذج حركي للإسلام، مثل مصر.
ووفقا لمعطيات طلاع، فإن محاولة إرسال رسائل إيجابية للقاهرة لطمأنة مخاوفها تتعارض مع قرار ترفيع شخصية مطلوبة على قوائم الأمن القومي المصري إلى منصب قيادي برتبة عميد.
لكن في الوقت نفسه، تواجه الإدارة تحديا داخليا يتمثل في كيفية التعامل مع القوى التي قاتلت إلى جانب الشرع وواكبت جميع التحولات، وإيجاد طريقة لإبلاغها بأن دورها قد انتهى دون أن يؤدي ذلك إلى اضطرابات داخلية تهدد استقرار الإدارة الجديدة.
وأشار طلاع إلى إمكانية اتخاذ الشرع استراتيجية سياسة “DDR” حيث يتم استيعاب هذه القوى مؤقتا قبل إخراجها تدريجيا من المشهد، وهو النهج الذي استخدمه سابقا في إدلب (ضد عناصر القاعدة)، لكن يبقى التساؤل عما إذا كانت دول مثل مصر والإمارات والأردن ستفهم هذه الرسائل وتبني عليها للتصالح مع الإدارة الجديدة.
ويرى طلاع أن الدول العربية تعتبر جزءا من معادلة التوازن، فيدرك الشرع أن هذه الدول تعاني من توجس تجاه ما قامت به “تحرير الشام”، حيث يحاول إيصال رسالة واضحة، بشكل مباشر أو غير مباشر، تؤكد على أهمية الدور العربي في تحقيق التوازن مع الدور التركي وخلق مساحة لوجود عربي فاعل يوازي الدور التركي في سوريا.
ويتابع أن “لعبة التوازن هنا تعتمد على قدرة الشرع على إدارة هذه المساحة بما يضمن تعزيز الوجود العربي من دون تعريض التوازنات الإقليمية للخطر”.
من جانبه يرى الدبلوماسي السوري السابق بسام بربندي أن الدول العربية وخاصة الإمارات ومصر والأردن متخوفة من التيار الإسلامي، خاصة إذا كان هذا التيار يحمل طابعا متشددا أو يتبنى فكر تصدير الثورة.
واعتبر أن هذه الدولة مستعدة للتعامل مع سوريا الجديدة واحتضانها ودعمها، بشرط أن تكون القيادة في سوريا تتسم بالاعتدال والانفتاح، وفي الوقت ذاته، تحرص هذه الدول على تحقيق توازن مع تركيا لضمان أن سوريا الجديدة لا تتحول إلى ولاية تركية أو تقع بالكامل ضمن نفوذ أنقرة.
وفيما يتعلق بالتعامل مع دول الاتحاد الأوروبي التي ستلعب دورا مهما في تمويل وإعادة إعمار سوريا، أكد بربندي أن الأوروبيين هدفهم الحقيقي والجوهري في سوريا هو إعادة اللاجئين وبالتالي يحرصون على أن يكون هناك استقرار اجتماعي وسياسي واقتصادي في سوريا.
وتسعى الإدارة السورية الجديدة إلى تحقيق توازن في التعامل مع دول الاتحاد الأوروبي، بحسب طلاع، عبر التركيز على توفير بيئة آمنة تضمن عودة اللاجئين، فالشروط التي وضعها الأوروبيون، خاصة المتعلقة بخروج روسيا من سوريا، تبدو صعبة التنفيذ، لكن من المحتمل أن تواجهها الإدارة بتقديم خطوات ملموسة في ملف اللاجئين وتحقيق الاستقرار الأمني.
ويخلص طلاع إلى أن الشرع يدير لعبة توازن دقيقة للغاية وحادة جدا في ظل أوضاع إقليمية حساسة، حيث يكمن جوهر هذا التوازن الذي يعمل عليه أن كل دول الإقليم تسعى لاستقرار سوريا، ورغم أن بعض هذه الدول، بما فيها الولايات المتحدة، قد لا تفضل استمرار هذه الإدارة الحالية، لكن الأولوية الإقليمية تتركز على إنهاء النزاع وضمان استقرار سوريا بعيدا عن النفوذ الإيراني.
——————————-
بين عامي 1919 و2024.. كيف تتشابه اللحظات والآمال والطموحات/ علي سفر
2025.01.05
ربما تكون الأحداث التي جرت في سوريا عام 1919 مرآة سبقية للوقائع الحالية، إذ يمكن للمقارنات أن تثبت التشابه، بين ما عاشه السوريون آنذاك، من قلق التحولات، والخوف من الأخطار، وما يجري الآن، بعد أن أسقط السوريون نظام الإبادة الأسدي.
ففي كلتا اللحظتين، عاش أبناء البلد تغيرات سياسية كبرى، بين التحرر من سلطة الدولة العثمانية المنهارة، بعد الحرب العالمية الأولى، والانفكاك من سلطة الأسديين، بعد ثورة استمرت 14 سنة، إذ نلاحظ أن حوامل الواقع تتقدم بوجود مشاريع الاستقلال والتحرر الوطني، وكأن ثمة قرنًا كاملًا انقضى، من دون أن يشعر السوريون بمروره، إلا من خلال الكوارث السياسية التي انعكست على حياتهم قهرا وتشردا.
تدخلات إقليمية ودولية شتى، تصارع أصحابها في تلك السنة، للظفر بسوريا كثمرة ناضجة. فظهر في الواجهة التنافس البريطاني والفرنسي، الذي يعرفه الجميع، وجرى تدوين تفاصيل ونتائج مساراته عبر اتفاقية سايكس بيكو.
والآن، تظهر في المشهد قوى مختلفة كروسيا والولايات المتحدة، وقوى إقليمية كإيران وتركيا، وأيضًا قوى أخرى كالسعودية بما تمثله من حالة ركنية للقوى العربية. ولا يجب نسيان إسرائيل كلاعب مؤثر أيضًا!
ورغم أن آمال البلاد بالحرية انتهت في العام 1920 بالوقوع تحت سلطة الاحتلال مجددًا بذريعة الانتداب الفرنسي، إلا أن ذلك لم ينهِ أحلام السوريين، فقد استمرت نضالاتهم بعد ذلك، أكثر من ربع قرن، وانتهت إلى لحظة الاستقلال في العام 1946. فالطموح الوطني لم توقفه سياسات القمع، التي انتهجتها سلطة الانتداب، ومثلت الثورة السورية الكبرى في العام 1925، مثالًا أمميًا، عمّا يمكن للقوى الشعبية أن تفعله في مواجهة القوى الاستعمارية.
وبعد مئة سنة، لا يزال جوهر حلم الاستقلال يجول في الرؤوس، ليل نهار، إذ يسأل السوريون المنتصرون، ضد أعتى الديكتاتوريات عن الفرق بين مستعمر غريب ومستعمر محلي! ولا ننسى أن ثمة من قال، خلال المواجهات مع الأسد المجرم، إن انتدابًا دوليًا قد يكون حلًّا لواقع حال البلاد، التي عادت في كل جوانب العيش فيها، إلى مستويات صفرية، ولا يخلو المشهد الحالي من بعضٍ يطالب بوصاية دولية، بحجة حماية الأقليات!
فكرة الاستقلال لا يمكن أن تنهض، في ظل الفوضى وغياب مؤسسات الدولة. وهنا تتشابه اللحظتان التاريخيتان، في محاولة القوى المسيطرة العمل على إنهاء الفوضى، والبدء بتفعيل مؤسسات الدولة، وإحلال الأمن والمضي نحو الاستقرار.
لكن هذا لا يبدو كافيًا من دون وجود حوامل محلية كالقوى السياسية التي ترى سبل الوصول إلى المستقبل المنشود. وعلى هذا الأساس اجتمعت النخب السورية في المؤتمر السوري العام في تلك السنة، ووضعت دستورًا للمملكة السورية بعد أن أجمع الأعضاء على تنصيب الأمير فيصل ملكًا على البلاد.
والآن، نرى كيف يعمل السوريون على المستوى السياسي، كورشة عملاقة، متعددة المشارب والانتماءات السياسية، وبالاشتراك مع منظمات المجتمع المدني، في سبيل الاجتماع سويًا تحت عنوان المؤتمر الوطني، الذي يمثل الإرادة الشعبية التي تخلصت من الديكتاتورية وتطمح إلى دولة مدنية ديمقراطية. حيث ستؤدي التوافقات المنتظرة فيه – كما يأمل الجميع- إلى تحديد ملامح المرحلة الانتقالية.
ملاحظة واقع حال البلاد المنهارة، على جميع المستويات، وتداعي اقتصادها، وتهالك بنيتها التحتية، يكاد يكون سمة مشتركة بين الزمنين. لكن الفرق يأتي، من أن ثمة تجارب تنموية، اشتغل فيها أبناء البلد حول العالم، أثمرت أفكارًا مهمة، تطفو فوق الرغبة العارمة بالنهوض، وفق نوايا يكتنزها العقل السوري العام. وتظهر هذه الالتماعات في كلام كل من يتحدث عن آفاق الزمن القادم، من رأس الإدارة الحالية أحمد الشرع، وإلى الشباب السوري في الداخل أو المغتربات.
لكن، لماذا نحتاج أن نجري هذه المقاربة بين هذين الزمنين؟ يسأل أحد ما، ولابد أن يكون الجواب مرتبطًا قبل أي شيء، بضرورة أن يؤمن السوريون بقدرتهم، على تجاوز المنعطف الحاد، الذي يمر فيه طريق التحول، من أيام الخراب الأسدي إلى المستقبل المأمول. إذ لا يمكن للفرح بالحرية بذاته أن يكون كافيًا للوصول إلى ما يريده الناس، بل يجب إدراك أن التهديدات مستمرة وتتربص بالآمال.
ولهذا، فإن الأخطاء التي ارتُكبت طوال مئة سنة، يجب أن تَمثلَ أمام النخب السورية، وأمام القيادة الجديدة، على حد سواء، كي لا تتكرر المآسي، وتتحقق التوقعات التشاؤمية التي تقول إن هذه البلاد منذورة للخراب.
تلفزيون سوريا
——————————-
الضابطة الفدائية… أداة نظام الأسد للتنكيل بالفلسطينيين/ عدنان علي
05 يناير 2025
لعل كثيرين لا يعرفون أن الجهاز الأمني الذي كان يلاحق الفلسطينيين في سورية في عهد النظام السابق كان يسمى “الضابطة الفدائية”، وهو يتبع لفرع فلسطين (293) ضمن شعبة الأمن العسكري. كان الهدف من إنشاء “الضابطة الفدائية”، وهي جهاز استخباري عسكري، التغلغل في أوساط الفصائل الفلسطينية الموجودة في سورية والتجسس على قياداتها وملاحقة عناصرها.
مرحلة تأسيس الضابطة الفدائية
مع تأسيس الضابطة الفدائية في نهاية سبعينيات القرن الماضي، كان مقرها في شارع حلب بدمشق ورئيسها العميد أسعد صباغ، ثم جرى نقل المقر مع السجن الملحق به إلى منطقة الروضة، وتحديداً منزل الرئيس السوري الأسبق أمين الحافظ، ورئسها العميد عبد الرحمن قاسمو، الذي تقاعد في بداية الثورة السورية، ليبادر على الفور إلى تغيير كنيته بدائرة النفوس العامة إلى كنية الفارس، يقيناً منه بأن النظام زائل، وسيحاسب كل مجرم عمل معه، وهو منهم.
كانت “الضابطة الفدائية” تضم ثلّة من الضباط وصف الضباط الذين اعتمدوا النزعة الانتقامية من الفلسطينيين، وفق شهادات العديد من الأشخاص ممن تعرضوا للاعتقال والتعذيب على أيديهم، فضلاً عن ابتزاز الفصائل الفلسطينية في دمشق، وإرهاقها بطلب الرشاوى لتمرير أي طلبات تخصها، مثل إلزام الفصائل بترخيص سياراتها وآلياتها بشكل سنوي، والحصول على أذونات خاصة عند مغادرة سورية أو القدوم إليها، وهذه أشياء لا تتم الموافقة عليها إلا بعد دفع رشاوى كبيرة. وكانت أموال الفصائل خزّاناً لا ينضب لهؤلاء الضباط، فضلاً عن الهدايا للضباط والمساعدين والذين كانوا يطلبون الأموال بشكل مباشر وعلناً، وبعضهم طلب شراء بيت له وحصل بالفعل على ما أراد، كما يقول مسؤول في واحد من هذه الفصائل لـ”العربي الجديد”، فضّل عدم الكشف عن اسمه.
واعتباراً من مطلع ثمانينيات القرن الماضي، جرى توقيف آلاف الشبّان الفلسطينيين المنتسبين للفصائل، فتعرضوا للإذلال المتعمد والجلد بكابلات الكهرباء والتفنن بأساليب التعذيب. يقول علي ب.، وهو كادر في أحد الفصائل الفلسطينية، لـ”العربي الجديد”، إنه جرى توقيفه أكثر مرة في سجن الروضة، ثم في سجن الضابطة الفدائية الثاني بمنطقة العدوي، حيث تعرض للتعذيب والضرب بكابلات الكهرباء، وذلك بتهمة وقوف الفصيل الذي ينتمي إليه مع الشرعية الفلسطينية في مواجهة حركة أمل اللبنانية التي هاجمت آنذاك في ثمانينيات القرن الماضي المخيمات الفلسطينية في لبنان. ويشير علي إلى أن المسؤول عن التحقيق الرائد أحمد كوجان كان يتعكز على عصا عند نزوله للقبو تحت الأرض للتحقيق مع المعتقلين وإعطاء الأوامر لمجموعات الجلّادين الذين كان يرأسهم، ومنهم المساعد محمد إبراهيم. ويضيف أن المحقق كوجان كان يعتمد على التعذيب، مستهلاً تحقيقه بسؤال وهمي لا جواب له، أو رواية نكتة تمس الرئيس جاءتهم في تقرير أمني، ليبدأ بعد ذلك جولة التعذيب مباشرة.
روايات التعذيب
من جهته، يروي أحمد الطيب، وهو أحد الذين مرّوا بتجربة الاعتقال في سجن الضابطة، لـ”العربي الجديد”، أنه في إحدى حملات الاعتقال داهموا بيت ربحي سخنيني، الكادر الفلسطيني في مخيم النيرب بحلب، الساعة الثالثة فجراً، واقتادوه مع نظيم فاعور، عضو المجلس الوطني الفلسطيني، وأبو سراج، زوج المناضلة سعاد قدورة، واستقبلهم الرائد أحمد الكردي وعناصر من الضابطة. وسأل الضابط: من منكم ربحي سخنيني؟ وهجم عليه العناصر بالضرب خصوصاً على وجهه بالأحذية حتى أغمي عليه. وهنا صاح في وجههم نظيم فاعور: كفى إجراماً والله العدو لا يفعل ما تفعلونه.
دمار وفقر في مخيم اليرموك. 14 ديسمبر 2024 (آريس ميسينيس/فرانس برس)
ويقول السجين السابق أحمد عامر لـ”العربي الجديد”: “كنا في معتقل الضابطة بالعدوي نحو 200 كادر من كل الفصائل، في (قاووش) عبارة عن غرفتين مفتوحتين بعضهما على بعض، ومن يقف على قدميه يفقد مكانه، كانت الفصائل ترسل لنا حلوى وألبسة يسرقها السجانون ولا يصلنا منها شيء”. كما يروي السجين الفلسطيني السابق ناصر نجم، من مخيم اليرموك، لـ”العربي الجديد”، تجربة اعتقاله في سجن الضابطة الفدائية، ويقول: “بعد حوالي يومين أو ثلاثة على ما أعتقد، حيث لم نكن نعرف الليل من النهار، أيقظوني من النوم وأخذوني إلى النقيب محسن. كان هو والسجان رضا في غرفة التحقيق. طلب مني خلع ملابسي، وبقيت باللباس الداخلي ووجهي للحائط. ودون أن يسألني أي سؤال طلب من السجان رضا: جهزوا واعملوا دوش مرتب لهالحيوان…”.
ويضيف: “بعدها مباشرة بدأ رضا يضربني بكابل الكهرباء على ظهري ورجلي لأكثر من ربع ساعة وأنا وجهي للحائط، ورغم ذلك بقيت متماسكاً، إلى أن أمسك رأسي من شعري وضرب وجهي بالحائط ثلاث مرات، فبدأ الدم ينزل من أنفي وفمي، بعدها ضربني بشيء ما على رأسي من الخلف، فوقعت على الأرض وأغمي علي. أيقظني بسكب الماء عليّ، لأجد النقيب محسن خلف الطاولة ورضا يضع قدمه على صدري ودمي يسيح على الأرض. طلب المحقق مني مسح الدم عن الأرض بكنزتي، وسمحوا لي بالجلوس وظهري للحائط بينما بقي رضا يضغط بقدمه على صدري، ثم بدأ التحقيق معي بسؤالي عن سفري إلى قبرص واليونان، وماذا فعلت هناك وكيف ذهبت وكم مكثت وكم مرة سافرت، وهل كان معي أحد، وقال إنه يعرف كل شيء وأن يوسف الدرباس الذي كان معتقلاً معي والذي كان معي برحلة قبرص أخبره بكل شيء. وأنا بدوري رويت له كل شيء عن الرحلة، وقلت له إننا كل مرة نقعد شهرين أنا ومجموعة من أربعة شبان من ضمنهم يوسف درباس بجوازات سفر يمنية ونذهب إلى مدينة ليماسول، ومرة سافرت إلى اليونان لمدة أسبوع، وكانت مهمتنا فقط زيادة تأمين وحراسة مقرات منظمة التحرير الفلسطينية على أثر الانشقاق عن حركة فتح الذي قام به أبو موسى وأبو خالد العملة (1983)، وبسبب التهديدات المحتملة في وقتها من مجموعة “فتح الثورة” التابعة لصبري البنا (أبو نضال)، حيث ضاعفت وقتها حركة فتح الحراسة على كل مكاتب منظمة التحرير في الدول الأوروبية”. ويتابع: “طبعاً كل تأخير بالإجابة مني أو إذا نسيت شيئاً ما يبادر رضا إلى ضربي بالكابل وبحذائه العسكري”.
ويقول إنه “خلال المدة التي اعتقلت فيها بفرع الضابطة الفدائية، خضعت لحوالي 15 جلسة تحقيق وتعذيب منها ست جلسات تعذيب عن السفر لقبرص واليونان. لكن جولات التعذيب الأقسى كانت عن موضوع أفراد المجموعة التي انشقت عن اللواء 85 في الجيش السوري خلال حصار بيروت من جانب إسرائيل عام 1982، وغادر أفرادها بيروت معنا على متن السفينة إلى تونس”. ويضيف: “أبلغت المحقق بأنني رأيتهم مرة واحدة فقط في مطعم السفينة وقت الخروج من بيروت، وكان عددهم حوالي 20 عنصراً، ومعهم ضابط برتبة رائد، وربما مكثوا في تونس في أحد المعسكرات التابعة للجيش التونسي. لكن المحقق لم يصدق كلامي، وتعرضت لتعذيب شديد على (بساط الريح)، حيث يربط المعتقل على قطعة من الخشب، فيبدو كأنه يحلّق وتنهال عليه أساليب التعذيب المختلفة”.
كان سجن الضابطة الفدائية يكتظ بالمعتقلين في بعض الفترات تزامناً مع سخونة الأحداث على الساحة الفلسطينية ويعجز عن استيعاب جميع الموقوفين، فيتم إرسال الفائض إلى سجن صيدنايا أو سجن المزة أو توزيعهم على بقية الفروع الأمنية، بمن فيهم قادة من حركة فتح جرى خطفهم من لبنان، مثل توفيق الطيراوي وغيره. وبعد العام 2000، جرى دمج الضابطة الفدائية مع فرع فلسطين. وتتبّع بعض الضحايا مصير بعض هؤلاء السجانين، ومنهم أحمد كوجان الذي سبق ذكره، وجرى تسريحه برتبة عقيد، وحاول العمل في مجال المحاماة باعتباره درس الحقوق، لكن لم ينجح بذلك، ثم توفي بعد فترة. ومن بين من عُرف مصيرهم من ضباط وعناصر النظام ممن خدموا في الضابطة الفدائية، المساعد محمد أبو سرية، الذي جرت تصفيته في مخيم اليرموك على أيدي أهالي قريته جاسم في محافظة درعا بعد اندلاع الثورة السورية. ومات العقيد عمر درويش ودفن في بلدته الباب بريف حلب، فيما انتحر المقدم نادر زنبق في دمشق.
العربي الجديد
——————————-
الصراع الإسلامي العلماني… هل السوريون استثناء؟/ صلاح الدين الجورشي
05 يناير 2025
يلفّ الغموض المشهد السوري، بالرغم من الخطوات المهمّة التي قُطِعت في تحديد معالم الطريق نحو المستقبل، فالخطة الدبلوماسية التي وضعها أحمد الشرع نجحت في إشاعة انطباع إيجابي حوله، وجعل كثيرين في سورية وخارجها يعتقدون أن ما يحصل ليس مُجرَّد مسرحية بإخراج أميركي وإسرائيلي كما يروج بعضهم، وإنّما في الأمر رغبة حقيقية في إعادة بناء دولة وفق منظور لا يتعارض مع مصالح أطرافٍ كثيرة معنية بمنطقة الشرق الأوسط.
لا أحدَ قادرٌ على الجزم بأن هذا السيناريو الواعد سيستمر من دون مفاجآت غير سارّة، فالألغام تحت الأرض كثيرة ومتنوعة، وانفجارها وارد في كلّ لحظة. منها تلك التي يسبّبها أصحاب النيات الحسنة، وينسون هشاشة الأرض التي يقفون عليها. أقول ذلك بناء على تجربة تونس (يزعم صاحب هذه السطور إنه ملمّ بها)، فالصراع الذي دار ولا يزال بين الإسلاميين والعلمانيين ساهم بنسبة عالية في إفشال الانتقال الديمقراطي، وأوصل البلاد إلى المأزق الراهن. ليس الخلاف بين الطرفين مفتعلاً في المطلق، والتباين بينهما يستند، في أحيان كثيرة، على قضايا جوهرية تتعلّق برؤيتهم إلى الحياة وللمجتمع وللدين وللدولة وللحريات وللحقوق. لهذا، لا مفرّ من حصول التعارض بينهما، ولعلّ ذلك من الشروط الملازمة للحياة الثقافية والسياسية في المجتمعات العربية والإسلامية. لكن المعضلة (تتكرّر في الغالب) تكمن في الكيفية التي يُدار بها الصراع بينهما، فالسمة الغالبة على هذا الصراع تتمثّل في النزوع نحو التنافي ومحاولة شطب الآخر والقضاء عليه باعتباره ” كائناً شرّيراً” و”خطراً داهماً” يجب التصدّي له بالوسائل المشروعة (وغير المشروعة) كلّها. كما تتغلّب اللغة الحربية المتبادلة بينهما من خلال التخوين أو التكفير، وتوحي العلاقة بأن الحرب الأهلية، معلنة أو صامتة، هي السيناريو المفضّل لديهما في معظم التجارب والحالات. وغالباً ما انتهى هذا الصراع إلى استعانة أحد الطرفَين (خاصّة العلمانيين أو جزءاً منهم) بسلطة قوية ومستبدّة من أجل محاصرة الخصوم وقمعهم.
من الأخطاء المنهجية التي يرتكبها المتخاصمون أن يعتقد كلاهما بامتلاك الحقيقة، والحكم على الآخرين بالجهل واللاوطنية، واتهامهم بشقّ الصفوف وتهديد وحدة الأمة، فالإسلاميون يرون في العلمانيين كائناتٍ غريبةً مهدّدةً للدين والأخلاق، في حين يرى الآخرون في الإسلاميين قوةً ظلاميةً زاحفةً ومعاديةً للحضارة والنور. أمّا الخطأ الثاني القاتل فهو التعميم، فالإسلاميون تيّارات واتجاهات شتى، وكذلك العلمانيون، الذين تشقّهم تناقضات بعضها شكلي وبعضها الآخر جذري. والخطأ الثالث أن كلّ طرف يعتقد أن خصمه ثابت لا يتطوّر ولا يتغيّر في أقواله ومواقفه حتى النهاية، رغم أن التاريخ يثبت خلاف ذلك في حالات كثيرة.
ما يُخشى في سورية أن ينفجر هذا الصراع في هذا التوقيت الحاسم. هناك محاولات لاستغلال التحوّلات الجارية لإثارة بعض المسائل الجزئية أو التي تحتاج إلى وقت، من أجل جرّ الأغلبية نحو الانقسام والاشتباك المبكّر. لكنّ فرحة السوريين بالتخلّص من حكم الأسد، وانشغالهم بالبحث عن عشرات الآلاف ممّن قضوا في سجون النظام السابق، والتهديد الإسرائيلي، عوامل حالت دون اندفاعهم نحو المعركة الأيديولوجية. ولعلّ مرونة القيادة وحرصها على عدم الانجرار وراء من يحاولون الدفع بها نحو القضايا الشائكة من قبل صحافيين ومعارضين وأنصار النظام السابق، حال دون اندلاع الحريق.
لا يعني ذلك أن مسائل الحرّيات الفردية ودور النساء في قيادة الدولة والمجتمع، وفصل الدين عن الدولة، وغيرها من قضايا طرحها بعضهم، ليست أساسية، هي قضايا ستفرض نفسها مع انطلاق “الحوار الوطني”، والشروع في صياغة الدستور الجديد. وهو ما من شأنه أن يولّد ديناميكية في المجتمع السوري، وقد يوفّر له فرصةً للقيام بنقلة جماعية بعيداً من القطيعة والتمزّق العضوي. المهم أن يتحصّن السوريون بالشجاعة والصبر والحكمة، وأن يتصدّوا لمختلف التحدّيات السياسية والثقافية والاجتماعية، بعيداً من العنف والغلبة والتعصّب والطائفية. إن فعلوا ذلك فسينجحون في نحت نموذجهم في بناء تجربتهم الخاصّة.
العربي الجديد
————————
في تفنيد المخاوف من “تحرير” سوق الصرف بسوريا/ إياد الجعفري
الأحد 2025/01/05
فيما تنشغل النخب السياسية والإعلامية السورية، وجانب كبير من عموم السوريين، بالجدل حول شكل الدولة الجديد، ومؤتمر الحوار الوطني المزمع عقده قريباً، لتحديد “جنس” الحُقبة المقبلة، المُقبلين عليها، ينشغل جانب آخر من السوريين، بتذوق صنف “حرية” غير مألوف بالنسبة للغالبية منهم، إلى جانب أصناف أخرى من “الحرية” التي أظهروا مقدار تعطشهم إليها، في الأسابيع التي أعقبت سقوط نظام الأسد.
إنها “حرية” تداول وتصريف العملات الأجنبية. التي تمثّلت بظاهرة غير مألوفة سابقاً في قلب دمشق. “بسطات” تصريف العملات. هذا الصنف من “الحرية”، الذي كان مجرّماً في عهد حكم الرئيس المخلوع، حظي بترحيب بعض السوريين، وتخوّف آخرين. وعلى المنوال نفسه، انقسم المتخصصون، بين مُنظّر لحرية السوق، ومن بين مفرداتها، حرية تداول العملات وتصريفها، وبين مرتابٍ حيال نتائجها في بلدٍ كان أشبه بالسجن، حتى بالمعايير الاقتصادية للكلمة. والانفتاح المباشر، له كلفته، وتداعياته، التي يخشى هذا الفريق من المتخصصين أن تنعكس فوضى يصعب ضبطها، وانهياراً أكبر في معيشة الفئات الهشة في المجتمع، قياساً على تجارب بلدان أخرى في الانتقال السريع من نماذج الاقتصاد المغلق المُدار حكومياً، إلى نموذج الاقتصاد الحر.
الانعكاسات الأولية لـ”تحرير” سوق الصرف، كانت إيجابية على سعر صرف الليرة السورية، التي ارتفعت، قياساً بسعر صرفها قبل انطلاق عملية “ردع العدوان” في 27 تشرين الثاني/نوفمبر الفائت، والتي أدت إلى انهيار نظام الأسد. إذ تحسّن سعر صرف الليرة السورية بنسبة 11%، خلال هذه الفترة. وختمت الليرة العام 2024، بارتفاع 9% في حصيلة التعاملات السنوية، مقارنة بآخر سعر لها قبل عام. وهو أول تحسّن سنوي لليرة منذ نهاية العام 2017. مع الإشارة إلى أن الحصيلة السنوية لسعر صرف الليرة، كانت باتجاه الهبوط على مدار الأعوام، من 2011 وحتى 2023. باستثناء العام 2017، الذي شهد تقدماً ميدانياً كبيراً لنظام الأسد بدعم روسي- إيراني، ضد المعارضة المسلحة المناوئة له، حينها. وهكذا يسجل العام 2024، سابقة هي الثانية، خلال 13 عاماً، على صعيد تحسّن الليرة على أساس سنوي.
لكن فريقاً من المتخصصين، كما أشرنا، يتخوف من تداعيات هذا “التحرير” لسوق الصرف. أحد مصادر تخوفاتهم هو حالة التذبذب في سعر الصرف، والتي تُوصف عادةً بأنها مضرّة للغاية بالاقتصاد. لكن في الأسبوع الأخير تحديداً، انحصر هامش التذبذب، ليصبح ما دون الـ10% من سعر الصرف. وهو باتجاه المزيد من الانحسار، كما تظهر الأيام الأخيرة من التعاملات. ويبدو أن هذا التذبذب يتحرك نحو الاستقرار عند سعر توازني للصرف، ما بين 13000 و13500 ليرة. وفي حال بقي التذبذب ضمن هوامش محدودة للغاية، فإن آثاره السلبية ستتضاءل.
أما مصدر التخوّف الثاني، فهو الفوضى، التي بدأت تظهر تداعياتها جلياً الآن في أسواق العملة، مع شيوع الأنباء عن انتشار الدولارات المزوّرة. وحل هذه الإشكالية متاح بسهولة عبر تنظيم مهنة الصرافة، وإخضاعها لضوابط الرقابة، لا بهدف السيطرة عليها لصالح فئات متنفّذة محسوبة على السلطة الحاكمة، كما كان قائماً في عهد النظام المخلوع، بل بهدف منع الغش والاحتيال. ويمكن تفهّم الحالة الفوضوية الراهنة، بوصفها مؤقتة، على أن يتم تداركها في أقرب وقت متاح، من جانب السلطات القائمة.
لكن أبرز التخوّفات على المدى الزمني الأبعد، ترتبط بالخشية من “المضاربات” على سعر صرف الليرة السورية. ومع انحسار دور “الدولة”، إثر الانهيار المفاجئ لنظام الأسد، يعتقد فريق من المتخصصين أن تجار العملة داخل وخارج البلاد، قد يتمكنون من لعب أدوار مضرّة للغاية، على هذا الصعيد. لكن هذه الإشكالية ترتبط أساساً بالاحتكار، وانعدام المنافسة. إذ مع وجود أجواء تنافسية مقبولة، تبقى الكلمة لمعادلات السوق -العرض والطلب- والتي تحدد السعر التوازني لصرف العملة، وفق محدداتها.
وفي سياق متصل، يخشى فريق من المتخصصين من أن قواعد العرض والطلب على الليرة، والتعامل معها كسلعة، قد لا يمثّل انعكاساً حقيقياً لتحسّن اقتصادي، بل وقد ينعكس سلباً على القوة الشرائية الحقيقية لليرة. وهم محقون بهذا التخوّف على المدى القريب. لكن على مدى زمني أبعد، فإن قواعد العرض والطلب في أجواء سليمة –غير مشوهة بالاحتكار أو انخفاض التنافسية- تبقى تعبيراً عن الاتجاه العام للاقتصاد. وموقف قطاع الأعمال منه. ويمكن الاستناد إلى تقرير نشرته صحيفة “الاقتصادية” السعودية، لاستخلاص مؤشر يمكن البناء عليه، بهذا الصدد. ووفقاً للصحيفة، فإن مستثمرين سعوديين يتوجهون لأسواق الأردن وتركيا، لشراء الليرة السورية، في رهانٍ على انتعاش اقتصادي ستشهده سوريا في المدى الزمني القريب، مع استئناف حركة التجارة الدولية وتوقعات بتدفق الاستثمارات الخارجية. وهو المؤشر الذي سيشكّل ركيزة حركة العرض والطلب على الليرة السورية، في مقبل الأيام.
فإن نجحت الإدارة السياسية الحاكمة في دمشق اليوم، في تجاوز الاستحقاقات المترتبة عليها، في الفترة المقبلة، بنجاح، فإن الليرة ستبقى باتجاه التحسّن. ولن تهددها “حرية” سوق الصرف، بل عل العكس، ستدعمها. أولى تلك الاستحقاقات وأكثرها أولوية، هو تثبيت الاستقرار الأمني، وتعميمه. ومن ثم، إدارة عملية سياسية تؤسس لحكم تشاركي، يوفّر أرضية صلبة للسلطة في الداخل، ويقنع الخارج، بصورة تتيح رفع العقوبات وإعادة ربط الاقتصاد السوري بالعالم الخارجي من جديد، من دون قيود، وتدفق الاستثمارات الخارجية، وبدء حركة إعادة الإعمار. إن تحقق ما سبق، فإن “حرية” سوق الصرف، ستبقى بمذاق حلوٍ في أفواه السوريين. وإلا، فإن المشهد سيذهب في الاتجاه المعاكس، كُليةً. فالمشكلة لن تكون في هذا الصنف الجديد من “الحرية”، بل في البيئة السياسية والأمنية التي سيعمل في ظلها.
المدن
——————–
والنقابات السورية أيضاً بحاجة إلى ثورة.. نقابة الفنانين مثالاً/ علي سفر
الأحد 2025/01/05
لم يتردد الممثل السوري المعارض والسجين السابق عبد الحكيم قطيفان، في الظهور عبر فيديو نشره عبر موقع فيس بوك، لينفي الأخبار التي سرت بين جمهور السوريين، عن تعيينه نقيباً للفنانين! ولعل أهم ما جاء في كلامه، هي إشارته إلى أن المناصب في النقابات، لا تأتي بالتعيين، بل عبر الانتخاب وحده.
هذه الواقعة، ورغم عبورها السريع، في فضاء بات متخماً بالأخبار المفبركة، طالما أن الواقع ذاته يعيش نوعاً من الفوضى الإعلامية، تؤشر إلى اعتقاد تكرّس تاريخياً في عقول السوريين، مضمونه يقول: إن كل شيء في البلاد بيد النظام، وهو صاحب الأمر والنهي، وأن الأشخاص الذين يصلون إلى المناصب القيادية في النقابات، تؤخذ القرارات حولهم في مكاتب القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي، وعلى وجه الدقة مكتب المنظمات الشعبية. وفعلياً لم يكن من الممكن أبداً على أي فنان سوري أن يصل إلى موقع نقيب الفنانين من دون الاستئناس الحزبي، والجميع يذكر هنا، كيف استعصى المنصب على فنانين آخرين، يحوزون شعبية كبيرة في أوساط الفنانين المنتسبين للنقابة، مثل بسام كوسا وفادي صبيح، ليصل إليه ببساطة النقيب السابق الراحل زهير رمضان، وليتولى المنصب بعده الفنان محسن غازي، الذي عُوقب في السنة الماضية من قبل القيادة المركزية للحزب، فتم تخفيض مستوى عضويته العاملة لمدة عام، بوصفه أحد أعضاء كتلة الحزب في مجلس الشعب، ممن “لم يستطيعوا رفع مستوى وعيهم العقائدي، التنظيمي، والسياسي”!
وبعد ذلك بأسبوعين، أطلقت مخابرات الأسد شائعة تقول بفصله من منصب النقيب، ثم جرى الإعلان عن منعه حزبياً، من الترشح مجدداً لعضوية مجلس الشعب.
حالة محسن غازي، هي كناية عن استخدام النظام البائد للنقابات وللأشخاص، في آن معاً، من أجل تكريس هيمنته، وجعل مسألة التعيين والإقصاء مسألة حزبية تخص البعث وحده، ولا تخص أصحاب الشأن من النقابيين.
مراجعة تاريخ العلاقة بين الحزب، ومن خلفه النظام الأسدي، والنقابات العلمية والمهنية، يوضح أن أمور السيطرة عليها لم تكن يسيرة، بل إنها خضعت لجولات من المماحكات، منذ وصول البعث إلى السلطة، لكنها حسمت على عدة مراحل، بين عقدي الستينيات والسبعينات، وبحسب الباحث جورج بيرة فإن المؤتمر السادس عشر لاتحاد نقابات العمال والذي عقد في عام 1968 كان “الذروة التي تم بعدها قفل هذا الاتحاد بشكل نهائي لصالح مؤيدي السلطة السياسية” حيث تغير خلال السنوات التي سبقته مفهوم النقابية، من خلال منع حق الإضراب، وتوصيف الدولة نفسها “بصفتها ممثلة لمصالح العمال والطبقة العاملة حيث لم يعد للنقابة حق معارضتها. وأصبح دور النقابة الجديد هو في عملية الإسهام في تنمية الإنتاج وبناء مجتمع جديد “يحقق أمنيات الشعب العربي في الوحدة والحرية والاشتراكية”(1).
ورغم أن بداية عهد حافظ الأسد، اتسمت بنوع من الانفتاح بين الحاكم الجديد والمؤسسات النقابية، إلا أن محاولات السيطرة على المجتمع السوري كله، أوصلت الطرفين إلى تناقض هائل بينهما، حسمه النظام وفق أسلوبه الخاص. وبحسب المهندس جهاد المسوتي، فإن الوضع السياسي والأمني في سوريا، تطور في نيسان 1980 “حتى وصل إلى نقطة لجأ فيها النظام إلى حل النقابات وفرض حالة الأحكام العرفية عليها مباشرة، ومن ثم اعتقل عدداً من ناشطيها من نقابتَي المحامين والمهندسين، الأمر الذي شلّ النقابات نهائياً وأبعدها عن ساحة الصراع إلى أن أعادها مكبلة بقوانين جديدة في منتصف عام 1981: القانون رقم 26 تاريخ 13/7/1981 لتنظيم مهنة الهندسة، والقانون رقم 39 تاريخ 21/8/1981 لتنظيم مهنة المحاماة، والقانون رقم 31 تاريخ 16/8/1981 لتنظيم مهنة الطب البشري إلى آخر السلسلة من قوانين النقابات المهنية التي تتطابق فيما يخصّ تشكيل النقابة وأجهزتها”(2).
ما طُبق على النقابات العلمية، ونقابة المحامين، فُرض على نقابة الفنانين، وعلى اتحاد الكتّاب العرب، إذ لم تنج أي منظمة مجتمع مدني من سيطرة الأسديين، ومع الوقت صار النقابيون مجرد تابعين يؤمرون فينفذون، ولا يعترضون، وعممت صورتهم الهزيلة لدى الجمهور، وبات من الصعب إقناع السوريين بأن نقباء النقابات ينتخبون ولا يعينون!
الآن، وبعد سقوط النظام، يمكن تلمس حاجة النقابات إلى إعادة هيكلة كاملة، تؤدي إلى فصلها بشكل كامل عن السلطة، وبناء علاقة صحيحة بينها وبين مؤسسات الدولة، فهي جزء من الحراك المجتمعي، الذي يفترض به أن يحافظ على الحياة الديموقراطية، لا أن يلتحق بالحكومات أو الأحزاب، ولا بد أن تصبح قيادة النقابات موضوعاً انتخابياً يتنافس حوله وفيه الأعضاء، وبناء على الحيثيات المهمة نقابياً، وليس سياسياً او أيديولوجياً!
كما أن خطورة التحاق نقابة الفنانين، وكذلك اتحاد الكتاب العرب بالسلطة، تأتي من استخدامها لهما للقيام بأدوار رقابية على النتاجات الفنية والمؤلفات الأدبية والفكرية! غير أن السؤال الذي يُلح حالياً يتعلق بنزعة البعض في هاتين المؤسستين للالتحاق بالسلطة الجديدة في سوريا، وتطوعهم لتقديم أنفسهم كمطية لها!
بينما يفترض بالأعضاء استغلال لحظة الحرية هذه، لإعلان العودة إلى الغايات الرئيسة التي تقوم عليها مؤسساتهم، أي الدفاع عن حرية الفنانين والكتاب، والنيابة عنهم كأفراد في مواجهة آليات الاستغلال.
حتى اللحظة، لم تصدر عن نقابة الفنانين خطوات توحي بأن مكتبها التنفيذي يتجه نحو خطوات جذرية تصلح من حالها، بل إنه اكتفى بإعادة الأعضاء الذين تم فصلهم خلال سنوات الثورة لأسباب سياسية.
وعلى جانب آخر، يحاول اتحاد الكتاب إزالة وصمة العار التي لحقت به حين تحول إلى منبر للمحتلين الإيرانيين، فكان أسرع “الجهات المكوعة”، (انظر في المدن مقالة : اتحاد كتّاب الأسد ينال جائزة أسرع بيان استدارة!) ويبدو أن رئاسة الاتحاد حائرة لا تعرف ما الذي عليها أن تفعله، طالما أنها لا ترى نفسها خارج علاقة التبعية مع السلطة الحاكمة.
معالجة وضع النقابات السورية خطوة يجب أن تبدأ من داخلها، لا أن تُملى عليها من الأعلى، وهنا لا بد من الانتباه إلى سهولة الانقياد، وإعادة أخطاء الماضي، إن لم يبادر النقابيون إلى الثورة على أوضاعهم المكرسة.
هوامش
1- انظر بحث “المجتمع المدني السوري في مواجهة النظام” تاريخ من المواجهة، علي سفر، مجلة قلمون، العدد 24، تموز/ يوليو 2023، ص112
2- نفسه، ص 113.
——————————-
وثيقة سوريّة جامعة بحبر “مسيحيّ”/ أسعد قطّان
الأحد 2025/01/05
من سوريا الغضب إلى سوريا المصير والعيش الواحد:
“إنّنا لا ننتظر من سوريا المستقبل أن تعاملنا كأقلّيّات مستضعفة تحتاج إلى العطف والتكرّم عليها بحرّيّة ممارسة العبادات والطقوس الدينيّة (…)، ومن دون التعرّض للإهانة أو التهديد أو التحقير أو الترهيب. ليس غير المسلمين في البلد بمجتمعات موازية ولا بجاليات طارئة على البلد ولا بأهل ذمّة. ونحن لسنا أقلّيّةً بالمعنى الوطنيّ والإنسانيّ والمجتمعيّ والثقافيّ، وإن كنّا الأقلّ عدداً وتوزّعاً ديمغرافيّاً. إنّنا نسعى إلى وضع يدنا في يد أهل بلدنا، كما فعلنا طوال القرون الماضية بلا كلل ولا وهن، كي نبني معاً دولةً سوريّةً نكون فيها جميعنا، ومن كلّ أطياف سوريا وشرائحها وخلفيّاتها وثقافاتها وجماعاتها، مواطنين مدنيّين متساوين توحّدنا الحقوق والواجبات، يوحّدنا المصير والقرار، يوحّدنا الوطن والانتماء”.
هذا الكلام مستمدّ من وثيقة بعنوان “من سوريا الغضب إلى سوريا المصير والعيش الواحد” أطلقها، يوم الخميس الماضي الواقع فيه الثاني من كانون الثاني/يناير 2025، عدد من الناشطين والمفكّرين السوريّين المسيحيّين يسمّون حلقتهم “مجموعة سوريا الحرّة” (راجع “المدن”). وهم يعرّفون عن هذه المجموعة بوصفها لقاءً مسيحيّاً مدنيّ التوجّه في خياراته الفكريّة والمجتمعيّة يسعى إلى المساهمة في “خلق وعي من أجل تشكيل سوريا المستقبل”. وينتمي إلى هذه المجموعة سوريّون وسوريّات من الداخل السوريّ والمهاجر.
يستهلّ مؤلّفو هذه الوثيقة، التي تقع في حوالى صفحتين ونصف من الحجم المتوسّط، نصّهم بالتعبير عن فرحهم بسقوط النظام الاستبداديّ، “الذي نكّل بمواطني سوريا جميعاً”، متطلّعين إلى صفحة جديدة من تاريخ سوريا، صفحة “حرّيّة وسلام وإخاء وتعاضد وبناء وقيامة”، ومعتبرين أنّ “المأساة المدمرّة للإنسانيّة التي عانت منها سوريا” حريّ بها أن تجمع أهلها كافّةً وأن تُوحّدهم.
ينطلق كتّاب الوثيقة من كونهم مسيحيّين من حيث الانتماء الدينيّ، ويشدّدون على المساهمة التي اضطلع بها المسيحيّون في صنع حضارات بلاد الشام العريقة، ولا سيّما الحضارة العربيّة الإسلاميّة والنهضة العربيّة إبّان العصور الحديثة: “وقد قمنا بهذا الدور الحضاريّ من دون أن نتصرّف كمن يندمج في هذا التاريخ الحضاريّ المتنوّع أو ينضوي تحت لوائه وكأنّنا من خارجه، أو كأنّنا جماعات موازية ومنغلقة على ذاتها. نحن انتمينا وساهمنا كمن يفتخرون بانتسابهم إلى الحضارة الشاميّة وبعلاقتنا التاريخية بأهمّ مكوّناتها الثقافيّة في تاريخ بلادنا المعاصر: إسلام الشام الثقافيّ والمجتمعيّ والفكريّ”. ومن ثمّ، هم يؤكّدون أنّهم لا يعيشون رهاباً من أن ينتسبوا “إلى دولة معاصرة ذات هويّة تنهل أوّلاً من الحضارة والثقافة المسلمة، أو أن يُسيّر شؤون الدولة ويُحوكِمها جهاز إدارة قد ينتمي أفراده بغالبيّتهم إلى الهويّة المسلمة، شريطة ألّا يتمّ هذا على قاعدة الهيمنة والسلب والوصاية والاحتكار في القرار والمسؤوليّة والدور”.
على قدر ما يشدّد كتّاب الوثيقة على أنّ انتماءهم إلى المسيحيّة لا يتعارض مع هويّة شاميّة جامعة تضمّ مواطني سوريا ومواطناتها جميعاً، ولا سيّما المسلمين، إلى بوتقة هويّاتيّة واحدة، هم يثمّنون أيضاً مدنيّة خياراتهم في السياسة والاجتماع، داعين شركاءهم وشريكاتهم في المواطنة إلى تخطّي “مرحلة الغضب والخوف والارتباك” صوب مرحلة “يتمّ فيها تحقيق العدالة الانتقاليّة والمحاسبة القانونيّة وبناء شبكات التشارك الأهليّ والمدنيّ”، على أن يعقبها بناء الدولة وإعادة تشكيل الفضاء المجتمعيّ.
يرى واضعو الوثيقة أنّ عمليّة إعادة التشكيل هذه ينبغي أن تستند إلى منطلقات ستّة: أوّلاً، سوريا تفتخر بهويّة حضاريّة عابرة للأديان والطوائف والأعراق واللغات، تشكّل الثقافة الإسلاميّة عمادها وعمودها الفقريّ؛ ثانياً، سوريا مدنيّة ذات دستور جامع على قاعدة المواطنة المتساوية والمتكافئة واحترام حقوق الإنسان وقيم الحضارة المدنيّة الشاميّة التاريخيّة؛ ثالثاً، سوريا جمهوريّة تعدّديّة تحترم الحرّيّات والحقوق العامّة، وتحمي المواطنين وتحاسبهم على ممارساتهم في المجتمع بالاستناد إلى الدستور والقانون؛ رابعاً، سوريا جمهوريّة قاعدة العمل الأهليّ فيها ديمقراطيّة الأكثريّة الاقتراعيّة والمشاركة البرلمانيّة، لا منطق الغالبيّة العدديّة الديمغرافيّة، أو الغالبيّة الدينيّة، أو الغالبيّة الثقافيّة اللغويّة، أو الغالبيّة العرقيّة والقوميّة، أو الغالبيّة الإيديولوجيّة؛ خامساً، سوريا تقوم على فكرة المؤسّسات، لا على ذهنيّة “القائد الملهَم أو الملهِم”، وعلى العمل البرلمانيّ التشريعيّ والمحاسبيّ والرقابيّ، لا على فكرة “مجلس الشعب” التمثيليّة الشكليّة؛ سادساً، سوريا ذات مجتمع معاييره الأخلاقيّة لا تحدّدها درجة التديّن، ومعاييره السلوكيّة لا تقرّرها قواعد اللباس والمظهر والتصرّفات الفرديّة، ومعايير الدور فيه لا تتحكّم فيها الماهيّة الجنسيّة والجندريّة، بل الخضوع للقانون والقانون فقط.
تكمن أهمّيّة الوثيقة التي نحن في صددها، أوّلاً، في توجّهها إلى السوريّين والسوريّات جميعاً، وخصوصاً المسلمين، بلغة تشدّد على التاريخ المشترك والهويّة المشتركة والمصالح المشتركة من خارج منطق الغالبيّة والأقلّيّة. وتقوم هذه الأهمّيّة، ثانياً، على كون الوثيقة تشكّل ضرباً من خيار مسيحيّ آخر، إذ ترفض متلازمة الخوف التي كثيراً ما أُلصقت بالمسيحيّين، أو ألصقوا أنفسهم بها، مشدّدةً على انخراط كُثُر منهم في الحراك الثوريّ، وتفكّك عقدة الجماعة التي تستجدي السلطة كي تحمي ذاتها، وذلك بصرف النظر عن مدى اعتصام هذه السلطة بمنطق الدولة. ومن ثمّ، يدعو كتّاب الوثيقة أفراد الشعب السوريّ إلى قراءة طروحاتهم بتمعّن، والتعاطي معها عبر حوار نقديّ جريء وبنّاء، على أمل أن تغدو جزءاً من العمليّة التفكيريّة التي يجب أن تتأسّس عليها سوريا الجديدة.
المدن
—————————–
ناشطون مسيحيون: من سوريا الغضب إلى سوريا العيش الواحد
الأحد 2025/01/05
أصدرت مجموعة من الناشطين المسيحيين والناشطات المسيحيات، وثيقة تتعلق بمستقبل سوريا ودور المكونات فيها بعد هروب بشار الأسد، هذا نصها:
نحن المواطنين والمواطنات المسيحيين والمسيحيات في بلدنا وأرضنا الأمّ سوريا، نعبّر عن سرورنا العميق، الذي نتشارك فيه مع إخوتنا السوريّين وأخواتنا السوريّات من أطياف بلدنا الحبيب وشرائحه وفئاته وخلفيّاته وأديانه وطوائفه وثقافاته وأعراقه كافّة، وعن فرحنا بتحرّر سوريا وأبنائها وبناتها من نظام الاستبداد الذي نكّل بمواطني سوريا جميعاً. نحن قد احتفلنا واغتبطنا مع سائر أهلنا في الوطن بخلاص سوريا من هذا الماضي الأسود، واستعدادها لفتح صفحة تاريخيّة جديدة نتضرع للعليّ القدير، ربّ السماوات والأرض، الرحمن الرحيم، أن يجعلها صفحة حرّيّة وسلام وإخاء وتعاضد وبناء وقيامة.
إنّنا ندرك المظلمة التاريخيّة العميقة التي تعرّضت لها الغالبيّة السكانيّة السوريّة إبّان العقود الماضية. ونؤكّد أنّنا، لئن كنّا الأقل عدداً من حيث البنية السكّانيّة لبلدنا، إلّا أنّنا ذقنا، وفق أوضاعنا وبالنظر إلى حجم تأثيرنا في البلد، طعم ما ذاقته الأكثرية السكانية. ولذا، شاركنا في ثورة سوريا حين اندلعت، وحملنا آلام السورييّن والسوريّات إلى منابر المجتمع الدوليّ كافّةً، وذلك ضمن إمكاناتنا وقدراتنا المحدودة. إنّ المأساة المدمرّة للإنسانيّة التي عانت منها سوريا تجمع أهلها كافّةً وتُوحّدهم شعباً واحداً، وتدعونا جميعاً، كما تألّمنا معاً وعانينا معاً وبكينا معاً ومتنا معاً وثُرنا معاً، أن نتحرّر معاً ونشفى معاً ونبلسم جراحنا معاً ونعانق آلام بعضنا بعضاً ونقف معاً ونخرج معاً من النفق الأسود ونبني سوريا المستقبل معاً يداً بيد، كإخوة متكافئين متساوين.
إننا لا ننتظر من سوريا المستقبل أن تعاملنا كأقلّيّات مستضعفة تحتاج إلى العطف والتكرّم عليها بحرّيّة ممارسة العبادات والطقوس الدينيّة، أو الشؤون الأسريّة والمدنيّة الخاصّة، بأمان ويُسر ومن دون التعرّض للإهانة أو التهديد أو التحقير أو الترهيب. ليس غير المسلمين في البلد بمجتمعات موازية ولا بجاليات طارئة على البلد ولا بأهل ذمّة. ونحن لسنا أقلّيّةً بالمعنى الوطنيّ والإنسانيّ والمجتمعيّ والثقافيّ وإن كنّا الأقلّ عدداً وتوزّعاً ديمغرافيّاً. إنّنا نسعى إلى وضع يدنا في يد أهل بلدنا، كما فعلنا طوال القرون الماضية بلا كلل ولا وهن، كي نبني معاً دولةً سوريّةً نكون فيها جميعنا، ومن كلّ أطياف سوريا وشرائحها وخلفيّاتها وثقافاتها وجماعاتها، مواطنين مدنيّين متساويين توحّدنا الحقوق والواجبات، يوحّدنا المصير والقرار، يوحّدنا الوطن والانتماء. نحن كنّا وما زلنا وسنبقى من تراب هذه الأرض، ومن قلب جذع الشجرة الأمّ الواحدة، سوريا، التي نمثّل كلّنا أغصاناً فيها.
إنّنا نفخر بأنّنا كنّا من بناة حضارات بلاد الشام العريقة بكافة مكوّناتها وأشكالها ومن ضمنها الحضارة العربيّة الإسلاميّة، وبأنّنا كنّا من أوائل صانعيها مع المسلمين في هذه الأرض الضاربة في القدم والتاريخ التعايشيّ والاختلاطيّ والتحاضنيّ والتلاقحيّ. ونحن كنّا أيضاً من روّاد حركة النهضة العربيّة التي شهدتها بلادنا في العصر الحديث. وقد قمنا بهذا الدور الحضاريّ من دون أن نتصرّف كمن يندمج في هذا التاريخ الحضاريّ المتنوّع أو ينضوي تحت لوائه وكأنّنا من خارجه، أو كأنّنا جماعات موازية ومُنغلقة على ذاتها. نحن انتمينا وساهمنا كمن يفتخرون بانتسابهم إلى الحضارة الشاميّة وبعلاقتنا التاريخية بأهمّ مكوناتها الثقافيّة في تاريخ بلادنا المعاصر: إسلام الشام الثقافيّ والمجتمعيّ والفكريّ.
إنّنا، انطلاقاً من انتمائنا التاريخيّ الأصيل والتأسيسيّ للحاضنة الحضاريّة التعدديّة الهوية، لا نعيش رهاباً أو خوفاً من أن ننتسب وطنيّاً إلى دولة معاصرة ذات هويّة تنهل أولاً من الحضارة والثقافة المسلمة، أو أن يُسيّر شؤون الدولة ويُحوكِمها جهاز إدارةٍ قد ينتمي أفراده بغالبيّتهم إلى الهويّة المسلمة، شريطة ألّا يتمّ هذا على قاعدة الهيمنة والسلب والوصاية والاحتكار في القرار والمسؤوليّة والدور.
إنّنا ندرك، في هذه اللحظة التاريخيّة المحوريّة والحاسمة في حياتنا كأهل سوريا، أنّ هناك الكثير من النشوة بالانتصار والغبطة بالتحرّر، وأنّ الشعب السوريّ بدأ يُفصح، بعد عقود طويلة، عن مكبوتات الألم والغضب، ويتخلّص من آثار القهر والذلّ والخوف التي احتبست في قلوب أبناء سوريا وبناتها وأرواحهم. كذلك ندرك أنّ الشارع السوريّ اليوم يحفل بالمشاعر الصعبة والمتوتّرة، وأنّ الوقت لا بدّ من أن يأتي قريباً كي نعبر مرحلة نشوة الحرّيّة والنصر والمشاعر المختلطة بين التنفيس عن احتقانات الغضب والخوف والرهبة والارتباك. ومن ثمّ، نحن نمدّ اليوم اليد إلى الجميع كي نتطلّع إلى اليوم التالي ونعمل سويّاً من أجله. وهذا اليوم الذي يلي مرحلة الغضب والخوف والارتباك ينبغي أن تعقبه مرحلة انتقالية يتمّ فيها تحقيق العدالة الانتقاليّة والمحاسبة القانونيّة وبناء شبكات التشارك الأهليّ والمدنيّ. ومن ثمّ، ننطلق معاً إلى بناء الدولة وإعادة تشكيل الفضاء المجتمعيّ، وذلك على قاعدة المبادئ والقيم والمفاهيم الآتية:
أوّلاً: لنبنِ سوريا تفتخر بهويّتها الحضاريّة المتعدّدة المشارب، ومن صلبها الثقافة الإسلامية. وتعالوا نعرّف العالم إلى الهويّة الحضاريّة التاريخيّة لسوريا، والتي هي عابرة للأديان والطوائف والتيارات والأعراق واللغات والثقافات والأعراق. تعالوا نجد طريقةً لتأكيد تميُّز إسلام سوريا الشاميّ، والذي لا يشبه تمظهرات حضارة الإسلام في أيّ دولة عربيّة أو إسلاميّة أخرى، ولا يحتاج أن نستورد إليه أيّاً من تلك التمظهرات التي لا تخاطب نسيج سوريا المجتمعيّ ولا تشبهه، وليست مصمّمةً كي تخاطبه وتخدمه. ودليلنا على ذلك حادثة إحراق شجرة الميلاد في بلدة السقيلبيّة مؤخّراً على يد مجموعة من المجاهدين المهاجرين الغرباء، والذين لا يعرفون سوريا ولا طبيعتها. تلك الأحداث المؤسفة تؤكد لنا أننا بمنأى عن استيراد نماذج إسلامٍ غريبة عن أرضنا وتاريخنا وشعبنا.
ثانياً؛ لنؤسس لسوريا المدنيّة ذات الدستور والقانون الجامع والمدنيّ التعدديّ على قاعدة المواطنة المتساوية والمتكافئة واحترام حقوق الإنسان وقيم الحضارة المدنيّة الشاميّة التاريخيّة، والتي لم يكن فيها لا تذميم، ولا تمييز، ولا وصاية، ولا إقصائيّة، ولا هيمنة، ولا استحواذ، ولا استئثار، ولا ترهيب، ولا تفضيل، ولا تحيّز تمارسه أيّ فئة من فئات الشعب حيال الفئات الأخرى لا باسم الدين، ولا باسم الأغلبيّة العدديّة، ولا باسم الهيمنة الثقافيّة أو العرقيّة أو اللغويّة أو الجندريّة أو المناطقيّة أو الطبقيّة أو السياسيّة أو العسكريّة. الكلّ متساوون تماماً تحت مظلّة دستور سوريّ جامع.
ثالثاً: لنبنِ سوريا الجمهوريّة التعدديّة والتنوعيّة والتسامحيّة والمدنيّة والديمقراطيّة الهويّة (وليس فقط الممارسة)، التي تحترم الحرّيّات والحقوق العامّة، وتحمي المواطنين وتحاسبهم على ممارساتهم في المجتمع بالاستناد إلى القانون والدستور الذي يحمي الحرّيّات وكرامة الإنسان ويكفلها ويدافع عنها ويقيم العدل على قاعدتها، سوريا المواطنة والتداول والتعدّد والمدنيّة، حيث لا يسمح أحد لنفسه بالإساءة إلى الآخرين، أو أمرهم بمعروف ونهيهم عن منكر، بسبب إيمانهم ومعتقداتهم وآرائهم ومواقفهم وميولهم وأفكارهم وممارساتهم، بل الكلّ يقف بشكل متساوٍ أمام قانون مدنيّ وضعيّ يحكم بين المواطنين ويعطي كلّ شخص حقّه ويُحمِّل كلّ طرف مسؤوليّته.
رابعاً: لنعمل على خلق جمهوريّة قاعدة العمل الأهليّ والإدارة والمسؤوليّة السياسية فيها هي قاعدة ديمقراطيّة الأكثريّة الاقتراعيّة والمشاركة البرلمانيّة والحوكمة التنفيذيّة والإدارة اللامركزيّة والتي ستجعل أغلبيّةً انتخابيّةً واقتراعيّةً تقود مسيرة التوافق حول كيفيّة حوكمة الجمهورية وإدارتها ورسم استراتيجيّاتها الداخليّة والخارجيّة. تعالوا نعتق سوريا من أيّ هيمنة أو فرض قسريّ لنماذج ممارسات ديمقراطيّة تقوم على منطق الغالبيّة العدديّة الديمغرافيّة، أو الغالبيّة الدينيّة الطوائفيّة، أو الغالبيّة الثقافيّة اللغويّة، أو الغالبيّة العرقيّة والقوميّة، أو الغالبيّة الإيديولوجيّة. تعالوا نسعَى أن يتبوّأ مناصب الدولة ويعمل في مؤسّساتها الإداريّة والمدنيّة والبرلمانيّة والحكوميّة ذوو وذوات الكفاءة والمؤهلّات العلميّة والخبرة العمليّة والسيرة المهنيّة المحترفة ونظافة الكف، وذلك بصرف النظر عن الخلفيّات الشخصيّة والمعتقدات والجنس والثقافة وسواها من الهويّات التصنيفيّة الضيقة.
خامساً: لنبنِ جمهوريّةً تقوم على فكرة «مؤسّسات» الدولة، لا على ذهنيّة «القائد الملهَم أو الملهِم»، جمهوريّةً قوامها العمل البرلمانيّ التشريعيّ والمحاسبيّ والرقابيّ، لا فكرة «مجلس الشعب» التمثيليّة الشكليّة؛ جمهوريّةً دستورها يجمع ولا يفرّق، يساوي ولا يميّز، يحمي الحقوق ولا يصنّفها، يشمل الجميع بالتساوي ولا يشملهم بالتعطّف والمنّة؛ جمهوريّةً فيها تداول للسلطة وللمسؤوليّة المدنيّة والحكوميّة، لا سلطات أبديّة ومتكرّرة وتوريث؛ جمهوريّةً أفقها حضاريّ، لا دوغمائي، علميّ وثقافيّ، لا إيديولوجيّ؛ جمهوريّةً تخضع فيها القوى العسكريّة والأمنيّة لسلطة قيادة مدنيّة منتخبة وفق معايير انتخابيّة عصريّة ودستوريّة.
سادساً: لنسعَ إلى خلق أرضيّة ولادةِ مجتمعٍ معاييره الأخلاقيّة لا تحدّدها درجة التديّن، ومعاييره السلوكيّة لا تحدّدها قواعد اللباس والمظهر والتصرّفات الفرديّة، ومعايير الدور فيه لا تحدّدها معايير الماهيّة الجنسيّة والجندريّة. تعالوا نبني مجتمعاً الحقوقُ والواجبات والأدوار والمسؤوليّات فيه يكفلها ويحميها ويدافع عنها ويحاسب عليها القانون والقانون فقط.
ختاماً، نحن مجموعة سوريا الحرة نتطلّع معكم إلى بناء بلدنا الجديد المتحرّر من كلّ موبقات الماضي وشروره، والمتخلّص من كلّ ما من شأنه أن يجترّ الذهنيّات والممارسات الاستبداديّة التي عرفناها في عصر الطغيان البائد ويستحضرها. إنّنا نمدّ إليكم اليد كي نلتقي ونتحاور ونجلس نحن وأنتم مع شرائح الكيان السوريّ وأطيافه وجماعاته وتيّاراته كافّةً كي نفكّر ونعمل معاً على الأرض، ونبادر إلى تطوير خريطة طريق استراتيجيّة دولتيّة محترفة ومدروسة يشارك الجميع فيها في صناعة القرار والأفكار وتأليف الدستور والقوانين الجديدة، ويدلي فيها كلّ المواطنين والمواطنات الذين ينتمون إلى سوريا، ويوجدون على جغرافيا بلدنا برمّتها من مناطقها وأطرافها كافّةً، بدلوهم في التطوير والتنفيذ من طريق التصويت الشعبيّ والاستفتاء والمشورة. إنّ الغد ينتظرنا وينتظر تحرّرنا من الخوف والغضب والنقمة وجاذبيّة الهيمنة وبريق السلطة كي نبني معاً ونسافر من نفق الغضب إلى نور سوريا العيش والمصير الواحد.
عشتم وعاشت سوريا
مجموعة سوريا الحرة
———————————-
بين الهواجس والسفارات… الحذر واجب/ عالية منصور
في سوريا الكثير الكثير من الفرح… والكثير الكثير من الخوف والحذر
05 يناير 2025
بعد نضال الشعب السوري الذي استمر 14 عاما إلا ثلاثة أشهر، وبعد معركة عسكرية استمرت أياما، سقط النظام وهرب بشار الأسد، عاد السوريون، فمن كنت ألتقيهم في عواصم العالم كلا على حدة، صار بإمكاننا الجلوس حول طاولة واحدة على مقهى في قلب العاصمة السورية دمشق، لنتحدث عن الحلم وعن ذكرياتنا طيلة أعوام مضت، وعن هذه اللحظة التاريخية العظيمة التي نعيشها. وبين لحظة فرح وأخرى نعبر جميعا عن مخاوفنا وقلقنا حيال المستقبل، لماذا تصر الإدارة السياسية على استبعاد الخبرات وهي كثيرة راكمها السوريون خلال سنوات الهجرة القسرية في دول العالم المتحضر؟
لماذا لم يصافح قائد المرحلة الانتقالية أحمد الشرع وزيرة الخارجية الألمانية؟ هو يمثل الدولة السورية وليس له الحق في “أسلمة” صورة سوريا. وتصريحات مديرة مكتب شؤون المرأة في حكومة تصريف الأعمال السيدة عائشة الدبس لا تبشر بالخير، رغم محاولة بعض من هم في الإدارة الحالية للبلاد بالرد على تصريحها بشكل غير مباشر. وما قيل عن تعديلات على المناهج التعليمية من قبل وزير التربية والتعليم في الحكومة المؤقتة نذير القادري وما لحقها من توضيحات. ومنح بعض غير السوريين رتبا عسكرية بينما الضباط والعسكريون المنشقون مستبعدون حتى اللحظة أمر يثير الكثير من المخاوف.
كلها وغيرها مخاوف مشروعة بل وضرورية، وإن كان التبرير اليوم أن شهرا لم يمر على سقوط بشار الأسد، وأن المرحلة مؤقتة وستنتهي في الشهر الثالث من العام الحالي، والحديث عن ضرورة انسجام الفريق اليوم فلا وقت لبناء ثقة بين أعضاء فريق جديد ستنتهي مهمته كما قيل بعد 3 أشهر.
في الواقع ثمة معضلة، فالتخبط عند الإدارة الجديدة في كثير من الملفات واضح، وهذا الاستعجال لاتخاذ قرارات وتعديلات ليست من صلاحياتهم لافت، حتى وإن كانوا يجدون طريقة سلسة للتراجع أو التبرير، ولكن قد يكون من المفيد للجميع منحهم فرصة مع إبقاء العين مفتوحة على الأداء والنقد والاعتراض عند الحاجة، وهي مرحلة مؤقتة كما التزموا، تنتهي بعد أشهر قليلة لتبدأ معها المرحلة الانتقالية.
وفي رأيي أن هذه المرحلة، أي المرحلة الانتقالية، هي الأساس وحجر الزاوية بسوريا المستقبل، سوريا الدولة التي يسعى إليها معظم أبنائها، معظم، ويؤسفني أن لا أقول جميع. ولذلك فإن الاستعجال بإعلان مواعيد مختلفة لمؤتمر الحوار الوطني المزمع عقده قريبا لم يكن موفقا، مؤتمر وطني يحتاج إلى وقت لإعداده وقد يكون من المفيد أن يعقد أحمد الشرع مؤتمرا صحافيا يتوجه به للسوريين يشرح لهم واقع الحال، ويخبرهم بأن الإعداد للمؤتمر لا يقل أهمية عن المؤتمر نفسه كي تنجح الخطوة الأولى باتجاه المرحلة الانتقالية وباتجاه سوريا الدولة، ليخاطب الجميع ويطمئن هواجس القلقين وهم كثر.
ويبقى لافتا بين هواجس المرحلة المؤقتة وهواجس المرحلة الانتقالية، أن أجسام المعارضة السورية لم تستوعب بعد أن نظام الأسد قد سقط، فلم يبدلوا من سياساتهم شيئا، عادوا إلى دمشق لا ليلتقوا السوريين بل ليتابعوا لقاءاتهم مع السفراء الذين كانوا يلتقونهم في الخارج.
ما يثير قلقي وهواجسي أكثر من كلام الدبس وتراجع القادري ومصافحة الشرع، هو هذه المحاولات التي يقوم بها البعض بالاستقواء بالخارج، في وقت صار الداخل بفضائه ومساحاته ملكا للسوريين، جميع السوريين. حتى إن البعض صار يلمح إلى الاستقواء بالخارج والسلاح معا، في وقت لم يعتد أحد عليه.
يضاف إلى ذلك هذا التعالي بالتعاطي من قبل بعض الغرب، والإصرار على النظر إلى مجتمعاتنا بوصفها مجتمعات رجعية لا أمل أن تتمكن من بناء دولة مواطنة، فنبقى ندور بحلقة حقوق الأقليات والنساء، دون أي حديث عن حقوق المواطنة، يلاقيه تعاطي البعض الذي يستقوي بهذا الخارج دون أن يحاول فتح أي حوار جدي مع السوري “الآخر”.
نحن أمام أهم مفصل في تاريخ سوريا، دول كثيرة فتحت أبوابها ودعمت خيار السوريين، دول أخرى ما زالت تترقب، بينما هناك من يتربص بسوريا ومستقبلها.
على كل مواطن سوري تقع المسؤولية، والمسؤولية الأكبر تقع على عاتق الإدارة السياسية، لنصل جميعا إلى المرحلة التي ستنقلنا إلى سوريا الدولة، وقد يكون من المفيد بعض الثقة وإن كان الحذر مشروعا، ولننظر إلى أنفسنا كمواطنين متساوين ولنسعَ لذلك، بدل أن تذهب كل مجموعة للاستقواء بسفارة ودولة، فقد جربنا ما حل بسوريا نتيجة استقواء بشار لا بالسفارات فحسب بل بدول وجيوش على حساب مصلحة سوريا والسوريين.
المجلة
——————————
هل يشكل سقوط نظام الأسد خسارة لروسيا أم لا؟/ طه عبد الواحد
2025.01.05
منذ الساعات الأولى لتحرير العاصمة السورية دمشق، وإعلان فرار رأس النظام من البلاد، طُرِحَت، وما زالت تُطرح الكثير من الأسئلة حول نتائج سقوط النظام السوري على السياسة الروسية في سوريا والمنطقة ككل، وحول مصير العلاقات بين موسكو ودمشق في المرحلة القادمة. وخلال نقاشات في أوساط مختلفة برز تباين في وجهات النظر بين من يقول إن روسيا خاسرة، ومن يؤكد أنها ليست كذلك، وبين هذا وذلك هناك من ذهب أبعد من ذلك، وعبر عن رؤية مفادها أن “روسيا مستفيدة من سقوط نظام الأسد!”.
سقوط النظام خسارة لروسيا ستؤثر على نفوذها إقليمياً ودولياً
يرى عدد كبير من الخبراء والمحللين أن روسيا بعد فرار الأسد تبدو كمن يقول المثل الشعبي عنه (طلع من المولد بلا حمص)، أي أنها باتت الطرف الخاسر.
ويوضح أصحاب وجهة النظر هذه أن روسيا، بعد فرار الأسد وانتهاء نظام حكمه، فقدت إمكانية الاستفادة من سوريا عسكرياً وسياسياً. وستضطر لإخلاء قواعدها في طرطوس وحميميم، ما يعني تخليها عن حلمها بموطئ قدم على ساحل المتوسط، وعن القواعد التي منحت أساطيلها البحرية والجوية مزايا استراتيجية، حين وفرت لها إمكانية المراقبة عن كثب لتحركات الناتو جنوب أوروبا، وعبر مضيق جبل طارق، وأن تعزز وجودها العسكري في مسرح عمليات الأسطول السادس، إنطلاقا من قاعدة بحرية في طرطوس، تم تأهيلها لاستقبال سفن عملاقة وغواصات استراتيجية تعمل بالطاقة النووية، ومطار في حميميم تم تأهيله لاستقبال قاذفات استراتيجية.
سياسياً، يقول من يرون أن روسيا خاسرة نتيجة سقوط نظام الأسد، إن موسكو التي عولت على توسيع نفوذها أكثر فأكثر في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، انطلاقا من نفوذها في سوريا، وتوسيع نشاطها الاقتصادي والتجاري مع دول الإقليم عبر الأراضي السورية، قد خسرت هذا كله، بعد زوال النظام. ويشر هؤلاء إلى أن سقوط النظام بات بمثابة فشل ذريع، على مرأى الجميع للسياسة الروسية. ويوضحون أن روسيا كانت طيلة السنوات الماضية تقود، ومعها تركيا، الجهود الدبلوماسية للتوصل إلى حل سياسي للأزمة السورية، وكان من شأن نجاح تلك الجهود أن تعزز وتوسع نفوذ وهيبة روسيا إقليمياً ودولياً، بينما سيأتي عدم نجاحها بنتائج عكسية تماماً.
أوكرانيا ترى أنها ساهمت في إسقاط نظام الأسد وتطلب مزيدا من الدعم الغربي
أوكرانيا كانت من أوائل الدول التي اعتبرت أن سقوط نظام الأسد هزيمة كبرى لروسيا، واعتبرت أنها هي (أوكرانيا) لعبت دوراً رئيسيا في إسقاطه. إذ اعتبر أندريه يرماك، مدير مكتب الرئيس الأوكراني، أن “المقاومة الأوكرانية”، وحرب روسيا ضد أوكرانيا، أضعفت بشكل حاد إمكانيات الكرملين العسكرية والدبلوماسية، وأدت في نهاية المطاف إلى اسقاط نظام الأسد.
وأضاف يرماك في مقال له نشرته “وول ستريت جورنال” أن “سقوط الأسد كان بمثابة ضربة قاسية لهيبة روسيا”، و “سيتعين على الحلفاء مثل إيران أو الزعماء المستبدين في جميع أنحاء العالم أن يعترفوا بأن بوتين غير قادر على حماية شركائه”. ويزيد المسؤول في الرئاسة الأوكرانية أن ” نفوذ روسيا في المنطقة آخذ في الضعف، خاصة في أفريقيا، حيث استفادت روسيا حتى الآن من وجودها في سوريا”، وبالتالي يرى يرماك أن “الحرب في أوكرانيا ليست مجرد صراع من أجل السيادة الوطنية، بل هي أيضا أداة استراتيجية لتعزيز المصالح العالمية للولايات المتحدة”، وعلى هذا الأساس يدعو الغرب لدعم بلاده، ويكرر أن “قضية الأسد مثال على كيف يمكن أن يكون للدعم الأوكراني تأثير حاسم على قضايا الأمن العالمي”.
بوتين يرفض اعتبار سقوط الأسد فشل لبلاده و”يغازل” الإدارة السورية الجديدة
مقابل وجهات النظر السابقة هناك من يعتبر أن سقوط الأسد لا يشكل خسارة لروسيا. وفي مقدمة هؤلاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي أكد خلال مؤتمره الصحفي السنوي نهاية العام الماضي، أن بلاده لم تُهزم في سوريا بل حققت أهدافها هناك، وقال: “ثمة من يحاول تصوير ما حدث في سوريا على أنه هزيمة لروسيا. أؤكد لكم أن الأمر ليس كذلك”. وأضاف: “لقد جئنا إلى سوريا قبل عشر سنوات لمنع إنشاء جيب إرهابي فيها، كما في أفغانستان. وبصورة عامة، حققنا هدفنا”.
وفي تصريحات اعتبرها البعض (غزلا)، والبعض الآخر إقرار ضمني منه بأن هيئة تحرير الشام لم تعد من وجهة نظره “منظمة إرهابية”، أضاف بوتين: “حتى تلك المجموعات التي قاتلت في وقت ما نظام الأسد، والقوات الحكومية، طرأت عليها أيضاً تغييرات داخلية. ليس من قبيل الصدفة أن العديد من الدول الأوروبية والولايات المتحدة ترغب اليوم في إقامة علاقات معها. إذا كانوا منظمات إرهابية، لماذا تذهبون إلى هناك؟ لقد تغيروا إذن، أليس كذلك؟ وهذا يعني أنه إلى حد ما تم تحقيق الهدف”.
ويرى خبراء أنه من المبكر جداً الحديث عما إذا كانت روسيا قد خسرت أم لا نتيجة سقوط نظام الأسد. ويشير هؤلاء بداية إلى أن القواعد الروسية في سوريا لاتزال موجودة، وسيتم تحديد مصيرها بصورة نهائية من خلال محادثات مع السلطات السورية الجديدة، الأمر الذي يرجح أنه سيتم بعد المرحلة الانتقالية والانتخابات، وتشكيل حكومة تحظى باعتراف دولي، وتمتلك صلاحيات بإعادة النظر في الاتفاقيات الدولية المبرمة مع الدولة السورية.
وبخصوص تأثير سقوط النظام السوري على نفوذ روسيا وعلاقاتها مع دول المنطقة، يشير معارضو فكرة أن “روسيا خاسرة بسبب سقوط الأسد”، إلى أن العلاقات الروسية مع دول منطقة الشرق الأوسط، وإن كانت قد شهدت نشاطاً لافتاً على خلفية “الأزمة السورية”، إلا أنها علاقات قديمة، يجري العمل على تطويرها وتعزيزها في شتى المجالات، وفق رؤية تقوم على أسس الاحترام المتبادل وعدم التدخل بالشؤون الداخلية، والمنفعة المتبادلة. فضلا عن ذلك فإن مواقف روسيا إزاء الكثير من الملفات الإقليمية والدولية شبه متطابقة مع مواقف غالبية دول المنطقة، لاسيما فيما يخص القضية الفلسطينية. وعليه تبقى روسيا شريك مريح للدول العربية، التي تتراكم لديها خيبات أمل من السياسات الأميركية، ولم تعد مرتاحة للإملاءات الغربية بشكل عام.
مثال على ذلك، علاقات روسيا التي تطورت بشكل لافت مع عدد من الدول الأفريقية خلال السنوات الأخيرة، وتعزيز النفوذ الروسي هناك مقابل تراجع النفوذ الغربي. إذ أعلنت كل من مالي والنيجر وبوركينافاسو وتشاد، ومن السنغال وساحل العاج عن إنهاء الوجود العسكري الفرنسي على أراضيها. بالمقابل نشطت الاتصالات بين تلك الدول وروسيا، وجرت لقاءات على أعلى مستويات، وتم توقيع عدد كبير من اتفاقيات التعاون في شتى المجالات. كما نظمت روسيا أول قمة روسية أفريقية في سوتشي عام 2019، وشارك فيها رؤساء 43 دولة أفريقية. وعقدت القمة الثانية عام 2023 وشارك فيها قادة 53 دولة أفريقية، وفي خريف عام 2024 استضافت روسيا المؤتمر الوزاري الأولى لمنتدى الشراكة بين روسيا وأفريقيا. ونجاح هذه الفعاليات يؤكد على الاهتمام المشترك بتعزيز العمل المشترك بين روسيا والدول الافريقية بغض النظر عن اي اعتبارات أخرى.
هناك من يرى أن روسيا مستفيدة من سقوط الأسد
بين من يقول أن روسيا الخاسر الأكبر نتيجة سقوط الأسد، ومن يرى أنها ليست كذلك، كانت مثيرة للاهتمام وجهة نظر ثالثة، عبر عنها البعض خلال النقاشات بشأن مصير العلاقات بين موسكو ودمشق بعد سقوط الأسد. ومفاد وجهة النظر تلك أن “روسيا مستفيدة من سقوط النظام السوري”.
وفي دعم وجهة نظرهم يقول هؤلاء إن النظام السوري بات يشكل عبئاً لا يُطاق بالنسبة للكرملين، الذي سعى إلى دفع مسار التسوية السياسية “للأزمة السورية”، بغية التوصل إلى حل يرضي جميع الأطراف، تكون روسيا من رعاته الأساسيين، بما يضمن لها الحفاظ على علاقات جيدة من أي سلطة ستأتي نتجية ذلك الحل السياسي، ويساهم في استعادة الاستقرار، بصورة تساعد على الانتقال نحو جني روسيا النتائج الاقتصادية لدورها في سوريا.
ويضيف أصحاب وجهة النظر هذه أن الكرملين كان يعول على إنجاز التسوية السياسية في سوريا. ولتحقيق هذا الهدف، الذي كان من شأنه أن يعطي روسيا مكانة خاصة في المنطقة ويزيد من نفوذها وهيبتها على المستويين الإقليمي والدولي، قامت الدبلوماسية الروسية بالكثير من الخطوات، وانتظرت بعد كل خطوة أن يتحرك النظام السوري باتجاه تفعيل عملية التسوية، إلا أنه كان في كل مرة يقطع وعوداً، وفي التنفيذ كان يعرقل تحقيق أي تقدم، ويسبب الإحراج للدبلوماسيبة الروسية التي تضطر لتبرير سلوكه، حتى لا يفلت من بين أيديها كطرف حضوره مطلوب لاتمام عملية تسوية الأزمة.
ويبدو أن موسكو فقدت الأمل بأن تحقق هذا الهدف مع بقاء رأس النظام السوري، ورأت أن بقاء الأمور على تلك الحال لم يعد مناسباً لهذه المرحلة، التي تخوض فيها مواجهة استراتيجية مع الغرب، وبصورة رئيسية مع الولايات المتحدة، كما أنها لم تعد قادرة على تحمل أعباء الأزمة السورية، بعد أن تدهور الوضع الاقتصادي والمعيشي في البلاد إلى مستويات غير مسبوقة، باتت تهدد بتفجر الوضع الداخلي في أي لحظة. وعليه يؤكد من يرون أن “روسيا مستفيدة من سقوط النظام السوري”، أن الخيار الأفضل بالنسبة للروس في ظل هذه التعقيدات كان برحيل الأسد.
تلفزيون سوريا
——————–
أي “مؤتمر وطني” يريده السوريون؟
تحدبث 05 كانون الثاني 2025
جنى العيسى | حسن إبراهيم
أطل عام 2025 بحديث عن مؤتمر لحوار وطني مزمع عقده في سوريا، يشكل بوابة لرسم ملامح المرحلة الانتقالية، وتشكيل حكومة توافقية، قبل انتخابات قد تكون بعد أربع سنوات، بعد أن طوى السوريون عام 2024 بسقوط نظام حكم آل الأسد، في حدث استثنائي لا تزال تداعياته حاضرة محليًا وإقليميًا ودوليًا.
وسط معلومات ضئيلة مقتضبة وتلميحات وتكهنات وتوقعات، لا تزال ماهية المؤتمر ضبابية في مناخ سوري يضم قوى عسكرية ومنظمات مجتمع مدني وخبراء مستقلين وأجسامًا وكتلًا سياسية وأحزابًا في الداخل والخارج.
يؤكد سياسيون وخبراء وقانونيون أهمية وجود مؤتمر لحوار وطني في المرحلة الحالية، ما يؤسس لأرضية حكم واضحة، لكن المخاوف موجودة نظرًا إلى غياب عدة نقاط في مقدمتها الشفافية، وعدم توفر المعلومات إلا من تسريبات هنا وهناك، ومخاوف من فرض أمر واقع على السوريين، وتفرد بالقرار، وخلق انتكاسة جديدة في حكم سوريا.
تستطلع عنب بلدي في هذا الملف آراء خبراء حول شكل المؤتمر الذي ينتظره السوريون وأهم ما سينتج عنه لضمان عدم إدخال البلاد في حالة من الفوضى على مختلف الصعد، أبرزها الدستورية والسياسية.
1200 شخصية..
حديث مبكر دون تحضير
سقط نظام حكم آل الأسد، في 8 من كانون الأول 2024، وفر بشار الأسد إلى روسيا، وجرى تكليف محمد البشير رئيسًا لحكومة تسيير أعمال مؤقتة حتى آذار 2025، وأجرت الحكومة إلى جانب “القيادة العامة” متمثلة بأحمد الشرع تعيينات في مفاصل إدارية وخدمية وسياسية، وتتجه الأنظار نحو مؤتمر حوار وطني جامع.
يعد الحوار الوطني أداة تحظى بشعبية متزايدة لحل النزاعات والتحول السياسي في بلد ما، ويمكنه توسيع نطاق النقاش حول مسار بلد ما إلى ما هو أبعد من صناع القرار النخبويين المعتادين، ويعد أداة لكسر الجمود السياسي وتحويل الصراعات المعقدة، وفق معهد “السلام الأمريكي” (USIP).
قبل أن يبدأ الحوار الوطني الحقيقي، يجب أن تضع مرحلة تحضيرية شاملة وشفافة وتشاورية الأساس والقرارات الأولية بشأن شكل وبنية الحوار، وخاصة من تتم دعوته للمشاركة.
الحديث عن مؤتمر وطني اليوم، كانت نواته حوارًا وطنيًا لا مؤتمرًا وطنيًا، وبدأ بشكل غير رسمي، عبر الإعلامي موسى العمر، بعد لقائه قائد الإدارة السورية الجديدة، أحمد الشرع، إذ ذكر اعتزامه إطلاق حوار وطني جامع من 1200 شخصية.
وقال العمر، إن الشخصيات من بياض البلد ورجالها ونسائها من مختلف المشارب والطوائف والأحزاب والقوميات والكفاءات العلمية والأكاديمية والعلماء ورجال الأعمال، ومن جميع المحافظات، ستجتمع لإقرار عدد من القرارات المصيرية التي تهم الشعب السوري، لتكون جسرًا للإدارة الجديدة لقيادة الدولة وخدمة الشعب.
من جهته، تحدث أحمد الشرع عن مؤتمر لحوار وطني، وقال إنه سيشهد مشاركة واسعة من أطياف المجتمع السوري مع طرح قضايا للتصويت مثل حل البرلمان والدستور.
وأضاف الشرع أن المؤتمر سيتضمن مجموعة قرارات سيشارك باتخاذها جميع الحاضرين، إذ سيجري ضمنه شرح كل المعطيات في القضية السورية، ثم سيترك القرار للمشاركين الذين سيصوتون على القضايا المهمة والحساسة التي ستؤسس للمرحلة الانتقالية.
شدد الشرع على أن “مؤتمر الحوار الوطني” سيكون جامعًا وشاملًا لعدد كبير من مكونات الشعب السوري، معتبرًا أن المحاصصة ستدمر سوريا، بينما إذا تم بناء الوطن على مبدأ التشاركية والكفاءات بالاستناد إلى قانون مؤسس بطريقة صحيحة، فالنتائج ستكون إيجابية، لافتًا إلى أن الإعلان عن حل “هيئة تحرير الشام” سيكون خلال المؤتمر.
وزير الخارجية في حكومة دمشق، أسعد الشيباني، اعتبر أن ما يجري هو بداية العمل على مؤتمر الحوار الوطني، لافتًا إلى وجود دعوات وفرق تعمل على التحضير للمؤتمر، وتتواصل مع جميع الأطراف.
ويعتقد الشيباني أن يومين لا يكفيان لمؤتمر من هذا النوع، معتبرًا أن الفكرة بحد ذاتها جديدة على الشعب السوري، وأنه من 100 سنة لم يحصل مثل هذا الحوار الشفاف والهادئ الذي يضم جميع شرائح المجتمع السوري، وفق تصريحات صحفية له.
مصدر في حكومة دمشق المؤقتة (غير مخوّل له بالتصريح) قال لعنب بلدي، إن الحديث عن المؤتمر الوطني مبكر جدًا، حرّكته وسائل إعلام دون مصادر دقيقة، بالاستناد إلى تصريحات أولية صدرت عن قائد الإدارة السورية، أحمد الشرع، ووزير الخارجية، أسعد الشيباني.
وأضاف أنه لا تتوفر معطيات حاليًا عن وجود مؤتمر وطني في سوريا، إذ يحتاج إلى تحضيرات طويلة.
قائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع مع وفد من أعيان المنطقة الشرقية في سوريا – 26 كانون الأول 2024 (القيادة العامة)
قائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع مع وفد من أعيان المنطقة الشرقية في سوريا – 26 كانون الأول 2024 (القيادة العامة)
حوارات وطنية منذ 200 عام
عُقدت الحوارات الوطنية طوال التاريخ الحديث وفي جميع أنحاء العالم، وتحت أسماء وسياقات مختلفة وفي قارات مختلفة على مدار الـ200 عام الماضية، ومن الأمثلة:
وضع الدستور الأمريكي في عام 1787 كان بمثابة شكل من أشكال الحوار الوطني، لأنه شمل ممثلين عن جميع الدول في مفاوضات حول الاتجاه المستقبلي للبلاد.
في بولندا أقيمت أولى جولات مفاوضات الحوار الوطني تحت مسمى “الطاولة المستديرة” (1988-1989).
في بينين، سعى المؤتمر الوطني لعام 1990 إلى تخفيف الضغوط الناتجة عن الأزمة الاقتصادية العميقة والتآكل الموازي للشرعية السياسية.
نظمت الجابون مؤتمر الحوار الوطني الخاص (1990)، تلتها جمهورية الكونغو برازافيل (1991)، وتوغو (1991)، ومالي (1991)، والنيجر (1991).
على مدى السنوات الـ20 الماضية، استمرت الحوارات الوطنية في تيسير عمليات صنع السلام، والإصلاحات السياسية، أو عمليات وضع الدستور في جميع أنحاء العالم من الصومال (2000، 2002-2004)، وأفغانستان (2002، 2003-2004)، ونيبال (2008-2012)، إلى مصر (2011)، واليمن (2013-2014)، وتونس (2013-2014).
وتوصلت أغلب هذه الحوارات الوطنية إلى اتفاقيات، إلا أنه لم يتم تنفيذ سوى نصف هذه الاتفاقيات، وكثيرًا ما استخدمت النخب الوطنية الحوارات الوطنية أداة لكسب أو استعادة الشرعية السياسية، وهو ما حدّ من قدرتها على إحداث التغيير التحويلي.
مكونات مرفوضة.. تخبط في المعارضة
منذ سقوط النظام تعيش كيانات المعارضة الرسمية (الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة و هيئة التفاوض السورية) حالة تخبط وفوضى واضحة، إذ لم يرحب قائد الإدارة السورية، أحمد الشرع، بشكل صريح بوجود هذه الكيانات في المؤتمر الوطني أو مستقبل سوريا، لأن مبررات خلق هذه الكيانات لم تعد موجودة اليوم.
فيما رحب الشرع بالأشخاص الذين يديرون هذه الكيانات كأفراد، الأمر الذي لم يرضِ هؤلاء المسؤولين بحسب ما يبدو لمن يتابع تصريحاتهم الإعلامية، إذ لم يلتقِ أي من أعضاء “الائتلاف” بالشرع حتى الآن، على عكس القوات العسكرية التي كانت تحسب عليه أو تنافسه، والتي أعلنت جاهزيتها لحل نفسها للانضمام إلى الجيش السوري.
بالمقابل، ظهرت فئة قليلة من أعضاء “الائتلاف” السابقين تتفق مع غياب الحاجة لوجود كيانات معارضة بعد رحيل النظام، ما دفعها لتقديم استقالتها من “الائتلاف” دون أن يعلن أي من المستقيلين رغبته الحقيقية في العمل السياسي مستقبلًا بشكل فردي.
للحديث عن موقف “الائتلاف” ودوره في المؤتمر الوطني المرتقب، تواصلت عنب بلدي مع عدة شخصيات مسؤولة ومع مدير المكتب الإعلامي لـ”الائتلاف”، إلا إنها لم تلقَ أي رد حتى ساعة تحرير هذا الملف.
السياسي السوري يحيى مكتبي، وهو أحد المستقيلين من “الائتلاف”، قال لعنب بلدي، “إننا اليوم أمام مرحلة جديدة بعيدة كل البعد عن المرحلة السابقة التي كانت لها حيثيات وظروف مختلفة ومعقدة ومتشابكة”.
اليوم بعد الانتهاء من نظام الأسد وفتح صفحات جديدة نحن أمام شكل مختلف، بحسب ما يرى مكتبي، إذ تحتاج المرحلة المقبلة إلى الدفع نحو تشكيل أحزاب سياسية تكون العمدة في انطلاق الحياة السياسية بشكلها الطبيعي وبالتالي التهيئة للانتخابات بناء على وجود تلك الأحزاب.
وأضاف السياسي يحيى مكتبي أن كل شخص من أعضاء “الائتلاف” له وجهة نظر خاصة به ودوافع عديدة، وبناء عليها تقدم بعضهم باستقالتهم، دون أن يؤكد أن هذه الاستقالات جاءت وفق رغبة بالمشاركة بالمستقبل السياسي كأفراد لا ككيانات.
سبعة مبادئ لنجاح الحوار
وفق معهد “السلام الأمريكي” (USIP)، لا يوجد نموذج واحد لحوار وطني يناسب جميع البلدان، لكن يفترض أن تكون للحوارات الوطنية احتمالات أعلى للنجاح، إذا تضمنت سبعة مبادئ وهي:
الإدماج: ينبغي دعوة جميع مجموعات المصالح الرئيسة للمشاركة، بمن في ذلك النساء والشباب وغيرهما من المجموعات المستبعدة تقليديًا.
الشفافية: يجب أن تتم هذه الاستعدادات بعناية وشفافية من قبل لجنة تحضيرية تضم جميع المجموعات الرئيسة المشاركة.
المشاركة العامة: الحوار الذي يضم كل جماعات المصالح الرئيسة قد يفقد شرعيته إذا لم تُتح للجمهور فرص كافية للبقاء على اطلاع على الحوار والمشاركة فيه. وبعيدًا عن الموجودين في القاعة، ينبغي للحوار الوطني أن يشتمل أيضًا على آليات لإشراك السكان على نطاق أوسع، من خلال ربط عمليات الحوار المحلية بالحوار الوطني، فضلًا عن المشاورات العامة، والتواصل المنتظم، والتغطية الإعلامية.
أجندة بعيدة المدى: يتطلب الحوار وجود أجندة تتناول الأسباب الجذرية للصراع، والسعي إلى التوصل لاتفاق بشأن القضايا الرئيسة التي تواجه البلاد، والتي قد تشمل أي عدد من الموضوعات المؤججة للصراع مثل الهوية الوطنية، ودور الدين في الحكومة، والحقوق السياسية، والحريات الأساسية، والإصلاح المؤسسي، وإجراءات الانتخابات، وبنية الحكومة.
كما ينبغي لأجندة الحوار الوطني أن توفر حوارًا موضوعيًا حول المظالم الرئيسة لجميع جماعات المصالح الرئيسة، لكن لا ينبغي أن تغرق في التفاصيل.
جهة موثوقة: يعد وجود جهة موثوقة لعقد الحوار أمرًا بالغ الأهمية لضمان مشاركة مجموعة واسعة من أصحاب المصلحة وتجنب تصورات التحيز. وقد تتخذ هذه الجهة شكل شخص واحد أو مجموعة من الأشخاص أو منظمة أو ائتلاف من المنظمات. كما ينبغي أن تحظى الجهة المنظمة باحترام غالبية المواطنين، ولا ينبغي أن يكون لديها أي تطلعات أو أهداف سياسية من شأنها أن تشكل تضاربًا واضحًا في المصالح.
قواعد إجراءات مناسبة وواضحة: لا بد للحوار الوطني أن يقام خارج المؤسسات الحكومية القائمة، لأن الحكومة القائمة والمؤسسات القائمة عاجزة عن حل القضايا الرئيسة المطروحة، إما لأنها لا تتمتع بالشرعية أو المصداقية، أو لأنها غير راغبة في تحدي الوضع الراهن.
ويجب وضع مجموعة خاصة من الإجراءات والقواعد التي تحكم اتخاذ القرارات، والتي لا بد أن تتسم بالشفافية وأن تكون مصممة بعناية لتلائم تكوين المجموعة وطبيعة القضايا المطروحة.
خطة تنفيذ: يجب أن يتضمن الحوار خطة متفقًا عليها لضمان تنفيذ التوصيات الناتجة من خلال دستور أو قانون أو سياسة جديدة أو برامج أخرى، ولأن الحوارات الوطنية تجري في إطار عملية انتقالية أوسع نطاقًا، فإنها غالبًا ما ترتبط رسميًا أو غير رسمي بالعدالة الانتقالية، وصنع الدستور، والانتخابات.
وفي حال غياب خطة تنفيذ واضحة، فإن الحوار الوطني يخاطر باستهلاك قدر كبير من الوقت والموارد دون أن يسفر عن أي نتائج ملموسة.
مخاطر
الحوار الوطني يستحق الاهتمام باعتباره أداة قادرة على تيسير التحول السياسي السلمي، لكنه ليس الحل السحري. فحتى في أكثر الحالات نجاحًا، لا يشكل سوى خطوة واحدة على الطريق الطويل والشاق لبناء مجتمع سلمي، وفق معهد “السلام الأمريكي”.
وتستهلك هذه العمليات موارد هائلة وطاقة سياسية، الأمر الذي يؤدي في بعض الأحيان إلى إهمال الحكومة لمسؤوليتها الأساسية في الحكم وتقديم الخدمات، كما قد تنحرف الحوارات الوطنية عن مسارها أو تنتج توصيات لا يتم تنفيذها أبدًا.
ورغم أهمية الحوار الوطني، هناك خطر يتمثل في إمكانية إساءة استخدام الحوارات الوطنية عمدًا، والتلاعب بها من قبل القادة الذين يسعون إلى تعزيز قبضتهم على السلطة.
واستُخدم مصطلح الحوار الوطني أيضًا للإشارة إلى العمليات التي تشكل نقيضًا للتحول السياسي والسلام، إذ استُخدمت هذه المصطلحات لتعطيل العمليات الديمقراطية وتأجيل الانتخابات، وتعزيز جهود النخب السياسية الرامية إلى الحفاظ على الوضع الراهن، وتخفيف مظالم المواطنين، دون أي نية حقيقية للتصرف إزاء المخاوف التي أعربوا عنها، وفق المعهد.
أي مؤتمر يريده السوريون؟
كما في معظم الموضوعات التي تقرر مصير الشعوب، لا يتفق السوريون على اختلاف تخصصاتهم وخلفياتهم على شكل واحد للمؤتمر الوطني، فيما يتفق الخبراء على عدة معايير واجبة تضمن عدم إغراق البلاد في الفوضى.
ربما يجعل تعقيد الحالة السورية تحديد شكل وطبيعة المؤتمر أصعب، كما أن أولويات المخرجات تتصارع في ظل وجود ملفات ملحّة ينبغي البت فيها أهمها العدالة الانتقالية، والدستور، وتعيين الحكومة الانتقالية وحتى إجراء الانتخابات الرئاسية في ظل غياب الأحزاب السياسية التمثيلية لمختلف مكونات الشعب.
بناء المؤسسات ثم المؤتمر
الخبير الاستراتيجي والباحث في شؤون الحوكمة الدكتور باسم حتاحت، قال لعنب بلدي، إن المهام المقبلة تقع على مسؤولية المؤسسات السورية، معتبرًا أن النظام السابق حوّل سوريا من دولة مؤسسات إلى دولة فروع مخابرات، ما يفرض الحاجة القصوى حاليًا للعمل على إعادة تأهيل هذه المؤسسات لتشارك بهذا المؤتمر الوطني الذي سيحمل مشروع سوريا المقبل.
وأوضح حتاحت أن المؤسسات المقصود إعادة تأهيلها حوكميًا، هي مؤسسات المجتمع المدني السوري الذي يتألف من نقابات واتحادات وهيئات ومنظمات رائدة قديمة قدم الدولة السورية.
عندما تشارك هذه المؤسسات الناظمة في الدولة بالمؤتمر الوطني سيكون مؤتمرًا وطنيًا نوعيًا بسبب تنوع المشاركة بين أصول المجتمع المدني السوري.
لذلك المطلوب حاليًا من حكومة دمشق المؤقتة إعادة تأهيل المجتمع المدني، ثم الدفع للانخراط في بناء الدولة الحديثة التي ستبنى في إطار دولة المؤسسات، بحسب حتاحت.
ويرى حتاحت أن أهم ما سيكون ضمن المؤتمر ليس مخرجاته، بل الموضوعات التي سيناقشها، مقترحًا أن يبنى مشروع تجري مناقشته هو “مشروع الدولة السورية الحديثة” ينقسم إلى ثلاثة أقسام.
يمثل القسم الأول من المشروع بناء البنية التحتية الإدارية للدولة، والقسم الثاني إعادة البنية التحتية لكوادر الدولة، ثم ثالثًا إعادة تفعيل برامج الدولة الاقتصادية والاجتماعية والعلاقات الدولية والمجتمع المدني والسياسي، وغيرها من القضايا.
غموض.. مشهد معقد
أستاذة العلوم السياسية في جامعة “لانكستر”، الدكتورة رهف الدغلي، تعتقد أن من المهم بداية شرح غاية هذا المؤتمر المنعقد بشكل واضح، وهل سيكون للحوار على شكل الدولة المستقبلي أو لوضع الخطوات والرؤية للتمثيل الحالي في حكومة تصريف الأعمال أم لمناقشة خطوات الانتقال لحكومة انتقالية بعد انتهاء مدة الثلاثة أشهر لحكومة تصريف الأعمال.
وقالت الدغلي، في حديث إلى عنب بلدي، إنه لا بد من وجود إيضاح أو تواصل شفاف لفهم ما هي الغاية المرجوة من هذا المؤتمر.
باعتقادي من المهم تسليط الضوء على أن انعقاد مؤتمر وطني بعد انتهاء الحرب له رمزية مهمة في عملية الانتقال السياسي وبناء سردية لهوية وطنية تعكس تطلعات الشعب السوري بمكوناته كافة.
وترى الدغلي أن المؤتمر الذي تجري المحادثات بشأن انعقاده قد لا يجيب عن جميع هذه الأسئلة، ولا يمكن أن يكون كذلك لتعقيدات المشهد السياسي والإقليمي.
وتعتقد الدغلي أنه لا يمكن عقد مؤتمر وطني والمشهد العسكري لا يزال غير منضبط في ظل دعوات لحل الفصائل والدمج، فخطوات هذه الفصائل ليست واضحة في حل نفسها وقبولها بتسليم السلاح، وهذا الكلام ينطبق على السلاح الموجود في السويداء والجنوب السوري وشمال شرقي سوريا، وليس فقط فصائل “الجيش الوطني” المدعومة تركيًا.
من المهم أن نكون دقيقين في تطلعاتنا لهذا المؤتمر ومسمياته، لذلك من الأفضل أن يطلق عليه اسم مؤتمر تحضيري، ومن الواجب أن يتضمن انتخاب لجنة تحضيرية تكون مسؤولة عن الدعوات لمؤتمر وطني بعد فترة تقارب ثلاثة أشهر، إذ من الخطأ تسمية المؤتمر المزمع عقده بأنه وطني، إذ يجب أن يسبقه تمهيد جيد وغايات واضحة قبل عقده، وهذه العناصر كلها غير موجودة، وفق الدكتورة رهف الدغلي.
قائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع خلال اجتماع مع رجال الأعمال والصناعيين من مدينتي حلب وإدلب – 28 كانون الأول 2024 (القيادة العامة)
قائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع خلال اجتماع مع رجال الأعمال والصناعيين من مدينتي حلب وإدلب – 28 كانون الأول 2024 (القيادة العامة)
ممثل لكل جهة
الدبلوماسي السابق وكبير الزملاء في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية”، داني البعاج، قال إن تحديد ما يجب أن يخرج عن هذا المؤتمر من مقررات يفرض قضية الدعوات والأشخاص التي يجب أن تكون حاضرة فيه.
وأوضح البعاج، في حديث إلى عنب بلدي، أنه في حال كان هدف المؤتمر إطلاق أو إدارة المرحلة الانتقالية يفترض حضور ممثلين عن التكنوقراط بالإضافة إلى ممثلين عن جميع القوى السياسية والمجتمعية السورية التي تستطيع أن تكون حاملًا اجتماعيًا وسياسيًا لهذه المرحلة الانتقالية.
بينما في حال كان المؤتمر هدفه جمع السوريين بهدف حضور الجميع فقط، قد لا ينبثق عنه أي نتائج تذكر، وبحسب تجارب سابقة مثل أفغانستان مثلًا، قد تتمخض عن مثل هذا النوع من المؤتمرات لجان تنفيذية تدير العملية الانتقالية وصياغة الدستور وغيرها من القضايا، بحسب البعاج.
في الحالة السورية اليوم هناك مكسبان، الأول قدرتنا على منع التدخل الدولي، والثاني القدرة على القيام بعملية انتقالية سورية بحتة بملكية وإدارة سورية، لذا لا يجب تغييب أي طرف سياسي موجود على الأرض ولديه أثر عن هذا المؤتمر.
وأضاف الدبلوماسي أن من الأجدى وللتوصل إلى نتائج حقيقية أن يكون المؤتمر مصغرًا بتمثيل حقيقي للقوى المجتمعية والسياسية والأحزاب الناشئة، على أن يكون لكل جهة ممثل واحد فقط، وبالتالي يتراوح عدد الحضور في المؤتمر بين 150 و200 شخص، منهم كفاءات تكنوقراط مشهود لها بتاريخ طويل في الإطار الدستوري أو السياسي أو الإداري.
ويتفق البعاج على ضرورة أن يوجد ضمن المؤتمر تمثيل واسع للمرأة، فعلى الأقل يجب أن تكون ثلث الحاضرات من النساء.
ما نذهب إليه في الواقع هو مؤتمر واسع جدًا، بحسب ما يجري تناقله عبر وسائل الإعلام، وهذا يعني أن المؤتمر سيعقد ومنه ستنبثق لجان تنفيذية، ولجان مصغرة، ولجان صياغة تشرح كيف ستكون الأمور خلال الفترة الانتقالية، بحسب البعاج.
أربعة مخرجات واجبة
من جهته، يرى الباحث السياسي ومدير الأبحاث في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية”، معن طلاع، أنه يجب النظر إلى المؤتمر الوطني المرتقب ليس فقط كاستحقاق سياسي، بل هو استحقاق سياسي قانوني دستوري وهو أيضًا أمني، لأن تبعات وتداعيات الفراغ أو عدم وجود التأطير الدستوري لسوريا الجديدة خطيرة. لذا يعد هذا المؤتمر حاجة وطنية وعلى سلم أجندة المرحلة المقبلة.
وأكد طلاع في حديث إلى عنب بلدي، أن الدعوة إلى هذا المؤتمر ضرورة لتأطير هذه القضايا والحفاظ على وحدة الأراضي السورية واتخاذ إجراءات أكثر حزمًا في قضية الضبط الأمني للبلاد.
من حيث المعايير الفنية للدعوات، يجب أن يكون المؤتمر معبرًا عن النسيج الاجتماعي السوري، وهنا يوجد معياران لذلك، الأول المعيار الجغرافي والإثني، والثاني معيار الهيئات والتشكيلات السياسية المعبرة عن هذه المناطق.
ويرى معن طلاع أن وضوح أجندة المؤتمر لن يفرز تغييرات كبيرة، لكن يمكن اعتبار ذلك نقطة بداية في مسيرة نقاش مستمرة وتحتاج إلى توفر بيئة ليكون نقاشًا سليمًا وصحيًا.
سيبقى موضوع المؤتمر الوطني المقرر عقده محل نقد مستمر، لأنه توجد أطر نظامية لتشكيل حوار كهذا، لا يبدو أنها موجودة اليوم، على رأسها يفترض وجود لجنة تأسيسية تقوم بوضع معايير حضور هذا الحوار وغيره.
الباحث السياسي معن طلاع
يجب أن تخرج عن هذا المؤتمر وفق ما يرى طلاع أربع قضايا رئيسة، أولاها تعديلات دستورية أو إعلان دستوري مؤقت، يمنح السلطة القائمة بعض الصلاحيات الدستورية التي تؤطر الملفات القانونية والقضائية.
كما يمكن إعلان حل حزب “البعث” باعتباره الجهة الأكثر تسلطًا في الدولة وفك ارتباطها عنه، كما يمكن أن يدعو المؤتمر إلى لجان تأسيسية تناقش فيها قضايا عدة على رأسها البرنامج الوطني للمحاسبة والعدالة الانتقالية وسلسلة الإصلاح القانوني فيما يتعلق بقانون الأحزاب والانتخابات.
ويفترض أن تجري في المؤتمر الدعوة لاستمرار النقاش في وضع آليات ومعايير عمل الحكومة الانتقالية التي ستبدأ عملها بعد آذار 2025 وفق المعلن عنه.
بنية تحتية غير مجهزة
محمد العبد الله مدير المركز السوري للعدالة والمساءلة
لا شك أن الحوار الوطني ضرورة وخطوة ثانية، لكن المعطيات الحالية في سوريا لا تشكل بداية جيدة له، ويمكن وصف ما يحصل بأنه نكوص أو ارتداد أو تراجع سياسي، ولا توجد أي خارطة سياسية واضحة.
يوجد احتكار للتمثيل السياسي من قبل شخصيات “هيئة تحرير الشام”، التي تصر على دعوة الشخصيات الوطنية إلى مؤتمر الحوار كأفراد، وليس ككتل سياسية أو حزبية أو قوى مجتمع مدني، وبذلك تسلب قوى حقيقية وطنية من المشاركة على شكل كتل سياسية، وبالتالي تجردها من وزنها وزخمها.
الاستمرار على هذه الحالة سيحول دون السماح للكتل السياسية بالدخول والمشاركة ككيانات، ويجعل قسمًا كبيرًا من الشعب السوري يتحصن خلف طوائفه وأجسامه الدينية ومجتمعاته العشائرية، ويحتمي بصيغ ما قبل الدولة.
نحن أمام استحقاق وطني كبير لا يمكن تنفيذه بهذه الطريقة، ولا يمكن فرضه على السوريين، المؤتمر ليس فقط لشرعنة التحول الديمقراطي السوري، فالتحول حصل ونظام الأسد سقط، لكن يبدو أنه شرعنة لسيطرة “تحرير الشام” على السلطة اليوم، ومحاولة لفرض سلطة أمر واقع في سوريا.
المرحلة الحالية أصعب مما مضى، ولا بد من الشفافية، وتعيين أسماء بالعلن سواء للجنة التحضيرية، وغيرها من الهيئات والتعيينات السياسية، فهناك قسم كبير ممن عينهم أحمد الشرع غير ملتزمين بالديمقراطية، ونحن أمام استحقاق وطني تنعدم فيه الشفافية، ولا معلومات فيه، في محاولة لفرض شيء ما على السوريين.
حاليًا، توجد عدة مشكلات، منها أن “تحرير الشام” بدأت بإقرار نقاط سيادية أكبر من دور حكومة انتقالية، دون العودة للشارع السوري، وتحاول استخدام مؤتمر الحوار الوطني لتفرض على الشعب السوري نوعًا من التفويض لها.
فكرة جمع ألف شخص في قاعة ليومين دون تحضير وإعداد أوراق وأفكار مسبقًا وطرحها ومناقشتها هي فوضى، وفي حال كان المؤتمر وطنيًا، ما إمكانية إشراك عدة أطياف ومكونات منها حزب “التحرير” الذي هو على خلاف مع “هيئة تحرير الشام”؟ وماذا عن مكونات من الطائفة العلوية التي تعرضت لبعض الانتهاكات مؤخرًا؟
عنب بلدي
—————————–
بيروت- دمشق: متى تُقرع الاجراس؟/ ساطع نورالدين
يناير 5, 2025
عندما أعلن حزب البعث فور وصوله الى السلطة في سوريا في ستينات القرن الماضي، “الثورة على الحدود” بين الأقطار العربية، إفتتح عهده بإقفال الحدود مع لبنان. لم يكن الحزب يومها يلتزم بأهم شعاراته، أي تحقيق الوحدة العربية التي عجزت عنها الثورة الناصرية، بقدر ما كان يؤكد أن الشقيق اللبناني الذي يخوض غمار تجربة ليبرالية سياسية واقتصادية “متفلتة”، استقطبت البرجوازية السورية، وعناصر الثورة المضادة على الحكم البعثي، هو أبرز تحدٍ يواجه أي حاكم لدمشق، يقرأ التاريخ المدرسي، ويرفض التسليم بالانسلاخ، أو بالاحرى الاستقلال اللبناني عن بلاد الشام.
وطوال العقود الستة الماضية، ترجم النظام الاسدي ذلك التحدي البعثي الى خريطة طريق إستراتيجية ونهج سياسي ثابت، ركز على تحويل لبنان من منصة سياسية لتهديد سوريا، الى محمية أمنية للدفاع عن أمنها واستقرارها الداخلي، حتى ولو اقتضى الامر تفجير الداخل اللبناني بالحروب الاهلية، المبنية أولا على تهجير المقاومة الفلسطينية من جبهة الجولان، التي كانت خيار القيادة الفلسطينية الأول بعد الأردن، الى جبهة جنوب لبنان، التي كانت ملاذها الأخير.. ثم العمل في مرحلة تالية الى التلاعب بالتوازن اللبناني الطائفي الهش، مع ما رافق ذلك من معارك أهلية كانت تدار من دمشق أكثر من عاصمة عربية أو أجنبية أخرى، ومن تصفيات لقوى سياسية لبنانية واغتيالات متلاحقة لشخصيات لبنانية مناهضة للهيمنة السورية..
وتحت شعار “الحفاظ على وحدة لبنان وعروبته وتطوره الديموقراطي”، فظّع الحكم الاسدي بالكيان اللبناني، ولم يرحم أحداً من اللبنانيين، سوى الراكعين له. كان اتفاق الطائف الشهير، مجرد هدنة مؤقتة أجبرت الأسد الأب والإبن، على الاعتراف بشرعية الدولة اللبنانية..الذي سرعان ما سحبه بواسطة الموجة الجارفة من الاغتيالات في بيروت، في مطلع القرن الحالي، قبل ان يخرج من لبنان ويغرق في مواجهة أكبر ثورة شعبية سورية، بمرافقة آخر حلفائه اللبنانيين، “حزب الله” الذي ظل يقاتل معه حتى الرمق الأخير، بعدما ساهم قتاله في تأجيج الصراع التاريخي بين البلدين والشعبين..الذي لم تتمكن المعارضات السورية على اختلاف تلاوينها وتشكيلاتها من مقاربته يوماً بشكل مختلف عن المقاربة الاسدية، إما لأن تحديات الثورة السورية كانت أكبر من أن تفسح المجال لنقاش هادئ حول العلاقات اللبنانية السورية، وإما ببساطة لأن تلك المعارضات المتنوعة كانت ولا تزال تحمل، بطريقة أو بأخرى، الإرث الاسدي في التعامل مع لبنان.. وتلقي خطيئة “حزب الله” على اللبنانيين جميعاً.
عندما كانت الثورة السورية توشك على الإطاحة ببشار في العام 2014، وفي لقاء خاص في عاصمة السلطنة، إسطنبول، رد المراقب العام الاسبق لحركة “الاخوان المسلمين” في سوريا محمد رياض الشقفة على سؤالي المباشر عما تفكر به المعارضة السورية تجاه لبنان، بإبتسامة صادقة، قبل ان يمضي بالقول: “ربما نحقق ما عجز البعث عن تحقيقه..”. كانت الإجابة تقصد فعلا السخرية ب”البعث”، الذي طمح للوحدة بين البلدين. مثلما كانت تنم عن أنه ليس هناك ملف لبناني خاص على جدول أعمال المعارضين السوريين. وهو ما أثبتته الأيام، وظل لبنان حبيس الذاكرة السورية، التي أقفلها نظام الأسد على واحدة من أسوأ تجارب الانفصال بين “شعب واحد في دولتين”.
الانقلاب الإسلامي الذي أطاح بالاسدية وكنس معالمها التي ظلت جائمة على صدور السوريين لستة عقود، لم يقدم أي دليل حتى الآن على أنه سيحرر الشعب السوري، واللبناني طبعا، من تلك الذاكرة، بل أرسل إشارات معاكسة الى حد بعيد. كانت الكلمة الابرز للحاكم الجديد لدمشق، أحمد الشرع: “لن نتدخل في الشأن اللبناني”.. تختزل الماضي الاسدي بقدر ما تنفيه. مع أن الحدود تشهد على التدخل العقابي الموروث. ولم تتبعها على سبيل المثال، كلمات شكر على الأقل الى الجمهور اللبناني العريض الذي قارع الاسدية لستة عقود مضت، وشارك ضمناً في زوالها، أو كلمات أخوة ومودة خاصة، بين الشعبين والبلدين والنظامين اللذين لن تفرقهما الأيام.. مهما اختلفت الخيارات السياسية والاقتصادية التي لن تكون أقوى من القرابات الاجتماعية العميقة.
لا تبدو الصورة واعدة، عندما يقفل الحكم الجديد في دمشق معابر الحدود أمام اللبنانيين الى سوريا للمشاركة بفرحة الخلاص من الاسدية، وعندما يغيب عن جدول أعمال الحكام السوريين، إرسال موفد رسمي منهم الى بيروت، لفتح الباب الأقرب الى العاصمة السورية، على التقارب والتعاون والتفاعل، في الوقت الذي يجول فيه الموفدون السوريون بقية عواصم العرب..التي لن تعوضهم عن العاصمة اللبنانية، مهما طال الزمن.
بيروت في 5/1/2025
————————-
أسئلة ما بعد سقوط نظام الأسد/ إيناس حقي
05-يناير-2025
مطلع الشهر القادم، تمر اثنتا عشر عامًا كاملة على خروجي من سوريا، قضيتها كلها في رحلة مضنية في سبيل الاستقرار. كانت السنوات الأولى هي الأقسى والأصعب؛ سنوات الاقتلاع وفقدان الوطن وكل ما هو مألوف، وسنوات التأقلم مع حياة جديدة كليًا في بيئة مختلفة. ولعل أكثر ما كان يدفع إلى تقبل هذه السنوات هو إحساس بالذنب لا بد أن يغمرنا حين نكتشف أننا الأقل تألمًا، وأننا في أوضاع يُحسد عليها، بينما يعاني أهلنا في كل مكان أضعاف ما نعانيه.
مع وصولي إلى فرنسا، قرأت مقالة عن مقابلة الرئيس الفرنسي حينها، فرانسوا هولاند، لمجموعة لاجئين سوريين نصح فيها اللاجئين بالعمل على الاندماج سريعًا في مجتمعهم الجديد، مع الحفاظ على فكرة العودة إلى الوطن في الوقت نفسه. أتذكر أنني سألت نفسي حينها: كيف أندمج في فرنسا وأعمل وتصبح حياتي هنا، فيما أفكر في العودة وأنتظرها؟ يشبّه باحث اجتماعي المنفى بـ”العتبة”، إذ يرى أن المنفي يترك منزلًا قديمًا ويحاول الانتقال إلى منزل جديد، لكن كثيرون يبقون عالقين في العتبة بين المنزلين، ويعجزون عن اتخاذ تلك القفزة التي تسمح لهم بدخول المنزل الآخر.
عاهدت نفسي في حينها ألا أبقى عالقة، وأن أقفز نحو حياتي الجديدة مفترضةً أنها حياتي القادمة وأنها ستستمر لبقية العمر. رتبت حياتي في المنفى ببطء وبالتدريج، وعملت على تحقيق اندماج على طريقتي الخاصة، اندماج فرنسيٍ بقيت سوريا في صلبه. كنت أشارك في المؤتمرات والندوات والجلسات لكي أحدث الفرنسيين عن سوريا، محاولةً بقدراتي المحدودة نقل صوت الثائرين الذين يطالهم القصف والاعتقال والتنكيل.
في السنوات الأخيرة، حين بدأ اليأس يتسلل إلى قلوب المنفيين، أدركت أن الواجب يقتضي العمل معًا من أجل إسقاط النظام الأسدي، كل من مكانه وحسب إمكاناته، لا سيما من خلال التذكير الدائم بجرائمه المستمرة. ووجدت حينها أن حفظ رواية الثورة وإعادتها وتوثيق تفاصيلها من أهم الأعمال التي نستطيع القيام بها، وأصبحت عبارة كتبها علاء عبد الفتاح، الناشط المصري المعتقل، في كتابه “شبح الربيع”، هي بوصلتي: “لا تخجل السردية البديلة من الهزائم، فهي ليست قصة الأقوياء والمنتصرين”. وأصبحت على قناعة بأن عدم سقوط النظام لا يسقط عن الثائرين شرف المحاولة والاستمرار في الثورة.
فجأة، وبعد طول انتظار، سقط النظام الأسدي دون مقدمات، في عشرة أيام كنا نلهث فيها لنلتقط الأخبار، وننوس بين الفرح وعدم التصديق، انهارت كل أشكال الاندماج، وأصبح سؤال العودة ملحًا، وبدت كل الترتيبات التي اتخذتها بعد تفكير وتأن غير صالحة للمرحلة الحالية. بدأ الأصدقاء يناقشون ترتيب حيواتهم بشكل مختلف، وأصبح البلد المضيف ذا معنى مختلف، وخاف الأبناء والبنات الذين لم يعرفوا بلادًا سوى المنفى من اندفاع أهلهم وحماسهم لفكرة العودة.
واقعيًا، وجد اللاجئ نفسه أمام أسئلة مصيرية: هل يهدر سنوات الاندماج ويعود إلى وطنه ليبني حياته مرة أخرى من الصفر؟ كيف يعود اللاجئ ولا دخل له سوى عمله اليومي في المنفى؟ أين سيسكن العائدون في ظل خسارتهم لبيوتهم في الوطن؟ كيف ينهون حياة ترتبت لتستمر؟ كيف سيتأقلم أولادهم الذين لا يتحدثون العربية؟ هل تحتمل البنى التحتية السورية عودة كل هؤلاء دفعة واحدة؟ هل على اللاجئ التخلي عن لجوئه؟
إلى حين الإجابة عن كل تلك الأسئلة، وهي عملية تحتاج إلى وقت وتأنٍ لا تتيحها غلبة العواطف والأشواق، يلح عليّ سؤال يسبق العودة. أشعر أنني طوال اثني عشر عامًا، وضعت نصب عيني هدفًا واحدًا، وخصصت كل وقتي للتفكير فيه والسير نحوه، وهو سقوط النظام. فما الذي يمكنني فعله اليوم وقد تحقق؟
يبدو أننا اليوم أمام عدة خيارات: الأول اعتبار أن زمن الثورة انتهى، وأن الهدف منها تحقق، وأن الوقت قد حان كي نرتاح ونلتفت لحياتنا الشخصية. أما الخيار الثاني، فيصب في تغيير الهدف من إسقاط النظام إلى بناء الدولة، والعمل يوميًا من أجل تحقيق أهداف الثورة الأخرى في دولة مدنية ديمقراطية عادلة، لا تقبل إلا بتداول السلطة. أما الخيار الثالث، فهو الاشباك الأبدي مع السلطة ومعارضتها ورفضها والاستمرار في فكرة الثورة إلى ما لا نهاية.
في نظري، يبدو الخيار الثاني الأكثر منطقية وعقلانية، لكنه في المقابل يتطلب المزيد من صب العمل والطاقة في سبيل تحقيقه، وإن كان إسقاط النظام قد كشف لنا شيئًا، فهو أننا استُهلِكنا، وأن التعب بدأ يتسلل إلينا بعد سنوات طوال أبينا فيها الاعتراف بالضعف أو بالكلل.
لا يمكننا بطبيعة الحال وخلال شهر واحد أن نجيب عن كل التساؤلات، ولا أن نرسم حياتنا الجديدة في ظل عودة وطن كنا نعتقد باستحالة العودة إليه. لكن إلى أن نجد الإجابات، على مهل، يكفينا أن نتذكر أننا حلمنا يومًا، وتخيلنا بلدنا بلا أسد، وعملنا وفكرنا معًا، ووحدنا طاقاتنا، فنجحنا وسقط الأبد.
الترا صوت
————————
الحرية بوصفها فرصة لتجديد العقد الاجتماعي السوري/ راشد إبراهيم
03-يناير-2025
تجد سوريا نفسها اليوم عند مفترق طرق بعد سنوات من الحرب والتدمير والفناء المادي والمعنوي. لم تكن سنوات الدم واليأس السابقة انعكاسًا لصراعات سياسية أو اقتصادية وحسب، بل كانت أيضًا نتاجًا لتراكم طويل من الفشل في إدارة الدولة والمجتمع. وعلى هذا لا يمكن اعتبار سقوط النظام إلا فصل جديد للتحدي السوري التاريخي، الذي ينبغي علينا جميعًا أن نجيب على أهم أسئلته: هل يمكن أن تتحول الحرية المكتسبة إلى فرصة حقيقية لإعادة بناء الوطن؟ أم أن الماضي بكل أعبائه سيظل يطارد الحاضر والمستقبل؟
بنى نظام الأسد الأب اقتصاده، منذ سبعينيات القرن الماضي، على موارد ريعية محدودة مثل النفط والزراعة، مما مكنه من تحقيق نمو اقتصادي سريع خلال العقد الأول من حكمه. ثم توسعت الدولة في تأميم المؤسسات الاقتصادية والسيطرة المركزية بطريقة أدت إلى استنزاف الموارد. ومع دخول عقد الثمانينيات من القرن نفسه، أدى انخفاض أسعار النفط وتراجع المساعدات الخارجية إلى كشف هشاشة البنية الاقتصادية، حيث عانت البلاد من تضخم وبطالة مرتفعة.
في التسعينيات، مع تحول العالم إلى اقتصاد السوق، حاولت سوريا أن تتبنى بعض الإصلاحات، لكنها كانت خجولة ومحدودة بسبب مقاومة النخبة الحاكمة لكل ما يمكن أن يهدد مصالحها.
على هذا كله يمكن القول إن الانهيار الاقتصادي السوري لم يكن نتيجة ضعف الموارد فقط، بل كان انعكاسًا لعقلية إدارة ترى في الدولة مجرد أداة لتكريس الهيمنة السياسية.
أدى غياب الرؤية التنموية الشاملة وافتقار التخطيط الاقتصادي إلى الكفاءة إلى خلق اقتصاد يعتمد على الإنفاق العام العشوائي، مع تجاهل الاستثمار في القطاعات الإنتاجية طويلة الأمد. هذه الاختلالات البنيوية جعلت سوريا عرضة للأزمات بمجرد حدوث تغييرات في السياقات الإقليمية أو العالمية.
ومع الأخذ بعين الاعتبار أن هذا كله كان يسير إلى جانب فساد عميق شمل كل مناحي الحياة، إلى درجة وصول البلد إلى مستوى مأساوي من الفقر وغياب الخدمات، ومع سقوط النظام ظهر الوجه الحقيقي لإرث الفقر المدقع وتدمير البنية التحتية وخذلان الإنسان السوري.
ولعل أهم ما يمثله هذا السقوط هو أنه يشكل فرصة لإعادة بناء اقتصاد يعتمد على رؤية مستدامة. لهذا فإن إعادة الإعمار تحتاج إلى خارطة طريق واضحة، تشمل تحسين البنية التحتية وبناء مساكن جديدة تُلبّي احتياجات السكان، مع ضمان إشراك السوريين أنفسهم في هذه العملية لتعزيز الشعور بالملكية، كما تتصلب تحفيز الاستثمار من خلال تقديم ضمانات للمستثمرين بحماية أموالهم من أي تدخل سياسي أو أمني.
لا يمكن لأي خطة لإعادة الإعمار أن تنجح دون تحقيق العدالة الاجتماعية. لهذا يجب أن تتم معالجة التفاوتات الاقتصادية التي تعمقت خلال العقود الماضية، والتي استفادت فيها النخب المرتبطة بالنظام من موارد الدولة، وعلاجها يكون من خلال إعادة توزيع الثروة وضمان حقوق الفئات الأكثر ضعفًا.
أما الزراعة، التي تشكل شريان الحياة للسوريين، فهي لا تزدهر إلا في ظل استراتيجيات طويلة الأمد، تشمل تحسين أنظمة الري وتوفير الدعم المباشر للمزارعين. وبالتوازي مع ذلك، ثمة أهمية كبرى في سوريا الجديدة لإصلاح النظام الصحي، عبر بناء مستشفيات جديدة أو إعادة تأهيل المستشفيات المدمرة، وعبر توفير المعدات الطبية اللازمة لضمان خدمات صحية شاملة. إلى جانب دعم الكوادر الطبية ببرامج تدريب للأطباء والممرضين، وتشجيع الكفاءات الطبية السورية في الخارج على العودة.
من الملفت للانتباه أن مدينة دمشق، كما تظهر في الصور الجديدة بعد الحرية، تبدو وقد تحولت إلى رمز للإنهاك والتعب، ولم تعد كما كانت من قبل رمزًا للثقافة والحضارة، ولهذا تطرح علينا صور دمشق ضرورة التفكير بالمدن السورية المنهكة والمتعبة والتي تغيب عنها مختلف الخدمات، كما أنها تفتقد لكل المرافق الحيوية.
لا تقتصر إعادة بناء المدن السورية على المباني، بل هي فرصة لاستعادة هوية هذه المدن كمراكز للثقافة والحياة الاجتماعية. يمكن أن تصبح دمشق وحلب وحمص نماذج لمدن حديثة تعكس تطلعات السوريين في الحرية والمساواة، مع التركيز على خلق بيئة مستدامة تحترم التراث الثقافي والحضاري.
من هنا، تتطلب هذه المرحلة الحساسة قيادة حكيمة، واستراتيجيات تضع مصلحة الشعب في المقدمة، في مقدمتها تتجاوز إرث الفساد والقمع في النظام السابق.
ليس ثمة خيارات كثيرة، فإما أن تتبنى سوريا نهجًا يعيد بناء الدولة على أسس العدالة والمساواة والشفافية، أو أن تغرق في الفوضى والانقسامات. أمران لا ثالث لهما: النهوض أو السقوط في الظلام.
والنهوض الذي نتحدث عنه لا يمكن أن يحدث إلا مع دولة موحدة، تنبذ الطائفية وتعتمد على العدالة والمساواة كأساس للحكم. وبهذا المعنى فإن الأصح أن إعادة البناء ليست فقط عملية اقتصادية أو سياسية، بل هي فرصة لتجديد العقد الاجتماعي بين السوريين.
العقد الاجتماعي الجديد يجب أن يعكس تحولات عميقة في الوعي السوري العميق. وهذا يتطلب ضمان شراكة متوازنة بين الدولة والمجتمع، حيث يلعب المواطن دور الشريك في صنع القرار. بناء هذا العقد يتطلب حوارًا وطنيًا شاملًا يضم جميع الأطراف السياسية والاجتماعية، مع التزام حقيقي بالعدالة الانتقالية لتعزيز المصالحة بين مكونات الشعب السوري.
———————-
خطة طريق/ نادر جبلي،
بخصوص مسألة الأقليات وحماية الأقليات،أضع هنا فقرتين من محاضرة لي ألقيتها في ندوة أقامتها منظمة “سوريون مسيحيون من أجل السلام” في باريس بمناسبة الذكرى الرابعة أو الخامسة للثورة السورية، وحول نفس الموضوع، وبحضور عدد كبير من الفرنسيين والأوروبيين:
أقتبس من المحاضرة ما يلي:
” إن الحديث المكرور عن مخاطر تهدد الأقليات بسبب أكثرية سنية شريرة تتربص بهم، هو حديث ينطوي على قدر كبير من النفاق وقلة الوجدان والأخلاق، لأنه يتزامن مع رخصة دولية لنظام مجرم وحلفاء لا يقلون إجراما، بتنفيذ أكبر عملية وقتل وتهجير وتدمير عرفها التاريخ منذ عقود، بحق هذه الأكثرية. فهل أبناء الأقليات من البشر الذين تستوجب حمايتهم، وأبناء الأكثرية من البشر الذين يحل ذبحهم؟..”
“إن حماية الأقليات لا تستقيم بتحطيم الأكثرية وإذلالها، لأن ذلك يضاعف حجم الخطر على الأقليات مئات المرات، بينما يفترض أن يكون الشرط الطبيعي والرئيس لحماية الأقليات هو وجود أكثرية واثقة ومطمئنة ومحفوظة الكرامة. وسأستغل هذا المنبر لأطالب أصدقائي الفرنسيين والأوربيين بالعمل الفوري على حماية الأكثرية السنية في سوريا لأنها هي من يتعرض للعنف والتجويع والتهجير والإبادة، ففي ذلك انتصار لقيم الإنسانية ومبادئ حقوق الإنسان أولا، وفي ذلك مدخل رئيس لاستقرار وأمان باقي الأقليات ثانيا، وفي ذلك إطفاء لشرور مستقبلية مستطيرة لن يسلم منها أحد، حتى من الأوربيين..”
انتهى الاقتباس
طبعًا هذا الكلام قيل حين كان الأسد وحلفاؤه يمعنون في الشعب السوري قتلًا وتدميرًا، أما الآن فأقول الآتي:
– للأوربيين أقول: أنتم من ساهمتم في صناعة هذه الأزمة وتزكيتها منذ قرن ونصف تقريبًا، عندما ضعُفت السلطنة العثمانية وأردتم التدخل لتمزيقها والاستيلاء على تركتها، وكان سبيلكم إلى ذلك هو ذريعة حماية الأقليات، ثم تابعتم هذا النهج عندما استعمرتم بلادنا، واستخدمتم ذريعة حماية الأقليات لتفكيك المجتمع والسيطرة عليه، ثم عندما تغاضيتم، بسينيكية موصوفة، عن مجازر وكوارث ألحقها نظام مجرم، بلونه الطائفي، مستعينًا بميليشيات طائفية أجنبية، بالمجتمعات السنية وحواضرها، وخلق هذه المظلومية الكبيرة لديهم. والآن عليكم التوقف عن هذه اللعبة القذرة والمكشوفة، والتعامل مع السوريين كلهم كشعب يريد الحياة الكريمة ويريد بناء دولة ومؤسسات تحترم حقوقه وحرياته وتوفر له شروط التطور والازدهار.. والتركيز على قضايا الحقوق والمواطنة لجميع السوريين، فهذا هو الطريق الأسلم والأبقى لحماية من تريدون حمايتهم..
– وللسلطة الجديدة أقول: أزمة الأقليات قائمة وخطيرة فعلًا، ومخاوف وهواجس الأقليات تضاعفت بوصولكم إلى السلطة، بحكم الإيديولوجيا السلفية الجهادية التي تعتنقونها، والتي لا تقبل المختلفين، وبحكم تاريخكم القريب في حكم إدلب، وبحكم بعض الممارسات التي يرتكبها بعض رجالكم على الأرض والتي تنظر إليها الأقليات على أنها تعبير عن حقيقة ما تفكرون به، وما ستفعلونه عندما تستقر الأمور لكم، فهذه الممارسات تضعف كثيرًا من مصداقية الكلام الطيب والمطمئن الذي تطلقونه حول الموضوع. لذلك أتمنى عليكم، إذا كنتم من أصحاب النوايا الطيبة، وهذا ما أعتقده، أن تقوموا بالآتي:
1. المسارعة بتقديم التطمينات للجميع، لكن ليس بالطريقة المعهودة التي تخيف أكثر مما تُطمئِن (لن نؤذيكم، سنعطيكم حقوقكم، سنحميكم..) فهذه الطريقة تقول بشكل غير مباشر لأبناء الأقليات أنكم أصحاب البيت، وأنكم من يقرر العطاء والعفو والتسامح ويمنح الحقوق ويحجبها، والآخرون مجرد ضيوف يتمتعون بما تجودون به فقط.
التطمينات التي أقصدها هي التي تقول لجميع السوريين أنهم متساوون في المواطنة وفي الحقوق والواجبات والفرص، وأمام القانون والقضاء ومؤسسات الدولة، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو العرقية.. وبغض النظر عن آرائهم ومواقفهم.. وبغض النظر عن جنسهم وثروتهم.. وأنه ليس في البلاد من هو صاحب بيت ومن هو ضيف، ومن هو أعلى مكانة من غيره..
2. المسارعة بتوضح رؤية القيادة وبرنامجها في إدارة المرحلة الانتقالية، وفي رؤيتها للتنوع السوري وإدارته.
3. المسارعة لإصدار إعلان دستوري، أو عدة مراسيم تنفيذية، تملأ الفراغ الدستوري والتشريعي لهذه المرحلة، وتضع النقاط على الحروف في كل ما يتعلق بالقضايا الهامة.
– وللنخب السورية أقول: دعونا نتعاون سويًا على:
1. محاربة الخطاب الطائفي والعنصري وخطاب الكراهية أيًا كان، ومحاصرة أصحابه.
2. توعية الناس بكل الوسائل المتاحة حول خطورة الانجرار وراء مقولة الأقليات وحماية الأقليات، خطورتها على الوحدة الوطنية من جانب وخطورتها الأقليات نفسها من جانب آخر.
3. تقديم المبادرات والأفكار للسلطات الحاكمة لدفعها لاتخاذ ما هو صحيح من إجراءات وقرارات تنزع فتيل الأزمة وتقطع الطريق على من يريد استغلالها، وهذا ما سيعزز شعبيتها ويرفع من قيمتها لدى السوريين.
وعذرًا على الإطالة
—————————
الترييف في سوريا ج٢ – نمطا الترييف، الانتماء والعقلية
Ahmad Nazir Atassi
اولا – الترييف حسب الانتماء الحضري
حاولت في البوست الماضي عن موضوع الترييف توضيح نقطة هامة في شرق المتوسط وهي ما يمكن ان يسمى بالانتماء الحضري والتنافس بين انتماءين، الانتماء الى مدينة سين واللنتماء الى بلدة عين. كان اساس هذا التوضيح اقتفاء الاثر التاريخي لمفهوم ابناء المركز الحضري (القرية او المدينة). في هذه الحالة يمكن فهم ترييف المدينة على انه “غزو” من يمكن اعتبارهم “ابناء قرية او بلدة” للفضاء الجغرافي والثقافي لمن يمكن اعتبارهم “ابناء المدينة او بلدة اخرى”. اي يمكن ان نتحدث مثلا عن “غزو” جسر الشغور للرستن مع انهما من نفس الحجم الحضري، وكلاهما في نظر حلب او حمص ريف. وفي نفس المنطق، يمكن الحديث عن غزو دوما لحمص مع ان دوما تنتمي بعرف الدمشقيين الى ريف دمشق وحمص بعرف الدمشقيين والحمصيين مدينة. وحاولت ان احاجج بأن حمص بدأت كريف في بداية القرن التاسع عشر لكنها تحولت في المخيال الشعبي السوري الى مدينة، مما يعني ان هذا الانتماء هو الى المركز الحضري (الى الاسم) وليس الى التصنيف (مدينة، قرية)
هذا المخيال له جذور تاريخية قديمة تماهي بين السكان وبين المدينة، اي انك اذا كنت حمصيا تسكن في دمشق فلن تكون ابدا دمشقيا، انها هوية عضوية لا يمكن التخلص منها، ستكون حمصيا كل حياتك. واذا كنت دومانيا يسكن دمشق فلن تكون الا دومانيا ولن تصبح دمشقيا ابدا. في هذه الحالة الانتماء الى الريف او المدينة هو مجرد تصنيف عنصري هوياتي. وهنا يصبح ترييف المدينة مجرد تهمة عنصرية يعبر من خلالها اهل مدينة ما (لا اعرف من جعلهم مدينة) عن رفضهم لسكان جدد يعتبرونهم غرباء ومن طبقة اقل، اي ريفية.
في سوريا لدينا ١٤ محافظة. وكل محافظة مبنية حول مركز حضري كبير ندعوه مدينة. وبالتالي فان تعريف الريف والمدينة موجود ضمن القانون السوري نفسه. المحافظة تسمى باسم المركز الحضري. والمنطقة ايضا تسمى باسم مركز حضري اصغر، والناحية تسمى باسم مركز حضري اصغر. هذا يعني انه بالقانون، لو كنت تتمي الى قرية صغيرة وتريد ان تقدم نفسك فستضطر الى الانتماء الى مركز الناحية، فاذا لم يعرفها محاورك فستنتمي الى مركز المنطقة، فان لم يعرفها محاورك فستنتمي الى مركز المحافظة. وهذا يضعك امام الموقف المزعج والسخيف حين تذهب الى الجامعة في دمشق وتقدم نفسك على انك حمصي، ليأتي حمصي آخر من مدينة حمص ليقول لك انك لست حمصيا اصيلا لانك في الحقيقة من ريف حمص. كل ما هو خارج المدينة التي تعطي اسمها للمحافظة هو ريف تلك المدينة، او ريف بالنسبة لها. انت مضطر بالقانون ان تكون من ريف حلب او ريف دمشق وان تتلقى اسئلة سخيفة من نوع “جوات السور” او “برات السور”. اي هل انت من اصل المدينة ام من ريفها (بالطبع في دمشق الحالة اعقد بقليل، لكنها تحمل نفس العنصرية).
وحتى الدولة لا تعترف بك في دفاتر النفوس الرسمية الا من خلال انتمائك الى حارة (خانة) معينة في بلدة معينة. وستبقى انت واحفادك الى ابد الابدين تنتمون الى تلك الحارة التي كانت موجودة في عام ١٨٦٠ عندما بدأت الدولة العثمانية بوضع دفاتر النفوس. والمصيبة هي ان السوريين لا يشعرون بان هذه الدفاتر ليست الا مأسسة لعنصرية طبقية قديمة مبنية على انتماء قديم الى مراكز حضرية بعينها. انت لست مواطنا في الدولة اذا كانت الدولة نفسها تعترف بانتماءات اقل، من الحارة الى المدينة والى المحافظة. واليوم يمكن لاي انسان في السويداء او حلب او القامشلي (-لو) ان يطالب بحكم ذاتي بناءا على اغلبية مزعومة على الارض، حيث تصبح تلك الارض “اراضينا” لمجرد ان نفوسنا فيها ولنا عليها اغلبية مزعومة حتى ولو كان نصف اهلها المزعومين يقيمون في مناطق اخرى بحكم العمل. هذه المنطقة كردية وتلك المنطقة درزية وتلك الحارة مسيحية وتلك المدينة سنية، القانون نفسه يخلق تلك الحالة ثم نحاول ان نبني دولة القانون والمواطنة ونخفق في كل مرة ونتساءل لماذا.
والمضحك في الموضوع انه من بين هذه المدن الاربع عشرة لم تكن الا دمشق وحلب وحماة بحجم وتركيبة سكانية تسمح لهم بادعاء اسم المدينة. البقية الباقية كانت مجرد بلدات صغيرة او حتى قرى. لقب المدينة هو لقب “ارستقراطي” نرحب به لانه يرفع طبقتنا الاجتماعية ويسمح لنا بالتنمر على من حولنا من الريف لانهم ريف بالقانون، لا بل هم ريفنا الذي نمتلكه ولا نعترف بالندية تجاهه. في هذه الحالة يصبح الترييف هو كل عنصر ثقافي يأتي به الغرباء ولا نرحب به. في الثمانينات قام فرع حزب البعث في حمص (معقل اهل الريف بنظر الحمصيين من جوا السور)، وهو مجموعة ابنية في وسط المدينة لا بد ان البعث استولى عليها، بدهن البناية باللون الازرق السماوي الفاتح. تذمر الناس من “ابناء حمص” الاصليين اصحاب نفوس المدينة بأن اللون فلاحي. نحن مدينة سنية محترمة نستخدم الالوان الغامقة الرجالية المهيبة مثل البني والرمادي، ولا نستخدم الالوان الفاقعة الطفولية النسائية مثل الازرق الفاتح والاصفر والاحمر التي تصبح ألوانا فلاحية. وهذه حقيقة، اذا ذهبت الى مركز المدينة في حمص فستجد ان الثياب الملونة مرتبطة بثياب المرأة الريفية ذات اللباس التقليدي المزركش بالالوان. حتى نساءنا لا يلبسن الملون في الفضاء العام.
مثال آخر مضحك على ترييف المدينة بهذا المعنى. في حصة التربية العسكرية في الثمانينات كان مدرب الفتوة يشرح فك وتركيب البندقية، التمرين الممل الذي اعاده ملايين السوريين. وعندما سأل المدرب احد الطلاب عن استخدام البندقية قال الطالب متذاكيا ومهرجا بسيطة استاذ، نأخذ الفشكة ونضعها في بيت النار ونضغط الزناد. ضحكنا جميعنا لان الفشكة هي الاسم العامي لطلقة البنديقية ذات الغرفتين (الجفت). لكن المدرب ولذهولنا بدأ يضرب الطالب بعنف شديد وغضب صارخا “فشكة يا ابن الكلب”. وانتهت الحصة وراح كل واحد الى شأنه. ذهبت يومها الى البيت وقصصت القصة على اهلي مذهولا من جنون المدرب. لكن ابي يومها شرح لي ان معنى فشكة في الريف (ريف حمص) هو قرص الجلة المصنوع من روث البقر. المدرب اعتقد ان الطالب يسخر منه، ولربما اعتقد ان الطالب ابن المدينة يسخر من اصوله الريفية. وبالنسبة للطالب الذي “اكل قتلة” ربما فهم لاحقا انه “دعس على طرف مدرب فلاح” من الذين غزوا المدينة من الريف بسبب حكم البعث.
وعندما اعلن الاخوان المسلمون ثورتهم عام ١٩٧٦ (الاعلان الاوضح كان عملية مدرسة المدفعية عام ١٩٧٩)، كان عنوانها طرد “النصيريين” من حكم دولة يعتبرونها حقهم بحكم اغلبيتهم، وربما ايضا بحكم كونهم ابناء مدن. واضافوا الى “النصيريين” الغزو الفلاحي “الضيعجي” البعثي للمدينة. هؤلاء الاغبياء تركوا كل تجاوزات المخابرات، كل التسلط البعثي، كل مظاهر حكم الفرد، ورسموا احقيتهم في الحكم حول موضوع الترييف وغزو ابناء الريف لفضاء المدينة واحقيتهم كأبناء مدينة سنيين باستلام الحكم. يومها جمع حافظ الاسد نقابتي العمال والفلاحين، معاقل البعث وابناء الريف، وقال “اطلبوا، سأعطيكم ما تريدون، فقط اوقفوا اضراب النقابات المهنية في المدن”. ويومها كانت باصات النقل الداخلي تنقل جحافل الفلاحين الى حمص وهم يهتفون (سمعتهم بنفسي) “حيدوا نحنا البعثية حيدوا، حافظ اسد بعد الله منعبدوا”. لا اعرف كيف جمعوا هؤلاء الفلاحين من حقولهم، لكن في النهاية استخدم النظام نفس العقلية الاخوانية، اي الانتصار لانتماء ريفي معاكس لانتماء ابناء المدينة. بالطبع كان يلوح في الخلفية الطرية تأميم الاراضي وتوزيعها على “من يعمل بها” (دون عقد ودون صك طابو) والتي فهمتها كل الاطراف على اساس مظلومية ابناء القرية تجاه ابناء المدينة. بالطبع تكلم البعث يومها عن صراع طبقي بين الفلاح والاقطاعي، لكنه كان في الحقيقة صراع هويات حضرية، واحدة تعتبر نفسها اعلى وتعتبر الاخرى الاخرى اوطى.
في الثمانينات تكاثرت الاشاعات في المدينة عن المسؤولين الجدد (القادمين من وراء البقر) الذين لا يعرفون كيف يأكلون بالملعقة ولا كيف يجلسون الى طاولة الطعام على الكراسي ولا كيف يتشطفون في المرحاض ولا كيف يغيرون جراباتهم المهترئة والنتنة ولا كيف يتعطرون بالعطور الغالية ولا كيف يصنعون كبة باللحمة والبرغل وليس بالبرغل مع الطحين (حتى تتماسك). ومن الطرف الاخر لا بد ان الحديث كان عن ابناء المدينة البرجوازيين العفنين، الاقطاعيين الذي سرقوا الاراضي، والمرابين الذي اعطوا الديون بالربا الفاحش، والملاك الذين اغتصبوا بنات الفلاحين وجعلوهن خادمات في بيوتهم، والتجار الذين يرفعون الاسعار كلما رأوا فلاحا يدخل الدكان، والمتعصبين الذي ينتمون الى الاخوان والذين يقتلون على الهوية. بالنسبة لهؤلاء كانت الاربعينات والخمسينات تمثل غزو المدينة للريف، بينما شكلت الستينات والسبعينات سنوات اخذ الثأر وترييف المدينة.
هذا النوع من الترييف سنراه اليوم ايضا. الثورة السورية كانت مرة اخرى، بعد ثورة البعث، ثورة الريف الذي تضخم واصبح مليونيا لكن لا زال يصنف على انه ريف. انه ريف المدينة الذي اصبح احياءا ضمن المدينة بعد ان توسع العمران، وريف المدينة الذي اصبح احياءا عشوائية نتيجة هجرة الريف للعمل في الدولة او المدينة، وريف المدينة الذي اصبح بلدان نصف مليونية واحيانا مليونية دون ان يتغير تصنيفها على انه ريف يستحق التهميش والازدراء. بعد مضي ثلاث عشرة سنة قد لا يهتم الناس الى ذلك لان كل تلك الاحياء والمدن اصبحت ركاما، لكن مثلا الساروت، ابن حمص العدية، ولد وعاش في حي البياضة الذي كان في السبعينات مجرد بيوت طينية وخياما يسكنها البدو في الشتاء. الساروت نفسه يتكلم لهجة تخلط البدوية بحمصية المدينة. وموهبته الفذة في تأليف الاشعار والاغاني ترجع الى اصوله البدوية الغنية بالاشعار. حي بابا عمرو الذي اصبح يتحدث به حتى الامريكان كان حيين، حي يسكنه اهل الضيعة الاصلية وحي يسكنه ابناء المدينة الذين عجزوا عن شراء بيوت في المدينة نفسها. وكذلك حي الوعر الذي كان ايضا مجموعة بيوت طين وخيام بدوية. حول دمشق، كان هناك فرق كبير بين ثورة جوبر او برزة “البلد” (الضيعة) وثورة الوافدين من اهل دمشق الذين جذبتهم الشقق الرخيصة.
ثانيا- الترييف حسب العقلية
لكن ماذا عن الترييف الذي نسمع به في مناطق اخرى من العالم ruralization. هل نحتاج لفهمه الى تعريف آخر للريف غير الذي شرحناه اعلاه؟ نعم اننا بحاجة الى تعريف مختلف للمدينة والريف. الانتماء هنا ليس الى جماعة (ابناء سين او عين) وانما الى عقليات تمثل نوعين من المراكز الحضرية: القرية الريفية والمدينة الكوزموبوليتانية. احتاج الى شرح هذه المصطلحات لانه في الحالة السورية يختلط النوعان من الترييف، ومن الصعب الفصل بينهما.
القرية الريفية هي مركز حضري يعتمد بالدرجة الاولى على الزراعة كنمط انتاج ونمط ثروة (كثير من الارض، قليل من الكاش)، ويفتقد الى مركز تجاري كبير ومركز بيروقراطي للدولة ومركز كهنوتي للدين ومركز تعليمي جامعي. ثقافته محلية لا ترتبط بالثقافة العليا التي تروج لها العاصمة، ولا يرتبط بالثقافة العالمية. ونمط مجتمعه هو النمط الابوي العشائري: سيطرة الذكر، تحالف ابناء العمومة، سيطرة التقاليد والتدين الشعبي. وثقافته السياسية غير مؤسساتية تتمحور حول العشائر والاعيان (المختار، رئيس فرقة الحزب، مدير المدرسة) الذين يعملون كوسطاء مع الحكومة في المدينة.
المدينة الكوزموبوليتانية هي المركز الحضري الذي يعتمد على التجارة والصناعة والخدمات كنمط انتاج ونمط ثروة (عقارات وكاش واستثمارات)، ويشمل مركز تجاري يربط السوق العالمية بالسوق المحلية، ومركز بيروقراطي لمؤسسات الدولة، ومركز كهنوتي لنشر التعليم الديني، ومركز تعليمي جامعي. ثقافته متوجهة نحو الثقافة العليا التي تنشرها العاصمة، وهو مطلع بشكل او بآخر على الثقافة العالمية. ونمط مجتمعه هو العائلة الصغيرة والافراد وعدد اكبر من مؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع المدني، مع عدد كبير من الباحثين عن عمل من جميع المناطق (سيطرة القانون وليس التقاليد، تحالفات مؤسساتية كالضمانات وليس التكافل العشائري، تدين متعلم وليس التدين الشعبي).
بالطبع نرى ان هذين النمطين من المراكز الحضرية نمطان مثاليان. هناك طيف واسع من القرى، بدءا من القرية القريبة من البداوة وانتهاءا بالبلدة التي تسير نحو التحول الى مدينة. وهناك طيف واسع من المدن، بدءا من القرية الكبيرة وانتهاءا بالمدينة ذات الملايين المتعددة. في سوريا، لا تزال المدينة تعتمد على التجارة اكثر من اعتمادها على الصناعة. سوق ادلب قبل الحرب لا يقارن بسوق حلب من حيث ارتباطه بالسوق العالمية. والتدين الشعبي منتشر في المدينة ايضا. ومجتمعاتها لا تزال ابوية تقليدية تقدس العائلة الممتدة. والجميع اليوم على ارتباط مع الثقافة العالمية عبر التليفونات الذكية والهجرة. والتعليم الديني الكهنوتي منتشر بأشكال مختلفة في الريف والمدينة.
من هذا المنطلق (احاول اتباع السمات نفسها اعلاه)، فان تمدين الريف هو انتقال نمط حياة المدينة الى الريف:
١. اتساع سوق المدينة ليشمل الريف،
٢. واتساع التعليم الجامعي ليشمل الجامعات الصغيرة والخاصة المتموضعة في الريف،
٣. وانتشار الهجرة والتوظيف بدل الزراعة،
٤. واتساع الشبكات المشيخية المدنية باتجاه القرى، وانتشار التعليم الديني المشيخي المتعلم،
٥. وارتفاع عدد السكان الى مستويات تفرض نمط العائلة الصغيرة ونمط التكافل المؤسساتي،
٦. واقامة المناطق الصناعية الكبرى في الريف وتحويل الفلاحين الى عمال،
٧. وزيادة الاعمار والتلوث وتقليص الاراضي المزروعة.
واما ترييف المدينة فهو انتقال عقلية الريف الى المدينة:
١. لا يمكن نقل اسلوب حياة الريف، الا في حدود العشوائيات والاحياء الفقيرة المتخمة بالمهاجرين الريفيين الباحثين عن عمل، وهذه تصبح خليطا من الريف والمدينة الفقيرة،
٢. انتقال الذائقة الفنية الريفية الى المدينة (ظهور انماط غنائية جديدة كانت مرتبطة تاريخيا بالريف مثل الموال والعتابا ورقص الدبكة)،
٣. تضخم الشبكات المشيخية المحلية (تنفصل عن مشيخة المدينة) في ضواحي المدينة وتحولها الى شبكات منغلقة على ذاتها (اعطتنا مليشيات الصدر في العراق، ومليشيات الدفاع الوطني في سوريا)
٤. انتقال عشائرية القرية وتحالف ابناء العمومة الى المدينة: تحويل المؤسسات (مثل الحزب والدولة) الى شبكات عشائرية او مناطقية كما رأينا تحت حكم الاسد، وتفادي الاعتماد على المؤسسات وتفضيل الوسائل الاهلية مثل المصالحة العائلية والتكافل العشائري
٥. التذمر الدائم من تفكك العائلة الابوية واخلاقياتها مما يفيد الاحزاب المحافظة والدينية
٦. تفضيل نمط السياسة التي تعتمد على القائد والشبكة بدل المؤسسة،
٧. عدم الاندماج في المدينة، وخلق مظلوميات تجمع بين الفقر والتهميش الاجتماعي
٨. ضيق الافق التكنولوجي خاصة في مجال الادارة والاقتصاد (تفضيل الولاء والاقتصاد المركزي) بسبب ضعف التنوع في التعليم وضعف الارتباط بالثقافة العالمية.
ونرى ان بعض هذه الاعراض قد تنشأ في المدينة ذاتها وخاصة مدينة شرق المتوسط التي تحتفظ بالتدين الشعبي وشبكة العائلة والثقافة المحلية (ثقافة الحارة) المنغلقة على ذاتها والاعتماد على التجارة الصغيرة.
كما نرى ان بعض هذه الاعراض تتغذى من اهمال الحكومة لسوق العمل والتعليم والاعمار والتكافل الاجتماعي، ومن تمركز مؤسسات الصناعة والدولة في المدينة وجذبها لعمال الريف دون ادماجهم في ثقافة المدينة.
ما اريد قوله هنا هو ان ترييف المدينة او تمدين الريف هو جزء من الحياة الحديثة، ونجد اعراضهما في جميع انحاء العالم، من البلدان الصناعية الى البلدان النامية. تمدين الريف موجود بكثرة في دول الغرب الصناعية. وترييف المدينة واضح في تكساس الامريكية وحتى باريس الفرنسية، بالاضافة الى القاهرة المصرية ونيودلهي الهندية.
بالنسبة للقادمين الجدد الى دمشق فسنرى بسرعة
١. العشائرية (الادلبية هذه المرة) وشبكة الولاء
٢. والتوجهات الدينية المحافظة
٣. وضيق الافق الاقتصادي والاداري
٤. والتركيز على الولاء للقائد والجماعة والحزب
واريد هنا ان اؤكد على ان ظهور الحركات الجهادية في سوريا كان يعتمد بالدرجة الاولى على تبيئتها في الوسط العشائري الريفي: يأتي زعيم من القاعدة او داعش مع اموال ويبحث لنفسه عن عشيرة او بلدة او منطقة توفر له الاتباع الاوفياء من خلال شبكة ابناء العمومة. هذه الاشياء لا نراها لكنها موجودة. هكذا توسعت داعش وشبكة النصرة. يتشدقون بالخطاب الديني الجامع والعالمي لكنهم عشائريون محليون جدا. الخطاب الديني يعطيهم وسيلة للارتباط بالحضارة الحديثة دون التخلي عن اخلاقياتهم الريفية، وهم يعتقدون ان الجميع يفهم هذا الخطاب باعتباره كان خطاب الامبراطورية الاسلامية العالمية. لكنه في الحقيقة خطاب مصنوع حديثا لاغراض الجماعات السياسية الدينية وليس له اي بعد عالمي امبراطوري. وسيصطدمون بسرعة باختلاف التدين في المدينة عن التدين الريفي واخلاقيات المدينة عن اخلاقيات الريف. الايديولوجيا البعثية القومية قامت بالدور نفسه (الانتقال من الريف الى المدينة تحت غطاء الامة الواحدة) في السبعينات والثمانينات.
اود ان اسمع اراءكم. هذا تنظير مبني على ملاحظات وليس دراسة ممحص
الفيس بوك
——————————-
الشام تُزيح خمسة عقود من الرعب: لا عودة إلى زمن الخوف/ شهيرة سلوم
-1-
02 يناير 2025
في صبيحة يوم صيفي؛ العاشر من يونيو/حزيران من العام ألفين، سارع أهالي منطقة البقاع على طول خطّ بيروت دمشق، ما يسمى بخطّ الشام، إلى إغلاق محالهم التجارية والاختباء في منازلهم. الصمت تسيّد المكان. مكبّرات الأذان المنثورة على أسطح المنازل صدحت بآيات قرآنية. كان موت حافظ الأسد قد أُعلن حينها من قصر الشعب، مغلقًا حقبة ثمانية وعشرين عامًا من سلطة الرجل الواحد، الذي شقّ طريقه إلى السلطة بالدم والنار من منزل فقير في القرداحة، صعودًا إلى الحكم في سورية، ممتطيًا أحصنة البعث بشعاراته الاشتراكية والعربية، وحرب فلاحي الأرياف الفقراء على ملّاك الأراضي، وأقليّة الأقلّية العلوية، ولو كان قد حاول في بداياته أن يُعلي رايات العروبة والوطنية؛ مُزيحًا الخصوم حتى لو كانوا رفاقًا في المكيدة الأولى، مسوّرًا حكمه برجال أوفياء، رافقوه منذ كان على مقاعد الدراسة في اللاذقية. كان ذاك التاريخ أيضًا بداية حقبة جديدة، مع ابنه الشاب بشار الأسد، وريث حكمٍ ظاهره علماني، باطنه طبقي – عائلي – طائفي؛ استئثار أقلويّ للسلطة تتجسّد فيه كلّ وجوه الاستبداد.
سورية في الأسابيع الأولى لإسقاط النظام
كانت هذه أجواء المناطق البقاعية على طول خطّ الشام في لبنان؛ حيث كان جنود فرقة المدرّعة الأولى في الجيش السوري، يعسكرون في أماكن متفرّقة. ينصبون الحواجز عند مداخل القرى والبلدات، ويقبعون في مقرّات عسكرية كانت بيوتًا للأهالي، احتلّوها عند دخولهم في الأشهر الأولى من العام 1976؛ تاريخ التدخل السوري في البلد، والذي شُرعن عربيًّا بعد أشهر قليلة، في قمّة الرياض تحت إطار “قوّات الردع العربية”.
من المنطقة نفسها؛ وفي شهر ديسمبر/كانون الأوّل من العام 2024، كان مئات آلاف النازحين السوريين الذين نزحوا وهُجّروا من مدنهم وبلداتهم وقراهم بعد اندلاع الثورة السورية ضدّ نظام أسرة الأسد من العام 2011، يجرّون أحمالهم الثقيلة، عائدين من نقطة المصنع الحدودية إلى بلادهم، بعد انتصار حرب التحرير على منظومة الأسد. لا تسألهم عن الغد، وهموم بناء البلد، الأهمّ أنّ بشار قد رحل. جبلٌ من القهر والظلم قد أُزيح، وحقبة جديدة من تاريخ سورية تفتح لهم ذراعيها؛ لا تسألهم عن الخوف من المستقبل ودين ودُنيا الحاكم الجديد، لا يهمّ الآن. المهمّ أنّ الطاغية سقط. لا يخشون حربًا طائفية، على عكس ما يُشاع؛ يكاد الجميع يتفق على أنّ الطائفية لم تشقّ طريقها إلى حاراتهم وبيوتهم إلّا مع هذا الأسد، وهو موقف يعكس رغبة جامحة في دفع شبح أيّ تقسيم وحرب يُروّج لهما بعيدًا: “تعبنا، لا نريد حربًا بعد الآن”.
أثرٌ للحاكم العسكري بين شتورا وعنجر
غير بعيد من نقطة المصنع، وتحديدًا في عنجر، بناءٌ قديمٌ مهجورٌ من طابق واحد، مسوّر بسياج إسمنتي وبوابة حديدية أشبه بتلك الواقفة عند عتبة المراكز الأمنية السورية، وأمامه كومة تراب قد نبت فيها عشبٌ يعكس حالة الهجران. هذا البيت تملكه عائلة أرمنية لبنانية مهاجرة، وكان يسكنه احتلالًا “الحاكم السوري” في لبنان، ابن القرداحة غازي كنعان، الذي كان يناديه بعض أبناء المنطقة من العائلات المعروفة محاباةً وتزلّفاً بأبو يُعرب. من هذا البناء، كان يدير البلاد على مدى عشرين عامًا قبل أن يُستدعى إلى دمشق بعد تسلّم الأسد الثاني السلطة، ويخلفه رستم غزالة. كان كنعان، الذي يملك رصيدًا أمنيًّا ثقيلًا في تصفية خصوم الأسد خلال صعوده في سورية، الحاكم الفعلي في لبنان، وصلة الوصل بين حافظ والرئاسات اللبنانية الثلاث. كان رضاه شرطًا لا بدّ منه لطالب السلطة مهما صغرت أو كبرت، من رئاسة بلدية إلى رئاسة الجمهورية.
إضافة إلى هذا البناء المهجور حاليًّا، كان كنعان، الذي “انتُحر” بإطلاق ثلاث رصاصات على رأسه بعد الإدلاء بشهادته أمام لجنة التحقيق الدولية في اغتيال رفيق الحريري، يحتلّ عدّة قصور في بلدية عنجر، “قدّمها” له الأهالي عن طيب خاطر، كما يقولون لنا، لرفع البلاء، فيما لم يبخل عليهم بدور الحامي للبلدة التي تحتضن الأقلية الأرمنية: “لم نر منه شرًّا مطلقًا، على عكس غيرنا في القرى والبلدات المجاورة”. الأهالي هنا، لا يتردّدون بالحديث عنه أو عن البيوت التي احتلّها، لن يخيفهم من تحت التراب، كما يقول أحدهم، على خلاف من يسكنون حاليًّا قصره ومنزل رستم غزالة في بلدة شتورا. رحل الجيش السوري، وسقط النظام، وفرّ الأسد فرار الهالكين، ولا يزال الرعب في ملامحهم والرجفة تقطع أنفاسهم عند الحديث عنه.
السيّدة التي تسكن حاليًّا قصر كنعان السابق، وهي زوجة رئيس بلدية عرف كنعان بما يكفي لترئيسه على البلدية؛ تنفي خوفًا من أن يكون القصر سكنًا سابقًا لكنعان، ثمّ تتراجع، مشيرة إلى أنّ عائلتها اشترته من إلهام فريحة التي ورثت المنزل عن أبيها (الصحافي والناشر المعروف) سعيد فريحة. حالُ سكّان قصر كنعان، من حالِ ساكني مقرّ إقامة رستم غزالة اليوم، والذي صار روضة أطفال، ويقع على بُعد كيلومترات قليلة في المنطقة نفسها.
بين منطقتي شتورا وعنجر، حُكم البلد عبر الأوصياء السوريين، ونال ما نال سورية من الاستبداد. حقبة 19 عامًا من القمع والفساد والمحسوبية والاغتيالات، لم تكن بأيّ حال ندّية بلدين؛ بل علاقة مُستعمر مع مستعمراته. وفيما عدّت سورية، لبنان امتدادًا لأمنها القومي، فإنّ التبعية والفوقية تسيّدت العلاقات، وكان الحكم يجري عبر الأوصياء العسكريين، وكان لقاء الرئيس حافظ الأسد في ما يخص المسؤولين اللبنانيين حظوة لا ينالها إلا الأوفياء المقرّبون. الزيارة الوحيدة للأسد الأب إلى لبنان سبقت دخول جيشه، وحينها لم يقطع حتى المسافة إلى العاصمة بيروت، والتقى الرئيس اللبناني سليمان فرنجية في يناير/كانون الثاني 1975 في شتورا القريبة من الحدود. لطالما اعتبرت سورية أنّ لبنان سُلخ عنها بعد تقطيع أوصالها وتقليص مساحتها شمالًا وغربًا وشرقًا من قبل الانتداب الفرنسي (مساحة تقلّصت من 300 ألف كلم مربع إلى 185 ألفاً)؛ ولهذا كان أقرب إلى محافظة سورية، عند النظام، منه إلى بلد سيّد.
أطلال الأمن والمخابرات والتشليح
مشاهد الانتقال التاريخي من حقبة إلى حقبة في سورية تظهر للقادم برًّا من ناحية الغرب السوري، من نقطة المصنع؛ واحدة من الممرّات التي نفذ منها الفارون من رجال النظام الساقط. النقاط العسكرية الممتدة بين نقطتي الجمارك اللبنانية والسورية، فارغة، وصور ورسوم حافظ ونجليه باسل وبشار، مُزقت أو شُوّهت. الخطّ العسكري، الذي كان يمرّ عبره الضباط السوريون و”المدعومون”، بحسب الوصف المحلّي، صار ممرًّا للسيارات المحمّلة بأمتعة العائدين إلى البلاد المحرّرة. هنا حاجز الملايين، حيث كان جنود وضابط النقطة يشلّحون المارّة إتاوات، قد تكون أموالًا أو دخانًا، السلعة الأكثر شهرة في “التشليح”، وهو التعبير المحلّي المستخدم للإتاوة أو النهب بمعنى أدقّ. يقول سائق لبناني إنّه في إحدى المرّات كانت الإتاوة بعضًا من المأكولات التي كان يجلبها لعائلته من السوق السوري الأرخص ثمنًا مقارنة بنظيره اللبناني لأبناء المنطقة، وفي مرّة تقاسم مع ضابط النقطة فساتين للعيد كان قد حملها لابنته الصغيرة. وخلال الثورة، كانت حسبة “التشليح” تعتمد على سنوات الغياب عن البلد. سنة تعادل 5 آلاف ليرة سورية، سنتان 10، وهكذا. تلي حاجز الملايين، نقطة رابعة، والمقصود بها النقطة الأمنية التي تتبع الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد، وليس بعيدًا عنه نقطة أمن الدولة التابعة للجيش؛ الحفرة التي كان يسقط فيها سيئ الحظ ويُعتقل لأتفه الأسباب. وعلى بعد كيلومترات معدودة، تقع المنطقة الحرّة السورية التابعة لرامي مخلوف، والتي نالت ما نال مقرّات النظام السابقة من سرقة مع سقوط النظام. “شباب الهيئة”، كما يطلق الناس على عناصر فصائل “ردع العدوان” على الرغم من وجود فصائل أخرى، يتوزّعون بين نقطتين، بأعداد محدودة، يتلقّون المارّة بترحاب ومعاملة طيبة، مما يُحضر فورًا إلى أذهانهم، تأثير هذا الانتقال.
على طول جانبي الطريق، تتوزّع غالونات المحروقات المعبأة من السوق اللبناني القريب، وإلى جانبها البائعون يلوّحون للسيارات المارّة بيد، وفي اليد الثانية يحملون نصف قنينة من البلاستيك، اقتطعوا جزءها العلوي، لتسهيل تعبئة الوقود في السيارات؛ مشهد محطات الوقود البدائية هذا يرافقك إلى العاصمة السورية، في ظلّ شحّ المحروقات وسوء نوعيتها وارتفاع ثمنها في الوقت نفسه. في الطريق نحو العاصمة السورية، آليات عسكرية تركها جنود النظام، وفرّوا عند السقوط، وبينها آلية عسكرية محروقة كانت هدفًا لقصف إسرائيلي. مشهد الآليات المتروكة هذا أيضًا سيرافقنا في غالبية الطرق السريعة الواصلة بين المحافظات السورية. في طريق العودة بعد أسبوع، سيتقلّص عدد تلك الآليات، بعد استعادتها من قبل “السلطة الجديدة”.
سورية في الأسابيع الأولى لإسقاط النظام
أوّل الحريّة في دمشق
لا أمن في سورية بعد، على الرغم من هذا التنقّل الحرّ المنساب الجميل؛ حرٌّ عقلًا وجسدًا، والذي لن يعرف شعوره إلا من جرّب التنقّل في بلد أمني زرع الخوف والرقابة بكلّ تفاصيل حياة أبنائه، إلى حدّ تجنيده مخبراً أمنيّاً لكلّ 240 مواطنًا. صوت الرصاص يُسمع متقطّعًا في الليل كما النهار، والأسلحة تنتشر بين الناس يمينًا ويسارًا، بين الحارات والطرق وحتى داخل الأسواق المكتظة.
في ساحة الأمويين وسط العاصمة، يحتشد الآلاف احتفالًا بانتصار الحريّة التي تلمسها في فرح الناس وأحاديثهم من دون خوف عمّا تعرّضوا له على يد النظام السابق. لكن هذه الفرحة تسكن جبلًا من قهر خمسين عامًا. الشام حرّة اليوم، لكنّها متعبة، مشهد الفقر والقهر عميق. ريفها بقيّة أبنية مهدّمة، بعضها مهجور بالكامل. بعض أبنائها فرحٌ بالتحرّر مع “لكن متوجّسة” من الآتي. آخرون وقد انتقلوا بين ليلة وضحاها إلى الضفة الثانية، يشكون الضلالة: “كنّا مضلّلين”، ويثنون على المحرّرين القادمين إليهم من إدلب فاتحين، على طريقة “مات الملك، عاش الملك”. تختلط معها مفردات الانتقال بين مرحلتين من تاريخ البلاد؛ يخلطون بين “الثوّار” والمسلّحين و”داعش”. رغم سقوط نظام الأسد بهشاشة وفراره، لكن هناك خوف كامن في بعض آخر لم يسقط بعد. يظنّ أحدهم أنّ ما جرى مسرحية و”الأسد لم يسقط، أنّهم يختبرون ولاءنا”. حالة تصوّر حجم رعب كان سائدًا: “كنّا نخشى أن نتحدّث عنه في سرّنا”، يقول أحدهم.
قصر الشعب… للشعب مؤقتًا؟
عند مشارف العاصمة، وتحديدًا على جبل قاسيون، يجلس قصر الشعب، أو القصر الرئاسي الذي شُيّد في بداية ثمانينات القرن الماضي. يصعب الدخول إلى القصر اليوم بأريحية، إلّا ضمن الوفود الدولية، التي تحجّ من كلّ صوب لملاقاة القيادة الجديدة. حالٌ يختلف عن الأيّام الأولى للسقوط، حين اقتحمته فصائل الجنوب، سابقةً موكب إدلب نحو العاصمة. نهب الناس كلّ ما قدروا على حملانه حينها؛ في مشهد عادةً ما يلحق اللحظات الأولى لسقوط الطغاة وانتصار الثورات، تعبيرًا تلقائيًّا عن استعادة الناس لما هو ملكهم. عناصر المعارضة أمام القصر، يؤكّدون أنّهم أعادوا ترتيب وتأثيث القصر للزوّار خلال ثمان وأربعين ساعة، وأنّ بعض الناس قدموا من تلقاء أنفسهم لإعادة مقتنيات استولوا عليها عند الاقتحام. يُقال إنّ القصر الذي شُيّد بأمر من حافظ في عام 1979، قد موّل بناءه السعوديون، وبناه رفيق الحريري؛ في تلك الفترة كانت العلاقة بين نظام حافظ الأسد والسعودية على ما يُرام. في أروقة هذا القصر نفسه، تقول رواية المحقق الأممي (باغتيال الحريري) ديتليف ميليس، التي حُذفت من موقع الأمم المتحدة؛ التقى جزّار درعا ماهر الأسد، مع صهره آصف شوكت، لوضع اللمسات الأخيرة على خطط اغتيال الحريري في عام 2005؛ القرار الذي حسم أمره رجال النظام مباشرة بعد صدور القرار 1559 (عام 2004)، هذا بحسب ما يقول الصحافي البريطاني كون كوفلين في كتاب له حول الأسد، نقلًا عن تقرير ميليس. بعد تنفيذ الاغتيال، اتصل ماهر ببشار ليبلغه أنّ “المهمة نُفّذت”.
يعجّ قصر الشعب اليوم بالوافدين الدوليين، للقاء أحمد الشرع، “رجل المرحلة”، بحسب ما يظهر حتى الآن على الأقل. في وقت جولتنا إلى القصر قبل أكثر من أسبوع، كان ابن الزعيم اللبناني كمال جنبلاط، قائد الحركة الوطنية الذي اغتاله نظام حافظ الأسد في عام 1977، وليد جنبلاط يزور الشرع على رأس وفد درزي. في الماضي البعيد، وبعد 40 يومًا بالتمام من اغتيال جنبلاط الأب، حضر الابن للقاء الأسد في دمشق. تحكي الروايات الآتية من فم الأسد، أنّ الأخير نظر إلى ضيفه قائلًا له “كم تشبه أباك!”
لا يمرّ يوم منذ السقوط الكبير لنظام الأسد، من دون أن يشهد القصر زيارة لوفد دولي. المفارقة حتى الآن أنّه مقابل رسائل الانفتاح دوليًّا الصادرة من سكّان القصر الجدد، لم نشهد بعد انفتاحًا على الداخل، كما يجب أن يكون على الأقلّ، وهذه ملاحظة يتناقلها أهالي الشام في مجالسهم العامة والخاصة.
التسوية ومعضلة سحب السلاح
واحد من أكثر الملفّات سخونة، والتي تخلّلتها اشتباكات وسقوط قتلى أخيرًا خصوصًا في مناطق ما يسمّى بالتماس، هو ملفّ سحب السلاح من جنود النظام السابق، وتسوية أوضاع من “لم تتلطّخ أيديهم في الدماء”، والقبض على عشرات آلاف الضباط من النظام السابق، المتورّطين في الجرائم. يقول أحد المتحدّثين باسم الحكومة المؤقتة، إنّ لديهم لوائح بـ 62 ألف اسم من جنود النظام السابق، جميعهم متورّطون في جرائم ضدّ الشعب السوري. وتتركّز العمليات الأمنية في مناطق ذي نفوذ لمؤيّدي الأسد، مع ما يتخلّلها من مناوشات واستفزازات طائفية في الأحياء المختلطة، وتجاوزات تتقاطع مع أساليب النظام السابق.
مركز تسوية جديد لأوضاع جنود النظام المخلوع في القنيطرة
أمّا في ما يخص التسوية، فقد افتتحت عشرات المراكز (يقدّرها أحد المتحدّثين باسم فصائل المعارضة بأكثر من 52) في مختلف المحافظات. وهذه العمليات تتماثل إلى حدّ ما مع ما أنشأه النظام السابق قبل أعوام، حين افتتح مراكز مصالحة في المناطق التي انتزع السيطرة عليها وهجّر أهلها، طالبًا من المقاتلين في فصائل المعارضة، تسليم أسلحتهم. أمام مقرّ أمني سابق تحوّل إلى مركز لعمليات التسوية في محافظة القنيطرة، يصطف جنود للنظام السابق من مختلف الرتب بالعشرات. جاء هؤلاء لتسليم أنفسهم وأسلحتهم لقوّات “ردع العدوان”، يقول رقيب بينهم، لعنصر في “هيئة التحرير” يجلس خلف مكتب مدوّنًا بيانات التسليم، إنّ خدمته كانت في الرقّة، وعند سؤاله عن سلاحه بغرض تسليمه، يؤكّد الرقيب أنّه عند سقوط النظام جاءتهم الأوامر من الضباط بتسليم جميع أسلحتهم إلى قوّات “قسد”.
المسؤول عن عمليات التسليم في هذا المركز وآخر مماثل في محافظة ثانية، شابٌّ ثلاثيني من درعا، يتنقل بين الغرف مشرفًا على العملية، وموجّهًا أحد الشباب للحديث مع الإعلاميين. يتحدّث باعتدال من دون تكلّف “هؤلاء الجنود فقراء زجّ بهم النظام في حربه ضدّ الشعب، كان يمكن أن أكون أنا بينهم؛ كنت محظوظًا بالفرار من التجنيد، بعضهم لم يملك هذا الحظ”. وفي عرض حديثه عن آليات التسوية وتسليم السلاح، يشير إلى حادثة حصلت معه. يقول إنّ الشخص الذي كان مسؤولًا عن مركز “مصالحة” تابع للنظام السابق في درعا، أجرى عملية تسوية أمامه، وسلّم سلاحه قبل أيّام في المركز نفسه الذي كان يديره للمصالحة في زمن النظام الساقط.
وأما ما يخص الآليات، فإنّ المتقدّمين إلى التسوية يحصلون خلال أربعة أيام على بطاقة تسهّل تحرّكاتهم، ثم يجري تحقيق موسّع قد يستمر لثلاثة أشهر للتأكّد من عدم ارتكاب الجندي أو الضابط السابق لجرائم ضدّ الشعب السوري، بحسب ما يشير أحد المسؤولين في المركز من عناصر المعارضة.
أسئلة الحاضر والمستقبل
في مقرّ لحزب البعث سابقًا، يحتشد سوريون، من مختلف الأطياف، حول ندوة يقدّمها خبراء في القانون والدستور عادوا إلى البلد مع سقوط النظام (زيدون الزعبي وإبراهيم الدراجي وفائق حويجة)، وحُضّرت على عجل حال التطوّرات المتسارعة في البلد اليوم. تعكس كثافة الحضور وضجيج الأسئلة التي لا تغيب عنها المخاوف ممّا هو قادم، نيةً مجتمعية في إنقاذ البلد، بغضّ النظر عن توجّهات الحضور السياسية. يطرح النقاش، الذي جرى جزء منه على أضواء الهواتف بعد انقطاع الكهرباء عن القاعة، أسئلة المرحلة؛ دستور سورية ونظام الحكم والمستقبل والحوار الوطني، والآليات. المآخذ على قرارات الإدارة الانتقالية، التي يفضّل دراجي تسميتها بالمؤقتة، لأنّ مرحلة الانتقال تعني أننا عند عتبة الحوار الوطني وإنشاء اللجان التأسيسية لصياغة الدستور وما يتصل بها من إجراءات، وهو ما لم يحصل بعد، داعيًا إلى الصبر وعدم الاستعجال، فالعملية قد تستدعي سنوات من العمل. أمّا زيدون، فيطرح النقاش حول ما لا يجب أن يحصل في مرحلة التأسيس لدستور يحدّد نظام سورية الجديد، وفي مقدّمتها الاستفراد والإقصاء. وفيما يظهر تفهمٌ لموقف الإدارة/السلطة الجديدة في ظلّ أحوال البلاد السيئة، معيشيًّا واقتصاديًّا ومجتمعيًّا وأمنيًّا، فإنّ القرارات الأولى التي صدرت، غير مشجّعة عند البعض، وتشي بنوع من الاستفراد.
الهواجس والأسئلة تشغل السوريين على اختلاف مجالسهم وفئاتهم؛ هي محور حديث سائقي سيارة الأجرة والعمّال، والمقاهي الثقافية وساحات المدارس والجامعات. في إحدى الجامعات وسط دمشق، يقول أحد الطلاب ممازحًا أحد الإداريين، “منسقط المدير”، قبل أن يواصل طريقه إلى سطح المبنى، حيث رفاقه. هؤلاء الرفاق كانوا أوّل من سارع إلى الجامعة لإزالة صور النظام وأعلامه، ورفع علم الثورة على المبنى. الانتصار الأوّل لهم كان التخلّص من التجنيد الإلزامي في جيش النظام؛ بعضهم كان محميًّا من جبهات القتال عبر إتمام أوراق التحصيل الدراسي، أمّا من يفشل، فكان عليه أن يمضي وقته متهرّبًا من نقاط التفتيش، وكان الخيار الأفضل هو تحديد الحركة بين الجامعة والمنزل أو الهرب إلى خارج البلاد، بحسب ما يقول لنا أستاذ في الجامعة. ولهذا، إن سقوط النظام انتصارٌ شخصيّ أوّلًا.
سورية في الأسابيع الأولى لإسقاط النظام
النقاش مفتوح وحادّ في سورية هذه الأيّام، حول مستقبل البلد، وبنائه، ونظامه، ودستوره، وهويته السياسية. لا يخلو السجال من حديث الأضداد، خصوصًا عند التطرّق إلى علمانية النظام الجديد وهويته الإسلامية، غير أنّ الجديد وما يبعث الأمل، هو كسر حاجز الخوف عند الشعب السوري، وفي هذا لا عودة إلى الوراء.
العربي الجديد
-2-
الشام تُزيح خمسة عقود من الرعب (2): ماذا عن حماية السجينات المغتصبات؟/ شهيرة سلوم
03 يناير 2025
عند أبواب سجون الأسد ومقرّاته الأمنية، تُذبح الإنسانية. لا شيء، أو كلام، يختصر المشهد. القمع والظلم يتكشّفان بأبشع الصور من جدران الزنازين الواسعة والانفرادية؛ في استغاثات المساجين على الجدران، والتي تنادي الله بين سطر وآخر، وتشكو الظلم والمذلّة. إذا كان للرعب والظلم رائحة ولون وصوت وشكل وملامح، فهو هناك. في الأغطية المنثورة بالمئات، والتي تدلّ على عدد المسجونين والمكدّسين في مساحة ضيقة لا تتعدّى أمتارًا معدودة. في الزنازين الانفرادية التي لا تتجاوز مترًا عرضًا وأقلّ من مترين طولًا وبارتفاع متر وثمانين، حين قسناها بأجسادنا، تتوسّطها جورة لقضاء الحاجة. في ذلك القبر كان يمكث السجين شهورًا وسنين، كيف نجا؟ أهوال السجن ووسائل التعذيب المرعبة انفضحت على مصراعيها أمام العالم، وهذه مسألة تُحسب للقيادة الجديدة، التي تُظهر حرصًا على رفع الغطاء عن جرائم النظام الساقط أمام وسائل الإعلام؛ يقول أحد الزملاء: كنّا نعرف، لكن الآن نرى؛ ورؤية الجريمة بأمّ العين مخيفة. صحيح أنّ الزنازين صارت خالية الآن، لكن ثمّة أرواحًا حاضرة لا تفارق المكان. بعد تحرير السجون، وانكشاف أحوالها المرعبة وأساليب التعذيب، حضرت المقارنة مع سجون وزارة أمن الدولة النازية شتازي، التي تحوّلت إلى متاحف. ومع هذا، فإنّ وحشة العنف الحاضرة في سجون الأسد، لن يجدها زائر زنازين برلين اليوم.
مشهد الجريمة واحدٌ، من صيدنايا إلى فرع فلسطين والمزّة والـ215، مرورًا بتدمر والمراكز الأمنية والاستخبارية. وفيما تتصدّر واجهة المشهد الزنازين غير الآدمية بكلّ تفاصيلها ووسائل التعذيب، وتلتقي مع أساليب محاكم التفتيش في تذويب الجثث والإعدامات، فإنّ جرائم صادمة ارتُكبت بحق السجينات قلّما نجدها في أقذر الأنظمة الاستبدادية، ولم تلقَ الاهتمام اللازم سوريًّا أو دوليًّا، وعلى المستويين الحقوقي والإعلامي؛ السجينات المغتصبات اليوم ضحية مجتمع يصمهن بالعار، وأهالٍ يلاحقوهنّ لـ”غسل العار”.
في سجن الفرع 215، داخل المربّع الأمني في منطقة كفرسوسة (دمشق)، عنبرٌ خاص للسجينات، وفيه دلائل الاعتداءات وقصص سجينات تحرّرن. إحداهن، اعتُقلت فتاة مراهقة وخرجت من السجن مع أربعة أطفال. سجينة ثانية ابتزّها السجّان لانتزاع اعترافات حول زوجها، عبر اغتصاب ابنتها (عشرة أعوام) المسجونة معها. تقول سناء سيف، مديرة جمعية تُعنى بالسجينات (تجمّع الناجيات)، إنّها تحاول منذ فترة التواصل مع سجينة تعرّضت للاغتصاب وأنجبت طفلين في السجن، لكن العائلة التي تحمي السجينة المحرّرة تخشى كشف مكانها، والسماح بالحديث معها، فأبوها يبحث عنها لقتلها، من يقدّم الحماية لهؤلاء الضحايا؟ قصة أخرى ترويها لنا سيف، عن سجينة اعتقلت لابتزاز زوجها؛ وهو قائد عسكري لفصيل معارض، مع أمّه وأخته. اغتُصبن جميعهنّ، لكن بعد إطلاق سراح الزوجة، انفصل عنها زوجها بسبب الاغتصاب، قبل أن يعود إليها لاحقًا. ومن دلائل هذه الجرائم في السجن، نلحظ بعض أدوية منع الحمل، المتناثرة على الأرضية بين أدوية الجرب. جرائم تدلّل، بما لا يقبل أي شكل من التسوية أو التسامح، على أنّ العدالة مطلب لا غنى عنه في أيّ مستقبل لسورية.
في الطابق الأوّل من مبنى السجن نفسه غرفةٌ واسعة تتبعثر فيها الأوراق الأمنية والمعدّات المكتبية وبقيّة ملفّات أُتلفت عن عمد، وعلى أحد المكاتب أعلام لتنظيم داعش. ماذا تفعل تلك الأعلام في مقرّات النظام الساقط؟ أمام مبنى سجن 215، تدخل امرأة رفقة أحد عناصر المعارضة، ومعها فتى يبدو وكأنّه ابنها، يبحثان عن أثر عزيز فُقد في تلك الأقبية. مشهد الأهالي الباحثين عن أفراد من عائلاتهم اختفوا في سجون النظام مألوفٌ هنا، تلتقي به أمام جميع المقرّات، ويتحدّث عنه كل أبناء سورية. في كل بيت سوري جُرح وجريمة ينتظران القصاص؛ بيوت العزاء تُنصب حين يتأكّد الأهالي من وفاة ابن أو ابنة في السجون، فيما يتمسّك البعض بأمل العثور على أحياء، هذا حال سيّدة تعمل في إحدى جامعات دمشق، علمت عائلتها بوفاة اثنين من أبنائها من خلال لوائح السجناء في صيدنايا، فيما البحث جارٍ عن اثنين آخرين، لم يخرجا مع المساجين المحرّرين. زميلة لها تقاطعها وتتحدّث عن ابن أخيها المختفي لكن ليس في سجون الأسد؛ اعتقلته قوّة من “جبهة النصرة” سابقًا، قبل أعوام في درعا، حيث كان يعمل شرطيًا لدى نظام الأسد، وقيل لهم إنّه اقتيد إلى إدلب، ولم يعرفوا عنه شيئًا مذّاك. ولنا عودة إلى إدلب وما يُحكى عن تجربتها وسجونها في مشهد لاحق.
فرع فلسطين / سورية / ديسمبر 2024 (العربي الجديد)
من داخل فرع فلسطين في دمشق، ديسمبر 2024 (العربي الجديد)
في سجن 235 (فرع فلسطين)، لا تختلف أحوال الزنازين عن سجن المخابرات في كفرسوسة، مع كثرة الانفراديات، وينفرد بنوع منها أشبه بقبر، حيث المنامة مصطبة ترتفع نصف متر، مع تنوّع أساليب التعذيب. وهنا تجد آثار أوراق وملفّات متلفة، بعدما تخلّص منها جنود النظام على عجل قبل فرارهم.
نفق الفرار من مطار المزّة؟
في منطقة مطار وسجن المزّة، يبحث أحدهم عن أثر ما لأخيه الذي اختفى قبل سنوات عند نقطة أمنية. شهدت المنطقة محطّات حافلة في تاريخ النظام السوري، فمن المطار انطلقت الصواريخ وقذائف المدفعية لقصف المناطق الثائرة في محيط العاصمة. وكانت عائلة الأسد تستخدمه مطارًا خاصًا. كما عرف حافظ الأسد المطار جيدًا، في بدايات صعوده العسكري، حين خدم ضابطًا في القوّات الجوّية، وعرف سجنه، حيث قبع لفترة بعد محاولة انقلاب نفّذها الناصريون والبعثيون في ستينيات القرن الماضي. في المدرّج حاليًا آثار قصف إسرائيلي، ودبابات للجيش السوري، وبقايا مروحية عسكرية. إلى جانب منه، مرآب فيه مروحيات. تتقدّم لمسافة قصيرة، فتجد أمام مبنى إداري كومة محروقة من حبوب الكبتاغون؛ حجمها يدلّل على “استخدام داخلي”، أكثر منه للشحن والتصدير. يقع سجن المزّة في طابق تحت الأرض، أحواله صادمة كما بقية السجون. في طابق آخر، غرف يبدو أنّها مخصصة لإقامة الجنود، ظروفها أيضًا مزرية. في مبنى آخر غير بعيد، مكتب فخم حُطمت بعض مقتنياته. يبدو مكتب المسؤول عن المطار. تتصل به غرفة نوم مؤثثة. المكتب خالٍ من الأوراق الرسمية، إلّا من بطاقة أعمال تعود لطبيب نفسيّ يعمل في دمشق.
قيل أخيرًا (بحسب ما نشرت صحيفة لوفيغارو الفرنسية) إنّ الأسد فرّ مع نجله حافظ ليلة السابع من ديسمبر عبر نفق سرّي من قصر الشعب إلى مطار المزّة، ومن هناك انتقل بمروحية إلى قاعدة حميميم قبل السفر إلى روسيا. لم نعثر في جولتنا الطويلة داخل المطار على دلالة على وجود هذا النفق هنا؛ لكن في ظل مساحة المنطقة الواسعة وتعدّد المباني، فإنّ كلّ الاحتمالات تبقى مفتوحة، خصوصًا أنّ المطار، بحسب ما بدا لنا في الأسبوع الرابع من خلع النظام، لم يُمشّط بالكامل ولم يُدقّق في محتوياته؛ فهو خالٍ تقريبًا باستثناء بعض عناصر الحراسة على الباب، والذين اعتذروا عن مرافقتنا وإرشادنا داخل المطار، بسبب قلّة عددهم.
دولة الكبتاغون وشركاؤها
قبل أن تبلغ العاصمة، على طريق بيروت – دمشق، وتحديدًا في قمة الجبل بمنطقة يعفور في الريف، قصرٌ مسوّر، لم يكن يُسمح للسكّان المحليين بالاقتراب منه، وكان يُمنع الرعاة من رعي أغنامهم أعلى الجبل، خوفًا من كشف المنطقة أمامهم. كانت الشاحنات تعبر إليه كلّ عدّة أسابيع، بحسب ما يحكي لنا حارسٌ أمام صالة مفروشات في أسفل الطريق، لا يؤكّد هوية لوحات الشاحنات، لبنانية أم سورية، لكنه يحسم أنّ الرائحة المنبعثة من المنطقة لم تكن تُحتمل، وأنّ “الحزب” كان نافذًا وحارسًا للقصر، بدون أن يحسم من الذي يعنيه بالحزب. ولفظ “الحزب” يدلّل به أبناء المنطقة على حزب الله اللبناني، الذي يملك نفوذًا في البقاع، كما في المناطق السورية المجاورة، خصوصًا تلك التي هُجّر أهلها خلال فترة الحرب السورية، مثل الزبداني. القصر كان ملكًا لعائلة غير سورية، بحسب ما يُشير أحد مقاتلي المعارضة، بخفّة روحهم وملامحهم الشامية اليافعة؛ وهذا انطباعٌ عن هؤلاء المقاتلين سيرافقنا في كلّ محطة في جولتنا نحو المحافظات الشمالية والغربية للبلاد، متفاجئين بهم، ربّما بسبب الصورة التي رُوّجت عن معارضي النظام بأنّهم إسلاميون متطرّفون.
نعود إلى القصر. فقد استولت عليه فرقة ماهر الأسد وحوّلته إلى واحد من أكبر معامل الكبتاغون في البلد. المعمل، بكلّ محتوياته، من المواد الأوّلية مرورًا بماكينات التصنيع وصولًا إلى أدوات مخصّصة لصناعة الكبتاغون في سلع جُهزت وسائل للتهريب؛ كلّ هذا مركّز في مبنى ملاصق للقصر. أمّا القصر نفسه، فكان فارغًا، إلا من قطع أثاث معدودة لا تدلّ على سكن عائلي. الحارس من عناصر المعارضة يتردّد في السماح لنا بمعاينته، والسبب أنّه وزملاءه يجلسون ليلًا إلى جانب الموقدة، يشعلونها بخشب صناديق عتيقة طردًا لبرد شتاء جبلي، ويتناولون عشاءهم من معلّبات. الحارس ورفيقه في مقتبل العشرين، وتعابير وجهيهما تعكس خجلًا من فعلٍ يريانه غير مستحق، في ملك ليس ملكهما.
من مادة الكبتاغون المخدّرة موّل النظام السوري حربه ضدّ شعبه على مدى 14 عامًا. حتى اللحظة، لم يُعرف بعد عدد مصانع الكبتاغون في البلد، غير أنّها تتوزّع بين مراكز أساسية للتصنيع والتعليب والتجهيز والتصدير، كما هذا المصنع الذي زرناه في يعفور؛ وبين أخرى يتركّز فيها التخزين أو التصنيع أو كلاهما. تُقدّر الأرقام حجم تجارة هذا المخدّر بمئات الأطنان، بقيمة تقدّر بأكثر من ستة مليارات دولارات، صنّعها وصدّرها النظام إلى دول الجوار، حتى اكتسبت سورية سمعة دولة المخدرات، عن جدارة.
-3-
إدلب ماضي الأيام الآتية على سورية (3)/ شهيرة سلوم
04 يناير 2025
لا يفارق مشهد الدمار وآثار الجريمة، العابرين طريق ريف دمشق نحو المحافظات الشمالية والغربية في سورية؛ من القابون، الممسوحة بالكامل، مرورًا بحرستا ودوما إلى تلبيسة والرستن ومعرين والغوطة وخان شيخون وجسر الشغور، الشاهدة على جرائم نظام عائلة الأسد بمختلف مراحلها، وبقية مدن إدلب فحلب؛ أبنية من طوابق معدودة تترنّح من أثر القصف والنهب. بعضُ المدن والبلدات المدمّرة مهجورٌة بالكامل. تلتقط دلائل النهب والتعفيش من الأبنية الخالية من كلّ شيء؛ لا أبواب أو نوافذ أو أثاث، فقط بقايا خرسانة حطّمها المعفّشون لاستخراج الحديد وبيعه. ومن أحوال المنازل والأبنية المدمّرة جزئيًّا، يسهل التمييز بين نوعية القصف؛ فإذا كانت بلا أسقف أو عرجاء نتيجة سقوط بعض الأعمدة أو الحيطان فيها، نكون أمام قصف للنظام. أمّا إذا كانت المخلّفات بقيّة حُطام شامل، فأنت أمام قصف روسي جوي.
على مشارف ما يُعرف بـ”المُحرّر” سابقًا، تظهر للرائي سواتر ترابية حمراء مترامية الأطراف بعلوّ مترين أو ثلاثة، كانت تفصل بين المناطق؛ تلك للنظام وتيك لفصائل المعارضة. بين المنطقتين، مساحات شاسعة خالية من السكّان، كانت مناطق عسكرية. تدلّنا حقول الزيتون المتدرّجة على مدّ النظر، على أبواب محافظة إدلب.
ملامح حكم متواضع في إدلب
عرفت محافظة إدلب احتجاجات الثورة السورية في بداياتها السلمية، ثم انطلقت منها الرصاصات الأولى (عند جسر الشغور في يونيو/حزيران 2011). ومن ريفها الجنوبي، تأسّس أوّل تشكيل عسكري لمقاتلة النظام. وفيها ولُدت فصائل مسلّحة لا تُحصى، منها ما صعد وهبط، ثمّ اندثر. وكانت مقصدًا للمعارضين للنظام من مختلف المحافظات، وملجأً للنازحين، إلى أن ارتفع عدد سكّانها من 165 ألفًا في 2011 إلى خمسة ملايين وأكثر اليوم. وبعد 14 عامًا، شقّ مقاتلون فيها طريقهم نحو دمشق، وجلس قائدهم في قصر الشعب، لينقلوا معهم تجربة حكم متواضعة في إدارة شؤون المحافظة.
يظهر اختلافٌ معيشي واضح بين المحافظة ومناطق سورية أخرى، من خلال معاينة أحوال الطرق والبنى التحتية والمنازل والأسواق التجارية والمدن الصناعية، وتوفّر السلع والخدمات الأساسية من كهرباء وإنترنت وتدفئة ووقود، والاكتظاظ الذي يضجّ بالحياة.
تُدير هيئة التحرير الشام محافظة إدلب، عسكريًّا وأمنيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا. وتعتمد في ذلك على عدّة أذرع. ذراع سياسية/إدارية تتمثل بحكومة الإنقاذ بعمرها القصير (تشكّلت عام 2017) ووزاراتها الإحدى عشرة والمجلس الاقتصادي التابع لها، إضافة إلى بعض المديريات التي تتولّى تسيير أمور الناس اليومية. مع انتقالها إلى دمشق لإدارة المرحلة المؤقتة، تحوّلت وزارات حكومة إدلب إلى مديريات.
على المستوى الأمني والعسكري والاستخباري، يمكن التمييز بين ثلاث أذرع للهيئة؛ العسكرية وتشمل المقاتلين، ومن قوّاتها الضاربة يُحكى بين الناس هنا عن عصائب الحمر ووحدة النمر. وهناك ذراع شرطية تتبع وزارة الداخلية، وتتولّى الأمن الأقلّ خطورة. أمّا الذراع الأخطر، فهي جهاز الأمن العام، التي تتولّى قضايا “داعش” والجريمة المنظمة والمخدرات، وتُنسب إليها الانتهاكات ضدّ المتظاهرين، بحسب ما أخبرنا مشاركون في الاحتجاجات، وقد أُلحق هذا الجهاز أخيرًا بوزارة الداخلية بعد ضغط الاحتجاجات.
تعتمد المؤسسات الخدمية في المناطق المحرّرة سابقًا على المساعدات الدولية بشكل شبه كامل. وتفكّ الهيئة ارتباطها المباشر بها، كي لا تُقطع عنها المساعدات بسبب العقوبات المفروضة على الأولى. أمّا بالنسبة لتمويل حكم الهيئة في إدلب، عسكريًّا واقتصاديًّا، فهو يأتي عن طريق “الزكاة” (الهيئة العامة للزكاة)، والتبرّعات (كما جاء مرّة على لسان أحمد الشرع). وهذا المصدر الأخير يفتح الباب أمام تمويل خارجي غير معلوم. بالنسبة للزكاة، تُفرض حصة على محصول الزيتون، وحصة على القمح، وعلى أرباح المحال التجارية، وهكذا. وهذه تُحسب وفق الشريعة الإسلامية (2.5% من قيمة الإنتاج)، وإذا حسبناها، نلاحظ أنّها تتقاطع إلى حدّ ما مع الضريبة التصاعدية، لكن مع نسبة ثابتة، ترتفع مع ارتفاع قيمة الثروة أو المحصول. هناك نوع آخر من التمويل يأتي عن طريق الضرائب، التي تُفرض على المعابر، والنظافة والكهرباء والمياه، وتُضاف إلى قيمة الفاتورة الأساسية لهذه الخدمات، التي تتولّاها شركات خاصة ترتبط بالهيئة. التحصيل الضريبي بشكله المباشر أو غير المباشر، واجه انتقادات محلّية، ويتحدّث عنه معارضو الحكم بوصفه نوعًا من الإتاوات أو التحصيل القهري للأموال.
تجربة المعارضة والسجون السرّية
إذا أردنا أن نخمّن طرق السلطة الجديدة في التعامل مع معارضيها، لا بدّ من وقفة مع ما يُثار حول سجونها وتظاهرات إدلب الأخيرة ضدّ حكم هيئة تحرير الشام. بدأت التظاهرات مع بدايات عام 2024 (أواخر فبراير/شباط)، ولم تهدأ إلّا مع انطلاق معركة “ردع العدوان”. طلّت في البداية من إدلب المدينة، وبنّش وسرمدا، التي شهد دوّارها أوّل صيحة ضدّ حكم أبو محمد الجولاني، قبل أن تتمدّد إلى مدن وبلدات أخرى في المحافظة. وحسب ما يُفهم من معارضين للهيئة في المحافظة، شاركوا في التظاهرات، فإنّ الهدوء الحالي بمثابة هدنة فرضتها تطوّرات المرحلة، وحدث التحرير الكبير، أكثر منه حلّ دائمٌ لأزمتهم مع السلطة.
رامي عبد الحق، فنانٌ تشكيلي سوري يقيم في إدلب، تصدّر تظاهراتها، وعرف سجونها مرّتين؛ في 2018 و2024. يحدّثنا عن تجربة المعارضة والسجن في ظلّ حكم “هيئة التحرير”. يشير إلى أساليب أمنية اعتمدتها الهيئة مع المتظاهرين، مثل محاصرتهم بمصفّحات الأمن العام، وتصويرهم، واختراقهم عبر دسّ عناصر أمنية لافتعال الشغب، إضافة إلى تشويه سمعتهم. وجهة نظر مختلفة، يطرحها مؤيّد للتظاهرات في بداياتها. يقول إنّ لا عائبة في مطالب الاحتجاجات، لكن لاحقًا تحوّلت نحو الشغب، بعد اختراقها من حزب التحرير المتشدّد، والذي يدعو إلى إنشاء دولة الخلافة الإسلامية.
بالنسبة لملف السجون السرّية، فلا مكان محدّد معروف يسمح لنا برصدها أو التحقّق منها على الأرض. يذكر عبد الحق أنّه حين يُفتضح أمر أحد هذه السجون، يُنقل إلى مكان آخر، كما حصل مع سجني شاهين في منطقة حارم (حيث سُجن هو أوّل مرّة) وعُقاب. ويشير إلى سجن آخر لكن غير سرّي، يُعتقل فيه سجناء سياسيون ويسمّى 107 في سرمدا. لا يستبعد وجود سجون سرّية في قبو تحت الأرض داخل مباني المقرّات الأمنية والعسكرية. وحين سألناه عن مكان سجنه الثاني، وسبب وصفه سرّيًّا، أكّد أنّه نُقل إليه معصّب العينين ومكبّلًا، فلم يعرف مكانه. وأثناء اقتياده للزنزانة الانفرادية والتحقيق معه كان إمّا معصّب العينين، أو أنّ المحققين ملثمون. سألوه في التحقيق عن التظاهرات و”المحرّضين عليها في المدن، والمسؤولين عنها، ونبشوا في هاتفه”، قبل أن ينتقلوا إلى أسئلة عامة حول رأيه في حكم الهيئة والأخطاء التي ترتكبها، محاولين استقطابه، كما يقول. لم يذكر لنا تعرّضه للتعذيب، لكنّه يشير إلى أساليب تعذيب ضربًا وبالكهرباء كانت تُمارس هناك.
إضافة إلى السجون السرّية وقمع التظاهرات، تُثار مسألة المقاتلين الأجانب في الهيئة وغيرها من الفصائل المسلّحة. وملفّ الدفاع فيها جاهزٌ: “هؤلاء تركوا بلادهم وقاتلوا معنا؛ وهم مقاتلون في مراكز غير قيادية”، كما يقول الشرع نفسه، وهي رواية يردّدها أنصاره وبعض خصومه “الناعمين”. يقول مدير مستشفى في إدلب، إنّ هؤلاء المقاتلين صاروا جزءًا من الحالة السورية، أمضوا سنوات طويلة معنا، أسّسوا منزلًا وعائلة وحياة، وفي النهاية سيحصلون على الجنسية (عيّنت الإدارة المؤقتة قبل أيام مقاتلين من الفصائل في مواقع قيادية، وكان من ضمن هؤلاء أجانب من ألبانيا والأردن وطاجكستان وتركيا والصين).
قائد “المُحرّر” كان الجولاني؛ بعد التحرير صار أحمد الشرع وصفته الرسمية “قائد تحرير سورية”، بحسب ما يؤكّد مسؤول في العلاقات العامة في الحكومة الجديدة بدمشق. لا يلقى الجولاني-أحمد الشرع إجماعًا في إدلب؛ فالبعض، مثل عبد الحق، يرى فيه شخصية براغماتية إلى حدّ الاستفزاز، محبًّا للسلطة، إقصائيًّا، لا يتحمّل الخصوم، ولهذا لا نرى منافسين له أو “رجلًا ثانيًا” على الأقل. آخرون يعارضون بشراسة ممارسات الهيئة التي يتزعّمها، لكنهم يبدون انفتاحًا على الشخصية التي لبسها محرّرًا إلى دمشق؛ هؤلاء “ضدّ الجولاني، مع الشرع”. أمّا مؤيّدوه، فيكرّرون خطاباته، بلا أحرف زائدة أو أفعال ناقصة: “الأولوية الآن لبناء البلد. التظاهر حقّ، لكن ضمن القانون ودون عنف أو شغب”.
الفوعة وأخواتها
من بنّش، بطلة الاحتجاجات بين مدن إدلب، ندخل إلى الفوعة. بلدة قديمة فقيرة يظهر البؤس على محيّاها، تحتضن بيوتًا قديمة، تتوسّطها شوارع ضيّقة بأحوال مزرية. قبل الثورة، كان يسكنها أكثر من 11 ألف نسمة، غالبيتهم من الطائفة الشيعية. أمّا اليوم، فيسكن فيها أهالٍ من قرى وبلدات هجّرها النظام بعد الثورة مثل مناطق ريف دمشق التي تسكنها غالبية من الطائفة السنّية خصوصًا الزبداني ومضايا. حين كنّا في الشام، علمنا من أهالٍ هُجّروا من بلداتهم وسَكَنت منازلهم عائلات مقاتلين في مليشيات إيران أو حزب الله، أنّهم عادوا إليها، وبعض هؤلاء من الزبداني، كما عاد أهالٍ هُجّروا من القصير في حمص، فيما فرّ مَن احتلوا أرضهم فيها. فهل يعود أهل الفوعة إليها؟ حين باغتنا أهالٍ في بنّش بهذا السؤال، جاء ردّهم تلقائيًّا بـ”لا حاسمة قاطعة”. بين البلدتين دمٌ وثأرٌ وجرائم بشعة. وبعد سؤال وردّ، عدلوا عن قرارهم: فلننتظر عامًا حتى تهدأ النفوس، وسنرى.
خلال فترة الثورة، كانت الفوعة معقلًا للنظام، وفيها تمترست المليشيات الطائفية الداعمة لها وبينها مقاتلون لحزب الله. ومنها كانت تنطلق القذائف لقصف بنّش والبلدات المجاورة. بعدها، صارت هدفًا لفصائل المعارضة مع كفريا القريبة ذات الغالبية الشيعية أيضًا، حوصرت البلدتان وقُصفتا إلى أن انتهى القتال بعملية ترانسفير طائفي للفوعة وكفريا مقابل مضايا والزبداني.
حالُ الفوعة، حال المناطق المختلطة التي وقعت فيها اشتباكات طائفية؛ والتي يصعب تخيّل مستقبل آمن لسورية بلا برنامج مصالحة شامل يُعيد المهجّرين لبلداتهم ويعزّز العيش المختلط؛ وأهل مكّة أدرى بشعابها.
مشوار الحريّة من إدلب إلى دمشق كما يرويه مقاتلوها
لن تطيب جولتنا باتجاه المناطق المحرّرة سابقًا، إلّا بعد الجلوس مع مقاتلين ممّن أسقطوا الطاغية خلال 11 يومًا. تحكي لنا مجموعة منهم شاركت في عملية “ردع العدوان” من إدلب حتى دمشق، عن مشوار الحرّية؛ وأوّل “الفتح” وآخره: ساعة الانطلاق كانت السادسة صباحًا من يوم الأربعاء السابع والعشرين من شهر نوفمبر/تشرين الثاني المنصرم، من المناطق المحرّرة شرق إدلب نحو غرب حلب، حيث اتجهت الوحدات نحو عدّة نقاط وعلى نحو متزامن. وهناك، خاض المقاتلون معارك ضارية مع قوّات النظام، على وقع غارات روسية متواصلة. وكانت أوّل منطقة تتحرّر، بلدة الشيخ عقيل غرب حلب، وبعدها واصلت القوّات معاركها مستعيدة بلدة تلو الأخرى.
يروي مسؤول غرفة عمليات في فيلق الشام عن مسار تحرّك قوّاته. أولى معاركهم كانت في سراقب، تقدّموا بعدها نحو خان شيخون دون مقاومة، عاودوا استعداداتهم العسكرية واستأنفوا تقدّمهم نحو أطراف حماة، حيث جرت معارك طاحنة لثلاثة أيام خسروا فيها كثيرًا من القتلى. وحين وصلوا إلى بلدة العشارنة (حماة)، جاءتهم الأوامر عند الثالثة صباحًا، “سيجري تسليم البلدة بلا قتال”، وهو ما حصل. دخلوا البلدة في الخامسة صباحًا، وحينها وصل إليهم خبر أنّ جيش النظام انهار في حمص بعد اشتباكات مع فيالق المعارضة، ووجب التحرّك فورًا. في هذا الوقت كانت الغارات الروسية التي رافقتهم في الأيّام الأولى للمعركة، قد توقّفت تمامًا؛ الغارة الأخيرة كانت من نصيب جسر الرستن، بين حمص وحماة. من المفارقات، كما يقول لنا أحدهم، إنّ الغارات الروسية لم تستهدف المقاتلين أثناء تقدّمهم في المحافظات والمدن وتحريرها، ومعظم أهدافها كانت مدنية. على كلّ حال هذا ليس مستغربًا بالنسبة للسوريين، فمن عجائب القصف الروسي منذ تدخله العسكري في البلد عام 2015، أنّه كان يترصّد التجمّعات، فما أن يحصل الاكتظاظ في الأسواق أو عند المفارق، حتى تأتي الغارة. وممّا رصدناه من آثار الغارات الروسية الأخيرة ويؤكّد ما قاله المقاتلون، قصف مستشفى إدلب في المدينة وإخراجها عن الخدمة إلى جانب منازل مدنيين، حيث كان المقاتلون على مسافة تبعد أكثر من 150 كيلومترًا.
وبحسب خطة “ردع العدوان”، كان من المفترض أن تتوقف المعركة عند حلب، بحسب ما ذكر لنا مسؤول في العلاقات العامة في الإدارة الجديدة في وقت لاحق للقائنا مع المقاتلين، لكن ما لم يكن متوقّعًا وقع. كان السقوط المتتالي للمدن، والتحرير الكامل لحمص في السابع من ديسمبر الماضي 2024، بمثابة إعلان سقوط للعاصمة بيد الثوّار. بالنسبة للمقاتلين عند جبهات حماة، فإنّ الطريق نحو دمشق (220 كيلومترًا)، استغرق رحلة ست ساعات وسط زحمة السير.
بعد سويعات من تحرير حمص، تلقّى المقاتلون الأوامر العسكرية “سيروا إلى دمشق”، لينطلق معها سباق الفصائل من الشمال والجنوب نحو العاصمة. ربحت الثانية، ودخلت المدينة أوّلًا، ولحقت بها فصائل الشمال لتبدأ مرحلة التمشيط واستلام السلطة. لم يخطر ببال هؤلاء المقاتلين أن يسيروا إلى الشام بخفّة الطير “كنّا نتوقع معارك ضارية لستة أشهر على الأقل، لا أن ندخلها في ساعات، لم نتوقّع ذلك. لقد دبّ الرعب فيهم”، يضيف أحدهم محلّلًا هرولة جنود النظام وترك آلياتهم ومقرّاتهم خالية.
مقاتل من كفرومة في منطقة معرّة النعمان، التي تحرّرت في بدايات المعارك، يتحدّث عن عودته مقاتلًا إلى بلدته المدمّرة، ورفيق له يشير إلى مشهد الأمّهات والعائلات التي انتظرتهم عند مداخل المدن الكبرى “فرحة الناس كانت أكبر من فرحتنا، حسّ الشعب بالحرية، قابلونا بالتهليل والحلوى والورود والأرز”، ورشّ الأرز في مناسبات الأفراح وملاقاة الأحبّة بعد فراق، عادة يعرفها أهالي الشام. تتبدّل ملامحهم ويخفت صوتهم عند الحديث عن تحرير المساجين “كان الأهالي يدفعوننا لتسريع الخطى نحو السجون في دمشق، علّنا نسبق الموت إلى أبنائهم”.
محمّد (21 عامًا)، متزوّج حديثًا. ترك عروسه مسرعًا إلى المعركة بعد استدعائه في السابع والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني. حين سألناه عن لحظة وصول الأوامر بالتوجّه إلى دمشق، ردّد بانفعال وضحك “إلى الشام؟ لم نصدّق، الشام يا الله الشام”، ثمّ يكرّر المشهد نفسه مرّة وثالثة، وبالانفعال ذاته، وكأنّه يريد استعادة متعة تلك اللحظة، وأن يتوقف عندها كلّ شيء. كثيرٌ من المقاتلين الذين التقيانهم من سنّ محمد، هُجّروا من مدن ريف دمشق والقرى والبلدات الثائرة، أو فرّوا نحو الشمال السوري بسنّ المراهقة أو التجنيد؛ هؤلاء عاشوا أكثر من نصف حياتهم في حرب ضدّ نظام أمني ظالم ونالوا حصتهم من جرائمه. لم يتلقوا دروس التربية القومية، ولم يرفعوا الصوت قويًّا “عاش بعث العربِ” ويقفوا صفًّا واحدًا “فلاحًا وشبابًا لا يلين وجنديًا مقاتلًا” ليحيا البعث وقائد البعث. متديّنون، لكن التديّن العادي الذي نعرفه عن أهلنا في الشام. نلحظ أنّ الخوف لا يغلب طباعهم، ولا يعكس تصرّفهم تربية نظام أمنيّ. عندهم أريحية بالتعبير، ولا يتردّدون بالغمز واللمز من أيّ فصيل أو سلطة، حتى من يكبرونهم سنًّا من المقاتلين يوجّهون رسالة إلى الإدارة الجديدة، بدون أدنى تحفظ، بأن تكون “على قدر تضحيات الشعب السوري”.
العربي الجديد
—————————
قائمة الـ Top Ten من الأساطير والمغالطات بشأن السياسة الأميركية بالمنطقة والتي تنتشر بكثرة في الأوساط السياسية السورية
طه بالي
1️⃣0️⃣-“أميركا بالآخر دولة مؤسسات وشخص الرئيس ما بيأثر”
من الفوائد المحدودة جدا لوصول دونالد ترامب للرئاسة كون هالمقولة صارت أقل تواترا، وإن كانت لساتها بتطفو عالسطح كل فترة وفترة. طبعا لا ننسى المتعة العظيمة بمحاولة تفنيد هالمقولة قبل نجاحه بالانتخابات ومحاولة إقناع كثيرين أنه رئاسة هيلاري كلينتون =/= رئاسة دونالد ترامب. صحيح أنه أميركا “دولة مؤسسات” وقانون (بشكل عام)، بس الخلط هون بيصير لما يتناسى القائل أنه أهم هالمؤسسات هو مؤسسة الرئاسة اللي بتتحكم بالسلطة التنفيذية بشكل شبه كامل، واللي هي متمحورة حول شخص الرئيس. وصحيح أنه في ضوابط لشو ممكن يعمل هالرئيس بتمنع البلد يتحول لدكتاتورية شخصية، بس في مساحة مناورة هائلة وبخاصة وبالذات في شؤون السياسة الخارجية حسب الدستور الأميركي، وبالتالي خلفية وإيديولوجيا وذكاء وكاريزما الرئيس كشخص بتفرض نفسها وممكن تعمل فروق جذرية جدا. بالموضوع السوري مثلا كانت رئاسة جون ماكين رح توصل لنتائج مختلفة بشكل كامل عن رئاسة باراك أوباما، وهكذا.
9️⃣-“معروف مين عم يحرك كل القصص”
مرتبطة بعشرة ولكنها تحيل لشي أعمق، يتراوح حسب موقع المحلل على الطيف الإسلامي-العلماني ودرجة تعليمه بين تلميح لسيطرة يهودية ماسونية خفية على مجريات أحداث الكوكب بما فيه أميركا، إلى سيطرة اللوبي الصهيوني، وأحيانا بينضاف مع هدول “الشركات” و”اللوبيات” و”رؤوس الأموال”، هيك ككتلة مصمتة متآمرة أهدافها منسقة ومتسقة. بالواقع أنه أميركا فعلا فيها لوبيات أو مجموعات ضغط على صانع القرار وعلى أعضاء الكونغرس، بس هالمجموعات أولا مانها مطلقة القدرة أبدا، وتانيا مساهماتها وتأثيرها قابل للقياس ومعرفة الجمهور العام كقاعدة وحسب القانون، وتالتا هي متعارضة بين بعضها. التاثير اليهودي كمثال على القرار الأميركي نجاحاته متفاوتة، بدءا من تلكؤ الولايات المتحدة بالدخول للحرب العالمية التانية وإيقاف الهولوكوست، وصولا للعدوان الثلاثي اللي وقفت فيه مع مصر ضد إسرائيل، وحتى صفقة أوباما مع إيران اللي حكما كانت ضد إرادة نتنياهو والإيباك. في أمثلة اخرى عديدة أقل شهرة، وبالاساس في خلافات ضمن إسرائيل نفسها بشأن كتير من سياساتها، وفي خلافات بنفس الوقت بين اليهود الأميركيين متل أي مجموعة بشرية تانية. مؤخرا في صعود ملموس لمجموعات سياسية يهودية أميركية معادية لسياسات إسرائيل بشكل كامل. في طبعا أمثلة للوبيات عرقية تانية ما كتير منسمع فيها لأنه ما بتهمنا، متل اللوبي الكوبي الأميركي أو الهندي الأميركي أو الأرمني الأميركي، إلخ.
8️⃣-“لو ما في ضو أخضر أميركي ما بتتدخل روسيا”
في افتراض هون أنه أميركا تعرف كل ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون. بالواقع انه اجهزة المخابرات والحكم الاميركية عندها سجل مبهر من الاخطاء والهفوات والتقصير على كل المستويات، وآخرها الفشل المدوي بالتصدي للحملة الروسية على الانتخابات الأميركية الأخيرة. في استخفاف بالمقابل بقدرة أي دولة تانية غير أميركا، حتى لو كانت دولة عظمى سابقة متل روسيا، بانه تتخذ قراراتها بشكل سري ومستقل. كأنه أميركا ما خاضت حرب باردة لنصف قرن وخسرت جولات عديدة مع الخصم الروسي. في أيضا هون أخي الفاضل مغالطة الـ false dichotomy أو الثنائية الزائفة، كما سيمر معنا في النقطة التالية.
7️⃣-“لو بدن يشيلوه كانوا شالوه من زمان”
الضمير هنا عائد على البرميل الأكبر بشار. الثنائية الزائفة بهالمقولة بتحطك فورا بين احتمالين لا ثالث لهما، إما أميركا، اللي بإمكانها عسكريا أنه تتخلص من بشار الأسد، هي معارضة بكل قوتها وطاقتها لوجوده، أو هي معه. ما في احتمالات رمادية معقدة بالنص. شي من نمط أنه السياسة الأميركية منفعلة أو لا مبالية أو مترددة أو متعثرة أو مختلف عليها داخليا أو أنه الضغط للتخلص من الأسد هو أولوية متدنية عند دولة عندها قائمة أولويات بالمنطقة والعالم. ما عم حاكم أخلاقية هالسياسة الرمادية تجاه جرائم الأسد (اللي هي غير أخلاقية برأيي وتستحق الإدانة)، وإنما عم بدعو لفهمها بشكل واقعي حتى نقدر نفكر كيف ممكن نغيرها أو حتى ننتقدها بشكل دقيق ومفيد. افتراض أنه في تنسيق خفي شرير وقرار نهائي لا يتزحرح عن المؤسسات الاميركية الغامضة باعطاء سوريا لبشار الأسد أو لروسيا هو افتراض خاطئ وهدام.
6️⃣-“أخي أميركا بدها تربي الناس فينا مشان ما عاد حدا يعمل ثورة”
هي المقولة وتنويعاتها على نمط “خايفين من هالشعب يحكم حاله” وفكرة بأنه الدمار السوري العام هو هدف أميركي تحقق أخيرا محببة عند اليساريين أكتر من غيرهم، وهيك بتحسها طالعة من عبق التاريخ ايام ما كانت كلمة ثورة يعني لينين وتروتسكي ودكتاتورية البروليتاريا، وإن كان أحيانا بتاخد قالب إسلاموي على طريقة إيقاذ المارد النائم وهالحكي. في شي صحيح بأنه بعض التيارات الحاكمة بالمنطقة العربية كان بيهمها فشل بعض الثورات العربية وبخاصة حالة السعودية والإمارات مع الثورة المصرية، بس إسقاط هالشي على إدارة أوباما مثلا واعتبار أحد أهدافهم الاستراتيجية وأد الديموقراطية إينما حلت وكانت في العالم الثالث أو العالم الإسلامي أو العالم العربي هو شي غير دقيق بالمرة. التعامل الأميركي مع الثورات والانقلابات والحركات الاحتجاجية بعد الحرب العالمية التانية كان مختلط ومختلف من حالة لحالة حسب كل بلد وكل رئيس أميركي، بدون اعتبار الديموقراطية بحد ذاتها قيمة سلبية (أو إيجابية بالضرورة، وإن كان في ميل عموما لهالشي عالأقل بعد نهاية الحرب الباردة).
5️⃣-“دول الخليج ما بيعملوا شي من راسن”
شي بيشبه قصة الاضواء الخضراء، بس هون في اعتقاد أعمق ومنتشر أكتر بتبعية الأنظمة الخليجية الكاملة لأميركا. مو مزبوط. مبدئيا هي الأنظمة مختلفة بين بعضها أساسا، وبالتالي الكلام عن تعليمات موحدة بتصدر من اميركا وبتنفذها الانظمة هو كلام فاسد منطقيا. بالواقع الانظمة، اللي كمان جواتها نفسها في خلافات، هدفها هو البقاء وإطالة عمرها الممكن، مع تقرب من القوة الأقوى اللي هي أميركا. هدا تقرب وليس تطابق والاستثناءات الخارجة عليه متكررة ومهمة. قطر تمردت على الارادة الاميركية مرات عديدة بلبنان وفلسطين والعراق وانقصفت قناتها الجزيرة. السعودية تحدت أوباما آخر كم سنة بشكل علني وسري. الإمارات قوضت جهود جون كيري خلال مفاوضات حرب غزة بالـ 2014. هي الدول عندها لوبيات عم تشتغل بواشنطن وتمويلها بعشرات ملايين الدولارات لتضغط على صناع القرار الاميركي (وغالبا شغلها باتجاهات متعاكسة بسبب الازمة الحالية بينها). تصوير هي الانظمة كادوات لوزارة الخارجية الاميركية هو تصوير كوميدي اكل عليه الدهر وشرب، وبالواقع كل مالنا عم نقرب ليكون العكس هو الصحيح.
4️⃣-“كل هالحرب مشان النفط وتجار الاسلحة”
بالسياق السوري الكلام عن النفط والاسلحة هو شي شبه استشراقي، وغريب يطلع من قبل سوريين. انتاج النفط السوري بالـ 2010 انحدر للـ 300 ألف برميل، وعمليا صارت سوريا دولة مستوردة للنفط. بالمقابل أميركا بتنتج باليوم 10 مليون برميل (أكتر من السعودية). صحيح أنه أميركا وقبلها بريطانيا كان عندهم أطماع معينة بمنطقة الخليج العربي إما بشكل استعماري تقليدي أو كحماية اقتصادية وتثبيت لسعر النفط العالمي، بس الكلام عن مطامع اميركية بالثروات السورية هو كلام مستورد ومعلب وبيتناقض اساسا مع اداء ادارة اوباما الزاهدة جدا بالتدخل في سوريا لسنوات. تجارة السلاح بالمثل مالها علاقة بتطورات الحرب السورية اللي ايضا لسنوات كان كل السلاح فيها سلاح روسي قديم أو صفقات سلاح من دول الكتلة الشرقية السابقة بتمويل خليجي، وطبعا كله سلاح خفيف ومتوسط ما بيكفي مصاريف حفلات نهاية العام تبع شركات السلاح الاميركية. بالواقع أنه كل صادرات السلاح الاميركية هي جزء صغير جدا من الاقتصاد الاميركي ككل (أقل من 0.5%) وبتتقدر بعشرات المليارات سنويا. يعني أقل من مبيعات الآيفون.
3️⃣-“شلون داعش ظهرت فجأة”/”شلون داعش اختفت فجأة”
هون عنا مغالطة الـ false premise، أو المقدمات الخاطئة التي بتوصل إلى نتائج خاطئة. في شي مغري على ما يبدو بإسباغ هالة غامضة وعصية على التفسير على كل شي متعلق بداعش. بس بالواقع هدا تنظيم ما ظهر فجأة أبدا. داعش كانت ISI “داع”، بدون الشام، بدءا من تأسيسها بالـ 2006، وخاضت معارك طويلة عريضة مع القوات العراقية والاميركية قبل انسحابها، وانكتب عنها دراسات ومقالات وتحليلات، وتم استهداف قادتها وملاحقتهم واعتقالهم. التنظيم سيطر على الموصل بحزيران 2014 بشكل خاطف، وهي كانت معركة عسكرية سريعة، بس ما بتفرق عن معركة دخول الجيش الحر الى حلب مثلا (أو دخول النظام بعدها الى حلب). سياسيا وفكريا وتنظيميا داعش كانت موجودة لسنوات قبلها واخدت الاسم الجديد قبل بسنة كاملة من هالمعركة. بالمثل، اختفاؤه ما كان مفاجئ ولا سريع واستغرق تلت سنوات من المعارك التدريجية اللي خرايطها موجودة يوم بيوم.
2️⃣-“داعش خلص دورها”
هي يمكن اكتر مقولة ذات شعبية لانه بيشترك فيها جميع اطراف الصراعات المختلفة بالشرق الاوسط، وطبعا كل واحد بيعتبر انه الطرف اللي عدوه هو اللي كان متبني داعش ورواتبها وسلاحها. فيما يخص اميركا اللي اعداءها كتار، في ناس موالين لمحور روسيا-ايران-الاسد بيعتبروا داعش شي متماهي بالثورة السورية وبالتالي اميركا مسؤولة عن الاتنين. بالمقابل في نفس معارض لهالمحور ولاميركا بنفس الوقت بيعتبر انه اميركا (اذا مو اسرائيل كمان) خلقوا داعش وحافظوا عليها بهدف تشويه صورة الاسلام والمسلمين. اي بلا سلبة.
🚨1️⃣🚨-أخيرا، وليس آخرا، ورقم واحد بدون شك هو “أميركا لا تعمل إلا لمصالحها”
درة العقد اللي بتحوي جواهر كتيرة بقلبها. أحد التفريعات السورية المحلية لهالمقولة العظيمة هي “يعني بدن __كذا_كذا_كذا__ مشان سواد عيونا؟”
من الناحية الشكلية البحتة هالجملة هي tautology منطقية فارغة بتشبه القول بأنه كل رجل ميت هو فاقد للحياة. بس أعمق من هيك، والشي اللي بيقصده القائل حتى لو ما فكر فيه مطولا هو افتراض تأسيسي، وبن-لادني الطابع، على نمط الدنيا فسطاطين، بيعتبر انه السياسة والعلاقات بين الدول صفرية بالضرورة، وانه تحقيق مصالح الدولة آ هو تقويض لمصالح الدولة ب (او بحالة سوريا الشعب ب)، كأنه ما في امثلة لا تحصى بالتاريخ على تحالفات دولية او فكرية او اقتصادية مفيدة مشكلة من جهات مستقلة متعددة. ايضا بيتجاهل هالافتراض وجود صراعات ثلاثية ورباعية وخماسية الاطراف متل حالتنا اللي ما فيها ابيض واسود. بالواقع هالشعار بيختزل مجموعة من المغالطات اعلاه، متل عداء اميركا التلقائي لازدهار اي شعب متل كانه في بالدولة الاميركية شي جوهراني essentialist بيخليها شرير الفيلم اللي لا يمكن إصلاحه، ومتل الاعتقاد بانه مصالح اميركا ثابتة بديهية لا تتحول عبر الزمان والمكان. شعار يدعو للكسل الفكري والسياسي والتقوقع على الذات حتى اللانهاية.
الفيس بوك
—————————-
=======================