سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 06 كانون الثاني 2025
لمتابعة التغطيات السابقة
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 05 كانون الثاني 2025
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 04 كانون الثاني 2025
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 03 كانون الثاني 2025
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 02 كانون الثاني 2025
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 01 كانون الثاني 2025
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 31 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 30 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 29 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 28 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 27 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 26 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 25 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 23 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 22 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 21 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 20 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 19 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 18 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 17 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: المصاعب والتحديات، مقالات وتحليلات 16 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مهام اليوم التالي، مقالات وتحليلات 15 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 14 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: سقوط الديكتاتور الفار بشار الأسد مقالات وتحليلات
————————————
على الأمم المتحدة طيّ صفحة «الفورسيزنز» في تاريخها السوري: لا بد من تغيير الطاقم وتجديد البرامج وعمل الوكالات/ خالد منصور
06-01-2025
بينما كان غير بيدرسن، المبعوث الأممي إلى سوريا، يغادر سجن صيدنايا المهجور قرب دمشق، بصقت امرأة باتجاهه وألقت حذاءها على سيارته، في إشارة تعبِّر عن احتقار وازدراء عميقَين في الشرق الأوسط. قبل سقوط نظام الأسد في الثامن من كانون الأول (ديسمبر)، لم يكن بيدرسن معروفاً بدفاعه العلني عن حقوق الإنسان أو بمشاركته في أي حوار جدّي حول الانتقال السياسي في سوريا.
أظهرت لقطات بثَّتها قنوات محلّية المرأة وهي تصرخ: «أين كنتم طيلة 13 عاماً؟ تأتون الآن بعد أن قُتل الجميع؟ اخرجوا فوراً من هنا!».
ربما لم يتمكن بيدرسن وفريقه الأممي من تحقيق الكثير خلال ست سنوات من توليه المنصب، ولكن هذا بالضبط ما يستدعي من الأمين العام للأمم المتحدة تعيين فريق جديد لسوريا. الخطاب الدبلوماسي لبيدرسن عن الحاجة إلى الانتقال السياسي والمصالحة وإعادة الإعمار لم يُقنع السوريين الذين لم يجدوا فيه، أو في كلماته، أي مصداقية. دعوته لإجراء انتخابات حرة ونزيهة في بلد لم يشهد عملية كهذه منذ عقود طويلة بدت جوفاء، وأظهرت افتقاره للفهم السياسي للواقع الجديد في بلد أطاح للتو بنظام دام أكثر من خمسين عاماً وكان متجذراً في القمع الشديد والمحسوبية والطائفية والفساد.
حان الوقت لرحيل بيدرسن. ربما كان هذا الدبلوماسي النرويجي الاختيار المناسب لمرحلة الجمود السياسي في سوريا منذ 2018، حيث اكتفى بمراوحة مكانه بينما كان الأسد وحلفاؤه الروس والإيرانيون يفرضون السيطرة على مساحات واسعة من سوريا عبر ارتكاب جرائم حرب هائلة، بما في ذلك القصف العشوائي بالبراميل المتفجرة. لكن تلك الحقبة انتهت. الانتقال السياسي الحالي يستلزم أفكاراً جديدة وخبرات مختلفة من فرق الأمم المتحدة، إذا أرادت لعب دور ذي معنى في تحقيق التوازن بين المصالح المحلية والإقليمية والدولية المتنافسة في سوريا.
تغيير القيادة الأممية في دمشق وتعيين شخص أكثر ملاءمةً قد يكون هدية عيد ميلاد متأخرة من الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش للشعب السوري، بما في ذلك المرأة الغاضبة التي بصقت وألقت حذاءها، والتي ورد أنها كانت في صيدنايا للبحث عن شقيقها وأبناء عمومتها المفقودين. هذا السجن سيء السمعة تصدَّر شاشاتنا خلال الأسبوعين الماضيين، مع الإفراج عن آلاف المعتقلين والمعتقلات من زنازينه المروّعة ومن مراكز اعتقال مماثلة في سوريا بعد سقوط الأسد. ومع ذلك، ما يزال هناك أكثر من 100,000 سوري وسورية يُعتقد أنهم مفقودون، وربما قُتلوا أو أُخفوا قسرياً على يد النظام أو الجماعات المسلحة.
بينما قد يدَّعي كبار مسؤولي الأمم المتحدة في سوريا أنهم بذلوا كل ما بوسعهم تحت حكم نظام الأسد الإجرامي، إلا أنهم في الواقع غالباً ما ساهموا في تمكين هذا النظام بذريعة أنهم، باعتبارهم منظمات حكومية دولية، ملزمون بالتعامل مع «الحكومة الشرعية» ذات السيادة.
طوال سنوات، أقام العاملون الدوليون في برامج الإغاثة التابعة للأمم المتحدة في فندق الفورسيزونز بدمشق، ما أثار انتقادات واسعة وعزلَهم عن بلد تعاني فيه الغالبية العظمى من السكان من فقر مدقع وجوع. كما أن اختيارهم لهذا الفندق سهَّل مراقبتهم من قبل أجهزة المخابرات المختلفة في البلاد. لكن سوريا دخلت موسماً جديداً الآن، ومعه يجب أن تنتهي حقبة الأمم المتحدة في الفورسيزونز.
على الأمم المتحدة أن تعود إلى نهجها من خلال تغييرات زلزالية مماثلة، كما حدث في أفغانستان عام 2001 أو العراق عام 2003، حينما نشرت فرقاً أكثر خبرة ووعياً سياسياً وكفاءة لقيادة الملفات السياسية والتنموية والإغاثية.
معظم وكالات الإغاثة في سوريا إما اخترقها عملاء سابقون للنظام أو تقودها كوادر أممية عليا تجنَّبت، في أفضل الأحوال، مواجهة الحكومة، أو تواطأت، في أسوأها، مع الديكتاتورية المتداعية. كثير من مسؤولي الأمم المتحدة لا يحظون بثقة الشعب السوري أو بمصداقية الخبراء الذين أمضوا سنوات في مراقبة برامجهم وسياساتهم. وتشير تقارير إلى أن بعض هذه الوكالات تورَّطت في قضايا فساد من خلال صفقات استفاد منها النظام وأعوانه.
برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، على سبيل المثال، لا سيما في السنوات الأولى من الانتفاضة الشعبية في سوريا، خضع للنظام السوري، ما أدّى فعلياً إلى حرمان المناطق التي تسيطر عليها المعارضة والمحاصرة من قبل قوات النظام من المساعدات الإنسانية. إذ أصبحت المجاعة، والحرمان من الإمدادات الطبية والاحتياجات الإنسانية الأساسية الأُخرى، وتدمير المدارس والمستشفيات، وقتل الكوادر الطبية، أسلحة حرب منتظمة في سوريا، استخدمها النظام بشكل أساسي، وكذلك الميليشيات المعارضة.
وفقاً لتقرير تقييم صادر عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية: «لم تكن وكالات الأمم المتحدة على استعداد للمخاطرة بعملياتها في سوريا عبر اتخاذ موقف أكثر صرامة مع الحكومة … [وهو موقف] سيُنظر إليه بشكل سلبي بلا شك في وقت لاحق». نحن الآن في ذلك الوقت اللاحق.
يجب أن تستند المواقف والإجراءات المستقبلية للأمم المتحدة إلى تقييم شامل لدَور وكالات الإغاثة في سوريا منذ 2011. تُعد هذه العملية ضرورية لأي منظمة ذات مبادئ لتتعلّم وتتحسّن. وحتى يتم إجراء مثل هذا التقييم التفصيلي، يجب استبدال القيادة الأممية بالكامل في دمشق بفريق جديد غير مرتبط بسنوات التواطؤ مع النظام. تواجه الأمم المتحدة مهاماً شاقة في سوريا، تشمل دعم انتقال سياسي بقيادة سوريّة، وإدارة عملية إعادة الإعمار، وتيسير العودة الآمنة لملايين النازحين واللاجئين. وبناءً على ذلك، يجب على جميع موظفي الأمم المتحدة مغادرة فندق الفورسيزونز في أقرب وقت ممكن، للتفاعل المباشر مع الشعب الذي يُفترض أنهم يخدمونه، خاصةً مع تغيّر الموسم في سوريا.
عمل خالد منصور صحفياً، ومتحدثاً باسم الأمم المتحدة، ومديراً للاتصال لمدة 25 عاماً في العديد من الدول، بما في ذلك مصر وجنوب أفريقيا وأفغانستان والسودان والولايات المتحدة الأمريكية. وهو الآن كاتب متفرغ.
موقع الجمهورية
———————————–
أولويات ما قبل مؤتمر الحوار الوطني السوري/ سميرة المسالمة
06 يناير 2025
بعد انتصار الثورات، تمثّل المرحلة الانتقالية تحدّياً كبيراً أمام الدول الساعية إلى بناء نظام سياسي جديد يعكس تطلّعات شعوبها. في هذا السياق، يظهر المؤتمر الوطني التأسيسي خطوةً محوريةً لإعادة بناء الدولة على أسس ترتكز على العدالة والمساواة. ولضمان نجاح هذه المبادرة، يعتمد المؤتمر على مقوّمات أساسية، منها التمثيل الشامل والشفافية والالتزام بإطار قانوني واضح.
يتحقّق نجاح المؤتمر عندما يكون تمثيلياً لجميع مكوّنات المجتمع، بما في ذلك القوى السياسية والنشطاء الاجتماعيين ومؤسّسات المجتمع المدني والفئات المهمّشة. يعزّز هذا التمثيل شرعية المؤتمر ويسهم في اتخاذ قرارات تعكس مصالح مختلف الأطياف. كما تُعدّ الشفافية، والمشاركة الشعبية، عنصرين أساسين في أيّ عملية انتقالية ناجحة، إذ تتطلّب التحضيرات فتح قنوات للحوار بين المواطنين لاختيار برامج ممثّليهم، إلى جانب توفير آليات تمكّن المواطنين من المساهمة في النقاشات وصياغة القرارات من خلال وسائل مثل الانتخابات والاستفتاءات أو ورش العمل.
يلزم إطار قانوني ودستوري ينظّم عمل المؤتمر ويسهم في تحديد أهدافه ومساراته. يمكن إعداد إعلان دستوري مؤقّت يتضمّن مبادئ حقوق الإنسان وسيادة القانون والفصل بين السلطات، ممّا يضمن وضوح القواعد التي تُبنى عليها العملية الانتقالية، وتمارس الحكومة التنفيذية خلال هذه الفترة عملها بناءً على مُحدّدات هذا الإعلان، وهو ما يعطي قراراتها شرعيةً، ويمنحها حرّيةً كاملةً في إعادة بناء المؤسّسات الحكومية، التي صارت أثراً بعد عين، أي إنّها مُجرَّد ذكرى أو اسم من غير مسمّى.
وفي سياق التحدّيات، تنبغي مطالبة كلّ الجهات المعنية بهذا المؤتمر أن تمارس السلطة دوراً حيادياً تجاه المشاركين، فـ”الحيادية” هي العامل المحوري لضمان مصداقية المؤتمر وقراراته، ما يعني ضرورة ابتعاد أيّ فصيل عسكري أو سياسي أو جماعة من أدوار اللجنة التحضيرية، واختيارات المشاركين، ما يعزّز الثقة في مخرجات المؤتمر، ويضمن أن تكون قراراته موجّهةً إلى خدمة المصلحة الوطنية الشاملة، بعيداً عن المصالح الفئوية أو الحزبية. ولا بدّ من التوضيح أن الاستسهال المطروح حالياً بتصدّر بعض الشخصيات أدواراً حيويةً في اختيار أعضاء المؤتمر يقلّل من جدّية تعاطي السلطة مع هذا الاستحقاق، إذ تعدّ مرحلة ما قبل المؤتمر هي المؤشّر إلى نجاح ما بعدها، المرحلة التي تجري خلالها حوارات وطنية على مستوى التجمعات الشعبية، أو الكتل السياسية، لطرح أوراق عمل بنّاءة لرؤية الأطراف السورية كلّها لما يمكن أن تكون عليه العناوين الرئيسة للمرحلة المقبلة، أيْ تحدّد اللجنةُ التحضيريةُ، بعد قراءتها تلك المشاريع، المشتركاتِ بين مختلف أطياف المجتمع السوري، كما تضع في اعتباراتها المواضيع المُختلَف عليها لمناقشتها وجسر الخلافات حولها، أي إن اللجنة التحضيرية للمؤتمر ليست مناصب فخرية، بل هي كفاءات أكاديمية وبحثية وشخصيات مجتمعية موثوقة، وحيادية تجاه جميع المشاريع ومنابعها، وهو ما يتطلّب منحها الوقت الكافي واللازم للخروج بنتائج إيجابية وجامعة ورافعة لقيم السوريين وأهدافهم.
مهمّة المؤتمر الكشف عن رؤية واضحة لمستقبل الدولة تجمع عليها القوى المشاركة بعد أن تكون قد استنفدت كامل وسائلها في التواصل مع مجتمعاتها، فلا تعبّر هذه الرؤى عن آراء شخصية، بل عن إجماعات وطنية لعمل المؤتمر، مع التركيز في إعادة بناء المؤسّسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فالنقاشات لا تقتصر على القضايا السياسية وحدها، مع أنها مؤشّر لما يليها، لكن ما يواجه سورية من تحدّيات اقتصادية بالدرجة الأولى، يجعل من الاقتصاد بوصلة السياسة القادمة، إذ لكلّ اقتصاد مكوّناته السياسية الفاعلة فيه ومنه، والتي تؤثّر في حياة المواطنين بتفاصيلها كلّها. لهذا كلّه، تبدأ أولى علامات قدرة المؤتمر على النهوض باستحقاقات التأسيس لمرحلة انتقالية حقيقية لقيامة الجمهورية الثالثة، من عملية اختيار ممثّلي القوى السياسية والمجتمعية جميعها من دون استثناء، سواء كان مزاجياً أم انتقامياً، أم إقصائياً، ما يعني الذهاب إلى اعتماد آليات ديمقراطية وشفافة، مثل الانتخابات أو الترشيحات، لتعزيز مصداقية المشاركين وتأكيد ارتباطهم المباشر بإرادة الشعب.
يُعدّ المؤتمر الوطني التأسيسي فرصةً تاريخيةً لإعادة صياغة أسس الدولة على نحو يعزّز العدالة والاستقرار، ونجاح هذه الخطوة يعتمد على التمثيل الشامل والشفافية والحياد والرؤية المستقبلية الطموحة، التي تتجاوز التحدّيات الآنية نحو بناء مستقبل مُستدام. هذه الأولويات لا يمكن “طبخها” على مواقد مطفأة، بفعل غياب أولويات البنية التحتية، كما لا يمكن الجزم بتمثيلها الشعبي الحقيقي، وهي تدار بين أروقة الفنادق، وفي غياب تصريح واضح لأسماء أعضاء اللجنة التحضيرية، وآليات عملها، وطرق تواصلها مع مختلف أطياف المجتمع السوري، وحياديتهم تجاه إفساح المجال للجميع لطرح مطالبهم من دون تخويف أو مصادرة مسبقة لآرائهم حول القضايا كلّها، من شكل الدولة إلى تفاصيلها الداخلية.
والخلاصة التي يجب أن تبقى في أذهاننا، أن مركز اهتمام أي مؤتمر ينصبّ على صوغ المشتركات العامّة، التي تجعل من المواطنين شعباً أو مجتمعاً، وهي التي تحدّد القيم العُليا التي ينبني عليها الدستور، وتصاغ على أساسها القوانين، وهي صون الحقّ في الحياة والحرّية والكرامة الإنسانية والمساواة، من دون أي تمييز لأيّ سبب. فمركز قيامة المجتمع هي حقوق المواطنة المتساوية، التي لا يحقّ لأيّ أكثرية أن تخلّ بها أو تنزاح عنها، لأن ذلك يقوّض الإجماع الوطني الذي يعيد سورية إلى الحياة.
العربي الجديد
———————————
تلك بعض الأسماء التي نجت… صحافيون وناشطون في ملفات المخابرات السوريّة/ عمّار المأمون
06.01.2025
حصلنا في “درج” على نسخ مصوّرة للكثير من الوثائق، ملفات فساد، تقارير استخباراتية، صفقات، وقوائم لا متناهية من الأسماء، أشبه بحلم يتحقق للباحثين في الأرشيف والمحققين الصحافيين والمؤسسات المسؤولة عن تحقيق العدالة في سوريا، لكنه في الوقت ذاته، يخلق الرعب، مئات الأسماء التي لا نعرفها، لكن ضمن هذه القوائم قد يظهر اسم نعرفه، اسم مألوف ذو صوت ووجه نجا من الاعتقال، وأحياناً لم ينجُ.
هرب بشار الأسد، وخلت أفرع الأمن من “حرّاسها” ومجرميها والقائمين عليها، مساحات الموت والتعذيب تحوّلت إلى ما يشبه “مسرح الجريمة”، اقتحمتها قوات المعارضة المسلّحة وأطلقت سراح الموتى-الأحياء فيها، دخلها الصحافيون والناشطون والفضوليون والمحققون للبحث في ما تبقى، إذ عمد رجال النظام إلى حرق الكثير مما فيها، لإخفاء الجرائم المرتكبة، لا فقط منذ عام 2011، بل قبلها أيضاً، نحن أمام أرشيف لـ”كل” السوريين، المتهمون والبريئون موجودون هناك.
حصلنا في “درج” على نسخ مصوّرة للكثير من الوثائق، ملفات فساد، تقارير استخباراتية، صفقات، وقوائم لا متناهية من الأسماء، أشبه بحلم يتحقق للباحثين في الأرشيف والمحققين الصحافيين والمؤسسات المسؤولة عن تحقيق العدالة في سوريا، لكنه في الوقت ذاته، يخلق الرعب، مئات الأسماء التي لا نعرفها، لكن ضمن هذه القوائم قد يظهر اسم نعرفه، اسم مألوف ذو صوت ووجه نجا من الاعتقال، وأحياناً لم ينجُ.
أثناء البحث في الملفات، ظهر تقرير في فرع الخطيب أو (الفرع 251)، موجه إلى رئيس الفرع، مكتوب بتاريخ 13/ 1/ 2012، موضوعه “متابعة تنسيقيّة حرستا”، يشمل مراقبة أشخاص عدة، والتنصت على أحدهم، ورصد مكافأة مقدارها 10 آلاف ليرة سوريّة لـ”المصدر”، أي صاحب التقرير، وفيه يظهر اسم الزميلة الصحافية المقيمة في ألمانيا، رشا عباس.
صفحة واحدة فقط كانت كافية لتثير القشعريرة بينما أقرأ. صفحة واحدة كانت قادرة على تقرير مصير رشا، المتّهمة بالتخطيط لـ”نقل مساعدات من حرستا إلى حمص”، تقرير كتبه مجهول لا اسم له في التقرير، لكنه كما يصف التقرير “ِشارك في تظاهرات حرستا”.
هكذا ورقة تكشف أنه مقابل 10 آلاف ليرة سوريّة (أي ما يعادل 100 دولار حينها) بإمكان أحدهم أن يشي برفاق قد يواجهون مصائر كالاختفاء أو التعذيب في أقبية الفرع، أو حتى الموت، ورقة واحدة تثير القشعريرة، أُرسلت إلى رشا عباس بعد التنسيق مع فريق التحرير والخبير القانونيّ بخصوص محتواها وأثره القانوني.
سألت رشا عباس: ماذا يعني أن يظهر اسمها في تقرير كهذا، فكتبت: “عندما قرأت اسمي، وسياق التقرير الذي ورد فيه، فكرت في عبثية الحياة في سوريا، في كوني وغيري جزءاً من هذه الحقبة المظلمة من تاريخ البلاد. أن ترى اسمك في تقرير أمني هو شأن مرعب، على الرغم من وجود المسافة الزمنية والجغرافية. أمضيت أنا وغيري سنوات في الخارج، غير قادرين على العودة إلى سوريا، أكثر من 10 سنوات لم أرَ أهلي فيها، من دون أن أكون حتى متأكدة إن كنت مطلوبة أو لا، خصوصاً أن نظام “الفيش” أثبت عدم فاعليته مع الكثيرين، فلم أتبعه، وكان من الممكن أن أمضي عمري خارجاً من دون أن أعلم، وإن لم يسقط النظام، لما كنت عرفت إن كنت مطلوبة أو لا”.
تضيف رشا: “المرعب في ورود اسم أحدهم في تقرير من هذا النوع، في بلد كسوريا، يعني أن يمضي عمره وهو لا يعلم ما هو الإجراء الذي سيتخذ ضده أو كان سيتخذ لو قررت البقاء فترة أطول، هل سيعتقل على الحاجز مثلاً أو سيتم استدعاؤه للتحقيق، أو ستتم مداهمة منزله في أي لحظة، وهنا مُفارقتان، الأولى أنك لا تعلم إن كنت مطلوباً، والثانية، غموض الإجراءات التي ستُتخذ بحقك”.
سألت رشا عن اسم أحدهم المذكور في التقرير، والذي عيَّنها لـ”توصيل المساعدات”، تقول: “الاسم الذي ورد في التقرير انقطعت أخباره منذ اعتقاله عام 2012، ولا أعلم شيئاً عنه، أعاد ألي شعور من الأسى ، فالآن بعدما كان مفقوداً لأكثر من 10 سنين، أرى اسمه في تقرير أمني. استعدت بعضاً من مشاعر رعب الكابوس السوري الذي يستعيده الجميع، أن تكون عالقاً في سوريا، وعاجزاً عن تجربة قطع الحدود كونك لا تعلم إن كان اسمك لديهم أو لا. ما رسخته منظومة الرعب من مرارة طغت حتى على شعور الفرحة لسقوطها”.
ينتهي التقرير بموافقة رئيس الفرع على الإجراءات فيه، تضاف إليه لاحقاً موافقات أخرى ومراسلات بين الأفرع لإتمام “العمل”، تقول رشا: “يتضاعف شعور الأسى والارتياع لرؤية “إيصال المساعدات” أو حتى شبهتها كتهمة في هذه التقارير، ومنها التقرير الذي ضم اسمي، لا التظاهر أو الإرهاب أو غيرهما من التهم التقليدية التي يكيلها النظام السوري لمعارضيه، ببساطة كان من الممكن أن أخسر حياتي بسبب شبهة كهذه، من النظام الذي اعتقل رفيقات ورفاقاً لي، لمجرد محاولة إنقاذ حياة آخرين، من هذا النظام نفسه”.
“لن ترى نور الشمس في حياتك”
يحوي فرع الجوّية في منطقة المزّة في العاصمة دمشق، غرفة “الأمانات”، هناك حصلنا على قوائم بأسماء بعض الموقوفين عام 2011، هناك قائمة باسم “الموقوفين في سجن فرع التحقيق الذين شاركوا في أعمال الشغب وأُخلي سبيلهم أو أحيلوا إلى القضاء”.
تحوي القائمة أكثر من 500 اسم، وُجهت الى غالبيتهم تهم “المشاركة في أعمال شغب” أو “التحريض على التظاهر” أو “توزيع أموال في المقهى” أو “التحدث عن الظلم الذي يعانيه الشعب وضرورة الدفاع عن دم الشهداء”، تهم ملفّقة في الوقت ذاته تحمل شعارات الثورة نفسها، بل يمكن القول إنها مطالب محقّة!
بعض التهم تكشف عن توزّع النفوذ كأن يكون أحدهم “مطلوباً في لوائح درعا الثلاثيّة” أي يتم تبادل الأسماء بين الأفرع، وأحياناً نجد ملاحظات غير منطقية كأن أحدهم “شارك بالتظاهر بتحريض من خال زوجته” أو “تظاهر من تلقاء نفسه”، قوائم طويلة من الأسماء التي كان من الممكن أن يختفي أصحابها في الأقبية، لكن كل من في القائمة أخلي سبيله، منهم الصديق والزميل جود حسن.
حسب القائمة، اعتقل جود بسبب “مشاركته في التظاهرات” بتاريخ 27/03/2011، وحين عرضنا عليه اسمه في القائمة أخبرنا: “كانت هذه ربما أول تظاهرة أشارك فيها، لم يكن شعار إسقاط النظام مرفوعاً حين خرجنا يومها من المسجد الأموي، حينها، خرجت بوجهنا مسيرة مؤيدة، وبينهم الكثير من عناصر الأمن، وبينما كنا على الطريق نحو ساحة المرجة في دمشق، هجموا علينا، وبدأوا حملة اعتقالات، وتعرض المتظاهرون للضرب قبل أن يسوقوا كل واحد إلى فرع مختلف”.
يضيف جود: “كل الأسئلة في المُعتقل كانت من أنتم؟ ومن حرضكم؟…الخ، بعدها فوراً عصبوا عينيّ ووضعوا الأصفاد في يدي وفتشوني ثم نزعوا ثيابي، بعدها لبست الثياب وألقوا بي في المنفردة”.
يكمل جود: “بقيت مكبلاً ومعصوب العينين خلال الاعتقال، وفي آخر يوم ساقوني إلى التحقيق أواجه أسئلة وتهديدات وضرب، ثم صوّروني، بعدها وقعت على ورقة فارغة، ثم فكوا العصابة عن عينيّ وحاولوا إجباري على الظهور على شاشة التلفزيون السوري كوني صحافياً، لأكرر خطابهم عن وجود مؤامرة ومندسّين، لكني رفضت”.
يضيف جود: “أعادوني إلى الأسفل، ثم بعد بضع ساعات أخذوني إلى محقق آخر، حيث أجبرني على مشاهدة المسيرات المؤيدة على شاشة التلفاز، وأعطاني درساً وطنياً ثم قال لهم، خذوه!، بعدها أعطوني أغراضي وقالوا لي:”اذهب، لكن إن القينا القبض عليك مرة أخرى، لن ترى نور الشمس بحياتك”، كما هددوني أيضاً بأهلي وأخوتي والإلقاء بي على الحدود كوني فلسطينياً-سورياً”.
“كل الأسئلة في المُعتقل كانت من أنتم؟ ومن حرضكم؟…الخ، بعدها فوراً عصبوا عينيّ ووضعوا الأصفاد في يدي وفتشوني ثم نزعوا ثيابي، بعدها لبست الثياب وألقوا بي في المنفردة”.
“تظاهر من تلقاء نفسه”
تتدفق الأسماء تباعاً مرتبةً حسب تاريخ الاعتقال، لوهلة تبدو كل الأسماء مألوفة، ذات أوجه نراها في تسجيلات التظاهرات ذات الدقة المنخفضة، تعود حماسة الـ2011 أثناء التصفح، ليحل بعدها لاحقاً رعب، إن كان هؤلاء من أفرج عنهم، فما حال الذين لا تظهر أسماؤهم، أولئك الذين اختفوا أو انتهوا في أقبية التعذيب.
أثناء المرور على الأسماء، ظهر اسم الزميل محمد ديبو، الكاتب والصحافي، والذي وصف بأنه “تظاهر من تلقاء نفسه”، بعكس آخرين قيل إنهم تظاهروا بتحريض من أحد ما. اللافت أيضاً التهم الموجهة إلى ديبو أو أقواله، إذ نقرأ: “أفاد بأن لديه أفكاراً يريد إيصالها وطرحها، ومن أهمها المطالبة بمكافحة البطالة والفساد والنظر في قانون الطوارئ وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وإعطاء الجنسية للأكراد، وقد قضى قرار سيادتكم باستمرار توقيف المذكور لاستكمال التحقيق معه وإجراء دراسة ميدانية والبت بالموضوع على ضوء النتيجة”.
التهم الموجّهة إلى ديبو على درجة من الخطورة إلى حد عدم إطلاق سراحه، لكن عبارة “إجراء دراسة ميدانيّة” تبدو غامضة، هل تعني التعذيب؟ الاستجواب؟ سألنا ديبو عن ذلك اليوم، فقال: “اعتقلتني من القرية المخابرات الجوية/ فرع طرطوس، وحوّلت إلى دمشق في 21 آذار/ مارس 2011. وأعتقد أن المكتوب في الوثيقة هو رسالة موجهة من فرع المخابرات الجوية في طرطوس إلى فرع المخابرات الجوية في دمشق، لأنني أثناء التحقيق سئلت عن مطالبي، وقد أجبت (وكان هذا في الأيام الأولى للثورة) بأننا نريد الإصلاح ومحاربة الفساد وإطلاق الحريات وإطلاق سراح السجناء السياسيين وإلغاء المادة الثامنة من الدستور… وبناء على ذلك تم تحويلي إلى فرع دمشق لاستكمال التحقيقات”.
يضيف ديبو: “في ما يخص عبارة “تظاهر من تلقاء نفسه”، فلهذا حكاية قد تبدو طريفة من جهة، ومفجعة من جهة ثانية، وتعكس مدى خبث الاستبداد من جهة ثالثة، إذ لم أعترف في فرع طرطوس على أي أحد ممن كنت أعرفهم ممن سعوا الى التظاهر في ذلك اليوم. لكن الذي حصل في دمشق، ولا أعرف إن كان مصادفة أم تنسيقاً من المحققين، أنه كان معي في الزنزانة قريب الصديق عمر إدلبي، وهنا بدأنا نثرثر بكلّ ما نعرف. وفي اليوم التالي تفاجأنا بأن كل كلامنا أصبح أمام المحققين، وحينها عرفت أنّ ثمّة مخبراً في الزنزانة، فأخبرت الآخرين سراً بعدما عرفته أو عرفناه لتفادي الحديث أمامه، ولكن كان الفأس قد وقع في الرأس كما يقال، وكان لا بد من الاعتراف بما كانوا قد عرفوه أصلاً بعدما نقله لهم المخبر”.
يتابع ديبو قائلاً: “حين أعدت قراءة هذه “التهم” كما أرسلتها لي، كان أول ما فكرت به: هل كنت شجاعاً أم أحمق، كي أقول هذا الكلام للمحقق في “سورية الأسد”؟ لا ننسى أننا نتحدث عن الأيام الأولى للثورة، وحتى قبل أن تبدأ التظاهرات بشكل فعلي وحقيقي على الأرض، وقبل أن أعرف عما إذا كانت سوريا تتّجه نحو ثورة أم لا؟ إذ أتذكر الآن أن الجو العام وقتها كان جو ترقب واستشكاف لمعرفة إن كانت سوريا ستثور أم لا؟ وأعتقد من موقعي الآن، أن الحماسة التي بثّها وزرعها فينا سقوط الأنظمة في تونس ومصر وليبيا كان أحد أسباب هذه “الشجاعة أو الحماقة” ربّما، إضافة إلى كوني كنت ناشطاً بالشأن العام وقريباً من دوائر المعارضة السياسية والمعتقلين السياسيين منذ ربيع دمشق”.
يكمل ديبو: “كان أول ما تذكرته حين قرأت اسمي، المنفردة التي بقيت بها وحدي لمدة يومين في طرطوس قبل أن أحوّل إلى دمشق. ورغم أنّها كانت كابوساً إلا أنها ستبدو لي في الأيام اللاحقة قصراً مقارنة بزنزانة المخابرات الجوية في مطار المزة العسكري، والتي كانت أقل حجماً مع عدد وصل إلى 11 معتقلاً أحياناً. أما الأمر الثاني الذي تذكرته، فهو المحققون الذين تولوا التحقيق معي على مدى يومين في فرع طرطوس، كان هناك اثنان وكاتب قلم كان يبدو لي بوضوح أنه متعاطف معي بشدة، في حين كان أحد المحققين لئيماً جداً (ولؤمه هذا لعب أطفال أيضاً قياساً بما حصل في دمشق لاحقاً)، والثاني أقل لؤماً. لا أزال أتذكر وجهيهما جداً. والغريب أني لا أحمل أية ضغينة شخصية ضدهما، وفي الوقت نفسه أتمنى أن أراهما يوماً في قفص المحكمة (ومعهما كل الذين تولوا التحقيق في دمشق أيضاً)، وإن كنت متأكداً أنني سأسامحهما بعد ذلك، وقد أسقط حقي الشخصي عنهما أيضاً. ما أتذكره أيضاً، أنّ الضابط الذي حقّق معي بعدما انتهى العنصران من التحقيق معي، كان “لطيفاً”. لم أره ولا أْعرف وجهه، لأني كنت مطمّشاً. لكن صوته لا يزال يرن في ذاكرتي. كان هادئاً ولم يحاول الضغط، سمع مطالبي واكتفى بذلك”.
درج
—————————–
حراس تماثيل حافظ الأسد/ بشير البكر
الإثنين 2025/01/06
حين قامت الثورة السورية عام 2011 كان أحد أولويات أجهزة الأمن حماية تماثيل الرئيس الأسبق حافظ الأسد، ولذلك خصصت لهذه المهمة القسم الأكبر من عناصر الأمن المكلفين بمواجهة المظاهرات، وذلك لعدة أسباب، الأول هو، رمزية الأسد التي تتوسل الأبد، وتحاكي الخوف وهيبة السلطة، وهذا ما لاحظة الباحثون الأجانب الذين درسوا مظاهر الهيمنة في سوريا، ومنهم عالمة الاجتماع الأميركية ليزا ويدين، أستاذة العلوم السياسية في جامعة شيكاغو في كتابها المعروف “السيطرة الغامضة: السياسة، الخطاب والرموز في سوريا المعاصرة”، الذي خصصته لتوضيح الآليات التي يتبعها الطغاة في فرض طاعتهم وتقديسهم على الناس من حولهم، وذاك من خلال دراسة أساليب نظام الحكم في سوريا، في السيطرة على فضاء المعاني والخوف، ومقارنتها بتجارب ديكتاتورية مشابهة أخرى. والسبب الثاني يتعلق بالمظاهرات، ذلك إن التمثال يمثل أعلى رمزية للسطة، ويقع الأسد الأب في أعلى التراتبية، والتعرض له بأي شكل من الأشكال هو هجوم على النظام أكثر من أي مؤسسة من مؤسسات السيطرة، بما في ذلك أجهزة الأمن، وهناك درجات للتحدي وتجاوز حواجز الخوف، تبدأ برمي التمثال بقشور الفواكه والأحذية وتلويثه بالدهان، وكتابة شتائم فوقه، وحتى العمل على اسقاطه، وهذه هي الدرجة القصوى من الجرأة، التي يسقط عندها الخط الأخير، الذي استمر النظام في بنائه منذ اليوم الأول لوصوله إلى الحكم، ليحول البلد إلى قلعة للخوف ومملكة للصمت. وعلى هذا الأساس، يمكن تفسير الهجوم على التماثيل بعد سقوط النظام في الثامن من الشهر الماضي، وتحطيمها بعنف من قبل المتظاهرين الذين نزلوا للشوراع من اجل الاحتفال بالخلاص، لا يمكن قراءة ذلك، إلا كتعبير عن احتقان داخلي، ونقمة مكبوتة، ومحاولة للتنفيس عن غضب شديد، اختزنته الصدور لزمن طويل.
وفي هذا السياق أجرت قناة “تلفزيون سوريا” مقابلة مع محافظ مدينة حماة عشية الثورة أحمد خالد عبد العزيز، قدم فيها شهادة عن منهج السلطة في التعاطي مع أولى التظاهرات التي شهدتها المدينة ذات الخصوصية، كونها تعرضت لمجزرة على يد قوات النظام السوري عام 1982 راح ضحيتها أكثر من 30 ألف شخص، حسب تقارير العديد من المنظمات الدولية الحقوقية والانسانية. وتحدث المحافظ عن قرار مسبق لدى أجهزة الأمن بإطلاق النار على المتظاهرين، في حين أن أجهزة الدولة الأخرى كانت تحاول استبعاد الحل الأمني، ويسرد حكاية معبرة جداً عن العهد البائد، عن حرص أجهزة الأمن على حماية تماثيل الرئيس الأب، التي كانت تنتشر في مداخل وساحات المدن والقرى، في الجامعات وملاعب الرياضة والمطارات. ويقول إن همها كان منصباً على حراسة التمثال الرئيسي في مركز المدينة، ومن 1500 رجل أمن لقمع المظاهرات، التي بدأت تشهدها المدينة، تم تخصيص 1200 لحماية التمثال من المتظاهرين، وكانت الأوامر من مسؤول جهاز الأمن العسكري العميد محمد مفلح بإطلاق النار على كل من يتعرض للتمثال.
يروي المحافظ أنه عرض في اجتماع الخلية الأمنية المكزية ما تشكله مسألة حماية التمثال من تحييد 1200 رجل امن محترف، متخصص في مواجهة المظاهرات، وذلك قبل أن يتم عزله بعد المظاهرة المليونية الكبرى التي شهدتها المدينة في الأول من تموز- جمعة ارحل، بسبب مرونته مع المتظاهرين. ويقول إنه استقر الرأي داخل الخلية على إزالة التمثال مؤقتاً، وقد حصل ذلك نهاراً. وحين وجد المتظاهرون المكان خالياً من التمثال، عمموا على وسائل التواصل بأن النظام سقط في حماة، لكن المفاجأة كانت في صباح اليوم التالي أن المدينة أفاقت على حمار يقف على قاعدة التمثال، وبجانبه كلب يحرسه، الأمر الذي ترك صدمة لدى القصر الجمهوري في دمشق. ويقول المحافظ إنه استدعى بعض فعاليات المدينة من الذين على صلة بقيادة المتظاهرين، وأبلغهم أن ذلك التصرف سوف يدفع أجهزة الأمن للتوحش، وكان جواب هؤلاء أن المخابرات هي التي وضعت الحمار والكلب، وليس المتظاهرون، ما يكشف عن نهج شيطنة المتظاهرين، الذي تم تعميمه في الأشهر الأولى للثورة بطرق وأساليب مختلفة، منها توزيع السلاح على المتظاهرين السلميين من أجل اتهام الثورة بأنها غادرت شعارات السلمية، وصارت تستخدم السلاح، وبذلك يتم تبرير زج الجيش في التصدي للمتظاهرين.
يفيد المحافظ السابق بأن أول خطوة قام بها النظام بعد أن سيطر على مدينة حماة هي إرجاع التمثال إلى مكانه، بعد أن تم الاحتفاظ به في أحد مخازن المحافظة، وذلك كدليل على الرمزية العالية للتماثيل في فلسفة الحكم التي استعارها الأسد من كوريا الشمالية ورئيسها الأسبق كيم إيل سونغ الذي تكتظ الساحات الكورية بتماثيله حتى اليوم، وقد درجت موضة تماثيل الأسد في بداية السبعينيات بعد فترة قصيرة من إمساكه بالحكم في انقلاب 1970، وسرت موجه في الإعلام قادها وزير الاعلام في حينه احمد اسكندر أحمد، ترفع الأسد إلى مرتبه القداسة، وكانت بعض الأوساط لا تلفظ اسمه واستبدلته بأ”المقدس”. وبلغ النفاق درجة أن العديد من الوزراء والمحافظين صاروا يتسابقون على صناعة تماثيل للأسد، وجرى إطلاق مسابقات رسمية للنحاتين من أجل صناعة أفضل تمثال، وكاد أحد النحاتين المعروفين أن يدخل السجن بعد أن فاز النموذج الذي قدمه، لأن التنفيذ لم يعجب الأسد، وفهم من أن صاحب العمل يضمر شرا تجاهه، وأراد تقديمه على نحو كاريكاتيري، ولكن النحات أنقذ رأسه بتمثال يظهر فيه جبروت الطاغية.
المدن
——————————-
أمّهات المرجة: وجوه تبحث عن المفقودين في ذاكرة دمشق/ علي الابراهيم
06.01.2025
في الأيام التي تلت التحرير، تغيّرت المطالب، ولم يعد النداء “أفرجوا عن المعتقلين” كافياً، بل تحوّل إلى صرخةٍ تطالب بكشف الحقيقة. عقودٌ من القمع والدماء تركت وراءها جروحاً لا تندمل، ووطناً يبحث عن ذاكرته.
وقفتُ أمام النصب التذكاري في ساحة المرجة، وسط دمشق، حيث تغطي جدرانه صور المفقودين والمختفين قسراً. تصطفّ الصور المعلّقة على الجدران كوشومٍ على ذاكرة المدينة. بين زحام الصور والوجوه المعلّقة على الورق، أخذت أبحث بعيني عن ملامح صديق قديم اختفى قبل ثلاثة عشر عاماً، يوم كان متوجهاً إلى كلية الإعلام ولم يعد. استمررت في التحديق، علّني أجد خيط أمل أو أثراً يروي شيئاً عنه، لكن لم أجد سوى العجز يثقل نظراتي وذاكرة المدينة.
هممت بالرحيل، بينما كنت أبتعد من الجدار المليء بالذكريات والآلام، اقتربت مني سيدة خمسينية تحمل صورة لشاب في العشرين من عمره وضعتها في إطار خشبي متهالك. نظرت إليَّ بعينين متعبتين وهمست: “والله أنك بتشبه ابني”.
وقفت أمامها صامتاً كتمثال. كانت السيدة واحدة من مئات الأمهات اللواتي تجمّعن في الساحة، تبحث عن إجابة عن مصير ابنها. دموعها لم تتوقف وهي تردد بصوت منكسر: “أخذوا أولادنا أحياءً، فأعيدوهم لنا أحياء. لن أعلق صورة ابني هنا، سأبقيها في قلبي”. كان في ملامحها ما يختصر سنواتٍ من القهر، في صوتها صدًى لكل أمٍّ سورية تقف على حافة الأمل واليأس.
حولنا، كانت الساحة تعجّ بمئات العائلات. جاؤوا إلى دمشق يبحثون عن مفقوديهم، بعدما فرَّ ابن حافظ وانتهى عصر عائلة الأسد. جدران النصب التذكاري كانت شاهدةً صامتة على الوجع. صورٌ ومعلومات للتواصل، ونداءات تشبه صرخات الغريق. لا شيء في تلك الساحة يُروى سوى قصص المفقودين الذين طواهم السجن أو القبر أو النسيان.
مآسي السجون السوريّة
تذكرت حينها حديثاً بُثّ قبل أسابيع لفضل عبد الغني، مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، وهو يبكي على الهواء: “كل المختفين قسرياً الذين لم يُعثر عليهم حتى الآن، قتلهم النظام السوري في السجون”. لم يقدم النظام تفاصيل لعائلاتهم عن أماكن الجثث، فقط الحقيقة المرة: الموت كان مصيرهم.
في 8 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، خرجت قوات النظام من معاقلها مثل أشباحٍ خاوية. انتهت ستة عقود من حكم حزب البعث، وأكثر من نصف قرن من استبداد عائلة الأسد، وسقط النظام. لكن الحرية جاءت متأخرةً جداً لمن كانوا ينتظرونها في الزنازين.
في الأيام التي تلت التحرير، تغيّرت المطالب، ولم يعد النداء “أفرجوا عن المعتقلين” كافياً، بل تحوّل إلى صرخةٍ تطالب بكشف الحقيقة. عقودٌ من القمع والدماء تركت وراءها جروحاً لا تندمل، ووطناً يبحث عن ذاكرته.
أخبرتني السيدة أن ابنها كان في سجن صيدنايا. ذلك المكان الذي لا يزال رمزاً للرعب. أُنشئ عام 1987، وأصبح موقعاً للإعدامات الجماعية والتعذيب المنهجي. وفق الشهادات، كان المعتقلون يموتون هناك مراراً قبل أن يُزهق آخر أنفاسهم. وصفت لي زيارتها الوحيدة للسجن عام 2018، حين أكدت وجود ابنها هناك.
بعد 61 عاماً من حكم البعث و53 عاماً من سيطرة عائلة الأسد، انهار النظام أخيراً، ولكن ليس قبل أن يترك وراءه إرثاً من الألم والدماء. الوثائق التي كُشفت عقب تحرير البلاد فضحت ممارسات قمعية ممنهجة، إذ احتُجز 136,614 شخصاً منذ عام 2011، 96,321 منهم اختفوا قسراً. الأرقام كانت جافةً كأوراق الخريف، لكنها تحمل أرواحاً، قصصاً، وأسماء.
جرح لا يندمل
زرت خلال الأيام الماضية عشر منشآت اعتقال، سبع مقابر جماعية، والمحكمة العسكرية. رأيت بأم عيني الوثائق التي كشفت عن الجرائم. كل الأهوال التي تم الحديث عنها، كانت أقل مما وجدناه.
سجون مثل فرع فلسطين، المعروف بسمعته السوداء، وفرع المخابرات العسكرية 291، وسجن تدمر، كلها أماكن تفيض بالموت. في فرع فلسطين، تعلقت أرواح المعتقلين في زنازين ضيقة ومظلمة. هناك، صُعقوا بالكهرباء، وجُوّعوا حتى نطقوا بما لم يفعلوه. أما في تدمر، ذلك السجن المنزوي في الصحراء، فكان المعتقلون يُعدمون ميدانياً، وسط صرخاتٍ لا يسمعها سوى الرمال.
التفتت السيدة نحو شابٍ آخر كان يقف بالقرب مني. كررت جملتها المعتادة: “والله أنك بتشبه ابني”. لم يكن لديها سوى هذا الأمل الباهت لتتمسك به.
زارت السيدة ابنها في سجن صيدنايا عام 2018 وتأكدت من وجوده هناك، لم تستطع العثور عليه بعد ذلك. “هل يمكنك أن تدلني كيف أجد ابني؟” سألتني السيدة للمرة الأخيرة بصوت مشحون بالرجاء قبل أن تتركني وتتجه الى شاب آخر. بقيت صامتاً فالكلمات خانتني، وسبقَتْني دموعي لتُعبر عن عجزٍ لم أستطع إخفاءه… فيما راحت مجموعة من الشباب تهتف بالقرب مني “زينوا المرجة… والمرجة لينا، شامنا فرجة… بشبابنا مزينا”.
درج
———————–
سوريا الخمسينيات: التجربة الموءودة/ صبحي حديدي
تحديث 06 كانون الثاني 2025
خلال سنوات أعقبت انتهاء الانتداب الفرنسي وإعلان الاستقلال الوطني الرسمي، 1947، وسبقت أنظمة الوحدة السورية ــ المصرية وانقلاب 1963 البعثي/ الناصري؛ شهدت سوريا مناسبات مجيدة سجلت صفحات خالدة في تاريخها الحديث الديمقراطي والعصري والحداثي، كما قد يصحّ القول. ولعلّ الطور الراهن من حياة البلد، بعد انهيار نظام “الحركة التصحيحية” وعصابات آل الأسد، يقتضي استعادة الكثير من تلك المآثر، خلال خمسينيات القرن المنصرم. وهذه السطور تستحبّ استذكار مناسبتين، ما يسمح به المقام في هذا العمود، لهما أغلب الظنّ العديد من الدلالات بصدد السياقات السورية المعاصرة، وآفاق التطلع إلى مستقبل ديمقراطي وعصري عماده المواطنة ودولة القانون والحقوق والواجبات.
المناسبة الأولى كانت في اليوم الأوّل للاستقلال، 17 نيسان (أبريل) 1946، حين قام الرئيس السوري شكري القوتلي (1891ــ1967) بتقليد عدد من ضباط الجيش السوري أوسمة تكريمية؛ وكان على رأس المكرّمين العقيد عدنان المالكي (1919ـ1955)، نائب رئيس الأركان الذي سوف يلقى حتفه اغتيالاً. صحيح أنّ التقليد كان جديداً من حيث الشكل والمحتوى، ومثله كان الوسام المصمّم حديثاً للتعبير عن سوريا المستقلة المتحررة؛ إلا أنّ الرمز الأعلى خلف المراسم تلك كانت خضوع الجيش السوري لحكام البلاد المدنيين، وللساسة في مواقع المسؤولية وليس كبار ضباط الأركان والأفواج والألوية العسكرية.
وإلى جانب إعطاء الإشارة الأبكر على التقيّد بمبادئ فصل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية في الدستور الوطني لسنة 1950، انطوت المراسم على تفصيل تربوي بالغ المغزى: إشراك المئات من الناشئة تلاميذ المدارس في الحفل، بهدف تعلّم الدروس التربوية الحاسمة حول هذا المناخ الجديد بين المدنيّ والعسكري، وحول موقع الجيش الوطني في هرم المسؤوليات الوطنية. وبالمعنى التاريخي الأكثر تعبيراً عن متغيرات سوريا خاصة، وحركات الاستقلال الوطني في المنطقة وما سيُسمى “العالم الثالث” عموماً، كان شطر غير ضئيل من أعراف المشاريع الاستعمارية الغربية يُطوى، في صياغاته التقليدية القديمة على الأقلّ.
المناسبة الثانية خلّدتها صورة فوتوغرافية تعود إلى عام 1955، وتحديداً يوم 6 أيلول (سبتمبر)، ويظهر فيها رجلان يتبادلان التوقيع على وثيقة من نسختين: الأول هو هاشم الأتاسي (1875 ـ 1960) رئيس الجمهورية آنذاك، والثاني هو القوتلي رئيس الجمهورية المنتخب؛ وأمّا الورقة التي تبادلا التوقيع عليها فهي وثيقة انتقال السلطات الدستورية، وتقول بعض فقراتها: “في هذا اليوم (…) جرى في ندوة مجلس النوّاب انتقال السلطات التي خوّلها الدستور لحضرة صاحب الفخامة رئيس الجمهورية السيد هاشم الأتاسي، إلى حضرة صاحب الفخامة السيد شكري القوتلي الذي انتخبه مجلس النوّاب رئيساً للجمهورية (…) وقد شهد ذلك صاحب الدولة الدكتور ناظم القدسي رئيس مجلس النواب، والأستاذ صبري العسلي رئيس مجلس الوزراء، والسيد وجيه الأسطواني رئيس المحكمة العليا”. ولا يخفى، بالطبع، ترتيب السلطات الثلاث الشاهدة على التوقيع: التشريعية، والتنفيذية، والقضائية.
والحال أنّ تلك الممارسة، الديمقراطية والحضارية، باتت غريبة على أبصار وأسماع غالبية العرب في مشارق أرضهم ومغاربها، وافتقدتها ـ إذْ لم يحدث أنها تكرّرت مراراً في حياة ـ الأجيال العربية بعد ذلك التاريخ؛ حين استولى أصحاب العروش والتيجان والقبعات العسكرية على مقاليد الأمور، وتراجعت السياسة إلى الباحة الخلفية، أو قبعت في الزنازين، أو تلقفتها المنافي هنا وهناك. إنها، غنيّ عن القول، تُفتقَد في هذه الأيام تحديداً، وأكثر من أيّ وقت مضى، ويتوجب أن تكون في صدارة ما يُطلب من السلطات الحاكمة في سوريا الراهنة، وما يُلزمهم باستلهام نهجها.
أيّ جيل عربي يتذكر انتقالاً سلمياً للسلطات بين رئيس انتهت ولايته وآخر انتُخب لتوّه، وفي المقابل كم من الأجيال ذيقت مرارة الانقلابات، والانقلابات على الانقلابيين، ومَسْخ السياسة إلى محرّم محظور، وتحويل المواطن إلى واحد من اثنين: سواد أعظم يلهث خلف الرزق اليومي، من دون أن يفلح في بلوغ كرامة العيش؛ وفئة، قليلة العدد مطلقة الصلاحيات، من الطغاة واللصوص ومافيات السلطة والفاسدين المفسدين؟
أسباب كثيرة تحضّ إذن على إعادة استلهام رجال من ذلك الرعيل الرائد، على سبيل مثال القوتلي: رجل باع أملاكه الشخصية لتمويل نضالات الحركة الوطنية ضدّ الأتراك وضدّ الاستعمار الفرنسي في آن، وخاطب ونستون تشرشل بعد أن التفت إلى البحر القريب: “شعبنا لن يكبّل وطنه بقيد العبودية والذلّ والاستعمار حتى لو أصبحت مياه هذا البحر الزرقاء حمراء قانية”. هو، كذلك، المسؤول الذي تخلى طواعية عن منصبه كرئيس للجمهورية السورية، منتخَب ديمقراطياً ومحبوب من شعبه وصاحب حظوة واحترام في العالم، مقابل تحقيق الوحدة السورية ـ المصرية.
أسباب، كثيرة بدورها، وقفت خلف وأد تلك التجربة الديمقراطية الوليدة، وقَطْع الدروب كافة أمام تحويلها إلى نموذج عربي وشرق أوسطي فريد ولامع، لا يُحتذى بسبب من مكاسبه العديدة في ميادين الحقوق والحريات العامة فحسب؛ بل كذلك لأنّ سوريا كانت، كما في العديد من سمات حالها الراهنة، محطّ احتلالات وصراعات إقليمية ودولية شتى. أو هي، كما يقول شاعرها الكبير الراحل عمر أبو ريشة، أرض “لنْ تري حفنة رمل فوقها/ لم تُعطّر بدما حرّ أبي”.
القدس العربي
—————————
الصراع من أجل سوريا!
تحديث 06 كانون الثاني 2025
بعد إعلان الدوحة فتح سفارتها في دمشق بيومين، قام وفد قطري رفيع المستوى برئاسة محمد الخليفي، وزير الدولة في الخارجية القطرية، بزيارة إلى دمشق، حيث التقى قائد الإدارة السورية أحمد الشرع، وبحث «سبل تعزيز علاقات البلدين ودعم مستقبل سوريا».
يوم أمس الأحد، أرسلت الإدارة الجديدة في دمشق بدورها وفدا رفيعا إلى الدوحة، تألف من وزير خارجيتها أسعد الشيباني، ووزير دفاعها مرهف أبو قصرة، ورئيس جهاز استخباراتها العامة، أنس خطاب. جرى هذا بعد يومين من الزيارة الخارجية الأولى للوفد نفسه إلى الرياض، حيث التقى وزير الدفاع خالد بن سلمان، والخارجية فيصل بن فرحان، ورئيس الاستخبارات العامة خالد بن علي الحميدان، ومن المنتظر أن يزور الوفد أيضا الإمارات والأردن هذا الأسبوع.
تزامن ذلك مع زيارات لوزيري خارجية فرنسا وألمانيا يوم الجمعة الماضي، بعد أن زار دمشق ممثلون من أوكرانيا والولايات المتحدة وتركيا وقطر وغيرها، كما تزامن مع رسائل إيجابية من الإدارة الجديدة إلى الدول العربية كافة، فقال الشرع إن سوريا «تتطلع لعلاقة استراتيجية مع مصر، كما أنه وجّه رسائل واضحة لم تستثن روسيا، التي كانت الحليف السياسي والعسكري الأكبر للنظام السابق لبشار الأسد، حيث أشار الشرع، في مقابلة مع وسائل إعلام إلى أن سوريا لها «مصالح استراتيجية مع روسيا وأنه يأمل ألا تغادر موسكو البلاد «بطريقة لا تتوافق مع العلاقات الثنائية» كما أنه وجّه رسالة إلى إيران، الحليف الكبير الثاني للنظام السابق، قال فيها إن الإدارة الجديدة تسعى لإقامة علاقات متوازنة مع الجميع.
تشير هذه الزيارات والرسائل الصريحة من الإدارة السورية الجديدة إلى رغبتها في تأسيس علاقات جديدة مبنية على الاحترام والمصالح المتبادلة بأمل إعادة الأمن والاستقرار إلى بلاد تم تدميرها وإفقارها وتهشيم بناها التحتية الاجتماعية والاقتصادية، وأن الإدارة تريد استبدال ما كان يسمى في الأدبيات السياسية العالمية، «الصراع على سوريا» بمبدأ جديد هو «الصراع من أجل سوريا».
يستند هذا إلى وعي واضح بأن هذا الجزء الكبير من الجغرافيا المنكوبة لبلاد الشام في حاجة للعودة إلى حالة «الدولة الطبيعية» المتصالحة مع مواطنيها، والمحيط العربي، والعالم، وهو ما يعني أن المهمة الأولى لأي إدارة عاقلة هي التركيز على تحقيق حد معقول من الخدمات الرئيسية، من رواتب وماء وكهرباء وغاز ونفط، وتأمين استقرار وأمن لمن يسكنون على أرضها، وهو ما يستلزم الوقت لالتقاط الأنفاس، ومحاولة رفع الرأس من تحت الأنقاض، والتوصل الى اتفاقات سريعة مع الدول العربية والأجنبية، كما يستلزم، بالضرورة، الحياد الإيجابي عن المحاور الكبرى العالمية أو الإقليمية أو العربية المتصارعة.
في المقابل، وبمجرّد أن انهار نظام بشار الأسد، سارعت إسرائيل إلى العمل على حرمان الإدارة العسكرية الجديدة من البنى التحتية العسكرية لنظام الأسد، فنفذت مئات الغارات، واستكملت ضرب مخزون السلاح الكيميائي، كما لو أن بقاءه في حوزة النظام السابق مسموح طالما كان يستخدم ضد السوريين أنفسهم، وهو ما فعلته بمستودعات الذخيرة والصواريخ والمعامل ومراكز البحث.
اللافت في هذا السياق، أن السلطات المصرية، التي كانت أبدت دعمها لنظام الأسد قبل ثلاثة أيام من سقوطه المخزي، انتظرت ثلاثة أسابيع على الحكم الجديد في دمشق قبل أن يقوم وزير خارجيتها بدر عبد العاطي بالاتصال بنظيره السوري ليدعوه إلى تنفيذ عملية انتقال سياسي «تتسم بالشمولية».
يسجّل أيضا أن السلطات المصرية قامت باعتقال العديد من السوريين على خلفية احتفالهم بسقوط نظام الأسد، أو المطالبة برفع علم سوريا الجديد (القديم، باعتباره علم الاستقلال أيضا) كما أنها قامت بمنع دخول السوريين، ما عدا من يحملون الإقامة المصرية، وهو إجراء اتبعته بتقييد دخول الفلسطينيين أيضا!
الواضح أن القاهرة تغلّب الحساسيات السياسية المعروفة الموروثة من فترة خلع الرئيس محمد مرسي، والصراع مع «الإخوان المسلمين» بدلا من التعاطي مع بلد جمعتها به دائما العلاقات الاستراتيجية، التي تؤكد الهجمات الإسرائيلية على سوريا (والإبادة الجماعية الجارية للفلسطينيين في غزة) على ضرورتها القصوى حاليا، ناهيك عن ضرورة دعم السوريين بعد 14 سنة من الحرب الطاحنة والكوارث الكبيرة.
القدس العربي،
——————————
حقول الألغام أمام إدارة الشرع في سورية/ شفان إبراهيم
06 يناير 2025
بغضّ النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معه، والإعجاب بطريقته في الإدارة أو لا، فتلك قضايا تتعلّق بالمواقف والقراءات، ولا تؤثّر في حقيقة أن شابّاً أربعينياً مطلوباً من عدّة دول، في مقدّمتها أميركا التي عرضت عشرة ملايين دولار لقاء المساعدة في اعتقاله… رغم ذلك، دخل ذاك الشابّ دمشق برفقة مجموعة “جهادية”، وقوّض نظاماً ديكتاتورياً اشتُهِر بـ”عدالة” نشر المظلومية على السوريين كلّهم منذ خمسة عقود وأكثر. رحلة بدأها الشابّ باسم “أبو محمّد الجولاني” من إدلب، واستغرق 11 يوماً لا أكثر حتى وصل إلى دمشق، ساعياً إلى تأسيس كيان يشمل الأراضي السورية كلّها، ولم ينسَ أن يرسل مجموعةً من الرسائل السياسية بمضامين مجتمعية وأمنية إلى القوميات والمكوّنات، وللسلك الدبلوماسي الأجنبي، داعياً إلى تشكيل دولة قال إنها ستشمل الجميع. وكانت هذه الخطوات كفيلةً باختلافه مع قادة أصوليين رافقوه منذ بدايات تحرّكه وعودته من العراق، ففضّل طريقاً خاصّاً به لصنع القرارات وتنفيذها، مستثمراً التغيّرات في الساحة السياسية والجغرافية في الشرق الأوسط، خاصّة مع انهيار ما يُعرَف باسم “محور المقاومة”، ومحق قوات حزب الله، وتدمير قوة إيران في سورية ولبنان، فاستغل لحظة تفوّقه لانتهاز الفرصة التاريخية، وفرض نفسه في الساحة السورية، فالمدن سقطت واحدةً تلو الأخرى، وانضم الآلاف من الأهالي لقواته، بل يُمكن القول إن النظام السوري ساهم في إسقاط نفسه سريعاً، حين لم يقاوم جيشه أو يحارب، ليفيق الشعب السوري صبيحة 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، على وقع أنبل الأخبار وأعظمها، وبصوت الصحافيين السوريين: “سورية من دون الأسد، سورية انتهى فيها الأبد”.
بدأت في دمشق صورة ورواية جديدة. ظهر أحمد حسين الشرع، استعاد الرجل اسمه الحقيقي، بالتزامن مع التخلّي عن ماضيه، أو هكذا يُوحي، منتقلاً إلى صورة الدبلوماسي والسياسي، مستخدماً أسلوباً هادئاً في الحديث والحَذِر في التصريحات، راغباً في تقديم صورة رجل دولة عوضاً عن صورة المحارب والمجاهد… والتسميات السابقة. وما يخطّه هنا كاتب السطور ليس تسويقاً أو وصفاً له، بل يسعى الكاتب إلى القول إن التحوّلات في سلوك الشرع وهيئته ربما تعكس جهوده لإزاحة النمط التقليدي الذي عُرف به، حاكماً فرداً مطلقاً من دون حرّيات وديمقراطية، خاصّة أنه حظي بنصر سريع فتح له أبواب دمشق على مصراعيها. في المقابل، ومن زاوية أخرى من الرواية، ورغم منطقية أن “الشبّيحة” و”النبّيحة” وأيتام البعث والنظام السابق، خاصّة المطلوبين منهم في قضايا وجنايات ضدّ الإنسانية، سيسعون بكلّ قوتهم لزرع الفوضى والفتن، إضافة إلى أن سنوات الحرب والدماء تخلق سلوكات لدى بعض العناصر المسلّحة لا تتلاءم مع طبيعة المجتمع السوري، وتحتاج إلى إعادة تأهيل ودمج لأصحابها… رغم ذلك، فإن بعض القرارات والتصريحات التي تصدر من هنا وهناك، وتُضخّم أحياناً في وسائل التواصل الاجتماعي، تُحدِث، هي الأخرى، عقابيل أمام تطوّر العمل الحوكمي الجديد، خاصّة أن حكم دولة مثل سورية يختلف كلّيا وجذرياً عن حكم محافظة مثل إدلب، سواء من ناحية التركيبتين، السكّانية والقومية، أو من جهة الشرخ النفسي والعاطفي والسلوكي للشعب السوري، الذي تسبّبت به الحرب. وهناك كتلة ضخمة من العراقيل والصعوبات والتحدّيدات تواجه الحكومة الحالية، والأكثر غرابة أن حكومة تسيير أعمال لثلاثة أشهر، يُطلب منها العمل حكومةً ذات جذور تاريخية عميقة. أبرز هذه التحديدات، أولاً، آلية تشكيل هُويَّة سياسية جامعة، فصراع الهُويَّات التي جاء بها النظام السوري والمليشيات الإيرانية وحزب الله في سورية، خلقت انقسامات وصعوبات عميقة، تواجه عمل الحكومة في خلق إجماع وطني حول نوعية الهُويَّة وسياقها الحضاري، بعد سنوات الحرب والنزاع، خاصّة أن الجيش والأمن هما ضلع القاعدة في مثلث الهُويَّة، بالإضافة إلى علاقة الدين بالدولة وشكل الدولة ونظامها، وهذه عراقيل حقيقية، لا يُمكن حالياً الحديث عنها قبل الدخول في المرحلة الانتقالية ومشاركة الكيانات السياسية فيها.
ثانيا، هناك المشكلات الأمنية والعسكرية. يمكن للمواطنين من القامشلي وإدلب الوصول بمركباتهم الخاصّة إلى دمشق، من دون أيّ خوف من الطريق الطويلة، وهي في حدّ ذاتها أحجية، إذ لم يصدف في سياق سقوط الأنظمة غياب عصابات التشليح والنهب في الطرقات، إضافة إلى غياب مظاهر العنف والنهب في مناطق سورية عديدة، في مقابل أحاديث عن وجودها في مناطق أخرى. لكن الواقع يقول إن سورية لا تزال ذات بيئة أمنية هشّة، فهناك انقسام بين دمشق وشمال شرقي سورية، وبين دمشق وأقصى الجنوب حيث السويداء. تبدي تلك الأطراف مقاومة (إمّا مباشرة أو ناعمة) للضم من دون ضمانات وتوافقات، وهي واحدة من المخاطر أمام حكومة تصريف الأعمال والحكومة الانتقالية المقبلة. وهناك ثالثاً الكارثة الاقتصادية والإنسانية، دمار أتى على عصب الحياة الاقتصادية السورية، بنية تحتية مدمّرة وارتفاع مخيف في معدّلات البطالة، وهو ما يُلزِم الإدارة الجديدة في دمشق بالانفتاح على دول الجوار؛ العراق وتركيا والأردن والسعودية، بما تحمله تلك الإدارة من تناقضات وخلافات، من المحتمل أن تؤثّر في طبيعة ورِتم العلاقة بين دمشق وتلك العواصم، خاصّة أن المتوقّع عدّم الرضا العربي من المدّ التركي في سورية، التي من الواضح أن لها اليد الطولى في الملفّ السوري الداخلي حالياً.
يقود ما سبق إلى تحدٍّ رابع، يتمثّل في الانقسام السياسي، وتأثيره في الشرعية الشعبية للحكومة، فالانقسام بين القوى السياسية واضح، وفي رأسها رفض الشرع وجود الائتلاف الوطني السوري المعارض، إضافة إلى الخلافات القومية والأيديولوجية بين مكوّنات الشعب السوري، وتحقيق التوافق السياسي هو مطلوب أولاً وبعمق، وهو صعب أيضاً، خاصّة أن الأطراف السياسية لم تكن متّفقة أساساً في غالبية القضايا المتعلّقة بالمصير السوري خلال الثورة السورية، وهو ما قاد إلى غياب الثقة بين القواعد الاجتماعية والأطراف السياسية. ويبدو أن زيارة وزيري الخارجية، الفرنسي جان نويل والألمانية أنالينا بيربوك، معاً للقاء أحمد الشرع ممثّلين عن الاتحاد الأوروبي، تحمل ثلاث رسائل مركّبة، أولاها أن مشروعاً دولياً توافقياً حصل بين الدول ذات الشأن يخصّ سورية، وثانيتها أن الدعم الدولي مشروط بتنفيذ تلك الاجندات التي غالباً سترتبط بمستوى الحرّيات والديمقراطية وحقوق المكوّنات والأمن والإرهاب، وثالثتها، وفق ما صرّحت به بيربوك، أن أوروبا ستدعم سورية خلال المرحلة الانتقالية، لكنّها لن تُموّل هيئات إسلامية جديدة، في رسالة واضحة بضرورة التوافق وتشكيل هُويَّة مدنية جديدة لسورية.
في المقابل، يعي أحمد الشرع جيّداً أن عدم رفع العقوبات الدولية عن سورية يُضعِف من احتمالية الحصول على الدعم المالي الخارجي، أو جذب الاستثمارات الخارجية. وفي النهاية، فإن ملفّي عودة المُهجّرين وإعادة الأعمار يُشكّلان أبرز ضاغطين على أيّ حكومة، سواء حكومة تصريف أعمال أو انتقالية أو مُنتخبة. ورغم ضمان الانحياز باتجاه واشنطن على حساب موسكو، فإن ما يُعقّد هذا الواقع الصعب أكثر أمام دمشق أن دول الجوار السوري، وفي رأسها تركيا، ستستمرّ في محاولة السيطرة على الشمال السوري، والظفر بأكبر قدر ممكن من المكتسبات، فهل سترضى الدول الأوروبية والعربية بذلك؟… في الوقت الحالي، لا يمكن التعويل على أيّ إصلاح دستوري أو سياسي، على الأقلّ حتى بداية مارس/ آذار (2025)، حين تنتهي مدّة عمل الحكومة الحالية، وهي اللحظة التي ستوضّح كثيراً من القضايا، من شكل الحكومة، ولونها، وهل سيُمدّد لها أم ستتوافق الأطراف السياسية على تشكيل حكومة انتقالية بصلاحيات واسعة، كما نصّ قرار مجلس الأمن 2254، بعد تعديل البند المتعلّق بالتفاوض بين المعارضة والنظام، ليتحول إلى ما يضمن حواراً سورياً سورياً لانتشال البلاد من الفوضى والتوتّرات؟
صحيحٌ أن الشرع قائد عسكري ذو خلفية إسلامية وعربية، ويملك تجربةً غنيةً ومكثّفةً في قيادة كتلة عسكرية منظّمة وملتزمة، لكن لا مراكز قوى عسكرية في سورية بعد اليوم، فسلاح الجو الإسرائيلي دمّر القدرة القتالية العظمى للجيش، خاصّة سلاح الجو والمدفعية والصواريخ بعيدة المدى، ومراكز البحوث والصناعات العسكرية، وبالرغم ممّا يُشاع عن ارتباط هيئة تحرير الشام باتفاقات بين واشنطن وأنقرة، لاقتسام مناطق نفوذ استراتيجية بهدف تحقيق مصالح معينة في سورية، فإن لا رؤية واضحة للمستقبل القريب للبلاد، خاصّة بعد المدّة الطويلة التي أعلنت لكتابة الدستور والانتخابات. كما تتداول الأوساط السياسية والنخبوية السورية مؤشّرات استنساخ التجربة التركية ذات التوجّه المدني الإسلامي وتطبيقها في سورية، وربّما يكون أحد الحلول بالنسبة للشرع، وقد يلقى ذلك استحساناً دولياً إذا ما حقّق التوازن بين التطلّعات الدينية للجماعات الملتزمة والساعية صوب الإسلام السياسي، والانفتاح على العلمانية أو المدنية بالنسبة للقوميات والأقلّيات الدينية والقومية. هذا الرِتم السياسي والإداري ربّما يصعب تحقيقه في ظلّ دولة مركزية، لكنّه سيكفل مكانةً قويةً للشرع في المسرح السياسي الدولي من جهة، ومن جهة ثانية ربّما يصطدم برفض عربي معارض للتغلغل التركي وانتعاش الإسلام السياسي في مناطق من سورية، خاصّة مع فشل التجارب السابقة للإسلام السياسي على مستوى الدول مثل مصر، أو بجناحه الشيعي متمثّلاً بحزب الله، أو السُنّي المتجسّد في حركة حماس.
الواضح أن الطريق ليس معبّداً بالورود أمام الشرع، بمقدار المسامير والألغام الموجودة، ومن الصعب التكهّن حالياً بمصير البلاد. لكنّ الإضاءة الجيّدة في القضية هي رغبة السوريين بالخلاص والاستعجال بالحلّ، وإن لم يأت كلّه دفعةً واحدة.
العربي الجديد
—————————
حقًّا… السُنَّة هم الأمة/ علي العائد
6 يناير 2025
شرطُ أبد السلطة الهاربة كان خوفُنا. سقط خوفنا فسقط أبدها. تلك كانت بديهية، أو مبرهنة، لكنها في السياسة تجري في كل مرة في سياق. الخوف لا يتشابه في كل الحالات، ولا الأبد. أما الحرية فهي الحرية. ومقابل الحرية دفع الشعب السوري ثمنًا من دم لا يمكن إحصاؤه، فثلاثة ملايين، من القتلى والمعاقين والمغيبين قسريًا، ليسوا مجرد رقم إلا في حسابات دوائر النفوس. فلكل فرد من هؤلاء حكاية تُنسج لوحدها، بتفاصيلها التي تبدأ من النظرة الأولى من الأم والأب لوليدهما، ولا تنتهي بافترار الشفتين عن أول ابتسامة، وبلؤلؤ أول سن، ومعجزة أول خطوة،… لا تنتهي، ولن تنتهي، وإن كان الجلاد أنهاها في الواقع الملموس. في هذا الواقع قد يُغلِّب كثيرون لغة قوة الحياة، وأن النسيان نعمة، وأن التضحيات لم تذهب هدرًا، وأن القادم أجمل لما تبقى من أطفالنا الناجين، أو الذين سنروي لهم حكايات تضحيات أخوتهم في بلادنا الولادة.
لن تستوعبَ أحياءُ وشوارع سورية، ومدارسها، وحدائقها، ومشافيها، ومتاحفها، أسماء ضحايا المجزرة الأسدية التي استمرت لأكثر من نصف قرن، كي يتكرموا بإطلاق أسمائهم على هذه الصروح المستقبلية. وصرحٌ واحد لجندي مجهول لن يكفي ليمثل هؤلاء، فما خاضه السوريون ليس حربًا، وإنما قيامة، عندما ركبوا سفينة خاضت بهم طول البلاد وعرضها قبل أن ينحسر الطوفان، وتعود حشائش الأرض لتلمع وهي تستقبل ضوء الشمس فجر الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024.
مع ذلك، تبدو واقعية كثير من السوريين مثيرة للحنق، بالقفز على الجراح المفتوحة، والمطالبة بالمساواة في التضحيات، هنا شهيد وهناك شهيد، هنا أمٌّ ثكلى، وهناك أم ثكلى، هنا لاجئ، أو نازح، وهناك نظيره، ما يعني أن من قُتل في سبيل الأبد، ومن استُشهد في سبيل سورية، متساويان، وأن كل هؤلاء ذهبوا فداء لمستقبل سورية. أكثر من ذلك، يطالب من نأوا بأنفسهم عن حرب “سنية ــ علوية” أن يكون لهم سهم كامل في سورية المستقبل مثلهم مثل من ضحى ودفع ثمن تجاوز خوفه من الأبد. كما يطالب من قُتلوا في “سبيل القضاء على داعش”، أو “في سبيل ما أرادته صانعة داعش”، أن يتمثلوا في صرح الجندي المجهول مثلهم مثل من ذهبوا في سبيل سورية المعقمة من الأبد. ومن يمثلون 10 في المئة من سكان سورية وكانوا يأخذون 90 في المئة من الفرص يطالبون بالمساواة، بينما تستمر الدوائر الغربية في العزف على وتر حماية الأقليات، ما يدعو حقًا الأكثرية إلى المطالبة بحماية حقها!
لا أعرف من أطلق لأول مرة تعبير “السُنَّة هم الأمة”، لكنني سمعته لأول مرة من المفكر الدكتور عزمي بشارة، وبالنص “السُّنّة ليسوا طائفة، بل هم الأمة، بشرط أن لا يتصرفوا بمنطق الطائفة”. هنا، سنحاول الاجتهاد في محاولة تفسير هذا التعبير.
لم يقل بشارة هذا في معرض الحديث عن السنة في سورية، بل بتعميم على العالم الإسلامي، بل الدول الإسلامية، منفردة، ومجتمعة. أما في سورية، فإن الميل إلى تصديق مضمون التعبير يجد كل يوم ما يدعم أحقيته، ففريق تحرير دمشق معظمهم من السنة، إن لم يكن كلهم، وفيهم على ما نعلم سُنة غير سوريين، من عرب وغير عرب. هؤلاء على العموم، لم يرتكبوا ما يكفي من تجاوزات تشفي غليل “الأقليات”، ليقولوا بصوت أعلى مما يفعلون الآن: السنة يستهدفون الأقليات، وانتقلنا بزوال النظام من تحت الدلف لتحت المزراب… التجاوزات حدثت منذ الأيام الأولى لهروب النظام وأركانه قبل أقل من شهر، بل وستحدث تجاوزات أكثر هنا وهناك، لأن النظام الجديد لم تتوفر له شروط الاستقرار النسبي تمهيدًا للدخول في العملية السياسية الأساسية لاستعادة الدولة السورية.
العملية السياسية المنشودة هي ما قد تقلل من مخاوف “الأقليات”، بل ومن تنطع أفراد منها محسوبين على اليسار السوري المختل الموازين، الذي يريد تحقيق دولة سورية ديمقراطية مثالية بقفزة واحدة، أو دولة سورية تحذف من تاريخها الأعوام من 1958 إلى 2024، وكأنها لم تكن. قبل عام الوحدة السورية المصرية كانت سورية تسير بقواها الذاتية نحو نوع من الديمقراطية، ونحو مجتمع سوري لم تكن تشعر فيه الطوائف بكل هذا الخوف من الآخر السني، ولم يكن السني في حاجة إلى أن يطمئن الآخر غير السني على سوريته الكاملة.
اليوم، حال بعض الطوائف، العلوي والدرزي والكردي، خاصة، تكاد تقول “نحن خائفون… على العرب السنة أن يطمئنونا”، في مقاربة لما قاله أحد أعضاء الإقطاع السياسي اللبناني أيام الحرب هناك.
مثل تلك المقولة قادت إلى المحاصصة اللبنانية المؤسسة منذ استقلال لبنان عام 1943، وكرست صيغة المثالثة، والثلث المعطل، التي أنتجت دولة لبنان العاجزة عن انتخاب رئيس منذ أكثر من عامين، وللمرة السادسة في تاريخ لبنان القصير نسبيًا. ولظروف مختلفة ومتشابهة معًا قادت المحاصصة في العراق إلى رئيس عراقي كردي بسلطة فخرية، وإلى رئيس مجلس نواب سنيّ، ورئاسة وزراء للشيعة. والنتيجة أن العراق في فساد يتزايد، وخدمات تقترب من الصفر في بلد يتمتع بثروات نفطية هائلة يمكن أن تجعله في مقدمة دول المنطقة من ناحية التنمية البشرية.
المحاصصة في سورية مستبعدة الآن، فالأكثرية العددية من السنة، والعربية منها خاصة، لا تشعر بالخوف من الأقليات العددية. والفيدرالية مستبعدة بدرجة أقل، من باب سد الذرائع. أما اللامركزية فممكنة، لكن بعد اختيار الصيغة المناسبة التي تحفظ توزيع الثروات بعدالة، جغرافيًا، فالنفط والغاز والقمح ليس من حصة مركز الجزيرة وحدها، والموانئ والتجارة الخارجية ليست من نصيب إقليم الساحل، والخدمات ليست من حصة العاصمة دمشق، والصناعة ليست لحلب وحدها. فهذه كلها ليست دولًا لتصدر فائض إنتاجها وتستورد فائض إنتاج الأقاليم الأخرى.
و”السنة هم الأمة” ليس لأنهم أكثرية عددية، أو يمتلكون أكثرية من النخب، أو لأن مقدراتهم المالية تتفوق على مقدرات الفئات الأخرى، بل لأنهم مطمئنون إلى سوريتهم، ولأن مذهبهم، كتدين، أو كانتماء (بين من لا يمارسون الطقوس الدينية) لا يرى في الآخر خطرًا يهدد وجوده.
نحن، السوريين، محكومون بهذه الأفكار إلى حين قد يطول، ومن المبكر الطلب من الناس في الشارع التفكير بسورية خالصة. وهذه قد تقع على عاتق تفكير الأقليات العددية بأن يقنعوا أنفسهم أنهم ليسوا حبة قمح، وأن الآخر السني ليس دجاجة ستبتلعه!
المؤكد مما نتابعه على وسائل التواصل الاجتماعي أن السوريين يعرفون فقط ما لا يريدون، أما ما يريدونه فيكاد يكون شأنًا فرديًا، ولكل واحد منهم تفضيلاته، وأولوياته، من دون أن نفرق في هذه المزاجية الجامحة بين تفضيلات متعلم، ونصف متعلم، وبين صاحب تجربة سياسية، ومن لا يملك أي أفق سياسي، وبين موال للنظام السابق ثم كوَّع، وبين معارض للنظام السابق ثبت على مبدئه، مع توجس مشروع مشروط بقصر عمر العهد الجديد، وغموض ما سيحدث في الأيام والشهور المقبلة.
أما من يرون أنهم يمثلون السُنة الأمة، إن لم يتصرفوا كطائفة منتصرة، ويتعاملوا مع السوريين عمومًا، والأقليات خصوصًا، بمنطق استقواء واستكبار المنتصر، فإنهم هم ضمان خروج سورية من بين الركام إلى طريق سوريانا.
———————–
سورية درس لأنصار الدولة السلطوية/ عصام شعبان
06 يناير 2025
يمثل سقوط نظام بشّار الأسد تأكيداً لمصائر الأنظمة الشمولية من تلاشٍ وزوالٍ، ضمن سيناريو انهيارها داخلياً، قبل أيّ تفاعلات خارجها. وبالمفارقة مع تبرير أفول نظام الأسد بفعل المؤامرة الخارجية، فإن العوامل الذاتية هي الأساس، بداية من وصوله إلى الحكم عبر وراثة الدم والمؤسّسة العسكرية، مروراً بكوارث أفقدته مسوّغات القبول، فكانت النتيجة تفسّخ النظام بعد مرحلة تعفّن، أفضى إليها الانهيار الاقتصادي واستشراء الفساد وأنماط الاستبداد، التي تصاعدت بعد اندلاع الثورة، إلى عنف وحشي ساهم في تقسيم الجيش، واندلاع حرب أهلية، لتشهد البلاد أكبر موجة هجرة ونزوح في التاريخ الحديث؛ 12 مليوناً، ما يفوق نصف السكّان، وعانى البقية بؤس العيش وعسف السلطة، إلى جانب خضوع البلاد إلى تدخّل قوىً دوليةٍ وإقليميةٍ. وبهذه الصورة، أصبح جدار السلطة واهناً يحتاج من يدفعه لينهار، ولتضاف نهايته إلى نماذج أخرى استبدادية، تاجرت باسم العروبة والقومية والحفاظ على الدولة الوطنية غطاءً لإخفاقها، بينما وجدت من يدافع عنها متعلّقاً بالأمل في رطانة المستبدّين لاستدامة حكمهم.
وفي جانب المأساة التي خلّفتها النظم الاستبدادية لشعوبها، في العراق وسورية وليبيا والسودان، أفضت سنوات حكمها إلى إنهاك جهاز الدولة، وأسهمت في تنامي النزاعات الأهلية استناداً إلى العرق والطائفة والدين، وسهّلت التدخّل الخارجي، لإعادة هندسة المشهد السياسي الذي كانت تسيطر عليه، وبقيت مهام إعادة البناء والحفاظ على وحدة أراضي الدولة وسلامة مؤسّساتها وأمن المجتمع ومحاولات ترتيب انتقال السلطة مهامّ صعبة بعد رحيلها.
ومع الاختلافات بين مساري ثورتي مصر وسورية، وطبيعة مؤسّسات الدولة وبنية المجتمع في البلدَين، إلا أن هناك سمات مشابهة لنماذج الحكم السلطوي، سواء اعتمد على شخص أو حزب مهيمن أو نخب عسكرية أو كان هجيناً يجمع العناصر السابقة. فهناك تشابه في البنية السياسية المغلقة، ونهج الضبط، وإدارة المشهد السياسي بشكل مركزي، وتقييد فرص المشاركة السياسية، وهناك شواهد في مصر، انتخابات البرلمان التي اتخذت بشأنها خطوات تهدف للتحكّم في مخرجاتها عبر بيئة الانتخاب، من آليات التشريع وتقسيم الدوائر، واستبعاد بعضهم، وسعي لتشكيل القوائم الانتخابية التابعة للسلطة واستيعاب بعض مرشّحي الأحزاب فيها، ضمن حصّة متّفق عليها، لتبقى صورة المشهد أن القوى السياسية ومنظّمات المجتمع المدني تحت راية واحدة خلف القيادة السياسية، وإن تنافست فيما بينها، ما يعكس إنكاراً لمسألة الاختلاف والتنوّع، وحجب فرص تكوّن أقطابٍ جاذبةٍ، أو بدائلَ سياسيةٍ. في الوقت نفسه، جرى الاحتفاظ بالهيئات التمثيلية واجهةً ديمقراطيةً من دون مضمون يخصّ مهامها الأساسية، وتحوّلت وظيفياً إطاراً يستوعب نخباً تجدّد بنية مجموعات المصالح المؤيّدة للحكم بشكل دوري، وتحافظ على الولاء واختيار العناصر الأكثر ملاءمة.
وفي سياق ضبط مؤسّسات الدولة، وضمان تبعيّتها وسهولة توجيهها، صدرت قوانين تضمن التحكّم في وصول قيادات المؤسّسات، ومثال ذلك اختيار رؤساء الجامعات وعمداء الكليّات بشكل أقرب إلى التعيين، بعدما كان بالانتخاب المباشر من أعضاء هيئات التدريس، ما ساهم في تراجع مستوى الجامعات في مؤشّر الحرّيات الأكاديمية. وفي نمط ثالثٍ، غيّبت آلية الانتخاب من الأصل، فلم تجر الانتخابات المحلّية منذ 2008، ربّما لصعوبة ضبطها والتحكّم فيها مركزياً، خاصّةً أن عدد أعضائها يتجاوز 52 ألفاً، نصفهم سيكون، بحكم الدستور، من الشباب والنساء، وسيترشّح لها حال إجرائها أضعاف هذا العدد، وربّما يمثّل هذا فرصةَ لبناء عملية اتصال سياسي على مستوىً محلّي يتضمّن المراكز والقرى وحداتٍ سياسيةً، ما يصعّب إمكانية الضبط الكامل.
يتبنّى النسق السياسي المصري، بجانب هندسة الأشكال التمثيلة، السيطرة على مؤسّسات الإعلام، عبر احتكار أغلبها، وضبطها بهيئات تراقب أعمالها وتوجهها نحو الدعاية لإبراز النجاحات، وتضخيمها لتبرير الإخفاقات، واعتبار العنف المادّي والرمزي ضرورةً لمواجهة “المؤامرات وقوى الإرهاب والمتربّصين بالوطن”، ويطالب إعلاميون وأفراد، من مجموعات المصالح المنخرطة في أعمال الدعاية ملمحاً لإثبات الولاء (يبدو أنه يُدار مركزياً)، أجهزة الدولة ببذل جهد مضاعف لمنع الانجرار إلى دعاوى “تحريضية” بشأن الوضع الاقتصادي، أو الحرّيات العامة، ومناشدات أسر السجناء إطلاق سراحهم، وتبيض السجون من الصحافيين كما تقول نقابتهم. ويظن أشخاص من رديف السلطة أن المعالجات الأمنية (أو نهج الدعاية) حلّ للأزمات، وبديل من تقييم الوضع والبحث عن بدائل، في تجاوز لفكرة أن هناك أزمة، ويعتبرون أن المشكلة في المحرّضين الذين “يزعزعون الاستقرار”، ويتجاهلون أن السياسات الحكومية تضيف أعباء وتحدّ من قدرة الناس على تلبية احتياجاتهم، بل يعتبر بعضهم أن تحمّل الأعباء ضريبة “بناء البلد”، لكن عملياً يدفع الفاتورة المُفقَرون، في مقابل أبواق الدعاية الذين يعيشون في ظلّ السلطة، ويسوّقون تقييد الحرّيات حفاظاً على الدولة، وكأنّ الدولة كائن خرافي، منفصل عن الشعب الذي يطالب بالتضحية، وعليه أن يتسلّح بالأمل في مواجهة الشعور بالإحباط، وعليهم تجاوز إحساسهم بالضغوط في سعيهم لتلبية احتياجات أبنائهم، غير شعور بإخفاق توقّعات وآمال بثّتها السلطة وهي تقدّم نفسها بديلاً قادراً على تحسين الأوضاع المعيشية، وخلق تنمية وإنقاذ البلاد، بينما تكرّر حكومات متتالية على مسامعهم أن ضعف مؤشّرات الأداء الاقتصادي، والعجز في تحقيق المستهدفات، يرجعان إلى تحدّيات خارجية وأخرى ذاتية معقّدة، لكن إذا ما صدّقنا أن الإخفاقات المتتالية هي نتائج تحدّيات ضخمة، تخصّ مصر دون غيرها، فما القيمة التي يضيفها الاستمرار في حبس أصحاب الرأي؟ وهل ذلك شرط لتحقيق الإصلاح ودفع مسار التنمية، أم زادت هذه الممارسات المظالم، ومثّلت أداةً لقمع المقهورين اقتصادياً وسياسياً في تجلٍ لصراع طبقي وسيلة إدارته العنف؟
إجمالاً، أمامنا نماذج حكم سلطوية، تثبت أن المراهنة على استدامة النظام بتثبيت جذور الاستبداد خاسرة، خاصّة مع وجود خلل في قيام النظام بوظائفه وإخفاقه في تنفيذ وعود دعائية جاء بها، كما أن سيادة الدول ووحدة أراضيها، والحدّ من فرص الضغوط الخارجية، أهدافٌ ليس القمع شرط تحقيقها، بل على العكس، يضعف القمع فرص المنافسة والمشاركة السياسية وأن تلعب مؤسّسات الدولة دورها بشكل فاعل، ويزيد من انخفاض مستوى الشفافية، ومن فرص الفساد وتشكّل خصائص احتكار السلطة والثروة. واستبعاد مكوّنات المجتمع من المشاركة ملامح أزمة لا يمكن التعامل معها بمنطق الاستيعاب والاستقطاب، كما جرى أخيراً من جذب بعض رجال الأعمال ورموز حكم حسني مبارك إلى ساحة السلطة، في إيهام بتوسيع أطر المشاركة، كما في سنوات سابقة حين استقطب النظام بعض نخب الثورة، لكنّ النموذجَين، مع الهيئات الاستشارية والمجالس العليا، ليسا حلّا لجوهر المشكلة على المستويَين، السياسي والاقتصادي، كما لا تخلق الدعاية عن الإنجازات تقدّماً ولم تعد مؤثّرة كما في مراحل سابقة، لأن فاعليتها تتبدّد مع ما يلمسه قطاع واسع من المواطنين في حياتهم اليومية، وهم يحاولون توفير احتياجاتهم بمشقّة، خاصّة مع ارتفاع معدّلات الفقر إلى ما يفوق 32%، ومعاناة فئات أكبر، رغم رفع الأجور وانخفاض التضخّم نسبياً إلى 25%، لكنّه ما زال مرتفعاً، وهذا المشهد بتفاصيله، يحرم كتلةً من المجتمع من التمتّع بالشعور بالكرامة الإنسانية، إلى جانب حضور أدوات الضبط وغياب الحرّية التي تسمح لهم بالتعبير، وسماع أرائهم، وربّما الاستجابة لمطالبهم. وهذا الإحساس هو ما يولّد الشعور بالاغتراب، والإحباط، وليس دعاية المحرضين.
العربي الجديد
——————————-
الظلامية ليست في كفّ الشرع/ إحسان الفقيه
تحديث 06 كانون الثاني 2025
في العام قبل الماضي، أقيمت احتفالية في القدس المحتلة، حضرها الرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي تقدّم رفقة الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ لمصافحة المغنين الإسرائيليين، إلا أن المغنية اليهودية يوفال ديان رفضت أن تصافح الرئيس الأمريكي لأسباب دينية.
تنتمي ديان إلى اليهود السفارديم، وجُندت في الجيش الإسرائيلي عام 2013، ومنذ عام 2016 وهي تحضر الدروس الدينية وتتقيد بتعاليم شريعتها التي تمنع مصافحة الرجال. ديان أوضحت موقفها مع بايدن عبر حسابها على الإنستغرام، وأنها جاءت من خلفية دينية، ولديها رغبة في الحفاظ على نمط حياتها من اللباس واللمس، على حد قولها.
ما فعلته المغنية الإسرائيلية احترمه الجميع، وتم التعامل معه على أنه حق مشروع لها في ممارسة تعاليم شريعتها، ولم يثر الموقف أزمة دبلوماسية، وحظي بقبول وترحاب من التيارات الدينية اليهودية، بينما لم ينتقده سوى التيار العلماني، والأهم من ذلك أن التنويريين العرب لم يهاجموا الفتاة أو يتهموها بالتطرف وظلامية الفكر. لم يكن موقف المغنية الإسرائيلية هو الأول من نوعه، ففي شهر أبريل/نيسان من عام 2016، نشرت قناة «سي إن إن» العربية خبرا بعنوان «بسبب معتقداته الدينية.. وزير الصحة الإسرائيلي يرفض مصافحة نظيرته الفرنسية». وجاء في متن الخبر: «رفض وزير الصحة الإسرائيلي ياكوف ليتزمان، مصافحة نظيرته الفرنسية ماريسول تورين، عند وصول هذه الأخيرة إلى إسرائيل، خلال الأيام الماضية، في جولة قادتها كذلك إلى عدد من دول الشرق الأوسط، بمبرّر «أن معتقداته الدينية ترفض مصافحة النساء، اللائي لا تجمعه بهن قرابة». أما عن موقف الوزيرة الفرنسية، فقد ذكر الخبر أنها رفضت الإشارة إلى الحادث، ولم تكتب في حسابها على فيسبوك سوى ما تضمنته المباحثات. وفي أصداء هذه الواقعة، أعادت الصحافة الفرنسية واقعة مماثلة حدثت عام 2012 للوزير الإسرائيلي نفسه، عندما استقبل لوريت أنكيلينكس وزيرة الصحة البلجيكية، وترك يدها ممدودة رافضا مصافحتها.
هذه الأحداث عادت مؤخرا إلى المشهد السوري، إثر الزيارة التي قامت بها وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك إلى سوريا، والتي أثارت الجدل بعد أن امتنع وفد الإدارة السورية الجديدة عن مصافحتها لدى استقبالها بعد وصولها إلى العاصمة دمشق، والأمر نفسه تكرر في قصر الشعب حين امتنع قائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع عن مصافحة الوزيرة الألمانية. وهنا قامت القيامة: هذا تطرف، تخلّف، ظلامية، جهل بإدارة شؤون الدولة، مؤشر لحكم ديني متشدد، سوريا ضاعت، سوريا إلى الهاوية. واختفى هنا الحديث عن حريات المعتقد وممارسة التشريعات الدينية ووجوب احترامها، هنا أكل الليبراليون والتنويريون صنم العجوة وأسقطوا مصطلحات الآخر وحرية الرأي واحترام الخلاف. لنقل ذلك بصراحة ودون مواربة: لماذا تُحترم هذه الممارسات إذا كانت صادرة عن غير المسلمين؟ لماذا يتم الهجوم على المسلمين وحدهم عند إظهار ما يدينون به، واتهامهم بالتطرف والظلامية والرجعية؟ لماذا يعتبرون هذه السلوكيات لليهودي والمسيحي والبوذي تدينا، بينما تكون بحق المسلم تطرفا وتشددا؟ الذين يتناولون الواقعة من زاوية اللائق والذوق والاحترام، هم أيضا غضوا أبصارهم عن ملابس الـ(كاجول) التي ارتدتها الوزيرة الألمانية، مخالفة بها الأعراف الدبلوماسية في الزيارات الرسمية، ما حدا بالبعض إلى تأويل ذلك بأنه رسالة بعدم الاعتراف بالحكومة السورية الجديدة. ومع ذلك لم تقف الوزيرة الألمانية عند الحدث كالسطحيين لدينا، بل مرت عليه في تصريحاتها مرور الكرام، وركّزت على ما يهمها، وهو فرض الوصاية على سوريا الجديدة، ودقّ إسفين بين السوريين بالحديث عن ضرورة وجود ضمانات أمنية موثوقة للأكراد في سوريا، وكأنها تتعمد إثارة مخاوف الأكراد، أو تأكيد مخاوفهم من حكم الإدارة الجديدة.
كما ظهرت محاولة فرض الوصاية في مطالبتها الشرع بعدم أسلمة الدولة، وقالت بالفعل لبرنامج «تاجيسثيمن» الإخباري المسائي الألماني: «بالطبع نحن، كأوروبا، لن نكون ممولا لأسلمة المجتمع».
أما أولئك الناقمون والصارخون من بني جلدتنا، فقد تركوا كل الجهود التي تقوم بها الإدارة السورية الجديدة من أجل سوريا جديدة موحدة، وتعلقوا بمشهد مارس فيه الشرع ورجاله حقهم بالامتناع عن المصافحة. ألحقوا القضية بحقوق المرأة، وكأن من حقوق المرأة أن يتم لمسها، وهذه قمة الاستجهال للقراء والمتابعين، فالمرأة لا تحتاج إلى مصافحة الرجال، إنما هي بحاجة إلى التعليم والتثقيف والعلاج والتنمية والمعاملة الكريمة وتجريم العنف تجاهها وحقها في العيش بكرامة، هذا ما ينبغي أن يتناولوه عند الحديث عن حقوق المرأة.
ليست الظلامية في كفّ أحمد الشرع، التي لم يمدها لمصافحة الوزيرة الألمانية، إنما الظلامية في عقول أولئك الذين يكيلون بمكيالين ويصرخون على كل ما له صبغة إسلامية. الظلامية في عقول أولئك الذين يتشدقون بالرأي والرأي الآخر، واحترام المخالف، والحريات الدينية والشخصية، ثم ينشبون مخالبهم في أي سلوك يتعلق بالشعائر الدينية. الظلامية في عقول أولئك الذين يتخوّفون ويخوّفون الناس من حكم ذي مرجعية إسلامية تهضم حقوق الأقليات، وهم يعلمون تماما أن الإسلام بشريعته يحمي غير المسلمين، ويحفظ حقوقهم، يعلمون تماما أن الحضارة الإسلامية انضوى تحت رايتها كل أصحاب الملل والشرائع وكانوا عناصر فاعلة في تلك الحضارة. الظلامية في عقول أولئك الذين يجلسون للاصطياد في الماء العكر، وينتظرون للولوج من أي مدخل لتشويه الثورة السورية، ويصرخون زورا من أجل حقوق الأقليات، ومع ذلك يتغافلون عن المجازر التي يرتكبها الصهاينة في غزة، كما صمتوا من قبل على أسلوب الحكم القمعي الوحشي الذي سار عليه بشار في التعامل مع الأكثرية.
دعوا سوريا وما هي عليه، وإن لم تدعموا وحدتها ومسارها الجديد من أجل النهوض، فلا أقل من أن تكفوا ألسنتكم وأقلامكم، ووجهوا سهام نقدكم إلى الفعل والعمل لا المظاهر والشكليات، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
كاتبة أردنية
القدس العربي
——————————-
محاولات مصادرة القرار السوري/ وليد التليلي
06 يناير 2025
المتأمل في فيديوهات زيارة وزيري خارجية فرنسا جان نويل بارو وألمانيا أنالينا بيربوك في دمشق ولقاء اثنيهما قائد الإدارة السورية أحمد الشرع، وتصريحاتهما وما تكشفه من تعالٍ وفوقية وعنجهية، تبيّن محاولات التأثير على القرار السوري، والقفز فوق الواقع الحالي ومصادرة المستقبل، الذي لا يزال غامضاً وتُطرح بشأنه أسئلة عديدة مشروعة ومخاوف موضوعية.
غير أن صور الوزيرة الألمانية بالذات وتحليل الخطوات والمواقف والتصريحات توحي بشيء من العنجهية والتعالي الألماني المفرط، كأنها صاحبة مزرعة جاءت تعطي تعليمات للعمال… تقول: “أوروبا لن تمول إنشاء هياكل إسلامية جديدة في سورية”. وتضيف أن “رفع العقوبات سيعتمد على المضي قدما في العملية السياسية”. أما فرنسا فوعدت بـ”تقديم دعم تقني وقانوني للحكومة السورية المؤقتة في إطار عملية صياغة الدستور السوري”، ما يعني بلغة واضحة التدخل في صياغة الدستور وكأن السوريين عاجزون عن ذلك.
ويعلق المبعوث الألماني الخاص إلى سورية ستيفان شليك على ما شاهده بعد زيارته سجن صيدنايا مع وزيرة خارجيته قائلاً: “تعجز الكلمات عن وصف أهوال صيدنايا”… كأن هاتين الحساسية والإنسانية الفياضة لا تليقان بالشعب الفلسطيني الذي يُباد بأموال وأسلحة ودعم ألماني… لم يسمع المبعوث ولا وزيرته بما نقلته صحيفة هآرتس الإسرائيلية عن أن أعضاء في الكنيست قالوا إن استراتيجية الجيش الإسرائيلي غير فعالة في إلحاق الهزيمة بحركة حماس مطالبين الجيش بتطهير شمال غزة باستخدام الحصار وتدمير البنية التحتية وقتل أي شخص لا يرفع الراية البيضاء. وطالبوا بتدمير مصادر المياه والغذاء والطاقة في شمال غزة.
لم يسمع المسؤولون الأوروبيون بهذه المواقف الرسمية الصادرة عن مسؤولين إسرائيليين، ثم يتباكون على مستقبل سورية، تحت عناوين بينها “الخوف على الأقليات”. وقد أجرى وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن، في نهاية الأسبوع، مكالمة مع الوزير الفرنسي للشؤون الأوروبية والخارجية جان نويل بارو. “ناقش الوزيران آخر التطورات في سورية وسبل مساعدة الشعب السوري…”. وشدّد بلينكن على ضرورة احترام حقوق الإنسان من كل المجموعات في سورية، وتطبيقها القانون الإنساني الدولي”. لكل حريص على مستقبل سورية إذاً، ومتخوف على الأقليات، وربما يكون هذا صحيحاً لدى بعضهم، الحقيقة أيضاً أن هناك أوراقاً سياسية مهمة، الوجود الروسي والنفوذ الإيراني، والأهم الذي يمثل خلاصة الطموحات تحييد سورية نهائياً لإنهاء أي تهديد لإسرائيل، بما يشمله ذلك من وأد المقاومة وخنقها في كل أرجاء المنطقة.
وهذه الملفات مواضيع سياسية تمكن مناقشتها، وهي أوراق أيضاً بيد الإدارة السورية نفسها لتفاوض عليها، ولكن ليس بهذا التعالي الألماني… لقد سقطت ألمانيا منذ حرب غزة سقوطاً لا حد له.
العربي الجديد
——————————
كل هذه الدروس إلى أحمد الشرع/ معن البياري
06 يناير 2025
ننقُر في الموقع الإلكتروني لوكالة الأنباء السورية (سانا) لنضبط المسمّى الرسمي لأحمد الشرع، فنراه “قائد الإدارة السورية الجديدة” (وليس قائد الإدارة العامّة كما يُخطئ بعضُنا). وليس من أحدٍ يدلّنا على هيكليات هذه الإدارة، وما إذا لها مجلسٌ رئاسيٌّ أو قياديٌّ أو ثوريٌّ أو … ، ولا ندري أعضاء هذه الإدارة. ما ينسحب أيضاً على “إدارة العمليات العسكرية”، والتي لنا أن نخمّن أنها أشبه بهيئة الأركان في الجيوش. وإلى هذا وذاك، لا نتوفّر على “مراسيم” أو قرارات (رئاسية؟) تبيّن القوانين أو المرجعيّات التي تعمل بموجبها هاتان المؤسّستان، الحاكمتان في سورية اليوم التالي للخلاص من بشّار الأسد ونظامه. وإذ تضجّ في النقاش الجاري بشأن اللحظة السورية الراهنة دروسٌ ونصائحُ بلا عددٍ يتوجّه أصحابُها بها إلى الشرع وصحبِه، فإن لكاتب هذه السطور أن ينصح، لا أن يعطي درساً، القيادة في دمشق بأن تشرَعَ في “تأثيث” سياقٍ تشريعيٍّ وقانوني (مؤقّت بطبيعة الحال) ينظّم عملية إصدار القرارات بشأن إدارة الشأن العام في مستوياته العديدة. وفي البال أن كل قيادةٍ تنتصر في أي بلدٍ وتطيح سابقتها، بعملٍ ثوريٍّ أو ترتيبٍ سياسيٍّ أو فعلٍ انقلابي (أو…)، تُعلم الناس، أولاً، بدستورٍ تلغيه أو تعطيل بنودٍ فيه وببرلمانٍ تحلّه وبإعلانٍ مؤقتٍ تُصدره وبتشكيلاتٍ تؤلّفها. ولأن شيئاً من هذا كله لم يُخبَر به السوريون، لن تكون بائخةً نكتةُ من يمزح أن لحزب البعث أن يُقاضي الإدارة الجديدة بدعوى أنها أخلّت باستحقاقٍ في دستور البلاد الذي لم يُحلّ، ويُعطيه “الحقّ” في الحكم.
استئناساً بجدّيةٍ واجبةٍ في هذا المقام، ليس نافلاً السؤال ما إذا كان أحمد الشرع يتزوّد بالدروس والنصائح والمطالبات والمؤاخذات الموزّعة في مواضع عديدة، أو بعضٍ منها، أو أن المحيطين به يُؤثرون منجاته من صداعٍ قد تُحدِثه هذه كلها. ولأن غزارة هذه كلها تفيضُ بكثيرٍ مما لا طاقة لأحد أن يتفرّغ لها، ولأن بعضاً منها يتعالم على الرجل ومن معه بفوقيّةٍ ومدرسيّةٍ منفّرتَين، وبعضاً آخر تلتبسُ فيه الأولوياتُ شديدة الإلحاح بالبعيد والاستراتيجي، وبعضاً ثالثاً يتّصف بالعقلانية والرزانة وإدراك حقائق الواقع الماثل وتعقيداته العويصة، ولأن بعضاً ليس أخيراً يُمرحل المتطلّبات والاستحقاقات ويُجدول زمنياً ما يلزم آنياً وما له مواقيت قريبة وأخرى بعيدة، لأن هذا كله (وغيره) كثيرٌ في فضاءات التواصل وحساباته، وفي مراكز أبحاث مقدّرة، وفي كتابات أصحاب الرأي وأهل الفكر والتفكير، فإن المأمول من أحمد الشرع أن يُحاط بمن يغربلون هذه كلها، ويمايزونها، ويشورون عليه في “دفتر أولويات واستحقاقات”، وهو شابٌّ أربعيني، لم يتخيّل نفسه، قبل ستة أسابيع، يجلس في قصر الشعب في دمشق يتوافد إلى مجالسته وزراء ومسؤولون أميركيون وعرب وأوروبيون، منهم حريصون على الإنصات إليه بدافع الحرص على سورية وشعبها، فيطلُب منهم العوْن في مرحلة شديدة الحساسية، وآخرون جاءوه ليُسمعوه مطالب وشروطاً. ولا يدسّ واحدُنا أنفه في شأنٍ سياديّ في الدولة السورية الجديدة لو “نصح” صاحب المسؤولية الأولى في هذه الدولة بأن يستعين بأهل العلم والأهليّة والخبرة، من الكفاءات السورية في الداخل والشتات، في غير أمرٍ، سيّما في الذي جاءت عليه السطور أعلاه، وفي “تنظيم” عملية الانتقال السياسي الصعبة.
لا نظنّه أحمد الشرع غافلاً عن أن عمليات بناء مؤسّسات السلطة والحكم والتسيير، المدنيّة والعسكريّة (الجيش) والأمنيّة، اختصاصاتٌ لها أصحابُها، فليس كل من تمنطق سلاحاً وحارب مليشيات الأسد به تأهل سلفاً ليكون جندياً أو ضابطاً في جيش سورية المأمولة. وليس كل من أدار مديريةً ما في إدلب صار مرخّصاً له أن يدير قطاعاً عريضاً في عموم سورية. ولمّا دلّ أحمد الشرع على ملكاتٍ شخصيةٍ، وقياديّةٍ فيه، فإن براغماتيّته (المفاجئة؟) تجيز أن يُنتَظَر منه انفتاح أوسع على أهل الدراية والعلم والاختصاص. وتبيح لنا، نحن الذين تقيم سورية في جوانحنا، أن نطلب منه أن يُخاطب السوريين، مباشرة، في خطابٍ متلفزٍ، بدل أن يعلموا منه ما يخطّط وما ينوي من محاوراته مع تلفزاتٍ ومنابر أجنبية وسعودية. أما الدروس الوفيرة، وربما الفائضة عن الحاجة، وليس كاتب هذه الكلمات من أصحابِها، ففي بعضها نفعٌ، لا بأس من استنئاسٍ به، قبل مؤتمر حوار وطني وفي غضونه وبعده.
العربي الجديد
——————————
الإسلاميون في سوريا… قراءة وتوقعات/ صادق الطائي
تحديث 06 كانون الثاني 2025
منذ سقوط نظام الأسد في سوريا، والكل ينظر إلى البديل الإسلامي الذي تقدم الصفوف وتبوأ مكان الصدارة في النظام الجديد. اختلفت التوقعات، وتنوعت قراءات المشهد اعتمادا على خلفيات ودوافع القارئين. إذ لا يريد المتشائمون من التغيير تناسي الخلفية الجهادية القريبة لهيئة تحرير الشام، وتحولات زعيمها أحمد الشرع/ الجولاني البراغماتي، والإشارة إلى التحول من ولائه لتنظيم الدولة/ «داعش»، إلى مبايعته تنظيم «القاعدة» وتحوله لقائد «جبهة النصرة»، وصولا إلى ما هو عليه اليوم في «هيئة تحرير الشام» المدعومة تركيا.
بينما يرى المتفائلون أن من أمسكوا بالسلطة الانتقالية يحاولون جاهدين أن يطرحوا نموذجا يمكن أن يوصف بأنه (إسلامي ديمقراطي) يقوم في العديد من جوانبه على استلهام تجربة حزب العدالة والتنمية التركي المتربع على هرم السلطة في تركيا العلمانية منذ ربع قرن، ويحكم بلدا متنوعا، طائفيا ودينيا وعرقيا، وينجح في كونه حزبا برامجيا يقدم مصلحة المواطن على النشاطات الدعوية، التي تمارسها الحركات والأحزاب الإسلامية في الشرق الأوسط.
في قراءة سريعة لأحداث المنطقة، منذ بداية انتفاضات الربيع العربي عام 2011 حتى الآن، يمكننا أن نؤشر لتقدم الإسلاميين على باقي التنظيمات الليبرالية واليسارية والحزبية التقليدية، ففي تجارب تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، شهدنا حراكات شعبية يجمعها محرك واحد هو إسقاط الأنظمة الشمولية التي تكلست على كراسي الحكم لعقود. ونتيجة الطبيعة الشمولية التي عاشتها بلدان الربيع العربي، التي لم تحظ بفرصة وجود معارضة سياسية حقيقية تتشكل في ظروف صحية، بل كان هناك بعض الهياكل الكارتونية الزائفة للأحزاب خارج سلطة الحزب الواحد، وفي الوقت نفسه كان هنالك حراك حقيقي يفور تحت الأرض لعب الإسلاميون فيه الدور الأبرز، وكانت النتيجة سيطرة الأحزاب والحركات الإسلامية المعتدلة والمتشددة، على الحياة السياسية بعد إطاحة الأنظمة الشمولية في دول الربيع العربي.
كان الإسلاميون قد بنوا تنظيمات ذات هيكليات سياسية راسخة، ونشاطات معارضة صلبة، جعلتها تتمتع بحاضنات مجتمعية واسعة نسبيا، الأمر الذي أهلها بعد سقوط الأنظمة الشمولية، إلى أن توجه شارعها أثناء متنفس الدرس الديمقراطي الانتخابي الأول، وتستحوذ على أغلبيات مريحة في برلمانات وحكومات ما بعد التغيير. هذا الأمر أثار رعب العديد من المراقبين، وتخوف العديد من الدول من التعامل مع الإسلاميين، الذين سيمسكون بقياد الدول بعد التغيير. ويجب أن لا يغيب عن أذهاننا أن التحديات التي واجهت الإسلاميين في تجربة الحكم، هي وجوب إحداث انتقال من الأيديولوجيا الخطابية إلى السياسات العملية، ومن سياسات وخطابات الهوية، إلى المشكلات والبرامج الحياتية اليومية. ذلك كله أدى إلى خسارة الإسلاميين الهالة التي تمتعوا بها في مرحلة المعارضة والوعود الإسلامية المرتبطة بالهويات الإحيائية التي أطلقوها طوال حقبة طويلة الأمد في ظل النظم الشمولية.
إن فقدان بريق المعارضة والتوغل في العمل السياسي، بما فيه من أمراض وأزمات ومشكلات، نفض عنهم المخيال الشعبي بوصفهم مختلفين جذريا عمّن كانوا في السلطة، فإذا بهم يقعون في كثير من المشكلات والأزمات، وظهر جليا أنهم لا يملكون الحلول السحرية، التي كانوا يوهمون الشارع بأنهم يمتلكونها، وإذا بهم لا يختلفون عن النظم الشمولية السابقة، وإنهم خاضوا مشكلات مضاعفة التأثير نتيجة الإحباط والفشل المركب الذي تحمل وزره الإسلاميون بعد أن تحملوا نتائج ما ورثوه من مشاكل حقبة الأنظمة الاستبدادية. الكل يتذكر السقوط المدوي لحزب الحرية والعدالة المصري، الجناح السياسي لحركة الإخوان المسلمين، بعد حوالي عام من حكم الرئيس محمد مرسي، إذ أطاح به انقلاب عسكري مدعوم بحراك الشارع المصري في حزيران/يونيو 2013. كذلك الحال في تونس عندما انقلب الرئيس المنتخب قيس سعيد على السلطة التشريعية وقام بحل البرلمان، ولاحق حزب النهضة/تنظيم الإخوان المسلمين التونسي، وأودع الكثير من قياداتهم وكوادرهم في السجون، في حركة إقصاء للإسلاميين من الحياة السياسية في تونس. أما الحال في ليبيا فقد كان مختلفا، إذ شهدت البلاد انقساما حادا جعلها ترزح تحت حكم حكومتين متحاربتين، حكومة الوفاق الوطني القريبة من الإسلاميين، التي تسيطر على العاصمة طرابلس، والحكومة الليبية المؤقتة بقيادة الجنرال المتقاعد خليفة حفتر التي تسيطر على شرق البلاد وعاصمتها بنغازي. بينما كان المشهد في المملكة المغربية أقل عنفا ودموية، فبعد أن فاز الإخوان المسلمون وجناحهم السياسي حزب العدالة والتنمية، برئاسة عبد الإله بنكيران، لكن ما لبث إدائهم السياسي بالتراجع، الأمر الذي أدى إلى العديد من المشاكل، والنتيجة سقوط حكومة بنكيران بعد خسارتهم الانتخابات في ايلول/سبتمبر 2021، وتراجع وجودهم السياسي على الخريطة السياسية المغربية.
اليوم نحن إزاء محاولة إسلامية جديدة في سوريا، يحاول القائمون عليها أن يطرحوا رؤيتهم للوضع، عبر منظار يحاول التماهي مع رؤية حزب العدالة والتنمية التركي، ويحاول إسلاميو سوريا الظهور بمظهر الإسلاميين الديمقراطيين، ويعدون بالكثير. ويأملون أن تكون خطواتهم المقبلة المدعومة تركيا وخليجيا، مدخلا لتجربة إسلامية ناجحة، فهل ينجحون فيما فشل فيه إسلاميو المنطقة في التجارب السابقة؟ من التحديات التي يضعها المراقبون نصب أعينهم وهم يناقشون طموحات «هيئة تحرير الشام» بثوبها الجديد هو الوضع السوري المتشظي والخائف من سيطرة لون واحد من الطيف المجتمعي والسياسي على مقدرات بلد إشكالي مثل سوريا. كما لا تغيب عن المشهد قدرات أكراد سوريا وقيادتهم السياسية الممثلة بـ(قسد) وما حققته على أرض الواقع السياسي، الذي جعل من روج آفا (كردستان سوريا) رقما صعبا في المعادلة السياسية، التي من الواضح من طروحات الكرد السياسية أنهم غير راغبين بالمرة بالتنازل عما حققوه من حكم ذاتي طوال أكثر من عقد من الزمن، وبالتالي رفض الكرد الرضوخ مجددا لحكومة مركزية تفرض فيها دمشق إرادتها عليهم.
كما أن وجود الخاسرين جراء التغير السياسي الذي حصل، ما زال يتحكم بعدد من الحلقات الشائكة في الملف السوري، فالقواعد الروسية في حميميم وطرطوس ما زالت موضع شد وجذب، بعد تغير المعادلات الاستراتيجية في سوريا. كما أن النفوذ الإيراني الذي تعرض لضربات قاتلة كانت نتيجتها تقطيع أوصال محور النفوذ الإيراني، الذي لن يتنازل عنه الإيرانيون بسهولة، ويعلق عدد من المراقبين بالقول، إن التدخل الإيراني وإشعال حرب أهلية جديدة في سوريا مقبل لا محالة.
لكن البعض يعول على تضخم الدور الأمريكي في سوريا بعد سقوط نظام الأسد، وبعد أن كانت الولايات المتحدة متقوقعة في قاعدة التنف شرق سوريا ومتحالفة مع قوات (قسد) لحمايتها من تهديد القوات التركية، بات الدور الأمريكي اليوم أكثر تأثيرا، إذ انتقلت القوات الأمريكية إلى قواعد جديدة في عين العرب (كوباني) لتقول لأنقرة، إنها يجب أن تحسب حساب اللاعب الجديد بشكل جدي، لكن من ناحية أخرى يشير بعض المراقبين إلى أن الرئيس ترامب الذي سيدخل البيت الابيض في 20 كانون الثاني/يناير لا يرغب في التورط في صراعات ومشاكل الشرق الأوسط ، وبالتالي سوف تتراجع أهمية القوات الامريكية في سوريا إلى حدها الادنى.
ويبقى التهديد الإسرائيلي المتمدد في قرى القنيطرة ودرعا وعملياته العسكرية في جنوب سوريا، خطرا داهما يهدد أداء أي حكومة مقبلة، مع الأخذ بنظر الاعتبار الإصرار الصهيوني على تدمير القدرات الدفاعية العسكرية السورية بضربات الطيران الإسرائيلي الذي بات يصول ويجول في سماء سوريا، من دون أي ضابط، فماذا سيفعل الإسلاميون حيال هذا التهديد البنيوي لوجودهم؟
إن منظومات الفساد الممنهج طوال أكثر من نصف قرن من الحكم الشمولي، تضاف لها العقوبات الاقتصادية الدولية، وفواتير الحرب الأهلية طويلة الأمد، كل ذلك خلق من سوريا بلدا مدمرا اقتصاديا، ويحتاج إلى تعاون دولي لإعادة الحيوية إليه. فهل يستطيع الإسلاميون إدارة مثل هذه التركة الثقيلة والوصول بها إلى بر الامان؟
كاتب عراقي
القدس العربي
—————————
لا خطر سورياً على إسرائيل/ سامح راشد
06 يناير 2025
فور هروب بشّار الأسد وسقوط نظامه، سارعت إسرائيل إلى احتلال مناطق في سورية، لتضيفها إلى الاحتلال المستمرّ للجولان منذ نحو ستة عقود. واستغلّت فراغ القوة وهشاشة المؤسّسات العسكرية والأمنية السورية في ضرب معظم القدرات العسكرية والأسلحة السورية وتدميرها. وفقاً للتصريحات الإسرائيلية الرسمية، تخشى تلّ أبيب من وقوع الأسلحة السورية بين أيدي “الإرهابيين” حسب وصفها. من دون تحديدٍ أو إشارةٍ إلى هُويَّة هؤلاء أو طبيعتهم. رغم أن السلطة الجديدة في سورية، بقيادة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني)، حرصت على بث إشارات طمأنة صريحة لإسرائيل، بل صرّح الشرع بأن بلاده في وضعها الجديد ليست في وارد الحرب أو الدخول في مواجهة مع إسرائيل، ولم يُخفِ أن هذا الموقف نتاج حالة الضعف التي تمرّ بها سورية في المستويات كلّها.
في حال تغيُّر ذلك الوضع باتجاه إيجابي، وامتلكت دمشق مقوّمات النهوض وأدوات للقوة، فقد يتبدل الموقف والتوجّه الرسمي بشأن إسرائيل، خصوصاً أن النظام الجديد في سورية سيواجَه حينئذ بمطالبات قوية ومتعدّدة المصادر لاستعادة الجولان، وغيرها من أراضٍ احتلّتها إسرائيل في الأيّام الأولى من حكم هذا النظام الجديد. فضلاً بالطبع عن أن سلطة الجولاني مُحمّلة أساساً بشعارات “محاربة اليهود” واستنقاذ المقدّسات في فلسطين وغيرها من ذخائر المرجعية الدينية لهيئة تحرير الشام، ومن قبلها جبهة النصرة، فضلاً عن “القاعدة”. لكن ذلك كلّه لا يعني بالمرّة أن سورية الجديدة أخطر على إسرائيل ممّا كانت في عهد بشّار الأسد، فإسرائيل لم تكن يوماً مطمئنّةً إلى جبهتها الشمالية، كما هي اليوم. وأيّ هواجس إسرائيلية بشأن أسلحة سورية “القديمة” أو التوجّهات الفكرية للسلطة الجديدة، تتعلّق أساساً بإدراك تلّ أبيب أن الوضع القائم في سورية ليس مضموناً استمراره في المدى المتوسّط، فكان منطقياً أن تسارع إسرائيل وتنهي وجود تلك الأسلحة، بدلاً من العمل لاحقاً على منع أيّ مجموعة أو طرف داخل سورية من حيازة تلك الأسلحة واستخدامها ضدّ إسرائيل، خصوصاً أن سلطة الشرع، وسيطرة هيئة تحرير الشام، لا تشملان الأراضي السورية كلّها. والأكثر أهميةً أن إحكام السيطرة سيتطلّب، على الأرجح، مواجهات، ربّما عنيفة، مع مجموعات مسلّحة أخرى متناثرة في بعض المناطق السورية، بدءاً بقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، مروراً بالمليشيات التابعة لإيران، وانتهاءً ببقايا “داعش”. وفي ذلك الصدام والانقسام المحتمل مصلحة مباشرة وتعزيز لمقومات رؤية إسرائيل لأمنها من جهة سورية.
في رؤية إسرائيل، تأمين جبهة سورية يحدث في حالتَين: أولاهما أن تكون سورية موحّدة تحت سلطة واحدة، لا تناصب تلّ أبيب عداءً فعلياً، وتتجنّب المواجهة معها (كما كان حال بشّار وأبيه). وبغضّ النظر عن الإشارات الصادرة من الشرع وغيره من مسؤولي السلطة الجديدة في سورية، ليس متوقّعاً الدخول في صدام مع إسرائيل قريباً، فالانشغال بإعادة الإعمار واستنهاض سورية، دولةً ومجتمعاً، كفيل باستهلاك قدر هائل من موارد غير متاحة حالياً، واستغراق زمن ليس بالقصير، فضلاً عن الارتباطات الخارجية، وما تفرضه من قيود والتزامات، سواء مباشرة تجاه تركيا أو غير المباشرة مع الولايات المتحدة. أمّا الحالة الثانية فهي توزّع السلطة وسيطرة عدة قوى متنافرة ومتناحرة على الأراضي السورية، فينشغل بعضها ببعض، وتُضعف كلّ منها الأخرى. وهذا السيناريو هو المثالي بالنسبة إلى إسرائيل، والأكثر أهميةً أنه أكثر واقعية وقابلية للتحقّق.
في المحصّلة، كانت إسرائيل آمنة مطمئنةً نصف قرن من حكم آل الأسد، وبعد زوال بشّار وحكمه لا تزال آمنةً، ولو إلى حين.
العربي الجديد
——————————————————-
في جماعة “الأسد كان طاغيةً… ولكن”/ أسامة أبو ارشيد
ثمَّةَ من لم يعتد بعد على التعايش مع فكرة سقوط نظام بشّار الأسد في سورية، ذلك أنهم استثمروا كثيراً من المداد والجدال في الدفاع عن “النظام الممانع” خلال تولّيه السلطة وتلمّس الأعذار له في جرائمه ضدّ شعبه، وكذلك عدم ردّه على الاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة بحقّ بلاده. لا تعنينا هنا الفئة المؤيّدة للأسد ونظامه من منطلقات مبدئية وأيديولوجية وسياسية، فهؤلاء متّسقون مع ذواتهم، بغضّ النظر عن مدى فساد تلك الذوات. من يعنونا هنا فئة ثانية ممّن كانت تنافح عن نظام الأسد متغاضيةً عن جرائمه وبطشه وفساده باسم المصلحة العليا لفلسطين، وقوى المقاومة الإقليمية ضدّ إسرائيل. لكنّها، أي تلك الفئة، وبعد تحرير دمشق وفرار الأسد وانكشاف مستوى إرهاب نظامه الفظيع بحقّ الشعب السوري، بل حتى بعض الإشارات عن تنسيقه مع إسرائيل، تراها تحاول الموازنة بين الحقائق الدامغة الصادمة وما كانت عليه (في واقع الحال ما زالت عليه) من ترويج الأوهام والأكاذيب الزاهية عن حقيقة الرئيس المخلوع ونظامه الاستبدادي. بطرف من ألسنتهم يقول هؤلاء (الآن) إن الأسد كان مجرماً مستبدّاً.. “ولكن”. والمشكلة هنا في هذه الـ”لكن”، يضيف هؤلاء أن سقوط نظامه أخلّ بالتوازنات لصالح إسرائيل، غامزين بشكل جليٍّ أو خفيٍّ من طرف الحكم الجديد في دمشق.
ذهبتُ في مقال سابق (“سورية والمناطق الرمادية في الموقف والتحليل”، العربي الجديد، 6/12/2024)، قبل يومين فقط من سقوط نظام الأسد، إلى أن ثمَّة مصالح متعارضة ظاهرياً في السياقين السوري والفلسطيني، وهو الأمر الذي يقتضي مقارباتٍ نسبيةً لا حدّية في القراءة والتحليل، وأن تكون هناك مساحات للتفاهم والعفو بين الطرفَين على خلفية تعقيدات المشهدين الماثلين أمامهما. ضعف إيران ومحورها في المنطقة يؤثّر سلباً في المدى الآني على المقاومة الفلسطينية في قطاع غزّة. ولكن هذا لا ينبغي أبداً أن يتحوّل تأييداً لممارسات إيران وأذرعها الإقليمية من عبث وإجرام في المنطقة، أو النظر إلى إسرائيل حليفاً أو ليست عدواً وتهديداً للكلّ العربي. وقطعاً، ليس مقبولاً أبداً أن يدافع بعضهم، خصوصاً بين الفلسطينيين، عن أفعال نظام بشّار الأسد الشنيعة بحقّ الشعب السوري، بذريعة الممانعة المُتوهَّمة. من يقوم بذلك لا يخدم فلسطين، بل يمارس الدوْر نفسه الذي مارسه نظام الأسد عندما سمَّى أقذر وألأم فرع من مخابراته “فرع فلسطين”، وكأنه كان يريد أن يُكفِّر الناس بها وبعدالة قضيتها.
غير أن لا شيء ممّا سبق يعني جماعة “لكن”، وهم بالمناسبة من اتجاهات ومشارب سياسية وفكرية شتى، ومن جنسيات عربية متعددة. عبثاً يحاول هؤلاء أن يحافظوا على بعض ما تبقّى لهم من مصداقية مع انفضاح حقيقة “النظام الممانع” بناء على المعطيات والمعلومات، لا التحليل والشواهد فحسب. غير أنك لا تكاد تخطئ مقاصد أصحاب “لكن” في السياق السوري، إذ يفضحهم لحن القول دالاً عليها، حتى وهم يحاولون إخفاءها. تراهم يُصدِّرون زفراتهم بإدانة “طاغية الشام” و”نظامه الإجرامي”، وكأنهما مُخدِّر يرجون أثرهما في مُخاطبيهم، ثمَّ يدلفون إلى إدانة الثورة السورية وقيادتها اليوم ملصقين بها كلّ الخطايا والرزايا. فجأة، تذكّر هؤلاء أن الردّ على اعتداءات إسرائيل ينبغي أن يكون مباشراً لا في “الزمان والمكان المناسبيْن”، وهي المعادلة التي تبنّاها نظام العائلة الأسدية أكثر من نصف قرن. أيضاً، كان هؤلاء يجدون الأعذار لنظام الأسد عندما جعل من سورية خاضعةً لوصاية الإيرانيين والروس والمليشيات الشيعية من عدة جنسيات وخلفيات، كما كانوا يسوّغون له التواصل مع الأميركيين ومحاولة التسوية معهم، دع عنك التزلّف لمحور الثورات العربية المضادّة، ولكنّهم فاضوا وطنية وثورية فجأة متهمين الحكم الجديد في دمشق بأنه أداة تركية بتنسيق مع الأميركيين.
الكلام والأمثلة في تناقض المنطق السابق كثير يصعب حصره هنا، إلا أنّه يعرّي تهافت أصحابه وزور أخلاقياتهم المزعومة ووطنيّتهم المدّعاة. هذا لا يعني أن الحكم الجديد في دمشق متحرّر من العثرات والأخطاء، كما أنه لا يعني تقديم شيك على بياض له. سيكون الحكم عليه من خلال سياساته وممارساته، لا من خلال تصريحاته ووعوده. لكن، ليس من العدل ولا المنطق البدء في محاصرة التجربة الجديدة في سورية بالأحكام المسبقة والمطالب التعجيزية، وهي لم يمضِ على استلامها الحكم، الذي لم يدن لها كلّياً بعد، شهر واحد. إن حجم البؤس والفساد والدمار الذي خلّفه حكم عائلة الأسد على مدى أكثر من نصف قرن يحتاج عقوداً طويلة لإصلاحه، هذا إذا افترضنا غياب التحدّيات والمؤامرات الداخلية والخارجية على سورية، من دون أن ننسى احتمال ارتكاب أخطاء كارثية من أبنائها.
كلمة أخيرة، إصرار بعضهم على التستّر وراء فلسطين في دفاعه الضمني عن بشّار الأسد ونظامه يضرّ بفلسطين وقضيتها. إن كنتم صادقين توقّفوا عن وضع حرّية فلسطين في علاقة عكسية مع حرّية الشعوب العربية. فلسطين لن تتحرّر من دون اجتماع كلمة العرب، وبقاء العرب خانعين خاضعين لأنظمة استبدادية تريد استعبادهم لن يأتي بالتحرير أبداً.
العربي الجديد
——————————
عامان لتثبيت سلطة الشرع: متى يستوعب لبنان المتغيرات السورية؟/ منير الربيع
الأحد 2025/01/05
في لبنان، هناك من لم يقتنع، حتى الآن، بالتغيير الذي حصل في سوريا. وهناك من لا يريد التصديق أن نظام بشار الأسد سقط، وأن هناك متغيرات كبيرة مقبلة. في مثل الحالة اللبنانية، قد يجوز فهم “تأخر الاستيعاب”، خصوصاً أن أجيالاً من اللبنانيين سياسياً واجتماعياً لا تعرف في سوريا والمنطقة إلا آل الأسد، فلن يكون من السهل التعامل مع غيرهم.
تأخر لبنان في التواصل الرسمي مع الإدارة السورية. استمرّت الممارسات الأمنية ذاتها تجاه السوريين ولا سيما تجاه الراغبين بالعبور من لبنان إلى سوريا او استخدام لبنان كخط ترانزيت، فيتم احتجاز الآلاف منهم في المطار أو على المعابر. تأخرت الحكومة اللبنانية في التعاطي الرسمي مع الجانب السوري، ربما بانتظار استشراف وجهة هبوب الرياح الإقليمية وكيف سيتم التعامل مع أحمد الشرع. فجاء الانفتاح العربي والغربي على دمشق، ليدفع لبنان إلى التواصل الرسمي بعد إجراءات أمنية اتخذها السوريون لمنع دخول اللبنانيين.
فرصة الشرع
ما وصل إلى اللبنانيين مؤخراً هو أن توافقاً إقليمياً دولياً قد حصل، على منح أحمد الشرع فرصة سنتين كصاحب سلطة، وهناك تقاطع داخل سوريا وخارجها حول هذا المبدأ لإعطائه هذه الفرصة كي يثبت حكمه وبعدها يتم الحكم عليه. يؤشر ذلك إلى دخول سوريا في مرحلة انتقالية، بينما لبنان ليس بعيداً عن الدخول في مرحلة انتقالية مشابهة، ستتجسد أكثر مع إعادة تشكيل السلطة، ولا بد للبلدين أن يتأثرا بالكثير من السياقات الإقليمية والدولية.
في خضم هذه التطورات، يعيش اللبنانيون حالة ضياع لجهة تقييم الواقع السوري، استناداً إلى تهافت في السرديات اللبنانية التاريخية، بين من ينظر إلى سوريا كـ”غول” كبير يريد أن ينقض على هذا اللبنان، وبين من كان ينظر إلى سوريا بوصفها قوة ارتكاز يتم الاستناد عليها لتعزيز الوضعية السياسية في الداخل اللبناني. وما بين الوجهتين يمكن الاستناد إلى الكثير من التهافت في السرديات التاريخية. تهافت لا يزال قائماً إلى اليوم.
تهافت السرديات
من أكثر الأمثلة الحالية على تهافت السرديات، هو استدعاء التدخل السوري في الشؤون اللبنانية بعد أيام على سقوط نظام الأسد، في حينها شُنّت حملة ممنهجة داخل لبنان بأن أحمد الشرع يتدخل بالسياسة اللبنانية من خلال إعلانه دعم ترشيح قائد الجيش جوزاف عون. لتبرز سردية جديدة تناقض ما سلفها وهي تصوير متعمّد لوجود أطماع سورية في لبنان وأن هناك هجمات من قبل مجموعات تابعة للثورة أو لهيئة تحرير الشام بشنّ هجمات باتجاه القرى البقاعية على الحدود السورية وأن هؤلاء يستهدفون الجيش. يتجلى في السياق تهافت السردية وتناقضها، من التدخل في دعم قائد الجيش، إلى الدخول في مواجهة مع هذا الجيش نفسه. علماً أن ما جرى هو اشتباك وقع بين الجيش ومجموعات مهربين ليس لهم علاقة بهيئة تحرير الشام، وما يقوله السوريون في هذا الصدد إنهم حريصون على عدم إعادة أيام الماضي مع لبنان. فضبط الاشتباك الذي حصل في سرغايا جاء بنتيجة تدخل الشرع شخصياً، وضرب مجموعات المهربين وتأكيده للمسؤولين اللبنانيين بأنه حريص على استقرار الحدود اللبنانية السورية. وهو لديه قلق كبير من فئة أساسية يعتبر أنها تريد التدخل في سوريا بأي لحظة لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء.
حزب الله في حمص
صحيح أن القرار “الأمني السوري” في منع دخول اللبنانيين هو قرار ينطوي على جانب انفعالي، أو يحتوي على ردّة فعل تُضم إلى جانب انتقامي أو تحت عنوان المعاملة بالمثل. فالشروط التي جرى توزيعها للدخول إلى سوريا هي شروط مشابهة تماماً للتي فرضها لبنان سابقاً على السوريين، ومعلوم حجم المعاناة التي عاشها السوريون مع بعض اللبنانيين دولة ومجتمعاً وما احتوت من نزعات تفوقية أو عنصرية أو محاولات للاستقواء على من هم ضعفاء ولم يكن لهم أي ملاذ سوى الملاذ اللبناني. لكن هذا القرار السوري، له ارتباط أساسي بجوانب أمنية يتم إخفاؤها أو تجهيلها عمداً. ولحسن قراءتها، لا بد من العودة إلى الحملة الأمنية التي أطلقتها الأجهزة السورية في مدينة حمص، حيث اكتشف عناصر هيئة تحرير الشام مجموعة من عناصر حزب الله، وأجروا تحقيقات حول حقيقة وجود مجموعات الحزب هناك، وإذا ما بقيوا هناك منذ ما قبل سقوط نظام الأسد، أم أنهم دخلوا إلى تلك المنطقة الاستراتيجية والقريبة من الحدود اللبنانية، ما بعد سقوط النظام وبالاستفادة من حالة عدم ضبط المعابر الحدودية.
هذا أحد الجوانب الأساسية والمغيبة التي دفعت بالسوريين إلى اتخاذ هذا القرار الأمني، بالإضافة إلى أسباب أخرى أبرزها ما يلمسه السوريون من استمرار لبناني في “التعالي” على السلطة الجديدة، وعدم استسهال التعاون معها. يبدو كأن هناك من لا يزال غير مصدّق أن من كان ينظر إليهم كفصائل إرهابية منبوذة هم أنفسهم الذين أصبحوا يحكمون سوريا، وهناك اضطرار للتعامل معهم. وما تأخرت فيه الدولة اللبنانية، كانت جهات عديدة قد سلكته سابقاً، وليس المقصود هنا زيارة وليد جنبلاط أو بعض المؤيدين للثورة السورية، بل حزب الله بالتحديد من خلال قنوات عديدة لمعالجة الكثير من الملفات العالقة وضمنها معالجة مسألة وجود عناصر للحزب لا زالوا في سوريا مع السعي لتأمين انتقالهم بشكل آمن إلى لبنان.
ثمة أسباب أمنية أخرى تدفع إلى التشدد الأمني ومن الجانبين أيضاً وليس فقط من الجانب السوري. معلوم أنه في الأيام الأولى لسقوط النظام وما تلاها، رميت كميات هائلة من الأسلحة وقد بلغ سعر “الكلاشنيكوف” 20 دولاراً في سوريا، ما دفع بمجموعات لبنانية للقيام بغزوات باتجاه السوق السوري ونقل الأسلحة إلى لبنان وإغراقه بالسلاح. ولا ينفصل ذلك أيضاً عن مسألة الحاجة إلى مواجهة الكثير من عصابات التهريب على الحدود اللبنانية السورية والتي كان عملها ناشطاً طوال الفترة الماضية؛ أما اليوم فهي تواجه صعوبات، أساسها عدم الاعتراف بما جرى والدخول في اشتباكات يومية مع هيئة تحرير الشام. هذا المشروع لا يرتبط بالتهريب فقط بل له أبعاد أكثر أهمية إذ تتداخل فيه عوامل كثيرة من قبل الساعين إلى إعادة تخريب الوضع على الأرض في سوريا، من خلال افتعال إشكالات حدودية مع دول الجوار، بما فيها لبنان، الأردن، العراق، وتركيا، أو من خلال افتعال إشكالات ذات بعد طائفي ومذهبي أو قومي في الداخل السوري. مصلحة لبنان وسوريا في التكامل الاقتصادي والمالي على قاعدة العلاقة الندية بين دولتين مكتملتي الأركان تحترمان سيادة بعضهما البعض.
المدن
—————————
صافح أم لم يُصافح/ سلام الكواكبي
الإثنين 2025/01/06
تبدأ نصّك وأنت ترغب في أن يحمل انتقادًا لتصرّفٍ ما، لموقفٍ ما، لتصريحٍ ما، أو التعليق عليه، وإذ بك تجد نفسك سريعًا في موقع تبرير هذا التصرّف أو الموقف أو التصريح والدفاع عنه. والسؤال الذي يطرح نفسه هو عن كيفية وأسباب التحوّل الحاصل. كما عن كيفية ترتيب مسارك في هذا الاتجاه؟
إن “ثقافة الفراغ” ليس مفهومًا يُراد به الإشارة إلى غياب المعلومات وضعف الإعلام عمومًا. بل على العكس تمامًا أو جزئيًا. إن ثقافة الفراغ يؤسّس لها عنصرٌ أساسي وفاعل، وهو الحجم الهائل من المعلومات التي تُضخّ لحظيًا على وسائل الإعلام التقليدية وأقنية الأخبار المستمرة، ولكن أيضًا، وخصوصًا، عبر مختلف وسائل التواصل الاجتماعي التي تُغرق وعينا بالغثّ والسمين من الأخبار، والغثّ حجمًا ونوعًا أشمل وأكثر تأثيرًا.
وفي الحقل الإعلامي، تغيّر شكل وأداء الرقابة التي تمارسها السلطة من أي نوع كانت، وبشكل جذري خلال العقود الأخيرة، عن المفهوم التقليدي القائم على منع أو حذف أو تقييد مختلف أشكال التعبير غير المناسب لأصحاب القرار السياسي، او الأمني، أو الاقتصادي، أو جميعها مشتركة. أضحت هذه الرقابة تُترجم من خلال الحجم الهائل من الأخبار غير الدقيقة أو المؤكدة التي تفيض من شاشات ومنابر متعددة بالكاد تسمح، كميًّا وزمنيًّا، للمتابع بتكوين رأي موضوعي ومستقل قائم على معطيات مساعدة وليس على تشويش مضلّل. كما أن المحتوى الذي يحظى بأكبر حجم من الاهتمام كما يجذب إليه أكبر عدد من المتابعين، هو دائمًا محتوى يعتمد أساسًا على الاستقطاب السياسي، أو العاطفي، أو الديني، أو المذهبي.. إلخ. وهو يفرض على متلقيه أن يسعى إلى أن يكون متحصنًا في خندقٍ غير موضوعي التكوين والمآل.
يُصبح المتلقّي إذًا مُسيّرًا باتجاه أراده صانع المحتوى ومن ورائه من أفراد أو مؤسسات أو دول، بعيدًا عن اتخاذ أية مسافة لمحاولة رؤية المشهد العام وتكوين موقف قائم على عناصر موضوعية. حيث سيُسيطر الغضب، أو الرعب، أو الكراهية، أو الإعجاب، أو الانبهار، أو كلها مجتمعة، على مشاعر المتابع ومن هم خاضعين لتأثيره. هذا المتابع إذًا، لن يلعب أي دور في وضع سلم الأولويات أو في تحليل المعلومات أو في اتخاذ المواقف. إنه يجد نفسه مشدودًا ومسيطرًا عليه بطريقة “سحرية” تحرمه من ذكائه ومن قدراته التحليلية والاصطفائية.
من خلال بعض المنصّات المشهورة، يسعى مالكوها إلى السيطرة على الوعي والتأسيس لما يسمونه بالديمقراطية المباشرة التي تتخلّص أو تقضي على كل المؤسسات الوسيطة. هذه المؤسسات الوسيطة، ليست المجالس النيابية والأحزاب والنقابات وأجسام المهن فحسب، بل أيضًا، وخصوصًا، وسائل الاعلام التقليدي، وصحافيوها، ومحرروها، ومعلقوها.
ساد الاعتقاد طويلاً بأن تأثير هذه الوسائط السلبي محصورٌ بجيل الشباب فقط. وارتبط هذا الظن بقدرة هذا الجيل الأكثر وضوحًا وتماسكًا على التعامل معها واستخدامها. لكن السنوات الأخيرة أوضحت بما لا يدع مجالاً للشك، على أنها ظاهرة سلبية تصيب كافة الأعمار من دون استثناء. ومنها تنتشر نظرية المؤامرة ليس في الحقل السياسي فحسب، بل في عموم جوانب الحياة العميق منها والسطحي. كما تؤسّس ثقافة الفراغ هذه لكي يسود العنف في الحوارات وفي الألفاظ كما أنها تشجّع على رفع نسبة العدائية في التعبير عن المواقف والذود عنها. وبالتالي، يلعب المؤثّر دورًا فاعلاً في تأجيجها خصوصًا وأن المرسل والمتلقي “يختبئان” خلف شاشتهما مما يعطيهما الشعور بجرأة لا أخلاقية عالية التركيز.
يلعب موقع المؤثر والمتلقي المختبئ خلف شاشته دورًا تعظيميًا في مستوى عنف الحوارات والعدائية في صياغة المواقف. كما يمكن اعتبار ثقافة الفراغ هذه جزءًا من الحرب الإعلامية بين الأفراد أو الجماعات أو الدول. وبالتالي، تُصبح الأدمغة هي ساحات معارك القرن الواحد والعشرين.
انطلاقًا من هيمنة “ثقافة الفراغ” إذًا، نتوقف أمام انهمار سيول التعليقات والتعليقات المضادة فيما يخص بمصافحة أحمد الشرع لوزيرة الخارجية الألمانية أثناء استقبالها في دمشق منذ أيام. فهل من المناسب القول بأن الرسميين الإيرانيين والمتطرفين اليهود لا يصافحون المرأة، فما الضير فيما حصل؟ أو هل التركيز على لباسها البسيط الذي لا يحترم أية معايير بروتوكولية هو عامل مساعد في التخفيف من وقع “الخطأ” الترحيبي في عدم مصافحة؟ وهل ندافع عن موقفه مشيرين إلى انتشار المثلية في المانيا؟ أم هل نبرر عدم المصافحة بالتبحّر في المذهب المنصوص عليها فيه؟ وأيضًا، أما كان الأمر متوقعًا منه، وبالتالي، الوزيرة تعلمه مسبقًا كما جرت عليه العادة في التحضير للقاءات على هذا المستوى؟ أم نها توقعت غير ذلك؟ عدم مصافحته لها خيار شخصي يجب أن يُعلم به الزائرون مسبقًا، أما ألا يصافحها مسؤولو البروتوكول في المطار فهذا مؤشّر مُقلق على موقف مُعمّم.
وبعيدًا عن المصافحة وأبعاد رفضها، يبدو أن ثقافة الفراغ قد أنست بعضنا محتوى اللقاء. كما أنها ايضًا دفعت بالوزيرة، المعروفة بمواقفها غير المتوازنة، دبلوماسيًا على الأقل، إلى الإشارة إلى عدم المصافحة في مؤتمرها الصحافي.
في تسعينات القرن الماضي، واثناء استقبال الرئيس نبيه برّي وزوجته للرئيس جاك شيراك ورئيس وزراءه ليونيل جوسبان، كان شيراك يعلم بأن السيدة برّي لا تصافح، لكن جوسبان مدّ يده للمصافحة فبقيت معلقة في الهواء، وسرعان ما صافحه الرئيس شيراك نفسه لتجاوز الإحراج. كان شيراك مطلع على عادات الآخر، وساعده ذكاؤه الحاد وحس الطرفة لديه في تجاوز سوء التفاهم البروتوكولي. لحسن الحظ، كانت وسائل التواصل الاجتماعي حينها تحبو ولا تأثير يذكر لها.
المدن
—————————-
في انتظار اقتناع إيران بخسارة سوريا…/ خيرالله خيرالله
ارتدّت الحروب التي خاضتها “الجمهوريّة الإسلاميّة” على إيران. نرى إيران في حال ضياع. تدل على هذا الضياع التصريحات الأخيرة للمرشد الأعلى الذي لا يزال يراهن على استعادة سوريا.
الاثنين 2025/01/06
كيف ستستغلّ تركيا الفشل الإيراني
في انتظار تبلور الوضع الإقليمي الذي يمرّ في مرحلة مخاض من النوع العسير، يبدو مفيدا التساؤل متى تستوعب إيران حجم الخسائر التي أصيبت بها، خصوصا في سوريا.
يوجد رفض واضح لدى كبار المسؤولين في “الجمهوريّة الإسلاميّة” للاعتراف بأنّ إيران خسرت سوريا التي كانت حليفا لها منذ اليوم الأوّل لقيام النظام الجديد الذي أسسه آية الله الخميني في العام 1979. لم يمرّ وقت طويل على نجاح الثورة التي قام بها الخميني على نظام الشاه، حتّى سارت سوريا في ركاب إيران التي دخلت حربا مع العراق.
استمرّت تلك الحرب ثماني سنوات كاملة. انتهت بشبه انتصار عراقي لم يفهم الراحل صدّام حسين أبعاده أو معناه الحقيقي. حارب العراق طوال ثماني سنوات على جبهتين؛ جبهة إيران وجبهة سوريا. لم يتردّد حافظ الأسد، من منطلق مذهبي قبل أي شيء آخر، في دعم “الجمهوريّة الإسلاميّة”. كان وراء حصولها على صواريخ من ليبيا.
استخدمت هذه الصواريخ في قصف بغداد ومدن عراقيّة أخرى.
لا يمكن حصر أحداث 2024 بخروج إيران من سوريا ولا بالهزيمة التي لحقت بـ“حزب الله” في لبنان. تصلح عناوين كثيرة لسنة استثنائية. على الصعيد العالمي يبرز عنوان عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض والمخاوف الأوروبيّة المشروعة من تلك العودة، خصوصا في ظلّ استعداد ترامب لعقد صفقة مع روسيا على حساب أوكرانيا. يتجاهل الرئيس الأميركي القديم – الجديد ما يمكن أن تتركه مثل هذه الصفقة، التي ستكافئ فلاديمير بوتين على حرب شنها على دولة أوروبيّة مستقلة، من آثار على القارة العجوز وكلّ دولة من دولها.
الأهمّ من ذلك كلّه، انعكاسات مثل هذه الصفقة على الأمن الأوروبي وعلى مستقبل العلاقات الأوروبيّة – الأميركيّة في وقت تمرّ دولتان أوروبيتان أساسيتان، هما ألمانيا وفرنسا في أزمتين داخليتين عميقتين. تكمن أزمة ألمانيا، المقبلة على انتخابات نيابية في شباط – فبراير المقبل، في صعود اليمين المتطرف بكلّ ما يمثله من مخاطر أوروبيًّا وألمانيّا. أمّا أزمة فرنسا، فإنّها تكمن في غياب قدرة مؤسسات الجمهوريّة الخامسة التي بناها الجنرال ديغول على التكيف مع واقع سياسي جديد تسبب به وجود إيمانويل ماكرون في قصر الإليزيه. تدور فرنسا في حلقة مقفلة ليس ما يشير إلى أنّها ستخرج منها قريبا في غياب تغيير كبير وإصلاحات في العمق على صعيد مؤسسات الجمهوريّة ذات النظام شبه الرئاسي الذي بناه ديغول.
على صعيد المنطقة التي نعيش فيها، كانت السنة 2024 سنة التغيير الكبير الذي تسبب به رجل اسمه يحيى السنوار كان وراء هجوم “طوفان الأقصى”. لم يعش السنوار ما يكفي لرؤية ما فعله بالمنطقة بدءا بإزالة غزة من الوجود وانتهاء بالقضاء على النظام السوري الذي عمّر 54 عاما والذي جعل من سوريا دولة تدور في الفلك الإيراني، خصوصا منذ خلف بشّار الأسد حافظ الأسد في العام 2000. الأكيد أنّ الأسد الأب كان حليفا لـ“الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران، لكنّه حافظ في كلّ وقت على هامش ضيّق كي يسهل عليه ابتزاز العرب عموما ودول الخليج العربيّة على وجه الخصوص.
قضى “طوفان الأقصى” أيضا على “حزب الله” بعدما استسهل زعيمه الراحل حسن نصرالله فتح جبهة جنوب لبنان وخوض حرب “إسناد غزّة”. لم يدرك النتائج التي ستترتب على مثل هذا القرار الذي في أساسه رغبة إيران في التأكيد للولايات المتحدة أنّ مفتاح توسيع حرب غزّة في يدها… وليس في يد إسرائيل وبنيامين نتنياهو وحكومته.
ارتدّت الحروب التي خاضتها “الجمهوريّة الإسلاميّة” على إيران نفسها. نرى إيران في حال ضياع. تدل على هذا الضياع التصريحات الأخيرة لـ“المرشد الأعلى” علي خامنئي الذي لا يزال يراهن على استعادة سوريا. هناك جهل إيراني واضح بأمور سوريا حيث يشعر الشعب بسعادة ليس بعدها سعادة بعد التخلّص من نظام آل الأسد ومن الوصاية الإيرانيّة.
أثبتت إسرائيل أنّ في استطاعتها خوض حروب عدّة في الوقت ذاته. ذهبت من القضاء على غزّة وتوجيه ضربة قويّة إلى “حزب الله”… إلى رفع الغطاء عن النظام العلوي في سوريا. من الواضح أنّ تركيا دخلت على خطّ الاستفادة إلى أبعد حدود من تراجع المشروع التوسّعي الإيراني.
ثمة واقع لم يعد في استطاعة أحد الهرب منه. حلّت تركيا مكان إيران في سوريا. ذلك هو العنوان الأبرز لأحداث 2024. سيكون ذلك العنوان الأبرز للسنة 2025 أيضا. ما الذي ستفعله تركيا بالورقة السوريّة؟ كيف سيستغلّ الرئيس رجب طيب أردوغان الفشل الإيراني؟ ليس مستبعدا أن تكون تركيا أكثر تعقلا من “الجمهوريّة الإسلاميّة” التي لم تستوعب يوما أنّه لن يكون في استطاعتها إحداث تغيير ديموغرافي في سوريا عبر القضاء على الأكثريّة السنّية في هذا البلد.
ستكون السنة 2025 سنة الصعود التركي في المنطقة في مقابل التراجع الإيراني. سيعتمد نجاح تركيا، ذات الاقتصاد الضعيف، على مدى قدرتها على مد جسور مع القوى العربيّة الفاعلة أولا وعلى التخلي عن أيديولوجية الإخوان المسلمين ثانيا وأخيرا. هل يمتلك أردوغان ما يكفي من الحكمة بما يسمح له باستيعاب أن المشروع الإخواني لا يصلح لبناء دولة عصرية في سوريا تنقل هذا البلد المهم إلى مكان آخر بعد سنوات طويلة من التخلّف والقمع والظلم والقتل والمتاجرة بالشعارات الوطنية مارسها حافظ الأسد وورّثها إلى نجله؟
يظهر أنّ تركيا تحاول بالفعل تفادي تجربة إيران في سوريا. يشير إلى ذلك التحسّن الكبير في العلاقات السوريّة – السعودية. توجد قناعة تركية بوجوب الاستعانة بالعرب، خصوصا بأهل الخليج ومصر في سوريا. المؤسف أنّه لا توجد قناعة لدى “الجمهوريّة الإسلاميّة” بأنّ ما حصل في سوريا طي لصفحة إيران في هذا البلد العربي. يكفي أنّه لم تعد سوريا مستعمرة إيرانيّة ولم تعد جسرا لنقل أسلحة وصواريخ لـ“حزب الله” في لبنان.
إعلامي لبناني
العرب
—————————
إيران بين «طوفان» السنوار و«طوفان» الشرع/ غسان شربل
تحديث 06 كانون الثاني 2025
لشهر ينايرَ (كانون الثاني) رنّة مؤلمة في طهران. لا تستطيع أن تنسى ما حدث في الثالث منه في 2020. رجل بعيد أسقط ما كانت تعده خطاً أحمر. قُتل قاسم سليماني على مقربة من مطار بغداد. قُتل قائد «فيلق القدس». مهندس «استراتيجية الأذرع» ومشروع «الضربة الكبرى» ضد إسرائيل.
لا تستطيع طهران في الشهر الحالي إلا أن تنظر بقلق وتوجس إلى العشرين منه. ففي هذا اليوم سيسقط البيت الأبيض مرة أخرى في يد الرجل الذي أمر بقتل سليماني. الرجل الذي انسحب من الاتفاق النووي وجفَّف عروق الاقتصاد الإيراني.
وكان يمكن اعتبار آلام الشهر محتملة لولا المرارات التي خلّفها الشهر الرهيب السابق. رجل اسمه بشار الأسد كانت إيران قد ألقت بكل ثقلها لإبقائه. رجل نجح سليماني في إقناع فلاديمير بوتين بالتدخل لإنقاذه من «طوفان» معارضيه وهذا ما حصل. مدد التدخل الإيراني – الروسي عمر نظام الأسد، لكن «السيد الرئيس» اختار النجاة بنفسه من «الطوفان» الذي أطلقه من إدلب رجل اسمه أحمد الشرع.
صعد بشار إلى طائرة المنفى من دون أن تراوده رغبة المعاندة على الحلبة. المعاندة التي أنهت معمر القذافي وعلي عبد الله صالح. غادر من دون البراعة في رسم المشهد الأخير التي أجادها «الرفيق» البعثي صدام حسين.
توَّج فرار الأسد سنة الشهور المؤلمة لإيران التي شملت اغتيال حسن نصر الله ويحيى السنوار، فضلاً عن اغتيال إسماعيل هنية في ضيافة «الحرس الثوري» في طهران. ردَّ بنيامين نتنياهو على السنوار ونصر الله بـ«طوفان» من النار أنهك غزة ولبنان ولم يرحم «المستشارين» الإيرانيين في سوريا، مما جعل نظام الأسد يسقط كثمرة ناضجة.
في مكتبه في طهران يقلّب مسعود بزشكيان الأوراق والأيام. حظه سيئ. جاءته الرئاسة في زمن الطوفانات. كان الرجل يحلم بفتح النوافذ ولو تدريجياً وعلى استحياء. وبإبرام هدنات طويلة إذا تعذّر إنهاء الحروب. زيادة الاهتمام بالاقتصاد وصعوبات المعيشة لاسترجاع شرائح واسعة من خيبات تكررت. تصاعُد الهدير في الإقليم مُقلق ولا يسمح بالتقاط الأنفاس. صحيحٌ أن ملف سوريا والأذرع لم يكن يوماً من مسؤولية الرئيس. إنه من مسؤولية جنرالات «الحرس» و«فيلق القدس» وتحت رقابة المرشد. لكنَّ الصحيح أيضاً هو أن الاستحقاقات داهمة.
لا بد من القراءة، وهي صعبة كالاستنتاجات. يعرف بزشكيان أن «حماس» قاتلت بشراسة، لكنه يعرف أيضاً أن غزة ستخرج من الشق العسكري في النزاع لتنشغل بإعادة الإعمار وتضميد الجروح. إطلاق المعتقلين الفلسطينيين في أي صفقة لا يُلغي أن غزة قد دُمِّرت ودفعت ثمناً إنسانياً باهظاً.
يتمشى في مكتبه. في القرى الحدودية قاتل «حزب الله» اللبناني بشراسة ودفع ثمناً مرتفعاً. هذا لا يُلغي أنه أُصيب في الحرب بخسارتين هائلتين؛ خسارة قائده حسن نصر الله التي يصعب عليه تعويضها، وخسارة العمق السوري الذي لا تسمح الجغرافيا بتعويضه. من دون العمق السوري لا يستطيع الحزب أن يخوض حرباً ضد إسرائيل، خصوصاً بعدما أبرزت الحرب الهوّة التكنولوجية الهائلة بينه وبين إسرائيل. خيارات الحزب صعبة. الحدود اللبنانية – الإسرائيلية تحت رقابة القرار 1701 وجنرال أميركي، وطريق سليماني بين طهران وبيروت أُغلقت بإحكام.
كانت المفاجأة السورية أكبر من القدرة على الاحتمال. تشظى «محور الممانعة». وسمعت دول عدة كلاماً صارماً في الآونة الأخيرة: «لا بد من إنهاء زمن الفصائل والجيوش الموازية». «على الفصائل العودة إلى خرائطها. لا يحق لها إرسال صواريخها ومُسيَّراتها في مهمات إقليمية». «السلاح يجب أن يكون في عهدة الدولة وحدها. لا يجوز صرف رواتب من الخزينة لفصائل متهمة بأدوار إرهابية». العراق لا يريد أن يكون ساحة حرب. وصواريخ «الحوثي» لن تعوّض صمت الأذرع الأخرى.
كان العقاب شديداً. الآلة الإسرائيلية تهدد إيران نفسها، وأميركا ليست بعيدة. تشترط أميركا لقبول إيران أن تكون بلا أذرع إقليمية وبلا قنبلة نووية. هذه أصعب أيام البلاد وأصعب أيام المرشد.
يقلّب بزشكيان جمر المشاهد السورية. واضح أن دمشق ستغرف من قاموس آخر. يوزع الشرع على زواره تعابير الطمأنة. يوحي بأن ما حدث مجرد تغيير داخل الخريطة وليس مشروع «طوفان». سقطت الحلقة السورية من سبحة الممانعة فانفرط عقدها. يحاول الزوار التكهن بما يدور في رأس الشرع. ها هو يستهلّ عهده بمطالبة الفصائل بالذوبان في وزارة الدفاع. هل سيحاول اقتباس النموذج التركي أم أن الأمواج ستتدافع في اتجاه نموذج صعب؟ الأكيد أن الزوار لم يذرفوا دمعة على إخراج إيران من الخريطة السورية.
استعادة سوريا إلى «محور الممانعة» شديدة الصعوبة في المدى المنظور. هذه المهمة أكبر من قدرات «الحشد» العراقي و«حزب الله» اللبناني ومحفوفة بالأخطار. تهاجمه الأسئلة. هل على إيران تغيير مقاربتها لشؤون الإقليم والاكتفاء بدور أقل؟ هل تعب بوتين من عناد الأسد فتركه لمصيره؟ هل قرر سلطان إسطنبول معاقبة والي دمشق لرفضه المتكرر أن يصافحه؟ اتهم المرشد علي خامنئي إسرائيل وأميركا بالوقوف وراء ما جرى في دمشق. قال أيضاً إن «إحدى الدول المجاورة لسوريا كان لها دور»، في إشارة إلى تركيا.
ما أصعب الشرق الأوسط. أرض فِخاخ ومشقّات ومفاجآت. يعرف بزشكيان الرنّة المؤلمة لهذا الشهر في طهران. تُضاعف قسوة المشهد شهور مرارات كثيرة مرت بين «طوفان» السنوار و«طوفان» الشرع.
ايلاف
————————
انتصار الثورة وخطاب العدالة والمصالحة/ يوسف الحمود
6/1/2025
لا يمكن أن تكون المصالحة الوطنية والسلام المجتمعي والأهلي بديلًا للأثمان الباهظة والأسطورية التي قدمها الشعب السوري العظيم (الجزيرة)
شكلت الانتصارات الثورية في سوريا حدثًا مذهلًا وضجيجًا سياسيًا ودويًا هائلًا، وذلك بسبب الانتصارات والتحولات الدراماتيكية للثورة السورية، وهو ما ساعد في حصول الإنجازات السريعة والمدهشة في الحقل العسكري والأمني، وكذلك من خلال حالة العجز الروسي والإيراني الحامل للنظام العسكرتاري الأوليغارشي.
إذ بينت الوقائع والأسباب الموضوعية أن الروس والإيرانيين والمليشيات الداعمة لهم سقطوا في حالة من الشلل والعجز عن مساندة النظام وإنقاذه عسكريًا ولوجيستيًا، ما أدى إلى تدحرج سريع وانتكاس نفسي وعسكري في قوات النظام المهزوم، وهذا ما شكا منه الطاغية المجرم بشار الأسد لوزير الخارجية الإيراني عراقجي في زيارته الأخيرة إلى دمشق.
وكذلك، لا يمكن إخفاء عامل التجهيز والإعداد الموضوعي لقوى المعارضة والثورة، واغتنام اللحظة التاريخية للتحرك السريع، إضافةً إلى عوامل محلية وإقليمية ودولية أخرى، وخاصةً إثر صراع وحرب حزب الله مع إسرائيل، وانعكاسات حرب غزة على المشهد العام للمنطقة العربية وبالأخص الحقل السوري، ما أدّى إلى تحفيز والتقاط اللحظة التاريخية للهجوم والمباغتة، في فجر الأربعاء 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024 في عملية “ردع العدوان”، التي أسهمت في إنجاز الظفر والنصر على جيش النظام المهزوم والمتهالك معنويًا ونفسيًا.
فقد بدأت مصفوفة الدومينو بالسقوط والتداعي الحثيث، ما شجع المعارضة المسلحة على التقدم إلى حلب، وهذا بدوره سهّل مرحلة ما بعد حلب وصولًا إلى تحرير دمشق في فجر يوم الأحد 8 ديسمبر/ كانون الأول، إذ سرعان ووشكان ما فقدت قوات النظام التحكم والسيطرة بشكل فظيع، وأصيبت بالسقوط والانهيار الكامل والمتلاحق، ولكن كان من اللافت أن التحرك العسكري كان يسير متساوقًا مع خطاب سياسي ناضج وواعٍ، يقوم على تهدئة الأقليات وبث روح تصالحية ووطنية عالية المستوى، تتأسس على طمأنة المكونات والإثنيات بشأن حقوقهم ودورهم ووجودهم الحالي والمستقبلي.
وسرت بهذا الخصوص في المشهد السوري عبارات رائعة ومشجعة بأن سوريا هي وطن لكل السوريين، وأن المساواة حاكمة على الجميع، وأن هذا الإنجاز والانتصار لا ثأر فيه.. وبقي هذا الخطاب في حركة تزامل وتساوق مع أيام التحرير، والحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي أن تأثير هذا الخطاب السياسي الأخلاقي في العمق المجتمعي وفي الواقع والعمق الإقليمي والدولي كان ملحوظًا وكبيرًا، وأسفر عن نتائج إيجابية وتشجيعية عند الجميع، من القاعدة الشعبية إلى النخب المجتمعية، وهي حالة مشاهدة ومعهودة كذلك في ردود الأفعال الدولية، وخاصة الأوروبية والأميركية منها، إذ هي الأكثر اهتمامًا بالحدث السوري.
ويبقى السؤال الأكثر محورية وأهمية في حقل الداخل والخارج عن مدى جدية وصدقية هذا الخطاب في حقل الممارسة والعدالة، واحترام الحقوق والحريات، وكذلك في إشراك الأقليات في القرار والإدارة المستقبلية لسوريا.
وبدأت دول الإقليم والعالم المعنية، وكذلك المؤسسات الإنسانية، تطرح بجدية وإلحاح هذا السؤال المحوري: أهذا الخطاب وهذه الممارسة الأولية الناجحة هي حالة تكتيكية، تفرضها طبيعة الانتصار الابتدائي للثورة، أم هي حالة إستراتيجية قائمة على إدراك واعٍ لمسألة الحقوق والحريات، وضمان إعطاء الأقليات حقًا حقيقيًا وقانونيًا من المشاركة الفاعلة في البناء والتعمير السياسي والاجتماعي؟
والحقيقة أن هذه الجدلية ستظل قائمة حتى تتحقق المسارات الفاعلة على أرض الواقع، ويتم تطبيق هذا الخطاب بقواعد دستورية وقانونية حقيقية، تقوم على العدالة والكفاءة والحقوق المتساوية، ولكن هذا الخطاب التصالحي تعتريه أسئلة منهجية وملحة في العقل السياسي والحقوقي الإنساني، وهذه الأسئلة ليست نظرية أو فكرية، بل هي صميمية وجوهرية تتأسس على دفع السوريين أنهارًا من الدماء المسفوحة، وجبالًا من الحقوق المنهوبة والمستباحة لأكثر من نصف قرن.
فهل سوف تمحى هذه الحقوق، وتترك الجرائم الإنسانية وجرائم الإبادة بذريعة المصالحة الوطنية والعيش المشترك؟ وهل تملك الدولة أو المؤسسات الدستورية والقانونية حق العفو والصفح عن جرائم أشخاص النظام والمليشيات وعتاة المجرمين؟
إن عملية التشويش والخلط بين هذين المفهومين لا ينبغي أن تقترب من طرح إحدى المعادلتين على حساب الأخرى؛ العدالة الانتقالية أو المصالحة الوطنية، فهذه ليست ثنائية قابلة للانفكاك في الحق الشرعي وفي القانون الدولي، لأن المصالحة الوطنية لا تكون بالتجاوز على الحقوق والدماء والجرائم، وهي حقوق لا تسقط بالتقادم، لا بالمعنى الشرعي الإسلامي ولا بالمدونات القانونية الدولية، فهي معادلة تراتبية وليست معادلة ثنائية تقابلية؛ بمعنى: ليست المسألة إما العدالة الحقيقية، وإما المصالحة الوطنية! بل هي تراتبية بمعنى أن الثانية لا تقوم ولا تقبل إلا على أساس الأولى.
فلا مصالحة بلا عدالة وقسط وإعادة للحقوق، فضلًا عن أنه لا يمكن في الحق الشرعي والقانوني الإكراه أو تجاوز الدولة لحقوق الأفراد في القصاص العادل، فهذه ليست من خصوصية الدولة في المفهوم السياسي والقانوني، وحتى في مفهوم السياسة الشرعية، بل هي حقوق ينبغي أن تكون ناجزة للأفراد والمجتمع ولكن بإدارة الدولة.
وبهذه الاعتبارات لا يمكن أن تكون المصالحة الوطنية والسلام المجتمعي والأهلي بديلًا للأثمان الباهظة والأسطورية التي قدمها الشعب السوري العظيم، في كل مراحل كفاحه وجهاده المرير ضد الظلم والطغيان خلال أكثر من نصف قرن.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
باحث في الفكر السياسي والإسلامي
———————————
تحرير سوريا ونظرية المؤامرة/ جودت فلاحة
6/1/2025
منذ انطلاق عملية ردع العدوان التي انتهت بنصرٍ كبير للثورة السورية، خلّص سوريا من حكم الأسد، وأحدث -وسيحدث – هزة كبيرة في المنطقة كلها، انطلقت معها عاصفة من التحليلات تحاول استقراء العملية، وتنظر في دوافعها وأبعادها ومآلاتها (التي بات كثيرٌ منها معلومًا للجميع).
وامتلأت الصحف والمنصات بفيض من الاستنباطات والتوقعات، وهواء الشاشات المتلفزة بالمحللين والمعلقين والمنظرين، المتنوعة وجهات نظرهم وخلفياتهم (لتلفزيون “سوريا” قصب السبق في تغطيته المتميزة)، مع تفاوت في الجد والعمق في جميع ما يطرح.
يطول الكلام إن أراد المرء أن يحصي الاتجاهات والأفكار حول العملية، غير أن منطق نظرية المؤامرة ومنهجها (الأحرى لا منطقها ولا منهجها) كان حاضرًا بقوة بالطبع، ومنتشرًا بوضوح.
فوقت العملية وحجمها، وجغرافيتها ومداها، وأبطالها وأهدافها وعمقها، وطولها وعرضها، وضحاياها وداعموها (إن لم يوجَدوا يُفترضوا رأسًا) واتجاهاتهم، ودول الإقليم وإقليم الدول، وتأثيرها السياسي والجيوسياسي والعسكري.. ما وراء الأكمة وما أمامها، وما فوقها وما تحتها (تصلح هذه في كل مكان).
كل ذلك وأكثر مع حفلة صاخبة من معجم الملف السوري (ومعاجم السياسة والعسكرة) متكدسة ومتكردسة بعضها في أحشاء بعض كيفما كان وعلى أي وجه، لتشكل شكلًا مشوهًا من مواد مقروءة ومرئية تُلقى في رؤوس الناس المساكين.
قد يفهم شيءٌ من حضور مثل هذه التحليلات على هواء التلفاز، ففي اليوم أربع وعشرون ساعة لا بد من ملئها كلها، ولا يمكن لأي محطة أن توفّر عددًا من الباحثين أو المعلقين الجادين يغطي كل الوقت، غير أن التعجب لا ينقضي من تبني كثير من المثقفين والناشطين لهذه النظرية ودفاعهم عنها وقتالهم دونها.
يبدو أصحاب نظرية المؤامرة والمدافعون عنها أشباهًا دائمًا في جميع ما يتفاعلون معه (للأمانة يتفاعلون مع كل حدث) مهما اختلف الزمان والمكان والشخوص، يتكلمون بقاموس واحدٍ، ولغة تحوم في العدم المتشكك حتى في ذرات الهواء.
هم متأهبون لإدغام كل ما يحدث في الحاضر، وما حدث في الماضي وما سيحدث في المستقبل، في أثواب تفسيراتهم المفصلة لتتسع كل شيء، وكل شيء لا بدّ يحتاج إلى تفسير، ليُخرجوا لنا مزيجًا عجائبيًّا من الغثاثة واللغوصة، والتفكير الرغبوي والجهل المعرفي، والكسل عن البحث، والتكرار الممل حدَّ الغثيان، والاستخفاف بالأفهام، وتحميل الحدث أو أبطاله ما لا تحتمله أفلام هوليود وبوليود، في شكل البحث والرصد الواقعي والتنظير المعرفي.
لا مكان للبديهي والواضح القريب في عرف نظرية المؤامرة، ولا في خصوصية الحدث الضخم، وفي تتابع أحداث تليه، وتسلسلها الذي ليس من شأنه أن يكون منطقيًا بالضرورة، ولا فيما فُطر أهل الأرض عليه من غرائز البشر وطبائع الأشياء، وتفاوت أفهامهم وثقافاتهم وطباعهم الجمعية والفردية، وما سن فيها من سنن متعارف عليها في دوام الحركة والتغير والظروف التي تهيئ لمجيء واقع جديد، كل تلك الثوابت تنمحي أو تنمسخ لصالح تهويمات النظرية التي تفسر كل شيء من خارجه.
لا يمر الكثير من الوقت حتى تعم مثل تلك الفرضيات ونتائجها، ويكثر جمهورها ومؤيدوها، لتصل إلى حدود اليقين، وتفرض نفسها كحالة أمر واقع في الفضاء الثقافي، لا يستطيع البحث الجاد وأصحابه -غالبًا – الإعراض عنها، أو تجاوزها إلى التركيز على الرصانة العملية والمعرفية بأدواتها وقواعدها السليمة، فيضطر البحث المنهجي في مرحلة ما أن يشتبك مع قواعد تلك النظرية وما أفرزته، وفرضيات أصحابها وخبلهم، ليكشط عن الواقع والتاريخ ما تكاثف فوقه من وُحُول شوّهته، بل غيرت معالمه.
بالوسع ضرب أمثلة كثيرة عن مثل هذه الجهود البحثية، واضطرارها لتفنيد أوهام وفرضيات زائفة شاعت بين الباحثين والناس، منها مثلًا بحث توماس هيغماير عن الجهاد الأفغاني، وتبيينه زيف الافتراضات التي ادعت تلقي المقاتلين العرب دعمًا أميركيًّا بدون دليل، وكذلك أبحاث يوجين روغان عن فترة انهيار الدولة العثمانية والحرب العالمية الأولى، وتكوّن دول المشرق العربي، وهذه الحقبة ملعب أثير لكتّاب نظرية المؤامرة.. وغيرها الكثير. والحق أن الأبحاث الجادة في معظمها تميل إلى التفسير الداخلي للظواهر والأحداث.
بالعودة إلى عملية ردع العدوان، ومع الاعتذار من جميع المحللين والمعلقين أصحاب التخاريف على هذا السرد غير السابح في خيال الشك والريبة:
عملت هيئة تحرير الشام بعدما سيطرت على حيز جغرافي معلوم عند متابعي الشأن السوري، لا ينازعها فيه أي فصيل عسكري آخر، على مضاعفة قوتها العسكرية من الناحية البشرية وقوة وكمية السلاح المتوفرة، وتطوير ما استطاعت عليه وأمكن تأمينه من تقنيات عسكرية وشبه عسكرية، اشتغلت في ورش محلية بسيطة، وظلت محدودة بالقياس إلى المنطق التقني العسكري للدول (حققت طائرات الشاهين في المعركة بعض النتائج الملحوظة، لكن ذلك لا يعود لكفاءتها التقنية العالية).
وفي حين انعدم أي مشروع أو رؤية أو أفق عسكري (وغير عسكري للأسف) لفصائل الجيش الوطني، بدت الهيئة بتماسك تنظيمها وتوحد صفها مُجيدة لرسم شيء من الأفق المستقبلي، والذي تبين بالتحضير للعملية منذ سنوات بحسب تصريح قائدها أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني).
ثم منذ عملية طوفان الأقصى ظلت الهيئة تتحين فرصة لبدء عملها العسكري مع جس نبض الجار التركي، الذي أظهر على الأغلب عدم تحمسه (والحق أن أكثر المعنيين بالشأن السوري لم يكونوا متحمسين ولا واثقين بالعمل العسكري، ويمكن مراجعة طيف واسع من الآراء التي كتبت في هذا الباب).
اتُّخذ قرار العمل بعد قصف لقوات النظام على أريحا واستشهاد عدد من المدنيين؛ فتشكلت غرفة عمليات عسكرية ضمت معظم الفصائل العاملة في الشمال السوري، قادتها هيئة تحرير الشام وكانت رأس الحربة فيها، دون دعم عسكري أو تغطية سياسية من أي دول خارجية (أدلة ذلك كثيرة واضحة، ومن يفترض عكسها فليأتِ بأدلة منطقية يُبنى عليها)، بل -أكثر من ذلك – كان التقرب من نظام الأسد سياسة حلفاء الثورة القدماء.
بدا انهيار قوات النظام هائلًا لم يتوقعه أكثر المتفائلين، وتفاجأ الجميع (كما يحدث دائمًا في الأحداث العظام) حتى أبطال العملية بالمساحات التي سيطروا عليها في وقت قياسي، وقد شارك الطيران الروسي في إسناد القوات السورية (عكس ما قيل عن أنه لم يشارك) التي شغلت أقصى طاقتها المدفعية والجوية، كذلك قصفت خطوط التماس وساحات القتال، ولم تسلم مراكز المدن والمشافي من عمليات الانتقام الجبانة، ومضى المقاتلون يفتحون المدن تباعًا في قصة باتت مجرياتها معروفة للجميع.
هكذا تسلسلت الأحداث بهذه البساطة بعدما اختمرت ظروفها وتهيأت أسبابها.. بالتأكيد سيكتب الكثير الكثير حولها، وننتظر بعض الجدة في تناولها، بعيدًا عن الخيالات المريضة بنظرية المؤامرة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
مدون
————————–
سوريا.. ماذا بعد؟/ محمد رجب
6/1/2025
لقاء جمع القائد أحمد الشرع مع الفصائل العسكرية نوقش فيه شكل المؤسسة العسكرية في سوريا الجديدة – ادارة العمليات العسكرية عبر تلغرام
لقاء جمع أحمد الشرع مع الفصائل العسكرية نوقش فيه شكل المؤسسة العسكرية في سوريا الجديدة (مواقع التواصل الاجتماعي)
نحن اليوم أمام تحديات عديدة وكبيرة!. الأمر اليوم لا يقتصر على استلام السلطة والتسليم.
أمامنا تحديات كبرى، والكثير من الملفات التي تحتاج معالجة فورية، ونحن اليوم بحاجة إلى التكاتف والتماسك بين أفراد المجتمع السوري، وأن تقع المسؤولية على كل فرد منا مهما كان دوره – سواء كان في الداخل أم في الخارج- من أجل معالجة هذه الملفات الحساسة، خصوصًا أن النظام المجرم ترك لنا المؤسسات متهالكة، وهي بحاجة إلى دراسة بشكل صحيح، والعمل على إعادة تأهيلها وتشكيلها لكي تتناسب مع متطلبات الشعب، وتأمين الخدمات التي يحتاجها.
من أهم الملفات ملف الأمن بجميع أقسامه، سواء الشرطة أو الجيش أو الأمن الداخلي، كلها بحاجة إلى دراسة وإعادة هيكلة من أجل تحقيق الأمان والاستقرار في البلاد، ومحاسبة ومحاكمة كل من تورط في دم شهداء، وسحب السلاح غير الشرعي لكي تعود الحياة إلى طبيعتها.
ويجب الحفاظ على المؤسسات الحكومية وتسيير الأمور مع ما تتطلبه حياة المواطن اليومية، وتأمين القدر المستطاع من المواد الأولية التي يعتمد عليها المواطن بشكل يومي من أجل تأمين العيش الكريم.
اليوم، الفرصة مفتوحة أمامنا نحن الشباب لتكون لنا كلمة ومساهمة في الواقع السياسي في بناء دولة مدنية، وأسس ديمقراطية تسمح لكل الشعب بالمشاركة، وتوحد إرادته من أجل بناء دولة ديمقراطية ذات سيادة قانونية وشرعية، كما يجب علينا زيادة الوعي، والحذر من تدخل أجندات خارجية تحاول إفشال مشروع قيام الدول.
كما يجب علينا التعاون مع الحكومة المؤقتة من أجل أن نساهم في توطيد أركان هذه الدولة، وانتقاد واعتراض أي قرار تتخذه الحكومة المؤقتة لا يتناسب مع مصالح الشعب السوري والدولة، لأن النقد والاعتراض في هذه المرحلة هو أكبر دعم وتأييد نقدمه للسلطات الجديدة.
وأي تبرير أو سكوت عن الخطأ، أو تفويض على بياض، هو تمهيد لعهد جديد من الاستبداد، كل خطأ لا يصحَّح اليوم سيصير عرفًا وقاعدة، وقانونًا يكلف الشعب الكثير من أجل تغييره.
اليوم، الشعب السوري بشكل عام، والحكومة المؤقتة والشباب السوري بشكل خاص، أمام اختبار من أجل تحديد مستقبل وواقع سوريا السياسي الجديد.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
ناشط سياسي، سوري
—————————–
بين الهواجس والسفارات… الحذر واجب/ عالية منصور
في سوريا الكثير الكثير من الفرح… والكثير الكثير من الخوف والحذر
آخر تحديث 05 يناير 2025
بعد نضال الشعب السوري الذي استمر 14 عاما إلا ثلاثة أشهر، وبعد معركة عسكرية استمرت أياما، سقط النظام وهرب بشار الأسد، عاد السوريون، فمن كنت ألتقيهم في عواصم العالم كلا على حدة، صار بإمكاننا الجلوس حول طاولة واحدة على مقهى في قلب العاصمة السورية دمشق، لنتحدث عن الحلم وعن ذكرياتنا طيلة أعوام مضت، وعن هذه اللحظة التاريخية العظيمة التي نعيشها. وبين لحظة فرح وأخرى نعبر جميعا عن مخاوفنا وقلقنا حيال المستقبل، لماذا تصر الإدارة السياسية على استبعاد الخبرات وهي كثيرة راكمها السوريون خلال سنوات الهجرة القسرية في دول العالم المتحضر؟
لماذا لم يصافح قائد المرحلة الانتقالية أحمد الشرع وزيرة الخارجية الألمانية؟ هو يمثل الدولة السورية وليس له الحق في “أسلمة” صورة سوريا. وتصريحات مديرة مكتب شؤون المرأة في حكومة تصريف الأعمال السيدة عائشة الدبس لا تبشر بالخير، رغم محاولة بعض من هم في الإدارة الحالية للبلاد بالرد على تصريحها بشكل غير مباشر. وما قيل عن تعديلات على المناهج التعليمية من قبل وزير التربية والتعليم في الحكومة المؤقتة نذير القادري وما لحقها من توضيحات. ومنح بعض غير السوريين رتبا عسكرية بينما الضباط والعسكريون المنشقون مستبعدون حتى اللحظة أمر يثير الكثير من المخاوف.
كلها وغيرها مخاوف مشروعة بل وضرورية، وإن كان التبرير اليوم أن شهرا لم يمر على سقوط بشار الأسد، وأن المرحلة مؤقتة وستنتهي في الشهر الثالث من العام الحالي، والحديث عن ضرورة انسجام الفريق اليوم فلا وقت لبناء ثقة بين أعضاء فريق جديد ستنتهي مهمته كما قيل بعد 3 أشهر.
في الواقع ثمة معضلة، فالتخبط عند الإدارة الجديدة في كثير من الملفات واضح، وهذا الاستعجال لاتخاذ قرارات وتعديلات ليست من صلاحياتهم لافت، حتى وإن كانوا يجدون طريقة سلسة للتراجع أو التبرير، ولكن قد يكون من المفيد للجميع منحهم فرصة مع إبقاء العين مفتوحة على الأداء والنقد والاعتراض عند الحاجة، وهي مرحلة مؤقتة كما التزموا، تنتهي بعد أشهر قليلة لتبدأ معها المرحلة الانتقالية.
وفي رأيي أن هذه المرحلة، أي المرحلة الانتقالية، هي الأساس وحجر الزاوية بسوريا المستقبل، سوريا الدولة التي يسعى إليها معظم أبنائها، معظم، ويؤسفني أن لا أقول جميع. ولذلك فإن الاستعجال بإعلان مواعيد مختلفة لمؤتمر الحوار الوطني المزمع عقده قريبا لم يكن موفقا، مؤتمر وطني يحتاج إلى وقت لإعداده وقد يكون من المفيد أن يعقد أحمد الشرع مؤتمرا صحافيا يتوجه به للسوريين يشرح لهم واقع الحال، ويخبرهم بأن الإعداد للمؤتمر لا يقل أهمية عن المؤتمر نفسه كي تنجح الخطوة الأولى باتجاه المرحلة الانتقالية وباتجاه سوريا الدولة، ليخاطب الجميع ويطمئن هواجس القلقين وهم كثر.
ويبقى لافتا بين هواجس المرحلة المؤقتة وهواجس المرحلة الانتقالية، أن أجسام المعارضة السورية لم تستوعب بعد أن نظام الأسد قد سقط، فلم يبدلوا من سياساتهم شيئا، عادوا إلى دمشق لا ليلتقوا السوريين بل ليتابعوا لقاءاتهم مع السفراء الذين كانوا يلتقونهم في الخارج.
ما يثير قلقي وهواجسي أكثر من كلام الدبس وتراجع القادري ومصافحة الشرع، هو هذه المحاولات التي يقوم بها البعض بالاستقواء بالخارج، في وقت صار الداخل بفضائه ومساحاته ملكا للسوريين، جميع السوريين. حتى إن البعض صار يلمح إلى الاستقواء بالخارج والسلاح معا، في وقت لم يعتد أحد عليه.
يضاف إلى ذلك هذا التعالي بالتعاطي من قبل بعض الغرب، والإصرار على النظر إلى مجتمعاتنا بوصفها مجتمعات رجعية لا أمل أن تتمكن من بناء دولة مواطنة، فنبقى ندور بحلقة حقوق الأقليات والنساء، دون أي حديث عن حقوق المواطنة، يلاقيه تعاطي البعض الذي يستقوي بهذا الخارج دون أن يحاول فتح أي حوار جدي مع السوري “الآخر”.
نحن أمام أهم مفصل في تاريخ سوريا، دول كثيرة فتحت أبوابها ودعمت خيار السوريين، دول أخرى ما زالت تترقب، بينما هناك من يتربص بسوريا ومستقبلها.
على كل مواطن سوري تقع المسؤولية، والمسؤولية الأكبر تقع على عاتق الإدارة السياسية، لنصل جميعا إلى المرحلة التي ستنقلنا إلى سوريا الدولة، وقد يكون من المفيد بعض الثقة وإن كان الحذر مشروعا، ولننظر إلى أنفسنا كمواطنين متساوين ولنسعَ لذلك، بدل أن تذهب كل مجموعة للاستقواء بسفارة ودولة، فقد جربنا ما حل بسوريا نتيجة استقواء بشار لا بالسفارات فحسب بل بدول وجيوش على حساب مصلحة سوريا والسوريين.
المجلة
———————
ماذا في أقبية سجن صيدنايا؟/ حسام جزماتي
2025.01.06A
انتشرت، في أثناء تحرير هذا المعتقل المريع، شائعات كثيرة منبعها رغبة عشرات آلاف عائلات المفقودين في العثور على ذويهم بعد سنوات ماضية من الغياب. وكان من أبرزها وجود أقبية خفية وطوابق تحت الأرض في السجن. ورغم أن العارفين سارعوا إلى نفي ذلك إلا أن الآمال ظلت تراود نفوس كثيرين فبدؤوا بالحفر. وحين لم يسفر عن شيء جاءت لجان مختصة بخبرات تقنية أثبتت أن ما تم الوصول إليه هو كامل السجن، وأن الذين لم يُعثر عليهم من نزلائه باتوا في حكم الشهداء.
لكن قصة السوريين مع «أقبية صيدنايا» أقدم من ذلك. إذ يُنسب إليها، حقيقة أو مجازاً، عمل مخابراتي متقن لصناعة الجهاديين. وقد شاع هذا الافتراض إلى درجة أنه صار يعدّ من البدهيات التي يُغني ذيوعها عن تقديم أدلة، جديرة بهذا الوصف، تثبتها.
وقد استندت هذه الفرضية إلى أخرى أعمق وأشمل؛ تقول إن المخابرات السورية، دون تحديد جهاز بعينه، لاعبة بارعة في ملف الجهاديين، منذ أن اخترقتهم في العراق على الأقل. عندما كانت البلاد منطلقاً حراً لمواطنيها الراغبين في الجهاد أو المقاومة هناك، وممراً لسواهم من المتطوعين.
والحال أن انهيار بنيان نظام الأسد وخراب بيته، في مسلخه البشري صيدنايا وفي كافة إدارات أجهزته الأمنية وفروعها في المحافظات، فرصة مواتية لاختبار هاتين النظريتين المتداخلتين، أو بالأحرى مناسبة لدحضهما.
فأولاً تبين أنه ليس في هذا السجن العتيد أقبية سوى المنفردات التي يعرفها من قادهم حظهم العاثر إليه، فضمّتهم إثر الاستقبال وقبل توزيعهم على المهاجع، أو نزلوا إليها من مهاجعهم عقوبة على مخالفة بعض الأنظمة الجائرة المفروضة من قبل الإدارة.
ومن المهم ذكره هنا أن مديري السجن كانوا مشغولين بالمحافظة على انضباطه وسيره اليومي الذي كان رتيباً إلى حد كبير في سنوات ما قبل الثورة، وهي المرحلة التي يُفترض أنها شهدت «صناعة التطرف» فيه. فهؤلاء المديرون ضباط في جهاز الشرطة العسكرية لا في المخابرات، ليست لهم مهمة سياسية أو أمنية تتجاوز الحفاظ على من لديهم من «عهدة» بشرية يستلمونها بإيصالات ويسلمونها بأخرى. وبين هذا وذاك يحرصون على بقائها هادئة من دون محاولات للهروب أو التمرد، وعلى حصولها على التغذية والتطبيب في حدود الإبقاء عليها حية لا تسعى.
ومن صلاحيات مدير السجن فرز المعتقلين، أو الموقوفين باللغة الرسمية المعتمدة، على الأجنحة والمهاجع. وقد اختار بعض المديرين، أو معظمهم، فرز أبناء «الدعوى» أو القضية الواحدة معاً، لأن ذلك أدعى إلى انسجامهم فلا تحدث بينهم صدامات ربما تكون مميتة في حال وجود متشددين إسلاميين، مثلاً، مع سجناء اعتادوا إطلاق الشتائم والكفريات. وقد قرر مديرون آخرون دمج القضايا المختلفة، لا سيما حين أرادوا توزيع المتهمين بالتخابر والتجسس والعمالة على المهاجع كلها، ليصير للمدير مخبر منهم في أي بقعة من أرجاء مملكته الكئيبة.
وعلى كل حال، وبما أنه ليس بالإمكان بناء السجن من منفردات فقط، كان لا بد للسجناء من الاختلاط معاً. وبما أن معظم التهم في المرحلة المذكورة، انطلاقاً من أحداث 11 أيلول 2001، مروراً بالغزو الأميركي للعراق في 2003 والذروة التي تلته حتى الاستعصاء الشهير في 2008، كانت سلفية جهادية؛ فمن البدهي أن يتلاقى الجهاديون وأن يتداولوا الأفكار، وأن يكون بينهم من هو أكبر سناً أو أكثر علماً أو أنصع حجة، فيتولى تدريس من هم أقل بالاستناد إلى محفوظاته أو إلى ما يوجد من الكتب. دون أن يكون في ذلك مخطط خفي من نوع ما، يُطلب الآن من المقتنعين به أن يُبرزوا أدلة على وجوده من ورقيات السجن التي باتت متاحة.
وقد عرف السوريون من مذكرات المعتقلين الإسلاميين السابقين في سجن تدمر أنهم كانوا يمضون الوقت الرهيب بأن يدرّس كل منهم مَن حوله ما يتقنه من علوم؛ بدءاً من حفظ القرآن والعلوم الشرعية إلى الهندسة والطب والفيزياء… إلخ. ولم يقل أحد إن من مخططات النظام الخبيث تخريج عدد من حفاظ القرآن أو المطلعين على العلوم!
كما أن سجن صيدنايا نفسه ضم، منذ تأسيسه في عام 1987 وحتى التسعينات، كتلة وازنة من سجناء حزب العمل الشيوعي، شغلوا عدداً من أجنحته ونظّموا مكتبة كبيرة قرؤوا فيها أعمالاً أدبية وسياسية وفلسفية، ونشطوا في تعلم اللغات. ولم يقل أحد إن المخابرات السورية أعدّت جيلاً من المثقفين!
أما فرضية أن هذه الأجهزة تغلغلت في الأوساط الجهادية العراقية فيحتاج دحضها كلياً إلى اطلاع أوسع على ملفات الجهاديين لديها، وهو ما لم يحدث بعد نتيجة فوضى الوثائق الآن. لكن ما تسرب يشير بوضوح إلى أن هذه الفرضية خرافة روّجها الأمن السوري عن نفسه أملاً في الاتجار بهذه المعلومات المزعومة لدى الدول الغربية مقابل أثمان سياسية، وإرهاباً معتاداً منه للسوريين بأنه كليّ المعرفة، وكليّ القدرة بالتالي.
ولعله من الأمثلة الفاضحة ما استعرضته منصة «درج» مؤخراً من ملف أبي محمد الجولاني في فرع فلسطين
، المركزي، والذي يبيّن أن شعبة المخابرات، العسكرية، لم تستطع تحديد هوية قائد «جبهة النصرة» إلا بعد أن ظهر بوجهه على الإعلام في عام 2016. وأنها كانت تتخبط، قبل ذلك، بين الاحتمالات المعروفة المطروحة على الإنترنت. والأهم هنا أنها لم تحاول الاستعانة بأحد عملائها الكثيرين المفترضين في ساحة الجهاد العراقي، كما لم يسعفها مصدر تسرّب إلى «النصرة» من العراق أو من سجن صيدنايا. وقد كانت هاتان البيئتان العمود الفقري للتنظيم في سنوات تأسيسه!
تلفزيون سوريا
—————————————–
هل يتخلى مظلوم عبدي عن حزب العمال الكردستاني؟/ فراس رضوان أوغلو
2025.01.06
“إن المقاتلين الأكراد الذين قدموا إلى سوريا من مختلف أنحاء الشرق الأوسط لدعم القوات الكردية السورية سيغادرون إذا تم التوصل إلى وقف لإطلاق النار في المواجهة مع تركيا بشمال سوريا” تصريح لا شك بأنه مهم ودليل في نفس الوقت يأتي على لسان مظلوم عبدي القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية بأن هناك مقاتلين أجانب في صفوف قسد، في حقيقة الأمر لم يكن أحد يحتاج هذا الاعتراف لأن الكل يعلم كيفية إنشاء قوات قسد وتغيير اسمها من أجل إصباغ اللون السوري عليها وأن قيادات حزب العمال الكردستاني هي من نسقت الأمر مع الولايات المتحدة الأميركية من أجل إنشاء القوات الكردية الذراع البشري للبنتاغون داخل الأراضي السورية لأهداف متعددة منها إنهاء تنظيم الدولة الإسلامية.
لكن السؤال المهم لماذا أطلق مظلوم عبدي هذا التصريح في هذا الوقت وهل هو قادر بشكل فعلي على إخراج مقاتلي حزب العمال الكردستاني من منظومته العسكرية و هل تركيا تحتاج هذا التصريح وتقبل به وكأنه عقدة الربط والحل في هذا التصريح، لو بدأنا من تركيا التي لم ترد ولم تتعاطَ مع ما طرحه مظلوم عبدي، بل إن الجواب كان باستمرار المعارك بين الفصائل التي تدعمها تركيا و بين قسد لاسترداد كل النقاط التي تسيطر عليها الأخيرة غرب الفرات مع مشاركات خجولة حتى الأن للمسيرات التركية في تلك المعارك و هذا مرتبط يبدو بالتفاهمات التركية الأميركية لكن إلى متى سيستمر هذا التفاهم والذي بدوره مرتبط بتصريحات مظلوم عبدي التي جاءت بضغوطات أميركية من أجل إيجاد خارطة طريق تفاوضية بين البنتاغون و وزارة الدفاع التركية، وحتى مقترح جعل عين العرب (كوباني) منطقة خالية من السلاح لم يلقَ آذاناً صاغية من أنقرة على عكس الأميركيين الذين زاد تواجدهم في تلك المنطقة وبدأوا يأسسون نقطة عسكرية لهم هناك لها ما لها من أبعاد جيوعسكرية سواء في تنفيذ مقترح منطقة خالية من السلاح وبقاء القوات الأميركية لضمان ذلك وهذا الأمر يعتبر غريباً نوعاً ما لأنه من النادر اتخاذ قرارت عسكرية في واشنطن في الفترة الإنتقالية بين إدارة وإدارة أخرى وهذا الأمر يعني احتمالية أن هذه القرارات تأتي من القيادات العسكرية أكثر منه من القيادات السياسية وخاصة أن الوضع العسكري الأميركي في سوريا موضع نقاش جدلي بالنسبة للرئيس دونالد ترمب الذي يبدو أنه حتى الأن لم يحسم قراره حول زيادة القوات الأميركية في سوريا أو إنقاصها فتصريحه الأخير على أن سوريا ليست صديقة للولايات المتحدة الأميركية ولا يجب الانخراط فيها يعطي تساؤلاً محيراً حول ما سيتخده ترمب من قرارات في سوريا الجديدة بعد خلع منظومة الأسد من الحكم.
أما السؤال الثاني والذي هو في صيغة إشكال أمني بالنسبة لتركيا و حليفتها الولايات المتحدة الأميركية وهو بعد هذا الاعتراف من قبل قائد قوات قسد مظلوم عبدي بوجود مقاتلين أكراد غير سوريين، هذا يعني أن التسليح الأميركي الذي كان يُغدق على قسد كان يذهب لمقاتلي حزب العمال الكردستاني و هو المصنف على دوائر الإرهاب في وزارة الخارجية الأميركية وبكل تأكيد هذا بمنزلة إشكال قانوني في واشنطن سوف تستفيد منه أنقرة في المباحثات القادمة مع إدارة بايدن الجديدة في البيت الأبيض، أما الإشكال الثاني يكمن في إمكانية مظلوم عبدي من سحب تلك الأسلحة من أيدي المقاتلين الأكراد الأجانب “حسب وصفه” والذين هم وفق الرؤية التركية أنهم مقاتلو حزب العمال الكردستاني وهل يضمن السيد مظلوم عبدي أن تلك الأسلحة لم تُهرب نحو جبال قنديل وغيرها من المناطق التي تقلق تركيا في أمنها القومي، ويبقى السؤال الأهم و الأصعب ألا وهو هل يستطيع مظلوم عبدي التخلي عن مقاتلي حزب العمال الكردستاني والذين هم عماد قوته و قواته ولولاهم لما كانت تشكلت قسد ولا وحدات حماية الشعب الكردي أصلاً وخاصة أن لديهم خبرة عسكرية وقتالية وتنظيمية عبر عقود من تأسيس حزبهم في تركيا مروراً بانتقالهم نحو جبال قنديل و أراضٍ في الشمال العراقي.
أخيراً و من وجهة نظر أخرى يمكن ربط ما صرح به مظلوم عبدي بما تلاه من حراك سياسي في الداخل التركي ومقابلة بعض من قيادات حزب DEM المناصر للقضايا الكردية في تركيا مع عبد الله أوجلان الأب الروحي لفكر حزب العمال الكردستاني وما جاء بعد ذلك اللقاء من تصريحات تؤكد أهمية تقوية أواصر الإخاء التركي الكردي في مظلة البرلمان، وفي حال نجاح هذه الوساطة وموافقة عبد الله أوجلان على إلقاء خطاب يدعو فيه مقاتلي الحزب إلى التخلي عن السلاح مقابل عملية سياسية شاملة يمكن اعتبارها وقتها بأنها تصب في صالح مظلوم عبدي و تقوية موقفه في إخراج مقاتلي حزب العمال الكردستاني من قسد ومن سوريا.
تلفزيون سوريا
————————–
سوريا الجديدة… حكم “الأكثرية” بين مصالح الشعب وحسابات الأنظمة/ حسن عباس
الاثنين 6 يناير 2025
إسقاط نظام صدّام حسين في العام 2003 أسفر تلقائياً عن سحب السلطة في العراق من “الأقلية” السنّية العربية وإعطائها لـ”الأكثرية” الشيعية، بحكم الديمقراطية والديموغرافيا. حينذاك، عبّرت بعض الأنظمة العربية عن امتعاضها من إخلال نتائج الغزو الأميركي للعراق بالتوازن الطائفي في المنطقة، واقترحت معالجة هذا الخلل عبر بوابة سوريا، من خلال سحب السلطة من النظام “الأقلوي” العلوي وإعطائها لـ”الأكثرية” العربية السنّية، أيضاً بحكم الديمقراطية والديموغرافيا.
إعادة التوازن هذه لم تكن مطلباً ذا وتيرة ثابتة، بل كانت تتصاعد خلف الكواليس حيناً وتضمر أحياناً. وفي الفترة الأخيرة قبل خلع رئيس النظام السوري السابق بشار الأسد، كانت في أدنى حالاتها، مع انفتاح نظاميْ الإمارات والسعودية عليه، انطلاقاً من تقديرهما أن عامل نجاح الإسلام السنّي “الثوري” (القائل بجواز الخروج على السلطة والفاعل حسب هذا القول) أخطر عليهما من الصراع السنّي-الشيعي، فهو يشكّل عاملاً مهدداً لهما بوصفه أحد أشكال الصراع السنّي-السنّي في المنطقة، واستطراداً لدفع الأسد للعمل ضد النفوذ الإيراني الذي توسّع في بلده، وهو ما كان يُعبَّر عنه بالحديث عن إعادة النظام السوري إلى “الحضن العربي” أو “الحظيرة العربية”.
بالمحصّلة، تهاوى حكم “الأبد”، ولم يسعف الوقت النظام السوري للتنعّم بثمار التموضع الخليجي الأخير.
حسابات الأنظمة
يزعج نجاح السلطة التي ستتشكّل قريباً في سوريا بعض الأنظمة العربية، لأنه قد يحمّس بعض القوى داخلها على الاحتذاء بمثل “الثورة” التي أوصلت إسلاميين إلى سدّة الحكم بالقوة، ما يعني صعوداً جديداً للإسلام السياسي الذي أحبطته هذه الأنظمة عبر حركات الردّة على ثورات الربيع العربي، خاصةً بحال دام الانسجام بين السلطة السورية الجديدة وبين الحكومة التركية، أكبر الرابحين إقليمياً من التحوّل السوري حتى هذه اللحظة.
ولكن من المؤكد أن هذه الأنظمة سيُريحها تغيير السلطة السورية الجديدة لسياسات سابقة وتبنّيها نهجاً جديداً ليس فيه تصدير للكبتاغون، وأهم ما فيه التغيّر الجيو-استراتيجي المتمثل في كسر ما أسماه الباحث الفرنسي ميشال سورا، في ثمانينيات القرن الماضي، “المحور الاستراتيجي الشيعي”، وهو محور تحقق فعلياً بعد إسقاط نظام صدّام وعُرف بتسمية “الهلال الشيعي” التي راجت بعد استخدام الملك الأردني عبد الله الثاني لها. وترجمة هذا الكسر تتمثل في قطع الخط البري “السائب” الذي يبدأ من إيران وينتهي في لبنان مروراً بالعراق فسوريا، ما يعطي لأنظمة الخليج ميزة استراتيجية كبيرة في مواجهتها لـ”محور الممانعة”، أكبر الخاسرين من المشهد الجديد في سوريا.
إشكاليات حكم الأكثرية
أنتج وصول هيئة تحرير الشام إلى السلطة في سوريا، وسيُنتج، تحديات كثيرة لكل مَن يأمل في بزوغ نظام ديمقراطي يحترم التعددية والحريات وفق معايير حديثة، فما ستدفع إليه هذه الهيئة من نظام جديد لن يعبّر عن طموحات الديمقراطيين والحداثيين والمهتمين بحالتيْ الحقوق والحريات.
من ناحية ثانية لن يعبّر الحكم “الانتقالي”، وقد يدوم تحت تسميات أخرى، عن طموحات أبناء “الأقليات” الدينية والقومية، وإنْ كانت الأخيرة لم ولن تتضرر كما كان متوقعاً بحال إسقاط قوى إسلامية ذات خلفية جهادية لنظام الأسد، وذلك بسبب تفعيل ما أسماه قائد سوريا الحالي أحمد الشرع وآخرون من إدارته الانتقالية بـ”الرحمة” الإسلامية.
يمكن المحاججة بأنه، في المجتمعات التعددية، وعندما تَحُول ظروف معيّنة دون سيادة مفهوم المواطَنة المتجاوزة للهويّات، يبقى حكم الأكثرية الهوياتية أفضل من تسلّط أقلية هويّاتية، لأنه أقرب إلى تمثيل غالبية المواطنين، ولأنه يمتلك إمكانيتيْ تمثيل مصالح غالبية الناس وتضييق حجم المقصيين عن مراكز القرار.
ولكن هنالك إشكالية مرتبطة بفكرة حكم الأكثرية الهوياتية، وهي أن اعتباره ممثلاً للأكثرية الهوياتية جزافي، فعدم الالتفات إلى ضرورة تمثيل التنوّع المجتمعي الهوياتي لتحقيق أفضل الممكن للمواطنين هو جزء من عقلية عدم الاهتمام بتمثيل التنوّع عامةً وهذا ينسحب على سوء تمثيل التنوّع في الشرائح الاجتماعية المتشكلة على أسس غير هوياتية، وضمنها تنوّعات كثيرة سياسية واجتماعية داخل الأكثرية الهوياتية نفسها، ما ينتج شكلاً من أشكال الاستبداد.
المأمول في سوريا
الحد الأدنى المأمول من أي نظام جديد في سوريا، بعد أكثر من نصف قرن من الاستبداد، هو احترام حقوق الإنسان والحريات والحرص على احترام خصوصيات الأقليات الدينية والقومية وحقوق المنتمين إليها وحرياتهم الدينية والمدنية، وإشراكها في الحكم، ولو عبر منظومة تتيح لأفراد يحظون باحترام داخل جماعاتهم تبوؤ مناصب عليا مؤثرة في القرار… على أمل تجاوز هذا الحد الأدنى في المدى المنظور بتوصّل الشعب السوري إلى قناعة بأن الحكم الأنسب والأعدل هو الحكم المدني “المحايد عقائدياً” الذي يحقق المساواة الكاملة بين المواطنين، بغض النظر عن انتماءاتهم القبْلية.
على أيّة حال، حكم الأكثرية الهوياتية المرتقب سيتضمّن ديناميات كثيرة، فمطالبة الأقليات الدينية والقومية بحقوق لها عبر الدفع باتجاه نظام تشاركي، أو عبر الدفع باتجاه نظام مدني يساوي بين جميع المواطنين ولا يميّز بينهم على أساس الدين أو الإثنية، وهي مطالبة ستتلاقى بطبيعة الحال مع تطلعات شرائح من الجماعة التي تشكل الأكثرية الديموغرافية، أي العرب السنّة في الحالة السورية، لديها فرصة لنقل سوريا إلى واقع أفضل، حتى ولو احتاج الأمر إلى بعض الوقت. أما ديكتاتورية الأقلية، فلا يؤدي وجودها إلا إلى تجميد أي حراكات اجتماعية تسعى إلى خلق مستقبل أفضل، وسيعود الشدّ والجذب بين الجماعات ويبدأ، وربما من نقطة الصفر، بعد سقوطها.
رصيف 22
—————————
البحث عن مأساة”… عن التعامل غير المسؤول في تغطية “الحدث السوري” منذ إسقاط الأسد/ زينة شهلا
الاثنين 6 يناير 2025
بعد أيام على سقوط النظام السوري، تواصلت معي صحافية تعمل في إحدى القنوات المعروفة الناطقة باللغة الإنكليزية، طالبةً أن أساعدها في العثور على “سيدة خرجت حديثاً من المعتقل، وتتحدث الإنكليزية بشكل جيد”. هذا الطلب غير المهني، والذي يعبّر إلى حدٍّ كبير عن عدم حساسية وفهم كافيين للسياق السوري وما عاشه ويعيشه السوريون منذ عقود، لم يكن الوحيد من نوعه.
منذ ذلك الحين، ومع قدوم مئات الصحافيين/ ات الغربيين/ ات والعرب، ومراسلي/ ات عشرات وسائل الإعلام العربية والغربية المهتمة بتغطية “الحدث السوري” الذي عاد فجأةً إلى صدارة المشهد بعد إسقاط نظام بشار الأسد، رصدنا في رصيف22، مجموعةً من المواقف المخالفة لمعايير التغطية الإعلامية المهنية والإنسانية والأخلاقية، وهو ما استدعى العمل على هذا التقرير أملاً في عدم تكرارها، خاصةً أن سوريا اليوم تشهد زخماً إعلامياً غاب عنها منذ سنوات طويلة في ظل القيود التي كانت سلطات النظام الساقط قد فرضتها على دخول الإعلام الأجنبي مع اندلاع الثورة عام 2011. زخم وصفه أحد الزملاء بأنه يشبه “سيركاً صحافياً”.
البحث عن “مأساة”
على غرار الفيلم المصري الكوميدي “البحث عن فضيحة”، لكن بصورة تراجيدية، تعاملت وسائل إعلام غربية عدة -وبدرجة أقلّ الوسائل العربية- مع التطورات في سوريا منذ إسقاط النظام. وبينما كانت قضية المعتقلين والمغيّبين قسرياً، والسجون سيئة السمعة للنظام، هي أهم وأبرز القضايا، كان “تكالب” هذه المنابر الإعلامية والصحافية على “السبق” و”الإثارة” على حساب الضحايا من معتقلين/ ات مفرَج عنهم/ نّ وأهالٍ مكلومين على ذويهم الذين تأكدوا من مقتلهم تحت التعذيب أو حائرين في بحثهم عن طرف خيط يجلي مصيرهم. لا يبدو أنّ أياً منهم/ نّ حظي/ ت بتدريب على التغطية في مثل هذه الظروف والسياقات، ولا على التعامل مع الضحايا والناجين من هكذا مأساة.
منذ اليوم الأول، فُتحت المعتقلات والأفرع الأمنية وسجن صيدنايا الشهير بـ”المسلخ البشري”، وخرج منها عشرات الآلاف وهم في حالة جسدية ونفسية سيئة للغاية. ومع الاعتراف الكامل بأهمية تسليط الضوء على هذا الملف، وعلى “إجرام” النظام الساقط، إلا أن العديد من الإعلاميين والصحافيين تعاملوا مع هذا الملف بالغ الحساسية على أنه مجرد “تراند”، ومن دون مراعاة للاعتبارات المهنية والإنسانية، ولا معايير الاحترافية في التعامل، ومن دون أي اعتبار كذلك لأصحاب القضية أنفسهم. لعلّ تقرير مراسلة “سي أن أن”، كلاريسا وورد، والحديث المفبرك عمّا وصفتها بـ”لحظة تحرير أحد المعتقلين في سجن صيدنايا”، والذي تبيّن لاحقاً أنه “تمثيلي” إلى حدٍّ بعيد، ومن يظهر فيه هو ضابط في المخابرات السورية، هو الأبرز في هذا المضمار.
البحث عن المغيبين قسراً في سوريا
عن وقع هذه التغطية غير المهنية، تتحدث سنا مصطفى، وهي ناشطة حقوقية عادت من الولايات المتحدة إلى سوريا بعد سقوط النظام للبحث عن والدها المختفي منذ عام 2013، إلى رصيف22، عن موقف تقول إنها لا يمكن أن تنساه: “كنت في مشفى المجتهد في دمشق، كي أعاين الجثامين الموجودة هناك وأحاول التعامل مع احتمالية أن يكون جثمان والدي واحداً منها، وكان معي عشرات الأهالي أيضاً. ما أن فُتح باب البراد حتى قفزت صحافية تعمل في إحدى الوسائل الغربية، حاملةً الكاميرا، ودخلت قبلنا كي تصور المشهد وهي تدوس على الجثامين غير آبهة بالعائلات المكلومة، وطبعاً تشاجر الجميع معها مستنكرين تصرفها”.
هذا البحث غير المهني وغير الإنساني عن “السبق”، كان حاضراً في الكثير من المواقف الأخرى التي وثّقها رصيف22، ومنها موقف ظهر فيه صحافي وهو يطلب من أحد المعتقلين العودة إلى سجن صيدنايا لتصوير “مشهد تمثيلي” للحظة خروجه من السجن بعد أيام قليلة من استرداده حريته، وآخر كان يبحث حصراً عن معتقلة “تعرضت للاغتصاب وأنجبت أطفالاً داخل السجن”، وخرجت “مؤخراً” من المعتقل وليس قبل سنوات، وثالث كان يغطي وقفةً تضامنيةً خاصةً بقضية المعتقلين وسط دمشق، وعندما عرف بوجود معتقل خرج حديثاً من السجن انهال عليه بكمٍّ من الأسئلة التي تنتهك خصوصيته، ولا تراعي حالته النفسية والجسدية ومدى جاهزيته للحديث عن “تجربته”.
“تريند” و”مسلسل” عن سجن صيدنايا
في سياق متصل، كان ملاحظاً تحوّل السجون والأفرع الأمنية خلال الأسابيع الأخيرة إلى “تريند”، فبات لا بدّ لأي وسيلة إعلامية تدخل إلى سوريا من التوجّه نحو تلك الأماكن وإعداد تقارير صحافية قد تخلو من أي معلومات جديدة، ولعل الأخطر من ذلك مشاهدة صحافيين داخل غرف الاعتقال وغرف التحقيق وهم “يدوسون” على أوراق وملفات يُفترض أن تكون محفوظةً من التلف والضياع. ووفق شهادات متقاطعة حصل عليها رصيف22، فإن بعض الصحافيين أعطوا أنفسهم صلاحية إخراج بعض الأوراق والملفات والأقراص المضغوطة والاحتفاظ بها بغرض إعداد مواد إعلامية، مع غياب تام لرقابة سلطات الإدارة الجديدة. كان ينبغي أن يكون التعامل مع وثائق لها أهمية بالغة في ملاحقة مجرمي الحرب والمسؤولين عن اعتقال وتعذيب السوريين لعقود، صارماً جداً.
عن ذلك، تقول الصحافية السورية ميار مهنا، لرصيف22، وهي اليوم تعمل من دمشق لتغطية الأحداث الأخيرة: “نرى الإعلام يتوجّه نحو القصص الأكثر مأساويةً وعنفاً، ويختزل الظلم الذي تعرّض له الشعب السوري في قضية المعتقلات. لا أعتقد أن هذا يتضارب مع تسليط الضوء على ملفات مهمة أخرى، ومستويات التعسّف الأخرى التي عانت منها شرائح واسعة في ظلّ نظام الأسد”.
تفسّر مهنا الأمر بأنّ “المعتقلات والسجون هي فضاء فيه مخيلة تأخذنا إلى عوالم مختلفة. في مرحلة ما تحوّل سجنا صيدنايا والمزة وغيرهما إلى ما يشبه متاحف العنف، يرغب الصحافيون وحتى عموم الناس في زيارتها لاختبار تجربة فيها شيء من ‘الإثارة’، وكأنهم يريدون افتراض أنهم عاشوا ما عاشه المعتقلون خلال العقود الماضية. تحوّلت قضية المعتقلين إلى مادة صحافية درامية تحصد المشاهدات، والناس يريدون معرفة المزيد عنها لأنها مأساوية وتثير الفضول بسبب الحالة السرّية التي كانت تحيط بسجون سوريا قبل إسقاط النظام”، عوضاً عن مساعدة الناجين/ ات وتوفير بيئات آمنة لهم/ نّ والتعامل المسؤول مع محنتهم/ نّ.
ليس أدلّ على ما تقوله مهنا، من المنشورات ومقاطع الفيديو التي تملأ الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، والتي يظهر فيها صانعو محتوى وإعلاميون ومؤثرون في صور على أبواب السجون وداخلها وحتى قرب بعض المقابر الجماعية، والبعض يبدو وكأنه في “جلسة تصوير” محضّرة مسبقاً.
وتنبّه مهنا، إلى الأثر النفسي لكل ذلك على المعتقلين أنفسهم وذوي الضحايا الذين قُتلوا تحت التعذيب والمغيبين قسرياً، مردفةً: “ما يحصل اليوم في هذا الملف وحشي للغاية. الإعلام يستميت ليعثر على أكثر سجين تعذّب كي يحكي قصته أمام الكاميرا، ولو كان سجيناً ‘عادياً’ فلا أهمية للأمر. وقد سمعنا أخباراً عن نية العمل على مسلسل يحكي قصة سجن صيدنايا خلال الفترة المقبلة. ألا يمكن أن يحرّض ذلك على المزيد من العنف حالياً؟”.
كما ترى الصحافية السورية، ضرورةً في تسليط الضوء على الكثير من الملفات المغيبة عن الإعلام، شارحةً: “هناك الملايين ممّن يعيشون في ذلّ وفقر وخوف. ماذا عن البطالة؟ ومؤسسات الدولة المغلقة؟ والانتقامات التي نسمع عنها في أكثر من محافظة؟ وتجاوزات السلطات الجديدة في أكثر من ملف؟ نحن بحاجة إلى وسائل الإعلام كي لا نبني سلطةً قمعيةً جديدةً، بل كي ننقد بصوت عالٍ، فالمستقبل شائك وللإعلام دور كبير في ذلك”.
استغلال وتكريس صور نمطية
في حين أن ملف المعتقلين من أكثر الملفات التي شهدت انتهاكات إعلاميةً في سوريا مؤخراً، إلا أن العديد من التغطيات الأخرى افتقرت بدورها إلى المهنية الكافية والقدرة على نقل الحدث السوري ضمن سياقه الصحيح وبأقل قدر ممكن من الانحياز.
نشرت الكاتبة والناشطة السورية سارة هنيدي، على صفحتها، جزءاً من مقابلة أجرتها مع تلفزيون “بي بي سي”، وفيها كانت تناقش المذيع حول “الاهتمام المفاجئ للإعلام بأجساد النساء وحقوقهنّ مع استلام هيئة تحرير الشام مقاليد الحكم كسلطة أمر واقع، في حين لم يلاحظ الاهتمام ذاته مع كل القمع الذي تعرضت له النساء على مدار عقود في ظلّ حكم عائلة الأسد لسوريا”، وأشارت إلى كثير من التحديات التي يتعيّن على السوريين اليوم التعامل معها، والأمر لا يقتصر على حقوق النساء على أهميتها.
الأمر ذاته كان ملاحظاً في تغطيات إعلامية أخرى، إذ ركّز عدد كبير من الصحافيين/ ات على محاورة النساء فقط، أو الحديث عن مخاوف الأقليات والحريات العامة بما فيها ممارسة الشعائر الدينية وشرب الكحول وحرية اللباس وغيرها، وهو أمر ظهر حتى في مقابلة الصحافي المخضرم جيرمي بوين، مع قائد العمليات العسكرية أحمد الشرع، على “بي بي سي”، قبل نحو أسبوعين، إذ تناولت بمجملها قضايا تعبّر عن أولويات يراها المجتمع الغربي مهمةً، لكنها اليوم بالنسبة للسوريين قد تكون أقل أهميةً من كثير من الملفات مثل ملفات المعتقلين والمهجرين وإعادة الإعمار والأمن والاقتصاد.
وتنسحب هذه الانحيازات أيضاً على التعامل مع الصحافيين المحليين في سوريا، الذين تعرّضوا ويتعرّضون في كثير من الأحيان لانتهاك حقوقهم المهنية والمادية من قبل صحافيين غربيين لا يتعاملون معهم بأي نديّة وشراكة. وفي هذا السياق، نشرت الصحافية السورية ميس قات، مجموعةً من المواقف التي ترى أنّ على الصحافيين المحليين تجنّبها في أثناء التعامل مع الصحافة الأجنبية، ومنها “الوقوع في فخ العمل نيابةً عن الصحافي الأجنبي دون تعويض مادي أو معنوي ملائم، والاكتفاء بصيغ الاتفاق الشفهية وغير الرسمية، والقبول بمبالغ مادية بخسة على اعتبار أن العمل مع الصحافية الأجنبية فرصة لن تتكرّر”.
“نحتاج إلى قوانين صارمة”
مع كل هذه الانتهاكات وغيرها، يشدد بسام سفر، وهو صحافي وكاتب ومدير مكتب رابطة الصحافيين السوريين في دمشق، على أهمية وضع تشريعات تغطي جوانب عمل الصحافيين كافة على اختلاف جنسياتهم، داخل سوريا.
ويقول لرصيف22: “حتى اللحظة، في سوريا التي عانت لأكثر من 50 عاماً من الدكتاتورية، لم تستطع وزارة الإعلام إنتاج قوانين تراعي حقوق الصحافي وحقوق الإنسان في بلدنا، وتحمي الناس من تسلّط الإعلاميين، فالبعض مثلاً يقبل الظهور في تقارير إعلامية تنتهك أبسط القواعد المهنية تحت وطأة الإغراء المادي والحاجة، لذلك المطلوب اليوم أن تعمل وزارة الإعلام والمؤسسات الصحافية والهياكل التجميعية للصحافيين السوريين على اختلافها، على وضع قوانين تساعد الصحافيين المحليين والأجانب، وتضمن وتحفظ إنسانية السوريين وهم يقدمون أي معلومات لوسائل الإعلام، وتحدّ من سيطرة المال وإمكانية قبول الناس للحديث عن قضايا تحمل انتهاكات على المستوى الفردي والصحافي والمؤسساتي”.
إلى جانب ذلك، ينبّه سفر، إلى غياب المكاتب الصحافية والمؤسسات التي يمكن أن تساعد الصحافيين الوافدين في تغطياتهم الإعلامية، وعدم وجود دليل للكثير من آليات العمل الإعلامي داخل سوريا أو كيفية الحصول على معلومات موثقة بالطريقة الصحيحة.
ويضيف: “الأمر يحتاج إلى عمل جدّي من قبل وزارة الإعلام والاتحادات والروابط والنقابات ذات الصلة، لتقديم خدمات تليق بالصحافيين والمؤسسات وبالسوريين عموماً، بطريقة مهنية وأخلاقية. نحن كصحافيين قد تكون قدرتنا على مواجهة هذه الانتهاكات بشكل فردي ضعيفةً، وقد يصعب ضبط علاقة الصحافيين الأجانب بكل الأشخاص الذين يلتقون معهم في الطريق والمقهى ومختلف الأماكن. لكن كمؤسسات مهنية ونقابية، المطلوب وضع قوانين توضح آليات العمل والتغطية الصحافية، والخدمات التي تقدّمها كل جهة، وأن يكون كل ذلك مضبوطاً ضمن الشرعة الدولية لحقوق الإنسان والقوانين الدولية والمحلية المرعية، وليس خاضعاً لأهواء ومزاجية الصحافيين أنفسهم”.
رصيف 22
————————
الإعلام السوري بين “الترند” و”التلغرام”/ بشر الأسدي
06-يناير-2025
خلال السنوات العشر الماضية، شكّل الإعلام الحربي السمة الغالبة على العمل الصحفي في سوريا. فقد حوّل نظام الأسد المؤسسات الإعلامية الرسمية والخاصة إلى ناطق عسكري، ومروّج لدعاية الحرب على الإرهاب وملاحقة المخربين. وامتد هذا التأثير إلى الإعلام الموازي، أو ما يُعرف بإعلام “المؤثرين”، حيث استُخدم أي نشاط إعلامي فردي على وسائل التواصل لدعم سردية النظام، بما في ذلك دعوات لمؤثرين عرب وأجانب لزيارة سوريا تحت حكم الأسد، وتصوير الحياة “الآمنة” التي يعيشها من هم تحت سلطته.
الآن، وبعد سقوط نظام الأسد، نشرت محافظة دمشق عبر قناتها على “تلغرام” صورًا للقاء المحافظ الجديد (ماهر مروان) مع مجموعة من المؤثرين والناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي لنقاش دورهم في مكافحة الشائعات. سبق ذلك لقاء جمع قائد العمليات العسكرية أحمد الشرع بمجموعة من المؤثرين العرب والإعلاميين في قصر الشعب، بجلسة استمرت لساعات.
سوريا، التي كان يُعد فيها العمل الإعلامي تهمة، والتصوير فيها بحاجة لموافقات أمنية نادرًا ما تُمنح، أصبحت اليوم وجهة للمؤثرين والصحفيين والمؤسسات الإعلامية على المستويين المحلي والدولي.
وبالرغم من هذا الانفتاح، إلا أن الفوضى الإعلامية تسيطر على المشهد، والشائعات تنتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي وحتى وسائل الإعلام. كما أن المصادر الرسمية لا تزال صعبة التحديد، في ظل غياب ناطق رسمي باسم الحكومة أو القيادة السورية الجديدة.
أين الكوادر الصحفية؟
مع الانفراج الضيق على العمل الإعلامي السوري بعد عام 2005، شهدت جامعة دمشق تزايدًا في الاهتمام بدراسة الصحافة والإعلام. وأصبح القسم، الذي كان يتبع لكلية الآداب، أكثر تنوعًا بعد أن كان حكراً على البعثيين أو المضمون ولاؤهم لحكم الأسد. تُوّج هذا الاهتمام بإنشاء قسم الإعلام بنظام التعليم المفتوح، وتحويل قسم الصحافة لاحقًا إلى كلية مستقلة، مع تجهيزها باستوديو تدريبي افتُتح قبيل اندلاع الثورة بأيام.
ولكن هذا الانفراج لم يدم طويلاً، حيث أُغلقت الأبواب أمام جيل كامل من الصحفيين والإعلاميين، الذين كانوا جزءًا من الحراك الطلابي في جامعة دمشق. تعرّض العديد منهم للاعتقالات داخل الحرم الجامعي، بينما واجه المدرسون والإداريون تهديدات مباشرة. كما تم تسليم الاستوديو التدريبي لقناة “الإخبارية السورية”، بعد استهداف استوديوهاتها بريف دمشق. دفع ذلك الكثير من طلاب كلية الإعلام -الوحيدة في سوريا- للهرب خارج البلاد أو التخفي.
في ظل الاهتمام الدولي بالشأن السوري حينها، توفرت فرص واسعة لغالبية هؤلاء الصحفيين لبناء مسيرة مهنية في مؤسسات إعلامية عربية ودولية. أما من بقي منهم، فقد أبعده الخوف عن العمل الإعلامي، ليعود المشهد كما كان: إعلام بلون وصوت واحد يتبع السلطة ويقدم رواياتها، بل ويتورط في كثير من الأحيان ليكون شريكًا في آلة القتل.
بين المرونة والمهنية
أحد أبرز عيوب وسائل الإعلام التقليدية هو قلة مرونتها مقارنةً بوسائل التواصل الاجتماعي. لكنها في المقابل أكثر انضباطًا ومهنية، وهو ما نحتاجه عند التعامل مع قضايا حساسة كالمخفيين قسرًا أو ضحايا التعذيب في المعتقلات، أو عند الحديث عن المشاحنات الطائفية أو العرقية في بلاد منهكة.
أما المؤثرون، فيحكم عملهم الإعلامي الموضوع الشائع “الترند”، وغالبًا ما يدفع سباق المشاهدات إلى تجاوز المقبول وتجاهل قواعد العمل الإعلامي، ليصل أحيانًا إلى استثمار المعلومات المضللة.
بعد سقوط النظام، برزت حاجة سوريا لكوادرها الإعلامية من جديد، فعلى الصعيد المعيشي والسياسي لا وجود حتى الآن للتمثيل الشعبي عبر مؤسسات كالبرلمان والنقابات، في ظل فجوة واسعة بين حكومة تصريف الأعمال القائمة، وجمهور اعتاد على متابعة الإعلام الحكومي أو اعتماد صفحات مقربة من أجهزة الدولة كمصدر.
التحديات الإعلامية الحالية
انتقد كثيرون بيان وزارة الإعلام السورية، والذي يدعو الجهات الإعلامية للتنسيق مع الوزارة، البعض رآه تقييداً لحرية الإعلام، وآخرون وجدوا فيه خطوة هامّة لضبط الفوضى الإعلامية في المشهد السوري، تزامن ذلك مع عودة إذاعة دمشق للعمل، في حين لا يزال التلفزيون السوري الرسمي بحالة جمود.
بالعودة للوراء، نرى اعتماد الإدارة الجديدة منذ بدء العمليات ضد نظام الأسد حتى تحرير المدن على قنوات الـ “تلغرام” كوسيلة إعلامية مباشرة. ورغم مرونتها وقدرتها على الوصول السريع، إلا أن شريحة واسعة من السوريين لم يعتادوا على التعامل معها كمصدر للمعلومات. أضف إلى ذلك حالة من عدم اليقين بشأن تبعية القنوات للجهات المعنية، ما أثار الكثير من اللغط عند محاولة تتبع الشائعات وتمييز البيانات الرسمية.
يمكّن إعادة رغبة الإدارة العسكرية منذ بدء العمليات في تحييد الإعلام التقليدي، والاعتماد بشكل أكبر على وسائل التواصل الاجتماعي ومؤثريها، يمكن في محاولة الوصول السريع دون وسيط، وإيصال الرسائل بعيدًا عن غرف تحرير المؤسسات الإعلامية.
ربما كان ذلك ضرورة من ضرورات المرحلة، لكن اليوم هناك حاجة أساسية لعمل إعلامي واسع يتجه للداخل قبل الخارج، يضمن إتاحة المعلومات الموثوقة، ويقوم بدور الرقابة على الأداء الحكومي، وينقل صوت الأفراد وواقعهم إلى المؤسسات الخدمية المعنية، مع اختلافه في الشكل والمضمون عن إعلام الثورة أو الإعلام العسكري.
الترا صوت
————————–
فحوى كلمة الصديق Kareem Akari الارتجالية البارحة امام أهل مدينته صبورة في تجمع عزاء..
اهالي صبورة الكرام..
مبروك لنا جميعا النصر : ولادة سورية الجديدة التي خلعت عنها نير الاستبداد والظلم، بجهود ابناءها الشرفاء على اختلاف مواقعهم وانتماءتهم…
بعد طول معاناة وقهر ها نحن جميعا نتلمس اجواء الحرية ونستنشق هواءها العليل والدليل واضح اننا نحتفل اليوم ونتحاور ونحاول ارساء خطوات جدية على طريق بناء سورية مدنية ديمقراطية يتساوى فيها الجميع ، بعيدا عن المحسوبيات والتطاول والاقصاء والفساد ولاجل خلق انسان جديد تميزه قيم التضامن الانساني والكرامة واحقية المواطنة والمساواة.
كانت حقبة قاسية غربتنا عن انفسنا وعن بعضنا، فما علينا الا ان نمد ايادينا لبعضنا البعض على امتداد هذا الوطن لخلق جسور المحبة والتعاون والمساعدة ومعرفة حقوقنا وواجبتنا ولينال كل منا دوره ومسؤوليته لنهضة هذا البلد، فبالحرية تكتمل دائرة العمل بالمبادرات والواجبات والمشاركات الجماعية.
لقد قدمت بلدتي مثلها مثل غيرها من المدن والبلدات التضحيات الجسام وعانى الكثير من خيرة ابناءها السجن والملاحقة والاقصاء والقهر لحوالي خمسين عاما، وكله كان على طريق مواجهة الاستبداد ودحره، وها وقد حل اليوم الذي ننتظره بتوق شديد، يوم الاطاحة بالطاغية ومنظومته الساقطة.
فكانت سورية الحرة سورية الجديدة.
ما المطلوب من ابناء صبورة اليوم..؟
مثلها مثل بلدنا الام سورية، هي تركة ثقيلة في حالة انهاك وانهيار تام، بل حتى واكثر، لهذا تنطرح امامها الكثير من التحديات والاستحقاقات الراهنة :
– هناك معطى جديد، انه فعل ثوري حقيقي، لقد تمت الاطاحة بسلطة سياسية قديمة قاهره وفاجرة، و احلال مكانها سلطة جديدة، وبالتالي اصبحنا امام سورية جديدة حرة، ويتطلب من الجميع التعامل والمشاركة والمساهمه النشطة، وهذا مدخل لا بد منه لتقوية الجديد ونسف القديم وكل آثاره.
– يتوجب على ابناء بلدتي الكرام المبادرة لتحمل المسؤوليات والعمل على نسف العقلية الاقصائية والمخابراتية ( ثقافة الاستباحه والتفرد) التي تحيك الدسائس وتفرق ابناء البيت الواحد بحجج واهيه وقد استحوذت على روحها ومقدراتها، وكل هذا لا يمت بصلة لا للوطن ولا للمواطن. لقد استحكم بالبلدة على مدى عقود افراد وشلل وزمر ومجموعات انتهازية خطيرة مدعومة استأثرت بكل شيء وتحكمت بمصيرها وجرتها الى التهلكه، ومن هنا سيكون المدخل للعدالة والمحاسبة.
– المناخ الجديد، الحرية، يحفزنا على ارساء قيم جديدة وآليات وقواعد جديدة منطلقها الاساسي ايماننا بقدرات وامكانيات ابناء بلدتي، فكلنا متساوون ولا احد بقادر على اقصاء الآخر، او ابعاده، فالمسؤولية تقع على عاتق الجميع، بهدف استعادة وجهها المشرق والطبيعي.
– لذا ما علينا الا العمل الدؤوب لتوسيع دائرة الحوارات والنقاشات والاصغاء لمختلف وجهات النظر ومهما كانت بغاية المشاركة والنهوض بوعينا ومسؤلياتنا وبما يخدم واقع البلدة ومستقبلها.
– ويدفعنا ايضا نحو المزيد من التعاون والمشاركة والقيام باعمال تطوعية ومبادرات انسانية، جوهرها خلق فضاءات آمنة وموجبات تمكن المجتمعات الاهلية وتزيد من تماسكها،( مبادرات جدية وعاجلة لنزع المخاوف التي تتربص بالمجتمع الاهلي والاضاءة على اهمية تزليلها وكشفها وبالتالي التغلب عليها، في محاولة لايجاد متطلبات تعافيه).
– المسارعة للعمل من اجل اختيار شخصيات او انتخابهم شرط ان يكونوا على درجة عالية من الكفاءة والخبرة والثقة والنزاهه كممثلين للمجتمع الاهلي، يكون لهم حضورهم قولا وفعلا، يتحدثون باسمه ويسهرون على تأمين متطلباته وخدماته وأمنه وسلامته.
– لا بد من فتح صفحة جديدة مع الجوار سلمية والقرى المجاورة والبدو، الهدف منها نسج وبناء علاقات جديدة وواضحة بعيدا عن العنتريات والاستزلام والفوقية والتعدي، مع عدم نسيان ما حدث سابقا من ممارسات واعمال مدانه بحق الجوار وخاصة البدو، ولابد من الاعتذار وجبر خواطر الناس بما يخدم عودة البلدة الى جادة الصواب، فالاجواء الجديدة يجب ان تفرض علينا جميعا آليات مغايرة جديدة عنوانها الصراحه وتحميل المسؤوليات والاعتذار والتسامح والمحاسبة.
الفيس بوك
———————————-
ملاحطات/ وداد نبي
أعتقد أن لدى معظم السوريين/يات، تصورات نمطية عن الفئة الأخرى. ولطالما تجاهل معظم العاملين في الشأن الثقافي والسياسي هذا الواقع والقفز فوقه بخطاب ثقافوي طهراني، يدّعي أننا شعب واحد، وأن العدو الوحيد هو النظام، وأن الحياة ستكون وردية بمجرد سقوطه.
لكن الوقائع تؤكد أننا، كسوريين وسوريات، نحتاج أولًا إلى الاعتراف بتصوراتنا النمطية المسبقة، والتي في معظمها تصورات خاطئة. من منا لم يردد أو يسمع أحدًا مقربًا منه، حين يريد تصغير موقف ما، يقول: “مثل الشاوي”؟ أو من منا لم يسمع يومًا أن “العلوية والشيعة كذا وكذا”، أو أن “الأكراد في ذهنية العربي السوري خونة”، و”العرب في ذهنية الكردي دواعش”، أو أن صورة السنة لدى قسم كبير من الجماعات الأخرى هي صورة شيخ متطرف بلحية فقط؟
انها الثقافة الشفوية غير الموثقة، المكتوبة. وهي التي تمدُّ برأسها اليوم في كل موقف.
أعتقد انه هناك العديد من هذه التصورات النمطية، لدى الجميع دون استثناء. ربما يكفي أن يجلس المرء مع عائلته أو أصدقائه المقربين حتى يسمع إحدى هذه الصور.
أو يجلس مع نفسه ويراقبها، ماذا يفكر بالأخر حين يسمع خطابه اليوم!؟
شخصيًا، أرفض الادعاء بأن كل شيء كان على ما يرام وأن النظام هو السبب الوحيد لما نحن فيه. الحقيقة أن السوريين لم يعرفوا بعضهم البعض بشكل عميق. معرفتنا ببعضنا كانت سطحية، ظاهرية. المعرفة الحقيقية تأتي من اختلاط هؤلاء الناس معًا بشكل حقيقي. من خلال العمل معاً في مؤسسات، وجمعيات،نقابات، تشكل مايسمى بالمجتمع المدني، أن يكون ارتباط شخصين من طوائف أو ملل مختلفة أمرًا طبيعيًا، لا مناسبة للشتم أو النبذ.
أن يكون لديك صداقات حقيقية مع الجميع. أن يدخلوا بيتك، يشربوا ويأكلوا مع أفراد عائلتك، دون أن تخاف من هذا “الآخر”. أن تتقبل اختلافه عنك في رؤيته لشكل الدولة والمؤسسات، والحياة، دون أن يكون هذا الاختلاف مدعاة لإقصائه أو كراهيته.
قد تكون هذه فرصة حقيقية للسوريين جميعًا أن يتعرفوا على بعضهم البعض، أن يصغوا لآلام بعضهم، أن يعترفوا بها، وأن يبدأوا برمي تلك التصورات النمطية المسبقة في سلة الماضي، بعيدًا عن الحاضر الذي رغم كل مايحدث يدعو للأمل.
ففي النهاية، نحن جميعًا اليوم نتعرف على بعضنا البعض، ونستمع إلى بعضنا البعض لأول مرة منذ 54 عامًا.
الفيس بوك
———————
عن تصريح السيد وزير التربية / مصطفى علوش
قرأت تصريح السيد وزير التربية الذي يوضِّح فيه حقيقة التعديلات الجديدة على المنهاج الدّراسي، بعد أن أثارت الكثير من اللغط والجدل، وعليَّ أن أعترف بالتالي:
ـ اسمي مصطفى علوش، وُلدت لعائلة مسلمة سنية من محافظة إدلب، بالتحديد من جبل الزاوية، المنطقة التي أرسلت من وحل مخيّماتها آلاف الشباب ليخوضوا معركة أسطورية، في حلب فحماة فحمص فدمشق، فأذهلوا العالم ليس في شجاعتهم وبأسهم فحسب بل في نبلهم ورقيّهم أيضا. أنتمي لهؤلاء وأفتخر، ولو صعدت على سطح بيتنا المدمر وصرخت، لوصل صوتي ربّما لبيوت العشرات ممّن يشغلون الآن مناصب قيادية في الدولة الجديدة. (لا ترسل لي على الخاص إن كنت تريد واسطة، زمن الواسطات ولّى!)
لكن ما علاقة تصريح الوزير بمذهبي ومكان ولادتي؟
ـ يقول السيد الوزير في تصريحه: إنَّ التعديلات الجديدة اقتصرت على أمرين: ما يمجّد النظام السابق ـ والسوريون جميعا متفقون على ضروة حذفه ـ وعلى تصحيح تفسيرات خاطئة لبعض الآيات القرآنية.
ـ درستُ في الكلتاوية أشهر مدارس حلب الدينية، حفظت القرآن الكريم كاملا في الخامسة عشرة من العمر، قال لي الشيخ عبد الله عزو الذي كان يحفظنا القرآن ذات يوم: لم ولن يأتي على المعهد من هو أحفظ منك! كنت دائما بحمد الله طالبا متفوقا للغاية. إلى جانب دراستي في جامعة حلب، أكملت تخصصي في معهد الفتح الإسلامي في دمشق. درست على يد أشهر علماء الشام، مثلا في حالة نادرة لطالب نلت علامة مئة من مئة في مادة الشيخ راتب النابلسي، كنت أستيقظ الساعة الرابعة فجرا، وأنا أسكن معضمية الشام، لأذهب إلى دوار كفر سوسة لتأدية صلاة الفجر وحضور دروس الشيخ أسامة الرفاعي بعدها.
ـ (يا أخي الوقت الذي نحتاجه لقراءة هذا المنشور يكفي لرؤية خمسين ريلز، خلصنا، ما علاقة تصريح الوزير بأصلك وفصلك وسيرتك الذاتية ماذا تريد أن تقول؟)
ـ معك حق، فأنا لم أقل شيئا بعد، وكل ما سبق ممّا قد يبدو نوعا من الاستعراض والمباهاة، ليس في الحقيقة إلا محاولة مني لأكسب شرعية ما، تسمح لصوتي بأن يكون مسموعا لديك. لا أدري إن كنت سأنجح. هو مؤسف جدا على كل حال أن يحتاج الإنسان إلى تقديم تقرير عن نفسه قبل أن يقول ما يريد قوله حتى لا يُتَّهم بالخيانة أو العمالة.
ـ من التعديلات على تفسير الآيات التي أقرّها الوزير، وصفّق لها البعض وتحمس لها ودافع عنها، هي تفسير كلمتي المغضوب عليهم والضالين في سورة الفاتحة باليهود والنصارى.
ـ (أيواااااا بينت الأمور، قعدت تقلنا حفظت ودرست حتى يطلع معك انو المفسرين غلطانين وحضرة جنابك الفهمان)
ـ لالا أبدا صدّقني، رغم أني سأناقش معك هذه الجزئية بشيء من التفصييل إلا أنّني لا أقصدها بالذات، هي تظل مسألة خلافية، لكنَّني أريد من مناقشتها الوصول إلى ما أريد قوله لك في نهاية المنشور. تحلَّ بالصبر فقط لإنهائه. العمر بيخلص والريلز ما بيخلصو!
ـ نعم يا أخي في الإنسانية ….
ـ (لاااااااااا لهون وبس، ليش مثلا مو يا أخي في الدين؟)
ـ حسنا مع أنَّ اعتراضك خارج السياق، لكن يسعدني أن أقول لك إن الإخوة الإنسانية هي مفهوم أصيل من مفاهيم الإسلام إلى جانب الإخوة الدينية، تستطيع أن تفهم هذا ببساطة من الآيات “وإلى ثمود أخاهم صالحا” و”إلى عاد أخاهم هودا”، فأقوام هؤلاء الأنبياء لم يؤمنوا بهم ومع ذلك سمّاهم الله إخوانا لهم. هي أخوة جوار ومواطنة وإنسانية.
ـ لِنعد إلى موضوعنا، إلى التعديل المعيب الذي أراد أحد المسؤولين إقراره على تفسير كلمتي “المغضوب عليهم والضالين”
ـ نعم، من المعيب والمخجل حقا لمسؤول يعي حجم المسؤولية وعظمها أن يجعل في مناهجنا التعليمية مثل هذا التفسير. سأجد هذا التعبير معيبا، ولو كان هذا المسؤول ابن ديني ومنطقتي بل حتى ولو كان ابن أمي وأبي. ولم يكن يجدر بك أن تدافع عنه أو تبرر له. ليس فقط لأنَّ هذا الكلام فيه مفسدة أخلاقية ووطنية، كما سأوضح لك، بل لأنه أيضا كلام فاسد من المنظور الديني الإسلامي نفسه! وسأبدأ بهذا الأخير، أعني المنظور الديني لأني أعرف أنه يهمك جدا.
ـ يقول تعالى في آية واضحة محكمة لا تحتاج إلى تفسير ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ))، ويقول في آية ثانية: (( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ))
ـ لماذا صرح الله باسم اليهود والنصارى في الآية الأولى وسماهم أهل الكتاب في الثانية، بينما لم يصرح بشيء من ذلك عندما قال المغضوب عليهم ولا الضالين؟ ألست معي أنه لو أرادهم لسمّاهم؟ ألست معي أنَّ الأجدى والأعدل أن يكون المقصود هو أي شخص ضال كما تقوله الآيتان السابقتان بوضوح ؟
ـ ستقول لي لماذا أجمع المفسرون إذن على أنَّ المقصود بهم اليهود والنصارى.
ـ هذا تدليس يا صديقي، ليس كل المفسرين قالوا هذا، في القديم والحديث مفسرون كبار لم يقبلوا مثل هذا التفسير وسأترك لك بعضهم في التعليقات. وبما أنَّ في الأمر خلافا فلماذا الذهاب إلى تفسير يفرق ولا يجمع، ويفسد ولا يصلح، ويكرس التناحر بين أبناء المجتمع الواحد، لماذا؟
ـ هل تعتقد يا أخي في الدين والإنسانية أنه من الشهامة والمروءة والأخلاق أنَّ نعامل مثلا المسيحي أو اليهودي الغربي على أنه صديق، نزوره ويزورنا، ونطلب منه رفع العقوبات ومساعدتنا على التعافي، ثم نعتبر غير المسلم السوري الذي قد يكون جارنا أو زميلنا في الجامعة أو صاحب الدكان في حارتنا من المغضوب عليهم أو الضالين؟
ـ انظر إلى السيد أحمد الشرع كيف شذب لحيته وارتدى البدلة الرسمية، وقد أحسنَ في ذلك والله. فلماذا لا نشذّب نحن طريقة تفكيرنا ورؤيتنا للآخر.
ـ إذا اتسع صدرك ووقتك لقراءة كل هذا فالذي أريد أن أقوله لك من كل ما سبق أنَّ صدرك ووقتك يجب أن يتَّسعا أيضا لسماع إخوتك السوريين، ولو ممن يخالفونك الدين والمذهب والرأي، صدقني إنَّ غالبيتهم الساحقة يريدون مصلحة الوطن مثلك تماما، يغارون عليه مثلك تماما، يريدون أن يصبح أفضل بلد في العالم مثلك تماما. قد لا يكونون دائما على حق، لكنهم ليسوا دائما على باطل. اسمعهم دون خوف وناقشهم دون تخوين.
ـ إذا قرأت أو سمعت شخصا ينتقد الحكومة فليس بالضرورة أن يكون من الفلول أو من الثورة المضادة، قد يكون ممن ناضل مثلك، ودفع في سبيل الثورة أثمانا باهظة مثلك.
ـ سواء كان اسم الذي ينتقد أو يبدي الملاحظات محمد أو جورج سواء كان قد درس في معهد الفتح أو في الجامعة اليسوعية، اسمعه دون خوف وناقشه دون تخوين. وتأكد أن هذا الحوار هو من سيساعد في بناء الوطن. وليكن دليلك الحديث المنسوب للنبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم “الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها”
الفيس بوك
————————-
ملاحظات/ نادر جبلي
بخصوص مسألة الأقليات وحماية الأقليات،أضع هنا فقرتين من محاضرة لي ألقيتها في ندوة أقامتها منظمة “سوريون مسيحيون من أجل السلام” في باريس بمناسبة الذكرى الرابعة أو الخامسة للثورة السورية، وحول نفس الموضوع، وبحضور عدد كبير من الفرنسيين والأوروبيين:
أقتبس من المحاضرة ما يلي:
” إن الحديث المكرور عن مخاطر تهدد الأقليات بسبب أكثرية سنية شريرة تتربص بهم، هو حديث ينطوي على قدر كبير من النفاق وقلة الوجدان والأخلاق، لأنه يتزامن مع رخصة دولية لنظام مجرم وحلفاء لا يقلون إجراما، بتنفيذ أكبر عملية وقتل وتهجير وتدمير عرفها التاريخ منذ عقود، بحق هذه الأكثرية. فهل أبناء الأقليات من البشر الذين تستوجب حمايتهم، وأبناء الأكثرية من البشر الذين يحل ذبحهم؟..”
“إن حماية الأقليات لا تستقيم بتحطيم الأكثرية وإذلالها، لأن ذلك يضاعف حجم الخطر على الأقليات مئات المرات، بينما يفترض أن يكون الشرط الطبيعي والرئيس لحماية الأقليات هو وجود أكثرية واثقة ومطمئنة ومحفوظة الكرامة. وسأستغل هذا المنبر لأطالب أصدقائي الفرنسيين والأوربيين بالعمل الفوري على حماية الأكثرية السنية في سوريا لأنها هي من يتعرض للعنف والتجويع والتهجير والإبادة، ففي ذلك انتصار لقيم الإنسانية ومبادئ حقوق الإنسان أولا، وفي ذلك مدخل رئيس لاستقرار وأمان باقي الأقليات ثانيا، وفي ذلك إطفاء لشرور مستقبلية مستطيرة لن يسلم منها أحد، حتى من الأوربيين..”
انتهى الاقتباس
طبعًا هذا الكلام قيل حين كان الأسد وحلفاؤه يمعنون في الشعب السوري قتلًا وتدميرًا، أما الآن فأقول الآتي:
– للأوربيين أقول: أنتم من ساهمتم في صناعة هذه الأزمة وتزكيتها منذ قرن ونصف تقريبًا، عندما ضعُفت السلطنة العثمانية وأردتم التدخل لتمزيقها والاستيلاء على تركتها، وكان سبيلكم إلى ذلك هو ذريعة حماية الأقليات، ثم تابعتم هذا النهج عندما استعمرتم بلادنا، واستخدمتم ذريعة حماية الأقليات لتفكيك المجتمع والسيطرة عليه، ثم عندما تغاضيتم، بسينيكية موصوفة، عن مجازر وكوارث ألحقها نظام مجرم، بلونه الطائفي، مستعينًا بميليشيات طائفية أجنبية، بالمجتمعات السنية وحواضرها، وخلق هذه المظلومية الكبيرة لديهم. والآن عليكم التوقف عن هذه اللعبة القذرة والمكشوفة، والتعامل مع السوريين كلهم كشعب يريد الحياة الكريمة ويريد بناء دولة ومؤسسات تحترم حقوقه وحرياته وتوفر له شروط التطور والازدهار.. والتركيز على قضايا الحقوق والمواطنة لجميع السوريين، فهذا هو الطريق الأسلم والأبقى لحماية من تريدون حمايتهم..
– وللسلطة الجديدة أقول: أزمة الأقليات قائمة وخطيرة فعلًا، ومخاوف وهواجس الأقليات تضاعفت بوصولكم إلى السلطة، بحكم الإيديولوجيا السلفية الجهادية التي تعتنقونها، والتي لا تقبل المختلفين، وبحكم تاريخكم القريب في حكم إدلب، وبحكم بعض الممارسات التي يرتكبها بعض رجالكم على الأرض والتي تنظر إليها الأقليات على أنها تعبير عن حقيقة ما تفكرون به، وما ستفعلونه عندما تستقر الأمور لكم، فهذه الممارسات تضعف كثيرًا من مصداقية الكلام الطيب والمطمئن الذي تطلقونه حول الموضوع. لذلك أتمنى عليكم، إذا كنتم من أصحاب النوايا الطيبة، وهذا ما أعتقده، أن تقوموا بالآتي:
1. المسارعة بتقديم التطمينات للجميع، لكن ليس بالطريقة المعهودة التي تخيف أكثر مما تُطمئِن (لن نؤذيكم، سنعطيكم حقوقكم، سنحميكم..) فهذه الطريقة تقول بشكل غير مباشر لأبناء الأقليات أنكم أصحاب البيت، وأنكم من يقرر العطاء والعفو والتسامح ويمنح الحقوق ويحجبها، والآخرون مجرد ضيوف يتمتعون بما تجودون به فقط.
التطمينات التي أقصدها هي التي تقول لجميع السوريين أنهم متساوون في المواطنة وفي الحقوق والواجبات والفرص، وأمام القانون والقضاء ومؤسسات الدولة، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو العرقية.. وبغض النظر عن آرائهم ومواقفهم.. وبغض النظر عن جنسهم وثروتهم.. وأنه ليس في البلاد من هو صاحب بيت ومن هو ضيف، ومن هو أعلى مكانة من غيره..
2. المسارعة بتوضيح رؤية القيادة وبرنامجها في إدارة المرحلة الانتقالية، وفي رؤيتها للتنوع السوري وإدارته.
3. المسارعة بإصدار إعلان دستوري، أو عدة مراسيم تنفيذية، تملأ الفراغ الدستوري والتشريعي لهذه المرحلة، وتضع النقاط على الحروف في كل ما يتعلق بالقضايا الهامة.
– وللنخب السورية أقول: دعونا نتعاون سويًا على:
1. محاربة الخطاب الطائفي والعنصري وخطاب الكراهية أيًا كان، ومحاصرة أصحابه.
2. توعية الناس بكل الوسائل المتاحة حول خطورة الانجرار وراء مقولة الأقليات وحماية الأقليات، خطورتها على الوحدة الوطنية من جانب وخطورتها الأقليات نفسها من جانب آخر.
3. تقديم المبادرات والأفكار للسلطات الحاكمة لدفعها لاتخاذ ما هو صحيح من إجراءات وقرارات تنزع فتيل الأزمة وتقطع الطريق على من يريد استغلالها، وهذا ما سيعزز شعبيتها ويرفع من قيمتها لدى السوريين.
وعذرًا على الإطالة
الفيس بوك
—————————-
الذهنية الدينية الراهنة وتحولاتها الكارثية/ أحمد نسيم برقاوي
ها نحن مرة أخرى نتحدث عن الذهنية بوصفها طريقة في التفكير معززة بالسلوك. وبهذا المعنى نحن لا نتحدث عن صفة وراثية خارجية لا قيمة لها بل عن ذهنية عميقة. فليس كل منتمٍ إلى السنّة يفكر سنيّاً، ولا كل منتمٍ إلى الشيعة يفكر شيعيّاً، ولا كل من يدين بالمسيحية يفكر مسيحياً وهكذا… فمن الطبيعي أن تكون الذهنية العقلية – الفلسفية والجدلية مختلفة عن الذهنية الدينية بوصفها هي الأخرى طريقة في التفكير.
بالتالي عندما نصف ذهنية ما بذهنية سنيّة أو شيعيّة أو درزية أو فلاحية أو مدينية فإننا نتحدث عن طريقة تفكير ونظرة إلى العالم وليس عن انتماء تاريخي لهذا الشخص أو ذاك أو لهذه الجماعة أو تلك. ولا تبرز سلبية الذهنية أو إيجابيتها إلا في السلوك الناجم عنها، وغالباً ما تظهر بوصفها انعكاساً لبنية لا شعورية. بل إن السؤال الأهم هو هل ينجو الشخص تماماً من الذهنية التي تربّى فيها وعاش؟ هل يشفى تماماً إذا ما قرر أن يشفى من ذهنية سابقة على ذهنيته الجديدة؟
إذا كانت الذهنية جملة من عناصر مجتمعة تعمل معاً في بنية محدودة فإنه يسهل علينا وصفها وتحليلها وتوقعات سلوكها. أما إذا كانت الذهنية خليطا من عناصر متباعدة ومختلفة فإنه يصعب علينا التقاط العنصر الحاكم فيها (هذا ما تتصف به ذهنية بعض المثقفين من ذوي المشارب الأيديولوجية الحديثة المختلطة مع البنية اللاشعورية للذهنية التقليدية).
سأتوقف عند نمطين من الذهنيات السائدة في الشرق العربي، أملاً بالوصول إلى تفسير سوسيو – ثقافي للجماعات وانعكاسها على عالم الثقافة، وهما الذهنية السنيّة والذهنية الشيعيّة.
نعرّف الذهنية بأنها جملة الرؤى والتصورات والمعتقدات التي تكونت تاريخياً وشكلت وعي أفراد الجماعات شعورياً أو وعيها اللاشعوري، ويتعين هذا الوعي بالسلوك الفردي والجماعي.
ولدينا الآن عند العرب ذهنيتان دينيتان تظهران في السلوك الاجتماعي والسياسي على أنحاء مختلفة هما الذهنية السنيّة والذهنية الشيعيّة.
وقد جاء حين من الدهر مع انتشار الحركات القومية والماركسية ودخول عالم الحداثة الأوروبية بما ينطوي عليه من انتصار الذهنية الفردية وقع الظن فيه بأن التحرر من الذهنية الدينية بات أمراً واقعاً، وما هي إلاّ عقود حتى كشف الواقع عن حضور هذه الذهنيات حتى لدى أولئك الذين انتموا إلى الأيديولوجيات الحداثوية.
الذهنية العربية السنيّة
تتأسس البنية السنيّة الخالصة على اتحاد جملة من العناصر الآتية:
1 – القرآن كتاب إلهي ومصدر وحيد للحقيقة والتشريع والسلوك والعلاقة مع الإله.
2 – أقوال النبي وسلوكه – رغم بشريته – هي الأخرى معيار للوعي والسلوك.
3 – الشعور بالحضور المتميز بالحياة، حيث الفرادة في المعتقد الذي يعلن أنه آخر المعتقدات الإلهية.
4 – الحضور الكثيف للتاريخ الإمبراطوري الإسلامي وانعكاسه في الحنين إلى إعادة إنتاج الماضي.
5 – الوضوح في التعبير عن الغايات.
6 – الإحساس بالفضاء الواسع للأكثرية الذي يمنح الشعور بالأمان والقدرة على التعايش مع المختلف بوصفه أقلية ضعيفة لا يجوز الاستقواء عليها.
7 – المرأة عورة.
8 – ظاهرية النص وضرورة الاجتهاد والقياس.
9 – الطبيعة الرمزية للصحابة وقادة الفتوح.
10 – الاعتداد بالاستقلال والحضور في العالم والتمرد على الغريب المحتل.
11 – غياب التعصب تجاه المختلف الديني أو الغريب.
12 – التساهل مع طقوس العبادة .
13 – عدم الاعتراف بكل المذاهب التي انشقت عن الإسلام دون حس ثأري عنفي.
هذه هي مرتكزات الذهنية العامة والتي يتفاوت حضورها في الحياة من حالة شعورية إلى حالة ما قبل شعورية إلى حالة لا شعورية مستمرة في وضع المجتمعات الأكثر تقليدية وعند الفئات على اختلاف وضعها الطبقي.
هذه الذهنية، وهي في الغالب ليست عنفيّة، ما أن تحصل على تعيّنها السياسي حتى يتفاوت حضورها من إسلام سياسي معتدل إلى إسلام جهادي عنفي مروراً بإسلام الما بين بين. ذلك أن الجهاد ليس عنصراً من عناصر الذهنية السنيّة الحياتية، بل هو عنصر سياسي لا يجد رفضاً من الذهنية السنيّة. ولهذا فإن انتقال الذهنية السنيّة من ذهنية عيش وحياة إلى ذهنية سياسية بأشكالها المتعددة أمر يبرز في أوقات الأزمات الحياتية والأزمات السياسية المرتبطة بالشعور بالرفض.
هذه الذهنية تظهر في الجماعات المدينية شبه المغلقة (الأحياء التقليدية) في صورة شبه تامة (من عمارة البيت، العلاقات المعشرية، وضع المرأة، معاملات المصالح المشتركة، وفي القرية بشكل أقل حيث المجتمع القروي أكثر انفتاحاً).
أما على المستوى الفردي فإن ذهنية الفرد السنّي غير الملوثة بالسياسة ذهنية منفتحة وغير متعصبة ومتسامحة في الغالب.
أما إذا لبست لبوساً سياسياً ووصل هذا اللبوس حد استخدام القوة فإن الطاقة الجهادية – كما أظهرت التجربة – تصل ذروة حضورها في ما يسميه الإسلام السياسي – الجهادي – عمليات استشهادية. هذه العمليات التي لا يمكن فهماها دون فهم الذهنية السنيّة بعامة وتعيّنها السياسي الجهادي بخاصة، حيث التضحية بالنفس أعلى درجات الجهاد الذي يرضي الإله من جهة والذي يقود الشهيد إلى عالم من الخلود العظيم في الجنة الموعودة من جهة أخرى. وهناك في النص القرآني ما يشير إلى ذلك.
غير أن نسبة الجهاديين السنّة إلى عدد السنّة تكاد لا تذكر. فحب الحياة لدى المسلم السنّي قوي جداً. إننا نعيش اليوم الذهنية السنيّة في تحولها السياسي وهو الأمر الذي يجب الوقوف عنده. وهذه الذهنية السنيّة السياسية هي ذهنية أقلية وليست ذهنية أكثرية.
فالأكثرية لديها ذهنية سنيّة لا شعورية مرتبطة بنمط الحياة وعاداتها وطقوسها وليست لديها ذهنية الحاكمية لله واستعادة الخلافة، بل إن طريقة عيشها لم تستدع منها تحولاً من ذهنية شعبية إلى ذهنية نخبوية سياسية عنفيّة أو شبه عنفيّة. وبالتالي إن الإسلام السياسي السني لم يشهد انتشارا لدى الأكثرية. وما كان له أن يظهر في صورته العنفيّة إلا في شروط الدولة الدكتاتورية بكل أشكالها.
فحركة الإخوان المسلمين وتفرعاتها السلمية والعنفيّة لم تشكّل في يوم من الأيام حركة سائدة وذهنية سائدة. لأن الذهنية السنيّة وبخاصة المدينية قد تلاشت مع الأيام في ذهنية الحداثة القادمة من الغرب والتي هي ذهنية الحياة أو الذهنية المطابقة مع السعي لتحقيق شروط الحياة.
فالتحرر من الزي السني التقليدي في دمشق والقاهرة وبيروت وهي مدن ذات أكثرية سنيّة كان سريعاً، وسيادة نمط الحياة الحديثة كان كبيراً. وقس على ذلك أنماط الحياة الأخرى. فالإسلام السنّي الشامي مثلاً غالباً ما كان إسلاماً فردياً والذهنية طُبعت بالتالي بالفردية.
وما يميز الذهنية السنيّة اللاشعورية أو ما قبل اللاشعورية أنها مرتاحة ومطمئنة لحضورها الأكثري. ولكنها – ومع الأيام – عندما وجدت نفسها في حالة محكومة من أقلية وصارت تمارس ذهنية التقية كأقلية لم يعد بمقدورها إلا أن تتحول إلى ذهنية لا شعورية وكان من مفرزاتها الإسلام السنّي العنفي. بل إن الإسلام السنّي الجهادي العنفي بمجمله هو إسلام احتجاجي في إهاب سياسي للفئات الأكثر انسحاقا اجتماعياً بمعزل عن وجود النخبة من الفئات الوسطى.
هذا ما يفسر انتشاره في الجزائر ومصر وتونس وليبيا. وهذا ما يفسر أيضاً عملية انحساره الجارية الآن بعد إنجاز ما أنجز من عملية تجاوز للأنظمة التي كانت مسؤولة عن عذابات المجتمع الاقتصادية والأمنية وعذابات الحياة بشكل عام.
الذهنية الشيعيّة
تبدو الذهنية السنيّة بسيطة بالقياس إلى الذهنية الشيعيّة وتفرعاتها. حيث تتكون الذهنية الشيعيّة من عناصر مشتركة مع الذهنية السنيّة وعناصر خاصة جديدة. فإذا استثنينا المذهب الدرزي الذي يسمونه أهله بالمذهب التوحيدي، والذي أقام قطيعة مع الذهنيتين السنيّة والشيعيّة معاً. فإن المشترك بين الشيعة الإثني عشرية والعلوية والإسماعيلية كثير (مع تميز في الذهنية الإسماعيلية والعلوية).
1 – فإلى جانب القرآن والسنة فهناك علي وبنوه والأئمة من آل البيت من فاطمة، وهؤلاء المعصومون من الخطأ والسوء يتوافرون على قدسية تامة. وإلى جانب القرآن المشترك مع السنة هناك نهج البلاغة المنسوب إلى علي بن أبي طالب الذي حرره الشريف الرضي. وهو لا يقل قدسية عن القرآن وكلام علي كلام فصل.
2 – التأويل أقوى من الاجتهاد والقياس.
3 – التقية: وهو مبدأ خطير يقوم على إظهار ما يتناقض مع ما يبطنه الشيعيّ اتقاء للشر والذي كان مطلوباً لأسباب سياسية وصار جزءًا من الذهنية.
4 – المهدي والطبيعة الثأرية له. حيث سيأتي المهدي المنتظر وينتقم من أبي بكر وعمر وعثمان وبني أمية.
5 – الزعل التاريخي الدائم من كل من يتبع قتلة الحسين أي السنة إلى درجة كره الاسم.
6 – الزعل التاريخي من الذات التي شعرت بتأنيب ضمير بسبب مقتل الحسين.
7 – المرأة عورة.
8 – الشعور بالانتماء إلى الأقلية وما يتولد عن ذلك من خوف أو عقدة الخوف.
9 – عدم الاعتراف بالتاريخ العربي وغير العربي المرتبط بالخلافة، باستثناء بعض السنوات التي حكم فيها علي.
يكمن الفرق بين الذهنيتين السنيّة والشيعيّة السياسيتين غالبا بما يلي:
إن انتقال الذهنية السنيّة العامة الشعبية إلى ذهنية سنيّة سياسية يعني أمرين:
1 – الإسلام هو الحل والقرآن هو القانون والدستور.
2 – استعادة أمجاد الإمبراطوريات الإسلامية المتعاقبة الراشدية والأموية والعباسية والعثمانية.. والعمل على إعادة إنتاجها.
وتلاؤم الذهنية السنية السياسية مع الواقع المعيش مهما بلغت درجته يبقى ضعيفاً.
فيما انتقال الذهنية الشيعيّة إلى ذهنية سياسية تعني انتقاما من التاريخ أي من السنّة.
في السياسة تظهر الذهنيتان بوصفهما متناقضتين فالذهنية السنيّة لا ترى في الشيعة في أحسن الأحوال إلا انحرافا عن الإسلام الصحيح، والذهنية الشيعيّة لا ترى في السنّة إلا عدوانا تاريخيا على آل البيت.
كما أن التقية بوصفها ذهنية لا شعورية أو شعورية منحت الشيعة السياسية القدرة على التخابث والمناورة والسلوك بعكس القول. فيما ظاهرية العقلية السنيّة تمنحها المباشرة المضرّة وغياب الدهاء.
تبرز خطورة الذهنية الشيعيّة في انتقالها إلى ذهنية شيعيّة سياسية في أن لها عدواً واضحاً هو قتلة الحسين والإيمان بعودة المهدي المنتظر. الإمام الثاني عشر، وفي الشعور بالمظلومية التاريخية التي آن الأوان للرد عليها.
لم تكن الذهنية الشعبية الشيعيّة في بلاد الشام والعراق ذهنية شعورية، بل لاشعورية، وكانت الأحزاب العلمانية والقومية والشيوعية ملاذاً سياسياً للشيعة والفئات الوسطى في لبنان والعراق.
وظهور الذهنية الشيعيّة السياسية في العراق ولبنان ما كان يتم لولا ظهور إيران الدولة الشيعيّة وبروز فكرة ولاية الفقيه التي شرعنت قيام الحزب الشيعيّ.
فحزب الدعوة مثلاً الذي يقال إنه تأسس عام 1957 كان حزب أقلية، والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق أسس عام 1982 بدعم من إيران، وميليشيات بدر تأسست في إيران أثناء الحرب العراقية – الإيرانية، وقس على ذلك كحزب الله الشيعيّ الذي تأسس عام 1982 والذي يؤمن بولاية الفقيه ومرجعه مرشد الثورة الإيراني.
والحق أن الانطلاق في العمل السياسي من ذهنية شيعيّة لا يختلف من حيث الجوهر عن الانطلاق في العمل السياسي من ذهنية سنيّة. فالنتيجة ستكون هناك طائفية سياسية حتماً، وعند العراق الخبر اليقين.
وآية ذلك أن الخطاب السياسي الطائفي يعيد إنتاج التاريخ الأسود للصراع على السلطة وعدم القدرة على العيش في الواقع على نحو أشد مما كان وقت ظهوره.
تبرز خطورة الذهنية الشيعيّة في انتقالها إلى السياسة في أهمية رجل الدين الشيعيّ السياسي المنتمي إلى آل البيت والذي يطلق عليه السيد، لابس العمامة السوداء. وهذا يظهر واضحاً في مقتدى الصدر والحكيم ونصر الله والسيستاني إذ يستمد هؤلاء قوتهم من الانتماء، ولهذا فلقب السيد ليس مجرد لقب احترام، بل وينطوي على قوة السيد الحقيقية الذي يقول قولاً فصلاً ووارثاً لعصمة الإمام.
وإن تحول هؤلاء السادة إلى رجالات سياسية وتحول الذهنية الشيعيّة إلى أحزاب سياسية يعني بالضرورة تعصباً، لاسيما عندما يغذى بخطاب يبدأ بـ”لبيك”. إذ تنتقل فكرة انتصار الدم على السيف، ودلالة انتصار دم الحسين على سيف يزيد، إلى فكرة انتقام الدم من السيف.
ولهذا فالتاريخ الذي يقف وراء الذهنية الشيعيّة تاريخ محدود جداً يخرج من كل التاريخ العربي الإسلامي تقريباً، تخرج منه الخلافة الراشدة – باستثناء سِنِيِّ حكم علي – والخلافة الأموية والخلافة العباسية والخلافة العثمانية ناهيك عن الخلافة الأيوبية.
ويصير التاريخ الحق هو ما له علاقة بتاريخ الأئمة الإثني عشر. ولهذا، فإذا كانت الذهنية السنيّة السياسية ذات نزعة تقوم على استعادة التاريخ الإمبراطوري للدولة الإسلامية، فإن الذهنية الشيعيّة السياسية ذات نزعة انتظار لاستعادة الحق المفقود، بل والمسروق. وفي كل الأحوال لا يمكن لذهنية دينية مهما كانت أن تكون ذهنية سياسية ذات أثر إيجابي في الحياة، بل على الضد من ذلك إنها ذات أثر سلبي لأنها المصدر الأهم للنزعة التعصبية – الطائفية المدمّرة للنسيج المجتمعي، ولكل ما له صلة بالتطور في ميادين العلم من قيم وأفكار وانفتاح وتفاعل في العلاقات المجتمعية، والعلاقة بين الذات والعالم.
————————–
·
هوامش بشأن الدستور/ سام دلا
تواصل معي عدد من الأصدقاء وألحوا أن أبدي برأيي في موضوع الدستور المقبل لسورية، بل طالبني البعض بأن أقدم صياغة لمشروع دستور.
في الواقع لا أريد أن أقدم أي طرح قد يثير سجال غير منتج حول مسألة تتعلق بقضية وطنية تهم كل مواطن سوري، حيث لا يملك أياً منّا مهما كان موقعه وخبرته الادعاء بأنه الأقدر والأحق على احتكار هذا الحق، فكل ما نملكه هو مجرد رأي فردي من الناحية الوطنية، أما من ناحية الخبرة الفنية فتختلف من شخص لآخر بحسب تكوينه وتأهيله المهني، ولذلك سأكتفي بإيراد بعد الهوامش البسيطة والسريعة.
في المبدأ:
1- بدايةً الدستور ليس عمل الخبراء الدستوريون، فدورهم ينحصر في الصياغة وتقديم الخيارات التقنية وفقاً لما تقرره الإرادة المجتمعية، يترجمون هذه الإرادة بخيارات من الأحكام الدستورية المطبقة في أنظمة دستورية مقارنة، ويبتكرون أدوات جديدة.
2- الدستور عمل الشعب كما يقال، أي أنه عمل يحدد بموجبه المواطنون شروط ممارسة السلطة السياسية، حيث إن الحكام ليسوا أحراراً في حيازة السلطة، والبقاء فيها، وفي استخدامها كما يشاؤون، بل هم خاضعون في ذلك لاحترام القواعد التي تمليها الأمة (الشعب).
3- والدستور ليس عمل ينحصر في تنظيم كيفية ممارسة السلطة، وإنما عمل يحدد فيه بنية الدولة وبنيان المجتمع، حيث إنه يشكل الضمانة الأساسية لحقوق المواطنين وحرياتهم. أي أنه محوره يهدف إلى تحقيق التوازن بين ضمانات الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين وضرورات فاعلية السلطة.
4- من ثم الدستور هو في صلبه وجوهره مجرد إحاطة قانونية بظاهرة سياسية، أي أن الدستور ليس سوى حياكة قانونية لتوافق سياسي/وطني في المجتمع. لذلك أي صياغة من أي فئة أو جهة دون تكليف أو تفويض من هذا التوافق السياسي/الوطني هو كمن يبدأ بقص وتفصيل القماش قبل معرفة مقاس الشخص الذي سيرتدي الثوب، أي ببساطة كما يُقال: وضع العربة قبل الحصان، أو بيع جلد الدب قبل اصطياده. وهذا سيكون جهداً عبثياً، وفي الحالة السورية سيزيد عن عبثية المشهد.
5- وبالتالي لا تملك أي فئة من المجتمع احتكار كتابة أو صياغة مشروع دستور دون تكليف أو تفويض من قبل هذا التوافق السياسي/الوطني. ومن باب أولى إذا تمت صياغة هكذا مشروع من قبل جهة خارجية.
6- بعيداً عن أي مزايدة بمسألة السيادة، والتأكيد بأن صناعة وإقرار الدستور قضية وطنية بامتياز من الألف إلى الياء، لا يمكن إنكار ولا يمكن نفي تأثير القوى الدولية والإقليمية، والأمثلة متعددة: ألمانيا، اليابان، كوريا الجنوبية، العراق…الخ.
7- وهنا لا بد من التأكيد بأن مسألة الشرعية تبقى مسألة داخلية ترتبط بالتوافق الوطني، والحديث عن الشرعية الخارجية هو مجرد وهم، فالخارج يمنحك اعتراف بالسلطة وفقاً لمقتضيات مصلحته.
8- لا بد من التأكيد مجدداً، إن مصداقية أي وثيقة دستورية ترتبط بدايةً وفي المقدمة بالجهة التي أعدت الدستور بتكليف أو تفويض من التوافق السياسي/الوطني والتي تحتاج من ثم لتصديق من هذا التوافق.
9- لا يوجد شيء يسمى دستور مثالي أو عصري، فالدستور الأمثل والأفضل هو ما يتوافق عليه الشعب والذي بالضرورة يراعي الحدود الدنيا لمتطلبات العصر.
من الناحية الفنية.
1- الدساتير التي تأتي بعد أزمة عميقة كالحالة السورية تأتي في صياغات مطولة، بحيث تُكتب معظم الأشياء الخلافية ولا تحال لقوانين لاحقة، والأمثلة كثيرة في هذا المجال (الدستور الروسي، الألماني، الإسباني، البرتغالي، التركي، الأرجنتيني…).
2- من الناحية الكمية، تقريباً 80% من أحكام دساتير دول العالم متشابهة من حيث الهيكل العام للحقوق والحريات والأحكام الناظمة للسلطات الدستورية، والـ 20٪ المتبقي هي من تحدد الخيارات السياسية التي يتوافق عليها الشعب والتي تتعلق بالحدود والعلاقات بين السلطات الدستورية ومدى التوازن بينها، إضافة للعلاقة بين المركز والأطراف (اللامركزية/أو الفيدرالية)، والرؤية التوافقية لتوزيع وإعادة توزيع الثروة (دور الدولة في الاقتصاد) إضافةً لمكانة ودور المحكمة العليا/أو الدستورية كضابط لإنفاذ الدستور حيث لا قيمة للدستور إلا بالالتزام بأحكامه.
أخيراً، إذا كان يحق لي أن أبدي بعض النصائح، أقول:
1- في معظم الدول التي شهدت أزمات عميقة، الأزمة لم تكن في الدستور والنصوص رغم أهميتها، فجوهر الأزمة أو المحنة هي في تفسير وتطبيق أحكام الدستور (في حوكمة Gouvernance النظام الدستوري) من خلال الحوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية. يكفي أن نقرأ الدستور الأمريكي لنستنتج مدى بساطة هذا الدستور وضآلة حجم أحكامه التي لم تستخدم كلمة “ديمقراطية” في أياً منها، ولكن الحرية والحامل الاجتماعي هو من فرض النموذج الديمقراطي الأشهر في العالم.
2- الدستور ليس مجرد صياغة جميلة ومحكمة لمن توافقوا واستولوا على السلطة في لحظة ما للإطلالة به على المجتمع المحلي والدولي، سيكون مزيفاً إن لم يقرن بهامش كبير من الحرية، وسيبدو على حد تعبير الفقيه André Hauriou “كمن يرتاد سهرة في فندق فخم بثياب الاستحمام”.
3- الدستور الذي يبني دولة هو من يحتضن جميع مواطنيه، من غير أن يعرف شيئاً عن انتماءاتهم العرقية والطائفية، ولا يفرق بين منطقة وأخرى أو طائفة وأخر. عكس ذلك هو ليس بدستور هو إطار للتقسيم.
4- بناء دستور أساسه “عقد اجتماعي سوري” يتطلب في الحد الأدنى بديهيات معاصرة غير قابلة لا للاجتهاد ولا للإنكار:
– المواطنة: أساس علاقة المواطن مع الدولة، مع احترام الهويات الفرعية
– الفصل: فصل بين السلطات، وفصل الدين عن الدولة (بمعنى جعل الفضاء العام حياديا يحترم جميع المعتقدات الدينية ولا يتدخل فيها ولا يحابي أي منها)
– التوازن: توازن بين السلطات المركزية، وتوازن بيننها وبين السلطات المحلية (لامركزية واسعة)
– الحياد: استقلالية القضاء يضمن حياد القاضي، وحياد الإدارة الحكومية في تقديم خدماتها
– العدالة: عدالة انتقالية عمّا جرى، وعدالة تنقلنا لدولة القانون.
المدد الزمنية لكتابة دستور إذن تتعلق بإنجاز التوافق الوطني، وليس بالصياغة. فكلما استطعنا الإسراع في الوصول لهذا التوافق الوطني يمكننا صياغة دستور في مدة قريبة… والعكس بالتأكيد صحيح
الفيس بوك
———————–
=====================