من ذاكرة صفحات سورية

حوار عبد الكريم عمرين مع د. طيب تيزيني

الحلقة (1)

الطيب تيزيني:

من “الصومعة” إلى “التراث والثورة”.

رجل يمشي على قدميه ليداهمه النسيان والبكاء.

*في البداية أحب أن أسألك سؤالاً: تُعشق المدن، وأنت تنقَّلَتَ في مدن عدَّة، وكانت البداية حمص ثم تركيا فبريطانيا فألمانيا فدمشق ومن ثم العودة إلى حمص.

كيف ترى حمص من قبل ومن بعد؟ وما الذي أعطته لك كل مدينة على الصعيدين الشخصي والمعرفي؟

-د.تيزيني: حقيقة، حمص في حياتي هي المبتدأ والمنتهى، وهذا لا يعني إغفال حق المدن الأخرى التي زرتها وأخذت كثيراً منها وخصوصاً النمسا وبرلين، كانتا مدينتين مهمتين في حياتي لكن حمص -على ما هي عليه- طبعت هذه الزيارات كلها بطابعها، فوجدت نفسي أزور حمص فيها مرات ومرات متعددة في مدن متعددة، هذا ما يجعلني أشعر بشيء من الأسى، أنَّ حمص كانت وما تزال تعاني شظايا هذا العالم.

*حمص قصيدة، قصيدة نغنيها معاً نحن الحمامصة

لكنك غنيتها بتفرّد؛ قيل إنك تجيد الغناء، وتجيد الأذان، وقيل إنّك تنشد حمص كشاعر قبيلة، وتفكر وكأنَّك رأس الحكمة.. حدثني لو سمحت عن صوتك ونشيدك وأذانك منذ البداية.

-د.تيزيني: البيئة التي نشأت فيها كانت فعلاً بيئة منفتحة على كثير من التوجهات الثقافية العامة، منها الأدب والفلسفة والفن بما فيه الغناء فكانت بداياتي ضمن مكان لطيف هو بيتنا في حمص الذي تعرفت من خلاله إلى كثير من الناس كانوا أصدقاء للوالد أو أصدقاء لإخوتي، ومن ثم حملت هذا كله بشكل من الأشكال، هنا قليل، هنا أكثر لكن حمص بما هي عليه أعيشها وستبقى مدينتي التي أعيش فيها قلباً وقالباً.

*هل بدأتَ بداية دينية؟

-د. تيزيني: نعم كانت بدايتي دينية، كان الوالد متديناً، لكن تدينه كان حالة جديدة بالنسبة إلى الحي الذي سكنت فيه على الأقل، حالة جديدة كان صريحاً واضحاً يتكلم بوضوح وبثقة تامة وهذا قاده إلى مشارف واسعة من التغيير الذي ألمَّ بأفكاره، بحيث أصبح غير ماكان عليه، لكنه بقي الوالد، بقي مصطفى التيزيني، كان يحاجج الجميع، شجاعاً في نزالاته هنا وهناك واكتمل الموقف حين تحول بيتنا إلى قِنَاق بالتركية، (القناق هو المنزول أو الصالون الأدبي بلغة اليوم).

-في الحقيقة نشأت في هذا (الصالون)، كان يوجد في هذا الصالون أناس كنت أسمع بهم لكن لا أعرفهم، التقيت بهم كلهم هناك، مثلاً الشيخ طاهر الرئيس، اعذرني فقد بدأ النسيان يداهم ذاكرتي بسبب الأحداث التي أعيشها، حالتان تداهماني حالياً هما: النسيان والبكاء، فالشيخ طاهر الرئيس، والرئيس، رئيس الجمهورية هاشم الأتاسي.

*الرئيس الجليل؟

د. تيزيني: نعم الرئيس الجليل الذي أحببته كثيراً لوضوحه وصراحته وتواضعه، وأحببت الشيخ طاهر الرئيس لوضوحه في أفكاره وشجاعته، وكان هنالك كثيرون منهم الخوري عيسى أسعد، وكان علامة فارقة في حياتي، وفي حياتي من كان يحضر إلى هذا القِناق، تعلمت كثيراً خصوصاً التواضع وبعد التواضع عرفت أن بعض الأفكار التي نأخذ بها ليست وحيدة، فهناك عالم آخر من الأفكار، هذا جعلني أتواضع كثيراً في أفكاري، فما سمعته هنا من أفكار قد يكون هناك شيء آخر أهم منه، وعلى هذا النحو مشيت ووصلت إلى محطات كثيرة، ولم أتوقف وما أزال على هذا الطريق.

أمشي.. لأرى ما لا أراه؛ وأسمع ما لا أسمع

– د. تيزيني: وهذا ولَّد عندي مهنة المشي، لا أتمنى أبداً أن أركب سيارة أو واسطة نقل أخرى، أريد أن أمشي، لأتعرف إلى العالم، إذ هو ما ولَّد عندي نزعة بقيت حتى الآن تؤذيني أحياناً ولكني أصبرُ عليها. إن المشي حالة فريدة من التعلم والتعرف إلى الحياة لأرى ما أراه وأسمع ما أسمعه وأنا أسير وأتحرش في حالات كثيرة بكثيرين، خصوصاً الفقراء، أتحرَّشُ بهم، أتحدث إليهم، أمشي معهم وأتعلَّمُ منهم، وهذا ولَّد حالة حزينة وفرحة، أعيشها دائماً ولم تقف، هي دائماً قائمة في حياتي بحيث إني في حالة أدعو نفسي بها: المُتعلم الدائم، وهذا يُشرِّفني، حتى في ما أنا عليه الآن.

*اسمح لي أن أنتقل بك من المشي على القدمين وعيش الحياة إنساناً طيباً ينتمي إلى الناس الذي هو منهم، إلى المسير، مسيرتك الفكرية والسياسية، وقبل أن ندخل في مشروعك الفكري والفلسفي أود أن أسألك عن نشاطك السياسي خصوصاً أنك صرحت لجريدة الراية بما يأتي: “لقد ساهمت في بعض الأحزاب اليسارية التي نشأت في سورية مدّة زمنية، كنتُ بعدها أعود إلى العمل الفكري خصوصاً بصيغة الفكر السياسي”.

ماهي هذه الأحزاب اليسارية؟ وماهي الآلية التي دفعت بك من السياسي إلى الثقافي والمعرفي؟

-د. تيزيني: هذا منعطف كبير في حياتي، نشأت في حمص منبت السياسة والثقافة، ما يعني أن حمص كانت مركزاً سياسياً وثقافياً مهماً لسورية.

-د. تيزيني: نعم. برجالاتها وبمجموعاتها الشبابية التي ولَّدت حالات لا تُنسى، وهي ما زالت حتى الآن على الرغم من الأحداث كلها التي مرَّت بها. دخلتُ إلى الحياة في حمص عبر السياسة حينما كانت تخرج تظاهرات من المدارس بمناسبات عدة منها عيد الاستقلال عيد المدينة.

*قبل ذلك يا دكتور كانت هناك تظاهرات ضد الاستعمار الفرنسي، هل ساهمت فيها؟

-د. تيزيني: نعم ساهمت فيها مباشرة، كنتُ أعيشُ هذه الحالة بصورة مباشرة، الكفاح ضد فرنسا كان شيئاً أخذته من كثير من الناس في حمص، خصوصاً من مؤذن كان يؤذن في حيي باب الدريب وهو حي معروف، كان هناك مؤذن في جامع يؤذن أذاناً دينياً وكان يقدم مداخلات سياسية، حالة طريفة، ولدَّت عندي شوقاً أن أتعلم، هذا الذي سمعته إلى درجة أني تحولت باتجاه الأذان ومارسته مرَّات ودخلت الجوامع وتعرَّفتُ إلى المصلين وأحببت كثيرين منهم وصاروا أصدقاء لي، حتى المعمّرين منهم أحببتهم وأحببت صفاءهم وطيبهم وسلامة عقولهم وحاجتهم إلى مزيد من الفكر، وهذا كان دافعاً عميقاً في حياتي. الشيخ طاهر الرئيس والشيخ…

*نديم الوفائي؟

-د. تيزيني: نعم نديم الوفائي والشيخ عبد السلام شيخ الحي والجامع.

*عبد السلام عيون السود؟

-د. تيزيني: لا.. الشيخ عبد السلام….. لا أعرف. كان إمام جامع حيي وكان عنده تجمع للأطفال يتعلمون عنده كان يسمى الكُتَّاب. تخرجتُ من عند الشيخ عبد السلام الفقير البائس النبيل، كان يُعطي كثيراً، وأحببته، أحببت أن أراه دائماً فدعوته إلى بيتنا فاكتشفت أن هناك علاقة بين والدي وبينه، فزاد حبي له، وفي هذا الطريق تعرفت إلى مصلين من طراز هذا الشيخ.

أرحنا يا بلال

*كان النبي يقول لبلال: أرحنا بها يا بلال، فيؤذن بلال، وأنت أذنت لتريح أهل حيك بالصلاة، بعدها أذنت أذاناً آخر، أذان العمل السياسي لتريح الناس الفقراء والمعدمين وأصحاب الحاجات المختلفة.

ما هي الأحزاب السياسية التي انتميت إليها في ما بعد؟ هل عملت في السياسة حقاً؟

-د. تيزيني: عملت على مدى السنين التي استغرقتها في تعلُّمي حتى ما بعد الثانوية، كنت نشيطاً جداً.

في الحزب الوطني؟

-د. تيزيني: في حزب الشعب والحزب الوطني ومن حزب الإخوان المسلمين تعرفت إلى رئيسه الشيخ مصطفى السباعي، وكنت أتمنى أن أسمعه دائماً في الجامع الكبير في حمص، تعرفت إليه وكان شخصية فذة، كان مستنيراً وشجاعاً، أخذت كثيراً منه، تعرفت إليه شخصياً، والتقيته مراراً، وعن طريقه تعرفت إلى الآخرين من الأحزاب الأخرى، الأحزاب كلها التي كانت موجودة في حمص.

الحزب الشيوعي السوري؟

-د. تيزيني: الحزب الشيوعي السوري وحزب الشعب والحزب الوطني وحزب الإخوان المسلمين.

هل انتميت إلى الحزب الشيوعي السوري؟

-د.تيزيني: نعم. انتميت إلى هذا الحزب، اقتنعت به لشعاره الأساسي: “ياعمال العالم اتحدوا” فقد كنت أحب الناس وما أزال أملك هذا الحب الذي يمنحني كثيراً من الحياة.

*على الصعيد الشخصي، ماالذي نقلك في السياسة، من الاتجاه الديني إلى الاتجاه الماركسي- المادي الجدلي؟

-د. تيزيني: كنت أعيش في حالة يقظة دائمة، أتأثر بكل شيء أعيشه مجدداً، كان هذا القِنَاق الذي أسسه والدي قد احتوى مجموعة من الناس البسطاء المتدينين الخيّرين وأيضاً المُتَحزِّبين، فأخذت موقفي من هذا القِناق الذي جمع من الأطياف كلها، وأذكر أن الشيخ طاهر الرئيس، علَّمني أن الدين الإسلامي منفتح وعليك أن تتعلَّم من الجميع كما تعلَّم هو، كان يُعلمني أنه تعلَّم من الكل كما كان الرسول صلى الله عليه وسلَّم، فأخذت هذه الأفكار البسيطة الأولى وتمثَّلتها، فدخلت الحزب الشيوعي لأنه كان يرفع شعار الكادحين: “ياعمال العالم اتحدوا” وكنت أرى نماذج لهؤلاء العمال البسطاء فقراء في الشوارع في حيي، أحياناً لا يملكون ثمن خبزهم فتأثرت بهم كثيراً وأصبحت صديقاً لمعظمهم، صديقاً شخصياً، وهذا ولَّد عندي حالة منفتحة على الجميع، على كل من أراه، أتمنى أن أتعرَّف إليه، وما إن أتعرَّف إليه وأصارحه، أقول له: أريد أن أعرفك أنا فلان، من أنت؟ حدثني كيف تعيش؟ كيف تفكّر؟… إلى آخره، هذه الحالة ما أزال أعيشها لكني الآن أعيشها بصيغة مأسوية، في كل حال هذا المشوار مفتوح وفتحَ لي ما فتح، وبهذه المناسبة أقول: تعلَّمت القرآن الكريم وحفظت قسماً كبيراً منه، هناك

مثلاً سورة النصر

إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ

سورة بديعة تعلمتها مع الناس، وتعلمت من الناس واكتشفتهم واكتشفوني… إلى آخره. يعني أخذت من الجميع، خصوصاً من كان يأتي إلى قِناق آخر كان قد فتحه أخي عبد الودود، عبد الودود يكبرني سناً، كان شاباً رائعاً مليحاً.

*أخوك شقيقك؟

-د. تيزيني: نعم شقيقي، كان نشيطاً يعمل في الصحافة، ففتح قناقاً ثانياً فأخذت شيئاً جديداً لم أسمع به سابقاً إلا بصيغ بسيطة أولية، كان هناك من الناس من تعلمت على أيديهم، منهم: نصوح الفاخوري هذا الإنسان البديع الذي علَّمني كثيراً، وهناك محي الدين الدرويش و.. وأنا مصاب بالنسيان الآن، لكن كان هناك في حينها أسماء بديعة، الأستاذ درويش.. الذي…

*تقصد الأستاذ محي الدين الدرويش الذي عمل على إعراب القرآن الكريم؟-

-د. تيزيني: نعم، كان أستاذاً في اللغة العربية والأدب العربي، وهناك نصوح فاخوري وأخوه…

*أخوه رفيق فاخوري.

في ذلك القناق تعرفت إليه .. قُتل في تركيا-

-د. تيزيني: نعم، رفيق فاخوري هذا الإنسان الكبير الذي توفي.

*توفي في تركيا؟

-د. تيزيني: نعم قُتل في تركيا في حادث سيارة، يعني نخبة حمص المبدعين الرائعين الطيبين تعرفت إليهم في هذا القناق الثاني والقناق الأول، وما زلت أفكر فيهم، وأتذكر أسماءهم، أحياناً أتعب في التذكر، لكني طامح إلى أن أستعيد الذكريات كلها معهم.

*دكتور طيب، انتقلتَ من الدين الذي كان يمثل لك مفهوماً ما عن المحبة والعدالة الإلهية، إلى الماركسية التي تعني العدالة الاجتماعية. ذهبتَ إلى الماركسية عبر الحزب الشيوعي السوري، لنقف قليلاً عند الماركسية؛ الماركسية هي النظرية الصحيحة كلية القدرة لكونها قدمت مقولات، أما اللينينية فهي التطبيق الخلَّاق للماركسية في روسيا حصراً حيث قدّمت موضوعات. السؤال ذو شقين:

هل تظن أن لينين لوى عنق حقيقة المادية التاريخية، حيث نجحت ثورة البروليتاريا في بلد لاتشكل فيها البروليتاريا أغلبية طبقية كما في أوروبا البرجوازية؟. هل تظن أن الموضوعات اللينينية أضرَّت ببرامج الأحزاب الشيوعية في مناطق عدة من العالم وخصوصاً في منطقتنا العربية؟

ويتفرع عن هذا السؤال استفسار بسيط: هل تظن أن ملاحظات السوفيات حول تصويب أعمال الأحزاب الشيوعية قد أضرَّت بها، أي بهذه الأحزاب (مثلاً ملاحظات السوفيات في حل قضايا الخلاف في الحزب الشيوعي السوري) ثم إن بعض الرؤى وأساليب النضال المفروضة على هذه الأحزاب جعلتها فاشلة لا تنتمي إلى واقع بلدانها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي (مثلاً موضوعة طريق التطور اللارأسمالي)؟.

-د. تيزيني: أولاً المسألة لدى لينين تبدأ في أنه سار في طريق معقد، روسيا كانت عامرة بالحركات السياسية وبالاضطرابات.

*صحيح أحداث وثورات في عامي 1905 و 1907

-د. تيزيني: نعم، وظهر كما لو أن هناك حركة عمالية ناضجة قيد الواقع، ومن ثم جاء لينين ليحصد الثمار، أظن أن البدء في أن لينين نفسه وقع في شبهة بسيطة هي ظنه أن بروليتاريا روسيا أصبحت في موقع الثورة.

*أي إنها أصبحت ناضجة ومتميزة طبقياً وقادرة على قيادة الدولة والمجتمع؟

-د. تيزيني: نعم، هذا في ظني، أنا لا أؤكد ذلك تماماً لكن أطرح موضوعات، أن البروليتاريا الروسية لم تكن قد دخلت مرحلة نضج ثوري كان هناك بروليتاريا لكنها كانت في مراحلها الأولى وكانت بحاجة أكثر إلى مزيد من التطور والتقدم والتحرك سياسياً، فعقد الرهان عليها كان مبكراً ربما.

*ربما لأن لينين لديه صفات القائد التاريخي، وهنا نتذكر دور الفرد في التاريخ، وهذا ماتحدث عنه بليخانوف في أحد كتبه.

-د. تيزيني: نعم، يمكن للفرد أن يلعب دوراً كبيراً، لكن هذا الدور مرهون بحالة تتقبله وتستجيب له وتتحول باتجاه الأعلى والأعلى، أظن أن هذا الأمر لم يصل إلى حالة النضج، النضج البروليتاري الذي سمعنا عنه لاحقاً في أوروبا، أوروبا الثورات العمالية وحتى الآن في البلدان الرأسمالية، كان هو البدء اللينيني في روسيا الذي كنا نظن أن لينين بشخصيته الفذة في حينه سوف يعوضها بطريقة ما، هذا محتمل أحياناً في حالة أو أخرى، لكن اتضح أن الأمر لا يمكن أن يتجاوز عقر الباب، يعني لا يخرج من هذا الباب إن لم يكن قد نضج بالحد الملائم.

*نجحت الثورة في روسيا، لكني أظن أن تعميم نموذج نجاح الثورة في روسيا على الأحزاب الشيوعية لعب دوراً سيئاً خصوصاً في البلدان النامية

يعني أُخِذَت تجربة لينين، بوصفها التطبيق الخلَّاق للماركسية في روسيا، وعُمِّمت ونسيت قيادة موسكو أن كلّ أرض، كل دولة لها خصوصيتها الاقتصادية والاجتماعية والطبقية والثقافية، ومن ثم هي تحتاج إلى تطبيقها الخاص للماركسية، لا إلى استنساخ التجربة السوفياتية، ألا توافقني الرأي دكتور؟

-د. تيزيني: يعني، أوافقك إلى حد ما، الثورة الروسية قامت فعلاً بمعنى ما أولي، على البروليتاريا، لكن هذه البروليتاريا، أولاً لم تحقق تاريخاً، تاريخاً كافياً بالمعنى الزماني الذي يحقق تطورات على صعيد البنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فكان البدء بهذه الثورة مبكراً، لذلك كان هنالك من لم يرغب في الانخراط بهذه الثورة، كان بعضهم يأخذون على لينين..

*بليخانوف مثلاً

د. تيزيني: بليخانوف كان من هؤلاء، كان يرى أن الوقت لم يحن، وهناك فرصة أخرى يجب أن تمر بها هذه البلاد فلم يمشِ لا بالطاقة الخاصة بلينين ولا بالمستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية في روسيا، يعني التاريخ لا يغفر لأحد إن تجاوز حدَّاً ما، درجة ما من درجة التطور، هذا يظهر حالياً أو لاحقاً..

في الحلقة القادمة .. الاتحاد السوفييتي والأحزاب الشيوعية

————————–

الحلقة الثانية

الحلقة الثانية: ما الذي ما زال الطيب يحمله في حنجرته

“الروسي” الشيوعي وقد بات “النموذج “للعربي” الشيوعي، لقد ذهب هذا بذاك

المؤمنون يملكون معرفة دينية وبإمكانهم أن يتجهوا اتجاهات عدة، لماذا؟ لأنَّ أحدهم سأل النبي الكريم، أين الله يارسول الله؟، أجابه: الله موجود حيث تراه.

من شاب يُصغي إلى مؤذن، إلى رجل الماركسية في زمن لليسار فيه ما يكفي من الصعود والانتكاسات.

عودة إلى الاتحاد السوفييتي والأحزاب الشيوعية، هل تظن أن ملاحظات السوفيات وتوجيهات الاتحاد السوفياتي حول تصويب أعمال الأحزاب الشيوعية وتوجهاتها قد أضرَّت بها (مثلاً ملاحظات السوفيات حول حل قضايا الخلاف في الحزب الشيوعي السوري حين انشق رياض الترك عن الحزب) يومها جاءت ملاحظات السوفيات لتؤجج الخلاف وتعمق الانشقاق، وساهمت في تأزيم الأزمة أكثر فأكثر، فرع آخر للسؤال: بعض الرؤى والتوجيهات لهذه الأحزاب جعلتها لاتنتمي إلى واقعها وغير فاعلة فيه (مثلاً فرض موضوعة انتهاج طريقة التطور اللارأسمالي) وهذه كارثة.

-د. تيزيني: هذا الأمر يتصل بالأمر السابق، يعني كما قلت: التاريخ لا يغفر لمن يتجاوز مرحلة فيه، ولأي اسم كان، ما حدث في روسيا أضرَّ بروسيا أولاً كما ببلدان أخرى منها العالم العربي.

أضرَّ بالأحزاب الشيوعية في ما كان يسمى دول المنظومة الاشتراكية

-د. تيزيني: نعم، المشكلة هنا لا تكمن في أنَّ التطور الداخلي في العالم العربي لم يكن ناضجاً لمرحلة شيوعية ما فقط، وإنما كان هناك نموذج يُقدَّمُ للبلدان العربية وهو روسيا، المشكلة الثانية هنا أنَّ النموذج موجود ولم يُظنّ أنَّ هذا النموذج يجب أن يُنجز ويُنتج، فذهب هذا بذاك.

هذا أدَّى إلى فشل مشروع الحزب الشيوعي السوري، وأدَّى إلى فشل الأيديولوجيات الماركسية في البلدان العربية، وهنا يتفرع سؤال: لماذا فشلت المشروعات السياسية الدينية والقومية واليسارية، ومن ثم فشلت أيديولوجيات العالم العربي-منذ عهود الاستقلال القطرية وحتى هذه اللحظة- في خلق أوطان متمايزة في هويتها، لا بل فشلت أيديولوجية واحدة سياسياً كالقومية في بلدين متماثلين، مثلاً سورية والعراق، مصر وليبيا، السودان واليمن…إلخ.

-د. تيزيني: أنا أرى أنَّ هناك عاملين اثنين، أبدأ بما لا يجوز أن أبدأ به لأنه ثانوي، وأقصد التأثيرات الخارجية التي كانت موجودة في البلدان العربية كلها.

نعم، الاستعمار والإمبريالية والصهيونية.

-د. تيزيني: نعم، هذا أولاً وهو مهم، لكن الأكثر أهمية هو أنَّ الأحزاب الشيوعية التي نشأت في البلدان العربية، وتلك المؤسسات الأخرى الدينية والثقافية لم تكن بعد قد نضجت، بحيث إنَّها تؤسس لحامل اجتماعي ملائم للثورة، والحامل الاجتماعي في ما أظن ينشأ من فريقين كبيرين لهذه التيارات، أولاً: الطبقة الوسطى وثانياً: الطبقة السفلى، الدنيا، يعني كان هناك إرهاصات لهما، لم تكن هناك طبقة وسطى متكونة ومتبلورة تماماً، إنما كان هناك شظايا هنا وهناك وهنالك، كانت الطبقة الوسطى غائبة، إضافة إلى أنَّ الكادحين، طبقة الكادحين لم تستطع أن تصل إلى مستوى الطبقة الوسطى بالمعنى المعرفي، ظلَّت بعيدة عن الالتحام بالطبقة الوسطى التي فشلت كما فشل آخرون تحت السلَّم.

هذا في التفسير المادي الجدلي، لكن على صعيد آخر فشل المشروعات الدينية واضح وباد للعيان، مع أنَّ التيار الديني كان أقرب إلى قلوب الناس، باعتبار أن من المتدينين أغلبهم أو لنقل معظمهم.

-د. تيزيني: نعم. المتدينون هم أنساق. لم ينشأ عندنا خط ديني طامح إلى ثورة ما، وإذاً نشأت هناك في الاتجاهات الدينية تمايزات بقيت إصلاحية بطريقة ما، لكنها ظلَّت غير مؤتلفة أولاً، وثانياً بقيت في حدود كونها تيارات غير ناضجة حتى في الفكر الديني بأنساقه العليا، يعني الآن أستطيع أن أتكلم عن أن الفكر الديني الإسلامي يمكن أن يؤسس للوصول إلى بدايات التفكير الثوري.

هذا مشروعك المقبل بحسب ما أظن، سنتحدث عنه في ما بعد.

-د. تيزيني: نعم.. نعم، لذلك مثلاً، في بيروت قدمتُ مسألة مهمة، وهي أن المؤمنين كلهم يملكون معرفة دينية وبإمكانهم أن يتجهوا اتجاهات متعددة، لماذا؟ لأنَّ أحدهم سأل النبي الكريم، أين الله يارسول الله؟، أجابه: الله موجود حيث تراه؛ هذه المقدمة تركت حالة مفتوحة أمام المؤمنين، مفتوحة تماماً لأن يتأثروا هنا وهناك وهنالك، وهذا لم يحدث، الطبقة الوسطى لم تتكون تماماً، إضافة إلى أنَّ هذه الأيديولوجية الدينية ظلت تحت السقف بخطوتين أو ثلاث خطوات. وما زال مشروع الثورة قائماً للطبقة الوسطى، ويمكن أن يكون آخرون، مكوّنون لهذه العملية، من الجميع بمن فيهم المتدينون.

إذاً أعيد تشكيل الطبقة الوسطى بالمواصفات التي أسلفت.

لفت انتباهي حصولك على الدكتوراه في الفلسفة من ألمانيا عام 1967، وهو عام حرب، ومن ثم حصلت على الدكتوراه الثانية في العلوم الفلسفية عام 1973، وهو عام حرب. هل تعني هذه الملاحظة لك شيئاً؟

-د. تيزيني: كثيراً. أنا أذكر في برلين، كنت قد شاهدت مجموعة من السوريين عام 1967، وتحدثنا عن الحرب، وتحدثنا عن ضرورة العودة إلى الوطن لمقاومة الاستعمار والصهيونية، نشأت مناقشات حيّة، ماذا نفعل؟ هل نعود؟ أم نؤسس لشيء؟. كان الاتجاه الثاني هو الذي انتصر ومجموعات كبيرة من السوريين من الطلاب والآخرين اجتمعوا على هذه الفكرة العامة وأنتجوا انتاجات مهمة فعلاً.

لذلك كنت قد انطلقت من هذه الفكرة، أنني لم ولن أقصّر تجاه ما يحدث في بلدي، لذلك أوقفت فكرة العودة وتابعت، لكن هذه المتابعة كانت بطريقة لا أريد دائماً أن اذكرها… يعني، قالها لي أحد الأساتذة الألمان: أنت ياصديق، حالة فريدة، بلدك يُضرب بالسلاح وأنت تعمل؟ كان هذا الكلام في المأوى الطلابي.

دار السكن الطلابي

-د.تيزيني: نعم، في دار السكن الطلابي كنت أعمل بكثافة هائلة وخصوصاً في أيام الحرب، نعم واتفقت معه على ذلك. والأمر نفسه عام 1973، عام 1973 كان عاماً مهماً عندي، فقد قلت: سأفعل شيئاً، فعلت شيئاً وجاءني الجواب، أنا لا أتمنى أن أتحدّث عن أمور شخصية، في ألمانيا وفي مؤسسة ألمانية- فرنسية، اعتُبِرتُ واحداً من مئة فيلسوف في العالم.

-د. تيزيني: وكنت في هذه الحال رائداً في ألمانيا في الفكر الفلسفي. وعدتُ إلى هنا لأعمل ليل نهار، وأنا هكذا، لم أتخلّ ولن أتخلى، ذهب كثيرون من هنا مؤخراً إلى خارج سورية وبقيت.

أنت تصرّفت خلال الحربين تصرفاً جميلاً جداً بوصفك مواطناً، مفكراً وفيلسوفاً، بيد أننا نحن العرب -مفكرين ومثقفين- تصرفنا بعد هزيمة حزيران 1967 تصرف المنتصر، بينما تصرفنا بعد انتصار 1973 تصرف المهزوم، ماتحليلك لهذه المفارقة؟

-د. تيزيني: الحالة الأولى، حالة تُمثلُ امتداداً لخيبات الأمل التي عاشها البلد، سوريا، تحت وطأة الأحداث المتلاحقة في الداخل والخارج، كانت هزيمة شنيعة.

نعم، هزيمة عسكرية وسياسية وثقافية، لكنّا تصرفنا تجاهها تصرف المنتصر، بينما بعد انتصار 1973 صرنا نسأل أسئلة الوجود والهوية، ماسبب ذلك؟

د. تيزيني: السبب هو أنَّ ماحدث عام 1967، كان تيئيساً للفعل، لم نقل إنَّ هذا الأمر قضى على بذور الثورة، ولكن الثورة لم تعد مشروعاً راهناً، أُجِّلت لأنَّ البنية الداخلية لم تعد تحتمل هذا التحول الكبير، فلا بد من إعادة البناء. عام 1967 كان هناك حراك، لكن اتضح أنَّ هذا الحراك، لا يُؤسس لمواجهات من الطراز الذي حدث، فلذلك انتهت المسألة، وكان الرهان على ما قد يأتي، جاء الذي أتى مرة أخرى، ولم يُتمم المشروع السابق، فأتى اللاحق استمراراً للسابق، يعني؛ الحالتان كلتاهما أكملت الأخرى، فكانت خيبة الأمل، وبقي مشروع الثورة قائماً.

يقول بعضهم عن الطيب تيزيني، وحول مقدمة كتابك “من التراث إلى الثورة”، أنه يدين دراسة التراث من وجهات نظر أيديولوجية وسياسية، ثم يُؤسس لنظرية في التراث على أسس أيديولوجية وسياسية، يسمونها المنهجية الجدلية- المادية التاريخية- نظرية تراثية…إلخ. كيف؟

-د. تيزيني: أنا أندهش الآن لهذا السؤال، لا أعرف من أين جيىء بهذا الأمر في أعمالي، يعني كتبت من التراث إلى الثورة وأنا أعرف أن السياسة جزء من المنهج الذي أستخدمه في دراسة التراث، لم أصل إلى هذا القول الذي طُرِحَ الآن، السياسة قائمة وهي متممة للمشروع الثقافي الفكري، يعني السياسة ليست بعيدة من المشروع نفسه، بل هي مهماز لهذا المشروع، مهماز هائل، وأنا ما زلت حتى الآن في هذا الموقع.

يقولون أيضا إنَّ الطيب التيزيني لا يُوردُ في مقدمته، مقدمة كتابك “من التراث إلى الثورة”، أي أثر للإسلام ودوره في نشوء فلسفة عربية إسلامية وتكونها، وهو يحمل دكتوراه في الفلسفة مرتين.

-د. تيزيني: الإسلام الذي يُراد له أن يكون محفزاً، ما كان موجوداً بالصيغة التي يمكن من خلالها أن يكون مؤثراً فعلاً في الأفعال القائمة، ومن ثم لم ألاحظ أنَّ هنالك تأثراً بالإسلام لهذه الحالة، قد أقول إنَّ هناك إسلاميين كانوا قد فعلوا شيئاً، لكن الأيديولوجيا الإسلامية لم تكن موجودة في هذه التأثيرات إلا من بعيد، كيف؟ مثلاً في العصر الوسيط حينما نشأ الإسلام، كان قد نشأ وأسس لعمل كبير، هذا العمل الكبير أُنكِرَ من الآخرين، أنا أعدتُ القراءة.

أعدتَ قراءة الكندي- الفارابي- ابن رشد…إلخ

-د. تيزيني: نعم أعدت قراءة النصوص ووجدت أنَّ هناك تأثيرات كثيرة أخرى للإسلام، هذا لم يكن قد فُعِلَ به شيء، لذلك لم يكن المستوى الثاني قد قارب الأول، مقاربة مباشرة، الإسلام العريق القديم، أما الحديث فما كان هنالك مثل هذا الاتجاه.

في كتابك “مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط” وبعنوان: على طريق الوضوح المنهجي تقول: “إنَّ تشكيل وتطوير نظريات وفرضيات ومقولات ومفاهيم علمية لا يمكن أن يستجيبا لمستلزمات الدقة العلمية انطلاقاً من البناء المنطقي لهذه النظريات والفرضيات والمقولات والمفاهيم فقط. إنَّ عملية التشكيل والتطوير تلك ينبغي، استجابة لذلك المبدأ العلمي، أن تُردفَ وتُعمَّقَ من خلال بحث تلك الركائز العلمية في تاريخيتها، بكلمة أخرى، إنَّ المنطق ينبغي أن يُرى ويُمارسَ في تاريخه، والتاريخ في منطقه، وذلك بشكل عضوي وثيق. فاللحظة المنطقية الجدلية في مفهوم ما يمكن استنطاقها واستخراجها بشكل أدق وأكثر شمولية، حين تُبحَث في وحدتها العميقة مع تاريخها، أي مع تاريخ المفهوم نفسه” اعذرني للاقتباس الطويل، لكنه ضروري لأسألك: ألا تظن أنَّ بعض الاختلاف عند الفلاسفة يعود إلى اختلافهم حول المفهوم أو المعنى؟ لنقل إنَّ مفردات كالجوهر والذات، الحرية، المنطق، الضرورة، الجمال..إلخ هي مفردات مختلف عليها على الرغم من استعمالاتها في حقبة واحدة، أو لدى جيل واحد من الفلاسفة؟

-د. تيزيني: هذا أمر ذو أهمية، أهمية منهجية ونظرية، يعني المقصود هنا أنَّ أيّ شيء يُراد له أن يُفهم لا بد من فهمه في حالة تكوّنه تاريخياً.

أنطولوجياً

د. تيزيني: نعم أنطولوجياً، كيف أُنتِج، ما هي المقدمات السابقة في سيرورته التاريخية، بهذا المعنى لا يمكن الاكتفاء بالنتائج، النتائج قد تكون خادعة، قراءة هذا الأمر لا بد أن تكون في كيفية تكوّنه، نحن أمام قراءتين حينما نريد أن نساهم هذه المساهمة، أولاً أن نستخدم هذا المنهج في كتابة نص جديد، لكن هذا الأول يصبح ثانياً حينما نعود إلى ذلك المنهج لتقصِّي تكوناته التاريخية، هل ظهرت كما مرَّت؟ هل النتائج كما هو السياق الذي مرَّت فيه؟. العملية مركبة، ونادراً ما يلاحظها القارئ، أنا حاولت أن أشتغل عليه، هو عمل معقد لكنه مهم جداً.

مشروعك؛ ألا تعتبر مشروعك التنويري ورؤيتك الجديدة للفكر العربي، قاصرة عن سرد سيرورتها التاريخية، حين أهملتَ دعوة النبي إبراهيم الخليل، وملاحظة أن سلالة إبراهيم كلها تقريباً من الأنبياء والرسل وأن الديانات الثلاث في المنطقة إبراهيمية؟

-د. تيزيني: أنا أخذت هذه الظاهرة في تمنهجها، في حالتها المكونة الأخيرة، يعني لم ألاحقها كما تكونت وتشكلت ماقبل البحث، ليس هذا التشكل، وإنما نهايات هذا التشكل كيف تُوظف في خدمة البحث الجديد، يعني هو نمط من إعادة منهجة المنهج، فلست بحاجة دائماً إلى العودة إلى الأسلاف، أحياناً لا بد منها في العودة في إشكالات كبيرة، في هذه الحالة أكتشف أنَّ هناك نقاطاً حاسمة تكفي، بحيث أننا لا نعود إلى تاريخيتها.

لكنك فعلت حين درست الإسلام بوصفه ديناً جديداً واعتبرته ثورة اجتماعية، دعني أسألك سؤالاً في هذا السياق أيضاً: أليس الفكر العربي الإسلامي هو امتداد لتطور حضارات المنطقة؟. أريد أن أستفسر منك عن إهمالك للحضارات السومرية والكنعانية والفينيقية والبابلية، وأركز على البابلية التي أعطت الدين اليهودي كثيراً من القصص والاعتبارات الأخلاقية، إضافة إلى أنَّ الإسلام أخذ عن اليهودية هذه القصص والاعتبارات الأخلاقية معظمها، إضافة إلى بعض الشعائر.

-د. طيب تيزيني: جميل. هذا أمر ما زلتُ أبتلعهُ في حنجرتي، أنا أعرف أنّي لم أتناول هذه الحضارات، لكنني أعرف أنَّ تناولها سوف يعود بي إلى مظان أخرى من بحثي، السومريون حضارة أسست كثيراً للعالم، العالم وليس الشرق فقط، لكن بحثي حفظته في مؤثرات هذه الحضارة أو على الأقل في بعض نتائج هذه الحضارة السومرية.

لو كان ثمة إشارات إلى دور هذه الحضارة أو الحضارات في بحثك.

-د. تيزيني: المؤشرات أتت في المؤثرات.

في بحوثك تستطرد كثيراً، درجة أنَّ القارىء أحياناً يتلكأ في الفهم، طبعاً أفهمُ أنَّ سبب هذه الاستطرادات هو عمق تفكيرك وغزارة معلوماتك، وضبط بحثك وإغناؤه في مقامه وسياقه، لكن بعضهم يقول إنَّ هذه الاستطرادات تضيّع عليه الفهم.

نعود إلى حوارنا حول هذه الحضارات وتأثيرها في الإسلام تحديداً الذي هو مدماك الحياة العربية اليوم ومنذ ظهور النبي محمد، فالإسلام أيضاً تأثر باليهودية والمسيحية، واليهودية تأثرت بالحضارات السابقة، ثم إنَّ من تأثير اليهودية في الإسلام، قضية الإسرائيليات في الإسلام، أنت أغفلت هذا الموضوع. صحيح؟

-د. تيزيني: أردت في البدء ألا أشتغل على البدايات، أنا أريد… عندي هذا الهدف، هو هذه المنطقة، العودة إلى ما قبلها يحتاج إلى سنين مديدة، يحتاج إلى مركز دراسات، وبالمناسبة ابنتي منار ستكون مديرة مركز دراسات جديد في دمشق، مُؤسس في بيتي هناك.

مركز الدكتور طيب تيزيني للدراسات والأبحاث؟

-د. تيزيني: مركز ستأتي تسميته لاحقاً، ستكون الرؤية كاملة، ابنتي منار مديرة المركز، وابني قصي سيكون رئيس قسم الإعلام في هذا المركز.

في الحلقة المقبلة.. كثير من المؤجل الذي لم يقل وسيقال.

————————————————

الحلقة الثالثة

إنَّ مشروعك التنويري يهدف إلى كتابة تاريخنا من جديد، ودافعهُ كما كتبتَ في “ملاحظات حول مسألة تقويم جديد لتراثنا العربي الاسلامي ولما ‏كتب حوله” هو “الانتقال من المجتمع الإقطاعي- الرأسمالي المتخلف والقاصر إلى المجتمع الاشتراكي الجديد” وتحدثتَ عن ضرورة تجاوز ‏التجزئة القومية في الوطن العربي حيث قلت أو كتبت: ” هذا يعني أنَّ مجابهة “التخلف” الاجتماعي و”التجزئة” القومية في وطننا العربي لا ‏تشترط فقط تثوير القطاعات الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية والسياسية، وإنما تقتضي أيضاً وبشكل ضروري، ثورة ثقافية منظمة ‏ومخططة تتمثل تراثنا الفكري الايجابي…”السؤال: ما هو تصورك السياسي للانتقال من هكذا مجتمع إقطاعي- رأسمالي؟ أية قوة طبقية ستقوم ‏به على أرض الواقع؟ وبمعنى أدق، أية قوة سياسية؟، خصوصاً أنك تدعو إلى إقامة مجتمع اشتراكي جديد، وتدعو إلى ثورة ثقافية.. هل كنتَ مع ‏موضوعة طريق التطور اللارأسمالي كما طرحها السوفييت؟ هل ناديت بالثورة الثقافية متأثراً بثورة ماوتسي تونغ الصينية؟

د. تيزيني: الحقيقة هذا السؤال مركب يتصل بالمرحلة كما قبلها، كما ما يأتي، هناك مسألة أخرى تخليت على أساسها عن الهدف مما أطمح إليه، ‏هذا الهدف الذي أطلقت عليه اسم: المجتمع الاشتراكي، تركته في رحم الحوار والتحول، خصوصاً بعد الأحداث العالمية التي حدثت، جعلتني ‏أرجئ المسألة، أرجئ إنهاء الحديث عنها لمرحلة قادمة أرجو أن أعيشها، ولذلك كتبت بعد هذا النص نصاً آخر ألخصه بمسألتين كبريين، الوحدة ‏والديمقراطية، وحدة الشعب في القطر الواحد، والوحدة العربية، يعني هذه المسألة تظهر الآن وكأنها هي المدخل إلى النعيم الأعظم: الوحدة‎..‎

وحدة القطر الواحد؟ أم وحدة الأقطار العربية تقصد؟

د. تيزيني: وحدة القطر الواحد، ووحدة الأقطار العربية، ما يحدث الآن صدَّعَ وحدة البلدان العربية‎..‎

ما يحدث سيؤدي إلى تفتيت القطر الواحد

د. تيزيني: بالضبط هذا ما عنيته، لذلك حديثنا السابق عن وحدة العالم العربي مازال صحيحاً، ولكن أضيف إليه وحدة كل قطر على حدة، بحيث ‏تأتي متناغمة قابلة للعيش المستقبلي‎..‎

عبد الناصر.. أي خطأ هائل حدث؟

نعم فوحدة الأجزاء تعني وحدة الكل، وصحة الأجزاء تعني صحة الكل أيضاً‎.‎

د. تيزيني: نعم، هذا الجديد أرجعني إلى ما كان عليه أن يحدث قبلَ، ربما قبلَ قَرْن، منذ القرن التاسع عشر، لم يحدث، والمشكلة أنَّ هذا الهدف ‏الأعظم وحدة عربية، مشروط بجزئياته، وجزئياته بدأت بالتصدع ونعيش الحالة، فأنا في طور إعادة النظر للفكرة، واعتبرت أنَّ الديمقراطية ‏شرطاً أساسياً لتحقيق الأمرين، الوحدة الجزئية في القطر الواحد، والوحدة بين الأقطار العربية. والديمقراطية هنا شرط حاسم لصيق بالأمرين، ‏وحدة القطر ووحدة الوطن، وأظن أنَّ هذا الأمر ليس غير قابل للتحقيق، إنه في الإمكان النظر إليه من موقع ما يحدث في العالم كله. أنا انشغلت ‏كثيراً بما تحقق تحت اسم الوحدة بين سورية ومصر وكتبت مجدداً الكثير عن ذلك، وتبين لي ماكنت أخمنّه من قبل أنَّ خطأ هائلاً كان قد حدث ‏وتمثَّل في مشروع الراحل عبد الناصر، عبد الناصر كان قائداً وطنياً لاشك، لكن فاته هذا الأمر الهائل الكبير، النضج في الداخل كي يتسنى ‏للمجموع أن يتحقق ضمن الهدف الأكبر، كان يظن‎..‎

كان يظن أنَّ الوحدة تقوم وتكتمل بقرار سياسي

د. تيزيني: نعم، قرار سياسي، ومع ذلك بدأ بداية مؤسفة جداً، اشترط على سورية أن تنتهي الأحزاب الموجودة فيها، أن تتفكك، فقتل المشروع، ‏كان ذلك مقتلاً للمشروع الوحدوي بين البلدين، هذه هي المعطيات التي استجدت بعد التجربة الأليمة السابقة، صار تحقيق وحدتها محتملاً ضمن ‏أوليات تسير لمشروع هادئ، نحن لسنا متسرعين فيه، ولكن بدأنا نهتم بما كنا نعتقد أنَّه أصبح خارج الاهتمام الحاسم، إنه الاهتمام بالقطر العربي ‏الواحد، يعني هنا الحديث عن الأقطار العربية، إنَّ كل قطر يجب أن يؤسس لذاته ويؤسس للطريق الذي يُفضي به إلى الآخرين، وهذا مشروع ‏جديد أعتقد أنه استمرار لمشروع الوحدة السابقة، لكن هناك معطيات جديدة جدَّت بعمق، وتتمثَّلُ في مشروطية الوحدة الوطنية ضمن القطر ‏الواحد، ولاشك أنَّ هذا الآن ظهر معقداً حتى الحد الأدنى ضمن الرؤية التي استجدت في العالم العربي، وخصوصاً في سورية والبلدان الأخرى ‏مثل العراق‎..‎

ومصر واليمن وليبيا

د. تيزيني: نعم ومصر وليبيا وربما الجميع‎.‎

اسمح لي يا سيدي أن أستعرض انتقادك للعديد من المستشرقين والباحثين العرب، في استخراج وتطوير رؤية علمية حول العهد العربي الاسلامي ‏الوسيط، حيث عزيتَ ذلك الفشل بداية، بأنَّهم لم يحوزوا على رؤية علمية تاريخية لأنهم انطلقوا في أبحاثهم من أطر فلسفية أو غيبية ساذجة، ثم ‏تشير إلى اتجاه تجديدي بسبب ظهور بوادر العلاقات الانتاجية الرأسمالية التي تناقضت مع العلاقات الاقطاعية القديمة المتخلفة والمتبلدة كما ‏وصفتها، ثم تستدرك أنَّ هذا الاتجاه التجديدي قد تم ضمن تواطؤ تاريخي بين البرجوازية المدنية الناشئة وإقطاع الريف… وبالتالي فإنَّ ‏‏“البرجوازية” لم تطرح نفسها، من حيث هي “طبقة اجتماعية” عبر ثورة صناعية وايديولوجية وأخلاقية. لقد ظلت تتحرك ضمن الأطر العامة ‏للوجود الاقطاعي، ولم تشكل هويتها الخاصة…السؤال: مع اعتراضي على تعبير” تواطؤ تاريخي”، هل كانت الاقطاعية في شرقنا متميزة ‏كتشكيلة اقتصادية اجتماعية بالمعيار الماركسي؟، وهل كانت البرجوازية كذلك؟ حتى عندما بدأت تتشكل الرأسمالية هل كان هناك تناقض ما بين ‏قوى الانتاج وعلاقات الانتاج، وهل تشكلت البروليتاريا العربية؟ وهل كان لها طليعة حقيقية؟

د. تيزيني: هو سؤال ربما أقرأهُ الآن بسؤال آخر يعيد بناء السؤال الأول، إنَّ الوجود البرجوازي في العالم العربي، خصوصاً في بعض الأقطار ‏العربية الناضجة فيها هذه المسألة، لم يكتمل، لا من الداخل ولا من الخارج، كان هناك حركات خفيفة تحدث في الأقطار العربية تناوئ التحول إلى ‏محور تاريخي جديد، وكانت مرتبطة بالخارجي كما بالداخل، أي المشروع الاقطاعي، فكلا الموقفين حالا دون تحقيق السير إلى الهدف المعني ‏هذا، الذي يأتي بعد البرجوازية، ظهر أنَّ هذه البرجوازية لم تكن تعي رسالتها، أهدافها، كانت تتلطى تحت عباءة العلاقات الاقطاعية‎..‎

والعشائرية‎..‎

د. تيزيني: والعشائرية، كل ما سبقها تقريباً، بحيث أنَّ مشروعها ظلَّ عاجزاً حتى النهاية، النهاية التي ظهرت مؤخراً خصوصاً في المرحلة التالية ‏وهي: إنَّ الحروب الداخلية العربية أصبحت بديلاً عن كلِّ ما مرّ في العالم العربي‎.‎

يا دكتور طيب، صار هناك قطع تاريخي، لم يُتح للبرجوازية أن تستمر في مشروعها، ومُنِعت من أن تمتلك وسائل الانتاج، لذلك من الطبيعي جداً ‏ألا تكمل دورها وألا يكون هناك لها مشروعها الخاص، حين استلمت البرجوازية الصغيرة الثورية مقاليد الحكم في معظم دول المشرق العربي، ‏أو بقيت بعض الدول العربية أسيرة المَلَكِيَّات والمشيخات والأمارات‎.‎

د. تيزيني: كأننا الآن لخصنا تاريخنا بالعودة إلى ما قبل البرجوازية، ما قبل البرجوازية بمعنى أنَّ هذه الطبقة التي يتسنى لها تحقيق الحد الأدنى ‏للانتقال إلى علاقات تفضي إلى وحدة الأوطان العربية داخلياً، حتى هذا الأمر تصدَّع، تصدَّع بقوة، ومن داخل الأوطان أو البلدان العربية، ‏والشيء الخطير أنَّ هذا التصدع صار بمشاركة الخارج، الخارج الذي أسهم بقوة بعملية التصديع‎..‎

يا دكتور المنطقة العربية، وطوال عمرها، تتأثر بالخارج، خذ مثلاً المناذرة والغساسنة وتبعيتهما للفرس والروم، كأنَّ قَدَر هذه المنطقة أن تكون ‏بشكل من الأشكال تابعة للخارج أو أنها متأثرة جداً بالخارج‎.‎

أيقونة التاريخ، لكن هذه الأيقونة في أيدي غير قادرة على حمايتها‎.‎

د. تيزيني: نعم هذه هي مأساة العالم العربي، إنّه عالم يتمنى الآخر أن يمتلكه بالحرب وبدون الحرب، وهذا ما عشناه ونعيشه الآن، وأوقف ‏المشاريع كلها تقريباً، فالبداية، حتى الآن، لا ندري من أين؟، حتى الآن لَمَعَان الحرب هنا وهناك وهنالك أصبح هو سيّد الموقف، هذه مأساة العالم ‏العربي، كما كان سابقاً، ويبدو لأنَّ الأمر قارب المثال الذي يتَمَثَّلُ بشيء جميل نادر في الوجود، تنظر إليه العيون كلها، وهو محطّ النظر العالمي، ‏فعلاً اكتشفنا، خصوصاً في المرحلة هذه، أنَّ العالم العربي عالم مطلوب من الجميع لأنه عظيم وجميل، إنَّه أيقونة التاريخ، لكن هذه الأيقونة في ‏أيدي غير قادرة على حمايتها‎.‎

تحدثتَ عن أنَّ عالمنا مرغوب من الآخرين أو أنه مرغوب باحتلاله أو مطموع به، لكن هناك الشيء الداخلي في العالم العربي، وفي الحضارة ‏العربية الاسلامية عبَّرَ عنها مكسيم رودنسون بنظرية المركز والدائرة‎.‎

د. تيزيني: بالضبط.. بالضبط

هذا عن الداخلي، عدا عن الأطماع الخارجية التي ذكرتَها أنت‎.‎

د. تيزيني: الدائرة هنا اتسعت، أصبحت دائرة كونية، صارت ملحقة بالكونية، والفعل الداخلي أصبح مُغَيَّباً، مغيباً إلا إذا كان مناسباً لتحسين رؤية ‏الحالة الجديدة، تحسين هذه الرؤية، بمعنى قد اختصَّ بنا، أن ننظر إلى الداخل كأنه ملحق بالخارج، وإلى الخارج كأنه سيد الداخل، هذا ما نعيشه ‏الآن وهي المأساة العظمى التي لم يعشها العالم العربي في تاريخه أبداً‎.‎

لكن ياسيدي، يداك أوكتا وفوك نفخ، فمنذ اجتماع سقيفة بني ساعدة، بدأت مشكلات هذه الأمة، حين قال الأنصار للمهاجرين: مِنَّا أمير ومنكم أمير، ‏ولم يلتفت المهاجرون إلى الأنصار، ولذلك ولأسباب أخرى تتعلق بالسلطة لا مجال هنا لذكرها، قُتل ثلاثة خلفاء: ابن الخطاب وابن عفان وابن ‏أبي طالب، واستمر القتال والقتل، حتى أنك تستطيع أن تستنتج ببساطة أنَّ تاريخ الاسلام والعرب هو تاريخ القتل. هل كانت الصراعات حادة إلى ‏هذه الدرجة العنفية؟ هل أثرت القبلية والعشائرية والبطون والأفخاذ فيها؟ هل تأثرت بالفرز الطبقي؟ هل تأثرت بالشعوبية وبأطماع الخارج؟

د. تيزيني: هي صورة قاتمة، صورة قاتمة لا أتمنى أن تصحَّ حرفياً فيما نحن فيه، لكن في الواقع قائمة، يعني الألم ازداد بكيفية هائلة غير مسبوقة، ‏الألم الذي نشأ في مرحلتنا الراهنة في العالم العربي سبق كل أحداثنا، وأصبح هذا الألم جزء من واقع الحال، ولكن يبدو أن الواقعة بدأت تقع وهذا ‏ما يبشِّرُ بشيء جديد، إنَّ نقض الداخل، هذه حركة جديدة، قد تكون هي الرهان، قتال الخارج علينا لأجلنا، رهاني أن يتحول قتال الخارج إلى قتال ‏في الداخل حولنا، حول المشروع الوطني الديمقراطي، الآن هذا المشروع الوطني التوحيدي لم يعد محتملاً إطلاقاً دون الديمقراطية التي تضبط ‏تلك الخطوة، تضبطها ضمن قانونية الديمقراطية وخصوصاً القوانين الأساسية وفي طليعتها قانون الحكم الديمقراطي، تبادل العملية بحيث نجد ‏دائرة من التقدم إلى الأمام، عملية التقدم توقفت، بدأت تظهر كل ثلاثة أو أربعة أو خمسة عقود، يعني كل هذه العقود التي تمثل تاريخ قائد من هؤلاء ‏القواد، فالآلية، آلية الوجود والتقدم تحولت بشكل كبير، أنت أصبحت الآن محاصراً بحركة لا تُرى أحياناً، لأنها تغصُّ قبل أن تتحرك جزئياً، ‏والتجارب التي نعيشها الآن هي المصداقية على هذا الأمر، إنَّ الديمقراطية أصبحت ملازمة لعملية أي تغيير داخلي في أي قطر عربي، هذا هو ‏واقع الحال الذي دخلنا في غماره ونعيشه الآن، نعيش مأساته العظمى، في داخلنا وفي العالم. لقد صدَّرنا عالمنا المتفسخ إلى الخارج، وذهب ‏الآخرون كي يقدموا تجربتهم ويتعلموا تجربة أخرى، إنها مأساة الوطن العربي‎.‎

طيب دكتور تيزيني، التقدم الذي نوهتَ إليه والذي نحتاجه جميعاً كسوريين وكعرب، يصطدم بقوى في الواقع، قوى اقتصادية واجتماعية ودينية ‏وثقافية، هذه القوى مختلفة، لكنها في معظمها أو جلّها تقرأ التراث قراءة مختلفة عن القراءة الجدلية الموضوعية.. أعود قليلاً إلى الوراء لأستذكر ‏وأسأل: إذا كان مفكرو ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى أواخر الستينات في القرن الماضي قد انقسموا في تقييم الفكر العربي الاسلامي، ‏فبعضهم أكد على تقديس هذا الموروث مثل محمد البهي في كتابه “الفكر الاسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي”، وآخر صنفه تصنيفاً مثالياً ‏كأحمد أمين في “فجر الإسلام، وضحى الإسلام، وظهر الإسلام” وآخر كطه حسين الذي أكد بشكل ما غير دقيق على الطابع الجدلي للتطور ‏الفكري، أما سلامة موسى فقد نادى بالقطيعة مع التراث العربي الإسلامي. إلا أنَّ مفكرين جدد بدأوا بدراسة هذا التراث دراسة منهجية علمية مثل ‏د‎. ‎طيب تيزيني وعابد الجابري ومحمد أركون وهشام جعيط وجورج طرابيشي وطبعاً بالإضافة إلى محاولة حسين مروة في كتابه “النزعات ‏المادية في الفلسفة العربية الاسلامية”. السؤال: هل تعتبر محاولة حسين مروة في المآل محاولة انتقائية ودعائية لليسار العربي؟ ما الذي يميزه ‏عن أولئك الذين يكتبون في الإعجاز العلمي في القرآن؟ وأحتفظ لنفسي بسؤال ضمن المقام والسياق بعد إجابتك‎.‎

د. تيزيني: سؤال مُرَكَّب، يعني ثمة واقعة ربما غابت كثيراً عن معظم الكتاب والمفكرين وهي: ضرورة تحديد السياق التاريخي للفكر العربي كما ‏للفكر الإسلامي، العالم العربي أولاً تميز بعروبته، التاريخ ما قبل الإسلام وما قبل النزاعات كلها التي بدأت تنمو في العالم العربي، هذا يعني أنَّ ‏صيغة محددة بدأ بها العالم العربي، عروبته، الفكرة حاسمة لذلك لم‎..‎

لم يبق مفهوم العروبة صافياً يا دكتور، منذ ظهور الإسلام ارتبطت العروبة بالإسلام والإسلام بالعروبة

د. تيزيني: صحيح، لكن بداياته، ارهاصاته، وجودهم قبل الإسلام، يعني سيظهر الحديث علانية مع الإسلام، يعني الإسلام كان له الفضل في إبراز ‏العرب، هنا الفضيلة العظمى للإسلام‎..‎

باعتباره حركة ثورية اجتماعية دينية

د. تيزيني: نعم، دينية، هذه الدينية كانت مُتمثِّلة في الموجود تاريخياً، إنهم العرب وآخرون‎..‎

الإسلام أعاد صياغة الواقع العربي في تلك الأيام، يعني ثمة شعائر وعادات عربية أخذها الإسلام من الجاهلية وثبتها كبعض شعائر الحج، ‏الطواف والسقاية والرفادة والسعي والإحرام والتحلل، وأخذ من اليهودية قصصها وبعض ما حللته وبعض ما حرَّمته، وصوَّب في المسيحية ‏قصة قتل وصلب المسيح، ونفى موضوعة الفادي المُخلِّص، وأعادها إلى الخلاص الفردي بصحة الإيمان والعبادة، بمعنى آخر أخذ مجموعة من ‏الأنساق السائدة وأعاد ترتيبها وتأويلها بشكل مختلف وصاغها عربياً وسمَّاها الإسلام‎.‎

د. تيزيني: جميل، لكن الواقعة الأساسية هنا، كي نكسب الأمرين كليهما، العروبة والإسلام، الواقعة الأساسية أنَّ الإسلام أتى ونظَّرَ للعروبة، ‏الحامل الاجتماعي للإسلام، كان العرب‎..‎

طبيعي دكتور، لأنه نشأ في المنطقة العربية

د. تيزيني: طبيعي طبعاً، لذلك هذا الحامل الاجتماعي الذي بدأ يتصدَّع شيئاً فشيئاً حتى مرحلتنا لابد من العودة إليه، لن تستطيعَ أن تُنتِجَ مشروعاً ‏وطنياً بالاستعارة من الآخرين وجوهاً ما، لكي يقومون بهذه المهمة الداخلية، إنَّ الداخل نفسه هو المنوط بذلك المشروع: إعادة بناء الفكر العربي ‏في محايثة مع الإسلام نفسه. الإسلام كان له أهمية عظمى، كان بَعَّاثاً وباعثاً القدرة على الحركة في وسط عربي‎.‎

طيب ماذا فعل هؤلاء المفكرين الذين ذكرتهم لك: طيب تيزيني، عابد الجابري، محمد أركون، هشام جعيط، وحسين مروة الذي كان يمثل اليسار ‏العربي، حيث كان في كتابه ” النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية” كمن يبحث عن ذرة ذهب في جبال من قش؟

د. تيزيني: هنا أظن، وهذا محتمل ما سأقوله، مرحلة ما قبل الإسلام أُكمِلَت من المفكرين والكتاب إلا نادراً، لم يُنظر إليها بمثابتها حاضنة اجتماعية ‏تاريخية قادرة‎..‎

هو شيء مقصود يا سيدي، لأنهم أرادوا إبراز الإسلام بطمس وتغييب وتسفيه مرحلة ما قبل الإسلام

د. تيزيني: هذا ما يهمنا الآن، أن الإسلام انتشر بالأساس بالعربية، فالعرب هم الذين كانوا أساس وجود الإسلام، العودة الآن إلى هذه الحاضنة ‏التاريخية وقراءتها من جديد في سياقها التاريخي الذي أفضى إلى الإسلام، هذه حالة جديدة هامة. هناك كتابات كثيرة ربما تتكلم عن هذا الأمر، ‏الآن نشعر بحالة مأساوية، لا الإسلام ولا العروبة استطاعا أن يعملا شيئاً ضمن هذه الظروف الهائلة في تخلفها وفي صراعاتها الدموية‎.‎

إذاً، نحن بحاجة إلى بحث، معرفي ومنهجي، عن ميراثنا ما قبل الإسلام وما بعد الإسلام‎.‎

د. تيزيني: بالضبط. لماذا فشل الفريقان حتى الآن؟ لماذا؟ هذا هو السؤال الآن‎.‎

ما وقع فيه الآخرون أنا وقعت فيه أيضًا‎.‎

في بحثه المعرفي انتقد محمد عابد الجابري العقل العربي، بينما ذهب محمد أركون إلى نقد العقل الإسلامي، واكتفى هشام جعيط بالتركيز على نهج ‏اختبار الوثائق والنصوص ودراستها بشكل موضوعي… السؤال: ماهي ملاحظاتك على مناهج ومواضيع الجابري- أركون- جعيط؟، وما الذي ‏يميز مشروعك التنويري النهضوي عن هؤلاء الثلاثة؟ وأين تلتقي أو تفترق عنهم؟

د. تيزيني: في الحقيقة هذا سؤال إشكالي، يعني ما وقع فيه الآخرون أنا وقعت فيه، لقد لامستُ الفكر العربي قبل الإسلامي، لكن بمثابة درجة ‏تُؤسس للدخول في الخطوة التالية، خطوة نشأة الحضارة العربية الإسلامية، أهمَلتُ إلى درجة ليست ضئيلة ما قبل هذه الخطوة، التكوين العربي ‏قبل الإسلامي، هذه التي نشترك فيها جميعاً، أولئك ركزوا عليها كثيراً، أنا لامستُ القضية كما أراها، كما عبرتُ عنها الآن، لكن لم أُخَصِّصُ بحثي ‏فيها، إنَّ عملي القادم يتمثَّلُ في بداية التاريخ العربي، هل كان قابلاً لأن يكون حاملاً تاريخياً لمشروع ما خصوصاً بعد نشأة الإسلام؟ هل كانت هذه ‏النشأة محفزة باتجاه التقدم؟ يعني هذا التلاقي بين العروبة والإسلام، أم كان شيئاً آخر؟ وأنا أظن أنَّه كان محفِّزاً‎..‎

في الحلقة الرابعة من‎:‎

عندما يحكي الطيب تيزيني الكلام المؤجل: “الجابري وقع في خطأ حاسم، خطأ معرفي، بالمعنى الابستمولوجي، اعتبرَ الفكر العربي هنا فكر ‏قاصر لم يستطع أن يرقى إلى مستوى العقل الغربي، هذا العقل الغربي الذي أسس له المستشرقون خصوصاً، ولذلك حين كتب عن هذه المسألة، ‏العقل العربي والعقل الغربي، اعتبر أنَّ العقل العربي كان هامشياً، لم يؤسس لبنية معرفية عربية متماسكة، وإنما كان يمثل شذرات وخواطر هنا ‏وهناك، العيب الأساسي فيه أنه لم يكن ذا بعد ابستمولوجي معرفي دقيق، هذا الذي غيّبه الجابري، لذلك دعا إلى الالتصاق بالفكر الغربي‎

———————–

الحلقة الرابعة

الجابري وقع في خطأ حاسم

أنا حذر في تسمية المفكر الجابري بهذه السمة، كان الجابري مفكراً أتقن أداة التفكير الغربي، وأراد أن يطبقه على الفكر العربي فوقع في ‏المفارقة‎.‎

في مرحلة ما، حين نشأت الدولة الأموية ومن ثم العباسية، حيث رُسِمت ملامح الحضارة العربية الإسلامية التي أفرزت علماء أجلَّاء ذكرتهم ‏أنت في مشروعك؛ في كتابك “من الاستشراق الغربي إلى الاستغراب المغربي – بحث في القراءة الجابرية للفكر العربي وفي آفاقها ‏التاريخية” تعتبر أنَّ التصورات البنيوية للعقل العربي التي وضعها الجابري تُمَثل أحد المعوقات الأساسية لفكر النهضة العربية. كيف؟

‎-‎د.تيزيني: هذا هو الخطأ الأعظم الذي وقع فيه مجموع كبير من المفكرين العرب، بدؤوا أبحاثهم ودراساتهم في ما بعد التشكل العربي ‏الإسلامي، واعتبروا أن بداية الحضارة تتمثل هنا، لم يولوا أهمية مركزية حاسمة لما قبل الإسلام، من هنا أحسستُ بضرورة العودة إلى ‏بدايات ما قبل المشروع الذي بدأت به أنا، إلى ما قبل الإسلام، لماذا لم يستطع الإسلام أن يوحّد، ولماذا لم يستطع العرب أن يوحدوا أنفسهم، ‏ظلت هذه الفكرة الحاسمة ترافق جموعاً هائلة من الكتاب والباحثين، فالجابري مثال على أهمية ما كتبه بالنسبة إلى الفكر العربي، كان هناك ‏خطأ خطر في ما ابتدأ به، إنَّ التحول الثنائي الذي أتى بين المسلمين والعرب، محاولات الدمج بينهما، المحاولات لم تثمر كثيراً، هذه عقدة، ‏عقدة كبيرة. كانت البداية تحتاج إلى عمل هائل، أن يكون التاريخ العربي ما قبل الإسلام حاسماً، لأنه أفضى إلى مرحلة الإسلام وإلى ما بعد ‏الإسلام بمراحل، معظمها أو كلها بشكل ما كانت مخفقة في ما نسميه الآن المشروع العربي‎.‎

لنتابع في ما طرحه الجابري، إن كشف الجابري لبنية العقل العربي اعتبر اكتشافاً للبنية الداخلية للمعرفة، من حيث كونها آلية ومفهومات ‏وأدوات وهذا الاكتشاف اعتُبِرَ بمنزلة تصنيف حديث للحيوانات بكونها فقرية أو لافقرية، وهذا مهم جداً لعلم البيولوجيا، وبذا أصبح تصنيف ‏العلوم والمعارف في الثقافة العربية الإسلامية ثلاثة علوم: 1-علوم البيان، 2-علوم البرهان، 3-علوم العرفان‎.‎

عدا أنَّ بعضهم اعتبر إنجاز الجابري بمنزلة خريطة تضبط المنطق والرؤية لدارسي التراث العربي الإسلامي. السؤال: ألا تقوم الثقافة ‏العربية الإسلامية على تلك الأركان الثلاثة (البيان والبرهان والعرفان)؟ كيف تقول في كتابك، “من الاستشراق الغربي إلى الاستغراب ‏المغربي” إنَّ الجابري “ينظر إلى الثقافة العربية ككل من طرف وأنَّه يميز فيها –من طرف آخر- ثلاث قطاعات يشكل كل منها حقلاً معرفياً ‏متميزاً يكفي نفسه بنفسه”؟، ألا يشكل الكل مجموع الأجزاء؟

‎-‎د. تيزيني: هنا دخلنا في مرحلة لاحقة، بعد العروبة ما قبل الإسلام‎.‎

دخلنا في مرحلة الإسلام، وتشكيل العقل العربي بعد الإسلام

‎-‎د. تيزيني: نعم، وقع الجابري في خطأ حاسم، خطأ معرفي، بالمعنى الإبستمولوجي، اعتبرَ الفكر العربي فكراً قاصراً لم يستطع أن يرقى إلى ‏مستوى العقل الغربي، هذا العقل الغربي الذي أسس له المستشرقون خصوصاً، ولذلك حين كتب عن هذه المسألة، العقل العربي والعقل ‏الغربي، اعتبر أنَّ العقل العربي كان هامشياً، لم يؤسس لبنية معرفية عربية متماسكة، وإنما كان يمثل شذرات وخواطر هنا وهناك، العيب ‏الأساسي فيه أنه لم يكن ذا بعد إبستمولوجي معرفي دقيق، هذا الذي غيّبه الجابري، لذلك دعا إلى الالتصاق بالفكر الغربي، يعني أحدث هذه ‏الهوّة بين التاريخ العربي وأوروبا ووجد طريقة ما للتلاقي بينهما، هذه الهوة، هنا قصور وهناك فضائل جديدة، فجمع بين التاريخين على ‏أساس يقوم على اللامساواة، من هنا وقع الجابري في هذه المسألة. إنَّ ما نسعى إليه الآن أن نسدَّ هذه الهوة التي وقع فيها الجابري وآخرون ‏كثيرون من العرب والأوروبيين، هذه الهوة، في ظني، تتمثل القدرة على سدّها على الأقل في الحد الأول بالعودة إلى ما قبل الإسلام، دراسة ‏الفكر العربي قبل الإسلام الذي حُصِرَ في فكر شِعري، يقوم على الشِّعر، لكن القضية النظرية الفكرية غُيّبَت، لم يكن هناك بحسب الجميع ‏تقريباً، فكر عربي، كان هناك فكر أو نسق شعري كان عاماً بصورة تامة، لذلك ما قبل الإسلام اعتبر بدايات أولية تأسيسية بمعنى ما، لما ‏سيأتي لاحقاً، ومن ثم أوقعنا الجابري في هوة وهي الدعوة إلى تمثل الفكر الأوروبي، هذه الدعوة كانت أساسية عنده، نحن قاصرون كفكر ‏عربي، المتقدم هو الغرب، هذا عن الجابري لكن المفكرين الآخرين لم يأخذوا هذا الموقف الجابري الحاسم، كانوا مختلفين في مسيرهم، مثلاً ‏الدكتور أركون كان نشيطاً في اكتشاف هذه المسألة، لمَّاحاً في العودة إلى ما قبل الإسلام‎.‎

وجواد علي له فضل عظيم أيضاً

‎-‎د.تيزيني: نعم، جواد علي مؤرخاً، هناك كتاب كثر، مؤرخون كتبوا عما قبل الإسلام، لكن أغفلوا الوجه النظري الفكري فيه، وألحّوا على ‏الوجه الشعري‎.‎

سؤال أخير حول نقدك للخطاب الجابري. اشرح لي النتيجة النهائية لنقدك للخطاب الجابري بقولك: “خطاب أيديولوجي مُمَعرَف، وخطاب ‏معرفي مؤدلج”؟

‎-‎د.تيزيني: صحيح. كان الجابري رجلاً مجتهداً، وكان صديقي، ومع ذلك أحسست أنّه غمط حق الفكر العربي، فهو وضع يده على مسألة ‏أساسية هي أنّ الفكر العربي وما قبله كان مغموراً في الأيديولوجيات‎.‎

هل كان هناك أيديولوجيات؟

‎-‎د. تيزيني: الأيديولوجيات ليست المتقدمة التي نعيشها الآن، أظن أنّ الفكر العربي جزء منها‎.‎

من أي أيديولوجية ينطلق الجابري؟ أنت تقول عن خطابه إنّه أيديولوجي مُمَعْرَف

‎-‎د.تيزيني: الأيديولوجية هنا الدينية، أظن أن الفكر العربي نشأ فيها وظل فيها، ولم يتخلّص منها لا على أيدي الفلاسفة ولا على أيدي ‏المفكرين، يعني هذا الخط البياني المتصاعد في الفكر العربي ما قبل الفلسفي، علم الكلام وغيره وإلى ما بعده، اعتبرَه سيرورة أيديولوجية ‏واحدة، ومن ثم بدأ بوضع يده على القضية المعرفية في التاريخ العربي، فتنبّه إلى ضرورة اكتشاف هذه اللحظة وتعميمها، لكنه بدأ بتطبيقها ‏على الفكر العربي بإزاحته من اللوحة المعرفية، إنه فكر أيديولوجي ما قبل المعرفة، هذه هي الفكرة التي وقع فيها الجابري‎.‎

ألا تظن أن الجابري ينطلق من نسق شخصي في التعالي على الشرق، إذ يعتبر أنَّ المفكرين في الشرق العربي هم مرتزقة ليس من هدفهم ‏الأبحاث الجدية بل هدفهم راتب آخر الشهر، بينما يكتب المفكرون في المغرب العربي في المعرفة ويتسلحون بقربهم من الغرب باستخدامهم ‏منهجاً معرفياً غربياً؟‎.‎

‎-‎د. تيزيني: أظن أنني سأكون أقل نقداً من هذا الذي سمعت‎.‎

ما الذي أطاح مشروع محمد عابد الجابري؟

هو يتهمك باعتبارك مفكراً من الشرق العربي، أنك مرتزق تكتب فقط للمحافظة على راتبك الشهري‎.‎

‎-‎د.تيزيني: يعني أنا حذر في وسم المفكر الجابري بهذه السمة، الجابري كان مفكراً أتقن أداة التفكير الغربي، وأراد أن يطبقه على الفكر ‏العربي فوقع في هذه المفارقة، ربما كانت بداية المفارقة أنه ظن أنَّ ما سبق الفكر العربي هو ما أسَّسَ له، أي الفكر الديني، يعني أن الإسلام ‏أسس للفكر العربي بالصيغة الدينية، وقع في هذه المسألة ولم يُدرك أنَّ الإسلام قدَّم إرهاصات للتفكير العربي، وَضَعَ سدَّاً منيعاً بين الفكر ‏العربي والفكر الإسلامي واعتبرَ أن الفكر العربي امتداد للفكر الإسلامي الأيديولوجي، وهذا ما أطاح مشروعه معظمه، لأنه جعل الفكر ‏العربي ربيب الغرب، حالة من حالات المحاولة لاستلهام كل شيء من الغرب على أساس أنه يملك الحقيقة، لذلك أنا في موضع الشاعر ‏الأوروبي الذي قال: الشرق شرق، والغرب غرب ولا يلتقيان‎.‎

كالخطين المتوازيين في الرياضيات‎.‎

‎-‎د. تيزيني: نعم‎.‎

لنعد إلى مشروعك. بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وتسلّم الولايات المتحدة الأمريكية قيادة العالم وبداية هيمنة العولمة، أعدتَ النظر في ‏مشروعك النهضوي وجعلتَ عنوانه: من التراث إلى النهضة بعد أن كان من التراث إلى الثورة، وركَّزتَ على أنَّ الحامل الاجتماعي في ‏مشروع النهضة – الحلُم هو “الحامل المجتمعي الذي يتمثل الأمة من أقصاها إلى أقصاها أي من أقصى اليمين القومي الديمقراطي إلى ‏أقصى اليسار الوطني” وهذا التحوّل في مشروعك ساوقه طرحك للنظر إلى العلاقة بين الدين عموماً والنص القرآني خصوصاً، في ‏مشروعك الجديد، شيء ما يشبه اليوتوبيا الأفلاطونية. أليس في مشروعك الجديد بعض الشطح – الحلُم؟‎.‎

‎-‎د.تيزيني: في الحقيقة قد يبدو الأمر هكذا، لأنه أتى في مرحلة كان فيها الموقف السابق راسخاً في أوساط كثيرة من المفكرين والكتاب ‏العرب، وجاء هذا الموقف الجديد، فاعتُبر حالة من حالات الشطح المعرفي، الخروج من سياق إلى سياق آخر، بعد إطاحة ما سبق، أو ‏مقدمات لما أتى بعد في تاريخنا ذاته، إنَّ الانتقال من هذا إلى ذاك جاء بعد سقوط الاتحاد السوفياتي الذي أظهر مسألتين كبيرتين كمنتا وراء ‏سقوطه، المسألة الأولى، أنه أغفل الديمقراطية العصرية.. ولم‎..‎

ما تبقّى فكر القائد، هذا الذي يبقى قائدًا حتى ما بعد الموت‎.‎

العصرية تعني بها الغربية دكتور؟ فهناك ما يسمى أدبياً الديمقراطية الاشتراكية‎.‎

‎-‎د. تيزيني: لنقل الديمقراطية الليبرالية التي كان يمكن الشغل عليها باتجاه المستقبل، أي باتجاه اشتراكي، هذا الأمر لم يجرِ، فظل فكر القائد ‏والفكر القائد، والآخر غُيّب نهائياً، يعني كان الحزب الشيوعي هو الحزب المهيمن والوحيد، وهذا ظهر في البلدان الاشتراكية الأوروبية ‏أيضاً مثل ألمانيا و‎..‎

رومانيا- تشاوشيسكو، وكوبا- كاسترو

‎-‎د.تيزيني: نعم رومانيا وكوبا. وأمثلة كثيرة، هذا الذي يبقى قائداً حتى ما بعد الموت، حتى إذا مرض ووصل حدّ الموت يبقى، كان هذا من ‏علّات الاتحاد السوفياتي، ففكرة التجديد، التطوير، التنويع غُيّبت للأسف‎..‎

تلك أمة قد خلت، هي مرحلة وذهبت. أنتَ الآن بصدد كتابة مشروع جديد، بل إعادة النظر إلى مشروعك حقيقة وليس كتابة مشروع جديد، ‏فكثير من الثوابت في مشروعك ما زالت صحيحة وصالحة، لكنك بحسب ما أرى تشطح كثيراً باتجاه الوحدة، إذ تركّز على الوحدة القطرية ‏والوحدة العربية كما تحدثنا هنا من قبل، أظن أنَّ ما طرحتَه بعيد المنال‎.‎

‎-‎د.تيزيني: هنا تساؤل، واقع هذه الأقطار العربية، في أي اتجاه يُحَفِّزُنا؟ باتجاه أي تقدم؟‎.‎

فكرت في هذه المسألة طويلاً وقد أكون مخطئاً، ولكني ظننتُ أنني قاربتُ حدَّاً من حدود الصدقية، وأنَّ هذه البلدان المتعثرة تعثراً هائلاً، ‏والتعثر يُنتجُ التعثر، ليس فقط مرحلة من تاريخ التعثر، وإنما هو مرحلة في اتجاه تأسيس بديله الأكثر اضطراباً، فهذا ما يفضي به إلى الإنهاء ‏وجعله جزءاً من تاريخنا؟،

فكَّرتُ ووجدتُ ألّا وجود لأداة أخرى أكثر من التوحيد، التوحيد الداخلي، التوحيد السياسي وليس توحيد البشر، التوحيد الديمقراطي. ‏الديمقراطية هي الأداة التي تقوم على توحيد البلد الواحد، كما على توحيد البلدان العربية مجتمعة، فلا خطة أنَّ هذا هو الحل المحتمل، ‏وليس هناك حدّ آخر مستقبلي، لم يُكتشَف في التاريخ العالمي غير هذين الحلّين، جربنا التفكير ما قبل الإسلامي، وجرّبنا الفكر الإسلامي ‏أيضاً، وما زلنا نعيش هاتين المرحلتين‎.‎

وجرّبنا الفكر الماركسي‎.‎

‎-‎د.تيزيني: والماركسي والعالم الآخر، ولم يأت شيء

التبادل والتقدم يبدأ مع موت كل زعيم

وفشلت هذه المشروعات كلها‎.‎

‎-‎د.تيزيني: فشلت، ليس هناك حلّ يتجاوز واقع الحال، الحل لا يأتي من الخارج، ولا يأتي عبر تجربة فاشلة في الداخل، فالأمران كلاهما؛ ‏الداخل والخارج لا بد من تجاوزهما، الديمقراطية هنا تُمثّل الخلاص، الديمقراطية التي تقوم على قواعد أساسية، المبدأ الأساسي هو التبادل ‏التاريخي المفتوح أمام التقدم والتطور، التبادل والتقدم، هنا التبادل والتقدم يبدأ مع موت كل زعيم‎.‎

موت عقلية. مات زعماء كثيرون، وجاء بعدهم زعماء جدد، لذلك أنا أقول موت عقلية، حين تموت العقلية تغيب فكرة الزعامة‎.‎

‎-‎د.تيزيني: نعم، تجسَّد هذا في بشر، يعني هذا المصير التاريخي قضى على الإرهاصات الأولى التي تكونت بطريقة أو بأخرى في هذا البلد ‏العربي أو ذاك، حتى أصبحت من التاريخ، وجاءت مشروعات انقلابية أطاحت ما تبقى وحوّلت العالم العربي إلى فسحة من خيبات الأمل، ‏التي لا نستطيع أن نمسك بها لأنها فقدت الاحتمالات كلها، أصبحت طيشاً مبعثراً، خصوصاً بفعل الخارج، لكن الخارج لم يستطع ذلك من ‏دون أن يكون الداخل قابلاً لذلك‎.‎

في الحلقة الخامسة من: عندما يحكي الطيب تيزيني الكلام المؤجل‎.‎

مراجعة التجربة‎

———————————-

الحلقة الخامسة

مراجعة التجربة

الطيب يسأل: السؤال الكبير.. ماالعمل؟ حين تحولت الحرب إلى حرب مسلحة، وحينما اقتسمت الأوطان صار الوضع مختلفاً تماماً، حالة ‏جديدة كأنَّك الآن تبدأ بالتاريخ العربي من أوائل القرن التاسع عشر‎.‎

دكتور تيزيني، لنعد إلى السنوات العشر الأخيرة، عام 2000 تحدثتَ عن “احتمال حدوث انفجار طائفي في سوريا”، لكنك أكدتَ أنَّ “هذا لا ‏يعني أنَّ الشعب السوري طائفي، بل إنَّ هناك مسوغات لمثل هذا الاحتمال”. هل ما حدث في آذار عام 2011 هو انفجار طائفي؟ أم أنَّ ‏التظاهرات والدعوة إلى الإصلاح استُغِلَّت من قبل بعضهم للتحريض الطائفي؟

‎-‎د.تيزيني: الذي حدث في سوريا يجمع في أحشائه هذه الاحتمالات كلها، لكن واحداً منها لم يكن حاسماً، ظهرت حركة 2011 بوصفها ثورة، ‏وكانت فعلاً كذلك، يعني بمعنى ما أنَّه كان هناك حالة من حالات الضرورة لوجود ثورة لإخراج الوطن العربي من هذا الأسى الكبير الذي ‏وصل إليه، هذه هي الفكرة الحاسمة، العالم العربي واجه سدَّاً منيعاً هائلاً، لا تقدم أمامه، النظم كلها أصبحت متمرِّسة عسكرياً في مواجهة ‏أي حركة كانت في الوطن العربي، ونلاحظ امتدادات هذه العقلية، لكن الحركة كانت في الأساس جزءاً من حراك شعبي، كان قد نُظِرَ إليها ‏في بداية الأمر على أنَّها تعبير أولي عن ربيع عربي، ربيع عربي حقيقي، كان هناك تململ صحيح وواقعي غير مصطنع، ليس تململاً ‏سياسياً فقط، بل تململ حضاري اقتصادي اجتماعي أخلاقي، ضمن هذه الاعتبارات كلها، كان مفهوم الثورة وارداً، وكان الأمر محتملاً لو ‏أُخِذَ كما نشأ، لكن في البدايات هذه التي جرى التمسّك بها، دخلت عناصر أخرى‎.‎

دخل الخارج

‎-‎د. تيزيني: الداخل والخارج‎.‎

الخارج في الدرجة الأولى

‎-‎د.تيزيني: الخارج أصبح داخلاً‎.‎

الخارج استخدم الداخل في سبيل تنفيذ مآرب أخرى، دخلت الأصولية، جرت أسلمة هذا الحراك، ودخلت أجهزة استخباراتية دولية وإقليمية ‏فعاثت في الأرض فساداً وإفساداً‎.‎

‎-‎د.تيزيني: يعني هذا دخل من الخارج، لكنه لم يدخل مراهناً على فعله هو وإنما على بنية قابلة لذلك، نظرية الداخل والخارج هنا فرضت ‏نفسها، كان هناك من يتقبّل ذلك، مع أنَّ فعل الثورة كان وارداً. وفي البدء بدأ القول ينتشر في العالم العربي: إنَّ العالم الأوروبي يريد أن ‏يحتل العالم العربي، فألصق كل شيء بالخارج، بدأ التفكير بثورة عالمية أو هذا بديلها بتدخل خارجي وهي ثورة زائفة، هكذا كان الحديث. ‏واستطاع الخارج أن يمارس تأثيره الفاعل. في البدايات كانت حالة إرهاصية بسيطة، لكنها استمرت خصوصاً بعد أن تمكن الداخل من ذلك، ‏فما كان قد غاب بدأ يعود، الفكر الديني، الفكر الطائفي، العشائري… هذا الفكر كله الذي يخرج من خارج البلد أصبح سيّد الموقف، بدأ اتجاه ‏السقوط، السقوط هذا الموقف الأكثر خطراً الذي نعيشه، لذلك كثير من المفكرين والكتاب الآن يرون أنَّ الباب أُغلِق، لأن ما حدث هو حرب ‏مسلحة أصبحت تطيح الجميع، ومواجهتها، هذه الفكرة خطرة، ومواجهة الحرب ستزيدها خطراً، لذلك صارت الدعوة إلى الابتعاد عن ‏الحرب، وعدم تسعيرها أكثر فأكثر. ونحن الآن في مرحلة مضطربة حتى الحدّ الهائل‎.‎

ماالعمل؟ هنا السؤال الكبير، ماالعمل؟. حين تحولت الحرب إلى حرب مسلحة، وحينما اقتسمت الأوطان صار الوضع مختلفاً تماماً، حالة ‏جديدة كأنَّك الآن تبدأ بالتاريخ العربي من أوائل القرن التاسع عشر‎.‎

أصابت الضربة الجميع، وبقي السؤال: من أين نبدأ؟

ما هو دافعك بوصفك مفكراً وفيلسوفاً همّه الأول البحث في المعرفي والثقافي للمشاركة في التظاهرات من أجل قضايا مطلبية سياسية ‏وإصلاحية؟ هل هو الحنين إلى العمل السياسي؟ أم التجربة العيانية في الواقع؟ أم العمل بوجدانك الوطني؟

‎-‎د. تيزيني: سؤال فيه ثلاثة احتمالات، أنا أظن أنَّ هناك احتمالات كثيرة هائلة، المجالات كلها هي مجالات عمل الآن لأن الضربة أصابت ‏الجميع، هناك أمر خطر قد حدث، تمثَّلَ في ضرب الحامل الاجتماعي لأي تحوّل اجتماعي تاريخي إيجابي، بُدئ الضرب به، هو فئة ‏الشباب، الفئة الفاعلة في الطبقات كلها، فهؤلاء بُدِئ الضرب بهم، بدأ قتلهم في الوطن العربي معظمه وبأشكال مختلفة، وظهر الأمر أكثر ‏وضوحاً بخروجهم، أُخرِجوا، الخروج السلمي الذي أصبح ممكناً بعد أخذ ممتلكات من يخرج كلها، هذه ضريبة الخروج، ومن ثم فالعمل ‏صار معقداً وواسعاً باتساع العالم العربي نفسه. القطاعات كلها أصبحت مدعوة إلى فعل شيء، طبعاً هذا لا يعني غياب حركة قادرة على فتح ‏الأبواب، هذه العملية تبرز الآن بصيغة حاسمة ومأسوية، ومن ثم أمامنا السؤال الكبير الملح: من أين نبدأ؟

هل ما حدث في سوريا سببه اختفاء البورجوازية الصغيرة والمتوسطة عن مسرح الفاعلية الاقتصادية والاجتماعية ونزولها إلى القاع أو ‏العيش في الحضيض؟

‎-‎د.تيزيني‎: ‎أظن أن هذا السؤال يمسُّ جزءاً من جوهر المشكلة، أنَّ الطبقة الوسطى تصدَّعت. الرهان الأكبر كان الطبقة الوسطى المُهمَلة ‏المُستَنفدة أُطيحَت، عملية التهجير في الوطن العربي كله، تهجير القادرين والمتكلّمين لا الأعْلَين ولا الأدنَين، فالطبقة الوسطى هنا أطيحت. ‏العمل يبدأ بتأسيس جديد، كما يحدث مع الشعوب المأسوية، الشعوب التعيسة التي تبدأ كل قرن بداية جديدة، أو بنصف قرن، وبالتالي عمل ‏الوطن العربي الراهن، عمل يعلن بداية جديدة، لا شك في أنَّ هذه البداية مُمَرّغة بالتجربة التي اتخذت وتتخذ مما حدث حتى الآن، لكن هذا ‏الأمر شديد الخطورة، قسم هائل من هذه الطبقة الوسطى لم يعد في البلد العربي، أصبح خارجه، ومن ثم علينا أن نبحث عن هذا الحامل ‏الاجتماعي لأي تحوّل في العالم العربي‎.‎

في الأشهر الستة الأولى من عمر الحراك المدني في سوريا تميز بالسلمية، بعدها جرت عسكرة هذا الحراك، وأصبح القول الفصل فيه ‏للبندقية. ما سبب جنوح هذا الحراك إلى العسكرة؟ هل سببه المؤامرة حيث تدخلت أجهزة استخبارات دولية وإقليمية؟ ولم تكتف هذه القوى ‏بعسكرة الحراك بل أسلمته أيضاً‎.‎

‎-‎د.تيزيني: أنا أرى أنَّ الاحتمالات كلها وُظفت في خدمة تحويل هذه الحركة الطامحة إلى الإصلاح المعقول، هذه الاحتمالات كانت واردة، ‏لم يكن هناك اتجاه إلى عسكرة العملية، كان الطموح الأعظم هو تغييرات أولية تسمح لبعض التقدم في العالم العربي، لكن صعوبات عظمى، ‏صعوبات أتت وكانت قد بُلورت عبر المرحلة الممتدة من القرن التاسع عشر إلى الآن، مدّة طويلة، ولوحظ أنَّ الأمر يجب أن يُحسم عسكرياً ‏لأن هذا الحسم هو أكثر راهنية، هو الأكثر فاعلية، ولذلك وجدنا أنَّ الأمر أخذ مداه بهذا الاتجاه، وظل الأمر يعيش في مرحلة من التردد. ‏السؤال الآن ضمن هذه الحيرة في الوضع العربي: من أين نبدأ؟

كيف ترى خصوصية ما جرى في سوريا ضمن ما يسمى ثورات الربيع العربي، في ضوء قراءتك للتجارب المصرية والليبية، واليمنية؟

‎-‎د.تيزيني: هذا سؤال الأسئلة، في الحقيقة كان هناك حلم كبير كاد أن يتحقق ما أطلق عليه الربيع العربي، والجميل في هذا الحلم أنه مجهزٌ ‏برؤية سلمية، ربيع عربي ينشأ في واقع الحال نفسه، وأنا أدعو هذه المرحلة: مرحلة التاريخ الإصلاحي العربي الجديد، كان عليه، أي هذا ‏التاريخ، أن يأخذ مداه‎..‎

لم يكن هذا في الحساب‎.‎

لكن هذه الدعوة إلى الإصلاح لا تحمل أي رؤية، هي مجضد مطالب سياسية لا تستند إلى فكر أو نظرية، ليست كثورة أكتوبر الاشتراكية ‏التي استندت إلى الماركسية، وليست كالثورة الفرنسية‎.‎

‎-‎د.تيزيني: مسألة مهمة جداً، لم يكن هذا في الحساب، كان الحساب القيام بإصلاحات ديمقراطية تُوجِدُ حالة مريحة للطبقات التي بدأت تعيش ‏مآسي هنا وهناك وهنالك، لكن للأسف لم يُقبَل ذلك، النظام العربي العام كان حريصاً على خنق كل حركة بسيطة، فشلت هذه العملية وأتت ‏فكرة الثورة مفاجئة‎.‎

إضافة إلى أطماع الدول الغربية والإقليمية‎.‎

‎-‎د.تيزيني: طبعاً كانت المحرّك، أتى هذا الاحتمال شبه مفاجئ، كان موجوداً بطريقة ما، لكنه في الحقيقة ما كان مطروحاً، الذي كان ‏مطروحاً هو القيام بإصلاحات تسحب هذا الوطن إلى حالات متقدمة خصوصاً أنَّ الطبقات الدنيا والطبقة الوسطى بدأتا تعيشان حالة ‏مأسوية، وكانت بعض الإصلاحات الجادة في الاقتصاد والسياسة خصوصاً كافية لترك المسألة تأخذ مداها، فما أتى، أتى من دون حساب ‏وطبعاً هذا قصور في الحركات التي قامت أنها لم تأخذ هذا الأمر بعين الاعتبار، الذي كان موضوعاً نجاح الثورة، لكن لم يكن هناك احتمالاً ‏لنجاح الثورة، المحتمل هو إصلاحات ديمقراطية حقيقية في السياسة والاقتصاد خصوصاً، إضافة إلى القطاعات كلها، كان هذا جيداً للجميع، ‏لكنه لم يُقبَل‎.‎

في ما يسمى بالربيع العربي قامت ثورات، لننظر إلى مآل هذه الثورات، في ليبيا ما زال الصراع مستمراً، في اليمن الوضع مأسوي جداً، ‏في سوريا تكاد الأمور تنتهي لكن ما يجري مخيف ومرعب، فبعضهم يتحدث عن التقسيم وبعض آخر ينادي بالكونفدرالية، وثورة مصر ‏نجحت من دون عنف تقريباً، لكن كيف تفسر لي ما حدث في مصر؟ ثورة ضد استبداد مبارك تنجح، وبانتخابات حرة ينجح التيار الإسلامي ‏ويفوز محمد مرسي برئاسة الجمهورية، ثم ينقلب العسكر عليه، يُسجن ويتبوأ العسكر من جديد يُمثلهم السيسي متربعاً على عرش الاستبداد ‏من جديد، السؤال: لماذا لم تدافع الجماهير عن ثورتها؟ هل الشعب المصري والعربي مدمن استبداد؟ وكيف سكتت النخب الثقافية المصرية ‏عن هذا التحول؟

‎-‎د.تيزيني: في الحقيقة ما جاء، جاء غير متوقّع، لم يكن متوقعاً أن تجري هذه التحولات بسرعة، لذلك كل شيء لا يأتي في حينه سيكلف كثيراً ‏أو قليلاً، ما جاء في نهاية الحال، هو حالة مضطربة جداً لكن أُغلِقت النوافذ كلها في مرحلة انتقالية لم تجر فيها بداية ثورة، هذه ظلت غير ‏ماشية باتجاه توجهاتها الداخلية الثورية، توقفت، هنا صُنِعَ ما نجده الآن في مصر مثلاً، في اليمن. هنا للأسف لم يُقرأ هذا الأمر، فتُرِكَ كما ‏هو‎..‎

ما حدث هو حصاد أزمنة‎.‎

وكأنَّ مصر والعرب عموماً مخيرين دائماً ما بين الاستبداد الديني والاستبداد السياسي، أو مفروض عليهم إما الاستبداد الديني أو الاستبداد ‏السياسي. لاحظ، ثورة نجحت في مصر، صناديق الانتخابات الحرة الديمقراطية جاءت بالأصولية الإسلامية وانتخب محمد مرسي رئيساً، ‏ألا تخشى من ثورات أخرىيمكن أن تأتي بالأصوليين؟

‎-‎د.تيزيني: البلدان العربية الآن تحصد ثمار ما صُنعَ في مدى أزمنة سابقة منذ القرن التاسع عشر، كانت هناك حالات تتمسّك خصوصاً ‏بالاتجاه السياسي والاقتصادي، المسألة الفكرية الثقافية كانت موجودة لكنها لم تكن رهاناً حاسماً، بل كان هناك رهان على فعل طائفي، على ‏فعل ديني‎.‎

في مصر لا يوجد فعل طائفي، المسألة الطائفية مُغيّبة

‎-‎د.تيزيني: نعم، لكن بحسب الخصوصيات العربية ظهر الطائفي، الديني، وعلى الأقليات‎..‎

في مصر لا يوجد أقليات

‎-‎د.تيزيني: نعم، أنا قلت في مصر وجدت الحالة الدينية تمثّلت ونجحت، في منطقة أخرى جاء شيء آخر، فهذه الاحتمالات التي ظهرت آفاتها ‏في البدء السابق، لم تُكتَشف على أنَّها يمكن أن تكون رهانات مستقبلية، الحل الديني، الحل الطائفي، الحل التقسيمي، لم تُكتشف‎.‎

ما أردتُ قوله بشكل ما، واعتبرته أنت قولاً استفزازياً، أنَّ العرب لا يليق بهم الديمقراطية والمثال مصر، طبعاً بعضهم يقول هذا. ما رأيك؟

‎-‎د.تيزيني: هذا ما عبر عنه البعض بصورة حادّة قميئة، يقول: العرب جَرَب

وهو قول شعبي شائع

‎-‎د.تيزيني: وكما قال المستشرق حين أكد أنَّ الشرق شرق والغرب غرب ولا يلتقيان، الغرب قُصد فيه التقدم والشرق التخلف، هذا ليس ‏فطرياً بطبيعة الحال، يعني لا يحتاج الباحث أو المهتم بهذه المسألة كي يُؤسس لهذه الفكرة تاريخياً، وبصورة مُدقَّقة وطويلة، إنَّه موقف زائف ‏من حيث الأساس، لقد قدم التاريخ حتى الآن في الشرق كما في الغرب على أنّ هذه الأفكار زائفة، صُنعت فطرياً في الداخل أحياناً، لكن ‏كُرِّست وجُعِلت قابلة للقبول في الخارج‎.‎

سأتابع استفزازي: تاريخ العرب يا دكتور، تاريخ العرب الإسلامي هو تاريخ استبداد. تعال نقرأ التاريخ: منذ الأمويين فالعباسيين…إلى ‏آخره‎.‎

‎-‎د.تيزيني: أظن أن هذا الأمر قد يكون، لكن هناك إشارات منه، أنا عشت أياماً رائعة كانت تمثل نهوضاً، لكن هذا النهوض توقف، ما يعني ‏أنَّ هناك نواقص خفية في البنى الموجودة في البلد‎.‎

هذه لحظات تاريخية قليلة وقصيرة جداً يا دكتور طيب، ثورة القرامطة مثلاً لحظة تاريخية كما ثورة سبارتكوس‎.‎

‎-‎د.تيزيني: هذه اللحظات كانت تعبر عن واقع الحال الموجود الذي كان علينا أن نقرأه بإشاراته التي ظهرت، لم نقرأها، ربما لأنها كانت ‏خفيفة غير طويلة فغابت، ولكن كان الاحتمال مفتوحاً‎.‎

ليس لها أساس فكري في العقل العربي الإسلامي، بدليل أنَّ العلماء العرب معظمهم ومعظم المتصوفة قُتِلوا، والخلفاء معظمهم قتلوا، ‏والصراع على السلطة كان دامياً منذ الأمويين والعباسيين وحتى العصر الحديث‎.‎

‎-‎د.تيزيني: لكن هذا الأمر لم يكن ذا مسار واحد أو لون واحد، كان هناك احتمالات، في سوريا نشأت احتمالات كثيرة، في مصر كذلك، في ‏لبنان، في المغرب، الجزائر… إلخ. يعني هذه المسارات الاستثنائية كانت تنبيهاً إلى أن هناك ما وراء الواقع المنظور شيئاً ما، علينا أن نقرأه ‏ونستعيده، لم يجرِ ذلك، خصوصاً لفشل الإصلاح الفكري الذي يُؤسس لطبقة وسطى متمرِّسة، على الرغم من المصائب الموجودة هنا، هذه ‏الطبقة الوسطى تشكلت بصورة ما، بصيغة إيجابية تنويرية، لكنها لم تتحول إلى حالة فاعلة، كانت الانقلابات العسكرية قد جاءت وأطاحتها‎.‎

سؤال أخير: ألا توافقني الرأي أنَّ ما جرى في سوريا مهم جداً إذ إنَّه سيدفع المفكرين والمثقفين ورجال الكهنوت الديني، إلى إعادة النظر في ‏المعمار الثقافي الإسلامي الحالي؟. بمعنى أنَّ التجربة ستفرز إسلاماً جديداً الجدّة كلها؟ (فالشارع السوري يتشكك ولا يثق برجال الدين، ‏وهناك ظاهرات للتجديد الديني في السعودية) وأضيف: أنَّ ما حدث في سوريا سيدفع بالمفكرين والباحثين والمثقفين إلى الانتقال من سؤال ‏الوجود إلى سؤال المعرفة‎.‎

‎-‎د.تيزيني: من سؤال الوجود إلى سؤال المعرفة وإلى الفعل أيضاً، يعني لا شك في أنَّ أي تحوّل في الوسط العربي الآن مُرتهن بالطبقة ‏الوسطى، طبقة وسطى محروسة بالطبقات الدنيا، طبقات البؤس الذي تراكم في هذا العالم العربي بعد الانكسارات التي حدثت، هذا لا شك ‏في أنّه يدعو إلى الألم بصورة شديدة ونوعية، لكن حين نأخذ بعين الاعتبار ما المرحلة التي وصلنا إليها، ربما سنكتشف ما علينا أن ننجزه، ‏إنَّ ما وصلنا إليه، وهذا ما أقوله بصيغة أطروحة أولية، إنَّه دعوة إلى إعادة بناء الوطن السوري، والوطن العربي‎.‎

دعوة إلى إيجاد هوية وطنية جديدة، دعوة إلى تشكيل وجدان سوري جديد‎.‎

‎-‎د.تيزيني: نعم، وجدان سوري. طبقة وسطى تهتم بواقع الحال، وحالها يكون قد تغير، لكن هذه الفكرة العامة تستدعي الآن، ربما أقولها ‏بشيء من الاستحياء، تحتاج إلى ثورة، مع أنّي أكاد أقول إنَّها تحتاج الآن إلى مزيد من الإصلاح الديمقراطي الحقيقي، الوضع يوحي أنَّ ‏هناك حلاً وحيداً صار، كل شيء ذهب منّا، لم يبق إلا الثورة المحتملة أو غير المحتملة، لكن هذا أراه مشكلة عظمى قد تُحدث ما ليس في ‏الحسبان، الحل الممكن هو الإصلاح الديمقراطي الذي يقترن بوحدة القطر الواحد، والوحدة العربية في الوطن العربي‎.‎

إصلاح سياسي؟

‎-‎د.تيزيني: إصلاح سياسي بالدرجة الأولى‎.‎

لكن الإصلاح السياسي يجب أن يسبقه إصلاح ثقافي معرفي، وهذا غير موجود‎.‎

‎-‎د.تيزيني: يسبقه ويماشيه، أن يكتشف ما يريد أن يحققه، لكن هذه الفكرة التي كنّا نعيشها نحن، وأذكر أنّا كنا صغاراً نعيش مسألة الوحدة ‏العربية والثورة الفلسطينية والأهداف القومية العربية كلها، هذه الأهداف النبيلة التي لم يتحقق أي منها حتى الآن، الآن نعود إليها لكن بزخم ‏جديد، وبلَمْلَمة أخرى جديدة، اللملمة التي تدفع باتجاه هذا الإصلاح الآخر الجديد، إنَّه إصلاح قد يمثل ما بدأنا به بشكل أو بآخر سابقاً الذي ‏انقطع، ولكنه إصلاح قد يصل حدّ الثورة، إنه ليس ثورة، إنَّه إصلاح يدعو إلى حالة إصلاحية تعني الجميع، الثورة لها خصومها ولها ‏حاملها الاجتماعي، هنا الإصلاح يهمّ الجميع، وإذا كان الأمر غير ذلك فسيكون خاطئاً، هذا الذي ندعو إليه إنما هو حالة إصلاحية عميقة ‏تاريخياً ومعرفياً، ومن ثم هذا الرهان الذي كان علينا أن ننجزه عبر مراحل متعددة أصبح الآن في مرحلة جديدة، التاريخ قدَّم لنا نفسه الآن ‏مُختزَلاً، الإصلاح العميق الحقيقي المرتهن لهذين الحلَّين: وحدة كل قطر عربي والوحدة العربية التي تسير معها الاحتمالات المعرفية كلها، ‏السياسية، التربوية، وهذا يمثل خطاً جديداً‎.‎

وطريقنا الوحيد والأوحد إلى ذلك هو: من التراث إلى النهضة، وننتظر منك كثيراً‎

الفيس بوك

الموقع الشخصي لعبد الكريم عمران

https://www.facebook.com/profile.php?id=100010428557851
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى