سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 07 كانون الثاني 2025
لمتابعة التغطيات السابقة
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 06 كانون الثاني 2025
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 05 كانون الثاني 2025
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 04 كانون الثاني 2025
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 03 كانون الثاني 2025
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 02 كانون الثاني 2025
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 01 كانون الثاني 2025
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 31 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 30 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 29 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 28 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 27 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 26 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 25 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 23 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 22 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 21 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 20 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 19 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 18 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 17 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: المصاعب والتحديات، مقالات وتحليلات 16 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مهام اليوم التالي، مقالات وتحليلات 15 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 14 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: سقوط الديكتاتور الفار بشار الأسد مقالات وتحليلات
————————————–
المؤتمر الوطني السوري بين المأمول والممكن…/ سمير سعيفان
07 يناير 2025
كثر الحديث عن مؤتمر الحوار الوطني (السوري)، رغم أنه لم يُعلن رسمياً بعد، فقد شاع وكأنه حقيقة قائمة، وتردّد أن موعده في يومي الرابع والخامس من من يناير/ كانون الثاني الجاري، وأن عدد المدعوين 1200 مدعو، وأن لجنة استشارية ستتشكّل منه. وبدأ التساؤل عمّن دُعيَ ومّن لم يُدعَ، وبدأ التنافس بين المتنافسين، وأصبح المؤتمر حديث الشارع، ثمّ اتُّفق على أنه أُجّل، ثمّ قالوا (هذه المرّة بتردّد) أنه في منتصف شهر يناير/ كانون الثاني الجاري، وتبنّت بعض وكالات الأنباء هذه الإشاعة.
ذات مرّة، خرج أحدهم يتحدّث عبر وسائل التواصل أنه ناطق باسم اللجنة التحضيرية للمؤتمر، لكن لا يوجد أيّ صكّ رسمي يقول إنه كذلك (لم تُعلن اللجنة بعد). في الواقع، لم يعلن شيء رسمي، ولم يُعلَن عن أيّ لجنة، ولم تُعلَن معايير اختيار الأعضاء، ولم تُعلَن غاية المؤتمر التي يرتكز عليها مبرّر انعقاده. والأكثر أهميةً من هذا وذاك، أنه لم تُعلَن الجهة التي تدعو إلى هذا المؤتمر، ومن أين تستمدّ حقّها بعقد مؤتمر بهذه الأهمية ودعوة من تريد له وتحديد مُخرَجاته، هذا المؤتمر الذي سيمنح “شرعية وطنية” إلى حدّ ما، في محلّ “الشرعية الثورية” لسلطة الأمر الواقع، التي قامت في سورية إثر سقوط النظام. ما يجري بخصوص هذا المؤتمر لا يشذّ عن مجمل الأوضاع بعد الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024، فليس ثمّة مصدر رسمي لأيّ شيء بعد، ولا يوجد منبعٌ يمكن أن تُستقَى منه الأخبار الموثوقة عن هذا المؤتمر، وعن أمور أخرى مهمّة. ففي الواقع المسؤول الوحيد الذي يُطلِق التصريحات ويُجرِي المقابلات، ويُؤخَذ كلامه على محمل الجدّ شخص واحد، قائد الإدارة السورية الجديدة، أحمد الشرع.
في اللقاءات المغلقة، يناقش انعقاد المؤتمر، والسلطات الجديدة لم تنفِ الخبرَ من جانبها، ولم تثبّته في نحو مُعلَن، وربّما تتعمّد الغموض، وهو أمر غير مناسب في الأوضاع الحالية، إذ يطلب الناس الشفافية الوضوح في مرحلةٍ تبدو أشياؤها الغامضة أكثر من المؤكّدة. ويبدو أن السلطات الجديدة ترى أن انتشار الخبر يخدم أغراضها، فثمّة انتقاداتٌ واسعةٌ لها بأنها تفتقد الشرعية الشعبية، والشرعية الدستورية، والشرعية الثورية لا تَمنح سُلطاتٍ كافيةً لإدارة دولةٍ ومجتمعٍ من جوانبه كافّة، وثمّة مُطالباتٌ واسعةٌ بعقد مؤتمر وطني، وثمّة مجتمع دولي (أوروبا والولايات المتحدة) يراقب، لذا فانتشار الخبر يخدم أغراض السلطات الجديدة في دمشق. وبعد انتشار الخبر أصبح النقاش والنقد يوجّه إلى غاية المؤتمر وأسس التمثيل فيه ومُخرَجاته، وهي جميعها غير واضحة.
حلم سوري
ليس المؤتمر إشاعةً، فثمّة قرار بعقده، ولكن لم تُحدَّد أيّ من مستلزماته، بدءاً من تحديد تاريخ انعقاده، وانتهاءً بمُخرَجاته، مروراً ببرنامجه وتنظيمه وطبيعة المدعوين وصفاتهم ومعايير اختيارهم. وللسلطة الجديدة غاية في فتح هذا النقاش العام غير المنظّم، وغير الرسمي، حول المؤتمر وقبل انعقاده، فهو يكشف الاتجاهات العامّة، ويضع كثيراً من الفِكَر والمقترحات على الطاولة، فيساعد السلطات الجديدة في التوفيق، إلى حدّ ما، بين المؤتمر، الذي تريده خدمةً لغاياتها منه، ومُطالبات السوريين بأن يكون مؤتمراً وطنياً حقيقياً تنتج منه مُخرَجات تاريخية، وقد بدأ بعضُهم يتذكّر المؤتمر السوري الأول (مارس/ آذار 1920)، وبالتالي تكييف المؤتمر على النحو الذي يلائم بعض المطالب (غير الجوهرية)، التي تطرحها الفئات المُعترِضة، التي تجعل المؤتمر ومُخرَجاته أكثر قبولاً محلّياً ودولياً.
ثمّة مسافة بين ما يحلم به السوريون بانعقاد مؤتمر وطني حقيقي يحقّق تمثيلاً وطنياً شعبياً ومجتمعياً حقيقياً وواسعاً، ويجتهد كثيرون في اقتراح أسس الاختيار والتمثيل المثالي لاختيار المندوبين وتحديد غايته ومُخرَجاته، بأن يكون مؤتمراً يمنح مشروعيةً حقيقيةً للسلطة الجديدة، ويضع قيوداً عليها، وآليةً رقابيةً، وقدرةً على المحاسبة، وأن يخرُج منه نوعٌ من هيئة حكم انتقالي مثلاً، وإعلانٌ دستوريٌّ مؤقّت ينصّ على نظام سياسي ديمقراطي يقوم على تداول السلطة عبر صناديق الاقتراع في مناخات من الحرّيات العامّة في التنظيم والتعبير والاعتقاد، وحقوق الإنسان المواطنة المتساوية… إلخ. وبين ما تفكّر به السلطة الجديدة المسكونة بهاجس أمني وبإغراءات استمرار القبض على السلطة التي سقطت بين أيديها من حيث لا تحتسب، بأن يكون مؤتمراً يُبارك لها إنجازها ويمنحها الشرعية الدستورية بعد الشرعية الثورية التي حازتها بالاستيلاء على السلطة، ولا يضع عليها أيَّ قيودٍ أو يفرض عليها أيّ التزامات، ويمنحها شرعيةً مريحةً داخليةً ودوليةً تستعملها أربع سنوت مقبلة، فتُرتِّب الأوضاع بطريقة جيّدة خلالها، حتى تكسب الانتخابات بسهولة.
لن نطرح السؤال لمن ستكون الغلبة من الاتجاهَين، فميزان القوى قد حسم الجواب سلفاً، رغم أنه قد يُغري السلطاتِ الجديدةَ عقدُ مؤتمر وطني شكلي، يُنتقَى معظم أعضائه من أفراد موالين، وتكون نتائجه مسبقة الصنع. سيكون انعقاده سهلاً ومريحاً ومضمون النتائج، ولكنّه سيجلب فيما بعد متاعب كثيرة، بينما عقد مؤتمر وطني أقرب إلى الحقيقي (الحقيقي غير واقعي الآن) سيكون أمراً مُتعباً الآن، ولكنّه سينتج كثيراً من الراحة فيما بعد، وهو يصبّ في مصلحة استقرار الأوضاع على المدى القريب والمتوسّط.
الواقعي والممكن
ضمن توازنات الممكن، وأخذاً بالاعتبار ضغوط الحاضر التي تتعرّض لها السلطات الجديدة، وضرورة عقد مؤتمر وطني، يمكن القيام بالتالي:
1- أن يصدر قرار مُعلَن من أحمد الشرع، باعتباره قائد العمليات العسكرية، ومسماه قائد الإدارة السياسية الجديدة، بعقد مؤتمر وطني يُحدِّد غايته والموضوعات التي سيناقشها، وتُتَّخذ قرارات بشأنها، وأن يُحدِّد تاريخَه ومدّةَ انعقاده، ويفضّل أن يكون في منتصف مارس/ آذار لمنح فسحة للتحضير الجيّد.
2- أن يصدر قرارٌ مُعلنٌ من أحمد الشرع بتشكيل لجنة للتحضير للمؤتمر وإدارته، ويجب أن يجمع أعضاؤها بين السياسيين والتقنيين، ومن يعرفون سورية جيّداً.
3- أن تُفتَح صفحات في وسائل التواصل الاجتماعي للجنة، لنشر ما يتعلّق بالمؤتمر، فتكون مصدراً موثوقاً للأخبار الصحيحة.
4- أن تتّفق اللجنة مع شركة متخصّصة بتنظيم المؤتمرات لتولي الجوانب اللوجستية في عقد المؤتمر.
5- أن تضع اللجنة معاييرَ لمن سيُدعَون إلى المؤتمر، فيكون التمثيل شاملاً لمكوّنات المجتمع السوري وتوجّهاته وفئاته في مناطقه كافّة، بما فيها منطقة شرق الفرات. من ذلك ممثلو المهن العلمية، بدعوة خمسةٍ من كلّ نقابة (حتى لو بصفاتهم الشخصية)؛ ودعوة 50 من نقابات الأطباء وأطباء الأسنان والصيادلة والمحامين والقضاة والمعلمين والفنانين، بصفاتهم الشخصية. كما يدعى بصفاتهم الشخصية: 25 من نقابة الحرفيين، و50 من نقابات العمّال، و50 من شيوخ العشائر، و50 رجلَ أعمال، و75 من رجال الدين من مختلف الأديان والمذاهب، و75 عسكرياً من الفصائل ومن ضّباط منشقّين، 75 شخصية مجتمعية من كتاب وأدباء ومثقّفين وفنانين ورياضيين.
6- يراعى تمثيل مكوّنات المجتمع السوري من عرب سنّة وكرد ومسيحيين بطوائفهم، وعلويين وتركمان ودروز وإسماعيليين وأيزيديين ومرشديين وأرمن وغيرهم.
7- يُراعى تمثيل الشباب بين الأعضاء بنسبة 50% دون 45 سنة، وتمثيل المرأة بنسبة 30%.
ثامناً، أن يمتد المؤتمر ثلاثة أيّام على الأقل، وأن يدعم بلجان فنّية ومختصة. ويمكن تقسيم المؤتمر بين جلسات عمومية مشتركة، وأن يقسّم بين مجموعات عمل.
مُخرَجات المؤتمر
تُحدد مُخرَجات المؤتمر على النحو التالي (وبما يعني برنامجاً للمرحلة الانتقالية):
1- إعلان التمسّك بوحدة سورية أرضاً وشعباً.
2- إعلان الانتقال من الشرعية الثورية إلى الشرعية الدستورية.
3- تحديد المرحلة الانتقالية بثلاث سنوات.
4- تسمية شخصية سورية مكلّفاً برئاسة الجمهورية خلال المرحلة الانتقالية.
5- إعلان حلّ مجلس الشعب الحالي.
6- إعلان إيقاف العمل بالدستور الحالي.
7- انتخاب لجنة لوضع إعلان دستوري مؤقّت، ويفضّل أن تُعدّ مسودّة الإعلان قبل المؤتمر وتوزع على المؤتمرين.
8- إلغاء العمل بالقوانين الاستثنائية وبالمحاكم الاستثنائية.
9- إعلان استقالة حكومة تسيير الأعمال وتكليف أحمد الشرع باختيار من يكلّفه تشكيل وزارة جديدة خلال أسبوع من انعقاد هذا المؤتمر.
10- إعلان حلّ الفصائل وتكايف أحمد الشرع تشكيل مجلس عسكري لجيش وطني، وتحديد الأسس والشروط.
11- قرار بتكليف أحمد الشرع بتشكيل مجلسٍ للعدالة الانتقالية والسلم الأهلي، وتحديد الأسس والشروط.
12- قرار بتكليف أحمد الشرع بتشكيل مجلسٍ لعودة النازحين واللاجئين وتحديد الأسس والشروط.
13- قرار بتكليف أحمد الشرع بتشكيل مجلسٍ لإعادة الإعمار وتحديد الأسس والشروط.
14- وضع الأسس والمعايير لتشكيل جمعية تأسيسية لكتابة دستور جديد للبلاد قبل سنة من انتهاء المرحلة الانتقالية، وأن تُستكمَل إجراءات مناقشة مسوّدة الدستور وإجراء انتخابات عامة، وفق قانون الانتخابات، الذي سيوضع في حينه. وسيكون إجراء تلك الانتخابات وتشكيل السلطات الجديدة على أساسها إيذاناً بانتهاء المرحلة الانتقالية.
خاتمة
ينتخب المجلس مكتباً تنفيذيّاً من 25 عضواً يتابع تنفيذ قراراته، ويعمل بمثابة مجلسٍ استشاريٍّ للرئاسة وللوزارة الجديدتَين.
قد لا يكون هذا المؤتمر (بهذا الشكل) مثالياً تماماً، ولكن ربّما هو أفضل ما يمكن تحقيقه في الظرف الراهن.
العربي الجديد
————————–
حرية الثقافة في سورية بين الأمس واليوم/ بشير البكر
7 يناير 2025
الثقافة أحد مكونات المجال العام الذي صادره النظام السوري، مخافة أن تتحول إلى ميدان للمقاومة المدنية للديكتاتورية والاستبداد. وتعامل معها بأساليب متعدّدة، تتراوح بين القسوة والمهادنة والترغيب. عمل في البداية على تعقيم الأرض كي لا تنبت ولا تخصب، وأراد أن يجعل من بلد ذي إشعاع صحراء، بلا شعر ورواية وكتب وموسيقى ولوحات وأفلام ومسرحيات. وسعى بأساليب عدة لأن يهيمن على النشاط الثقافي وتطويعه، لكي يندمج في مشهد الخضوع للحاكم ورمزياته في التبجيل والخوف، ولكن محاولاته فشلت، وواجهتها أجيال من المبدعين، بقيت تسير عكس هذا التيار، وتنتج أعمالًا تعبر عن حيوية الشعب السوري وتمسكه بالحرية.
عندما لم ينجح النظام السوري كليًا في تأميم الثقافة، اضطر إلى ترك بعض الهوامش داخل وزارة الثقافة، وقد حاول أن يملأها العديد من المثقفين الحريصين على أن تبقى الثقافة فوق الاعتبارات السياسية مثل أنطوان مقدسي، حنا مينة، زكريا تامر، محمد كامل الخطيب، سعيد حورانية، ولذلك تميّزت بعض مطبوعات الوزارة بالتزام القواعد المهنية الصارمة، ونجحت في تقديم نتاج ذي قيمة ثقافية عالية كالتي أشرف عليها القاص والناقد محمد كامل الخطيب، والأمر ذاته بالنسبة إلى الترجمة من اللغات الأجنبية، وشكّلت “مجلة المعرفة” منبرًا مهمًا للثقافة الجادة، ولم تنحدر إلى مؤسسة اتحاد الكتاب على مستوى الرقابة على النشر، والسماح لأجهزة الأمن بالتدخل في عملها.
أعطى اتحاد الكتاب برئاسة علي عقلة عرسان مثالًا سيئًا عن الثقافة في سورية، ولم يقتصر الأمر على فرض رقابة صارمة على المؤسسة وحرية النشر، بل حوّل الاتحاد إلى مزرعة للأمن يسرح ويمرح فيها مندوبو الأجهزة الأمنية، وكتّاب التقارير بحق الكتّاب من أصحاب الرأي الآخر. وصارت المؤسسة كناية عن فرع أمني متخصص بالكتّاب والكتابة، يتابع تفاصيل حياتهم وشؤونهم. ووصل الانحطاط بهذه المؤسسة أن قام رئيسها بالاعتداء على بعض الكتّاب داخل مقر الاتحاد، كما حصل مع الروائي خيري الذهبي، الذي أوعز عرسان إلى مرافقيه الأمنيين بضربه داخل مكتبه، وشملت عمليات القمع المباشر والإقصاء الروائي هاني الراهب، الذي تم تسريحه من التدريس في جامعة دمشق، واضطراره إلى الهجرة والتدريس في الخارج، وبدوره لم يسلم المفكر صادق جلال العظم من المضايقات وخاصة لدوره في ربيع دمشق عام 2000، وتعرض إلى التعنيف بسبب موقفه، حينما قال إن الربيع “يعني، ببساطة، استرجاع الجمهورية من السلالة الحاكمة إلى الأبد، ومن مجمّعها العسكري- التجاري الاحتكاري لكلّ شيء مهم في البلد”.
المجال الثقافي السوري الذي تمكن النظام من احتلاله صار باهتًا، ولا يليق ببلد ذي تاريخ ثقافي عريق، ولولا دور النشر والصحافة الثقافية اللبنانية لما تمكّن الكتّاب السوريون من نشر أعمالهم من شعر وقصة ورواية ونقد، ومن دون مبالغة فإن الأعمال الشعرية والروائية ذات السوية الفنية الجيدة، لم تصدر عن اتحاد الكتاب أو وزارة الثقافة، بل عن دور نشر خارج سورية.
يطمح الكتّاب في المستقبل إلى أن تستعيد سورية دورها الريادي ثقافيًا، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا من خلال تحقيق عدة شروط أولها الحرية، وهذا يعني إلغاء كافة القوانين المقيّدة لحرية التعبير والنشر، وفتح المجال أمام تأسيس دور نشر وصحافة ثقافية متخصصة ومهنية.
والمسألة الثانية التي تستحق الاهتمام هي الانفتاح على الثقافات الأخرى في محيطنا العربي وفي العالم، والتواصل معها من أجل تبادل الخبرات والتجارب، وإيصال صوت ثقافتنا التي تعرّضت للإقصاء والتهميش، وهنا يحضرني دور المراكز الثقافية في الخارج، التي كانت جزءًا من المؤسسة السابقة، مرتبطة بها، وتخدم أهدافها وأجنداتها، ولم تساهم في تقديم الوجه المشرق لثقافتنا.
وهناك مسألة أخرى ذات أهمية كبيرة وهي تتعلق بحرية توزيع الكتاب في سورية، والتي خضعت لرقابة صارمة، تعتمد على معايير تنبثق من اعتبارات واهية، لكنها في جوهرها كانت تهدف إلى منع وصول الثقافة من الخارج إلى داخل البلد، وذلك من منطلق الوعي بدورها في التأثير على تفكير الناس ومواقفهم. لقد أراد النظام أن يبقى المجتمع سجينًا وراء قضبان الجهل والتخلف الثقافي والفكري كي تستمر الهيمنة والخضوع.
ثقافة المستقبل مشرعة الأبواب، ليس لدى سورية ما تخشاه من ذلك، بل على العكس هي بحاجة إلى كل ما يساعدها على أن تتحرّر من الجهل، ويفتح أمامها آفاقا أوسع، ما يؤهلها لأن تصبح مركز استقطاب ثقافي في العالم العربي، فهي تمتلك الإمكانات والمقوّمات التي تساعد على ذلك. وهنا تحضر أهمية السياحة الثقافية التي يمكن أن تشكّل مصدر دخل إضافي للبلد، بالنظر إلى الثروة الهائلة التي تمثّلها سورية التاريخية، أرض الحضارات منذ الألف السابع قبل الميلاد.
هناك مهمة كبيرة يجب أن تنهض بها الهيئات الثقافية الجديدة الرسمية، وغير الرسمية، وهي إعادة الاعتبار لكل المبدعين من كتّاب وفنانين ومثقفين، الذين نفاهم النظام السابق، أو أقصاهم من المجال الثقافي، أولئك الذين سجنهم وعذبهم وهاجر بعضهم إلى الخارج. يجب فتح المجال أمام الأحياء للعودة وتكريمهم، كما يجب التفكير جدّيًا في نقل رفات العديد من المبدعين، الذين تم دفنهم في الخارج، لأن هؤلاء جزء أصيل وعزيز من الذاكرة السورية، ونتاجهم تراث للأجيال التي يجب أن تترّبى على قيم الحرية والعدالة.
——————————–
بعضهم يواصل العمل.. مديرون وصحفيون برتبة ضبّاط أمن في سانا والهيئة العامة/ سامر القطريب
2025.01.07
يصف صحفيون وإعلاميون سوريون عددا من مديري الإعلام الرسمي الذي كان تابعا للنظام المخلوع والعاملين فيه، بأنهم “ضباط أمنيون”، شديدو الولاء، كاشفين عن تقارير أمنية أدت إلى اعتقال وقتل عدد من الصحفيين تحت التعذيب، عدد من هؤلاء الضحايا لم يتجرأ زملاؤهم وعائلاتهم على نعيهم خوفا من مواجهة المصير نفسه.
“موت منلفك بالعلم”
رواد عجمية صحفي عمل في وكالة سانا الرسمية، يقول لموقع تلفزيون سوريا إن الأقسام التي لعبت دورا أمنيا معروفة، وهي إدارة الرصد والمتابعة الإعلامية التي يديرها جمال ظريفة، مشيرا إلى أنه في سانا بعد المدير العام عدنان محمود يأتي أحمد ضوا الذي استلم الإدارة العامة ثم باسل نيوف مدير الموقع الإلكتروني وأديب رضوان الذي كان مسؤولا عن الوكالات، هؤلاء كانوا العصب الفعلي للوكالة.. السائقون كانوا يتجسسون على الصحفيين ويعطلونهم عن أعمالهم ويقومون بتهديدهم واستفزازهم وكلها أساليب للضغط النفسي بتوجيه من الإدارة. ويضيف أن هؤلاء كانوا على اتصال مباشر بالقصر الجمهوري.
ويشير إلى مقتل عدد من زملائه الصحفيين نتيجة للاعتقال مثل زياد خلوف ومهران الديري الذي قتل إثر قصف للنظام وكان مراسلا حينئذ “للجزيرة نت”.
ويوضح عجمية كيف زيف لاحقا حادثة وفاته ليستطيع الانشقاق عن إعلام النظام السابق.
في 26 من أيلول 2012، وقع انفجاران متعاقبان في مقر قيادة هيئة أركان جيش النظام السابق في ساحة الأمويين وسط العاصمة دمشق. ويذكر “عجمية” كيف خاطبه جمال ظريفة يوم “تفجير الأركان”، حيث لم يزوده بدرع واق وتجهيزات الحماية التي يرتديها الصحفي عادة لتغطية مثل هذه الأحداث، وقال له ساخرا: “روح موت منلفك بالعلم”، موضحا أن “ظريفة” كان يعلم أنه معارض للنظام ما دفعه للتربص به.
ويضيف أنه عندما قرر الانشقاق عن “سانا” كان 6 من زملائه الصحفيين قد اختفوا، من بينهم فرح قاسو وتم فصل الصحفي أحمد العمار، رئيس قسم النشرة الاقتصادية وهو من درعا، ويصف تفاصيل الموقف “تقدم مني أحد الصحفيين وقال لي (الكلاب راحوا 6 وعنا قائمة جاييك الدور).. وكان الزميل زياد خلوف قد اختفي من أمام باب الوكالة”.
ويوضح أنه سلك طريقا آخر غير معتاد عند مغادرة الوكالة “وتواصلت مع عدد من التنسيقيات وخرجت إلى الشمال السوري، وتخفيت باسم مستعار هناك، قبل أن أنتقل إلى تركيا..”.
ويتابع أنه عمل على نشر خبر يفيد بوفاته خلال تأدية عمله في سانا، وهو ما انطلى حتى على أهله الذين لم يعرفوا بأنه على قيد الحياة إلى أن تواصل معهم بعد عدة سنوات.
عجمية أشار إلى أنه وعددا من زملائه الصحفيين كانوا يحملون شهادات عليا “ماجستير في الإعلام” كانوا مرؤوسين من قبل أشخاص عينهم النظام بالواسطة والمحسوبية وهم يحملون شهادت “علمية” متدنية ومع ذلك عينوا “رؤساء فترات”. ويضيف أن العاملين في السجلات الإدارية ما زالوا متمسكين بعملهم لأن “سجلات المدير الإداري هي الصندوق الأسود”.
تهديد مباشر
ويضيف عجمية أن وزير الإعلام السابق عمران الزعبي “توفي عام 2018 وشغل منصب وزير الإعلام 2012 و2016″، خاطب الصحفيين خلال زيارته الوكالة قائلا “إما معنا أو ضدنا ما ضل في مزح” وبعد أسبوع “بدأت عملية الاعتقال والفصل والتصفية من خلال إرسال بعض الصحفيين المعارضين ليغطوا المعارك في مناطق ساخنة ليعودوا مقتولين، وهو ما حاول جمال ظريفة فعله معي عند تغطية تفجير الأركان”، يقول عجمية.
يشار إلى أن “كتابة التقارير الأمنية” لم تقف فقط عند وكالة سانا والهيئة العامة للإذاعية والتلفزيون بل تعدت إلى جميع المديريات والمراكز الإعلامية في باقي المحافظات، وهو ما تبرزه إحدى الوثائق التي حصل عليها موقع تلفزيون سوريا من المركز الإذاعي في الحسكة.
“مصنع لتزوير المعلومات”
الصحفي علي عيد عمل أيضا في وكالة سانا يقول لموقع تلفزيون سوريا “كانت وكالة الأنباء الرسمية سانا أشبه بقلعة أمنية بطبيعة الحال، ازداد الأمر حدة بعد اندلاع الثورة، وباتت أشبه بمصنع لتزوير المعلومات وقلبها، وفق توجهات القيادة الأمنية في البلاد”.
ويصف الإجراءات التي سادت تلك المرحلة قائلا “بدأت عملية الشحن تجاه الكوادر التي أبدت تعاطفا مع حراك الشارع، أو رفضا للانخراط في صحافة التضليل، وتحول الأمر إلى عمليات مراقبة وتقليص صلاحيات لكل من تشك الإدارة بولائه، إلى أن ذهبت الأمور أبعد من ذلك نحو اعتقال بعض الزملاء”.
وبحسب عيد فإن “وكالة سانا مرتبطة بطبيعة الحال بالقصر الجمهوري، فالأخبار التي تخص الرئاسة لا بد من مناقشتها والتواصل بشأنها مع المكتب الصحفي بالقصر الجمهوري، وكان هناك صحفي من الوكالة منتدب للقصر، من شديدي الولاء للأسد، وبالنسبة للفروع والإدارات الأخرى فكان لها وجود عبر شخصيات في الإدارة بطبيعة الحال”.
ويوضح أن كل الكوادر الموالية مارست دور الرقابة والمراقبة، بدءا بالمدير العام انتهاء بأصغر موظف مثل عامل “البوفيه” أو البوابة، وتطور الأمر إلى حمل الصحفيين “السلاح” داخل الوكالة.
وتابع “هناك من الزملاء من تعرضوا للاعتقال أو التصفية داخل المعتقلات، مثل الزميل زياد خلوف الذي ما زال مصيره مجهولا حتى هذه اللحظة والزميل مصعب السعود وغيرهم، وهناك كثيرون ممن كانوا على قائم المطلوبين، واضطروا إلى مغادرة البلاد كي لا يلاقوا مصيرا مشابها لمصير زملائهم الذين قضوا تحت التعذيب”.
أساليب للضغط على الصحفيين واعتقال وقتل
وتابع عيد قائلا “كان الضغط يتم عبر المراقبة اللصيقة، والتحكم بمفاصل العمل، وكذلك بتقليص الصلاحيات وتخفيض المسمى الوظيفي، وهو ما حصل معي شخصيا، وكذلك حرمانهم من المخصصات المالية لصالح الأشخاص الأكثر ولاء، وهناك أيضا التهديدات اللفظية وكتابة التقارير ثم الاعتقال.
وحول التقاير الأمنية التي كتبت فيه يقول “لا أعلم عددها ولا أريد أن أجزم بأسماء الأشخاص الذين كتبوها، لكن رُفعت بحقي مذكرات اعتقال ومنع سفر لدى مختلف الفروع الأمنية”.
“أتذكر جيدا الصديقين الصحفي الكاريكاتوريست أكرم رسلان، والصحفي في سانا زياد خلوف، ولا أنسى أن كثيرا من الزملاء جرت تصفيتهم في أماكن أخرى، بينهم مصعب العودة الذي جرى قتله داخل منزله بسبب عمله الصحفي. وإجمالا هناك مئات الصحفيين ممن قتلوا بأشكال متعددة بعد عام 2011”.
علي سفر عمل مديرا لبرامج قناة “سوريا دراما” في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، يقول لموقع تلفزيون سوريا، إن الهيئة العامة تحولت إلى قلعة أمنية، بعد أن كانت لفترة طويلة جديدة أشبه بمؤسسة محكومة بوجود لعناصر الأمن من كل الفروع الأمنية، ويضيف أن “الفرق بين الحالتين أن المكان بات يعج بالعناصر المسلحة، إذ لم يعد الأمر يقتصر على عناصر سرية المداهمة الفرع 215 التي تحمي المكان، بل صار التلفزيون مركزا لتجميع عناصر الشبيحة، قبل انطلاقهم مساء لقمع التظاهرات في المناطق القريبة، وبالإضافة إلى هذا صار من الطبيعي أن تجد مجموعات من الموظفين الشبيحة يجلسون ويتحدثون عن رغبتهم في قتل كل من تسول له نفسه التظاهر ضد نظام الأسد”.
وتابع “بناء على هذا الوضع، صار المرء يشعر بأنه مراقب، وإن تورط وأظهر وجهة نظر مختلفة، بات عليه أن يواجه عيون الشبيحة والعناصر الأمنية، تراقبه، وتتحين الفرصة للانقضاض عليه”.
وثيقة
وأكد أن بعض الموظفين في التلفزيون والهيئة العامة كانوا يتواصلون مع “سرية المداهمة” مباشرة من أجل أن يقوموا باعتقال زملائهم بعد حدوث مشاحنات أو نقاشات، وهذا أدى إلى اعتقال فني المونتاج هشام موصلي بعد جدال مع مخرج اسمه علي جبور، وكانت النتيجة أن تم اعتقاله فورا وبحسب شهود على الواقعة ما زالوا أحياء. وقد قضى موصلي في الفرع 215 وفق زملاء كانوا شهودا على انهياره الصحي في المعتقل. كما قتل أيضا تحت التعذيب الصحفي جهاد نجار.
ويشير سفر إلى أن بعض الموظفين ممن تورطوا في الإبلاغ عن زملائهم ما زالوا يمارسون عملهم حتى اللحظة في التلفزيون.
ومن الصحفيين الذين تم اعتقالهم، (أيهم عبد الرزاق – مصور)، (فراس كيلاني- فني مونتاج)، (هيثم أصفري – فني مونتاج).
ويضيف أن مدير التلفزيون معن صالح كان ينسق مع الوزير عدنان محمود في تطبيق قوائم الممنوعين من السفر، ويذكر أن المخلوع بشار الأسد قد صوت عام 2012 في مبنى التلفزيون بحضور عدنان محمود ومعن صالح الذي أصبح اليوم “معارضا” في ألمانيا يقول بسخرية.
وعين صالح في 5 من أيار 2010 مديراً للقناة الأولى (البرنامج العام) ثم مديرا للهيئة العامة من 17 حزيران 2011 وحتى عام 2012، ونقلت تقارير صحفية حينئذ عن وجود ارتباط وصداقة بين صالح ومديرين في الهيئة العامة مع مستشارة الأسد لونا الشبل التي قتلت العام المنصرم.
ويعلق سفر قائلا حول بقاء مؤيدي النظام ومنفذي سياساته يعملون في الإعلام الرسمي قائلا “ما الفائدة من تغيير اسم جريدة تشرين إلى الحرية إن كانت ستعمل هي وغيرها بالعقلية الأسدية السابقة نفسها؟ سؤال لا يمكن الإجابة عنه بشكل عرضي، طالما أن صحافة النظام البائد هي مجرد وظيفة..”.
من جهتها قالت منظمة مراسلون بلا حدود، عقب سقوط النظام السوري “قتل الأسد وحلفاؤه أكثر من 181 صحفيا بسبب طبيعة عملهم. فبحلول يوم سقوط النظام على أيدي هيئة تحرير الشام بتاريخ 9 ديسمبر/كانون الأول 2024، كان يقبع في سجون البلاد ما لا يقل عن 23 صحفيا، بينما كان 10 في عداد المفقودين، سبعة منهم كانوا من ضحايا الاختفاء القسري.
وإذ ترحب مراسلون بلا حدود بزوال واحد من أكثر الأنظمة القامعة للحرية في التاريخ الحديث، والذي جعل سوريا تقبع في المرتبة 179 (من أصل 180 بلدا) على جدول التصنيف العالمي لحرية الصحافة، فإن المنظمة تدعو إلى إحقاق العدالة وإنصاف الصحفيين الذين قُتلوا وجُرِحوا واحتُجزوا وفُقِدوا، حيث يجب على المسؤولين عن قيادة شؤون الدولة السورية في المرحلة المقبلة الحرص على فتح عهد جديد لحرية الصحافة”.
وأضافت أنه في مطلع شهر ديسمبر/كانون الأول، أي قبل أيام قليلة من سقوط نظام بشار الأسد وهروب هذا الأخير، حاولت قوات النظام السوري السابق وقف تقدُّم فصائل المعارضة من إدلب إلى العاصمة، وفي خضم ذلك، قتل جيش النظام صحفيَين كانا بصدد تغطية الاشتباكات، هما مصطفى الكردي، الذي كان يعمل لحساب مجلة “فوكس حلب” الإلكترونية ومراسل مؤسسة الإذاعة والتلفزيون التركية في حلب، وأنس الخربوطلي، مصور وكالة الأنباء الألمانية DPA.
كيف كانت علاقة الإدارة بالأجهزة الأمنية؟
وبشأن علاقة إدارة القناة بالأجهزة الأمنية يقول سفر، إن الإدارات في الهيئة لا تستطيع أن تكون إلا في موقع المتلقي لقرارات الأجهزة الأمنية، أي أن عليهم تنفيذ ما يصدر عنها، ولا يمكن لأحد أن يعترض، “أظن أن الضغط هنا يصبح مضاعفا عن الإدارات في المؤسسات العادية أي الخدمية أو الإنتاجية أو غيرها. وذلك يعود إلى أن المكان يجب أن يكون وفق الاعتقاد والسياسة الأمنية معقما من أي نيات أو احتمالات مخالفة لسياسة النظام”.
ويتابع “كي أكون منصفا، وعلى اعتباري كنت مديرا، لا يمكن وضع الجميع في سلة واحدة، فالمديرون المهنيون هم من الموظفين الذين ترقوا في عملهم، وبعضهم عارض الحل الأمني، ولم يتورط في جعل نفسه مراقبا على موظفيه، لا بل إنني عشت دور المدافع عنهم، حين جاء المندوب الأمني ليخبرني بأن ثمة محررين في قسمي يقومون باستخدام الإنترنت بطريقة مشبوهة (تحميل أفلام للمظاهرات) رفضت الاتهامات وقمت بقص شريط الإنترنت كي أنبه الزملاء من خطر المراقبة الأمنية. وفي أوقات أخرى قام زملاء من الإداريين بتنبيهي حيال شكوك الآخرين بي، وهناك أدوار أخرى قام بها زملاء آخرون، قبل أن تقضي اللجنة الأمنية المشكّلة من مديرين شبيحة بوجوب تطهير الإدارات من المشكوك بأمرهم، الأمر الذي أجبرني مثل الزملاء ممن يشبه موقفهم موقفي، على الاستقالة من منصبي”.
ويوضح أنه في المقابل هناك مديرون كتبوا تقارير أمنية بموظفيهم، وقاموا باستزلام موظفين آخرين لمراقبة زملائهم.
“تنسيقية التلفزيون”
وحول اعتقال صحفيين إثر تقارير أمنية كتبت بحقهم في أماكن عملهم، يقول سفر “نعم حدث هذا، وحدث الأسوأ.. فقد تم فصل كثير من الموظفين المشكوك بولائهم، وتم اعتقال بعضهم ثم أفرج عنهم، وذهب آخرون لمراجعة الفروع الأمنية واختفوا إلى هذه اللحظة، وعلمنا أنهم قتلوا تحت التعذيب، وأتذكر أن الاعتقالات أو المراجعات حدثت على عدة مراحل، ففي الشهور الأولى للثورة راجع العشرات الفروع الأمنية بناء على التقارير، التي كان يمر بعضها على الإدارات، وأقول بعضها، لكن عملية الاستدعاء كانت تتم بعلم المدير المسؤول، بعد أن يصل التبليغ إلى المدير العام، وفي وقت لاحق، في عام 2012 تم استدعاء مجموعة كبيرة من الزملاء (كنت بينهم) والذين اصطلحنا على تسميتها بتنسيقية التلفزيون، وفي منتصف ذاك العام حدث تفجيران في المبنى ونعتقد أن الأمن قد دبرهما، وبعدها حدث اعتقال لعشرات من الموظفين”.
ويضيف أن الموضوع في مبنى التلفزيون وبوصفه مؤسسة تحت الرعاية الأمنية المختلفة لا يترك مجالا للإدارات أن تكون فاعلة إلا إن كان المدير بذاته “شبيحا” أو يبالغ في ولائه للنظام المخلوع.
“هنا، لا بد أن أذكر تفاصيل حول الاستدعاء الأول في فرع الخطيب التابع لأمن الدولة، حيث قال لي المندوب الأمني الذي حاول إظهار بعض المودة في اليوم الثاني إن عليّ أن أكون حذرا ممن حولي في التلفزيون! وفي الاستدعاء الثاني في الفرع 215 وبعد أن سجل المحقق إجاباتي عن أسئلته قال لي إن كل الأحاديث التي جرت في مكتبي جرى تسجيلها وفي السياق فهمت أن بعض التقارير كتبها أشخاص مخلصون أرادوا التنبيه إلى أني ضد الحل الأمني. وهذا الأمر سبق أن أعلنته في اجتماع إداري مصغر حول شؤون إدارية، وقلته بحسن نية، لكنه تحول على يد الزميل المدير إلى تقرير أمني، كاد أن يودي بي إلى المجهول”.
الكفاءات تهمَّش والطائفية تتحكم في التلفزيون السوري
أكدت مصادر صحفية خاصة، أن الطائفية كانت تمارس بشكل منهجي في مؤسسات إعلام النظام السوري البائد، حيث يشغل أفراد من طائفة واحدة (العلوية) المناصب الإدارية العليا، ما أثار انتقادات تتعلق بالكفاءة المهنية والشفافية داخل تلك المؤسسات. وأوضحت تقارير أن قائمة المديرين الحاليين للهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون وعدد من وسائل الإعلام تضم 16 مديرا من طائفة واحدة وهم:
– حبيب سلمان، المدير العام لهيئة الإذاعة والتلفزيون (تم عزله)
– ميسون يوسف، مديرة الأخبار المصورة.
– زهير ملحم، مدير الإدارة والمالية.
– كفاح الحسين، مدير التشغيل التلفزيوني.
– صالح إبراهيم، مدير قناة الإخبارية السورية.
– أنسام السيد، مديرة قناة دراما.
– ثائر فندي، مدير الإنتاج التلفزيوني.
– سماح معلا، مديرة الرقابة الداخلية.
– فراس موسى، مدير رقابة البرامج.
– تمام إبراهيم، مدير العلاقات العامة.
– عبير قاموع، مديرة إذاعة صوت الشباب.
– ديرين علي، مديرة إذاعة سوريانا.
– فاتن أحمد، محاسبة الإدارة والمالية.
– مجد جنود، مدير الشؤون التجارية.
– حسن مزق، مدير التشغيل الإذاعي.
– مثنى العلي، رئيس دائرة الموسيقا بإذاعة دمشق.
وانتقد عاملون في التلفزيون السوري ممارسات الطائفية والمحسوبية، مشيرين إلى سيطرة أفراد غير مؤهلين على إدارة البرامج والإنتاج، ما أدى إلى تدني مستوى الأداء المهني وخسارة الجمهور.
وأوضح أحد العاملين السابقين أن الفساد الإداري وتفاوت المكافآت بين الموظفين يكرس الظلم والإحباط، لافتا إلى غياب الشفافية في القضايا الاقتصادية والسياسية المطروحة إعلاميًا.
فساد إداري ومحسوبية تفاقمان أزمة الإعلام الرسمي
الإعلامية باسمة الأيوبي، التي عملت سابقا في التلفزيون السوري، روت أنها واجهت عداوة من الإدارات المتعاقبة والعديد من الموظفين بسبب مواقفها الصريحة ورفضها السكوت عن المخالفات. وأشارت إلى أن بعض العاملين كانوا ينقلون أي نقد للإدارة بسرعة، مما أسهم في تأجيج الخلافات وزيادة التوتر.
وأضافت لموقع تلفزيون سوريا أن عدد الموظفين في الهيئة بلغ 6 آلاف موظف، 2500 منهم مثبتون فقط، ويعمل الباقي بحسب الطلب والواسطة ويقبض شهريا على “القطعة” التي يتم إنجازها.
وأوضحت الأيوبي أن الفساد كان منتشرا داخل المؤسسة، حيث كان يتم تفضيل بعض الموظفين غير المؤهلين الذين يحصلون على حوافز مالية كبيرة من دون بذل أي جهد يذكر، مقارنة بآخرين كانوا يعملون بجد لتقديم برامج تليق بالجمهور. وأضافت أن المحسوبية سيطرت على معظم البرامج، ما
أدى إلى تقديم محتوى ضعيف لا يمكن للمشاهد تحمله لأكثر من دقائق.
وأكدت الأيوبي أن هذه الممارسات، إلى جانب غياب المصداقية في تغطية القضايا الاقتصادية والسياسية، أدت إلى تدهور الإعلام السوري وخسارته شريحة واسعة من الجمهور.
وأكدت ما قاله سفر حول وقائع اعتقال وقتل تحت التعذيب طال صحفيين منهم “المونتير في التلفزيون السوري هشام موصلّي الذي قتل تحت التعذيب داخل الفرع 215”. إصافة إلى المصور الصحفي في التلفزيون السوري بلال الحسين الذي قضى تحت التعذيب أيضا.
انتهاكات علنية مارسها مراسلون “صحفيون”
كنانة علوش صاحبة “سيلفي الجثث”، عملت مذيعة في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون بسوريا، وتحوّلت إلى “مراسل حربي”، تدعم رئيس النظام المخلوع بشار الأسد، وتدافع عنه، عقب اندلاع الثورة السورية، وغطت أعمال القصف والمعارك خاصة في محافظة حلب.
في أواخر العام 2015 أطلت علوش على الهواء، تروج لانتصارات “الأسد” وسط جثث القتلى، غير مكترثة بأن يكون بقاء بشار الأسد في الحكم على حساب أنقاض منازل المدنيين العزل، والأطفال الأبرياء.
واشتهرت “علوش” بالتقاط صور السيلفي مع جثث الضحايا التي سقطت من جراء غارات النظام وعمليات القصف.
كما ظهرت في العام 2016، وهي تضحك فوق جثث أطفال ممددين على أرضية أحد المستشفيات بمدينة حلب، في أثناء إعدادها تقريرا مصورا لوسائل إعلام النظام السابق الرسمية.
إلى جانب علوش يبرز شادي حلوة، وهو من مواليد حلب 1985. يعد حلوة أحد أبرز إعلاميي النظام السوري المخلوع، فقد شارك كمراسل حربي خلال عمله في إعلام النظام مثل “الفضائية السورية”، في تغطية معارك قوات الأسد في مناطق عديدة خلال السنوات التي أعقبت الثورة، إلى جانب قائد الفرقة 25 أو ما يُطلق عليها “قوات النمر” سهيل الحسن.
كان يدير حلوة إذاعة “صدى إف إم” التي امتلكت حقوق بث “الدوري السوري” لكرة القدم. وتجمعه علاقة متينة مع مجموعة “قاطرجي الدولية” التي يرأسها حسام قاطرجي المعاقب دوليا، والتي تدعم نادي الاتحاد (أهلي حلب) بمئات الملايين، إضافة إلى علاقات مع تجار آخرين في المدينة، وفق موقع “سناك سوري” المحلي، وعرف حلوة بخطاب “التشفي” والتأييد للنظام البائد.
ماذا تقول الإدارة السورية الجديدة؟
في سياق متصل، أوضح وزير الإعلام في حكومة تصريف الأعمال السورية، محمد العمر، أن المراسلين الحربيين الذين شاركوا نظام الأسد في جرائمه وسفكوا دماء الشعب السوري سيُحالون إلى القضاء المختص.
وكشف العمر عن جهود الوزارة لتحديد معايير تضمن حرية الإعلام في سوريا، مع الالتزام بالقيم التي تعكس تطلعات الشعب السوري وسوريا الجديدة.
وذكر العمر أن “إعلام النظام السابق كان أسير توجيهات أجهزة المخابرات”، مضيفاً أن “إعلام سوريا الحرة اليوم يعكس تطلعات الشعب وينقل صوته بصدق، ملتزماً بقيمه ومبادئه الراسخة”.
وبخصوص المصادر الإعلامية الحكومية، أوضح العمر لموقع “الجزيرة نت”، أن الوزارة أعادت تفعيل وكالة الأنباء السورية (سانا) لتكون مرجعا موثوقا للحصول على الأخبار الرسمية، وكذلك الصفحات الرسمية للجهات العامة.
ويرى العمر أنه من المبكر الحديث عن إعادة هيكلة الأجسام الصحفية، مضيفا أن الوزارة تعمل حاليا على وضع رؤية إعلامية شاملة تجمع مختلف المؤسسات الصحفية تحت مظلة واحدة تعبر عن قيم الحرية والتغيير في سوريا الجديدة.
—————————
في الأحوال السورية وأولوياتها/ محمود الوهب
07 يناير 2025
كلّ من شاهد مقابلة قناة العربية مع أحمد الشرع، وقبلها مقابلته مع “سي أن أن”، لفته هدوء الرجل، وثقته بنفسه، وبالبديهة الدبلوماسية الملاحظة في أجوبة جاءت متّزنةً في منطقها، وفي إلمامها الواسع بموضوعات الأسئلة، بغضّ النظر عمّا إذا كانت الأسئلة معدَّة مسبقاً أم غير ذلك، فإنّها كانت مركَّزة. وقد حاول الشرع، في كثير منها، ألَّا توحي بأمر ما، وألا تُحمَّل مكنوناته التي لا تُخفَى. وبعبارة، يمكن القول إنه كان دبلوماسياً مقنعاً، وعلى غير ما هو متوقّع، إذ الراسخ في ذهن المشاهد كثير ممّا لحق بشخص الشرع، وما شاع عن تنظيمه من أحاديث تؤكّد سلفيته المُفرِطة، وتطرّفه الزائد، ولم يُغيِّر من الصورة كثيراً ما حكى عن إدلب من نظام وتطوير، واهتمام بالخدمات العامّة مثل تأمين الخبز والماء والكهرباء والوقود، ووفرة النشاط الاقتصادي، الذي يمكن أن يعطي صورةً فعليةً عن حكومته. ناهيكم عن العقوبات التي ما تزال على هيئة تحرير الشام، المتفرّعة أصلاً من تنظيم الدولة الإسلامية، والمبايعة (في وقت أسبق) أيمن الظواهري أمير تنظيم القاعدة.
لكلّ ما ذُكِر أهمّيته، ولا بدّ أن يُؤخَذ في الحسبان عندما يحين تقييم الرجل الذي يُعِدُّ نفسه لأمر كبير ومهمّ، أبعد من لقاء تلفزيوني عابر، ولعلَّ اللقاء ذاته يجيء تحت عنوان ذلك الأمر المهمّ. وتندرج تلك الترتيبات تحت إطار ما يسمّى “الشكل”، ولكن للشكل علاقة عميقة بالمضمون، فلا مضمون من دون شكل يناسبه، وغالباً ما يشي الشكل بمضمونه. قد تكون ثلاثة أعوام لكتابة دستور، وأربعة لانتخابات نيابية ورئاسية، ضروريةً، ومبرّرة، لكنَّ مؤتمراً عدد أعضائه 1200 شخص يمثّلون المُكوّنات السورية، ووجوه فعّالياتها، وأنشطتها النوعية، يُعقد خلال يومين فقط، يمكن وصفه بأنه دعوة إلى الاستماع، والموافقة على ما هو مرسوم لسورية، أو ما سوف تكون عليه. قد يكون الوقت غير كافٍ، لكنَّ الاستماع، هذه الأيام القلقة بالذات، قد يكون ضرورة لتبادل الأطراف السورية الفِكَر والرؤى حول المرحلة المقبلة، ثمّ يجري التحضير لمؤتمر يُرسِّخ أسس النهج السوري، ويؤكّد استمراره، مؤتمر تحضره قوىً سياسيةٌ منظّمةٌ، تكون هي الأخرى قد أنضجت رؤيتها، وثبّتت وجودها وبرامجها، وتلك الترتيبات ضرورية في المرحلة الحالية، ولا تخوّف منها. في كلّ حال، ليكن ما يكون، فلا أحد ينكر على الشرع إسقاطه حكم الطاغية، بغضّ النظر عن مجريات الحدث المسبوق بمسبّبات ودواعٍ محلّية ودولية كثيرة، واستشفاف انتهاء حقبة من حياة السوريين، والتخلّص من إيران، الدولة التي تخطّت حدودها، وخرَّبت كثيراً في سورية ودول المنطقة. نعم نحن مقبلون على مرحلة قد تكون مَحْرقَةً لمن يُحمَّل أعباءها، فعلى عاتقه رسم معالم خُطاها الأولى، التي تعوّض السوريين فوات أكثر من ستّين عاماً، غيَّبها الحكم العسكري.
سيقدّم الشرع (في الفترة التحضيرية المشار إليها) خدمات تمسّ حياة الناس مباشرةً ما سيكون لها تأثير كبير في حياة الناس الذين لا يبحثون عن منافعَ سياسيةٍ، ولكن تحدّيات كثيرة ستبقى أمام الرجل، وهو مدركٌ بعضها، إذ ليس حكم سورية كحكم إدلب، وإن كانت إدلب تجربة ناجحة أو نواة كما قال الشرع نفسه. ولكنّ السؤال المهمّ: هل تتعلّق المشكلة بإنسان فرد أم بنهج عام يستند إلى أيديولوجيا محدّدة، قد لا يوجد تطابق تامّ في الرؤية والفهم بين أفراد المؤمنين بها أحياناً، فلا بدّ من تعزيز دعائم الدولة المدنية بمفهومها الأعمّ، الذي يراعي أحوال الأغلبية الساحقة من المواطنين، خاصّة في المسائل المشتركة كالمسائل التعليمية والتربوية؟ كما لا بدّ من مراعاة التطوّرات التي حدثت وتحدث في العالم لا في إدارة الدولة فحسب، بل في المنجزات العلمية المعاصرة، التي لها دور أساس في مجمل عملية التنمية، التي حرمت منها بلادنا عقوداً.
وربّما، من هنا، يجيء السؤال: هل كان ثمّة ضرورة تمسّ تغيير المناهج المدرسية؟… ثمّة أمور تشير إلى الاستبداد السياسي، ورموزه، وإلى عبارات لها علاقات بما كانت تسمّى “التربية الوطنية”، التي خصَّت الوطنية بشخص وأيديولوجيا حزب معيّن، تقتضي الضرورة حذفها، لكن ثمّة تعديلات قد تمسّ تعدّديةَ المجتمع السوري، خصوصاً أن هناك توجسّاً من الإسلام السياسي، ومن بعض تجاربه، سواء في الداخل السوري، أم في عدة دول عربية، وكذلك في دول أوروبية سارعت إلى إرسال وفد لزيارة سورية ولمعاينة الحكم الجديد من كثب، وسورية في حاجة إلى الجميع اليوم. فهل كان من الضروري شرح “غير المغضوب عليهم ولا الضالين” بأن المعني بهما اليهود والنصارى؟ ألا يكفي القول إنهم المنحازون عن الحقّ والمبتعدون عن جادّة الصواب، ونحن في مرحلة لها حساسيتها؟… هناك ما يوحي بأن ثمّة تصوُّراً لا يتطابق مع غاية الثورة السورية التي قامت ضدّ استبداد فرد وأسرة، واستعباد شعب، وفساد وصل، في النهاية، إلى نهب وطن وتخريبه، إن لم نقل بيعه بالمفرّق. أولاً وأخيراً لا بدّ من تأكيد التعدّدية. وهذه لا تعني أن الأكثرية ترعى شؤون الأقلّية، بل يتوصّل الجميع إلى مشتركات يُقرّها العصر.
إننا في وضع حرج وقلق، وأكثر ما يحتاج إلى الأمن والسلام المجتمعي، وتجنيبه كلّ ما يمسّ جوهر الحرّية التي حُرِم السوريون منها سنين طويلة، وقطعاً لا يأتي الأمن من خلال الجيش أو القوة عموماً (على أهمية ذلك)، لكن الحال السورية مطلوب منها إعادة روح الحرّية إلى المجتمع السوري ليأخذ في التجدّد والتنمية وملامسة جوانب حضارة اليوم.
العربي الجديد
————————
وزير التربية السوري “يكذّب” نفسه: هل بات تغيير المنهاج واقعاً؟/ سارة حسام
07.01.2025
كان واضحاً بشكل لا لبس فيه أن الوزير تبنّى خطاباً دينياً إسلامياً، متجاوزاً بذلك فكرة الخطاب التربوي المتوازن. فقد بدا جلياً طموحه في صياغة منهاج يتوافق مع تعاليم الإسلام، لا مع قيم المواطنة ومبادئ التربية الشاملة.
منذ وصول حكومة أحمد الشرع (الجولاني)، تصاعدت المخاوف من فرض الحكومة المؤقتة فكرها الإسلامي على الحياة السورية، وهو ما لم تتأخر فيه. لكن الغريب أنها حاولت التلاعب وإقناع السوريين بأنها تراجعت عن قرار تغيير المناهج، الذي أثار موجة غضب واسعة، بينما الحقيقة تقول إنها لم تتراجع، وفي ما يبدو أنها لن تتراجع.
التلاعب على المصطلحات
بعد جدل حول تغيير المناهج بحذف معلومات علمية وصور لشخصيات تاريخية وأخرى لتماثيل، نفى وزير التربية نذير القادري ذلك، مدعياً أن التعديلات اقتصرت على مادة التربية الإسلامية. لكن تصريحاته الأخيرة على قناة “العربية” أكدت حدوث التعديلات، ما يثير تساؤلات حول استمرار الحكومة المؤقتة في خداع السوريين بتصريحات متناقضة.
خلال المقابلة، بدا واضحاً تلاعب الوزير القادري بالكلمات، إذ صرّح: “ما قمنا به هو تعديل طفيف وليس تغييراً جذرياً للمناهج”، لكنه تجنّب وصف “حذف الفقرات أو المعلومات أو الصور” كجزء من التعديلات، معتبراً إياها تغييراً “يخدم ثورتنا” على حد تعبيره. وبرغم ذلك، لم يوضح من المقصود بـ”ثورتنا”، وهل يشمل ذلك جميع أطياف السوريين وأهدافهم المختلفة؟!
على رغم البيان الذي نفى أي تغييرات في المنهاج، أقر الوزير بحذف فقرات من المواد العلمية، قائلاً: “لم تُعدّل المواد العلمية، إنما حُذفت منها نظريات ثبت بطلانها”، من بينها “نظرية التطور”، إذ استند في قرار الحذف إلى وجهة نظر دينية وليست علمية. وتحدث الوزير بثقة عن “بطلان” هذه النظريات، من دون توضيح الأسس أو المعايير التي ارتكز عليها هو ولجنته في اتخاذ هذا القرار.
كان واضحاً بشكل لا لبس فيه أن الوزير تبنّى خطاباً دينياً إسلامياً، متجاوزاً بذلك فكرة الخطاب التربوي المتوازن. فقد بدا جلياً طموحه في صياغة منهاج يتوافق مع تعاليم الإسلام، لا مع قيم المواطنة ومبادئ التربية الشاملة.
أما عن حذف الصور والتماثيل، فقال القادري: “حتى لو حُذفت، ما المشكلة في ذلك؟ أين المشكلة طالما أن المعلومة لم تُحذف؟ ما المشكلة في حذف الصورة! هل حذف صورة يمنع حرية أحد؟”.
تعكس إجابة القادري فهماً محدوداً للحرية، إذ يختصرها بتصرفات الأفراد وسلوكهم، متجاهلاً أن الحرية تشمل أيضاً الحق في المعرفة والوصول إلى المعلومات من دون قيود أو حجب. فمن وجهة نظره، لا يعتبر حذف الصور أو بعض المواد العلمية اعتداءً على حرية الأفراد، وكأن المعرفة بحد ذاتها ليست حقاً أساسياً يجب أن يُصان.
هذا التصور يتغاضى عن حقيقة أن الحرية ليست مجرد مجال شخصي ضيق يتعلق بتصرفات الأفراد، بل هي فضاء أوسع يشمل حرية التفكير والتعلم والتعرف على مختلف الأفكار والنظريات، حتى تلك التي قد لا تتفق مع رؤية أو أيديولوجيا معينة. فحين تُزال الصور أو تُحذف المعلومات بحجة التوافق مع معايير دينية أو اجتماعية محددة، يُفتح الباب لتضييق آفاق الأفراد وحصرهم في إطار فكري ضيق، لا يسمح لهم برؤية الصورة الكاملة أو بناء آرائهم بشكل مستقل.
ويبقى السؤال: هل يجهل القادري أن المعرفة هي جزء لا يتجزأ من الحرية؟ أم أن هذا التجاهل متعمد لخدمة أهداف معينة، تتعارض مع حق الأفراد في الاطلاع على مختلف زوايا الحقيقة؟
تكشف هذه التصريحات عن الهوة العميقة في فهم الحرية لدى الفئات المتشددة، ممن يعتقدون؛ ربما “بحسن نية”، أن غياب صورة لن يؤثر على حرية الأفراد. وهذا بحد ذاته يشكل كارثة أخرى، إذ يعكس اعتمادهم على رؤية ضيقة ومحدودة للمعرفة، رغم أنهم يشغلون مناصب تُعنى بالتعليم ونقل المعارف. فبدلاً من الانفتاح على مختلف زوايا الفكر والعلوم، يفضلون الاكتفاء بفهمهم المحدود، متجاهلين أن دورهم يتطلب تمكين الأفراد من الوصول إلى المعلومات بحرية ومن دون قيود.
“النظام السوري كان أكثر ظلماً من الاحتلال العثماني”!
من جهة أخرى، أكد الوزير استبدال مصطلح “الاحتلال العثماني” بـ “الفتح العثماني”، مشيراً إلى أن “النظام السوري كان أكثر ظلماً من كثير من الأنظمة”، وقال: “هل كان الاحتلال العثماني ظلماً أم فتحاً؟”، من الغريب فعلاً أن يقارن وزير في حكومة انتقالية بين ظلم نظام وآخر ليبرئ أحدهما، أليس من الواجب أن يعترف بأخطاء كلَي الجانبين من دون تفضيل ظلم على آخر؟
برأي الوزير، لا مقارنة بين ظلم الحكم العثماني ونظام الأسد، متجاهلاً تاريخ الجرائم بحق السوريين، مثل المجازر المارونية – الدرزية تحت إشراف الدولة العثمانية، وفرض الضرائب الباهظة والظلم الاقتصادي. كما استخدمت السلطات العثمانية القمع ضد أي معارضة، ونفذت إعدامات علنية لترهيب السكان، كإعدام العشرات من المثقفين والقادة السوريين في ساحتي المرجة في دمشق والبرج في بيروت عام 1916، والمعروفة باسم “شهداء السادس من أيار”، بالإضافة إلى قمع الحريات الثقافية والتعليمية وغيرها من الإجراءات التعسفية.
وبالانتقال إلى الجزء الأهم وهو القانون، قال الوزير إنهم حذفوا كلمة “قانون”، متسائلاً: “هل هناك فرق بين الشرع والقانون؟”، متجاهلاً أن بعض تطبيقات الشريعة قد تتناقض مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان، كحقوق النساء والأقليات، كما أن ذلك قد يؤدي إلى التضييق على حرية الفكر، كما حدث عند حذف مواد علمية لا تتوافق مع الدين الإسلامي.
في النتيجة، تعكس تفسيرات نذير القادري رؤية الحكومة بشكل عام، ولا ينبغي النظر إليها بشكل منفصل. لكن الأخطر في ذلك كله، هو التلاعب بالتصريحات والإيحاء بأنه تم التراجع عن قرارات تم اتخاذها، فيما يبقى الوضع كما هو على أرض الواقع. وهذا يمثل استهتاراً بعقول السوريين أولاً، ويؤكد أن توجه الحكومة المؤقتة يميل إلى التشدد.
درج
———————————-
ثوان وسنون/ عدي الزعبي
07/01/2025
عصافير تزقزق، وعمال من الأبنية المجاورة يدندنون ألحاناً شعبية، ورصاص قريب، لا نعرف مصدره أو سببه. شمسٌ ساطعة، بعد أيام برد قارس. أتحرك في سريري، السرير الذي لم يتغير منذ التسعينيات، وأمامه المكتبة التي تركتُها ورائي عندما هربتُ، والمرايا على الخزانة ما زالت تراقبني. دقائق قليلة، قبل أن تستكين الروح وتقنع أننا في المنزل القديم. أجرجر نفسي، غير مصدّق. صورتي في المرآة لا تعرفني، وأنا لا أذكر ذلك الشاب فيها تماماً. أمي تعدّ القهوة، لنثرثر قليلاً، قبل أن أبدأ مشواري للتعرّف على مدينتي. كل خطوة كأنها في الماضي، كأن الزمن لم يمر، كأنني لستُ أنا: أشيب، متعب، في الثالثة والأربعين، أبٌ لطفل لا يتكلم العربية. أين أذهب؟ في ساحة الأمويين، ينتشر بائعو المازوت والبنزين، كما ينتشرون على كل الطرقات المؤدية إلى دمشق، وفي ساحاتها الكبرى والصغرى. مشكلة سوريا الأولى الوقود. والناس يرددون ذلك: بعد أن يتوفر الوقود، سنحظى على الكهرباء، وتنخفض الأسعار، وتعود المواصلات، ويدفؤون بيوتهم، ويقودون سياراتهم، ويشترون خبزاً أرخص من أفران تعمل بكامل طاقتها. البلد كلها تعيش على إيقاع التقشف الحاد، وتنتظر من “القائد أحمد” رفع العقوبات.
أتجه من الأمويين إلى جسر (الرئيس)، تعلوه لافتتان: جسر الحرية، وجسر الساروت. الزحمة خفيفة. صبايا محجبات يضحكن. شاب مع علم الثورة يغطي ظهره. قادمون من إدلب يضحكون بصخب. علم الثورة في كل مكان تحت الجسر. الناس متعبة، يساومون الباعة الجوالين. الأسعار رخيصة جداً، عندما يحوّلها المرء إلى اليورو أو الدولار. السيارات الحديثة من الرقة أو إدلب. دبابات النظام ما زالت متناثرة، وسيارات تابعة للجيش مكسّرة على الطرقات. باصٌ محترق، فوق الجسر، فيه طفلان يدخنان. يقولان إنهما من إنخل، من قرى حوران. أسأله عن عمره. يكذب، يقول 14 سنة. ثم يشتمني، طارداً إياي من باصه. أنزل. مئات الشحاذين، معظمهم أطفال، من كل أنحاء سوريا. هنا تتجلى الوحدة الوطنية في أقسى صورها. بقايا قليلة، رغم كل محاولات إزالة ما علق بنا: “قائدنا إلى الأبد”، على واحدة من مؤسسات الدولة. علم البعث على أخرى. كأن ذلك العهد لا يريد أن يتلاشى. ولمن عاش طفولته ومراهقته فيها، لا شيء يثير السخرية في تلك الشعارات. صرافون في الشوارع، في كل زاوية. دولار وليرة تركي بشكل رئيس. مسلحو الهيئة يظهرون ويختفون. الكهرباء حديث الناس الأول؛ الكهرباء، وبشار. شيء أكبر من الاحتقار، أعمق. أتجه نحو مقهى الهافانا. لم أره منذ خمسة عشرة سنة. لا أدخل. أدور حول تمثال يوسف العظمة. نجا من سخرية القدر، وبقي واقفاً صامداً في قلب دمشق، التي مات على أبوابها. فندق الشام، فقد بهاءه. قيل لي الطبقات الغنية حوّلت أنظارها نحو أماكن أخرى. لا أعرف أين. شيءٌ لا يشبه الفرحة بالضبط. شيءٌ من عدم التصديق، من الطيران في المكان. “الأدالبة” وشباب الهيئة مرتبكون، والشوام وسكان الشام مرتبكون. أسلّم على المسلّحين واحداً واحداً، في الشوارع وعلى نقاط التفتيش وأمام المراكز الحكومية التي يرابطون فيها لحمايتها. معظمهم شباب في العشرينيات. مهذبون جداً. سعادتهم تطغى على وجوههم، من كلمات شكر بسيطة: “يعطيكم العافية يا شباب، نوّرتوا الشام”. محلات المجوهرات أخفت المجوهرات من الواجهات. شحاذون نبلاء، على ما يقول ألبير قصيري: نساءٌ راقيات ورجالٌ محترمون، يقتربون منك ويخاطبونك بشموخ، طالبين بعض المال، والدمع في مآقيهم. لا خطة واضحة للمستقبل، والكل يعرف ذلك. ضبط الأمن، وطمأنة الخارج كي تُرفع العقوبات. فقط لا غير. استعدنا البلد. أو شيءٌ من هذا القبيل. وصلتُ متأخراً، بعد احتفالات جمعة النصر. تبدي البلد إذن شيئاً أقل من تلك الرغبة بالرقص والاحتفاء، شيئاً أبسط، شيئاً تعيشه، بدون الكابوس. الكابوس لم يغادر بعد. ما زال حديث الناس، موضع استغرابهم، قرفهم: كيف عشنا معه؟ ولماذا؟ شيءٌ من الراحة، القليل جداً منها، بدأ يتسرب إلى النفوس. ربما، هذا ما تعنيه الحرية في المعاش اليومي العادي. أمر أمام وزارة الثقافة، التي لا وجود لها في الحكومة الانتقالية، ولا لكل عملي البسيط المتواضع المرتبك في القصص القصيرة والمقالات الأدبية والتأملات الحالمة في معنى ظهور تمثيل البشر والحيوانات في فنون العصور الفاطمية والمملوكية والأيوبية، على العاج والخشب والزجاج والبوابات والحيطان.
التفاؤل الحذر يختلط بتردّي الأوضاع المادية، وتأخر رواتب الموظفين. “الخارج” و”الداخل” مصطلحات تعود إلى التداول. تلوّث الهواء ورائحة المازوت. صور المفقودين على الحيطان. بعضها يثير الهلع: “سُمع أنه في صيدنايا”. لا يعرفون عنه شيئاً آخر. صورٌ لمفقودين خرجوا من صيدنايا، ولم يُعرف لهم أهل. أنصاف-مجانين، لا يتذكرون أسماءهم. شباب الهيئة الملثمون يتجمعون لدقائق، ثم يختفون. لا أتذكر الطرقات، وجدتُ نفسي قرب مدرستي الابتدائية. المرة الأولى التي يرجف فيها قلبي. أقف أمامها، متلهفاً كي تجيبني: حتى الحرية لم تساعدني؛ ما زلتُ وحيداً، ولم ألتق بالكثير من الأصدقاء والأهل في مدينتي. هنا قلب دمشق -التي أشرف الفرنسيون بمساعدة معماريين إيطاليين على تخطيطها خارج المدينة القديمة- يسرقني. أعرف أنني منحازٌ لها، ولست موضوعياً. قررتُ أن أترك نفسي تغرق تماماً في كل المشاعر الرومانسية. ولكن المشاعر الرومانسية وقناعتي التي لا تتزعزع بأن دمشق أرقّ مدن العالم، نسفتها الغصة. الغصة؟ أو شيءٌ يقنص القلب، كموتٍ يتجدد. زرنا جوبر. كلها على الأرض. الإرث الحقيقي لسوريا الأسد، ولمن دعمها، أو سكتَ، أو انتظرَ، وللرماديين، وللمؤيدين. يتشلّع قلبي بين جوبر و”أبو رمانة”. أدخل حديقة “السبكي”. كتبتُ عنها قصةً، قبل أشهرٍ فقط، أقارنها بالحديقة الحجرية اليابانية في مالمو، القصة التي ستكون عنوان المجموعة القادمة: “أحجار اللعب”. وأحجار جوبر تغطي الأفق والمعنى: كزلزال لا يتوقف. تبعد جوبر أقل من كيلومتر واحد عن ساحة العباسيين، مدماك دمشق ومفتاحها الثاني. أما مدينتي نفسها، دمشق، فلم تتعرض للقصف. ما زالت طازجة، كما تركتها؛ ولكن رثة، كغرفة جلوسٍ مهجورة، تراكم فيها الغبار والزمن والشجن. أقف على باب الحديقة. طفلٌ يبكي. وآخر يبيع المحارم. خلفي، طابور أمام محل “سامسونج”. عروض خاصة، ليوم واحد. أنظر حولي. زحمة شديدة. أسال عن العرض، يخبرونني عنه، بالدولار. سيارة كبيرة، “فور ويلز”، تقف أمامي فجأة. مسلحون فيها، بذقون طويلة. ينتابني الرعب، الرعب من المخابرات، من الماضي، من كل ما عشتُه هنا. ينزل منها شاب من إدلب. “السلام عليكم”. يعتذر بصدق. لم يرني على الشارع، وأنا تائه كسائح. يسأل عن أحد المطاعم. لا أعرف شيئاً في المنطقة. لا أتذكر الشعلان. نتبادل الكلام عن ألمانيا وإدلب. أقبّله على الخد، وأمشي إلى حديقة “المدفع”، كي أشرب قهوة سادة سريعة. عشرات الشباب على الكراسي والمقاعد يدردشون بكسل. هذه المرة، الوحدة تتجذّر في داخلي: لم تعرفني الشام. أمشي في شارع “الحمرا”، ثم تقودني خطاي إلى “الروضة”. يكبر تأنيب الضمير. في جوبر والغوطة الشرقية فقط يتجلّى معنى سوريا الكامل. ولكنني متعلق بالمدينة التي نجتْ، مدينتي التي لا تتجلّى لي. أتذكر برلين، وأحنّ إلى البيت الذي يعيش فيه ابني وزوجتي. كل فرحة مغلّفة بما لا يمكن فهمه. لذلك، الموسيقا الحقّة تثير الحزن، حتى الموسيقا المرحة، كما يؤكد شوبنهاور. أبتعد عن مقهى الروضة. أخشى أن ألتقي بالناس، وقلبي لا يعقِل الحقائق اليوم. أتركهم، وأقرر أن أفي بنذري، بزيارة ضريح الصوفي الأعظم، قطب الإسلام الواحد الأوحد.
يقع ضريح الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي الأندلسي على جبل قاسيون. أنهى الشيخ ترحاله في دمشق، مسكن الأنبياء ومستقرهم. زار طيفُ الشيخ السلطانَ سليم الأول في منامه، السلطان الوحيد الذي زار دمشق، فبنى له ضريحاً يليق به، ضريحاً صغيراً، ككل زوايا ومدارس وجوامع دمشق، يناسبها وتناسبه. وقد تحوّلت دمشق إلى مركز للحجاج القادمين من آسيا والمشرق، ودللها العثمانيون، واشتُهرت بمحمل الحج الشامي، الذي لا يوازيه إلا محمل الحج المصري من القاهرة. لم تكن العمارة العثمانية قد اتخذت طابعها الجديد على يد سنان باشا، فبقي مسجداً بصفوف العواميد كالأموي وليس مسجد القبة الكبيرة بعواميده القليلة، والمأذنة مملوكية مثمنة، بطبقات متعددة، قصيرة، وليست كقلم الرصاص. يصلي الناس للشيخ، ويدعونه، نساءً ورجالاً وأطفالاً، بابتسامات واثقة. عائلة من آسيا الوسطى، ولكن لم أفهم هل أتوا مع “القائد أحمد”، أم من أولئك الذين استوطنوا “شام شريف” من قبل. مسلحون داخل حرم الجامع. أحدهم يستمع إلى الخطبة. الضريح نظيف، وصغير، ومُعتنى به بشدة. المسلح الآخر يلعب على الموبايل، ويدور حول البحرة. البحرة الصغيرة في الجوامع تقرّب كل الآلهة من القلوب، كأنها تمحي الحدود بين البيوت والمقاهي والمساجد، بخفتها وهدوئها وخريرها المحبب. خرجتُ وروحي معلّقة بالبارودة. الشابان بمنتهى التهذيب واللطف، من حرستا، التي مُسح معظمها في القصف الأسدي والروسي، على مر عقد. لافتة ترحب بالتحرير، قدمها أهل الصالحية، على مدخل الجامع. أمشي، في الحارات الضيقة، التي أعدّوا لها باصات أصغر من غيرها. الفقر أضعاف ما تركتُه. المرة الأخيرة التي زرتُ فيها الشيخ، كنت طفلاً، مع جدتي المسيحية. كنتُ أيضاً مرتبكاً، وعلاقاتي الاجتماعية متوترة مع أقراني. ولكنها عرفتْ كيف تريني طرق الحق، ولطالما أحبّت حارات الشيخ محي الدين. تتبضّع من هنا، ثم تزوره لنسلّم عليه، لنعود وروحينا أقل انهماكاً بالحاضر، وأكثر سماويةً بقربنا من قاسيون. الهواء خانق، والشمس ساطعة، على الرغم من البرد القارس. نزلتُ إلى العفيف. المدينة فارغة. موتورات الأدالبة والحوارنة تملأ الشوارع. ضجيج لا يتوقف. أتجه نحو مدرسة “دار السلام”. شباب من الرقة، يسألون بخفر، “أين الجسر؟”. لا يقولون جسر الرئيس. أدلهم، وأرحّب بهم. يقولون الأسعار نار في الشام. سائق التاكسي يستمع إلى أم كلثوم، “كان لك معايا، أجمل حكاية، في العمر كلو”. يبدو سعيداً، حتى مع معرفته أن السنين مرت، “زي الثواني”، ولن تعود…
مجلة رمان
————————-
من هم المدعوون إلى مؤتمر الحوار السوري؟/ معتصم السيوفي
07.01.2025
بإمكان هذه الهيئة بعد استكمال حواراتها، أن تصل إلى مخرجات تضعها بين يدي السلطات الرسمية للتنفيذ، فنضمن فعلاً أن المستقبل السوري كان نتيجة حوارات شارك فيها أوسع طيف من السوريات والسوريين، على امتداد الوطن وخارجه.
بعدما توج سقوط نظام الأسد مسيرة درب الآلام الطويل للسوريين نحو الحرية، يحتل ضمان الأمن والاستقرار والهموم المعيشية وطريق الانتقال نحو المستقبل المنشود، سلم الأولويات لدى عمومهم. إلا أن السوريين اليوم وفي مقدمهم السلطة الحاكمة، لا يمتلكون تصوراً مشتركاً ومعلناً حول أهداف الانتقال السياسي ومراحله وجدوله الزمني، واكتفت الإدارة الحالية بتسلّم السلطة، بما في ذلك تشكيل المؤسسات العسكرية والأمنية الجديدة، والإعلان على لسان قائدها السيد أحمد الشرع، أن مؤتمراً وطنياً جامعاً سيُعقد، وحلاً للفصائل ضمن مؤسسة عسكرية جديدة.
قال الشرع أيضاً إننا نحتاج إلى ثلاث سنوات لكتابة الدستور، وأربع سنوات لإجراء انتخابات عامة، وإن الأولوية اليوم لتأمين احتياجات الناس وضمان الأمن والاستقرار، في غياب الآن لأي شكل دستوري يحدد مسؤولية السلطات العامة، وينظم عملها ويقر بالحقوق والحريات الأساسية، وأسس النظام العام في البلد، إلى حين الوصول إلى إقرار الدستور الدائم للبلاد وإجراء الانتخابات العامة.
يغيب كذلك تصور مشترك عن مهمات مرحلة الانتقال السياسي، والكيفية اللازمة لإجراء الحوار الوطني، كي يؤمن الوفاق الوطني المطلوب للانتقال نحو الوضع الدائم للبلاد.
وإذا اتفقنا مع الإدارة على أن إقرار دستور دائم للبلاد، وإجراء انتخابات عامة يحتاجان إلى فترة زمنية مريحة، وأن ضمان الأمن للناس وتلبية احتياجاتهم المعيشية ودوران عجلات الدولة، أمور لا تحتمل التأخير، فإن ما ينقصنا هو خطة واضحة مطمئنة لعموم السوريين على تنوعهم، للكيفية التي ستدار البلاد بها خلال هذه الفترة وبأي اتجاه، وهو ما يحتاج إلى مقالات كثيرة للخوض فيه وتفصيله، لكن بتخصيص الحديث هنا عن المؤتمر الوطني، فإننا وفقاً لما يرشح من أخبار بصدد دعوة ألف شخصية سورية من خلفيات متنوعة للاجتماع أياماً عدة، والخروج بحكومة كفاءات يُفترض أن تعكس تنوع المجتمع السوري، وإعلان حل “هيئة تحرير الشام” والفصائل المسلحة، وتشكيل لجنة استشارية للحكم، وأخرى لصياغة الدستور.
وباستثناء النقطة الأخيرة، لا تحتاج الإدارة التي استلمت السلطة بحكم قيادتها إلى الجولة الأخيرة في معركة إسقاط النظام، وقامت بترفيعات وتعيينات عسكرية وفق ما ارتأت، وتتولى مهمة تمثيل الدولة السورية إلى مؤتمر كهذا للقيام بهذه الخطوات، ولا يعالج مؤتمر كهذا القضايا الوطنية المطروحة على الشعب السوري. وبإمكان الإدارة الاكتفاء بعقد مؤتمر للقوى الثورية، التي تحالفت معها لإسقاط النظام، والاتفاق على هذه الإجراءات وإعلانها، وتشكيل مجلس تشريعي وإعلان دستوري مؤقتين بالاستفادة من مبادئ أساسية في دستور 1950.
ما هو مطلوب من الإدارة التي تولت سلطات الدولة على مستوى الحوار الوطني أمر مختلف تماماً، وبآلية مختلفة تماماً، بخاصة ألا أحد ينازعها على قيادة المرحلة، إنما تتم مطالبتها بالمشاركة مع شرائح وطنية أخرى في هذه المهمة.
يقترح هذا المقال أن تبادر الإدارة إلى التشاور مع شخصيات سورية تتمتع بالتأهيل المعرفي اللازم والسمعة الحسنة، ومن منابت متنوعة فكرياً وسياسياً ومنطاقياً ودينياً وقومياً، لها حضور اجتماعي، يراعى فيه حضور وازن للنساء والشباب، لتشكيل هيئة وطنية رسمية مستقلة للحوار الوطني السوري، تدار بشكل تشاركي، وأن تُرصد لهذه الهيئة الإمكانات المادية اللازمة لإدارة سلسلة من الحوارات في جميع المحافظات السورية، وأماكن وجود السوريين في الخارج، ضمن إطار زمني مدته سنة إلى 18 شهراً، وبإمكان جامعة الدول العربية والمبعوث الأممي لسوريا تقديم الدعم والمشورة في تشكيل هذه الهيئة وخلال عملها.
ولكي ينجح هذا الحوار الوطني لا بد من توافر أربعة شروط أساسية، أولها استقلالية هذه الهيئة عن الإدارة الحالية، وثانيها أن تكون مخرجات سلسلة الحوارات الوطنية هذه ملزمة للسلطات الرسمية، وثالثها أن تراعي التشميل والتضمين في عملها، بأن تعقد الحوارات مع مختلف شرائح المجتمع السوري وفاعلياته في كل المحافظات، بما يشمل الشخصيات الثقافية والفكرية والاجتماعية والتجمعات المهنية كغرف الصناعة والتجارة والنقابات المهنية، والأجسام الأكاديمية، وتعبيرات المجتمع المدني المختلفة، والحرص على الحضور العادل والوازن للنساء والشباب فيها، وأن تتعاون في عملها مع وسائل الإعلام، ومراكز الأبحاث والدراسات، ومؤسسات استطلاع الرأي العام السورية، ورابع هذه الشروط أن يكون لهذه الهيئة برنامج عمل واضح ومحدد المواضيع، بما يشمل أسس العقد الاجتماعي الجديد، ولائحة الحقوق والحريات التي يجب ضمانها في سوريا، وشكل النظام السياسي المستقبلي المطلوب بما في ذلك قضية اللامركزية، والطريقة الأمثل واقعياً لصياغة وإقرار الدستور الدائم في البلاد، والعناصر الأساسية للبرنامج الوطني للعدالة الانتقالية، والنمط الاقتصادي الأفضل لسوريا المستقبل، بما يضمن التنمية ومكافحة الفقر والتوزيع العادل للثروة، وطريقة تشكيل المؤتمر السوري العام.
بإمكان هذه الهيئة بعد استكمال حواراتها، أن تصل إلى مخرجات تضعها بين يدي السلطات الرسمية للتنفيذ، فنضمن فعلاً أن المستقبل السوري كان نتيجة حوارات شارك فيها أوسع طيف من السوريات والسوريين، على امتداد الوطن وخارجه.
شاءت الأقدار أن تتولى الإدارة الحالية مقاليد السلطة في سوريا، وأن تواجه مهمة نقل البلاد إلى مرحلة تضمن وحدتها واستقرارها وكرامة أبنائها وبناتها، وتساويهم في الحقوق والواجبات، وتمتعهم بالحقوق والحريات التي ينعم بها الناس في البلاد المتقدمة، وبناء نظام سياسي لا ينتج الاستبداد من جديد، وتلك هي المفردات والعناصر الأساسية لأي نظام ديمقراطي.
ليس بإمكان جهة واحدة أن تتصدى لهذه المهمات بشكل منفرد، ولا بديل من الشراكة الوطنية والانفتاح على عموم الشعب والشفافية والعلنية. مرحلة الانتقال من نظام استبدادي قتل وهجر الملايين ودمر أجزاء واسعة من البلاد، وأفقر الدولة والشعب، وأحدث شروخاً عميقة في النسيج الوطني، صعبة وبالغة التعقيد، وتحتاج إلى تضافر جهود جميع أبناء الوطن على قاعدة الشراكة والمساواة. بهذه الروحية يجب أن يصمّم الحوار الوطني السوري ويدار.
– المدير التنفيذي لمؤسسة “اليوم التالي”
درج
—————————-
سورية… مات القديم والجديد في طور التشكّل/ عبد الباسط سيدا
07 يناير 2025
بات حكم آل الأسد جزءاً من الماضي، وهو الحكم الذي ستظلّ نتائجه الكارثية على صعيد الإجرام، المتمثّل في تدمير الإنسان والاجتماع والعمران والاقتصاد، كابوساً ثقيلاً لن يتحرّر منه السوريون إلا في عقودٍ، تبدأ بتطبيق مبادئ العدالة عبر المساءلة والمحاسبة، إلى جانب تحقيق المصالحة الوطنية بهدف ترميم النسيج المجتمعي الوطني السوري، وتحصينه أمام تدخّلات القوى الخارجية، والطوابير المحلّية التابعة لها، وهي القوى التي لن تسكت عمّا أصاب مخطّطاتها الشريرة من انهيار سريع سوريالي لم تتخيّله في أي يوم. ولكن الانهيار الذي لم يكن وارداً قبل شهرين في حسابات المتضرّرين تحوّل واقعاً مريراً عندهم بعد هروب بشّار الأسد (8 /12/ 2024) إلى الحضن الروسي في انتظار المستقبل المجهول، الذي لن يكون بجميع احتمالاته في صالحه، بل سيكون وبالاً يُطبِق عليه مع مرور الوقت، هذا ما لم تجرِ عملية إلغائه من الوجود ممّن يريد أن يدفن معه أسرار الصفقات القذرة. وإذا أخذنا الكلام الذي قاله المفكّر الإيطالي غرامشي، مع شيء من التعديل، لتوصيف الحالة التي يعيشها السوريون راهناً، يمكننا القول هنا: “مات القديم، ولكن الجديد المُنتظَر لم يتشكّل بعد”.
وإلى حين تجلّي معالم المولود المأمول، تخيّم على السوريين مشاعرُ متبانيةٌ، منها رغبوية تتمحور حول سورية التي يريدونها، ومنها تأملية نقدية تتمفصل حول سورية الممكنة على المستويين، الداخلي والخارجي، القادرة على النهوض في الميدان الداخلي، والمنفتحة على التفاعل الإيجابي مع الجوار الإقليمي والمحيطَين، العربي والدولي، وهما شرطان لا استغناء عنهما في أيّ عملية تنموية استثنائية تضمن للسوريين قواعد العيش الكريم من خلال تأمين فرص التعليم والعمل والسكن المقبول والرعاية الصحّية المناسبة، وغير ذلك من الأولويات الحياتية الضرورية.
ولكن التنمية في حاجة إلى الاستقرار المجتمعي، والأخير لن يكون من دون توفّر الضمانات التي يتكفّل بها دستور يحظى بموافقة الغالبية الساحقة من السوريين. وهذا الدستور لن يُتوصّل إليه من دون وجود هيئة تشريعية، ومؤتمر وطني عام تأسيسي سوري، تُكلّف لجنة أو هيئة تضمّ ممثّلين عن سائر المكونات المجتمعية والتوجهات السياسية السورية بكتابته، مع نخبة مختارة من الخبراء القانونيين المعروفين بمؤهّلاتهم وحِرْفيَّتهم. وتستوجب مثل هذه الخطوة وجود قوىً سياسيةٍ فاعلةٍ من مختلف الأطياف الفكرية والمجتمعية، قادرةٍ على الحوار والتفاعل والتوافق مع الإدارة الجديدة المؤقّتة التي تقود البلد حالياً. وفي غياب هذه القوى، أو في ظلّ وجودها غير المؤثّر (ينسحب هذا الأمر على القوى السياسية التقليدية التي كانت قبل الثورة السورية عام 2011 أو التي ظهرت خلال سنوات الثورة في نحو 14 عاماً)، تتّجه الأنظار نحو منظّمات المجتمع المدني والمجالس المحلّية والنقابات، وإلى المؤثّرين في المجتمع الأهلي، والشخصيات الوطنية المعروفة بوزنها ومصداقيتها. ومُلاحظ أن هذه الوضعية هي بمثابة قاسم مشترك بين سائر المكوّنات المجتمعية السورية، ما عدا الكرد، الذين لديهم أحزاب لها حضور في الشارع الكردي، ولا سيّما الأحزاب الداخلة ضمن إطار المجلس الوطني الكردي. أمّا في ما يخصّ قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، ومجلس سوريا الديمقراطية (مسد)، والأحزاب الملتفّة حول “الإدارة الذاتية”، فمرجعيتهم تتمثّل في حزب العمال الكردستاني، رغم التصريحات التي أطلقها قائد “قسد”، مظلوم عبدي، بخصوص عدم تبعيتهم التنظيمية لحزب العمّال، واستعدادهم لإخراج المقاتلين غير السوريين بعد التوافقات مع الإدارة السورية الجديدة في دمشق، وحتّى مع الجانب التركي، الذي عبّر عبدي أكثر من مرّة عن استعداد “قسد” التحاور معه. ولم تصدر بعد أيّ تصريحات من حزب الاتحاد الديمقراطي بخصوص هذا الموضوع. ويجعل هذا الواقع من عملية اختيار ممثّلي المكوّنات المجتمعية والتوجّهات السياسية للمشاركة في أيّ حوار وطني (كالحوار الذي أعلن قائد الإدارة السياسية الجديدة، أحمد الشرع، تنظيمه في المستقبل القريب ضمن إطار مؤتمر وطني عام) غايةً في الصعوبة.
هذا المؤتمر الذي من المفروض أن يتوافق على هيئة مكلّفة بكتابة الدستور، وربّما هيئة أخرى تشريعية مؤقّتة تكون بمثابة مرجعية للحكومة أو الحكومات المؤقّتة، التي ستقود البلد خلال المرحلة الانتقالية، وذلك ريثما تنتهي عملية كتابة الدستور، الذي لا بدّ أن يُعرَض على الاستفتاء الشعبي العام، لتجرى الانتخابات العامّة بناء عليه، وبموجب النظام الانتخابي وقانون الأحزاب، وهذه العملية كلّها قد تستغرق، وفق ما ذهب إليه رأس الإدارة السورية الجديدة، أحمد الشرع، وقتاً طويلاً بعض الشيء، قُدّرت بسنوات أربع، على وجه التخمين أو التقريب. ومن المفروض أن تكون الحكومة، أو الحكومات، الانتقالية التي ستتشكّل بعد حكومة الطوارئ ذات اللون الواحد، التي أسند الشرع رئاستها إلى محمّد البشير، معبّرة عن التنوع السوري، على المستويَين المجتمعي والسياسي، قدر الإمكان، وذلك لطمأنة الجميع بأن سورية المستقبل سيكون فيها مكانٌ للجميع على اختلاف انتماءاتهم وتوجّهاتهم. وخطوة كهذه ستجنب سورية والسوريين كثيراً من الأخطاء والمشكلات التي عانتها مجتمعات ودول في منطقتنا، والأمثلة في هذا المجال كثيرة، يستطيع أي مهتمّ متابع أن يطّلع عليها، ويقف بنفسه على أوجه الخلل فيها، والكوارث التي ترتبت عليها.
ما حدث في سورية لم يكن بالأمر العادي، بل هو حدث استثنائي تاريخي مفصلي، ستكون له تبعاته على الواقع السوري الوطني، وعلى الجوار الإقليمي، الذي يتأثّر بصورة مباشرة وغير مباشرة بما يحدث في سورية، سلباً أو إيجاباً. فالسلطة الأسدية، التي استمّرت على مدى 54 عاماً، كانت قد تمكّنت من تثبيت نفسها بمظلّة دولية، وبموجب معادلات إقليمية تمكّن الأسد (الأب) من التعامل معها بحنكة ومرونة إلى حدّ الخنوع، في مقابل غضّ النظر عن ممارساته القمعية في الداخل السوري ضدّ المعارضة، بأطيافها كلّها، ولا سيّما الإسلامية منها. ولكن مع تسلّم الأسد (الابن) السلطة، بموجب عملية التوريث التي كان حافظ الأسد قد هندسها بعناية مع رجاله في السلطتَين المدنية والعسكرية، بدأت عملية إطاحة المرتكزات التي كان والده قد استند إليها ليستمرّ في الحكم. فسرعان ما تخلّص بشّار من المسؤولين الذين لولاهم لما تمكّن من الوصول إلى السلطة، وكان ذلك بتهميشهم أو اعتقالهم أو نفيهم، وحتى اغتيالهم. ولم تقتصر اغتيالاته على السوريين، بل امتدّت إلى لبنان لتطاول السياسيين والمثقّفين المعارضين لسطوة أجهزة مخابراته القمعية هناك. وكان من الواضح أنه قد سلّم أوراقه كلّها إلى النظام الإيراني وذراعه في لبنان حزب الله.
ومع انطلاقة ثورة السوريين ضدّ حكمه المستبدّ الفاسد المُفسِد، اعتمد بشّار الهارب على نظام “ولي الفقيه”، وعلى حزب الله، بصورة أساسية في قمع السوريين، وتدمير بلداتهم ومدنهم، وتهجيرهم وقتلهم، كما استعان بفصائل الحشد العراقي، وبفصائل من باكستان وأفغانستان، إلى جانب الروس. ونتيجة القمع الوحشي غير المسبوق الذي استهدف السوريين، وتبدّل المواقف الإقليمية والدولية، اعتقد كثيرون أن بشّار قد انتصر، بل كان هذا الأخير يتبجّح بكلّ غطرسة بانتصاره المزعوم على “المؤامرة الكونية” ضدّ حكمه الهزيل. هذا في حين أن المطلع على الوضع السوري، والمتابع له، كان يدرك أن مسألة سقوط حكم بشّار لم تكن سوى مسألة وقت لا أكثر، ريثما تتهيأ الظروف وتصبح الشروط مواتيةً. وجاءت اللحظة التاريخية المناسبة مع الضربات القاصمة التي تلقّاها المحور الإيراني التوسّعي، في لبنان خاصّة، إذ فقد حزب الله قياداته العسكرية والسياسية من الصفَّين الأول والثاني، وذلك بعد الهجمات الإسرائيلية غير المسبوقة التي تعرّضت لها معاقله الرئيسة في الضاحية والجنوب وبعلبكّ، وهي الهجمات التي أكّدت حدوث تغيير لافت في قواعد اللعبة مع النظام الإيراني وأذرعه في المنطقة. أمّا الطرف الذي استغلّ اللحظة المناسبة، في أجواء من التوافقات الإقليمية والدولية، فقد تمثّل في هيئة تحرير الشام، وقائدها أحمد الشرع، الذي استطاع أن يقود قواته من إدلب إلى قلب دمشق بعد انهيار جيش سلطة آل الأسد، وهروب بشّار وأخيه، بالإضافة إلى العديد من القيادات التي كانت تتباهى سابقاً بإنجازاتها الوهمية، ونياشينها الخلّبية. ما حدث من تغيير نوعي سريع نتيجة السقوط المدوّي لحكم آل الأسد ستكون له انعكاساته على الأوضاع في كلّ من لبنان والعراق، وذلك نتيجة التغلغل الإيراني في البلدَين، وهو التغلغل الذي تعرّض لضربة موجعة بفعل سقوط سلطة بشّار، التي راهن نظام “ولي الفقيه” عليها، واستثمر فيها كثيراً. وبطبيعة الحال ستكون للمتغيّرات السورية تأثيرها الكبير في الوضعَين الإقليمي والعربي بصفة عامّة.
ويبقى الأكثر أهميةً من هذا وذاك، راهناً، أن يتمكّن السوريون الذين يستنشقون اليوم عبق الحرّية، ويشعرون بكرامتهم في موطنهم بعد عقود طويلة من الظلامية الاستبدادية التي مارستها سلطة البعث وآل الأسد، وهي السلطة التي تاجرت كثيراً بالشعارات الكُبرى، لتتمكّن من الانقضاض على الداخل الوطني… الأكثر أهميةً من أيّ شيء آخر اليوم، هو أن يتجاوز السوريون الخلافات العبثية، ويتمكّنوا من توحيد صفوفهم، وتركيز طاقاتهم، واحترام الآخر المختلف ضمن إطار وحدة الشعب والوطن.
العربي الجدبد
—————————
سقوط “الأبد” عربياً/ أسامة الرشيدي
07 يناير 2025
احتفل السوريون بإسقاط نظام الرئيس المخلوع بشّار الأسد، بالقول: “سقط الأبد”، في إشارة إلى ما كان يقوله أنصار النظام، من قبيل: “شبّيحة للأبد، لعيونك يا أسد”. وحتى قبل عهد بشّار، أي في حياة والده حافظ الأسد، كان هناك شعار “قائدنا إلى الأبد، الأمين حافظ الأسد”، الذي كان يُرفَع حتى بعد وفاته، بعدما أُطلق عليه لقب “القائد الخالد”. ولذلك كان طبيعياً أن يهتف السوريون بعد إسقاط نظام بشّار “حرية للأبد، غصب عنك يا أسد”.
قد يبدو للوهلة الأولى أن “الأبد” فكرة أسدية بامتياز، لكن الواقع يفيد بأنها مشتركة بين جميع الدول التي ترزح تحت الديكتاتورية، فالعقل العربي، بغض النظر عن انتماءاته وخلفياته، يعاني من فكرة “الأبد”، إذ يجزم أنصار كلّ فكرة أنها ستكون المنتصرة في نهاية المطاف، وإلى الأبد، وهي فكرة تشبه ما كان يقال عن “نهاية التاريخ” بعد سقوط الاتحاد السوفييتي في تسعينيّات القرن العشرين، والحديث عن انتصار نهائي حققه الغرب ونموذجه الديمقراطي الليبرالي الرأسمالي. وبما أن الدول العربية تتشابه كثيراً، فإن فكرة “سقوط الأبد” ستمتدّ كذلك إلى بلدان عربية عدّة.
غير بعيد من سورية، يبدو أن وجود الكيان الصهيوني في محيط عربي أصابه بأمراض العقل العربي نفسها، فقد وجدنا رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يخرج بعد سقوط نظام الأسد، متوعّداً بأن هضبة الجولان (المحتلة منذ 1967) ستبقى تحت السيطرة الإسرائيلية “إلى الأبد”، وهو وهم لا يقلّ عن الأوهام العربية.
وفي مصر، تباهى أحد “المفكرين” الليبراليين البارزين بأن النظام خلّصهم من جماعة الإخوان المسلمين “إلى الأبد”. في حين أن أبسط مبادئ السياسة تشير إلى أنها لا تعرف الفراغ، فطالما لم يصنع النظام السياسي الجديد بديلاً مقنعاً للجمهور، بسلطته ومعارضته، سيبقى شبح عودة “الإخوان”، أو غيرهم ممّن تعرّضوا للإقصاء خلال العقد الماضي، قائماً وبقوة. ويؤكّد الأداء السياسي للنظام خلال السنوات الماضية فشله في إنتاج أي ظهير سياسي شعبي، ما جعله يضطر مرّات عدة إلى إنشاء تكتّلات سياسية مشوّهة، سرعان ما تتفكّك بعد أن يثبت عجزها عن تحقيق أيّ شيء. وجديد تلك التكتّلات الكيان المسمّى “حزب الجبهة الوطنية” (للمفارقة، أنشأ حافظ الأسد كياناً مشابهاً حمل اسم الجبهة الوطنية التقدمية)، وقال مؤسّسو الحزب إنه لا يهدف للوصول إلى السلطة، وإنه ليس حزباً مؤيّداً أو معارضاً (!)، ولذلك لن يكون مصيره مختلفاً عن سابقيه، في ظلّ هذه التخاريف التي يطلقها القائمون عليه.
وغير بعيد من هذا التصور الأبله لفكرة التخلّص من المعارضة إلى الأبد، انطلق مذيع شهير مهاجماً المعارضين المصريين الهاربين من القمع، الذين اضطروا للإقامة في الخارج، ليجزم بأنهم سيُدفنون خارج مصر “مثل الكلاب”. لا نعرف من أين جاء المذيع بهذه الثقة المطلقة في المستقبل، الذي لا يعلمه إلا الله، لكن اللافت أنه اعتبر الدفن خارج البلاد “عقوبةً” في حدّ ذاتها، وكأنه ينقص من قدر المُتوفَّى، بينما هو أمرٌ لا يقدّم ولا يؤخّر. وفي العموم، لا أحد يدري من سيُدفن في بلاده، ومن سيهرب ليدفن خارجها.
بالعودة إلى الشأن السوري، شهدت ساحة الأمويين في دمشق مظاهرةً ضمّت عشرات من المنادين بعلمانية الدولة. لكنّ المضحك أن أحد الداعين لها لم يتخلّص بعد من عقلية حزب البعث الأبدية، فكتب إن سورية “ستبقى مدنيةً وعلمانيةً إلى أبد الآبدين”. ليس مستغرباً أن يلجأ هذا الشخص إلى هذا النوع من التفكير، فقد كان شبّيحاً أصيلاً لنظام الأسد وداعماً مجازره في حقّ السوريين، كما أن تأكيده أن سورية “ستبقى مدنية وعلمانية” يفضح طريقة تفكيره، فمعنى هذا أن سورية في عهد الأسد كانت تتمتع بالحقوق المدنية التي يطالب بها الآن، رغم أن البلاد كانت تعيش تحت حكم متسلّط متخلّف أشبه بالعصور الوسطى.
يمكن القول إن فكرة “الأبد” ستستغرق وقتاً طويلاً حتى تتراجع في عقول السوريين، فلا يمكن الاستهانة بأكثر من ستّين عاماً من حكم حزب البعث. وأول ما يجب الحذر منه في ما يتعلّق بهذه الفكرة، اعتقاد بعضهم أن سقوط النظام يمثّل انتصاراً نهائياً، مثل مشاهد النهايات في الأفلام العربية، وأن الثورة لن تتعرّض لانتكاسات أو تراجع، أو حتى تآمر عليها لإجهاضها، مثلما جرى في بلدان عربية عدة، وهو ما سيحدث حتماً خلال الفترة المقبلة. لذلك، إذا كان هناك بدّ من التفكير من هذا المنظور، فيجب توطين النفس على أن المعركة مستمرّة “إلى الأبد”.
العربي الجديد
—————————-
سيادة الضمير الغائب/ سومر شحادة
06 يناير 2025
ما من سوريّ، إلّا وكانت لديه طريقة للتعبير عن رأس النظام السابق من غير أن يذكره بالاسم. طرقٌ تختلف من واحد إلى آخر، تبدأ بالإيماءة والحديث غير المباشر، وتنتهي بإسناد أسماء حركية له. غالباً تكون معروفة في الدائرة الموثوقة التي تحيط بالمرء. وكانت الإشارة العامّة المتّفق عليها بأنّ الرئيس قوّة غائبة. إنّه حتّى في اللغة ضمير غائب، ويمكن القول باستخدام مصطلحات الجمهورية: إنّ رأس النظام السابق كان سيادة الضمير الغائب.
سيادةٌ دفعت بالسوريّين عامّة إلى التعبير بمواربة عن آرائهم في السياسة، باستثناء من خرج في مظاهرات ضدّ نظام الأسد. إلّا أنّ المجموع الصامت بقي لديه أسلوبه في الرفض والاعتراض. أمورٌ تشرح، على سبيل المثال، شيوع النكتة السياسية في سورية، مملكة الخوف التي اتّضح مع سقوطها أنّها كانت تنطوي على فراغ رهيب ولا مبالاة مدمّرة؛ فالديكتاتور، كما رأينا، لم يكن أكثر من فتى جاهل وأرعن. والنظام الذي سقط في الثامن من كانون الأوّل/ ديسمبر (الماضي) لم يكن نظامه، بل كان نظام الديكتاتور الأب حافظ الأسد.
مع ذلك، وكي لا نُسهب في قراءة الماضي في هذه الأيام التي توجب أن يتحدّث المرء فيها بشكل حيّ، فإنّ السوريّين أمام امتحان التحدّث المباشر عمّا يشغلهم، وعن مخاوفهم، وينبغي أن يستعيدوا لغة النقد المباشر التي لا تجعل السياسة حديثاً في الماورائيات، والنقد مُسنداً إلى المبني للمجهول.
أخذت مملكة خوف الأسد الأب ثلاثة عقود من البناء، وقد انهارت عملياً بفعل عطالتها مع بداية عام 2011. لكن احتاج تكشُّف انهيارها ثلاثة عشر عاماً من التعنّت، بعد أن بلغت مبلغاً من التفسّخ لم يعد بإمكان القوى الدولية أن تدافع عنها. إذاً، مملكة الرعب التي أسّسها حافظ الأسد واستثمر بها صغيره انهارت انهياراً نهائياً، لا يصدّق بسهولة. إلّا أنّ تلك الآليات النفسية الرهيبة للرفض التي عاشت في قلوب ونفوس مجموع السوريّين، يُخشى أن تستمرّ في النموّ تجاه كلّ حاكم بفعل أسطورة عزّزتها سلطة البعث في الثمانينيات بأنّ للجدران آذاناً.
لكن مع انهيار الديكتاتورية، ينبغي أن يعود الجدار جداراً والآذان آذاناً. ينبغي أن تعود الأشياء إلى طبيعتها، لا إلى الطبيعة التي صدّرها بها النظام، وأرادها بها، وقد استخدمها بتلك الهيئة الشاذّة.
يحدث أن تنبت للجدران آذانٌ في الفنّ السريالي، لكنّه حدث أيضاً في ذهنيّة نظام المخابرات البدائي والمتوحّش الذي فصم الأشياء عن طبيعتها. وقد استطاع السوريّون أن يجدوا أساليب غير مباشرة تؤكّد عدم انسلاخهم عن طبيعتهم بكونهم بشراً يصعب ترويضهم ترويضاً محكماً نهائياً. مع ذلك، ينبغي خلع تلك العادة عن أساليبنا في التعبير، ولنتركها تسقط مع سقوط نظام الأب الحديدي. إذ لم تكن تعابير نبتت من تلقاء ذاتها، بل بناها الديكتاتور الأب بمعتقلاته وأجهزته الأمنية، وعزّزتها الثقافة التي انتشرت بين الناس. وفي دراما الطاغية نرى صوراً كثيرة منها.
لكن أخشى من اعتقاد جزء من الجمهور الصامت أن لا مكان له في ما يحدث هذه الأيام، لاعتبارات كثيرة؛ أوضحها الخوف من المجهول. أخشى أنّ هذا الجمهور يركن إلى الآلية الرهيبة نفسها أو يبتكر صورة عنها تجعلهم يحيدون عن الواقع الجديد الذي يرسم مصيرهم أساساً. فالثقافة التي صنعها نظام الديكتاتور، بأجهزته وفنونه، وآلياته البدائية المتوحّشة المختلفة، يحتاج التخلّص منها سياقاً طويلاً من تأكيد الحرّيات، حرّية القول والمعتقد، وحرية النقد بكلمات مباشرة، إلى جانب مفردات كثيرة كانت غائبة عن السوريّين، غياباً -من غير تنظير- كان يبدو أبدياً. لكن، وكأنّما المستحيلات تحدث، والنضالات تُثمر في أرضنا.
* روائي من سورية
العربي الجديد
——————————-
سورية الجديدة بين عاصمتَين ساخطتَين/ عيسى الشعيبي
07 يناير 2025
بعد مرور شهر على سقوط حكم آل الأسد بصورة مُهينة، وفرار الطاغية بجلده من مصير يحاكي مصير عمّه معمّر القذّافي، انجلت مواقف سائر العواصم المخاطبة بالحدث المفصلي في سورية الجديدة، بما في ذلك العواصم العربية، كما انجلت معظم مكوّنات الصورة الجديدة لعاصمة الأمويين، سيّما مع تواصل الحجيج الدبلوماسي الى الشام، بكثافة فوق اعتيادية، الأمر الذي رسم مشهداً فاق أشدّ التوقّعات تفاؤلاً بغدٍ سوريٍّ واعدٍ، خاصّة أن هذا المشهد يشي بالدعم والإسناد والرغبة في القطع مع ماضٍ مضى إلى غير رجعة. غير أن بعض العواصم والقوى السياسية في هذا الإقليم، المسكون بالمفاجآت والحروب والمتغيّرات السريعة، راحت تكظم الغيظ بصعوبة، وتتجلّد على مغص البطن بشقّ الأنفس، جرّاء السقوط السريع لمستبدّ يشبهها بعض الشيء، وهروب ديكتاتور فيه شيءٌ منها، ولو بأقلّ القليل، وأخذت تراوغ وتتكتّم على مواقفها السلبية إزاء التحوّل الدراماتيكي في سُرّة جغرافيا المشرق العربي، تحسّباً لشبهة التماثل مع جمهورية المقابر الجماعية، ودرءاً لتهمة التعاطف مع “عزرائيل” سجن صيدنايا، رمز الإعدامات بالجملة، والتعذيب حتى الموت.
لسنا اليوم بصدد التوقّف كثيراً عند مواقف العواصم المراوغة إزاء الحدث السوري الكبير، وإنما تكثيف الضوء على موقفَي عاصمتَين كبيرتَين ساخطتَين (ليست موسكو الغاضبة واحدة منهما) على القيادة الجديدة في البلد الذي كان اسمه “سورية الأسد”، إذ أبدت كلّ واحدة من هاتَين العاصمتَين، كل منهما لأسباب تخصّها وحدها، سخطاً طافحاً بالوجع (السخط أشدّ من الغضب) ومتفاوت الحدّة، وعلنياً بصورة مدوّية، حيال التطوّر الجيوسياسي الجاري فصولاً بعد في دمشق الشام.
الأولى طهران الملسوعة بالنار الحامية، المصدومة بجملة طويلة من خسارات ثقيلة، لا تعوّض ولا تُرمّم ولا تُستعاد، جرّاء انهيار مشروعها الإمبراطوري، أو قل مغامرتها الطائشة، وتبدّد كثير من المال (نحو 50 مليار دولار) والغزير من الدماء، واضمحلال دورها الإقليمي، وانحسار نفوذها في العالم العربي، فضلاً عن خسارة الاستثمارات والرهانات وضعف دور الوكلاء، وانكسار خطّ الدفاع الأول عن الجمهورية الإسلامية من دمشق وبيروت، وربّما بغداد.
الثانية، وهي بيت القصيد في هذه العجالة، قاهرة المُعزّ، التي آثرت دون غيرها من العواصم العربية التغميس خارج الصحن، اذ تلعثمت أوّل الأمر، تذرّعت بالنوافل وقالت إنها على وجل من سابقة وصول الإسلام السياسي غلى سُدَّة الحكم في الشام، وأبدت ما في وسعها من تحفّظات وشكوك واعتراضات يعوزها التواضع، حتى إنها منعت رفع علم الثورة، وهو العلم السوري زمن ما قبل عهد الأسد، على مبنى السفارة السورية في العاصمة الكبيرة، وقيّدت سفر السوريين إليها، وامتنعت كذلك عن إبداء التأييد أو المجاملة، وأحجمت عن الانضمام إلى ركب العرب، الذين تنفّسوا الصعداء بغروب هلال آيات الله عن سمائهم.
وأحسب أن القاهرة المصابة بحساسية مفرطة للغاية، وهواجس مبالغ بها حيال عودة جماعة الإخوان المسلمين إلى المشهد العام في أيّ مكان، كانت على قلق (كأن الريح من تحتها) وهي تقرأ المشهد السوري بارتياب وحذر، وتقارب تفاصيله الفرعية بتطيّر شديد، سيّما بعد دخول تركيا على الخطّ، ورجحان كفّتها في الميزان السوري، وتيقّنهان في الوقت نفسه، من حقيقة أن لا نفوذَ لها ولا حدودَ، ولا “خيلَ عندك تهديها ولا مال”، ولا أدوات تؤثّر بها في مسار بدأ يكرّس انتصار السوريين على الجلّاد، ويرسي حقيقةً ساطعةً، مفادها أن دولة الترهيب والإخضاع والإسكات ومصادرة الحرّيات، دولة زائلة لا محالة، مهما طال المطال.
يعزّ على المرء وهو يتابع موقف القاهرة المُرتبِك (حتى لا نقول ما هو أقسى) حيال سورية ما بعد سقوط بشّار الأسد، أن يرى الدولة العربية الأكبر، ذات الدور التاريخي المجيد في حاضر العرب وماضيهم التليد، وهي تنسحب إلى داخل قوقعتها، تُصغِّر مكانتها بنفسها، تكابر وتتحدّث عن دورها الإقليمي الراجح، وتفشل في الوقت نفسه باجتراح سياسة كفؤة، حصيفة وفعّالة، إزاء سورية الجديدة، وأن تنتهج (مع الأسف!) النهج المخيّب للآمال ذاته، الغاصّ بالإخفاقات، النهج الذي سبق أن اتبعته مصر العظيمة في معالجاتها العقيمة لسائر قضاياها المباشرة وتحدّياتها الخارجية القائمة في جوارها، بدءاً من ليبيا إلى السودان إلى سدّ النهضة مع إثيوبيا، وليس نهايةً في محور فيلادلفي (صلاح الدين) مع إسرائيل، ومعبر رفح على الحدود مع قطاع غزّة.
العربي الجديد
—————————-
الساعات الأخيرة لحكم بشار الأسد.. هكذا تساقط “دومينو” النظام المخلوع/ عماد كركص
07 يناير 2025
أسقطت عملية “ردع العدوان” في سورية حكم الأسد في 8 ديسمبر الماضي
كان مخططاً للقيام بالعملية قبل نحو 5 أشهر من وقت انطلاقها الفعلي
بدت قوات النظام مرهقة فتهاوت حصونها بسرعة أمام تقدم قوات المعارضة
أسقطت عملية “ردع العدوان” في سورية نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، لتنهي بذلك عقوداً من حكم آل الأسد لسورية. بكل بساطة، التسمية تعني ردع عدوان محتمل من قبل قوات النظام والمليشيات، ضد المناطق التي انطلقت منها العملية، أي إدلب ومحيطها، وما تعرف سابقاً بـ”منطقة خفض التصعيد الرابعة”، التي تضم كامل محافظة إدلب، وريفي حلب الغربي والجنوبي، وريفي حماة الشمالي والغربي، وجيب في ريف اللاذقية الشرقي.
تلك عملية، كان مخططاً للقيام بها قبل نحو خمسة أشهر من وقت انطلاقها الفعلي في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني من العام الماضي، فيما تم التجهيز لها منذ نحو عامين، وزادت الحاجة إليها مع بدء التحشيد الواضح لقوات النظام على خطوط التماس مع قوات المعارضة السورية في إدلب ومحيطها، التي كانت تجمعها غرفة عمليات “الفتح المبين” المشكّلة من عدة فصائل، أكبرها “هيئة تحرير الشام”، ومن هنا جاء الاسم النهائي للعملية “ردع العدوان”.
غير أن تحشيد قوات النظام ومليشيات روسيا وإيران على خطوط التماس، كان سبباً من أسباب ثلاثة دفعت الهيئة وفصائل المعارضة في إدلب إلى خوض تلك المعركة. أولها، رغبة أحمد الشرع، قائد الهيئة في توسيع السيطرة تجاه مناطق تُعدّ أساساً ضمن منطقة خفض التصعيد الرابعة، قبل أن يقضمها النظام والمليشيات الإيرانية والروسية، في معارك متتابعة بدءاً من منتصف العام 2018 وحتى وقف إطلاق النار المبرم بين روسيا وتركيا، في الخامس من مارس/ آذار 2020.
وكانت فكرة التوسع عند الشرع تعود إلى هدفين كذلك، الأول، توسيع النشاط الاقتصادي بعد نجاح حكومة الإنقاذ التي أسسها في عمق إدلب، في بناء بنية تحتية مقبولة يمكن توسيعها والعمل عليها، لزيادة مكاسب حكومة الإنقاذ ومن ثم هيئة تحرير الشام، ويتضمن ذلك زيادة المشاريع وخلق فرص عمل تقلل من البطالة. أما الهدف الثاني، فيرمي إلى حل مشكلة الاكتظاظ والمخيمات بعد موجات النزوح المتكررة، ولا سيما خلال معارك العامين 2019 و2020، والتي أدت إلى نزوح قرابة مليوني مدني، كلهم من مناطق ريف إدلب الجنوبي والشرقي، وحلب الغربي والجنوبي، وحماة الشمالي والغربي، التي تتبع لمنطقة خفض التصعيد الرابعة التي لم تستطع تركيا حمايتها، بحكم كونها “ضامنة” لها، من هجوم النظام والروس رغم انتشار النقاط التركية فيها، وبدأت الأصوات تتعالى من قبل النازحين للضغط على العسكر لإعادتهم إلى منازلهم، بعد أن فتك بهم الفقر والعوز والأوضاع الإنسانية الصعبة جراء النزوح.
أما السبب الثاني وراء خوض عملية “ردع العدوان”، فيكمن في رغبة الهيئة في عرقلة مسار التطبيع بين تركيا والنظام، الذي سعت له أنقرة بجهد واضح خلال العام الماضي، ولا سيما خلال النصف الأخير منه، حيث أراد الشرع خلط الأوراق في الميدان لتنعكس على أروقة السياسة، ولا سيما أن تركيا تملك تأثيراً كبيراً على فصائل المعارضة في مناطق نفوذها، أي فصائل “الجيش الوطني” التي بدت في معظمها في وضع الإذعان للرغبة التركية في التقارب مع النظام.
أمّا آخر الأسباب، كما هو موضح أعلاه، فكان يتمثّل بردع العدوان فعلاً، بعد أن حاول النظام الإيهام بأنه لديه نية أو قادراً على التوسع، رغم عدم قدرته فعلياً على ذلك.
أين تركيا من كل ذلك؟
يجب العلم، أن التنسيق العسكري بين تركيا من جهة، وهيئة تحرير الشام وفصائل إدلب من جهة أخرى، ضعيف جداً، إن لم يكن معدوماً في السنوات الثلاث الأخيرة، ففي حين يتحكم الجيش التركي في مناطق نفوذ الجيش الوطني في أرياف حلب والرقة والحسكة، فإنه ليس له ذلك على فصائل إدلب وهيئة تحرير الشام بالتحديد، حيث يقتصر التواصل بين أنقرة والهيئة على التواصل الأمني فقط، عن طريق جهاز المخابرات التركية تحديداً.
قبل العملية، أرسلت الهيئة رسالتين إلى أنقرة، الأولى كانت قبل نحو خمسة أشهر، تطلب فيها غطاءً أو ضوءاً أخضر للبدء بعمل محدود، من دون الحاجة إلى دعم عسكري أو لوجستي، لكن الرد التركي كان رافضاً بالمطلق لكون ذلك سيؤثر على المسار السياسي في أستانة، الذي زُج إليه مسار التطبيع بين النظام وأنقرة، وأعادت تركيا كذلك التذكير بمسألة تدفق اللاجئين في حال توحش النظام والروس في قصف المناطق المدنية كما السابق. حينها، أجلت الهيئة، لكنها لم تبطل فكرة العملية، لكن رفض بشار الأسد الجلوس على طاولة التفاوض مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وتلقي أنقرة إشارات بأن الأسد لن يقدم أي تنازلات، ولا سيما حيال عودة اللاجئين وإيجاد صيغة ولو بالحد الأدنى لتطبيق بعض الحلول السياسية وإشراك المعارضة، غيّر المزاج التركي، فكانت الرسالة الثانية في طريقها إلى أنقرة قبل عدة أيام من العملية، فكان الرد التالي: “أمامكم 72 ساعة لتحقيق نتائج على الأرض، حينها ستتلقون دعمنا ومباركتنا، وفي حال لم تتمكنوا من تحقيق نتائج سنتدخل لوقف المعركة لصالحكم (أي من دون أن تكون ردة فعل كبيرة ضدكم ولا سيما من الروس)، لكن مقابل ذلك ستكونون مرغمين على الموافقة على ما سنتفاوض عليه مع النظام”.
سوريون يصطفون أمام البنك المركزي في دمشق لاستبدال عملات، 30 ديسمبر 2024 (Getty)
المصادر التي أبلغت “العربي الجديد” بهاتين الرسالتين، لا تعلم ما هو رد الهيئة على الصيغة التي وردت في ردود أنقرة على الرسالة الثانية، لكن المعركة بدأت، وكان نطاقها محدوداً للغاية في مرحلة أولى، بحسب المصادر ذاتها، وهو جزء بسيط من ريف حلب الغربي، للسيطرة على عدة قرى انطلاقاً من الفوج 46 وتوسيع السيطرة شماله وجنوبه باتجاه محافظة حلب، وصولاً إلى حدود خفض التصعيد غربي حلب، التي رسمتها طاولة أستانة، وبعدها اتفاق سوتشي 2018 بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان، وفي حال تم تحقيق تقدم عند هذه الجبهة، سيتم فتح محور آخر باتجاه ريف إدلب الجنوبي، انطلاقاً من سراقب وسط محافظة إدلب، للانطلاق نحو جنوب المحافظة.
ماذا حدث بعد ذلك؟
بدت قوات النظام مرهقة، ولا سيما على المستوى النفسي، فيما كان الركون قد نال من استعدادها، فتهاوت حصون تلك القوات بسرعة، من دون أن يتمكن النظام وحليفه الروسي والإيراني من استيعاب ما حدث. ففي حين كانت موسكو منشغلة بالمعارك شرقي أوكرانيا، كان تأثير الخبراء والمستشارين العسكريين الروس غير موجود على الأرض السورية، وكان كل ما يمكن أن يفعله الروس هو ضرب خطوط الإمداد لقوات المعارضة المتقدمة بسرعة في حلب، وذلك كان لينفع لو لم تنسحب قوات النظام بشكل كيفي وغير منظم من نقاطها ومعسكراتها على تخوم مدينة حلب، تاركة وراءها العشرات من الدبابات والمدافع، وأطنان من الذخائر المتنوعة. حينها، لم تحتج قوات المعارضة إلى خطوط إمداد، فقط كان يلزمها الوقود لتشغيل الآليات المغتنمة لمواصلة المعركة بها، علماً أن الوقود الكافي لسحب الآليات لم يكن متوفراً عند قوات النظام، وذلك بحسب الجنود الذين استسلموا لمقاتلي المعارضة.
السيطرة على حلب، ومن ثم التوسع جنوباً بالسيطرة على كامل الحدود الإدارية لمحافظة إدلب والتوجه نحو حماة، جعل بشار الأسد يدرك الواقع المنفصل عنه، ولا سيما أن إشارات الحلفاء بالتخلي عنه كانت قد بدأت تصل، والتي تأكد منها بعد اجتماع وزير خارجيته بسام الصباغ مع كل من نظيريه العراقي والإيراني في بغداد مساء السادس من ديسمبر، وذلك الاجتماع كان الأسد يأمل منه الخروج بقرارات من العراق وإيران بإرسال قوات للمساندة، لكن كلمتي الوزيرين العراقي والإيراني في المؤتمر الصحافي الذي أعقب الاجتماع، كانتا كفيلتين بأن تخبراه بأن “تدبر نفسك، فلا نملك سوى الإدانة والشجب والتعاطف”.
محاولات بشار الأسد الأخيرة للدفاع عن نظامه
لن ينتظر بشار الأسد اجتماع الدوحة في اليوم التالي، لأنه كان يعلم نتائجه نظراً إلى الإشارات السابقة، فبدأ يعمل على خطتين، الأولى: التحضير للهروب، والثانية: الحشد من داخل قواعد نظامه في الساحل لزجهم في المعركة، والدفاع عن النظام عند تخوم حمص وسط البلاد، وكلّف بالعمل على هذه الخطة الأخيرة مستشاره الاقتصادي يسار إبراهيم، الذي تواصل مع معظم متزعمي العصابات والمليشيات الرديفة من الساحل، والتي كانت مستفيدة من النظام سواء بالقتال معه و”تعفيش” المناطق المسيطر عليها بعد ذلك، أو من خلال تجارة الكبتاغون الذي بات علامة مسجّلة باسم بشار الأسد في العالم.
طلب يسار إبراهيم، وتحديداً من أشخاص من عائلة الأسد، تجنيد كل من يمكن تجنيده من خلال الأموال، فيما سيتم تقديم السلاح عن طريق القصر والفرقة الرابعة، حينها تلقى إبراهيم الردود بالجاهزية في حال توفر الأموال للمقاتلين المراد تجنيدهم، معلنين أنهم يحتاجون إلى قرابة ثلاثة ملايين دولار شهرياً رواتبَ للمقاتلين ونفقاتهم. عاد الإبراهيم إلى بشار الأسد وتلقى منه التعليمات، وكانت بأن يجد آل الأسد ممولين “بالخوة” من الاقتصاديين والتجار لتمويل هذه الخطة، حينها علم آل الأسد أن الوقت قد فات لترهيب التجار والاقتصاديين لسحب الأموال منهم، وأن بشار لن يفرج عن أمواله للدفاع عن حكمه، فهربوا مع عائلاتهم إلى الجبال، وفي ذلك الوقت، انهارت قوات النظام في حمص، وبدأت دمشق وريفها بالخروج عن السيطرة لصالح المعارضة، فكانت الخطة الأولى حاضرة لدى بشار الأسد، ولا ينقصها إلا بعض الترتيبات مع السفارة الروسية لطريقة الخروج والوصول إلى حميميم، ثم الهروب والفرار إلى روسيا.
هكذا سقط بشار الأسد ونظامه، وإن كان ذلك حصل في 11 يوماً، إلا أن 14 عاماً من المقاومة السورية، على كل المستويات والأشكال، كانت تفتت هذا النظام الأقذر في العالم، قبل أن تُجهز “ردع العدوان” عليه.
العربي الجديد
——————————-
سوريا: المحاسبة كوسيلة للتعافي!/ عبدالوهاب عزاوي
تحديث 07 كانون الثاني 2025
بعد سقوط الديكتاتور باتت المحاسبة مطلباً أساسياً في المجتمع ولعلها أهم جزء في المصالحة المجتمعية، كيلا تتحول المصالحة إلى طمس لحقوق الضحايا، والهدف هنا لا يقتصر على العدالة فقط، وإنما تمثل المحاسبة فرصة لتجنب إعادة نفس الأخطاء في المستقبل، وقد تكون الطريق الذي يعلّم الأجيال القادمة قيم المواطنة والحرية والديمقراطية وحرمة الدم السوري. المحاسبة في سياقها التاريخي تمتلك طيفاً واسعاً يبدأ في الانتقام المشتهى لتبريد قلوب مكلومة كما حصل في الثورة الفرنسية الذي أدى لاحقاً إلى إعدام بعض قياداتها، وصولاً إلى اعتبارها فرصة هائلة لتكريس حقوق الإنسان كمفهوم متجذر في المجتمع. وهنا يبرز سؤال مهم ما هو شكل المحاسبة المطلوبة في سوريا؟ ولعل قراءة تجارب الآخرين تسهم في الإجابة وتقديم تصور أولي عن آلية تنفيذها، ولعل أهم تلك التجارب هو ما حدث في رواندا بعد نهاية الحرب الأهلية الأكثر دموية في التاريخ الحديث حيث قتل 800 ألف إنسان أغلبهم من التوتسي على يد الهوتو في حدود المئة يوم، هناك اختلافات واضحة عن الشرط السوري في شكل الحرب الأهلية وعدم وجود طوائف أو اختلافات في الأديان وشكل التدخل الخارجي وعادات المجتمع، ولكن الجوهر يظل ذاته. فكرة المحاسبة كانت مركزية بعد انتصار التوتسي على الهوتو، وتم تقدير الحاجة إلى قرن كامل لإنهاء المحاكمات للمجرمين من الهوتو بالشكل التقليدي للمحاكمات مع الأخذ بعين الاعتبار أن عدد سكان رواندا بحدود العشرة ملايين نسمة في وقتها. مئة عام لن يبقى الجميع فيها أحياء، زمن يفوق المنطق والقدرة على التطبيق، مما أدى إلى ابتداع حلول أخرى لاستثمار المحاسبة كوسيلة لتعافي المجتمع لا دخوله في دوامة جديدة من العنف. هل كان الحل في رواندا في إعدامات عشوائية؟ أو نفي وتهجير من البلاد؟ أو اللجوء لمحاكمات بيروقراطية تذكرنا بالمحاكمات الماراثونية لسلوبودان ميلوسوفيتش مثلاً والتي استمرت أربع سنوات مات فيها أو انتحر قبل الوصول إلى النطق بالحكم، محاكمات تبدو غير منطقية إذا أخذنا بعين الاعتبار أن عناصر المخابرات في سوريا وحدهم يصل حسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان إلى 120 ألف عنصر. أم البديل هو محاكمات عسكرية صورية كالتي أنشأها نظام الأسد لإعدام السجناء في السجون تقوم بإطلاق الأحكام قبل ذكر اسم المتهم؟ ولعل السؤال الأهم في التجربة الرواندية كان، ما هو شكل العقوبات التي يريد المجتمع إطلاقها؟ إعدامات أم سجن مؤبد أم خيارات استثمار القدرة البشرية لهؤلاء المجرمين في إعمار البلاد، وهنا يأتي الخيار الأهم الذي اتخذته رواندا لتحويل هذه الكتلة البشرية إلى عمالة تفيد المجتمع مع برامج إعادة تأهيل وإصلاح، والبداية في إنشاء محاكم المجتمع المحلي «الجاكاكا» التي قسمت المتهمين لمجرمين من القيادات محكوم عليهم بالمؤبد بسبب إلغاء الحكم بالإعدام في رواندا، وصولاً للمتهمين الأقل شاناً عبر مكاشفات علنية واعترافات تتيح للمجتمع المشاركة بعيداً عن التشفي والانتقام ثم إيجاد طيف من الأحكام بالسجن لفترات غير طويلة مع خدمة مجتمعية أو غرامات مع خدمة مجتمعية بشرط قبول الضحايا بالاعتذارات العلنية.
تم إنشاء ما يقارب 11000 محكمة لتبت فيما يزيد عن مليون قضية خارج النظام القضائي التقليدي، هذه المحاكم كانت فرصة للتعافي والشفاء في المجتمع، والأهم إنها تمت في توافق مجتمعي في إطار المصالحة لا الانتقام، المصالحة التي تضمن التذكر ومواجهة الضحايا بالمجرمين أمام المجتمع كله، تلك النظرة التي ستدخل في أرواح الجميع ليتذكروا هول ما حدث، المصالحة هنا تضمن عدم النسيان. في رواندا حصل ما يقارب 15000 حالة اغتصاب حسب التقارير مع العديد من حالات الحمل، هذا لم يكسر النساء بل دفعهن للمشاركة بكثافة في إعادة الإعمار وصولاً إلى أكثر من نصف مقاعد مجلس النواب في بلد شهد نهضة اقتصادية سريعة في وقت قصير نسبياً. في سوريا نواجه نفس الأسئلة مع صعوبات إضافية بسبب التمايز الطائفي والقومي، مع خطر دائم لعودة الحرب الأهلية وتدخل دولي يشجع على التقسيم الطائفي كما حصل في العراق ولبنان. في سوريا وبسبب إزمان الصراع وتدخل جيوش خارجية فيه تغدو المصالحة أكثر صعوبة وأكثر إلحاحاً. هل سندخل في حربٍ أهلية بين الأكراد والعرب إرضاءً لتركيا؟ هل ستحصل حرب بين السنة والعلويين بدعم إيراني عراقي شيعي؟ هل سندخل في حكم ديني يقسم الناس لطوائف ودرجات؟ هل سيكون الانتقام أساس المحاسبة وباب تشكيل مظلوميات جديدة للعودة إلى العنف. نحن أمام فرصة تاريخية لبناء بلد لكل مواطنيه خارج التقسيمات العمودية للمجتمع، هل يمكننا أن نتخيل ولو مجازاً عشرات الآلاف من المجرمين يعملون على إزالة الأنقاض من المدن المهدمة، ويعيدون بناء بيوت الناس التي قتلوا وهجروا أبناءها؟! متذكرين أن ألمانيا احتاجت لما يقارب عقداً من الزمن للانتهاء من إزالة الأنقاض بعد الحرب العالمية الثانية على يد «نساء الأنقاض» كما تمت تسميتهن آنذاك. هل هو حلمٌ بعيد المنال أن تكون المحاسبة وسيلة للتعافي؟!
كاتب من سوريا يقيم في ألمانيا
القدس العربي
———————————–
القواعد الروسية في سوريا: أداة ابتزاز أم عبء سياسي ؟/ مثنى عبد الله
تحديث 07 كانون الثاني 2025
قد يبدو غريبا ذلك الإعلان الصادر عن جهاز الاستخبارات الروسية، الذي يتحدث عن نية جهازي الاستخبارات الأمريكية والبريطانية، تجنيد عناصر لشن هجمات على القواعد العسكرية الروسية في سوريا. ويقول الإعلان إن الهدف هو سعي كل من لندن وواشنطن إلى إيجاد حالة من عدم الاستقرار في سوريا، تقود إلى إحداث نوع من الفوضى في الشرق الأوسط، في ظلها يمكن تحقيق هدفهما الجيوسياسي المتمثل بالهيمنة الدائمة على المنطقة، ودفع موسكو لإجلاء قواتها من سوريا. وهنا لا بد من الإشارة إلى تصريح كاديا كالاس المسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، التي اشترطت بشكل واضح خروج روسيا بالكامل من سوريا، كي تتعاون أوروبا مع القيادة السورية الجديدة.
التحليل السياسي للبيان الصادر عن جهاز الاستخبارات الخارجية الروسية، يشير إلى أمرين: إما أن المعلومات التي تحدث عنها ذات موثوقية عالية، وفي هذه الحالة كان من المفروض أن يتم إخبار السلطات السورية بها عبر القنوات السرية، كما هو معمول بين الدول، وليس بصيغة إعلان، أو أن المعلومات الواردة فيه مُضللة، الهدف منها الابتزاز السياسي للسلطات السورية، كون روسيا هي أحد الخاسرين بعد سقوط نظام بشار الأسد، بالتالي فهي تريد تعزيز موقعها المتقدم في المنطقة الذي بات مهددا، خاصة أن موقعها الجيوسياسي على البحر المتوسط من خلال قاعدة طرطوس، ذو أهمية عالية، لأنه وسيلة ضغط على جنوب أوروبا، وأيضا مدخل إلى افريقيا والشرق الأدنى.
لكن التمعن أكثر في الإعلان يشير إلى أن موسكو تريد القول، إن الولايات المتحدة وبريطانيا هما الراعيان الحقيقيان للسلطات الجديدة في سوريا، إضافة إلى تركيا، وفي هذه الحالة فإنها تشتبه بعدم القدرة على النجاح في الاتفاق مع السلطات السورية الجديدة في الإبقاء على قواعدها، وربما على المدى المتوسط سترفرف أعلام أمريكا وبريطانيا على قاعدتي طرطوس وحميميم، لكن في الحسابات الأخرى ليس مُستغربا أن تُقدم كل من الولايات المتحدة وبريطانيا على مهاجمة القواعد الروسية في سوريا، من خلال جهة ما، بهدف إنهاء الوجود الروسي في إطار الصراع الاستراتيجي بين الطرفين. صحيح أن السلطات السورية قالت إنها لا تنوي خرق الاتفاقيات المتعلقة بالقواعد الروسية على أراضيها، وهي تتحدث عن علاقات تاريخية واستراتيجية مع روسيا، لكن كل التصريحات الصادرة عن الغربيين، تقول بضرورة أن تغادر القواعد الروسية الأراضي السورية. فالغرب يعلم جيدا أن هذه القواعد مهمة جدا من أجل القوة الروسية وعرضها وإيصالها إلى افريقيا، حيث أنها توفر دعما للقواعد الأخرى ولمجموعة فاغنر وغيرها من الميليشيات التي تتبع لروسيا في افريقيا عموما، لذلك يمكن فهم الأسباب التي تدفع الدول الغربية، من أجل طلب إنهاء الوجود الروسي من هذه القواعد، لكن ليس في الوارد أن تصبح سوريا مقرا لوجود عسكري تابع للولايات المتحدة والغرب والناتو. فهذه القواعد قيمتها عالية لروسيا فقط لأنها القواعد الوحيدة لها في شرق البحر المتوسط من أجل أسطولها البحري، بينما حلف شمال الأطلسي لديه قواعد عديدة في شرق المتوسط، في اليونان وتركيا وإيطاليا وغيرها. والولايات المتحدة حتى لو أخرجت قواتها من شمال شرق سوريا، فما زالت لديها شبكات معقدة من القدرة على الوصول إلى سوريا عبر قواعدها في العراق والأردن وإسرائيل والخليج. وهم لا يريدون قواعد ثابتة في سوريا، لكن يريدون أن يكون لهم تأثير، وما يهمهم أن لا يكون هناك وجود إيراني أو روسي.
أما عن موقف السلطات الجديدة في سوريا من الوجود الروسي على أراضيها، وفي ما إذا كان هناك قرار، أو استراتيجية واضحة للتعامل مع هذا الموضوع، فإن المتحكم في هذا الأمر عاملان مهمان: أولا الموقف السلبي لروسيا ضد الشعب السوري منذ بداية الثورة. فهي متهمة بقتل السوريين بطيرانها وبمجموعات فاغنر، واستخدمت حقها في النقض (الفيتو) في الأمم المتحدة عدة مرات لإعاقة عدة قرارات دولية تخص الشأن السوري، لذلك لا يمكن محو هذا الموقف من ذاكرة الشعب السوري، وهذا يشكل عامل ضغط على صانع القرار في سوريا حاليا، على الرغم من أن أحمد الشرع قال، إن العلاقات مع روسيا تاريخية واستراتيجية. ثانيا العامل الأوروبي الذي وضع مسألة رفع العقوبات عن سوريا مشروطا برفع القواعد الروسية من الأراضي السورية. وعليه فموقف السلطات الجديدة في سوريا يتعلق بموقف الجانب الروسي، وماذا يستطيع تقديمه للجانب السوري. صحيح هناك تصريحات روسية باستعدادها لبناء وإعمار سوريا والمشاركة في عملية الانتقال الديمقراطي، تحت إشراف الأمم المتحدة، لكن موقفها هذا ليس واضحا بشكل تام حتى الآن.
أما بالنسبة للموقف الروسي فموسكو تقول، إن لها ثوابت سياسية كأي دولة أخرى، ومن هذه الثوابت اعتماد مبدأ الديمقراطية السيادية، الذي ينص على أن كل ما يجري داخل دولة ما لا يخص دولا أخرى، ولا يستدعي التدخل طالما لا يشكل تهديدا للآخرين، لكنها تبرر تدخلها في سوريا ودعمها لبشار الأسد بموجب طلب تقدمت به السلطات البائدة. الآن هي تقول إن هناك سلطة شرعية جديدة في سوريا، وهي مضطرة للتعامل معها بحثا عن مصالحها، التي تتوافق مع مصالح السلطة الجديدة. كما تُراهن على أن البراغماتية ستسود بين البلدين والذاكرة دائما قصيرة في العلاقات الدولية، لكن هل سترحل روسيا بشكل نهائي عن سوريا؟ هذا سيعتمد بشكل رئيسي على طلب القيادة السورية الجديدة. أما الآن فالسلطات الجديدة مُلزمة بحماية المنشآت الروسية على أراضيها، وضمان بقائها وفقا للقانون الدولي. وبما أن السلطة الجديدة هي حكومة تصريف أعمال، فلا يحق لها إلغاء الاتفاقيات الموقعة من قبل النظام السابق مع الدول الأخرى ومنها روسيا. لكن بمجرد أن تصبح هنالك سلطة دائمة جديدة، فمن حقها السيادي أن تطلب من روسيا إخلاء قواعدها في البلاد ورحيل قواتها كافة. ولأن روسيا تدرك أن هذا حق سيادي سوري، فهي تسعى اليوم لإقامة علاقات براغماتية مع السلطة الجديدة في دمشق. لكن هل سيجدي هذا الأسلوب في الحفاظ على مصالحها؟
ربما تُراهن روسيا على مبدأ لا توجد عداوات دائمة، ولكن هناك مصالح دائمة في العلاقات الدولية، وهذه المصالح تُملي على الجميع مراعاتها. وعليه فقد تسعى لرفع اسم هيئة تحرير الشام من قوائم الإرهاب كبادرة حسن نية، خاصة أن بوتين وقّع مؤخرا على قانون يضع آلية لشطب التنظيمات من قوائم الإرهاب. أيضا روسيا لديها شُركاء في المنطقة مثل قطر وتركيا، تستطيع من خلالهم الضغط على السلطات في دمشق لضمان بعض المصالح مثل، استخدام القواعد لأغراض لوجستية فقط.
كاتب عراقي
القدس العربي
————————–
لماذا يلتزم نظام السيسي الصمت إزاء ما يجري في سوريا؟
6 – يناير – 2025
صمت مصر الصاخب في ضوء ثورة سوريا يشهد كألف شاهد على خوف نظام السيسي من أثر دومينو ثوري يضرب مصر، خصوصاً من قوة اردوغان الصاعدة ومن تدخل تركيا الإقليمي والديني.
في ضوء الأحداث الدراماتيكية في سوريا، حافظت مصر على موقف فاتر جداً، واكتفت بتصريحات فارغة بشأن التزامها بوحدة سوريا الإقليمية. تشاركت مصر وسوريا على مدى السنين برعاية السوفيات، وجمعت بينهما وحدة مشتركة قصيرة لم تنجح، أدارتا معارك هائلة ضد العدو الإسرائيلي المشترك، وتنازعتا بسبب توجه مصر إلى مسار السلام مع إسرائيل. وبعد سنوات طويلة من القطيعة، بما في ذلك بسبب نظام الأسد القمعي تجاه شعبه، استعادتا علاقاتهما من جديد. فكيف ترك المصريون سوريا لمصيرها؟
حل اللغز يكمن في فهم علاقات مصر مع تركيا. فقد ساهمت مصر كثيراً في صياغة الفكر الإسلامي. وفي العهد العثماني أيضاً، حين كانت مصر تابعة إدارياً للباب العالي في إسطنبول، رأى المصريون في تركيا جهة أدنى منهم ثقافياً ودينياً. تركيا الحديثة، التي قامت على خرائب الإمبراطورية العثمانية، بدأت مسيرة علمانية قسرية وتأكيد القومية التركية في ظل تصميم إسلام خاضع للدولة.
لقد خلق صعود حزب العدالة والتنمة وزعيمه اردوغان وتطلعهما للنفوذ في العالم العربي مجالات للتعاون بين الدولتين، بخاصة تحت الرئاسة القصيرة لرجل الإخوان المسلمين محمد مرسي. لكن سقوط مرسي السريع وصعود السيسي إلى الحكم في 2013 خلقا توتراً أعلى بين الدولتين وصل حد قطيعة العلاقات على مدى عقد. وتصارعت مصر وتركيا سواء على الصدارة في العالم الإسلامي أم على المستويات العسكرية والاقتصادية في الشرق الأوسط، في حوض البحر المتوسط بل وفي إفريقيا.
لتركيا ومصر جملة مصالح متضاربة ربما تؤدي إلى أزمات متجددة. لمصر وإسرائيل واليونان وقبرص آبار غاز كبيرة قرب شواطئها، وهي تتمتع بالملكية عليها بحكم ميثاق قانون البحار EEZ، الحقيقة التي لا تقبلها تركيا. خلافات الرأي قائمة أيضاً في المسألة الليبية: مصر تدعم الجنرال خليفة حفتر في شرق ليبيا، بينما تركيا تدعم حكومة الوحدة الوطنية برئاسة الدبيبة غربي الدولة. كما توسطت تركيا مؤخراً في تحقيق اتفاق تهدئة بين إثيوبيا والصومال بشكل قد يؤثر سلباً على مصر، وفي النزاع بينها وبين إثيوبيا حول سد النهضة الذي استكمل رغم أنف مصر.
إن نجاح تركيا في إسقاط نظام الأسد، ومحاولاتها السيطرة على سوريا عسكرياً واقتصادياً في ظل التعاون مع قطر الغنية إلى جانب الخوف من رفع رأس “الإخوان” في مصر في ضوء الأزمة الاقتصادية العميقة في الدولة، لا يسمح لمصر للانتباه في سوريا. أما إسرائيل، التي استخلصت المنفعة من معارك الاستقطاب في المنطقة، فلا أرى أن في هذا بشرى طيبة.
غولوبونتسييس
معاريف
القدس العربي
——————————
الثورة السورية: الكنز العظيم والطريق إلى التقسيم/ فوزي مهنا
06 يناير 2025
تشبه حالة الثورة في حياة الأمم تلك المرجانة أو (الكنز) الذي يظهر فجأةً في عرض البحر، فيراه الثوار وكل من شارك، لكنهم ما إن يهبّوا للإمساك به حتى يختفي ويغيب، ليتحول ذلك الكنز مجردَ سراب وإحباط لدى الثوار، وهو ما عبّرت عنه المفكرة الأميركية “حنة آرنت” بوصفها خيبةَ الثوار بنجاح ثورتهم، في “أنها سعادة تظهر لكنها سرعان ما تختفي، بل هي لا تظهر حتى تختفي، لتصل إلى نتيجة هي أن قدر كل الثورات الإنسانية أن تفقد كنزها العظيم”.
بذلك، فإن الثورة السورية لن تكون استثناءً في ما يتعلق بهذه الخيبة، على الرغم من أنها كانت الأكثر دموية من بين جميع الثورات في العالم، من ثم الأكثر تعرضًا للخداع الدولي على الإطلاق، خصوصًا أنه لم يشهد تاريخ الأمم المتحدة منذ أن ظهرت إلى الوجود عام 1945 أن اتفق أعضاء مجلس الأمن المتحكمين برقابه على مسألة دولية أكثر مما تطابقت رؤاهم في الحالة السورية، والمفارقة العجيبة هي أن هؤلاء كانوا يقتتلون على مجرد عظمة، ويتسابقون في الدفاع عن حقوق الإنسان، بينما في المسألة السورية، أخذوا يتوافقون ويتشاركون في قتل الشعب السوري.
اليوم، يحضر هذا التوافق الدولي والإقليمي على الساحة السورية بقوة وبشكل فاضح ومكشوف، لينهي دور آل الأسد، الذي استمر أكثر من خمسين عامًا في نهب وتخريب الدولة السورية وتشريد شعبها، وليطرح هنا السؤال نفسه، هل حققت الثورة السورية أهدافها؟ أم أن هذا “الكنز العظيم” الذي دفع السوريون لأجله الدماء الكثيرة ما زال بعيد المنال؟
وللإجابة عن ذلك، يمكن القول إن هذا الفرح الكبير الذي احتفل به السوريون، بكل ألوانهم وأطيافهم، إنما هو احتفال بسقوط المنظومة الفاسدة وليس بنجاح الثورة، لأن الثورة عبارة عن مراحل متلاحقة، صحيح أن ثورة السوريين قد ولدت في عام 2011 إلا أن السلطة القمعية المخلوعة، وبتواطؤ المجتمع الدولي، قامت بوضع هذا (المولود الجديد) في (الثلاجة) طيلة هذه السنوات الحمراء، حتى تاريخ سقوطها.
ومع الحلول القمعية التي لجأت إليها، من تدمير وقتل وتشريد وإفقار، فضلًا عما بذلته من جهود في فكفكة بنيان المجتمع السوري وضرب وحدته الوطنية، أدى كل ذلك إلى تشوه هذا (المولود)، وإلحاق شتى العطوب به، وعليه، فإن هذا التشوه في جسد الثورة هو في الواقع من أفرز الإدارة الجديدة، التي باتت تحكم السوريين اليوم.
بذلك يمكن القول إن ثورة الشعب السوري لم تبدأ إلا بعد سقوط النظام المخلوع، وبالتالي، فإن أمام السوريين لا يزال المخاض شاقاً وطويلاً، أسوةً بجميع الثورات في العالم التي أعقبت سقوط الأنظمة المستبدة، فالثورة الإنكليزية على سبيل المثال شهدت حروبًا أهلية دامت (13) عامًا، انقسم خلالها البرلمان بعضه على بعض، انتهت بإعدام الملك على يد الجمهوريين، بعد ثلاث سنوات من موت “كرومويل” قائد هذه الثورة، قام ابن الملك المقتول بنبش قبره وتعليق جثته على مبنى البرلمان البريطاني.
ومثلها كان حال الثورة الفرنسية التي استمرت أكثر من (10) سنوات، فالملك الذي أوصى الحدّاد كي يتفنّن بشفرة المقصلة من أجل زيادة عذابات الثائرين، قام الثوار بقص رأسه ورأس زوجته بنفس الشفرة، ثم ليقوم هؤلاء على رأسهم روبسبير بتصفية بعضهم بعضاً بنفس المقصلة، حتى بلغ من قُتل منهم أكثر من 16 ألف شخص، إلى أن جاء دور رأس روبسبير نفسه، قبل أن تنتصر الثورة وتحقق أهدافها في فصل السلطات وفصل الدين عن الدولة والمساواة وحرية التعبير.
لكن السؤال الأهم هنا، هل نحن مثل بقية شعوب العالم التي ولجت طريق الديمقراطية؟ أم أن الأرض العربية باتت استثناءً؟ كما يذهب إليه البعض، بسبب وجود خلل بنيوي أصيل في طبيعة الدين الإسلامي والثقافة العربية الاستبدادية، ووجود بنية ذهنية ثقافية دينية مزمنة تعوق السير بهذا الطريق، على حد وصف محمد عابد الجابري في نقده العقل العربي، فضلًا عن وجود العامل الخارجي.
وعليه، فإن عدم ولوجنا عصر التنوير مثلنا مثل بقية هذه الشعوب، إنما يعود وفقًا للجابري “لعاملين رئيسين: أولهما أن الغرب قضى أكثر من ثلاثمائة عام في الحروب الدينية والقومية، بينما انطلقت نهضتنا على أكثر تقدير مع بداية القرن الـ19، وبالتالي، نحن لم ننخرط في النهضة وطرح إشكالاتها إلا منذ مائة عام، أما العامل الثاني، فهو أن الغرب عندما كان يتقاتل أو يتقدم ليبني نهضته، لم يكن هناك خصم خارجي يتدخل لإحباطه أو إعاقته، أما نحن، فالخصم الخارجي عنصر أساسي في المعادلة، لذلك يجب ألا نقيس الأمور بنفس المقياس لأن لنا وضعًا مختلفًا” (الجابري والأعرجي، وفاء وحوار ونقد ص 92).
فكيف هو الحال ونحن نتحدث عن سورية التي لم يتوانَ الغرب عن فرض هيمنته عليها، بدءًا من اتفاقات سايكس بيكو، إلى انقلاب حسني الزعيم 1949 الذي رعاه الأميركيون أنفسهم، وما بعده من انقلابات، إلى تسلم حافظ الأسد وورثته رئاسة البلاد أكثر من نصف قرن، بعد أن انتهى دور الأسدين، جاء دور الإسلام السياسي ليعيدنا إلى المربع الأول.
وعليه، هنا تكمن خطورة العامل الخارجي الذي تحدث عنه الجابري، على مدار 11 يومًا فقط تم خلالها تحرير سورية، على حد قولهم! في اليوم التالي، بدأ الحجيج الدولي يتقاطر، لقد جاء حافظ الأسد بناءً على توافقات دولية مقابل القيام بالدور الهدّام، أكان على الصعيد العربي باصطفافه إلى جانب إيران في حرب السنوات الثماني في مواجهة العراق، أم على الصعيدين اللبناني والفلسطيني على حد سواء، فضلًا عن نهب خيرات سورية وتخريبها وتهجير شعبها، وتدمير ما تملكه من أسلحة، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، ماذا تبقى اليوم للإدارة الجديدة من مقابل تقدمه، سوى المساهمة في تقسيم البلاد إلى إثنيات عرقية وطائفية متصارعة؟
العربي الجديد
————————————–
دموع في عيون وقحة/ راشد عيسى
تحديث 07 كانون الثاني 2025
يتصرف السوريون، في معظمهم على ما يبدو، بقدر كبير من المسامحة مع مختلف خصومهم السابقين، وقد يكون مردّ ذلك فرحتهم العارمة الاستثنائية، ورغبتهم المتعطشة للعيش، بعد عقد مُرّ من الفقر والفقد والبرد والجوع الشديد، كما القهر والإذلال وتقييد الحريات.
يتسامحون، لكن ليس مع من يقوم «باستهبالهم»، كما في ظاهرة واسعة من «المكوّعين» (الموالين الذين انقلبوا تماماً مع خبر هروب المخلوع بشار الأسد)، فوراً رفعوا الأعلام الخضراء، وباشروا سمفونية الندم والبكاء، وليت الأمر توقف عند هذا الحد، فالنغمة التي طغت هي نبش مواقف من الماضي يفهم منها على أنها بطولةٌ ما تجاه النظام.
بالطبع ليس المقصود عموم الناس المجبرين على الصمت، نتحدث هنا عن الموالين الأشداء للنظام الساقط، وباتوا اليوم من أشد الشاتمين له.
أبرز هؤلاء كانت الممثلة سوزان نجم الدين، التي ارتدت فستاناً وأقراطاً بلون العلم الأخضر، وعندما سئلت إن كان بشار قد قتل شعبه، قالت: «الآن أقول نعم، بعد أن شاهدنا السجون»، وبكت. ما عرّضها لموجة سخرية واسعة استعادت مواقف وفيديوهات صريحة لها في مديح النظام.
نجم الدين من عائلة عريقة في موالاة النظام، وقد تكون بالفعل لا تعرف تماماً ما يجري في سجن صيدنايا، فحتى الذين يعرفون ويتابعون ربما فوجئوا بحجم الجريمة هناك، لكن لا بد أنها تعرف ما يجري عموماً في فروع أمن النظام وسجونه، خصوصاً أنها شقيقة ضابط في المخابرات. إنها تعرف بالطبع ما يجري في السجون، النظام نفسه حرص على إعلان تخويف وترعيب السوريين، بطريقة أو بأخرى، وإلا كيف كان سيحكم من دون ذلك.
هكذا فإن بعض «المكوعين» لم يكتف بـ«النطق بالشهادتين» وحسب، بل راح ينسب لنفسه بطولات. بدا الأمر كوميدياً تماماً وهم يقتبسون من حياتهم السابقة أي شي، أي اعتراض أو انتقاد كإثبات انتماء قديم للمعارضة.
هذا أحد أبرز كتّاب النظام وممثليه يستعيد صفحات مطولة يحاول فيها إثبات مشاركته في حوارات سابقة لمؤتمرات شاركت فيها المعارضة. وكان محقاً بالفعل سؤال البعض كيف بإمكانه أن يكوّع من وَشَمَ على حاله صورة لأحد أفراد عصابة الأسد، لكن لربما كان محو الوشم أسهل من محو فيلم في مديح بطولات الأسد، أو رواية كتبت في تمجيد بطولات جيش النظام. يستطيع «الشبيح» أن يقص يده، وفي النهاية قد يكون الوشم في مكان بعيد خفي عن العيون، أو يسهل إخفاؤه، لكن الرواية والفيلم شاهدان صارا ملك الأرشيف والذاكرة.
كاتبٌ آخر مثابر، وصوره مع المخلوع بشار تملأ فضاء مواقع التواصل، وكان قد أنجز سيناريو فيلم أثناء الحرب والثورة لصالح المؤسسة العامة للسينما في مديح الأسد الأب. أراد أن يخدعنا، وهو الكاتب لصحيفة عربية، بأنه كان تحت سيف الرقابة، وسيتحفنا (الآن فقط) تباعاً بمقالاته التي كان يخشى من عرضها للعامة، كمقال «شجاع» عن رواية تتناول حياة السجون.
المخرج سيف سبيعي، كان له ثورته أيضاً، وتكويعته، ومن بين أعماله المحفورة تأديته لدور صحافي في فيلم بعنوان «رجل الثورة» من إخراج نجدت أنزور، الذي يجهد بوضوح في دحض الروايات الإعلامية المناهضة للنظام السوري، وخصوصاً تكذيب حقيقة «الخوذ البيضاء» (رجال الدفاع المدني السوري الذين يعملون في مناطق سيطرة المعارضة، وكانوا شهوداً على إجرام النظام وكذلك الإجرام الروسي). ولا شك أن سبيعي لم يكن مجبراً على أداء ذلك الدور.
ظهر سبيعي في فيديوهات تكويعية عديدة لا يؤخذ منها حق ولا باطل، إذ اكتفت فقط بالشتم المقذع لبشار الأسد، وكان منتظراً من أحد أبرز مخرجي الدراما التلفزيونية أن يقدم وقائع تكشف عن وجه من وجوه النظام. إن كان هناك بعد ما يمكن كشفه، بعد كل ما شاهدنا. غير أن سبيعي، في سياق ادعاءاته، وقع في موجة جدل واتهامات مؤسفة ومفترية لمعارضين.
وقع سبيعي في تناقض فاضح في إحدى المقابلات، إذ يروي قصة تسلّمه إخراج مسلسل «الولادة من الخاصرة» (للكاتب المعارض سامر رضوان) بعد أن تركته المخرجة رشا شربتجي خوفاً. أكد سبيعي أنه قال لمنتج العمل، بعد قراءته للسيناريو، إنه مكتوب في أقبية المخابرات، ذلك لأنه، حتى لو كان يتضمن مشاهد مظاهرات ضد النظام، ويفضح فساده، فهو يضع الذنب برقبة ضابط أو اثنين، ما يعني تبرئة للنظام، وعلى ذلك سيقبل سبيعي إخراجه.
بعد إنجازه سيتصل به طرفٌ على صلة بماهر الأسد مبدياً مخاوفه من أن سيف قدَّمَ ما يُغضب ماهر الأسد، ومجدداً سيستخف سبيعي، ويبدو واثقاً من أنه لم يفعل ما يُغضب، فهو في النهاية أخرج عملاً مكتوباً، حسب زعمه، في أقبية المخابرات. التناقض هنا أن سبيعي يسوق الرواية في إطار نبش إحدى بطولاته ضد النظام، وتأكيده أنه لم يكن ساكتاً، كما يتهمه المعارضون، بل كان ينخر بصمت في أسنان النظام.
الأمر أبسط من كل ذلك، كانت تكفي كلمة واحدة للاعتذار، والبحث عما يمكن إضافته لإدانة مجرمي النظام ما يقود إلى ملاحقتهم ومحاكمتهم.
يتورط البعض في جدل ومماحكة تورطهم أكثر في سقوط جديد، تماماً كما الحال مع مقابلة للممثل بسام كوسا، الذي أراد، هو الآخر، إثبات معارضته، وأنه كان مجبراً على المقابلات المتلفزة إلى جانب فنانين آخرين مع بشار الأسد، وراح يبرر بعض تصريحاته بلفّ ودوران مكشوف.
يبدو أن «تكويعات» المثقفين والفنانين تحديداً ستشكل مسلسلاً لا يستنفد، ولربما لم يعد التكويع في حد ذاته مستغرباً، أو محلاً للمعاينة، بقدر ما باتت كيفية التكويع هي الأمر المثير.
* كاتب من أسرة «القدس العربي»
القدس العربي
—————————
أضرحة دمشق ومقاماتها: جدلية قبر صلاح الدين وزواره (1)/ محمد حجيري
الثلاثاء 2025/01/07
تعود مدينة دمشق، المحررة من نظام “الأبد”، لتظهر بكامل تناقضاتها السوسولوجية، وبألقها الضارب في الماضي والحاضر والتاريخ، لا سيما كمدينة زاخرة بمقامات وأضرحة وقبور متنوعة ومتناقضة ومتشابكة ومحاطة بالأساطير والمعاني والأوهام والحكايات والتفسيرات، تبعاً لتراكم التواريخ والحضارات وتبدلاتها وتشعباتها وتحولاتها(*).
وتضم الجبّانات والنواحي الدمشقية مقامات وقبور وأضرحة مقبّبة ومهندسة للعديد من الشخصيات الحقيقية المؤثرة في وجدان الجماعات والمِلل، والشخصيات الأسطورية والدينية، من المذاهب والطوائف كافة، سواء السنّية أو الشيعية أو الصوفية، إضافة إلى الكرد والعروبيين والمسيحيين والأدباء والشعراء. وبحسب جيمس فريزر في كتابه “الطوطمية والزواج”، فإن الطوطم هو “مجموعة من الأشياء التي يحترمها البدائيون، ويعتقدون بوجود علاقة خاصة تربطهم بها”. وفي دمشق، من خلال العلاقة بالأضرحة، بُنيت سياسات وتوجهات، وزعم البعض أن المقامات كانت حجة للمشاركة في حروب طاحنة وفتاكة، تسببت في مقتل الآلاف وتهجير الملايين. وتؤول المقامات والأضرحة إلى موائل سياحية ومقصد لملايين الزوار من العالم، وكل شخص يعتقد أن له علاقة خاصة بضريحه أو مقامه، وعلاقته به تتجلى بالسكينة أو البكاء وربما أمور أخرى.
ومن الأضرحة الدمشقية البارزة، ضريح صلاح الدين الأيوبي الذي يتسم بأبعاد سياسية. فقاهر الصليبيين، الذي رحل في 4 آذار 1193، ودفن في بداية الأمر في قلعة دمشق، نقل بعد ذلك إلى مدفنه الحالي بدمشق أيضاً، في المكان المعروف بـ”ضريح صلاح الدين”، بجانب المدرسة العزيزية بجوار الجدار اليسار من الجامع الأموى في حي الكلاّسة.
والبعد السياسي للضريح هو الروايات المنسوجة حوله، ومنها الرواية التي يتبناها بعض أنصار العروبة والتي تقول إنه، بعد هزيمة الصليبيين ووفاة صلاح الدين بأكثر من 700 عام، والانتداب البريطاني في فلسطين، ودخول القوات الفرنسية إلى دمشق، توجه قائد القوات الفرنسية في الحرب العالمية الأولى، الجنرال غورو، إلى ضريح صلاح الدين، وذلك حسبما ذكر اللواء راشد الكيلاني فى مذكراته، فقال: “يا صلاح الدين أنت قلت لنا إبان حروبك الصليبية: إنكم خرجتم من الشرق ولن تعودوا إليه، وها نحن عدنا فانهض لترانا في سورية”.
لكن هذه الرواية بقيت بين الحقيقة والأسطورة و”لطالما ألهمت الاتجاهات الجديدة الوطنية السورية والقومية العربية والإسلامية العابرة للحدود في صراعها مع العدو الموجود أو المفترض”، بحسب الباحث السوري – الكوسوفي محمد م.الارناؤوط الذي يشير إلى أن المؤرّخ الأردني، علي محافظة، الذي تخرّج في “جامعة السوربون” ويعرف جيّداً الوثائق والمصادر الفرنسية، قال في محاضرة له إنه بحث خلال دراسته في فرنسا وبعد عمله الطويل أستاذاً للتاريخ، عن هذه الجملة المنسوبة إلى الجنرال غورو فلم يجد سنداً لها. لكن هذا “لم يغيّر شيئاً من واقع الحالة، وبالتحديد من سحرية هذه الجملة وتطوُّرات استخدامها حتى الآن”.
ويرى المؤرخ البريطاني جيمس بار، أن العبارة المنسوبة إلى الجنرال غورو اكتسبت شهرة بعدما استخدمها جمال عبد الناصر في خطبة بتاريخ مارس/آذار1958. وقد أوحى فيما يسوق رأيه هذا، أن عبد الناصر سمع بالعبارة بعد زيارته الأولى لسوريا، ورؤيته لضريح صلاح الدين، لأنها – كما قال – كانت تكرر في دمشق كثيراً. وبحسب الصحافي علي العميم، أن سماع عبد الناصر لتلك العبارة هو الذي شجعه على تقمص شخصية صلاح الدين، وتقمص دوره التاريخي في الحروب الصليبية، لكن بنكهة قومية عربية علمانية. ففيلم “الناصر صلاح الدين” للمخرج يوسف شاهين، الذي أنتج العام 1963، تضمن إسقاطاً سياسياً وأيديولوجياً مباشراً بأن عبد الناصر هو صلاح الدين المعاصر الذي سيحرر القدس من الاحتلال الإسرائيلي، وأن قوميته السياسية الوحدوية في الماضي كان سلفه فيها صلاح الدين.
وثمة رواية أخرى لعبارة غورو هذه، وهي ما خلص جيمس بار إليه في كتابه “خط في الرمال: بريطانيا وفرنسا والصراع الذي شكل الشرق الأوسط”، في مناقشة تقريرَي الصحافية الفرنسية مريام هاري التي كتبت عن معركة ميسلون في دمشق ووجود غورو فيها. فقال إن قائلها هو الجنرال ماريانو غوابيه، وليس الجنرال غورو. فغوابيه، الذي زعم أنه قاد الحملة العسكرية على دمشق تنفيذاً لقرار عصبة الأمم، بغية تمدين سوريا والسوريين، قال في مذكراته: “أنا في دمشق! إن هذا الاسم كان يمثل لي شيئاً خرافياً عندما كنت أقرأه، في سجلات عائلتي، وأنا بعد في سن الطفولة. إن جان مونغوليه، الجد البعيد لجدتي من جهة أبي لويز، كان وقع في الأسر خلال الحروب الصليبية الثانية، سنة 1147، ونقل إلى مدينة دمشق”.
كما أن شخصاً فرنسياً أورد العبارة ذاتها، وكان قد خدم في جيش غورو العام 1920، لكنه لم ينسبها إلى غورو. هذا الشخص هو لوي غاروس الذي كتب مقالاً في صحيفة “لوموند” العام 1970، بمناسبة مرور خمسين عاماً على استيلاء فرنسا على سوريا.
القبر – الضريح
ويقع قبر صلاح الدين في غرفة ذات أربعة جدران مصممة على الطريقة الدمشقية، بالحجر الأبلق، وتحتوي هذه الجدران على زخارف إسلامية، ونشاهد داخل الحجرة ضريحاً مصنوعاً من خشب الجوز محفورة فيه كتابات وزخارف ذات وأنماط هندسية، وبعض زخارف الورد والنباتات، وهو الضريح الذي يضم رفات صلاح الدين.
وبحسب “الموسوعة الدمشقية”، ففي العام 1898، وضع عند القبر إكليل ذهبي قدّمه الامبراطور غليوم الثاني أثناء زيارته دمشق وفي عهد السلطان عبد الحميد الثاني، اعترافاً بعظمة شخصية صلاح الدين، وقدّم غليوم ضريحاً من المرمر، ما زال قائماً حتى اليوم بقرب الضريح الأصلي وخطب قائلاً:” أراني مبتهجاً من صميم فؤادي عندما أتذكر أنني في مدينة عاش فيها من كان أعظم أبطال الملوك الغابرة بأسرها، الشهم الذي تعالى قدره بتعليم أعدائه كيف تكون الشهامة، ألا وهو المجاهد الباسل السلطان الكبير صلاح الدين الأيوبي”.
وبقي الإكليل موجوداً إلى جانب الضريح من العام 1898 ولغاية العام 1918، قبل أن يستحوذ عليه الكولونيل توماس لورانس (لورانس العرب) بعد دخوله دمشق مع قوات الثورة العربية الكبرى، ونقل الإكليل إلى لندن.
ويرى مؤرخون أن هذه الخطوة من جانب لورانس، ربما كانت إيماءة ضد الامبراطور الألماني، وكذلك تعبيراً عن إعجاب لورانس بالخصم اللدود لصلاح الدين، وهو الملك الانكليزي ريتشارد قلب الأسد. وفي 11 تشرين الثاني 1918، سجل الإكليل رسمياً ضمن محفوظات المتحف الحربي البريطاني. وأشار لورانس في شهادة تبرعه به إلى أن مبرر التبرع هو “أني انتزعت الإكليل لأن صلاح الدين لم يعد بحاجة إليه”.
ومن أهم الشخصيات التي زارت الضريح، الملك حسن بن طلال في نيسان 1956، والثائر الأممي ارنستو تشي غيفارا العام 1959، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في كانون الثاني 2020. وحملت زيارة بوتين أبعاداً سياسية في تعليقات المحللين، خصوصاً أنّ الطائرات الروسية شاركت بقوّة في قمع الثورة السورية.
(*) الجزء الأول من سردية، ترصد أحوال المقامات والأضرحة والقبور في العاصمة السورية دمشق، وما لها من انعكسات اجتماعية وسياسية.
المدن
—————————–
سوريون ضد ألمانيا والشيخ الهجري/ عمر قدور
الثلاثاء 2025/01/07
صارت مشهورة صورة أحمد الشرع، قائد الإدارة الجديدة في سوريا، وهو يقوم بحركة تضمر الامتناع عن مصافحة وزيرة الخارجية الألمانية. ومن الواضح للمتابع أن الشرع، بامتناعه عن المصافحة، لم يخسر شريحة واسعة كانت ستدافع أيضاً عنه فيما لو صافح الوزيرة، وهو بالتأكيد كسب لدى جمهور متزمت يخشى من أن يغالي الشرع في إرضاء الغرب، أو في إرضاء سوريين غير متزمتين اجتماعياً أو دينياً.
خلال أقل من شهر على سقوط الأسد، صار ممكناً الحديث عن موالاة جديدة، من ضمنها موالون للأسد التحقوا بالجديد. ومفهوم الموالاة لم يتغيّر، إذ بقي على حاله من التعصّب، وعلى تبعية القاعدة للقمة، بحيث أن ما يصدر عن رأس الهرم سيجد ترحيباً تلقائياً لدى الموالين. ولدعم الترحيب، سيبدأ البحث عن مبررات، أو اختلاقها إذا لم تكن جاهزة، ثم الهجوم على المنتقدين وعدم مناقشة النقد نفسه.
في موضوع الوزيرة الألمانية، أولى المفارقات هي أن الذين دافعوا بشدة عن عدم مصافحتها هم الذين انتقدوها بشدّة لأنها لم تلتزم بارتداء ثياب رسمية، أي الطقم النسائي (التايور)! هؤلاء بالطبع لم يتوقفوا عند صورة تُظهر الوزيرة الألمانية بلباس مشابه أثناء زيارتها الرئيس الأوكراني، مع العلم أن الأخير هو رئيس منتخب يحظى بشعبية ودعم خاصيْن لدى الأوروبيين بسبب مقاومته الغزو الروسي، وهم لم يتوقفوا تالياً عند كونها قد تعرّضت سابقاً للعديد من الانتقادات على خلفية عدم تقيّدها بالبروتوكولات الدبلوماسية.
أصحاب الرؤوس الحامية هؤلاء سرعان ما وصل بهم الأمر إلى اعتبار مطالب الوزيرة الألمانية للتطبيع مع الإدارة الجديدة، وتقديم المساعدات لها، نوعاً من إملاء الشروط، ويا لغيرة الوطن! وما يُنسى هنا أن الإدارة المؤقتة تسلّمت السلطة بعمل عسكري، ولن تكون هناك إدارة سورية منتخبة قبل أربع سنوات، حسبما صرّح السيد الشرع، وهذه الوضعية لا تجعلها تحظى بشرعية تمثيلية محلية أو خارجية، تُبنى عليها الغيرة الوطنية، مهما كان التشوّق إلى الأخيرة مفهوماً ومبرَّراً بتغييب المسألة الوطنية خلال عقود.
هناك في ألمانيا عدد من اللاجئين السوريين هو الأضخم على الإطلاق في أوروبا، ولا تزال طازجة في الذاكرة مدائح السوريين لـ”ماما ميركل” التي أفسحت بلادها للّاجئين في وقت أُغلقت فيه أبواب الأقربين أمامهم. هذا ما نسيه بسرعة قياسية أولئك الذين يتذرّعون بوطنية مستجدة، وتناسوا معه سعي المعارضة منذ اندلعت الثورة إلى تأليب الحكومات والرأي العام الغربيين ضد الأسد، أي أنهم تناسوا تلك الحاجة إلى التأييد الغربي من أجل قضيتهم التي كان يُفترض نظرياً أنها داخلية.
والمستغرب بعدما سبق، تلك الانتقادات الموجّهة للوزيرة الألمانية، على خلفية تصريحاتها بعد لقائها الشرع، وخصوصاً قولها إن الاتحاد الأوروبي لن يقدّم الأموال إلى “الهياكل الإسلامية الجديدة في سوريا”، وأن رفع العقوبات عن سوريا يعتمد على سير العملية السياسية. فالانتقادات ذهبت إلى ربط المساعدات بما فُسِّر على أنه إملاءات تخدش الكبرياء الوطني، من دون التفات إلى أن تقديم أية دولة (أو تكتل إقليمي) الإمدادات إلى أي بلد هو حق سيادي للمانح، ويندر في التاريخ السياسي أن تُقدَّم هبات غير مشروطة علناً أو ضمناً، باستثناء بعض المساعدات الإغاثية في أوقات النكبات.
ما يخلو من الطرافة حتى، تلك الدعوات إلى تجاهل أوروبا بأكملها، لأنها تضع شروطاً تمسّ بالكبرياء الوطني السوري، وعلى نحو يذكّر بوزير خارجية الأسد وليد المعلم إذ قال: سنمسح أوروبا عن الخريطة. والهجوم الحالي على أوروبا أتى بسبب تصريحات تتعلق بحماية “الأقليات” صدرت عن الوزيرة الألمانية ووزير الخارجية الفرنسية، والأخير أثار الغضب أيضاً بسبب زيارته بطريرك أنطاكية للروم الأرثوذكس (يوحنا العاشر)، فلم ينتبه المنتقدون إلى أجزاء من تصريحاته يمكن وسمها بالإيجابية تجاه العهد الجديد.
صورة الوزير جان نويل بارو في ضيافة البطريرك شاعت على سبيل الانتقاد اللاذع للثاني، حيث لم يضع البطريرك العلم الجديد، بينما نُبشت له صورة سابقة يستقبل فيها ضيوفاً، وعلى الجدار صورة لبشار الأسد، وهناك سارية عليها العلم القديم، بالإضافة إلى راية الكنيسة التي تظهر في الصورتين. أُخِذ على البطريرك عدم وضعه العلم، على غرار الماضي؛ الماضي الذي يُفترض التخلّص منه. والأولى، والأقرب إلى ما يريده المنتقدون إذا كانت النوايا صافية، أن يكتفي البطريرك براية كنيسته التي تدل على مكانته الروحية، وألا يضع العلم الرسمي الذي يمنحه صفة تمثيلية لا يحوزها أصلاً.
الحملة على البطريرك لم تراعِ حساسية الوضع الانتقالي الذي تمرّ به البلاد، وكذلك هي الحملة على شيخ العقل الدرزي حكمت الهجري. الشيخ نال نصيبه بسبب مطالبات، نُظر إليها كشروط، منها استثناء مجنّدي السويداء من إجراء التسوية الذي تقوم به السلطة الجديدة مع منتسبي الجيش القديم، وأن تكون إدارة المحافظة في المرحلة الانتقالية من قبل أبنائها، وتأجيل تسليم السلاح إلى حين إنشاء جيش وطني.
وكان الشيخ الهجري قد نال مديحاً واسعاً من أوساط منتقديه اليوم حتى وقت قريب جداً، أي عندما لم يكن إسقاط الأسد وارداً على النحو الذي حدث. أما حالياً فصار يُنظر هؤلاء إليه كمارق، وحتى ما كان مطمئناً أو مهمَلاً في أقواله، من نوع مطالبته بدولة علمانية، يُستعاد على سبيل السخرية والقول أن هناك تناقضاً بين مشيخته والمطالبة بعلمانية الدولة. بالطبع، لا جدوى من تفنيد هذا بكون العلمانية صفة للدولة المحايدة، أما الأشخاص فليسوا حياديين، وهُم متدينون أو غير متدينين أو ملحدين… إلخ.
ورغم وجود انتقادات للشيخ الهجري من أبناء السويداء، فإن التهجم عليه من خارجها له وقْع مختلف تماماً، ولا يساعد إطلاقاً في إشاعة السلم الأهلي، أو في توحيد البلاد المقسّمة. كذلك هو حال ما صار بمثابة الفلكلور لجهة العلاقة العدائية مع الإدارة الذاتية الكردية وتوعّدها بالويل من قبل أنصار السلطة الجديدة، فهذه الأقوال لا تساعد إطلاقاً على استمالة الأكراد إلى الدولة السورية الجديدة، حتى إذا كانوا من خصوم مسد وقسد.
في المحصلة، لدينا موالاة لسلطة لم تستقر بعد، وتحت مزاعم الوطنية يتوعّد الموالون الجدد أوروبا بالحَرَد والقطيعة، ويتوعّدون أبناء البلد بالإخضاع والإرغام، مع التوجه إليهم بخطابات أشبه بخطابات الحرب الأهلية. ولا يُعرف من أين يأتي هؤلاء بالثقة المفرطة بقوتهم الذاتية، فلا يتواضعون ولو قليلاً أمام واقع سوريا الكارثي، الواقع الذي يجعلها بحاجة مباشرة إلى الغرب والشرق من أجل التعافي. والتخلص من العنتريات ليس ضرورياً فحسب بحكم الحاجة الحالية، بل ضروري الآن وفيما بعد، داخلياً وخارجياً، من أجل وطنية منفتحة على العالم. أخيراً، هذا ضروري من أجل السلطة نفسها، وإذا كان من لوازم السلطة الجيدة وجود معارضة قوية فربما لا يقل أهمية وجود موالاة تسير إلى جانب سلطتها، أو أمامها، بالتأكيد لا خلفها.
المدن
—————————-
الدور الأميركي ومستقبل العلاقة بين قسد والبشمركة وهيئة تحرير الشام/ شفان ابراهيم
سوريا
06.01.2025
مع وصول وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى منطقة الشرق الأوسط؛ لبحث الأوضاع هناك، طالبت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن “هيئة تحرير الشام” باستيعاب جميع القوى وعدم التفرد بسوريا، وإجراء عملية شاملة لتشكيل حكومة انتقالية. ويُفهم من ذلك رغبة أميركية في لعب دور مركزي في رسم مستقبل سوريا السياسي، يضم مختلف المكونات والقوميات والقوى السياسية والعسكرية.
يشهد الملف السوري حراكاً غير مسبوق، سواء لجهة الدعم الدولي للحكومة التي أعلن عنها أحمد الشرع، أو لجهة الزيارات المتتالية له في قصر الشعب في دمشق، أو حتى لجهة تطور مستوى الزيارات للمسؤولين الدوليين بين بعضهم البعض، والتوجه صوب العاصمة السورية.
فمع وصول وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى منطقة الشرق الأوسط؛ لبحث الأوضاع هناك، طالبت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن “هيئة تحرير الشام” باستيعاب جميع القوى وعدم التفرد بسوريا، وإجراء عملية شاملة لتشكيل حكومة انتقالية. ويُفهم من ذلك رغبة أميركية في لعب دور مركزي في رسم مستقبل سوريا السياسي، يضم مختلف المكونات والقوميات والقوى السياسية والعسكرية.
وخلال لقائه مع وزير خارجية تركيا هاكان فيدان، شدد بلينكن الخميس الماضي على ضرورة احترام جميع الجهات الفاعلة في سوريا، وحماية المدنيين، بمن فيهم الأقليات. ليتطور الأمر إلى زيارة وفد أميركي رفيع المستوى يوم الجمعة 20-12-2024 إلى دمشق ولقائه مع أحمد الشرع في أحد الفنادق في دمشق، تلاها زيارة وزير الخارجية التركي الأحد 22-12-2024، للقاء الشرع.
رسائل من الزيارات الدوليّة
الأهمية السياسية للزيارتين تفوق حجم الزيارات الأخرى ونوعيتها، بخاصة أن العلم التركي ظهر مع العلم السوري للمرة الأولى خلال استقبال الشرع ضيوفه، والواضح أن هيئة تحرير الشام ستتولى مكافحة الإرهاب سواء داعش أو غيره، وهو ما يعني حكماً رفع الهيئة من لائحة الإرهاب، وتم نقاش الموضوع أساساً، وأكده هاكان فيدان عبر قوله إن بلاده لم ترصد أيّ أنشطة إرهابية خلال السنوات الــ10 الأخيرة وفق تقييمات استخباراتية تركية وغربية، وهو ما يؤثر سلباً على موقف قسد التي حاربت الإرهاب، بعد إسناد المهمة للحكومة الحالية. والخطوة التالية كانت عبر حلّ جميع الفصائل الموجودة في سوريا ودمجها في وزارة الدفاع السورية، ما عدا قوات سوريا الديمقراطية. ولفت الرئيس التركي أردوغان في تصريحات إعلامية أدلى بها لدى عودته من قمّة في القاهرة، إنه “ينبغي القضاء على حزب العمال الكردستاني وشركائه الذين يهددون وجود سوريا” وفقاً لتوصيفه.
منحت الزيارتان الشرع كامل الشرعية التي كان يبحث عنها، بل إن النفاذ التركي ضمن سوريا الحالية، يعني وصول تركيا إلى الحدود البرية مع العراق خارج الحدود الكردية، ومع الأردن ولبنان وإسرائيل، وهو ما يمنحها أوراق قوة أكثر راحة، وليست مستبعدة زيارة الرئيس التركي خلال الأيام القليلة المقبلة.
هل من ضبط لإيقاع حركة تحرير الشام
أشارت وكالات أنباء دولية، نقلاً عن مسؤولين أميركيين ومساعد في الكونغرس، أن التواصل الأولي غير المباشر مع هيئة تحرير الشام، “تم بالتنسيق مع حلفاء واشنطن في الشرق الأوسط بما في ذلك تركيا”. ووفقاً لمعلومات موثقة من دمشق، فإن الجانب الأميركي بعث برسالة واضحة أمام الشرع، وهي أن رفع “تحرير الشام” من لوائح الإرهاب سيكون مرتبطاً بسلوكيات الهيئة خلال الفترة المقبلة، وعلى رأسها واقع الديمقراطية وحرية التعبير في بنية الدولة السورية المُقبلة، وتوجيه الجهود مبكراً لإنشاء هيكل حكم رسمي للبلاد، وضرورة أن تكون الحكومة الانتقالية تُمثل رغبات جميع السوريين. وهو ما يعني أن دعم واشنطن لسيطرة هيئة تحرير الشام على دمشق، يرتبط بنوع العملية السياسية، ومستقبل التعدد والتنوع السياسي والثقافي والعسكري، وغياب كل مظاهر السلاح والمعارك، ووقف نهائي لإطلاق النار، كأساس لأي عملية انتقالية، وهو ما تكلل بالزيارة المباشرة للوفد الأميركي إلى الشرع. ولعل الإحاطة التي قدمها المبعوث الدولي لسوريا بيدرسون يوم الثلاثاء 17-11-2024 وإصراره على وقف إطلاق النار، دليل على ذلك. في المقابل، فإن الشرع يُدرك جيداً حجم الحاجة الى المساعدات الإنسانية وعمل المنظمات الدولية، بخاصة في إعادة الإعمار.
تبدو واضحة الأدوار التي تسعى تركيا الى لعبها في سوريا، سواء عبر استغلال ورقة سيطرتها على شمال غربي سوريا، أو علاقاتها مع هيئة تحرير الشام. ويشكل تكرار التهديدات على قوات سوريا الديمقراطية، هاجساً قوياً لدى قسد والمنطقة، بخاصة بعد فشل التحشيد للحصول على الحماية الدولية في المعارك السابقة في عفرين 2018، وسري كانيه (رأس العين) 2019، وعدم دفاع واشنطن وروسيا عنها رغم العلاقات التي تربط قسد مع التحالف الدولي، وبدرجة أقل الجانب الروسي الذي كان يشترط تسليم المناطق للنظام السوري.
وحالياً، تعيش قسد تحت ضغطين مزدوجين، أولاً: تهديد تركي وفصائل المعارضة السورية لكوباني، وثانياً وضوح رسائل وزارة الدفاع السورية والقائد العسكري لهيئة تحرير الشام أبو حسن الحموي بعودة شمال شرقي سوريا الى سيطرة الحكومة، ودمج قسد ضمن أروقة الجيش المقبل. ليكون الفصل في ذلك كله هو القرار الأميركي وممارسة دور واضح من حيث الإشراف على أيّ نوع من التفاهمات المستقبلية، كراعٍ أو حكم، ورغبة قسد في رفض الجانب الأميركي أيّ عملية عسكرية ضدها من جانب دمشق أو أنقرة، وهو ما سيرتبط بمدى استجابة قسد للضغط الأميركي.
في المقابل، فإن التدخل الأميركي لن يكون بالمجان الى جانب قسد، حيال إصرار تركيا على الهجوم، أو عدم فصل قسد علاقتها مع العمال الكردستاني، بخاصة أن تطمينات واشنطن باستمرار دعم قوات سوريا الديمقراطية، تصطدم بتعنت تركيا في إيجاد منطقة عازلة على حدودها الجنوبية، بالإضافة الى الطلب الأميركي من أحزاب الإدارة الذاتية والمجلس الكردي العودة الى طاولة الحوارات، على أمل خلق وفد كردي مشترك للتوجه صوب دمشق والحوار معها. وتُشكل عودة بشمركة روج افا، وهي القوة العسكرية التي تشكلت من الشباب الكرد السوريين المنشقين عن جيش النظام السوري خلال الثورة السورية، والذين رفضوا المشاركة في قتل المدنيين والمتظاهرين السوريين، بالإضافة الى المتطوعين والمنضمين الى صفوف قوات البشمركة من الكرد السوريين اللاجئين الى إقليم كردستان. وسبق لقوات البشمركة المشاركة الفاعلة في القضاء على تنظيم داعش خلال هجومه على كردستان العراق، وهزيمة الحشد الشعبي في المعارك التي حصلت بعد استفتاء استقلال كردستان عام 2017.
وهذه القوة تحديداً تُشكل أحد الخلافات الجوهرية بين الطرفين (المجلس الكردي والاتحاد الديمقراطي)، إذ يصر الوطني الكردي على أن تكون هذه القوة شريكة في قرار السلم والحرب وكل مفاصل العمل العسكري وهرمية هيكليتها، في حين تقول قسد إن عليها الانضمام إليها. وحالياً تم تشكيل جيش سوري موحّد، وحل جميع الفصائل بما فيها “الجيش الوطني” المحسوب على المعارضة السورية، والجناح العسكري لهيئة تحرير الشام نفسها. وسيكون من حق قوات بشمركة روج الانضمام الى ذلك الجيش، بما معناه أن مسارات تضمين تلك القوات تحولت نحو مشروع أكبر.
ووفقاً لكثر من المحللين وناشطي الرأي في القامشلي وباقي المُدن الكردية، فإن واشنطن بإمكانها العمل على ثلاثة مسارات متوازية في الشق العسكري، أولها تحقيق المصالحة الكردية -الكردية، وهنا تحديداً ستأخذ واشنطن بالاعتبار حساسية تركيا ومصالحها؛ فأنقرة تمثل رأس الحربة المدافع عن الأمن القومي الاستراتيجي الأميركي في المنطقة، وثانيها: ضم الكتلة العسكرية كجزء من منظومة الدفاع السورية العامة، وهذه تحتاج إلى وقت ومجهود، وثالثها: منح خصوصية للمنطقة الكردية من حيث الجيش والأمن، بخاصة وأن توحيد قوات البشمركة وقسد سيشكل قوة عسكرية لا يُستهان بها، وسيمنح تركيا رسائل مطمئنة حول عدم تشكيل هذه القوة خطراً على أمنها القومي وحدودها الجنوبية كما تكرر دوماً.
التوازن بين تحرير الشام والقوات الكردية المشتركة
من الصعب ترك شمال شرقي سوريا من دون ربط مع المركز، فقبل سقوط النظام، كانت المؤسسات الحكومية مرتبطة مع دمشق عبر وجود محافظ الحسكة، ومديري الدوائر الذين كانوا يتلقون رواتبهم وقراراتهم من المركز، بخاصة جامعة الفرات ومديرية التربية، دائرة الهجرة والجوازات، النفوس وسجل القيد المدني، المحكمة….إلخ. وكان ذلك يُعتبر شكلاً من أشكال التنسيق بين الإدارة الذاتية والحكومة في دمشق. لكن حالياً مع الفراغ الذي حصل بعد انسحاب جميع الأفرع الأمنية ومحافظ الحسكة، وتوقف العمل في جميع المؤسسات، ومع عدم وضوح الصورة لطبيعة العلاقة بين مناطق سيطرة قسد مع حكومة دمشق، فإن متطلبات الأهالي ضمن جميع الدوائر تتطلب حلاً مستعجلاً ولو إسعافياً.
ورغم الرسائل المكثفة التي أصدرتها قسد والإدارة الذاتية حول رغبتهما في التواصل والعمل مع أحمد الشرع، لكن ثلاثة عراقيل واضحة ستمنع تطوير العلاقة في المدى القريب، أولها: عدم رضى تركيا عن أيّ شكل من أشكال العلاقة بين الطرفين، ثانيها: الخلاف الكردي-الكردي الذي يلعب دوراً واضحاً لجهة اصطفاف المجلس الكردي الى جانب الثورة، واختيار الإدارة الذاتية ما أسمته بالخط الثالث، وثالثها: حالة العداء والكراهية التي تحملها تيارات سياسية وعسكرية من قسد والإدارة الذاتية. في المقابل، فإن عدم وجود صيغة للعلاقة بين دمشق وقامشلي، سيؤثر بشكل كبير على مستقبل سوريا الجديدة نفسها، وطبيعة العلاقة التي ستجمع الكرد وباقي المكونات السورية.
هذه العلاقة نتلمس ملامحها في حديث عن لقاء سري بين مظلوم عبدي وأحمد الشرع في دمشق، تسربت منه ثلاث نقاط حسب قناة العربية، أولها موافقة الطرفين على حصول قسد على نسبة من النفظ السوري، وقبولها الانضواء تحت الجيش السوري، لكن النقاط الخلافية هي رفض قسد تسليم ملف الدواعش في سجونها إلى قيادة دمشق.
لذلك، فإن أنسب الحلول يكمن في إيجاد صيغة للتوازن والعلاقة بين الحكومة الحالية والكرد في سوريا. لكن هذه أيضاً تخضع لمشكلتين، الأولى: إذا كانت هذه حكومة تصريف أعمال، فلماذا تصدر القرارات والأوامر الإدارية من تعيينات وما شابه،؟ وإذا كانت حكومة انتقالية فلماذا لم يتم تضمين جميع الجهات السياسية الفاعلة؟ ومتى سيكون موعد الدعوة لإجراء انتخابات برلمانية ودستورية. والثانية: من دون وجود اتفاق كردي واضح المعالم بين أطراف كردية سورية بهويّات غير عابرة للحدود، والانطلاقة من حيث توقفت الحوارات سابقاً، حيث تم الاتفاق على رؤية سياسية موحدة، فإن الوضع سيزداد سوءاً.
وتقع هيئة تحرير الشام نفسها حالياً تحت المجهر الدولي، بخاصة لجهة آلية التعامل مع القوميات والمكونات، ومن ضمنها الكرد، والموقف من التشدد الديني أو الإيديولوجي، وعدم الإقدام على أيّ خطوة تضر المصالح الأميركية.
سقوط النظام في توقيت بين الإدارتين
رغم إسقاط السوريين نظامهم الذي هرب بعد وصول قوات “رد العدوان” إلى دمشق، لكن الأزمة لا تزال دولية وليست داخلية فحسب. ولعل أكثر ما يُربك حسابات أحمد الشرع، أن هذه السيطرة والحكومة تقعان بين إدارتين أميركيتين، وسيكون من الصعب العمل باستقامة ووضوح رؤية، خلال الأشهر الثلاثة المقبلة، وإنشاء سلطة سياسية ودولة ترضي السوريين. فهل اللامركزية السياسية أو الفدرالية ستكون مطروحة في أجندة الإدارة الأميركية المقبلة؟ بخاصة أن ذلك يتطلب كتابة نصوص دستورية وفوق دستورية تنص على شكل الدولة ونظام الحكم.
فهل سيتم دمج الكرد فوراً مع الدولة السورية، أم سيكون هناك مسار سياسي معقد ومتعرج، بخاصة وأن الإدارات الأميركية غالباً لا تحرك ساكناً إذا كان الهدوء لا يؤثر على مصالحها، وأن الخصوصية الكردية وفقاً للجغرافية والسياسة والحدود التي يرغب ويحلم بها الكرد، من المحتمل أن تتعارض مع المصالح الإقليمية، وحينها فإنه من الصعب والمستحيل تحقيق أي تقدم ملموس على صعيد الحقوق القومية للقضية الكردية، من دون ضغط ودعم دوليين.
ختاماً، لا يملك أحمد الشرع رفاهية الوقت والظرف والهدوء لاختيار القرارات الاستراتيجية العميقة، والضغط التركي يجعل من قسد والإدارة الذاتية في خطر. وغالباً، فإن الوقت الحالي بالنسبة الى هيئة تحرير الشام هو لتحقيق الأمن الداخلي، وترسيخ العلاقات مع دول الجوار، وحماية مصالح أميركا، بخاصة محاربة داعش والإرهاب، والاهتمام بالجوانب الاقتصادية والتعليمية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات والمكونات، واتفاق جميع الأطراف على كتابة دستور عصري يتناسب والحداثة والديمقراطية. كذلك، فإن الوقت يضيق والضغط يزيد أكثر على قسد والإدارة الذاتية، فيما هما يملكان ورقة وحيدة للخلاص من المأزق الجديد الذي فرضه سقوط النظام وحلفائه من سوريا، وهي خيار الحوار مع المجلس الوطني الكردي، وتقديم تنازلات من شأنها حماية ما تبقى من الجغرافية الكردية في سوريا.
درج
————————
تمهُّل الشرع في العملية الانتقالية يقابله تمهُّل غربي في رفع كامل للعقوبات/ سميح صعب
تحديث 07 كانون الثاني 2025
كمن يتلمس خطواته في غرفة مظلمة، تستمر الولايات المتحدة وأوروبا في الانفتاح على الإدارة الجديدة في سوريا بتأنٍ وحذرٍ بالغين. ويبعث هذا برسالة واضحة إلى الحكام الجدد مفادها أن رفع العقوبات بالكامل لا تزال دونه محاذير كثيرة وينتظر قيام الحكومة الشاملة وتقديم رؤية واضحة ومحددة المعالم لمستقبل سوريا. وعندما تترك إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن المنصرفة لإدارة الرئيس المنتخب دونالد ترامب مسألة طريقة التعامل مع العقوبات الأساسية التي فرضتها واشنطن على سوريا منذ 14 عاماً، وتكتفي بتخفيف عقوبات تتعلق جوهرياً بحياة السوريين العاديين على غرار السماح بتحويلات مالية من شأنها تأمين حاجاتهم من الكهرباء والماء، فإن ذلك يعني أن التراجع عن “قانون قيصر” الذي شل الاقتصاد السوري إبان حكم بشار الأسد، يفترض إجراءات أوسع من جانب دمشق، ليس فقط حيال الداخل وشكل النظام المقبل وحقوق الأقليات، وإنما التزامات تتعلق بالإقليم والعالم. مثلاً، ما مصير القاعدتين العسكريتين الروسيتين… هل سيقبل رئيس الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع ببقائهما أم سينهي الوجود الروسي في سوريا؟ والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، كان واضحاً في التعبير عن سعادته بتغيير النظام “من دون سذاجة”، وحدد الخطوط العريضة، مذكراً بـ”بالحلفاء الأكراد الأوفياء”. ولعل الرئيس الفرنسي أول من تذكّر “كل مكونات المعارضة” للنظام السابق، التي رأى أنها يجب أن تشارك في العملية الانتقالية، في انتقاد لامس العلنية لتجاهل هذه المكونات في ما شهدته الإدارة الجديدة من تعيينات. وما يطالب به الغرب، سمعه وزير الخارجية السوري في الإدارة الجديدة أسعد الشيباني خلال جولته العربية… حكومة جامعة لا تقصي أحداً من أطياف المجتمع السوري. يبقى الآن على الشرع كيف سيوازن بين المطالب الغربية والعربية، وكيف سيهدئ الهواجس بأن النظام الجديد لن يذهب في اتجاه نظام إسلامي متشدد في قلب العالم العربي، وصولاً إلى محاولة فرض الحكم المركزي على الأكراد الذين يحرص الغرب على عدم التخلي عنهم والحفاظ على خصوصية معينة لهم ضمن سوريا الجديدة، على رغم أن تركيا تعارض ذلك معارضة قوية. كيف سيوفق الشرع بين الجانبين وهو يعلم أن تركيا هي الداعمة الرئيسية له وكانت رئته في إدلب وكذلك في دمشق؟ وفي بيئة استراتيجية شرق أوسطية متحولة منذ هجمات “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، والرد بحروب إسرائيلية متواصلة، يواجه الشرع مهمة صعبة، وكان الجزء السهل هو انهيار النظام السابق، أما بناء نظام جديد، فذاك هو التحدي الأكبر الماثل أمام الحكام الجدد، تحت رقابة إقليمية ودولية صارمة تترصد كل قرار يصدر عن دمشق في هذه الأيام. وكلما تلاشت النشوة بزوال النظام السابق، سيحل محلها التفكير والتساؤلات عما ستكون عليه سوريا الجديدة. وهذا سر التمهل الغربي في رفع العقوبات عن سوريا دفعة واحدة، مع الحفاظ على التواصل مع القيادة السورية الجديدة. بالانفتاح الحذر والتأني في رفع العقوبات، تقول واشنطن وأوروبا والدول العربية للشرع، إن التبدل الذي طرأ عليه منذ وصوله إلى دمشق، ليس كافياً لعودة غربية وعربية بقوة إلى سوريا، وأن بلوغ هذه الغاية لا يزال يلزمه المزيد من الانفتاح على “المكونات السورية” الأخرى، حتى لا تغرق البلاد في آحادية أخرى، تكون باباً لنزاعات مستقبلية. يزيد هذا من العبء الملقى على الشرع في فترة وجيزة من توليه الحكم. ولذلك، استبق الضغوط بالإعلان أن الانتقال تلزمه 3 سنوات لكتابة الدستور و4 لإجراء انتخابات عامة. إنها عملية تبادلية بين من يتمهل في رفع العقوبات وبين من يتمهل في العملية الانتقالية.
النهار العربي
———————–
الصناعة النفطية السورية/ وليد خدوري
تحديث 07 كانون الثاني 2025
في الحديث عن الصناعة النفطية السورية، تتوجب العودة إلى الإحصاءات والمعلومات المتوافرة في الأدبيات النفطية المتخصصة لما قبل نشوب ثورة عام 2011، وما تبعها من شائعات في حينه حول أنّ أحد أسباب الثورة الرئيسية هو تعذر تشييد خط أنابيب غاز قَطري إلى تركيا ومن ثم إلى أوروبا، نظراً إلى خلافات جيوسياسية حول عدم إمكانية عبور خطوط أنابيب شمال دولة قطر. هذا، مع العلم، أن الأغلبية الساحقة لصادرات قطر هي تصدير الغاز المسال عبر أسطولها البحري المتخصص، وليس عبر خطوط الأنابيب، الذي يعد من الأكبر عالمياً.
كذلك هناك شائعة سادت عند بداية ثورة 2011 حول «عدم السماح» لسوريا باكتشاف وتطوير حقولها الغازية العملاقة، رغم أنه لم يجرِ الإعلان رسمياً عن مسح الأراضي السورية أو إمكانية توافر حقول غازية ضخمة.
تشير الإحصاءات السورية النفطية خلال الفترة ما قبل ثورة عام 2011 إلى أن معدل الإنتاج خلال الفترة من 2008 إلى 2011 بلغ نحو 400 ألف برميل يومياً، وأن الغالبية العظمى من الصادرات، التي بلغت نحو 200 ألف برميل يومياً، توجهت إلى الأقطار الأوروبية. وبما أن الريع النفطي قبل ثورة 2011 توجّه مباشرةً إلى الرئاسة، فمن الصعب الحصول على معلومات دقيقة عن ريع سوريا من صادراتها النفطية خلال الفترة التي سبقت الثورة.
في أثناء الثورة، تدهور الإنتاج النفطي السوري إلى نحو 15 ألف برميل يومياً عام 2015، حسب إدارة معلومات الطاقة الأميركية، ونحو 40 ألف برميل يومياً من النفط الخام والسوائل، حسب تقديرات صحيفة «الشرق الأوسط».
عانت الصناعة النفطية السورية من سلبيات عدة في أثناء الحرب. فالأغلبية الساحقة من الحقول توجد شرقاً، حيث سيطرة قوات الميليشيات على هذه المناطق، مما دفع الشركات العالمية الكبرى العاملة هناك إبان اندلاع الحرب الأهلية («توتال» الفرنسية، و«كونوكو» الأميركية، و«شل» الأوروبية) إلى الانسحاب حرصاً على سلامة موظفيها وعمالها، مما دفع الميليشيات إلى الاستيلاء على الحقول. وقد لعبت الميليشيات (الجهادية والكردية) أدواراً عدة سلبية خلال سيطرتها هذه: الإنتاج من الآبار والحقول بطرق بدائية، مما أضر باحتياطيات الحقول والآبار وتسبب بتقليص الطاقة الإنتاجية.
هذا سيعني بدوره إعادة درس أوضاع الآبار الفنية في المستقبل من شركات الخدمات الهندسية النفطية العالمية، وهو ما قد يأخذ سنوات لإمكانية استعادة طاقتها السابقة. وهناك أيضاً التفجيرات والتخريب للمنشآت النفطية، إذ تحولت منطقة عمليات شركة «كونوكو» الأميركية مثلاً إلى قاعدة للجيش الأميركي التي لطالما جرى قصفها من مجموعات «الحرس الثوري» الإيراني و«الحشد الشعبي» العراقي.
عملت الميليشيات والعصابات على تهريب النفط إلى أطراف متعددة: المصافي التركية، والقوات العسكرية للنظام السابق، والسكان المدنيين في المناطق الوسطى والشرقية، بل حتى إلى الجيوش الأجنبية نفسها. وشارك في عمليات التهريب هذه عصابات من الفاسدين والمفسدين ذات علاقة بالسلطات وعمليات التهريب. واستطاعت الميليشيات الاستفادة من الوقود المهرّب عبر الحدود اللبنانية-السورية غير الشرعية لتلبية جزء من الطلب المحلي السوري. كما تسلمت سوريا شحنات غير محددة أو منتظمة من النفط العراقي (عبر البر) والنفط الإيراني (عبر البحر).
أدى التهريب أو الحصول على النفط بطرق ووسائل غير مبرمجة، إما إلى جني ثروات هائلة (ملايين الدولارات للميليشيات وأركان النظام الذين كانوا يقدمون لهم الحماية اللازمة لتسهيل التهريب لقاء مشاركتهم في الأرباح)، أو إلى الانقطاعات المستمرة للوقود في الأراضي السورية، تلك التي تحت سيطرة النظام، أو خارج سيطرته.
وتسبب هذا الوضع المربك للحصول على إمدادات منتجات الوقود النفطية، في نشوء سوق سوداء لهذه المنتجات، التي شحَّت من الأسواق لفترات متكررة، حيث وصلت أسعارها إلى مستويات خيالية متأثرةً كذلك بارتفاع قيمة الدولار، بالإضافة إلى محاولات التهرب من «قانون قيصر» الأميركي لفرض الحصار على سوريا.
لا يمكن الكلام عن الصناعة النفطية السورية في العقود الماضية، من دون الإشارة إلى الخسارة الجيوسياسية في تعطيل خطوط أنابيب الترانزيت للنفط الخام السعودي (عبر جنوب لبنان)، والعراقي (إلى بانياس)، وإلى طرابلس (شمال لبنان). فقد كانت الدول العربية المصدّرة للنفط تدفع كل منها ملايين الدولارات سنوياً للخزانة السورية مقابل تعرفة الترانزيت، هذا ناهيك بتشغيل عشرات المؤسسات المحلية في كلٍّ من سوريا ولبنان للقيام بأعمال الصيانة والخدمات. وقد جرى إغلاق هذه الخطوط بسبب «تفجيرات غامضة» لم تكن السلطات السورية «بعيدة عنها» أو لخلافات «سياسية-اقتصادية» مع الدولة المصدّرة. ومهما كان السبب، فقد خسرت سوريا كثيراً من الثقة بدورها بوصفها دولة ترانزيت للنفوط المصدَّرة غرباً.
ولن يكون من السهل تشييد أنابيب ترانزيت جديدة عبر سوريا نظراً لانخفاض الطلب على النفط الخام أوروبياً وتحول الولايات المتحدة إلى دولة مصدرة للنفط الخام. إذ تبلغ نسبة الصادرات الخليجية والعراقية إلى الأسواق الآسيوية في الوقت الحاضر نحو 60-70 في المائة من مجمل صادراتها النفطية. من الجدير بالذكر هنا أنّ العراق لجأ إلى تشييد خط أنبوب كركوك-جيهان التركي نظراً للمضايقات التي واجهها من السلطات السورية سابقاً.
ستواجه الصناعة النفطية السورية تحديات وفرصاً في المستقبل المنظور، تتبلور حول:
– الاستفادة من الترحيب العربي الرسمي بإزاحة نظام الأسد. هذا الترحيب الذي ينتظر خطوات عملية من النظام الجديد لفك الارتباط عن السياسات الداخلية والخارجية السابقة. ففي حال توقُّف الممارسات السابقة بشكل ملموس، يصبح من الممكن المساعدة مالياً، لكن من غير المعتاد تاريخياً تقديم مساعدات لدعم الصناعات النفطية. إلا أنه من الممكن تقديمها عبر قروض ضئيلة الفائدة من الصناديق الاقتصادية أو شركات تمويل عربية، لدعم قطاع الكهرباء.
– في حال استقرار البلاد، وتحسين العلاقات الدولية، فإن ذلك سيفتح المجال أمام الشركات النفطية العالمية للعودة إلى العمل في الأراضي السورية. من الممكن أن تعود الشركات الدولية التي كانت تعمل هناك سابقاً، والتي اضطرت إلى الانسحاب مع نشوب حرب 2011.
يبقى السؤال حول إمكانية عودة الشركات الروسية النفطية التي نشطت في سوريا خلال عهد النظام السابق، وكذلك ولوج الشركات النفطية الصينية. وستختلف طبعاً طبيعة المفاوضات حول مشاركة شركات هاتين الدولتين عن مفاوضات الدول الغربية.
وفي نهاية المطاف، سيعتمد الانفتاح الاقتصادي هذا، برمته، على الموافقة الأميركية لتخفيف «قانون قيصر» الذي سيؤدي إلى إكمال تشييد خط الغاز العربي لنقل الغاز المصري إلى تركيا ومن ثم إلى أوروبا.
ومن الأمور التي من الممكن أن تنظر فيها السلطات السورية استعادة الخبرات السورية النفطية في دول الاغتراب، تحديداً أولئك الذين عملوا لسنوات كثيرة مع شركات أو مؤسسات طاقة ونفط في الخارج، للاستفادة من خبراتهم في دعم شركة النفط الوطنية التي جرى تهميشها في ظل النظام السابق.
الشرق الأوسط
————————-
هل يشغل الشرع مقعد سوريا في الجامعة العربية؟/ فتحية الدخاخني
زكي أعلن عن زيارة إلى دمشق خلال أيام
6 يناير 2025 م
تزامناً مع الاستعداد لزيارة وفد من جامعة الدول العربية إلى دمشق خلال أيام، أثيرت تساؤلات بشأن ما إذا كان قائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع سيشغل مقعد بلاده في اجتماعات الجامعة المقبلة.
وأعلن الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية، السفير حسام زكي، في تصريحات متلفزة مساء الأحد، أنه «سيزور العاصمة السورية دمشق خلال أيام على رأس وفد من الأمانة العامة للجامعة لعقد لقاءات من الإدارة السورية الجديدة وأطراف أخرى؛ بهدف إعداد تقرير يقدم للأمين العام، أحمد أبو الغيط، وللدول الأعضاء بشأن طبيعة التغيرات في سوريا».
وكانت «الشرق الأوسط» كشفت قبل أيام عن عزم وفد من الجامعة على زيارة دمشق بهدف «فتح قناة اتصال مع السلطات الجديدة، والاستماع لرؤيتها»، وفقاً لما صرح به مصدر دبلوماسي عربي مطلع آنذاك.
وخلال تصريحاته، عبر شاشة «القاهرة والناس»، أوضح زكي أنه «قبل نحو ثلاثة أيام تواصلت الجامعة العربية مع الإدارة السورية الجديدة لترتيب الزيارة المرتقبة».
وبينما أشار زكي إلى أن البعض قد يرى أن الجامعة العربية تأخرت في التواصل مع الإدارة السورية الجديدة، أكد أن «الجامعة ليست غائبة عن دمشق، وإنما تتخذ مواقفها بناءً على قياس مواقف جميع الدول الأعضاء»، لافتاً إلى أنه «منذ سقوط نظام بشار الأسد لم يحدث سوى اجتماع واحد للجنة الاتصال العربية المعنية بسوريا منتصف الشهر الماضي».
وأوضح الأمين العام المساعد أن «الجامعة العربية طلبت بعد ذلك بأسبوع اجتماعاً مع الإدارة السورية الجديدة»، وقال: «نقدّر الضغط الكبير على الإدارة الجديدة، وربما عدم وجود خبرات أو أفكار كافية لملاحقة مثل هذه الطلبات».
وعقدت لجنة الاتصال الوزارية العربية المعنية بسوريا اجتماعاً بمدينة العقبة الأردنية، في 14 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أكدت خلاله الوقوف إلى جانب الشعب السوري في هذه المرحلة الانتقالية.
وحول الهدف من الزيارة، قال زكي: «هناك دول عربية تواصلت مع الإدارة الجديدة، لكن باقي أعضاء الجامعة الـ22 من حقهم معرفة وفهم ما يحدث، لا سيما أنه ليس لدى الجميع القدرة أو الرغبة في التواصل». وأضاف أن «الزيارة أيضاً ستتيح الفرصة للجانب السوري لطرح رؤيته للوضع الحالي والمستقبل».
ولن تقتصر زيارة وفد الجامعة إلى سوريا على لقاء الإدارة الجديدة، بل ستمتد لأطراف أخرى فصَّلها زكي بقوله: «سنلتقي أي أطراف من المجتمع المدني والقيادات الدينية والسياسية». لكنه في الوقت نفسه نفى إمكانية لقاء «قسد»، وقال «(قسد) وضعها مختلف، كما أنها بعيدة عن العاصمة، حيث ستقتصر الزيارة على دمشق».
ومنذ إطاحة نظام بشار الأسد، في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تسعى الإدارة السورية الجديدة إلى طمأنة الدول العربية والمجتمع الدولي. وفي هذا السياق، تواصلت دول عربية عدة مع الإدارة الجديدة، سواء عبر زيارات رسمية أو وفود برلمانية واستخباراتية أو اتصالات هاتفية.
وهو ما وصفه رئيس وحدة الدراسات العربية والإقليمية بـ«مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية» الدكتور محمد عز العرب، بـ«الانفتاح العربي». وقال لـ«الشرق الأوسط» إن «اختيار وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني للسعودية أولى محطاته الخارجية يعدّ تأكيداً على رغبة دمشق في تعميق علاقتها العربية، لا سيما مع حاجتها إلى دعمها من أجل رفع العقوبات عن البلاد وإعادة إعمارها».
وأكد عز العرب أن «زيارة وفد الجامعة العربية المرتقبة إلى دمشق ستعمّق العلاقات العربية – السورية، في سياق انفتاح متبادل بين الجانبين».
واتفق معه أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة الدكتور أحمد يوسف أحمد، وقال لـ«الشرق الأوسط» إن «الجامعة العربية تتحرك بما يتلاءم مع توجهات أعضائها أو على الأقل الدول الوازنة فيها».
هذا الانفتاح العربي يأتي إيماناً بأن «سوريا دولة كبيرة ومهمة»، بحسب الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية، الذي قال: «سوريا تحتاج إلى كل الدعم العربي السياسي والمادي»، مضيفاً: «قد يكون الوضع غير مرضٍ للبعض، ويمكن تفهم هذا، لكن الشأن السوري أمر مرتبط بالسوريين أنفسهم إلى أن يبدأ في التأثير على دول قريبة».
وأضاف: «سوريا تمر بمرحلة جديدة، لكتابة التاريخ بأيدي مواطنيها، وعلى الدول العربية مدّ يد العون لها».
وبشأن شغل الشرع مقعد سوريا في الجامعة، قال زكي إن «القرار بيد الدول العربية وليس الأمانة العامة»، موضحاً أنه «لو كانت سوريا غير ممثلة ومقعدها شاغر كان من الممكن بحث عودتها الآن وربما وضع بعض المطالب لتحقيق ذلك».
وأضاف: «الواقع يقول إن سوريا موجودة في الجامعة وتشغل مقعدها، أما من يمثلها في هذا المقعد فهو أمر سوري في الأساس. عند تغيير الحكم في أي دولة يمثل الحكم الجديد بلده في المنظمة». لكن زكي أشار في الوقت نفسه إلى أن «هناك أموراً تتعلق بتمثيل شخص معين للدولة، وهنا قد يكون الأمر مرتبطاً بمجلس الأمن، حيث إن هناك قرارات تخصّ التنظيم الذي يرأسه الشرع لا بد من التعامل معها بشكل سريع وسلس».
وقال: «سوريا دولة كبيرة وما يحدث لها يعني العرب، ونظام الحكم الحالي غير النمطي قد لا يسهل الانفتاح عليه، لكن في النهاية دولة بهذه التركيبة لا يمكن أن تترك من جانب العرب».
وأقرّ مجلس وزراء الخارجية العرب في اجتماع طارئ عقد في القاهرة في 7 مايو (أيار) 2023 عودة سوريا لمقعدها بالجامعة، منهياً قراراً سابقاً بتعليق عضويتها صدر في نوفمبر (تشرين الثاني) 2011، بعد 8 أشهر من اندلاع الاحتجاجات في سوريا.
بدوره، قال الكاتب والباحث السياسي السوري، غسان يوسف، لـ«الشرق الأوسط» إن «الإدارة الحالية هي التي تقود العملية السياسية في سوريا، وهي سلطة الأمر الواقع، وأي اجتماع في الجامعة العربية سيحضره من يمثل هذه الإدارة لأنه ليس هناك بديل آخر الآن».
بينما أكد أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة إن «شغل الشرع لمقعد بلاده يتطلب اعترافاً من الجامعة العربية بالإدارة الجديدة، فالتواصل الذي حدث حتى الآن لا يعني بالضرورة اعترافاً به». وأشار إلى أن «الأمر قد يرتبط أيضاً بقرارات مجلس الأمن بهذا الشأن وما إذا كان سيسقط تكييف (الإرهاب) عن (هيئة تحرير الشام)».
لكن أحمد أشار إلى أن «الانفتاح العربي الحالي قد يحل المسألة، لا سيما مع وجود سوابق تاريخيّة اعترفت فيها الجامعة بحكم انتقالي كما حدث في العراق عام 2003».
وفي سبتمبر (أيلول) عام 2003 أعلنت الجامعة العربية، عقب اجتماع على مستوى وزراء الخارجية، الموافقة على شغل مجلس الحكم الانتقالي العراقي مقعد بلاده في الجامعة بصورة مؤقتة إلى حين قيام حكومة شرعية في بغداد.
وأعرب عز العرب عن اعتقاده أن «الفترة المقبلة ستشهد رفعاً للعقوبات الدولية عن سوريا، وتعزيزاً لشرعية الإدارة الجديدة».
وبينما أكد غسان يوسف أن «العقوبات لم ترفع عن سوريا حتى الآن»، أبدى تفاؤلاً بـ«إمكانية تغير الوضع مع عقد مؤتمر الحوار الوطني في سوريا الذي سيعطي مشروعية للحكومة».
وكانت «هيئة تحرير الشام» تُعرف سابقاً باسم «جبهة النصرة»، الجناح الرسمي لتنظيم «القاعدة» في سوريا، حتى قطعت علاقتها به عام 2016. ومنذ مايو (أيار) 2014، أُدرجت الجماعة على قائمة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لعقوبات تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، كما أن قائدها أحمد الشرع، وكان وقتها يكنى «أبو محمد الجولاني» مدرج على القائمة منذ يوليو (تموز) 2013.
الشرق الأوسط
————————-
“موسم الحج” إلى دمشق.. عن ماذا يبحثون؟/ عريب الرنتاوي
7/1/2025
دشّن الثامن من ديسمبر/ كانون الأول، بدء موسم حج، عربي ودولي إلى دمشق: وفود من مختلف العواصم القريبة والبعيدة، وعلى مختلف المستويات، اتصالات هاتفية، زيارات أمنية معلنة وسرّية، دعوات للقيادة السورية الجديدة لزيارة هذه الدولة أو تلك، وسباق على من سيظفر بـ”قصب السبق”، ويقطف الزيارة الأولى، ومبالغات في تحميل الأمر، أكثر مما يحتمل من معانٍ ودلالات، وسيظل الحال على هذا المنوال، حتى إشعار آخر، كما تشي دلائل ومؤشرات عدة.
أوراق مختلفة، تتكدس في جَعبة الموفدين، تعكس أولوياتٍ مختلفة للدول والمعسكرات المختلفة، مع ضجيج هائل يغطي هذه الأولويات والمصالح، أو يسعى لتغطيتها.
ولعل حكاية “حقوق الإنسان والأقليات” و”الانتقال الشامل والجامع”، و”أمن سوريا واستقرارها”، تكاد تكون السمة الأبرز، للقنابل الدخانية التي تظلل أجواء الزيارات، وما يعقبها من بيانات ومؤتمرات صحفية، وتغريدات على منصة “X”، ومواقف وتقديرات، تنسب دائمًا لمسؤول رفيع، يفضّل عادةً عدم الكشف عن هُويته.
سوريا دولة محورية بلا شك، وهي تحتل موقع القلب في المشرق العربي و”هلاله الخصيب”، الذي كفّ عن أن يكون “هلالًا شيعيًا” منذ ذاك اليوم. استقرارها مهم للاستقرار الإقليمي، ومن يَفُز بنفوذ فيها، يؤسس لنفسه نفوذًا إقليميًا وازنًا، من يَبنِ منزلًا في سوريا، يبنِ لنفسه منازل كثيرة في جوارها، هكذا كان الحال في العقود الثمانية الماضية، بل وقبلها بكثير، وهذا يفسر بدرجة كبيرة، سرّ الحج إلى دمشق ودوافعه.
لكن الإقرار بهذه الحقيقة، لا يُغني عن البحث في الدوافع الخفيّة وراء هذا الزحف السياسي والدبلوماسي صوب دمشق، وتفكيك مصفوفة “الأفكار” و”الوصايا” و”النصائح”، حتى لا نقول “الضغوط” و”الشروط المسبقة” التي يحملها الزوار في حلّهم وترحالهم.
عن أي ضمانات وطمأنات يتحدثون؟
يمكننا رصد خمسة ضمانات (أو طمأنات)، تبحث عنها الوفود الزائرة وتتصدر أجندة الحراك السياسي والدبلوماسي الكثيف في سوريا وما يحيط بها:
أولًا: نزع “الطابع الإسلامي” عن الحكم الجديد، أو “تخفيفه” إلى أدنى مستوى، بإذابته في بحر “البكائيات على صدر الأقليات” في سوريا، والدعوات “الإجماعية” لانتقال سياسي، جامع وشامل في سوريا.. إذ على الرغم من “كلام الحق” الذي يحيط بقضية المكونات السورية المختلفة، والحاجة لحمايتها وصون حقوقها وضمان مشاركتها المتناسبة، فإننا ننظر بعين الشك والريبة للأهداف المبطنة التي تخفيها الجهات الداعية والمتباكية، وسنبدأ بمواقف الغرب المحمّلة بأبشع صور النفاق والمعايير المزدوجة.
لن نذهب بعيدًا في “التاريخ الحديث” للشرق الأوسط، ومسؤولية الغرب الاستعماري عن تفتيت خرائطه، وزرعها بالأفخاخ والألغام، ومنح من “لا يملك أرض شعب بأكمله لمن لا يستحق”، وسنكتفي بآخر فصل من فصول الإنكار لحقوق شعب فلسطين، والشراكة في حرب التطويق والتطهير والإبادة التي ما زال يتعرض لها للشهر الخامس عشر على التوالي، أقول: بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، لم يعد أحد بحاجة لبذل جهد كبير للتعرف على حقيقة أن منظومة حقوق الانسان، بما تستبطن من حقوق للأقليات وقيم للحرية والعدالة، لم تكن في مضمونها سوى سلاح مضّاء، تستخدمه هذه الأطراف، ضد خصومها ومناوئيها، أما أعوانها وحلفاؤها وخدمها، فلكل واحدٍ منه، سبب يجعل “ذنبه مغفورًا”.
السيدة الألمانية التي حرصت على استفزاز مضيفيها في دمشق، وبطريقة مبتذلة، وأشهرت في وجوههم سلاح حقوق الأقليات، هي ذاتها الوزيرة التي أباحت للإسرائيليين قتل المدنيين وتدمير البنى التحتية المدنية في غزة، بشكل وقح، ومن دون تورية أو مواربة، وبالصوت والصورة.
وتصبح حكاية “الأقليات وحقوقها ومشاركتها” في “عملية سياسية شاملة وجامعة”، “نكتة سوداء سمجة”، عندما تصدر عن بعض العواصم والمسؤولين العرب.. كثرة منهم لا تعرف دولهم عمليات سياسية، لا جامعة ولا مجتزأة، لا شاملة ولا منقوصة.
كثرة منهم، لا تحتفظ دولهم بسجل محترم في مراعاة حقوق الإنسان والأقليات، ويخشون “سوريا الديمقراطية”، قدر خشيتهم من “سوريا الإسلامية”، وربما أكثر، وموقفهم زمن “الربيع العربي” وثوراته، ما زال طازجًا في أذهان الشعوب التي انتفضت ذات يوم.
بعضهم على الأقل، بات منخرطًا منذ الثامن من ديسمبر/ كانون الأول، في ثورة مضادة إعلامية، ليس مستبعدًا أن تكون “أول غيث” انخراطاتٍ لاحقة فيما هو أبعد من ذلك وأخطر، في تكرار لسيناريو تجلت فصوله في “دول الربيع”.
الخلاصة هنا، أن “نزع الطابع الإسلامي” عن الحكم الجديد، وتذويبه تدريجيًا على طريق محوه وإزالته، هي “المحطة الأولى” على خريطة طريق لسوريا، يتعين ألّا يكون خط نهايتها: سوريا ديمقراطية.. البدء باستهداف “إسلامية” الحكم، على طريق منع الانتقال الديمقراطي لسوريا، الذي قد يحمل في طياته، بذور انتقالات ديمقراطية، عملًا بمبدأ الدومينو، المجرّب في العالم العربي.
وأرجو ألا يفهم من هذا التوصيف للمواقف العربية والغربية، أن “الديمقراطية” تسير حكمًا في ركاب الحركات الإسلامية، وأن انتصار هذه الحركات، هي المقدمة الضرورية لنجاح الانتقال الديمقراطي، فالتجربة العربية والإسلامية، أشد تعقيدًا من ذلك بكثير، لكنها مسألة أولويات بالنسبة لهذه العواصم، ومراحل متعاقبة، على طريق سبق لهم أن قطعوه في دول عدّة.
ثانيًا: وتلكم أيضًا موضع إجماع، أو شبه إجماع، بين الأطراف المنخرطة في الحراك السياسي والدبلوماسي في سوريا وحولها، وهي ضمان منع إيران من العودة إلى سوريا، والحيلولة دون عودة الأخيرة، لممارسة دور “محطة الترانزيت” في توصيل السلاح إلى حزب الله في لبنان، والتأكد من ألّا تكون دمشق، حاضنة لفصائل العمل الفلسطيني المقاوم، كما حصل في مراحل سابقة.
تلكم أولى الضمانات والطمأنات، التي يسعى الموفدون لانتزاعها من دمشق، أصالةً عن أنفسهم ومصالحهم، ونيابة عن مصلحة إسرائيلية عليا.. ذلكم شرط ومقدمة لانطلاقة جديدة للمسارات الأبراهامية، وهي في الوقت ذاته، متطلب إلزامي، في صراعات المحاور والمعسكرات المتقابلة، وأحسب أن الوفود الغربية، الأميركية بخاصة، هي الأكثر حماسة لانتزاع هذه التأكيدات من الحكم الجديد، مع أنه بحكم ماضيه وبنيته السياسية والفكرية، لا يحتاج لمن يذكّره، بضرورة إبقاء إيران خارج دوائر النفوذ والوجود، في سوريا.
ثالثًا: وهي ليست موضع إجماع، ولا تحظى بالقدر ذاته من الأهمية لدى الأطراف المختلفة، وأعني بها، مسألة الوجود الروسي في سوريا، هنا وهنا بالذات، نرى حماسة أوروبية ظاهرة، ألمانية، بريطانية وفرنسية، بشكل خاص، لـ”تنظيف” سوريا من أي أثر للوجود الروسي، حتى إن إغلاق قاعدتي حميميم وطرطوس، وضع كشرط مسبق، لعودة المياه إلى مجاريها بين دمشق، وكل من بروكسل ولندن وبقية عواصم دول الاتحاد، وإن بقدر من التفاوت من الاهتمام.
ألمانيا التي كانت الأكثر صراحة (أو قل وقاحة) في رفضها توجيه الدعم لأي مؤسسة أو جهة سورية، تحمل صبغة إسلامية، كانت الأكثر حماسة لتصفية النفوذ والوجود الروسيين من الشام. أما العرب والأتراك، وهم وإن كانوا لا يبالون كثيرًا بمسألة الدور الروسي في سوريا، فإنهم لن يذرفوا دموعًا على انهيار نفوذ الكرملين، وإن كان بعضهم تعامل مع التدخل الروسي في سوريا 2015، بوصفه عامل استقرار مقابل النفوذ الإيراني “المزعزع للاستقرار” في حينه، إلا أن المشهد تغير اليوم، ولم يعد يُنظَر للعامل الروسي في الأزمة السورية، بذات المنظار.
رابعًا: الدور التركي، بعض العرب، يقول تصريحًا عبر منصّاته الإعلامية، وتلميحًا عبر بياناته الرسمية، إنه لا يريد لسوريا أن تنفك من قبضة “الهلال الشيعي” لتقع بين فكّي “هلال العثمانية الجديدة”.
لا يريدون لأنقرة أن تبني لنفسها “منازل عديدة” في سوريا، بعد أن فرغت منازل طهران من ساكنيها، ولا يشفع لأنقرة في هذا السياق، جملة الاستدارات التي استحدثتها خلال السنوات الماضية، صوب القاهرة وعواصم الخليج، بعد سنوات من “حروب الوكالة” على ساحات وميادين عربية عديدة.
معظم، إن لم نقل جميع، الدول العربية، تقيم علاقات “طبيعية” مع تركيا، بعضها يقيم علاقات “دافئة” معها، وبعضها الآخر “أقل من طبيعية”.. لكن ثمة “نقزة” عند عدد من هذه الدول، من “البعد العثماني” في السياسة التركية، ومن “الرابط الإسلامي – الإخواني” في علاقات تركيا مع العالم العربي.
وثمة “نقزة” ثانية، ذات طبيعة جيو- سياسية، وجيو- اقتصادية، من مغبة تنامي الدور التركي في الإقليم، على حساب أدوار أخرى، أو “أوهام أدوار” لدول أخرى. مثل هذه “النقزات” لا شك، تُعدّ واحدة من محركات البحث عن دور في سوريا الجديدة.
هنا، ومن باب القراءة الموضوعية، يُسَجل للدبلوماسية العربية، أنها تعلمت من درس إدارة الظهر للعراق بعد سقوط بغداد وصدّامها في العام 2003، وترك بلاد الرافدين نهبًا لفراغ ملأته أطرافٌ ثلاثة: واشنطن وطهران وأنقرة (بدرجة أقل).
المسارعة العربية لتوحيد الموقف في اجتماعات العقبة، وما تلاها من حج عربي صوب دمشق، وعودة الروح للسفارات والبعثات الدبلوماسية العربية في دمشق، وسلسلة الدعوات للقيادة الجديدة لإنجاز زيارات رفيعة المستوى للعواصم العربية، وجسور الإغاثة الإنسانية، تشكل في مجملها، تعاملًا عربيًا مع دمشق، يختلف عن التعامل مع بغداد بعد حرب الخليج الثالثة.
لا يعني ذلك للحظة واحدة، أن العرب الرسميين، باتوا يلتقون اليوم على قلب رجل واحدٍ. تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى.. فبينهم، من هو في موقع الداعم والراعي للتحول الجديد في سوريا، وبينهم من يجهد – دون جدوى – في كبح مشاعر العداء للعهد الجديد، وثمة أطراف أخرى ما زالت تعيد النظر في مواقفها وحساباتها، قلقها يطغى على كياستها الدبلوماسية. لكن مع ذلك، يتعين الانتباه إلى اختلاف دور “العامل العربي” في سوريا 2024 عن العراق قبل عقدين من الزمان، بل وعن دول الأزمات المفتوحة الأخرى: اليمن، السودان، ليبيا ولبنان.
خامسًا: ثمة جملة من المصالح، تختص بها دول بعينها، وحسابات لدول أخرى، يتعين تسويتها، وقد وجدت في التغيير الحاصل في سوريا، ضالتها لفعل ذلك، وفرصة نادرة، لضرب أكثر من عصفور بحجر واحدٍ: الأردن، ومن خلفه دول خليجية، عانت أشد المعاناة من تفشي ظاهرة تهريب السلاح والمخدرات، التي باتت تهديدًا للأمن الوطني والجماعي.
أطراف عديدة، أوسع عددًا ونطاقًا، تخشى عودة تنظيم الدولة والإرهاب الذي ضرب المنطقة بقسوة منقطعة النظير خلال العشرية الماضية. تركيا لديها حساب لم يغلق مع “البي كا كا” و”قسد” و”وحدات الحماية”. حتى أوكرانيا لديها حساب مفتوح مع روسيا، وسوريا واحدة من ساحات تسوية هذا الحساب، قبل سقوط نظام الأسد، وبالأخص بعده.
كوريا الجنوبية – في أقصى الأرض- لديها حساب مع شقيقتها الشمالية، وآن أوان تسويته في سوريا كذلك، ولا ندري بعد، ما الذي ستسعى تايوان لتحقيقه، وربما يأتينا بالأخبار، من لم نزودِ.
إزاء كل هذه الطبقات المتراكمة والمتراكبة، من المصالح المتشابكة والمعقدة، الملتقية والمختلفة، في سوريا وحولها، تبدو شعارات من نوع: “حقوق الإنسان والنساء”، “حماية الأقليات ومشاركتها”، “الأمن والاستقرار”، “حياد سوريا”، كلامًا فيه الكثير من الحق، الذي يخفي كثيرًا من الباطل، ويخفي في طياته هذا التنوع والتلاقي والتضارب في الحسابات والمصالح، ويجعل الانتقال السياسي في سوريا، محفوفًا بأخطار تصارع المصالح والتدخلات الخارجية الضارة، بما يملي على القيادة الجديدة، إجادة فن السير على الحبال المشدودة فوق حقلٍ واسعٍ من الألغام، يكون فيه خطؤُها الأولُ، هو خطأَها الأخيرَ، كما يردد، خبراء المتفجرات في درسهم الأول لتلاميذهم.
الجزيرة
————————–
فورين أفيرز: سحب أميركا لقواتها أفضل طريقة لمساعدة سوريا
أميركا تبقي على قوات محدودة في سوريا لفترة معينة
7/1/2025
أكد تقرير مطول نشرته مجلة فورين أفيرز أن دعم الولايات المتحدة للحكومة الجديدة في دمشق أمر مهم في ظل التحول الذي تشهده سوريا بعد سقوط نظام المخلوع بشار الأسد، ولكن هذا الدعم يتطلب انسحاب القوات الأميركية ورفع العقوبات الاقتصادية التي تؤثر على الشعب السوري، إذ قد يؤدي بقاء القوات الأميركية واستمرار العقوبات إلى مزيد من التوترات ويُعيق عملية الاستقرار.
وقال الكاتبان ستيفن سيمون وجوشوا لانديس في تقريرهما إن الخيارات التي ستتخذها الولايات المتحدة على المدى القريب ستؤثر أيضا على قدرة حكومة تصريف الأعمال السورية ببسط سلطتها في جميع أنحاء سوريا وإعادة البناء.
ونوه التقرير إلى أن هناك عدة أسباب تدعو إلى منح القادة الجدد في سوريا فرصة قبل التشكيك بهم، وأولها الحالة المزرية للبلد الذي مزقته الحرب؛ فأكثر من 70% من السوريين يعيشون تحت خط الفقر، وانخفض الناتج المحلي الإجمالي لسوريا من 60 مليار دولار إلى 10 مليارات دولار منذ عام 2011، ومن المتوقع أن تبلغ تكلفة إعادة الإعمار 400 مليار دولار.
وأضاف الكاتبان أن القائد العام للإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع أثبت قدرته على التكيف مع الظروف الجديدة، إذ تواصل مع المجتمعات المسيحية والدرزية وتبنى تعليم المرأة، وفتح الباب أمام المساعدات الإنسانية من الدول الغربية والمنظمات غير الحكومية.
ولعل الأمر الأكثر أهمية بالنسبة لواشنطن هو أن أهداف الولايات المتحدة في سوريا قد تحققت إلى حد كبير، وفق الكاتبين، فقد انتهى حكم الأسد، وانسحبت القوات الإيرانية والروسية التي دعمت النظام من البلاد.
كما ألحقت القوات الأميركية وقوات سوريا الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة أضرارا بالغة بتنظيم الدولة الإسلامية، ولم تعد واشنطن بحاجة ماسة إلى الحضور العسكري أو “العقوبات الساحقة” التي كانت تهدف في البداية إلى إضعاف نظام البعث، والمفروضة على سوريا منذ عام 1979.
حذار من العواقب
وأكد الكاتبان على أن أفضل نتيجة بالنسبة لسوريا وجيرانها هي دولة موحدة ومتماسكة يمكنها التفاوض على اتفاقات دبلوماسية تعزز الاستقرار الإقليمي على المدى الطويل، والبديل هو دولة ضعيفة ومنقسمة، وهذه نتيجة قد تتطلب وجودا عسكريا أميركيا مكلفا وطويل الأمد.
كما حذر الكاتبان من أن عدم التعاون مع سوريا قد يخلق مشاكل لتركيا (حليفة الولايات المتحدة)، ويعرّض عملية إعادة البناء الحساسة في العراق للخطر، ويولد موجة أخرى من الهجرة السورية.
وبالتالي، حسب التقرير، إذا أرادت الولايات المتحدة أن تكون الحكومة السورية الجديدة قادرة على تخفيف الأزمة الإنسانية الحالية والسيطرة على حدود البلاد وبدء عملية إعادة الإعمار، فإن الإبقاء على وجود القوات الأميركية قد يؤدي إلى نتائج عكسية وتصعيد جديد هم في غنى عنه.
فوائد الانسحاب
ولتجنب هذا السيناريو، برأي التقرير، ينبغي على الولايات المتحدة أن تمنح الحكومة السورية الجديدة فرصة، وأن تسحب قواتها البالغ عددها حوالي ألفَي جندي من البلاد، مما سيسمح لدمشق باستعادة السيطرة على المحافظات الزراعية والغنية بالنفط في شمال شرق سوريا.
وفي هذا الصدد، أشار التقرير إلى أن الانسحاب الأميركي قد يساعد على انتعاش الاقتصاد السوري خصوصا عبر إعادة حقول النفط، التي يمكن أن تزيد الإنتاج وتجني ثمارا اقتصادية فورية، ويمكن للسعودية والإمارات المشاركة في الجهود الرامية إلى زيادة إنتاج النفط.
ووفق الكاتبين، ستعود هذه الخطوة بالفائدة على واشنطن في المفاوضات المستقبلية، وتحول الاقتصاد السوري وتوفر فرص عمل في قطاع النفط والصناعات الأخرى التي تعتمد عليه، مما قد يشجع اللاجئين في الأردن ولبنان وتركيا للعودة إلى وطنهم.
يستحق المخاطرة
وقال الكاتبان إن تهيئة الظروف الملائمة لانسحاب القوات الأميركية من سوريا ليست بالمهمة السهلة، إذ يجب على الشرع وهيئة تحرير الشام قيادة الحملة ضد تنظيم الدولة والتوصل لحل مع الأكراد، بالإضافة إلى تجنب تأثيرات الجيران الأقوياء والفصائل المتطرفة لتلبية متطلبات واشنطن.
وأضاف الكاتبان أن الولايات المتحدة تتمتع بنفوذ كبير على الأطراف الرئيسية في سوريا الجديدة، و يدرك الشرع أهمية دعم واشنطن في شرعنة حكمه، فمن دون دعم أميركي، ستكون سوريا عرضة لضغوط عسكرية من تركيا وإسرائيل، وستفتقر إلى إمكانية الوصول إلى نفطها، وستعاني من أجل تسليح جيشها، وستكون أمام منطقة كردية انفصالية.
وأشار التقرير إلى أن إسرائيل وتركيا تسعيان لإنشاء مناطق نفوذ في سوريا، إذ استولت إسرائيل على أراض قرب الجولان بينما سيطرت تركيا على منطقة عازلة على الحدود، وإذا سمحت سوريا لتركيا بالوصول إلى قواعد عسكرية قرب الجولان، فقد يؤدي ذلك إلى صدام “خطير” بين إسرائيل وتركيا.
واختتم الكاتبان تقريرهما بالإشارة إلى أنه من خلال التفاوض على سحب القوات الأميركية من سوريا، يمكن لواشنطن تجنب استمرار وجود مكلّف في بلد غير أساسي إستراتيجيا لها، ورغم المخاطر، فإن الوضع الحالي يستحق المخاطرة بعد أكثر من عقد من الفوضى والمعاناة.
المصدر : فورين أفيرز
—————————-
خطة ترمب للانسحاب من سوريا والعراق/ إكارولين روز
الاستراتيجية العسكرية في البلدين من منظور خبرة ترمب السابقة
آخر تحديث 05 يناير 2025
أصبح دونالد ترمب اليوم الرئيسَ المنتخب للولايات المتحدة، بعد فوزه الساحق في الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة. ومن الطبيعي أن يثير صعوده إلى السلطة الكثير من التساؤلات حول شكل رئاسته ورؤيته للسياسة الخارجية.
ولعل أحد المواضيع التي لا تزال غامضة في سياسته الخارجية هو كيف ستتعامل إدارة ترمب مع الوجود العسكري المستمر للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وخاصة فيما يتعلق بالمهام المرتبطة بـ”عملية العزم الصلب” التي يقوم بها التحالف العالمي لهزيمة “داعش” في العراق وشمال شرقي سوريا. وفي أغسطس/آب الماضي، أعلنت إدارة بايدن عن إنهاء تدريجي لمهمة مكافحة “داعش” وجدول زمني للانسحاب الجزئي للقوات الأميركية بحلول نهاية عام 2026.
وتوفر الفترة الأولى من رئاسة ترمب نظرة- وإن كانت محدودة- حول كيفية تعامله مع الاستراتيجية العسكرية الأميركية في العراق وسوريا. وخلال إدارته السابقة، بقيت القوات الأميركية منتشرة ضمن عملية العزم الصلب، إلا أن نهج ترمب اتسم بكونه عسيرا على التنبؤ. ففي ديسمبر/كانون الأول 2018، أعلن عن انسحاب كامل من سوريا، ثم جرى التراجع عنه جزئيا لاحقا. ومع ذلك، قامت إدارته بتقليص عدد القوات من 2000 إلى 900 جندي في سوريا، وأذنت بخفض القوات بنسبة 50 في المئة من 5000 إلى 2500 جندي في العراق، كما أشرفت على نقل السيطرة على ثماني قواعد عسكرية في المنطقة.
ويزيد من تعقيد الوضع تأثير الهجمات المدعومة من تركيا في شمال شرقي سوريا، والتي قد تمارس ضغوطا إضافية على الموقف الأميركي وتدفع ترمب إلى التفكير في الانسحاب. ومع ذلك، قد يكون العامل الحاسم لاستمرار الوجود العسكري الأميركي هو تأثير الفريق الاستشاري الجديد لترمب. فالتعيينات الأخيرة في الإدارة وقيادات الوكالات والمناصب الدبلوماسية تشمل شخصيات أبدت شكوكا أو انتقادات صريحة لمهمة مكافحة “داعش” في العراق وسوريا. وقد يشير هذا النهج الأكثر انعزالية من الفريق الاستشاري إلى تغيير كبير في السياسة الأميركية، مما قد يؤدي إلى تقليص الوجود العسكري في المنطقة.
تاريخ الانسحابات
لا يعتبر الانسحاب العسكري في الشرق الأوسط أمرا جديدا على ترمب. فعلى الرغم من حملة “الضغط الأقصى” التي شنتها إدارته الأولى ضد إيران- حيث كان الوجود الأميركي في العراق وسوريا قوة توازن رئيسة في مواجهة الوكلاء المتحالفين مع إيران- فقد بادر ترمب إلى اتخاذ قرارات بالانسحاب الجزئي والكامل في مناسبات عدة.
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2019، أعلن ترمب الانسحاب الفوري لجميع القوات الأميركية البالغ عددها 900 جندي من شمال شرقي سوريا، ولكن القرار أثار ردود فعل عنيفة بين المستشارين الرئيسين في وزارتي الخارجية والدفاع الأميركيتين، واستقال عدد من كبار المسؤولين مثل وزير الدفاع جيمس ماتيس والمشرف على التحالف العالمي لهزيمة “داعش”، بريت ماكغورك. وبالنتيجة، كان الرحيل السريع للقوات الأميركية من المواقع الاستراتيجية بالقرب من كوباني وسيرين وتل بيدر والمناطق المحيطة بحلب والرقة، سببا في خلق مساحة لهجوم تركي ضد شركاء “عملية العزم الصلب” الذين تُركوا بمفردهم كي يدافعوا عن أنفسهم. وبعد ثلاثة أيام فقط من إعلان الانسحاب، شنت القوات التركية هجمات جوية وبرية على “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، التي تعتبرها تركيا منظمة إرهابية مرتبطة بـ”وحدات حماية الشعب”(YPG).وكانت للانسحاب الأميركي والهجوم التركي الناتج عنه آثار جانبية إضافية، ما أدى إلى خلق فراغ في السيطرة استغله النظام السوري والميليشيات المتحالفة مع إيران للتحرك إلى المناطق المتنازع عليها، وفي الوقت نفسه شهدنا ظهورا جديدا لـ”داعش” على مستوى منخفض.
وفي حين تراجعت إدارة ترمب عن إعلان الانسحاب بعد جدل كبير، مع إعادة تمركز القوات الأميركية الموجودة في العراق ونقلها إلى شمال شرقي سوريا، فمن الجدير ذكره أن إدارته اتخذت قرار الانسحاب وهي تدرك جيدا الفراغ الذي سيخلفه ذلك الانسحاب. وفي جلسة إحاطة البنتاغون في 15 أكتوبر/تشرين الأول، صرح وزير الدفاع مارك تي إسبر بأن القوات الأميركية لن تدافع عن شركائها الأكراد في “عملية العزم المتأصل”، حتى إنه صرح بأن الولايات المتحدة لديها توقعات موثوقة بأن القوات التركية سوف تضم أراضي في الشمال الشرقي وأن “قوات سوريا الديمقراطية” سوف تسعى إلى التوصل لاتفاق مع خصومها (النظام السوري وروسيا). وترمب نفسه غرد بأنه من “الذكاء” الانسحاب واغتنام الفرصة لاتخاذ موقف الحياد قائلا: “أولئك الذين زجوا بنا عن طريق الخطأ في حروب الشرق الأوسط ما زالوا يدفعون من أجل القتال. ليس لديهم أي فكرة عن القرار السيئ الذي اتخذوه. لماذا لا يطلبون إعلان الحرب؟”.
وفي العراق، حافظ ترمب على تموضع قواته حتى الأشهر الأولى من عام 2020، إلى أن قتلت الولايات المتحدة قائد “الحرس الثوري” الإيراني قاسم سليماني وقائد “كتائب حزب الله العراقية” أبو مهدي المهندس. وأدى انتقام إيران ووكلائها من الميليشيات ضد الولايات المتحدة إلى مواجهة عسكرية كبيرة مع جنود أميركيين، حيث أسفرت ضربة واحدة على قاعدة عين الأسد الجوية عن إصابة 109 من الجنود الأميركيين بإصابات دماغية رضية. وفي الأسابيع التي تلت، خفضت إدارة ترمب بهدوء، وبشكل تدريجي، الوجود الأميركي في جميع أنحاء العراق. حيث نقلت قوات “عملية العزم المتأصل” أكثر من ثماني قواعد- بعضها كانت في مواقع استراتيجية مثل قاعدة القائم، على طول الحدود السورية العراقية- إلى قوات الأمن العراقية والكردية. ونتيجة لذلك، تغير أيضا عدد القوات المتمركزة في العراق، حيث انخفض من 5000 إلى 2500.
وعلى الرغم من أن عملية انسحاب ترمب في العراق جرت بشكل تدريجي أكثر مما حدث في سوريا، فقد أشارت إلى أن ترمب يرى في فك ارتباط الولايات المتحدة بالشرق الأوسط ضرورة واضحة- بغض النظر عن التداعيات والآثار المترتبة عليها. ومع ذلك، كان هناك الكثير من القوى الفاعلة في إدارة ترمب الأولى، نجحت في مواجهة الانسحاب الكامل. وعمل لاعبون رئيسون مثل بريت ماكغورك، والجنرال جوزيف فوتيل، وجون كيلي، وهربرت ماكماستر، والجنرال مارك ميلي، من بين آخرين، دورا كبيرا في لحظات مختلفة لنصحه بالعدول عن الانسحابات المفاجئة من العراق وسوريا التي كانت ستتسبب في زعزعة الاستقرار. وإضافة إلى ذلك، كان هناك رد فعل عنيف من الكونغرس، خصوصا داخل مجلس الشيوخ الذي يقوده الجمهوريون، في أعقاب إعلان ترمب على “تويتر” وفيه يأمر بانسحاب القوات من سوريا خلال 30 يوما.
اختيارات الإدارة
مع تشكيل إدارة ترمب الثانية، ألقت اختياراته وتعليقات حلفائه السياسيين بعض الضوء على كيفية التعامل مع الأمر اعتبارا من عام 2025. وخلال مقابلة مع تاكر كارلسون، أدلى روبرت ف. كينيدي جونيور بتعليقات تشير إلى أن ترمب يريد إخراج القوات من سوريا. وبحسب ما ورد فقد رسم ترمب خريطة دقيقة للشرق الأوسط وحدد قوام القوات في كل دولة.
ووفقا لكينيدي، كان ترمب يخشى أن تصبح القوات الأميركية على الحدود السورية التركية “وقودا للمدافع” في حال نشوب صراع بين سوريا وتركيا. وزعم كينيدي أن ترمب كان قادرا على الوقوف في وجه المجمع الصناعي العسكري الذي “يريد حربا دائمة”. كما أشارت شخصيات رئيسة أخرى تحيط بترمب إلى مواقف مماثلة، فأيد نائب الرئيس المنتخب جيه دي فانس، بصفته عضوا في مجلس الشيوخ، سحب القوات من الشرق الأوسط، ويتضح ذلك من خلال رعايته لقرارين تشريعيين في عام 2023.
وكان الأول قرارا مشتركا يأمر بإنهاء الانتشار غير القانوني للقوات الأميركية في سوريا. والثاني، قانون الحروب الأبدية الذي ألغى تفويض عام 2001 لاستخدام القوة العسكرية. وفي انتقاد لما وصفه بـ”مغامرة المحافظين الجدد”، عرّف فانس الجانب الرئيس للسياسة الخارجية لترمب الذي يمكن إيجازه بأنه “لا يمكنك إرسال قوات أميركا إلا إذا كان يتوجب عليك ذلك حقا”. ودعا إلى تدخلات محدودة عندما تكون عمليات النشر مطلوبة. ومثل رئيسه، فإن فانس مؤيد قوي لإسرائيل، الذي شعر سابقا بأنه “خُدع” بعد القرارات السابقة بالانسحاب، على الرغم من أنه أشار أيضا إلى أن مصالح الولايات المتحدة وإسرائيل لن تتوافق دائما، مشيرا إلى معارضته للحرب في العراق.
إن بيت هيغسيث، أحد أكثر تعيينات ترمب إثارة للجدل كوزير للدفاع، لديه آراء محدودة للغاية في السياسة الخارجية. وإن فائدة هيغسيث لترمب- وهو “تعيين ولاء” واضح- تتجلى بشكل أفضل من خلال سلوكه خلال مقابلة في الأول من يناير/كانون الثاني 2019. حيث رمش هيغسيث وأومأ برأسه بينما كان ترمب يتحدث عن “إعادة قواتنا الشابة إلى الوطن”، و”الحروب التي لا تنتهي” وكيف انتصر على “داعش”. كل ما قاله هيغسيث هو أن هزيمة “داعش” كانت “إنجازاً مهماً بالتأكيد”. كما قدم ادعاء غير مثبت خلال بث بدأ اعتبارا من 27 ديسمبر 2018، بأن القادة العسكريين والقوات كانوا يؤيدون القرارات التي اتخذها ترمب في سوريا والعراق.
أما تولسي غابارد التي اختارها ترمب لمنصب مدير الاستخبارات الوطنية، فقد كوفئت على تأييدها لمواقفه، مع العلم بأنها من أشد المعارضين للتدخل في شؤون الدول الأخرى. ومع ذلك، فالتعليقات التي صرحت بها والتي تبدو مثل ترديد للدعاية الروسية أثارت قلق مجتمع الاستخبارات. حيث التقت غابارد بشكل مثير للجدل مع بشار الأسد بعد أن قطعت الولايات المتحدة علاقاتها الدبلوماسية معه، ثم كررت في وقت لاحق إنكار روسيا لمسؤولية الأسد عن الهجمات بالأسلحة الكيماوية. ثم جاءت لاحقا معارضة غابارد غير المفاجئة للتدخل الأميركي في سوريا، ودعت إلى حق السوريين في تقرير مستقبلهم. وفي الوقت الذي انتقدت فيه تعامل ترمب مع الانسحاب من سوريا، كررت مرة أخرى مطالبتها بانسحاب الجيش الأميركي من العراق وسوريا خلال حملتها الرئاسية عام 2020.
غير أن أحد الاختيارات الوزارية الرئيسة، وهو ماركو روبيو، يعتبر ثقلا موازنا في مواجهة الكثير من المستشارين الذين يدعمون بحماسة فك الارتباط الأميركي مع الشرق الأوسط. ففي أكتوبر 2019، انضم روبيو إلى مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين والديمقراطيين في انتقاد خطة ترمب للانسحاب، ووصف هذه الخطوة على “تويتر” بأنها “خطأ فادح ستكون له تداعيات تتجاوز سوريا”. كما انحاز روبيو لصالح حملة “الضغط الأقصى” ضد إيران وشركائها مثل نظام الأسد، من خلال الحفاظ على الوجود العسكري الأميركي في المنطقة كقوة توازن في مواجهة طهران. وتعتمد هذه الاستراتيجية على الحفاظ على فرقة من القوات الأميركية- مهما كانت صغيرة- متمركزة في العراق وسوريا كأداة ضغط بيد واشنطن. ومن المرجح أن يعارض روبيو الانسحاب المفاجئ والكامل، ومع ذلك، من المحتمل أن يكون كمن يغرد خارج السرب، حيث تطغى على صوته الأصوات داخل حكومة ترمب وإدارته بشكل عام التي تنتقد الاستمرار في المشاركة العسكرية بالشرق الأوسط.
إن دخول المشهد السوري في فصل جديد– في أعقاب الهجوم الخاطف الذي أعاد رسم خطوط المعركة الرئيسة في البلاد في غضون أيام قليلة– واحتمال شن هجوم أكبر بدعم من تركيا ضد شركاء التحالف الأميركي، “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) التي يقودها الأكراد، يزيد من تعقيد موقف واشنطن. في حين احتفظت إدارة بايدن بقواتها المكونة من نحو 900 جندي أميركي في شمال شرقي سوريا، فمن المرجح أن تعيد إدارة ترمب تقييم موقفها بشكل جذري. ولا يعود السبب إلى سجل ترمب الحافل بتأييد الانسحاب العسكري فقط، إنما بسبب أصوات المستشارين المتزايدة التي تدعو إلى فك الارتباط الأميركي في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، وليس في سوريا فحسب.
وكما كانت الحال مع إدارة ترمب الأولى، فإن تحليل اختيارات ترمب الاستشارية ومحاولة “قراءة الفنجان” في سياساته السابقة لن يقدم الكثير للتنبؤ الناجح بما هو قادم فيما يخص القوات الأميركية المتمركزة في العراق وسوريا، ناهيك عن السياسة الخارجية للمنطقة الأوسع. ومع ذلك، يبدو جليا أنه وبالرغم من بعض الاختلافات الأيديولوجية داخل دائرة مستشاري ترمب، فمن المرجح أن الولايات المتحدة تتجه نحو انسحاب سريع وكامل في كل من العراق وسوريا. ما يضع نهاية لمهمة مكافحة “داعش” ويقدم مساحة جديدة للجهات الفاعلة المحلية، مثل إيران وروسيا والنظام السوري، للاستفادة منها في أعقاب انسحابها.
المجلة
—————————
من الصياغة إلى التطبيق… السياسة الأميركية نحو سوريا/ عقيل عباس
ثمة تحولات سريعة في واشنطن بخصوص كيفية التعاطي مع دمشق
آخر تحديث 07 يناير 2025
كانت باربرا ليف، مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط، في زيارة للعراق يومي 11 و12 ديسمبر/كانون الأول، أي بعد أربعة أيام من الإطاحة بنظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد، للتداول مع مسؤولين عراقيين في “مجموعة قضايا ثنائية وفرص الأمن الإقليمي وتحدياته” بحسب البيان الرسمي الأميركي، قبل أن تسافر من بغداد إلى أنقرة لتحضر مع وزير الخارجية أنتوني بلينكن، اجتماعات مع مسؤولين أتراك عن الشأن السوري، لتعود بعدها إلى واشنطن. خلال أيام قليلة قررت الإدارة إرسالها إلى الشرق الأوسط مرة أخرى، هذه المرة في زيارة مهمة إلى دمشق، لتلتقي بزعيم “هيئة تحرير الشام” والرئيس الفعلي لسوريا، أحمد الشرع، في زيارة أنهت مقاطعة رسمية أميركية لسوريا دامت نحو 13 عاما.
تؤشر حقيقةُ أن شاغلة أعلى منصب في الحكومة الأميركية يختص بشؤون المنطقة تعود إليها في مهمة جديدة بعد أيام من مغادرتها لها، إلى أن ثمة تحولات سريعة في واشنطن بخصوص كيفية التعاطي مع دمشق من دون الأسد.
نتجت هذه التحولات عن المفاجأة السورية التي صُنعت في خلال 11 يوما بين السابع والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني، والثامن من ديسمبر/كانون الأول، مدة شن “هيئة تحرير الشام” هجومها العسكري الذي أطاح بنظام الأسد. دشنت هذه المفاجأة سيناريوهات مختلفة لـ”سوريا الجديدة” لا يمكن للولايات المتحدة أن تغيب عنها لأسباب جيوسياسية مفهومة تماما. لم تتوقع إدارة الرئيس جو بايدن في أسابيعها الأخيرة، هذه المفاجأة ولم تُعد نفسها لها كما لم تتطلع لها إدارة دونالد ترمب المقبلة. بخلاف تحليلات سائدة كثيرة، بينها نظريات مؤامرة معتادة واعلانات سياسية واثقة، لم يتوقع احدٌ هذا السقوط السريع والمدوي لنظام شمولي اعتمد، في بقائه لأكثر من نصف قرن، على توظيف قمعي ناجح لبراعة الأمن وولاء العسكر. حتى تركيا، المستفيد الأكبر من هذه الاطاحة، بل على الاكثر حتى ابو محمد الجولاني نفسه الذي قاد هجوم الإطاحة، لم يتوقعا ان ينتهي النظام بسبب هذا الهجوم.
التفكك المفاجئ، السريع والواسع، لقوات النظام هو الذي صنع مشهد النهاية ونشوة الانتصار، او خيبة الانهيار للطرف الاخر، والاعلانات التالية المختلفة بخصوص حقيقة ما حدث، ومعها رسم السيناريوهات المختلفة بما تتضمنه تسابق إقليمي ودولي على معنى “سوريا الجديدة” وعلاقتها بالعالم الخارجي.
استوعبت إدارة بايدن، المشغولة بالتوصل لوقف إطلاق نار في غزة كجزء من تركتها في اسابيعها الأخيرة في البيت الأبيض، هذه المفاجأة السورية بسرعة وفي خلال أيام مكتظة بالأحداث طورت استراتيجية عامة للتعامل مع سوريا وتواصلت مع إدارة ترمب المقبلة بخصوصها لضمان تمثيل هذه الاستراتيجية لفهم مشترك بين الإدارتين وأن الإدارة الجمهورية المقبلة ستواصل البناء عليها ولا تنقضها. لا تحتل سوريا موضعا هاما في السياسة الشرق-أوسطية لهذه الإدارة الجديدة، ولذلك لم يبدُ ترمب سعيدا عندما وصف إسقاط الأسد، وعلى نحو مغلوط، بأنه “سيطرة غير ودية من جانب تركيا” على سوريا. يشي هذا بأن إدارة الرجل ستقنع ببذل أقل جهد ممكن لتنفيذ استراتيجية تصوغها الإدارة السابقة لها ما دامت هذه الاستراتيجية تتسق مع أهداف ترمب في المنطقة الساعية للتركيز على مواجهة إيران وصناعة تقارب جاد بين إسرائيل والعالم العربي، خصوصا دول الخليج، عبر استئناف “الاتفاقات الإبراهيمية”.
تستند هذه الاستراتيجية، كما مَثلتها ليف في لقائها مع الشرع، على خليط متشابك من الإغراءات والضغوط لدفع الأشياء في سوريا نحو نظام حكم جديد، تمثيلي وتعددي، بعيدا عن احتكار أيديولوجي ومؤسساتي لحركات إسلاموية سنية لسوريا المقبلة، ونظام منشغل داخليا بصناعة سوريا مستقرة سياسيا ومزدهرة اقتصاديا، من دون الانضواء في مشاريع خارجية أو إقليمية كبرى تدور حول الصراع والمواجهة. يُقلق هذا الاحتكار الحالي أطرافا كثيرة، عربية وغربية، في مقدمتها الولايات المتحدة التي لا تريد رؤية نموذج إسلاموي في الحكم ينتشر في المنطقة ويوقظ آمالا راديكالية دينية بعد أن تراجعت هذه الآمال كثيرا في السنوات الأخيرة. يغذي هذا القلق استثمارا أميركيا حذرا في “هيئة تحرير الشام” الحركة الإسلاموية الأقوى التي تتمتع هذه الأيام بشهر عسل شعبي واسع ومفهوم، بوصفها “بطل التحرير” الذي يتصاعد زخمه المعنوي من خلال الحضور الكاريزمي لزعيمها أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني سابقا)، وذلك لدفعها بعيدا عن تبني نسخة سورية سنية لهذه الراديكالية الدينية. تكشف حقيقة حدوث زيارة ليف على هذا النحو السريع في نهاية عمر الإدارة الحالية والعلنية الرسمية للزيارة ولقاء المسؤولة الأميركية بالشرع العجلة الأميركية لوضع الاستراتيجية موضع التنفيذ عبر استخدام الأدوات القوية المتاحة للولايات المتحدة إزاء سوريا.
تضمنت بعض القضايا التي أثارتها ليف في لقائها جوانب أمنية ذات طبيعة عاجلة تهم الولايات المتحدة كاستمرار قتال أميركا لتنظيم “داعش” في شمال شرقي سوريا بالتعاون مع “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) وتأطير هذا القتال رسميا في سياق السلطة الجديدة في سوريا. في عهد الأسد، كانت أميركا تقاتل في سوريا دون استئذان الحكومة السورية التي كانت تطلق على الوجود العسكري الأميركي تسمية الاحتلال الأجنبي، فيما كانت أميركا تدافع عن وجودها العسكري هناك تحت مبررات دولية، عابرة للسلطة المحلية السورية، على أساس قرارات اتخذها مجلس الأمن الدولي بخصوص ضرورة مقاتلة الإرهاب في سوريا كجزء من الحفاظ على السلم والأمن الدوليين. وينبغي أن تُترجم أي تفاهمات أميركية-سورية متوقعة بهذا الصدد عبر أشياء ملموسة، الأبرز بينها كيفية تدوير القوات الأميركية في سوريا (يجري التبديل عموما مرة كل عشرة أشهر).
بسبب غياب الغطاء والتعاون الرسمي السوري مع أميركا في عهد الأسد في هذا الملف، كان الجيش الأميركي يُضطر لتبديل قواته في شمال الشرق السوري ويمدها بالكثير مما تحتاجه بالطائرات من قواعده المختلفة في المنطقة سواء في تركيا أو الخليج، وهي عملية مكلفة ماديا ومرهقة تقنيا (أو عبر الأراضي العراقية كما حدث في العام الماضي لأول مرة).
وإذا تضمن إجراء التبديل المقبل، المتوقع في صيف هذا العام، تعاونا مباشرا مع “هيئة تحرير الشام” بوصفها سلطة الأمر الواقع المعترف بها دوليا على نحو غير رسمي، واستخدام منشآت أو تسهيلات سورية تحت إدارة هذه السلطة لجلب القوات الأميركية الجديدة وإخراج القديمة، فهذا يعني أن تعاونا جديا قد بدأ بين الطرفين، ينعكس إيجابا أيضا على العلاقة مع “قوات سوريا الديمقراطية” المتلهفة لتأطير رسمي سوري لتحالفها العسكري مع الولايات المتحدة يقوي موقفها إزاء تركيا. وعلى الأكثر سيسبق مثل هذا التعاون العسكري، إزالة التصنيف الإرهابي عن “الهيئة”، أو نهاية العمل بهذا التصنيف واقعيا عبر إلغاء “الهيئة” وتشكيل حركة سياسية جديدة لن يشملها التصنيف الأميركي.
وبموازاة هذا التعاون الأمني الذي يستند على تاريخ سابق من تعاون استخباري غير معلن بين الطرفين ضد تنظيم “داعش”، هناك التعاون السياسي الأهم والأوسع تأثيرا ويتعلق جوهره بتأهيل أميركا للنظام السياسي السوري الجديد ليكون حليفا حقيقيا للغرب عبر دعمه سياسيا ورفع العقوبات الأميركية الاقتصادية عنه (“عقوبات قيصر” التي فرضها الكونغرس في 2019) مترافقا أو منسقا مع رفع للعقوبات الأوروبية ضد سوريا. هذا التأهيل الغربي مشروط بالتزام “هيئة تحرير الشام” بخارطة طريق سياسية تؤدي إلى إنشاء نظام سياسي تمثيلي، تعددي وتداولي، وليس إسلاميا بنسخة إخوانية أو سلفية أو خليطا من الاثنتين، نظام مغلق ينتهي بأن يكون جزءا من معسكر مناهضة الغرب في المنطقة بيافطة إسلامية، كما كان نظام الأسد تحت عنوان القومية العربية بنسختها البعثية.
بلينكن وإعلان الاستراتيجية الأميركية نحو سوريا
في الثاني عشر من ديسمبر/كانون الأول الفائت، بعد أربعة أيام من سقوط نظام الأسد، وصل وزير الخارجية الأميركي بلينكن للعاصمة الأردنية، عمان، في بداية جولة إقليمية له للتعاطي مع الحدث المزلزل في دمشق. عَبرَ الرجل عن هذا الاستعداد الأميركي للتأهيل السوري، باستخدام اللغة الدبلوماسية المهذبة المعتادة في هذه السياقات الحساسة عندما تحدث عن التنسيق الأميركي المتواصل مع الشركاء الإقليميين لمساعدة سوريا “الجديدة”: “نحن هنا، عدنا للمنطقة في وقت يحمل وعدا حقيقيا، وخَطَرا أيضا بالنسبة لسوريا وجيرانها. نُركز عملَنا هنا على تنسيق الجهود على امتداد المنطقة لدعم الشعب السوري وهو يمر بعملية انتقالية بعيدا من الحكم الديكتاتوري المتوحش للأسد”. من افتراض هذا التحول الانتقالي الذي أشارت له أيضا تصريحات مبكرة للشرع في إطار عام شحيح بالتفاصيل على نحو متوقع ومفهوم حينها، شَرح بلينكن بعض تفاصيل هذا التحول التي غابت في كلمات الشرع: “أعتقد أنه من أجل النجاح والخروج من الماضي الذي هيمن عليه الأسد، فإنه لا بد لأي حكومة انتقالية من الالتزام بمبادئ أساسية محددة، بينها أن تكون هذه الحكومة شاملة، تضم كل الجماعات السورية، وأن لا تكون، طائفية، ذات لون ديني محدد. ينبغي أن ترسخ هذه الحكومة وأن تحمي حقوق كل السوريين، بينهم الأقليات والنساء”.
تشير كلمات بلينكن هذه إلى الرغبة الأميركية بخصوص التركيبة الداخلية والأيديولوجية لأى حكومة سورية انتقالية: حكومة ديمقراطية تعكس التنوع السوري. لحد الآن يتحاشى الشرع- ككل الساسة الإسلاميين تقريبا- استخدام مصطلح الديمقراطية في خطابه، بل سبق له مهاجمتها بوصفها ابتداعا غربيا سيئا. ليس مهماً أن يواصل الرجل تحاشي الإشارة الصريحة للديمقراطية، ما دامت الحكومة السورية الانتقالية (التي يُفترض أن تتشكل في مارس/آذار المقبل بعد نهاية حياة حكومة تصريف الأعمال الحالية التي تهيمن عليها “هيئة تحرير الشام”) تعكس تمثيلا سورياً واسعا ولا تسعى لتقويض حرية التعبير تحت الحجج والذرائع المألوفة شرق أوسطياً من خصوصية ثقافية وتقاليد محلية وعقائد دينية.
الجانب الآخر ذو الأهمية المتساوية هو سلوك هذه الحكومة خارجيا عبر ابتعادها عن سياسة المحاور الأيديولوجية والمشاريع الإقليمية العابرة للدول (كما كان مشروع “محور المقاومة” الذي انضوت فيه سوريا الأسد). هذا كان معنى التأكيد القوي لبلينكن على التوقعات الأميركية بهذا الصدد: “علينا أن نتأكد من أن أي حكومة انتقالية سورية ستضمن أن لا تُستخدم سوريا كقاعدة للإرهاب أو التطرف أو تمثل تهديدا لجيرانها أو تتحالف مع مجاميع مثل (داعش). تحتاج أيضا أن تسيطر وتدمر أي أسلحة كيماوية لديها”. بالتأكيد الانسحاب السريع والمنطقي الذي أكده الشرع من “محور المقاومة” أمر مبهج لواشنطن والعالم العربي المهتم بتفكيك النفوذ الإيراني في المنطقة، لكن هذا لا يضمن أن سوريا المقبلة لن تدخل في تحالفات إسلاموية عابرة للحدود (في قيادة “هيئة تحرير الشام” وصفوفها إسلاميون عرب وأجانب مطلوبون لحكومات بلدانهم). تأتي هنا الإشارة الأميركية بعدم “تهديد الجيران” لتعني ضمنا تطبيعا مقبلا للعلاقة مع إسرائيل، أو على الأقل إنهاء رسميا للعداء معها).
يُفترض أن الشرع يُدرك أهداف الاستراتيجية الأميركية إزاء بلده. وسواء كان الرجل يتفق مع هذه الأهداف أم لا، فسيكون صعبا عليه معارضتها كلها أو معظمها، فرفع العقوبات الأميركية سيكون مشروطا بتحقق بعض هذه الأهداف على الأقل، في المدى المنظور. وعلى هذا الأساس ذكر مشرعون أميركيون، من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، أنه من المبكر رفع العقوبات عن سوريا، إذ قام الكونغرس بتجديدها حتى مع سقوط الأسد. كما طلبت إدارة ترمب من إدارة بايدن عدم العمل على رفع هذه العقوبات ولا التصنيف الإرهابي لـ”هيئة تحرير الشام” وترك بقية هذا الملف لها. وسيكون بيد إدارة ترمب، وحتى الإدارة الحالية، إصدار بعض الإعفاءات الجزئية من هذه العقوبات لتقليل الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها الحكومة السورية الحالية، لكن يستبعد رفعٌ كاملٌ لها قبل أن تتخذ هذه الحكومة خطوات ملموسة وجدية نحو تطبيق الرؤية التي عرضها بلينكن.
وسيواجه الاستعجال السوري الحالي، الذي يتصدره الشرع بنفسه، لرفع العقوبات والحصول على الدعم الأميركي تأنٍ سياسي أميركي بانتظار خطوات ملموسة ومستمرة، على أكثر من صعيد، ستحتاج أن تقوم بها دمشق تتجاوز شهر العسل الحالي، السياسي والشعبي، الذي أعقب سقوط نظام الأسد.
المجلة
—————————
المصالحة الكردية في تركيا: هل باتت ضرورة استراتيجية لمواجهة التحديات الإقليمية والداخلية؟
عربي بوست
تم التحديث: 2025/01/07
في أكتوبر/تشرين الأول 2024، أعلن الائتلاف الحاكم في تركيا مبادرة جديدة للمصالحة مع الأكراد، تهدف إلى إنهاء الصراع المستمر مع حزب العمال الكردستاني. تضمنت المبادرة دعوة عبد الله أوجلان لإلقاء السلاح وحل الحزب، مما يعكس رهاناً كبيراً على تعزيز الاستقرار الداخلي وسط أزمات إقليمية متصاعدة. وبينما تبدو الخطوة جريئة، تأتي العديد من التساؤلات حول فرص نجاحها في ظل العقبات الداخلية والخارجية التي تحيط بها.
استعرض موقع “أسباب” للدراسات الاستراتيجية في تقريره أبعاد المبادرة، وفرص نجاحها والتحديات التي قد تعيق تحقيق أهدافها.
فما هي أبرز ملامح المبادرة؟ وما التحديات التي قد تعرقل تحقيق أهدافها؟
“معارضة سياسية تحت السيطرة” ورسائل إلى صندوق النقد.. تفاصيل إعادة هندسة المشهد السياسي في مصر قبل الانتخابات البرلمانية
مبادرة المصالحة الكردية التي أطلقها الائتلاف الحاكم في تركيا
اجتمع وفد من حزب الديمقراطية والمساواة الشعبية، بقيادة برفين بولدان وسرّي ثريّا أوندر، مع دولت بهتشلي رئيس حزب الحركة القومية، وحليف حزب العدالة والتنمية، ومع نعمان كورتولموش رئيس البرلمان التركي، وذلك بعد أن زار الوفد عبد الله أوجلان مؤسس وقائد حزب العمال الكردستاني في سجنه بجزيرة إمرالي. وفي سياق المصالحة الكردية، كشفت أنقرة عن خطة تنمية بقيمة 14 مليار دولار لنحو 200 مشروع لتحسين الزراعة والري وتعزيز قطاع السياحة في جنوب شرق البلاد ذي الأغلبية الكردية. وقدر وزير الصناعة والتكنولوجيا التركي أن مشروع التنمية سيزيد نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في المنطقة بمقدار 49 ألف ليرة تركية، وسيخلق أكثر من 570 ألف وظيفة جديدة في المنطقة بحلول عام 2028.
مؤشرات إيجابية على تقدم المصالحة الكردية لكن التحديات كبيرة
تندرج الزيارات المذكورة وخطة التنمية الحكومية ضمن تطورات مبادرة المصالحة الكردية التي أطلقها الائتلاف الحاكم في تركيا على لسان بهتشلي في أكتوبر/ تشرين الأول 2024، وتضمنت دعوة أوجلان للإعلان عن إلقاء السلاح وحل حزب العمال الكردستاني مع السماح له بإلقاء كلمة في مجلس النواب أمام الكتلة النيابية لحزب الديمقراطية والمساواة الشعبية، الموالي له.
وتشير تلك الزيارات إلى جدية الائتلاف الحاكم في المضي قدما نحو تحقيق مصالحة رغم التطورات التي حدثت بعد إطلاق المبادرة، خاصة الهجوم الذي شنه مسلحان كرديان على مقر شركة صناعات الطيران والفضاء “توساش” في أنقرة، مما أسفر عن مقتل خمسة أشخاص وإصابة 22 آخرين، وذلك في اليوم التالي لإعلان بهتشلي، فضلا عن سقوط نظام الأسد، مما وضع ملف تفكيك “قسد” على طاولة المفاوضات الأمريكية التركية.
تأتي الدوافع الداخلية كمحرك رئيسي لطرح المبادرة. إذ كشفت انتخابات البلديات الأخيرة في تركيا عن تراجع كبير في شعبية تحالف حزب العدالة والتنمية مع حزب الحركة القومية، وهو ما يحفز الحزبين على التحرك تجاه الأكراد لجذبهما نحو صفهما بدلا من استمرار دعم الأكراد لحزب الشعب الجمهوري، وهو رهان في حال نجاحه سيتيح المضي في تعديل الدستور، وربما ترشيح أردوغان لولاية جديدة مع زيادة فرص فوزه حال حصوله على أصوات الأكراد.
بالإضافة لذلك؛ فإن التطورات الخارجية تلعب دورا في تمسك الائتلاف الحاكم بمسار المصالحة؛ وذلك في ظل مخاوف أنقرة من تداعيات طوفان الأقصى وحرب لبنان واحتمال استهداف إيران على المنطقة، والحاجة إلى تمتين الجبهة الداخلية، وقطع الطريق على محاولات “إسرائيل” لاستخدام الورقة الكردية كخنجر في خاصرة الدولة التركية، خاصة مع سقوط نظام الأسد وما يعنيه ذلك من تحول سوريا إلى ساحة تنافس تركي إسرائيلي مباشر للمرة الأولى.
ويرسل إعلان المبادرة على لسان بهتشلي تحديدا، وليس عن حزب العدالة والتنمية، إلى أن حزب الحركة القومية المعروف بمواقفه المتشددة تجاه التمرد الكردي، رسالة واضحة أن الجهات القومية داخل الجيش وأجهزة الأمن والمؤسسات البيروقراطية ستدعم المبادرة، بدلا من عرقلتها. ومع هذا، فقد ردت الحكومة على هجوم شركة صناعات الطيران والفضاء “توساش” بحملات عزل وتوقيف طالت رؤساء بلديات أكراد بارزين، للتأكيد على أن الدولة لا تطرح المبادرة من واقع ضعف.
تحديات كبيرة ما زالت تواجه مسار المصالحة :
التفاوت الكبير بين رؤية الطرفين لأسس المصالحة. إذ يطالب حزب العمال الكردستاني بسلطة حكم ذاتي في المناطق ذات الأغلبية الكردية، والسماح بتعليم اللغة الكردية في المدارس الحكومية، والعفو الشامل عن المقاتلين من جبال قنديل والمنفيين من أوروبا، وإطلاق سراح السجناء الأكراد، والاحتفاظ بتشكيلات مسلحة للقيام بمهام قوات الدفاع عن النفس. وبينما يتوقع أن تبدي الحكومة مرونة إزاء المطالب الثقافية والاجتماعية، وبعض الملفات ذات الطابع الأمني، يبقى من المستبعد تماما أن تقبل بأي صيغة للحكم الذاتي، أو أي تواجد لتشكيلات مسلحة.
تفاوت المواقف بين أوجلان وقادة حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل وشمال شرق سوريا، وفي الشتات الأوروبي. فأوجلان هو القائد التاريخي للحزب، لكنه لم يعد الوحيد في دائرة صنع القرار، وبالأخص بعد نمو نفوذ وحجم الحزب على وقع شراكته مع الولايات المتحدة في مواجهة تنظيم داعش. وقد تجلى التفاوت بين قادة الحزب في هجوم عناصر من الحزب على مقر شركة توساش مما عكس اعتراض قيادات أخرى على مسار المصالحة مع أوجلان. وبينما يدعم غالبية القادة الأكراد السياسيين في الداخل التركي جهود التوصل لتسوية سياسية شاملة، فإن قادة الحركة العسكريين في الخارج يميلون لأجندة أكثر تشددا نظرا لطبيعة دورهم العسكري لسنوات طويلة وعزلتهم عن المناخ السياسي والاجتماعي داخل تركيا.
توجد أطراف دولية وإقليمية ليس من مصلحتها حدوث مصالحة تركية كردية. فإسرائيل حريصة على استخدام الورقة الكردية لابتزاز تركيا وإشغالها بملفاتها الداخلية، كذلك إيران لديها علاقات وطيدة مع حزب العمال الكردستاني، ولديها نزوع انتقامي من دور تركيا في إسقاط نظام الأسد، وستعمل على الأرجح على دعم المتمردين الأكراد في سوريا وشمال العراق لتقويض النفوذ التركي. كما أن فرنسا لديها علاقات وطيدة مع الأكراد، وترى فيهم ورقة للضغط على تركيا لكبح نفوذها الإقليمي. وبينما يميل الرئيس الأمريكي المنتخب “ترامب” لإنهاء تواجد قواته في سوريا، فإن قيادات في البنتاغون والخارجية والكونغرس ما زالت ترى أهمية لمواصلة الدور الأمريكي في سوريا واستمرار الشراكة مع قسد.
ورغم تلك التحديات، فإن رهان أنقرة على الوصول لتفاهم مع أوجلان وقادة حزب الديمقراطية والمساواة الشعبية، سيساهم في حصار الشخصيات الأكثر تشددا داخل حزب العمال الكردستاني. كما أن التفاهم مع إدارة ترامب بخصوص ملف قسد، وبالأخص في ضوء سقوط نظام الأسد، وشعور قادة قسد بوجود مخاطر محدقة بهم، قد يتيح الوصول لصيغة بدمج قسد في الجيش السوري الجديد، والاتفاق على وقف لإطلاق النار بين تركيا وحزب العمال، مما يسمح بتسوية بعض الملفات الداخلية التركية مثل تعديل الدستور، وتعزيز أسهم تحالف الجمهور الحاكم في مواجهة أحزاب المعارضة التي بدا أنها توشك على الاقتراب من مقاعد الحكم خلال العام الأخير.
المصالحة الكردية في تركيا: هل باتت ضرورة استراتيجية لمواجهة التحديات الإقليمية والداخلية؟
مقاتلون من “وحدات حماية الشعب الكردي” شمال سوريا يرفعون صورة عبدالله أوجلان الزعيم الروحي لحزب العمال الكردستاني/ أرشيفية – Getty
خلفية تاريخية
مبادرة بهتشلي للمصالحة ليست الأولى من نوعها لكنها مختلفة من حيث المضمون، ومن حيث الجهة التي أطلقتها، ومن حيث السياقات المحلية والإقليمية والدولية التي تحيط بها. فبعد اعتقال أوجلان في كينيا، ونقله إلى السجن بتركيا في فبراير/شباط 1999، دعا أوجلان إلى وقف إطلاق النار من جانب واحد، استمر حتى عام 2004، ثم تجدد الصراع بعد الغزو الأمريكي للعراق وترسخ وجود حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل بشمال العراق.
وفي عام 2009، تبنت حكومة العدالة والتنمية مبادرة للمصالحة، تضمنت تدشين قناة تلفزيونية حكومية باللغة الكردية، وسمحت للمدارس والمؤسسات الخاصة بتدريس اللغة الكردية، ووصل مسار المصالحة ذروته بإعلان حزب العمال الكردستاني وقف إطلاق النار من جانب واحد عام 2013 مع حديث أوجلان عن أن “الوقت قد حان لإسكات الأسلحة وللسياسة والأفكار أن تتحدث”.
من جانبها ردت الحكومة التركية آنذاك بإجراءات إضافية شملت منح مساعدات حكومية للأحزاب السياسية التي تحصل على حد أدنى لا يقل عن 3% من أصوات الناخبين مما أتاح منح مساعدات للأحزاب الكردية القائمة آنذاك، ورفعت الحظر المفروض عن الدعاية الانتخابية بلغات أخرى غير التركية؛ وسمحت بإعادة استخدام الأسماء الكردية للقرى والبلدات، وأطلقت سراح آلاف الناشطين الأكراد المحتجزين.
ولكن تبخرت مبادرة المصالحة عام 2015 على وقع انهيار وقف إطلاق النار، ضمن تداعيات سيطرة وحدات الشعب الكردية الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني على المزيد من المناطق في سوريا، واكتشاف أجهزة الأمن التركية عمليات واسعة لتخزين أسلحة داخل تركيا بهدف استئناف المواجهات، والذي حدث بالفعل مع عودة هجمات حزب العمال الكردستاني في الداخل التركي، فاندلع قتال شرس في مدن وقرى جنوب شرق تركيا استمر حتى عام 2017 إلى أن تمكن الجيش التركي من إحكام سيطرته وطرد المسلحين الأكـراد إلى شمال العراق وسوريا.
——————————————
مدة كتابة الدستور بين المنطق والتحديات: كيف ستُدار الدولة؟
2025.01.07
مع انتهاء معركة السوريين بإسقاط حكم عائلة الأسد، بدأت سوريا مرحلة جديدة مليئة بالتحديات يعد ملف صياغة الدستور في طليعتها، باعتباره الركيزة الأساسية لتأسيس نظام جديد يلبي تطلعات الشعب السوري ويضمن حقوقه، بعد سنوات من الاستبداد الذي كرسته عائلة الأسد.
ومع تأكيد قائد الإدارة الجديدة، أحمد الشرع، أن صياغة الدستور الجديد قد تستغرق سنوات، أثير جدل واسع في الأوساط السورية، بين من يرى المدة طويلة وغير مبررة، وبين من يعتبرها ضرورية لصياغة دستور يعكس توافقا حقيقيا بين مكونات الشعب السوري.
يحاول موقع “تلفزيون سوريا” تقديم قراءة حول هذا التصريح من خلال استعراض آراء قانونيين وحقوقيين للإجابة عن السؤال الأبرز: هل المدة التي أعلنها الشرع منطقية ومبررة؟
دساتير سوريا
قبل الخوض في جدلية منطقية المدة التي حددها الشرع لكتابة دستور جديد، لا بد من التوقف عند تاريخ الدساتير السورية، التي تعكس التحولات السياسية والاجتماعية التي مرت بها البلاد منذ استقلالها وحتى اليوم.
ويتجاوز تاريخ الدساتير السورية قرنا من الزمن، شهدت البلاد خلاله 13 دستورا مختلفا، عكست في مضمونها تحولات سياسية واجتماعية، ورغم هذا التاريخ الدستوري الطويل، فإن سوريا خلال حكم عائلة الأسد وعلى مدار 53 عاما لم تشهد سوى دستورين فقط، مما يعكس هيمنة النظام واستبداده.
ويمكن تقسيم دساتير سوريا إلى ثلاث حقبات رئيسية، أولها حقبة ما قبل حكم حزب البعث، بدأت بدستور عام 1920، الذي يعتبر أول دستور لسوريا بعد تأسيس الدولة الملكية عقب انهيار الدولة العثمانية، إلا أن هذا الدستور لم يكتب له الاستمرار، حيث تم إلغاؤه بعد دخول القوات الفرنسية إلى دمشق.
دستور 1930 يعتبر أحد المحطات الدستورية المهمة في تاريخ سوريا، حيث تم إعداده في ظل الانتداب الفرنسي واستند إلى مشروع الدستور الذي أقرته الجمعية التأسيسية في عام 1928، وبقي معمولا به حتى عام 1950.
أما دستور 1950 يُعتبر من أفضل الدساتير في تاريخ سوريا، حيث أقر بعد الاستقلال عن الانتداب الفرنسي وأتى نتيجة لنقاشات مستفيضة ضمن جمعية تأسيسية منتخبة.
وما يميز دستور 1950 أمران الأول أنه صاغه نخبة من أبرز السياسيين وكبار رجال القانون في سوريا، على رأسهم ناظم القدسي الحاصل على دكتوراه في القانون الدولي من جامعة جنيف، والأمر الثاني تميزه بكونه شاملاً ومتقدماً في تنظيمه لشكل الدولة ومبادئ الحكم، ما جعله أساسا يُستند إليه عند كل منعطف تاريخي في سوريا.
وعقب ذلك شهدت سوريا صياغة أربعة دساتير خلال مرحلة الانقلابات العسكرية، وهي دساتير أعوام 1953 و1958 و1961 ودستور 1962.
الحقبة الثانية تمثل فترة حزب البعث ما قبل استيلاء عائلة الأسد على الحكم، حيث شهدت صياغة ثلاثة دساتير رئيسية، إذ أقر دستور عام 1964 من قبل ما يسمى “المجلس الوطني لقيادة الثورة”، بينما جاء دستور عام 1966بعد انقلاب 23 فبراير/شباط العسكري بقيادة صلاح جديد وحافظ الأسد ضد الرئيس أمين الحافظ، واستمر العمل به حتى اعتماد دستور عام 1969.
أما الحقبة الثالثة، فهي فترة هيمنة عائلة الأسد على الحكم، والتي بدأت بدستور مؤقت عام 1971، وأُصدر عقب انقلاب حافظ الأسد على رفاقه في الحزب، وظل نافذا حتى عام 1973، حيث أقر دستور جديد هدفه إضفاء الشرعية على هيمنة نظام الأسد، إذ نص على أن “حزب البعث هو الحزب القائد للدولة والمجتمع”، مما ألغى أي تعددية سياسية حقيقية.
وظل هذا الدستور معمولا به لمدة 39 عاما حتى أجبرت الثورة السورية بشار الأسد على تعديله عام 2012 وإلغاء المادة الثامنة، ورغم هذه التعديلات، اعتبر الدستور الجديد مخيبا لآمال الكثير من السوريين الذين كانوا يتطلعون إلى تغيير جذري يعكس تطلعاتهم للحرية والديمقراطية.
المدة منطقية؟
بعد أيام من سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول الماضي، أعلن المتحدث باسم إدارة الشؤون السياسية التابعة للحكومة السورية المؤقتة، عبيدة أرناؤوط، تجميد العمل بالدستور والبرلمان خلال المرحلة الانتقالية التي ستستمر لمدة ثلاثة أشهر.
وكما هو الحال في انتصار أي ثورة يستدعي تطوير نظام دستوري جديد ينهي سيئات ماضيه وآثامه، يترقب السوريون ملامح نظام الحكم المقبل في البلاد، والذي سيُحدد عبر دستور جديد، قد يستغرق إعداده ثلاث سنوات، وفق تصريحات أحمد الشرع.
وقال الشرع خلال مقابلته الأولى مع وسيلة إعلامية عربية، الأسبوع الماضي، إن”إعداد وكتابة دستور جديد في البلاد، قد يستغرق نحو 3 سنوات، وتنظيم انتخابات قد يتطلب أيضا 4 سنوات”، مشيراً إلى أن “أي انتخابات سليمة ستحتاج إلى القيام بإحصاء سكاني شامل وهذا يتطلب وقتا”.
وأكد قانونيون ومحامون لموقع “تلفزيون سوريا” على منطقية المدة التي أعلنها الشرع، بالنظر إلى الوضع الحالي في سوريا.
ويرى أستاذ القانون الدولي ممتاز سليمان أن الدول التي تشهد ثورات عادة ما تحتاج إلى فترة استقرار تتراوح بين سنة وخمس سنوات، وذلك تبعا لطبيعة البلد وظروف الشعب والمشكلات التي تواجه، وفي الحالة السورية، من المتوقع أن تتراوح هذه الفترة بين سنة إلى ثلاث سنوات، لضمان استقرار الوضع السياسي وإجراء الانتخابات العامة.
واعتبر سليمان لموقع “تلفزيون سوريا” أنه لا يمكن صياغة دستور وتوقيعه بشكل رسمي دون إجراء انتخابات والعودة إلى مجلس الشعب، مشيراً إلى أهمية أن تكون هناك فترة زمنية كافية قبل صياغة الدستور واعتماده رسميا، لضمان مشاركة الشعب في هذه العملية من خلال انتخابات عامة واستطلاع رأيه حول الدستور المقترح.
من جهته، أكد المحامي السوري عارف الشعال أن تحديد مدة ثلاث سنوات لصياغة الدستور يعتبر أمرا منطقيا، خاصة إذا تضمنت العملية انتخاب جمعية تأسيسية، وإجراء مناقشات مكثفة للوصول إلى توافق بشأن النقاط الخلافية.
وفي حديثه لموقع “تلفزيون سوريا”، استشهد الشعال بتجارب دولية تُظهر الحاجة إلى الوقت في صياغة الدساتير، مشيرا إلى أن تونس استغرقت ثلاث سنوات لإعداد دستورها الجديد، بينما احتاجت جنوب إفريقيا إلى ما بين خمس وست سنوات.
مراحل ومخاوف
وحول طريقة إعداد الدستور، أكد الشعال أنه في حال انتخاب لجنة لصياغته فإن هذه اللجنة تقسم عادة إلى عدة لجان فرعية متخصصة حيث تتولى كل لجنة جانبا محددا في الدستور، فهناك لجنة تعنى بشكل الدولة، وأخرى تتولى صياغة المبادئ الأساسية المتعلقة بحقوق الإنسان والحريات، ولجنة تركز على هيكل النظام الحاكم، سواء كان برلمانياً أو رئاسياً، بالإضافة إلى لجان تُعنى بالمجالس التشريعية والمحكمة الدستورية.
أما في حال تم انتخاب جمعية تأسيسية لتولي هذه المهمة، فإن هذه الجمعية تتحمل مسؤولية وضع الآليات والقرارات التي تحدد سير العمل.
بدوره اعتبر سليمان أن عملية إعداد الدستور تمر بمرحلتين الأولى هي المرحلة التمهيدية والتحضيرية عبر لجان مختصة تعمل على كتابة المسودة، تليها المرحلة الثانية وهي عرض المسودة على الشعب للاستفتاء العام، وذلك وفق الأسس الديمقراطية.
ومع اقتراب مرحلة البدء في كتابة الدستور تظهر مخاوف من معوقات قد تعرقل الجهود الرامية إلى كتابة الدستور الجديد.
من أبرز هذه المعوقات، بحسب سليمان، هي الحرب وعدم الاستقرار والتوافق وغياب المؤسسات الدستورية وعدم وجود مجلس شعب وحكومة تمثل كل أطياف الشعب السوري، مشيراً إلى أن المجتمع السوري متناسق فيما بينه ويريد العيش بسلام وأن يكون هناك دستور مدني للجمهورية السورية.
أما الشعال توقع أن تبرز خلافات حادة خلال عملية صياغة الدستور السوري الجديد، خاصة فيما يتعلق بالقضايا الحساسة التي تمس هوية الدولة وشكل نظام الحكم، حيث ستشكل مسألة العروبة والهوية وعلاقة الدين بالدولة محورا أساسيا للنقاشات، إضافة إلى قضايا مثل دين رئيس الدولة ومصادر التشريع.
كما توقع جدلا محتملا حول شكل الدولة ونظام الحكم، حيث قد ينقسم الرأي بين دعاة الفيدرالية، المركزية الواسعة، أو المركزية السياسية، مشيرا إلى أن هذه المسائل المعقدة قد تشكل أبرز العقبات أمام صياغة دستور.
دستور مؤقت؟
مع تعطيل العمل بالدستور الحالي والمدة الزمنية الطويلة لصياغة دستور جديد، يبرز تساؤل محوري حول كيفية إدارة الدولة خلال المرحلة الانتقالية، والأسس التي ستعتمد لتنظيم شؤون الحكم والإطار القانوني الذي سيُرجع إليه في ظل غياب دستور نافذ.
ومن المتوقع أن تشهد سوريا، خلال الأيام المقبلة، مؤتمرا للحوار الوطني يجري التحضير له، وأن تصدر عنه هيئة دستورية لبحث كتابة دستور جديد.
وبحسب تصريحات إعلامية لمنسق مؤتمر الحوار الوطني في سوريا، محمد راسم قنطار، فإن الهدف المركزي للمؤتمر هو “تشكيل مجلس استشاري ذي صفة تشريعية يقوم بصياغة إعلان دستوري وإقراره”.
أستاذ القانون الدولي ممتاز سليمان اعتبر أن الدستور السوري الصادر عام 1950 بعد الاستقلال هو الأنسب للعمل به في الظروف الحالية على أن تقوم الحكومة بالتعديل في بعض بنوده.
ووصف سليمان دستور 1950 بأنه من أفضل الدساتير المميزة في سوريا ويمثل مرجعاً مهماً في صياغة المبادئ القانونية والدستورية، لكن مع إجراء التعديلات التي تتناسب مع متطلبات الحياة والظروف الراهنة التي تختلف جذريا عن خمسينيات القرن الماضي.
من جانبه يرى المحامي عارف الشعال أنه من المفترض أن تقوم الإدارة الجديدة في سوريا بإصدار إعلان دستوري أو وضع دستور مؤقت لتنظيم المرحلة الانتقالية.
وقال الشعال إن “التأخر بإصدار صك دستوري يملأ الفراغ التشريعي الحاصل سيربك عمل الدولة، نظراً لعدم وجود سلطة محددة تتولى عمل المشرع وإصدار التشريعات اللازمة لسير الدولة”.
وأضاف الشعال أن “الإدارة الجديدة تريد وضع إعلان دستوري يمر عن طريق مؤتمر حتى يكتسب شرعية ما، وهذه مسألة طويلة نسبياً، لذلك وحتى ينعقد المؤتمر، يمكن اللجوء مؤقتاً لطريقة حسني الزعيم في سداد الفراغ التشريعي، حيث اتخذ طريقة إصدار مراسيم اشتراعية وجيزة ومتلاحقة بديلاً عن الإعلان الدستوري، منحته كامل السلطات الدستورية، بدأها بمرسوم تشريعي من عدة أسطر تولى بموجبه السلطتين التشريعية والتنفيذية، واستمر على هذا المنوال في تسيير أمور الدولة”.
وأكد أنه لا يوجد مانع أن يصدر أحمد الشرع صكاً، أو عدداً من الصكوك يتولى بموجبها بوصفه قائداً للثورة أو لإدارة العمليات، أو تتولى غرفة إدارة العمليات العسكرية الصلاحيات الدستورية مؤقتاً، بغية تسيير أمور الدولة.
تلفزيون سوريا
———————————
السّعوديّة “احتضان” اللّحظة السّوريّة/ محمد قواص
كانت لافتةً السرعة التي تفاعلت بها السعودية مع الحدث السوري الكبير. لا تردّد، لا تحفّظ، لا تريّث، ولا وقت للتأمّل والانتظار. بعد ساعات من إعلان سقوط النظام السوري السابق وهروب رئيسه، في 8 كانون الأول الماضي، أصدرت وزارة الخارجية السعودية، في ذلك اليوم التاريخي بالذات، بياناً واضح المفردات، حاسم الموقف. أعلنت المملكة احترامها لخيار الشعب السوري، معتبرة أنّه آن الأوان لينعم بالحياة الكريمة التي يستحقّها، معربة عن “ارتياحها” للإجراءات التي اتُّخذت لضمان سلامته وحقن الدماء والحفاظ على مؤسّسات الدولة السورية. وقفت بقيّة عواصم الدنيا مذهولة أمام حدث دمشق وبيان الرياض.
لا تفصح مصادر السعودية عن المعطيات التي كانت تمتلكها ودفعت بالرياض لاتّخاذ موقف يكاد يكون، منذ اللحظات الأولى لحدث التحوّل السوري الكبير، حاضناً ومواكباً. وإذا ما عجز المحلّلون عن العثور على لغط ما بين السطور، وتوسّل آخرون مصادفة وجهة نظر أخرى ثنائيّة الأوجه، فإنّ تسونامي الإعلام السعودي، بمراسليه وموفديه ونجومه، صوب دمشق ومناطق سوريا الساخنة، أفصح عن قرار من أعلى المستويات بالحضور المكثّف داخل هذه اللحظة التاريخية النادرة.
المواكبة الحاضنة ليست نقيضاً للحذر والقلق. استنتجت الرياض توجّس بعض العواصم العربية والدولية، وقرأت قلقاً مبرّراً لبعضها. شاركت السعودية مع المجموعة العربية في اجتماع العقبة، في 14 كانون الأول الماضي، في التعبير عن قلق وإصدار بيان من 17 بنداً يمثّل مطالعة من قواعد وتوصيات وشروط موجّه للإدارة السورية الجديدة. في متن البيان ما كانت أوصت به أيضاً منابر دولية كبرى، الولايات المتحدة والاتّحاد الأوروبي وجها المنظومة الغربية الأطلسيّان، وما صدر بهذا الصدد عن مجلس الأمن الدولي.
لا شيء غامضاً في الشّرع
لا شيء غامضاً في هويّة أحمد الشرع و”هيئة تحرير الشام” التي يقودها. يشغل الرجل وتنظيمه مراتب على لوائح الإرهاب، وهو واقع تعرفه كلّ عواصم الدنيا بما فيها الرياض. أنصتت المملكة إلى خطاب جديد لزعيم هذه “الجماعة” يَعِد بالانتقال من منطق “إدلب” إلى منطق سوريا، ومن حقبة الثورة إلى حقبة الدولة.
المواكبة الحاضنة ليست نقيضاً للحذر والقلق. استنتجت الرياض توجّس بعض العواصم العربية والدولية، وقرأت قلقاً مبرّراً لبعضها
لا شيء غامضاً في ما عرفه العالم خلال 54 عاماً عن نظام عائلة الأسد، الذي خطف البلد نحو أجندات ارتبطت بطهران، فيما خزائن التاريخ تفرّغ كلّ يوم حمولتها الدموية الكئيبة.
لا شيء غامضاً في “لعبة الأمم” التي عبثت بسوريا، وجعلت راهنها ملعباً أساسيّاً ومحوراً مفصليّاً داخل إمبراطورية الوليّ الفقيه في إيران، وطريقها من طهران إلى بيروت ومن طهران إلى قلب الخليج. وفي تلك القراءة أدركت الرياض باكراً ماذا تعنيه اللحظة السوريّة للشرق الأوسط.
قيل إنّ تواصلاً مبكراً جرى منذ الساعات الأولى للحدث بين قائد الإدارة الانتقالية في سوريا، أحمد الشرع، ومسؤولين في الرياض. قيل أيضاً إنّ دبلوماسية تركيّة نشطة كانت دائمة التشاور والتنسيق منذ أشهر مع القيادة السعودية بشأن سوريا، فبدّدت في المملكة أيّة مخاوف مسبقة من لحظة سوريّة كبرى.
الرّياض تلقّفت حجم التّحوّل
بدا أنّ الرياض استنتجت حجم التحوّل الجيوستراتيجي الكبير في كلّ المنطقة، ولم تتأخّر في الإدلاء بدلو يجعله واقعاً ونهائيّاً. طوت الرياض صفحة خمسة عقود من تاريخ سوريا، وعجّلت في فتح صفحة جديدة قرّرت أن تشارك في صنعها وتؤكّد حقيقتها الحتمية.
السعودية
أدرك الشرع وإدارته بدقّة ما الذي يعنيه الموقف السعودي لحراك سوريا. فلا تطوّر نحو الإيجابية والتعاون من قبل الحاضنة العربية الكبرى من دون رعاية الرياض وقيادتها. ولا تغيّر نوعيّاً وجدّياً في موقف المجتمع الدولي من دون أن ترفع الرياض ساتراً حامياً للتحوّل السوري ومظلّة راعية للحدث. أطلق رجل سوريا القويّ رسائل الودّ إلى المملكة مبدياً إعجاباً بنموذج السعودية ورؤيتها في التنمية والاقتصاد، مثنياً على مواقفها الإيجابية تجاه التحوّل في بلده، مبشّراً بخصال ذلك التحوّل في توفير أمن طويل الأمد للمنطقة والخليج.
أحرقت السعودية المراحل. قدّم قائد الإدارة الانتقالية في سوريا مطالعاته “المطلوبة” عربياً ودولياً، من خلال الإعلام السعودي
ظهر أنّ تخاطباً حثيثاً جرى خلف الكواليس بين المملكة والولايات المتحدة بشأن الحدث السوري. وقد لا يكون صدفة أنّ تزامناً جرى بين تواصل واشنطن مع الشرع في 20 كانون الأول عبر وفد زار دمشق برئاسة بربرا ليف، مساعدة وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى، وبين تواصل الرياض معه في 22 من الشهر نفسه بعد 8 أيّام من صدور “دفتر شروط” العقبة، عبر وفد زار العاصمة السورية رأسه مستشار في الديوان الملكي يفصح عن اهتمام من أعلى هيكل الحكم في المملكة.
إحراق المراحل
أحرقت السعودية المراحل. قدّم قائد الإدارة الانتقالية في سوريا مطالعاته “المطلوبة” عربياً ودولياً، من خلال الإعلام السعودي أوّلاً، بعد إطلالات استكشافية أولى من الـCNN الأميركية و الـBBC البريطانية. رفعت المملكة مستوى التواصل إلى مرتبة سياسية، في 30 كانون الأول، بدعوة وجّهها وزير الخارجية فيصل بن فرحان إلى وزير الخارجية في الحكومة السورية الانتقالية أسعد الشيبان لزيارة الرياض.
لبّى الوزير السوري الدعوة على رأس وفد ضمّ وزير الدفاع مرهف أبو قصرة، ورئيس جهاز الاستخبارات العامة أنس خطاب، في أوّل يوم من هذا العام. أطلق من العاصمة السعودية جرعة جديدة تطمئن العالم والسوريين بحكم تمثيلي متعدّد شامل، وتطمئن العالم العربي بقيم واعدة تستجيب لوصايا العقبة. افتتحت دمشق الجديدة وجهتها الخارجية الأولى في الرياض. ومن بوّابة العاصمة السعودية انطلق الوزير ووفده نحو قطر والإمارات والأردن، داخل حاضنة عربية تستعيد سوريا المختطفة منذ عقود.
أساس ميديا
————————-
ذاكرة مصرية “شبه متخيّلة” و”مختزلة أحيانًا” عن محاولات عودة الروح السورية/ بسمة المهدي
لا لهدم الذكريات
“حفرت سوريا تحت حكم الأسد مكانها في ذاكرتي عبر قصص السوريين والسوريات الذين مروا بحياتي على مدار السنوات الست الماضية، محمّلةً بتناقضات الحياة والموت، المقاومة والمراوغة” أنا التي “لم أكن أعلم وقتها أن ذاكرتي عن مصر في تلك الفترة كانت (مصدومة)”. هذا ما تقوله الصحفية والكاتبة المصرية بسمة المهدي في هذا النصّ الذي ينقلنا بين سوريا ومصر/ دمشق والقاهرة، وبرلين أيضًا، بدءًا من لحظة سقوط نظام الأسد والأيّام التالية له، ليعود بنا إلى الماضي فالحاضر، بكلّ ما يحملان من ألم وأمل وذاكرة ونضال مشترك يروم مستقبلًا تظلّله العدالة.
07 كانون الثاني 2025
صحافية حرّة وباحثة إعلاميّة مصريّة، مقيمة في برلين.
اليوم ال 8894 من حكم بشار الأسد في سوريا، واليوم 412 من الإبادة الإسرائيلية لسكان قطاع غزّة
“كيف يحافظ السوري على عقله في هذا الجنون؟ مستوياتٌ غير مدركة من الجنون! كيف يحافظ الإنسان عمومًا على عقله في هذا الجنون؟”
بهذا السؤال الاستنكاري ختم المفكّر اليساري السوري، ياسين الحاج صالح مداخلته في أمسية ثقافية برلينية في الثاني والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر، حيث جلستُ ليلتها بين كومةٍ من الكراسي الخالية، إلا من عددٍ قليلٍ من الحضور الذين جاؤوا للاحتفاء باقتراب الذكرى الأربعين لرحيل الأديب اللبناني إلياس خوري. كان الصحفي والأكاديمي والروائي فارق الحياة عن عمر ناهز السادسة والسبعين، قبل أيّام قليلة من توسّع حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ سكان قطاع غزة، وامتداد العمليات العسكرية إلى لبنان، تحديدًا في الخامس عشر من أيلول/ سبتمبر.
“في تلك اللحظة من الحضيض السياسي”، كما وصفت الباحثة الفلسطينية همّت الزعبي، حاولت “شبكة فبراير” وموقع “الجمهورية” السوري تسليط الضوء علي إرث خوري الثقافي والنضالي الذي قدّم نموذجًا في توثيق ذاكرة النكبة الفلسطينية الموجودة خارج دفاتر التاريخ الرسمي على لسان معاصريها باستخدام تقنيات التاريخ الشفهي. وجاءت أعماله الأدبية كما وصفه المتحدثون “لتقدم نموذجًا عضويًا يربط بين فلسطين ولبنان وسوريا كمنطقة عابرة للجغرافيات في نضالها ضدّ استبداد الحكم البعثي والاحتلال الإسرائيلي”، مستطردين بوصفها ك “منطقة أكبر من الاختزال تحت كلمتي الشرق الأوسط”.
الساعات الأول: سوريا بدون الفارّ – “الأبد خلص”
كان المنشور المُتداول على وسائل التواصل الاجتماعي، والذي كتبه الحاج صالح، مصحوبًا بصورة زوجته سميرة الخليل، والناشطة والمحامية رزان زيتونة، ونشطاء آخرين مؤيّدين للثورة السورية، والذين اختطفوا نهاية العام 2013. كان ذلك أوّل ما قرأت على وسائل التواصل في الساعات الأولى من تداول الخبر الحُلم؛ المستحيل.
على مدار الأيّام العشرة السابقة لتحقّقه٬ عايشتُ حالة انتظار يغلب عليها عدم تصديق إمكانية تحقّقه. من غرفة معيشتنا في برلين، كان زوجي السوري يقضي ليالي أرقه أمام التلفزيون، وعبر الهاتف في مكالماتٍ ورسائل متبادلة، متابعًا تحرير مدينة سورية تلو الأخرى من قبضة نظام بشّار الأسد مذهولًا من تسارع الأحداث، ومذعورًا من “تقسيم البلد” التي لم تطأ قدماه أرضها منذ عشر سنوات. وكان عليه مثل ملايين من السوريين/ات في منافي ما بعد ٢٠١١ التحايل على طوفان ذكريات الوطن، الحارة وبيته، ومحاولة تناسي استحاله زيارته، تحت حكم الاسد٬ هذا ما صارحني به لأوّل مرة عندما احتضنني وبكينا مع تأكّد الخبر: “بشار هرب!”.
كانت هذه الكلمة الأولى والأخيرة التي تردّدت في اللحظة ذاتها على لسان شابين سوريين تقدّما بخطواتٍ متسارعة نحو بعضهما قبل أن يشتبكا في عناقٍ طويل، ويبدآا بالنحيب، نحيب أسمعه من موقعي المجاور لهما، الذي سأبدو فيه من طائرة درون كنقطةٍ صغيرة تتوسّط ميدان أورانينبرغر بلاتز، وسط مدينه برلين، يمكن تمييزها فقط، ضمن بحر شاسع من البشر المُحتشدين حاملين أعلام الثورة السورية، عبر علمي المصري الذي يتدلى على ظهري.
لم أكن المتطفّلة الوحيدة على آلاف السوريين/ات الذين فاضت بهم شوارع برلين، سواء على الأقدام أو في مواصلاتها العامة أو في سيارات خاصة تطلق أبواقها، احتفالًا بالنصر٬ وتصدح من أجهزة الكاسيت فيها، أغاني عبد الباسط الساروت.
“أنا عشت في سوريا لثلاث أعوام”. عبارة سمعتها بالإنجليزية تقولها شابة شقراء لمرافقتها، أثناء مرورهما قربي في أحد الشوارع الجانبية القريبة من مكان المظاهرة. وبالألمانية أكّد رجل خمسيني لمحدّثه ” يعيش في ألمانيا أكثر من مليون سوري”.
بدت برلين بحق في ذلك اليوم أقرب ما يكون إلى اسم صفحة فيسبوك “عاصمة السوريين في ألمانيا، وعندما أشير إلى السوريين في الشتات فأنا أعني “الفسيفساء السوري”، التعبير الذي وظّفه الأسد في خطاباته الملوّحة بالطائفية في حربه ضدّ الإرهاب وسخر منه السوريين مرارًا في أحاديثي معهن بدءًا من مجموعة السيّدات المُحجبات اللاتي التقيتهن في المترو، وبادلوني التهاني والابتسامات ب “مبروك للمسلمين جميعًا”، إلى إحدى معارفي، وهي خبيرة منظمات مجتمع مدني، تنتمي لمجتمع الميم. منتفخة الوجه، احتضنتني في منتصف الشارع قائلة: “ما عاد حدا يقول السوريين ما يقدروا على شي”.
وعند الوصول إلى الميدان، حيث توافد المنتشون والمشتاقون إلى فرحةٍ غامرة كهذه، وجدت نفسي أتحرّك كنقطةٍ تكاد لا تُرى وسط آلاف السوريين/ات الذين شكّلوا دوائر متقاطعة. في كلّ دائرة، كانت الأصوات ترتفع بأغانٍ وهتافات تحمل طابعها الخاص . في إحداها، هتافات علي رقصة الجوفية المألوفة في الجنوب السوري وشبه الجزيرة العربية تصدح بقوّة، فأتركها وأتجه إلى أخرى. هناك، يردّد شبان على الأكتاف بصوت عال: “يلعن روحك يا حافظ”، ذلك الهتاف الذي طالما سمعته في مظاهرات مساندة لحراك السويداء الذي اندلع في آب/أغسطس 2023 . وفي دائرة أخرى، تردّد الجموع بصوتٍ واحد: “أرفع راسك فوق.. أنت سوري حر”.
ما بدا غير مألوف لي، كمصرية متطفلة، كان أمرًا لا تكاد تصدقه آذان مرافقيّ السوريين: أغاني الثورة السورية، “جنة جنة” لعبد الباسط الساروت يدندنها شباب مراهقون بملامح عربية ولكنهم يتحدثون فيما بعضهم بالألمانية وهم يهمون بمغادرة عربة المترو، و”يا حيف” لسميح شقير، تُبث علنًا في شوارع برلين، وتُعرض على شاشاتِ المطاعم بينما ننتظر وجباتنا الساخنة في نهاية يوم الاحتفال. بالنسبة لهم، كانت تلك اللحظة أكثر من مجرّد احتفال؛ كانت إعلانًا صاخبًا باستعادة سوريا، وإن كان بشكل رمزي.
وفي طريق عودتي إلى منزلي، كنت أتابع منصّات التواصل الاجتماعي لأجد منشورًا للكاتبة السورية المقيمة ببرلين، على فيسبوك. وهو ما تردّد صداه في اقتباس من حديث الكاتبة السورية الإيرلندية سعاد الدرة لصحيفة آيريش تايمز، قالت: “في تلك اللحظة، أدركت أننا لم نعد لاجئين أو نازحين. نحن أحرار ولدينا وطن نعود إليه، ونري أطفالنا أن سوريا ليست مكانًا خياليًا.”
اليوم الخامس: سوريا بدون الفارّ – “العودة إلى الحياة”
تجاورت وتتابعت هذه الكلمات الثلاث في محاولة لاختزال لحظة احتشاد عشرات الآلاف من السوريين في وضح النهار، تحت شمس دمشق الساطعة، مشكلين دائرة في ساحة الأمويين وخلفهم جبل قاسيون الشامخ. جاء ذلك الوصف مصاحبًا لصورة متداولة على فيسبوك للمحتشدين في العاصمة السورية. كنت أقرأ تعليقًا على تلك الصورة: “عنجد رجعت لنا الروح”.
بينما كنت أستغرق في قراءة التعليقات، وصلني أخيرًا ردًّا على رسالتي للاطمئنان على إحدى معارفي في دمشق، شابة في منتصف العشرينات . التقيتها في رحلتي الأولى إلى سوريا قبل عام ونصف، وعرفت قصّة نزوح عائلتها من إدلب إلى السويداء، وكيف كانت تحاول أن تبدأ من جديد كطالبة سنّية ترتدي الحجاب في مدينة ذات أغلبية درزية، قبل أن تنتقل إلى دمشق لمتابعة دراستها الجامعية والعمل: “مسا الخير يا بسمة.. آسفة والله بس احتفالات.”
اليوم الثاني: سوريا بدون الفارّ – طلة على جحيم “الآخرين”
كنت قد غادرت للتو غرفة مكتبي في استراحة قصيرة من متابعة التعليقات المتدافعة على فيسبوك من عدد من معارفي المصريين، تعقيبًا على مظاهر الفرح الغامرة للسوريين/ات في ربوع الأرض، داعين إلى التشاؤم من مستقبلٍ يحكمه الإسلاميون، في بلد سيُقسَّم طائفيًا كجيرانه العراق ولبنان، كما عبّر أحد الصحفيين: “أخيرًا رحل بشار… لكن المستقبل في سوريا ضبابي”.
دفعت باب غرفة المعيشة حيث لم تنفض خيمة الثورة التي كان قد نصبها شريكي السوري أمام شاشة التلفزيون مع تقدّم قوات “ردع العدوان”، واستمرّت بعد هروب بشّار الأسد، فإذا به يصرخ في وجهي للمغادرة: “مش هتستحملي تشوفي الصور دي”، في إشارة منه إلى التغطية الإعلامية المباشرة من قاع الجحيم المعروف بسجن صيدنايا. في محاولة مني لتخفيف وطأة اللحظة، مزحت قائلة: “ما أنت عارف، يا ما دقت على الرأس طبول”.
وإن كنت بالطبع لم أشهد في عملي الصحفي الميداني في مصر بين ٢٠١١ و٢٠١٦ شيئًا مشابهًا، إلا أنّ تحذيره لي من أثر الصور والشهادات المتدفقة من صيدنايا أعادني بالذاكرة لأكثر من خمسة عشر عامًا إلى الوراء، تحديدًا في التاسع من تشرين الأول/ أكتوبر 2011.
أرى أمام عيني الآن تلك الصحفية المستجدة ذات الثانية والعشرين عامًا، القادمة من الأقاليم، التي مضى بضعة أشهر على التحاقها بواحدة من أكبر الصحف المصرية الخاصة في القاهرة. كانت تجلس أمام اللابتوب على طاولة ممتدّة تأخذ شكل الغرفة المربعة، وعلى يمينها وعلى يسارها صحفيون/ات، وظهرها لغرفة أخبار تعجّ بالمحرّرين المُمسكين بهواتفهم لمتابعة الأخبار الواردة من المراسلين على الأرض، عن الأقباط المتجمهرين في محيط مبنى الإذاعة والتلفزيون الحكومي (ماسبيرو) بوسط القاهرة، للتنديد بالاعتداءات المتكرّرة على الكنائس.
في محاولة لربط الكلمات المتناثرة على ألسنة المحرّرين، مستعيدين ما ينقله المراسلون على الجانب الآخر من خطوط الهواتف المحمولة في تغطيّةٍ آنية للأحداث، حيث تحوّلت مظاهرة سلمية لاشتباك مع قوّات الجيش٬ بدأتْ تتصفّح وسائل التواصل الاجتماعي. رأيت صور ومقاطع فيديو لجثث وأشلاء بشر وآثار دماء على الجدران، في محيط المبنى الضخم المطلّ على كورنيش النيل الذي وطأته قدماي مرّة أو مرّتين في رحلةِ بحثٍ عن فرصة للعمل الصحفي قبل 2011.
ركلة في المعدة واختناق في النفس، هذا ما شعرتْ به قبل أن تُسرع إلى الحمّام للتقيؤ. لكن لم أتقيّأ حينها، ولا بعدها، رغم كلّ مشاهد العنف التي تلاحقت في مصر بعد 2011، كصحفية أو كمواطنة. في ذلك الحمام الرخامي الفاخر، ابتلعت “صدمتي” ابتلاعًا وعدت إلى غرفة الأخبار أزاحم صحفيين آخرين للفوز بتصريحات عاجلة من محللين سياسيين وناشطين ثوريين للتعقيب على الأحداث٬ التي سُجّلت في تاريخ ويكيبيديا، مرّة تحت “مذبحة ماسبيرو” ومرّة أخرى تحت “أحداث ماسبيرو”. في كلتا الحالتين راح ضحيتها ثمانية وعشرين قبطيًا، تمّ التوثّق من أنّ اثني عشر منهم قتلوا دهسًا بمدرعات الجيش، وسبعة بطلقات نارية في الصدر أو الرأس، فيما أصيب مئتي شخص.
اليوم الخامس: سوريا بدون الفارّ – “السوريون سبق صحفي!”
منذ تتابع الأخبار عن جحيم الأسد تحت الأرض من اليوم الثاني لفراره إلى روسيا، لا أتذكر أننا أغلقنا شاشة التلفزيون المعلّقة على حائط غرفة المعيشة على مدار الأيام التالية، إلى أن شاهدت تقرير مراسلة قناة الحدث، متجولةً في زيّها الأسود المتأنّق بكعب عالٍ كالمسمار، تزيح من طريقها باقي الملابس الرثّة للمعتقلين المفترشين الأرض والمعلّقة على حوائط الزنزانة!
تلك “الجولة الحصرية لقناة العربية داخل أحد سجون الأسد” أعقبها تقرير آخر من أمام صيدنايا مع معتقلين سابقين، حيث يسألهم المراسل السوري في ملابسه الشتوية المتواضعة، “أن يصفوا له بشكل دقيق كيف كانت تجربتهم في التعذيب”.
سوريا التي كانت قُمقُمًا مغلقًا لسنوات أمام الإعلام العربي والغربي، باستثناء قلّة من المراسلين الحربيين، تحوّلت بين ليلةٍ وضحاها إلى “مكة”، فأصبحت شوارعها ومدنها المحرّرة من قبضة الأسد محجًا لعدد لا يُحصى من “مراسلي الباراشوت/المنطاد”، الذين كنت علمت بوجودهم واندثارهم في سوق الصحافة الدولية من محاضر بريطاني ومراسل سابق لبي بي سي أثناء دراستي ماجستير لصحافه الحرب والنزاع في بريطانيا قبل سنوات، ولكن ها هم يهبطون فجأة لتغطيّة “القصّة السورية”٫ ليتوارى الصحفيون/ات السوريون/ات المحليين إلى كواليس صناعة القصّة السورية، بعد أن خاطروا بالكثير لإخبار العالم بما يحدث منذ 2011، كما قال الصحفي السوري حسام حمود.
“أخذوا كل شيء بين ليلة وضحاها. غمرت وسائل الإعلام الأجنبية الساحة، وبدأت تكتب عن سوريا وكأنّنا لم نكن موجودين. وكأنّ سنوات تضحياتنا لم تكن تعني شيئًا”، كما أخبرت واحدة من الصحفيات السوريات حمود.
وهو ما استفز الكاتبة السورية/الإيرلندية سعاد الدرة فنشرت يوم الثاني عشر من كانون الأوّل/ديسمبر، على حسابها على إنستغرام منشورًا بالإنجليزية، جاء بمثابة بيان للردّ على طلباتِ الصحفيين/ات الذين تهافتوا عليها خلال الأيّام الخمسة الماضية. جاءت طلباتهم ضمن ثلاث موضوعات لا يحيدون عنها: السجون، والعودة إلى سوريا، والجهاديون/داعش.
استهلت الدرة منشورها: “لطالما استخدمت صوتي الحر وقلمي لأشارك القصص المهمة وأغيّر السرد. لقد اعتدت على جميع أنواع ردود الأفعال أو الأسئلة التي قد تكون عنصرية أو غير حسّاسة أو ساذجة. ولكن مؤخرًا، ومنذ التطوّرات المذهلة الأخيرة في سوريا، تلقيت العديد من الطلبات الإعلامية بطريقة لا يمكن وصفها إلا بأنها غير مهنية.”
واختتمت منشورها، الذي عنونته بـ “السوريون ليسوا سبقًا صحفيًا”، قائلة: “إذا كنتم تبحثون عن سوري عشوائي لإنهاء مهمتكم لهذا اليوم، فأنا لست متاحة. ولا، لن أوصلكم بسوري آخر للرد عليكم.”
على بعد أميال من سوريا المنشغلة حاليًا بسؤال الانتقام والعفو والعدالة الانتقالية من المتواطئين مع عائلة الأسد لإحكام قبضتهم على الشعب لعقود، كانت صديقتي السورية، التي وُلدت لعائلة علوية في إحدى القرى المجاورة لمسقط رأس حافظ الأسد، القرداحة، تواجه إرثًا ثقيلًا في قلب برلين، بين زملاء مقاعد الدراسة السوريين في جامعتها.
“تريدين الآن أن تكوني ناقدة؟”، حسم هذا السؤال الاستنكاري على لسان أحد زملائها السوريين/ات نقاشًا محتدمًا حول تقرير بثته قناة سي إن إن، يُظهر الإفراج عن معتقل سوري زُعم أنه ضحيّة النظام. صديقتي، التي أبدت تشكيكًا في صحة التقرير، عُدّت على الفور مدافعة ضمنيًا عن النظام. تبيّن لاحقًا أنّ التقرير مفبرك، وأن السجين كان عنصرًا في أجهزة أمن النظام.
صديقتي، التي تقضي سنواتها الثلاثينية وسط محاولات متواصلة لإعادة بناء حياتها بعد رحلة لجوء خطيرة إلى ألمانيا، قالت لي: “المفروض ندفع الضريبة مرتين”! في إشارة إلى معاناتها الشخصية؛ نبذها وسط الطائفة العلوية بسبب انتماءات والديها الشيوعيين وسجنهم، ومواجهة أفراد عائلتها المتبقين في سوريا تهديدات واستفزازات مشابهة بسبب خلفيّتهم الطائفية مثل ما حدث مؤخرًا مع آخرين من الطائفة العلوية.
وأضافت: “كنت أعتقد أنه بذهاب الظلم، ستصبح القصص أوضح!”. وبعد لحظة من الصمت، قالت: “أفهم طبعًا عندما تتسبّب لهجة ما لك بعقدة نفسية”، في إشارة إلى اللهجة العلوية المميّزة، التي باتت رمزًا للخوف أو الكراهية لدى كثيرين من السوريين/ات.
العام الأوّل: مصر بدون مبارك، “لا لهدم الذكريات”
(بطاقة بريدية حصلت عليها أثناء حضور ندوة أُقيمت في مبنى الجامعة الأمريكية بوسط القاهرة حيث حفلت أروقتها بالعديد من الفاعليات الثقافية حول تداعيات ثورة يناير تظهر فيها صورة للمقرّ الرئيسي المُحترق للحزب الوطني الحاكم، بعدسة المصور محمود خالد. على الجانب الآخر من التذكار، عبارة “لا لهدم الذكريات”)
العام التاسع : مصر بدون مبارك، شعب مصدوم
كنت أجلس أمام شاشة اللابتوب في غرفتي ببرلين، في جلسةِ علاجٍ نفسي عبر الإنترنت تموّلها منظّمة دولية تعمل في مجال حماية الصحفيين. أوضح لي محدّثي اللبناني أنّ الحادثة التي وقعت قبل ثماني سنوات، والتي شهدتها عن بعد من غرفة الأخبار، محفورة بوضوح في ذاكرتي لأنها من المرّات التي تعرّضت فيها لما يُعرف بـ “صدمة بالإنابة” بسبب عملي الصحفي، أو كما تُسمّى بالإنجليزية “vicarious trauma”.
وكحال الكثير من الصحفيين والمواطنين في مصر بعد 2011، تراكمت تلك الذكرى مع ذكريات أخرى، بعضها عشناه بشكلٍ مباشر، وبعضها شهدناه عبر عدسات الكاميرا وشاشات الكمبيوتر. كلُّ حدثٍ، وكلُّ مشهدٍ، وكلُّ قصّةٍ نوثّقها كانت تضيف طبقة جديدة إلى ذاكرةٍ جماعية مُثقلة بالصدمة. هذه الذاكرة التي تخصّ مصر، وجيلنا، والصحافة في تلك الفترة، تتأرجّح بين نقيضين: “ذكريات حاضرة بكلّ تفاصيلها أو “فقدان ذاكرة تام”.
كان هذا التوصيف الذي سمعته في سياقٍ مختلف تمامًا، عندما استمعت إلى سيدة سورية، في حزيران/يونيو 2023، تتحدّث عن محاولات إعادة بناء ذاكرتها وذاكرة خمس سيدات أخريات عن تهجيرهن من قراهن ومدنهن في ريف دمشق، من داريا، والزبداني، ومضايا. تحدّثت عن تفاصيل حياتهن اليومية المفقودة، وكيف كان شكل بيوتهن قبل التهجير. وجدت هذه القصص طريقها إلى مطبوعة تحمل عنوان “عدالة المكان”، مصحوبة برسومات تُعيد بناء البيوت كما يتذكرنها، من إنتاج المنظمة النسوية السورية، “المرأة الآن”. كانت هذه إحدى محاولات السوريين/ات المتنوّعة للتعامل مع الصدمات الناتجة عن سنوات الحرب والتهجير، وهي محاولات صادفتها منذ أن وضعت قدمي في برلين في صيف ٢٠١٧، بعضها اتخذ شكل جلسات حكي وفضفضة جماعية.
على النقيض، لم أشهد محاولات مشابهة في مصر قبل مغادرتي خريف 2016. والأهم أنني لم أكن أعلم وقتها أنّ ذاكرتي عن مصر في تلك الفترة كانت “مصدومة”، ذاكرة بدأت من مدينتي الصغيرة في دلتا النيل، حيث شاركت كمواطنة في مظاهرات الأيّام الثمانية عشر، بعيدًا عن أضواء ميدان التحرير، ثم امتدّت إلى القاهرة كصحفية ميدانية من آذار/مارس 2011، وحتى مغادرتي.
ذاكرتي “المصدومة” عن تلك الحقبة ليست تعيسة تمامًا، لكنها تقتصر على النقيضين. لا توجد منطقة رمادية فيها. كما لو أنّ الحياة صبغت نفسها بلونين فقط: نشوة النصر، أو كما وصف لي الصحفي المصري المقيم في برلين أحمد رجب تجربته في إحدى أهم الصحف المصرية آنذاك “نحن في لحظة كنا فيها أقوياء جدًا ولمسنا سقف العالم كله” ثم علقم الهزيمة والغضب.
أما المجتمع المصري، بعيدًا عن الصحافة والصحفيين، فقد كان يمرّ هو الآخر بحالة من الصدمة، وفقًا لتحليل المؤرخ المصري خالد فهمي الذي التقيته في خريف العام 2018 على هامش فعالية نظمها بيت ثقافات العالم (HKW) في برلين، لمناقشة علاقة الأرشيف بالثورات العربية. في حوار أجريته مع الرئيس السابق للجنة توثيق الثورة المصرية لصالح موقع “المنصّة” المصري، شرح فهمي أنّ تعامل النظام المصري وقطاع من الشعب مع ثورة يناير وكأنها لم تحدث يمكن فهمه ضمن سياق الصدمة. وأوضح أنّ المجتمعات التي تمرّ بصدمة تميل إلى التجمّد والتظاهر بأنّ الألم غير موجود، لأنّ مواجهة مصدر الألم بشكل مباشر تكون أشدّ قسوة من قدرتها على التحمّل.
فهمي حدّد مصدرين رئيسيين للألم في علاقة المصريين مع ثورة يناير: الأوّل هو تضرّر المصالح المالية والتجارية لقطاع كبير من الشعب، وهو ما عمدت الدولة إلى “تعظيمه وتكبيره”. أما الثاني، فهو اكتشاف اختلافات عميقة بين أفراد المجتمع نتيجة الانفتاح في المجال العام بعد الثورة. “الناس تحدثت وعبّرت عن آراء لم تكن تُسمع قبل ذلك من كل الأطراف”، قال. هذا الخوف من الاختلاف، برأيه، أعاق قدرتنا على رؤية القواسم المشتركة بيننا، رغم أنّ المجتمع المصري يتمتع بدرجة عالية من التجانس مقارنة بدول المنطقة مثل لبنان وسوريا وليبيا. لكن، وكما أشار فهمي، هذا التجانس لم يكن كافيًا
“مظاهرات حاشدة ضدّ الأسد”، و”الكيماوي ضدّ المدنيين”، و”الحرب الأهلية”، و”القضاء على داعش”، و”أزمة اللاجئين”؛ هذه العناوين، وغيرها الكثير، تبادلت موقعها أسفل شريط الأخبار العاجلة على التلفاز، سواء على قنوات عربية أو دولية، مصحوبة بصور تهزّ الابدان. تلك العناوين والصور شكّلت ذاكرتنا، كأناس غير قادمين من سوريا، عن البلد خلال السنوات الأربعة عشر الماضية. كلّ منها يمثّل فصلًا مهمًا في قصّة سوريا بعد 2011، إلا أنها توارت سريعًا خلف عناوين جديدة. دون الحاجة إلى نبوءاتِ العام الجديد، ستلحق بها قريبًا أحداث جلل أخرى، مثل “فتح صيدنايا”.
كما هي الحال مع التغطية الإعلامية للقصّة السورية، غالبًا ما تضيع قصص شعوب منطقتنا وسط الأحداث التاريخية الكبرى، أو تُختزل بتعقيداتها في كلمتين مثل “الربيع العربي”، و”الانقلاب العسكري”، و”الانتفاضة الفلسطينية”، أو مؤخرًا “السابع من أكتوبر”. لقد عايشت ذلك بنفسي كمواطنة مصرية شاركت في مظاهرات الأيّام الثمانية عشر، عندما وضعتنا التايمز الأمريكية على غلاف مجلتها “الجيل الذي يغيّر مصر”، وقمت به كصحفية في تغطية لحظات مشتعلة مثل اعتصام رابعة العدوية، وحدث لي كعربية مهاجرة، عندما جلست أمام شاشات التلفاز الألمانية في برلين أتابع تغطيتها لحرب الإبادة على غزّة.
ما أدركته لاحقًا أنّ جزءًا من هذا التفاعل السطحي يعود إلى ما كنت أعيشه في غرف الأخبار قبل خمسة عشر عامًا، عندما لم يصرخ أحد من زملائي من هول ما رأيناه من صور أحداث ماسبيرو. الأخبار كانت تصل إلينا وكأنّها “آلام تحدث للآخرين”، علينا تسجيلها وتحويلها إلى أرقام مجرّدة: “قتلى ومصابون” في سباق محموم مع مواقع إخبارية أخرى على سرعة النشر. العبارة التي فسّرت شعوري حينها لم أجدها إلا بعد سنوات، في شتاء 2017 في مكتبة جامعتي البريطانية٬ حين كنت أطالع كتابًا مقرّرًا في تخصّصي في تغطية الحرب والنزاع للصحفية الأمريكية سوزان سونتاغ “عن آلام الآخرين”.
لم أكن أدرك ذلك حينها؛ كنت داخل الحدث، الخبر الذي أغطيه، وداخل الحدث الأكبر، مصر بعد 2011. لكن لم أخرج من ذلك الحدث الكبير حتى بعد مغادرتي مصر في 2016، حملت في حقيبة سفري قصاصة نيويورك تايمز مع ذكرياتي المصدومة ولم أفتحها إلا عندما التقيت السوريات في برلين في حلقه سلام للدعم النفسي للمهاجرات العربيات في 2018. حينها بدأت رحلة ممتدّة من محاولات عدّة لعودة روحي إلى جسدي: أشعر بكلّ ما لم أكن أسمح لنفسي بالشعور به، وأصنع قصصًا متماسكة من قصاصات ذاكرتي عن الماضي، وأشاركها مع الآخرين كما أفعل الآن، في محاولة لنسج ذاكرة أخرى، عما حدث في الماضي والمستقبل الموجود أمام عيني، والحاضر، متواجدة فيه بكلّ حواسي، قدر المستطاع.
لكن رفاهية وجود مسافة للتذكُّر والحكي لم تكن متاحة لديّ في مصر. كنتُ داخل الأحداث المتسارعة، أعيشها كمواطنة عادية، وكجزء من ماكينة إعلامية يومية. بمعنى آخر، كنت أدور في فلك متتالٍ من الصدمات التي ضربت المصريين/ات في مرحلة ما بعد 2011.
وكما أدركت لاحقًا أثر التحوّلات السياسية والاجتماعية الكبرى وبصماتها الشخصية عليّ، وجدت نفسي في موقعٍ غريب عندما تلاشت سوريا من شريط الأخبار العاجلة في السنوات القليلة الماضية، بقي السوريين والسوريات وحدهم مع وقع تلك الأحداث الكبرى عليهم وهنا التقيتهم!
لم يكن موقعي ثابتًا وأنا أشهد بصمات النزوح والحرب والانقسام متشابكة مع محاولات استعادة الحياة السورية بكلّ تفاصيلها الثقافية والاجتماعية في المهجر. كنت أدوّن، أستمع، أقرأ، وألاحظ، أتنقّل بين أدوار متباينة. أحيانًا كنتُ الصحفية والباحثة في الحياة الثقافية والاجتماعية للسوريين في برلين، وأحيانًا أخرى كنتُ الصديقة التي تشارك أريكة منزلها البرليني مع صديقات سوريات، ينسجن حكايات حميمية بدموع منهمرة عن بيوت غادرنها اضطرارًا في دمشق وريفها، وحنينٍ إلى حياة تركنها خلفهن، أو أهلٍ عالقين هناك. وأحيانًا في أوقاتٍ أخرى، كان موقعي أكثر حميمية، كنتُ الشريكة التي أرى نظام الأسد على سريري في برلين متسللًا إلى كوابيس شريكي السوري، ليوقظه في منتصف الليل من سباته.
أما قبل أن أقترب من هذا العالم٬ كنت مجرّد عابرة بين المجتمعات السورية المهاجرة في برلين؛ أتعرّف عليهم من بعيد، من خلال قطاعات الثقافة والفنون والصحافة والمجتمع المدني. ومع الوقت، بدأت رتوش خيالية ترتسم في ذهني عن سوريا. رتوش صنعها طعامهم الذي كنت أتذوّقه، ولهجاتهم التي تعلّمت الاستماع إليها، وإعلامهم الذي أستهلكه في المهجر وقدودهم الحلبية التي رافقتني في أمسيات موسيقية تستدعي سوريا في المنفى.
وهكذا، حفرت سوريا تحت حكم الأسد مكانها في ذاكرتي عبر قصص السوريين والسوريات الذين مروا بحياتي على مدار السنوات الست الماضية، محمّلةً بتناقضات الحياة والموت، المقاومة والمراوغة. لم أكن أعلم، حتى وقت قريب، أنّ هذه الحكايات التي رويت لي عن سوريا أو قرأتها وسمعت عنها قد صنعت نوعًا من “الذاكرة بالوكالة” المتخيّلة، أو كما يُطلق عليها بالإنجليزية “vicarious memory”.
هذا النوع من الذاكرة يتشكّل أيضًا مع سماع قصص العائلة المُتداولة حول طاولة العشاء، حيث تُنسج حكايات تعبر بين الأجيال. وكما خلصت عالمة النفس الأمريكية روبين فيفوش، في أبحاثها عن قصص العائلة، فإنّ لهذا النوع من الذاكرة تأثيرًا عميقًا على أفراد الأسرة لأنها تقدّم لهم نماذج أو رؤى عن كيفيّة عمل العالم وكيفيّة انتمائهم إليه، خاصّة وقت الأحداث الجلل. كما وجدت فيفوش في دراساتها، التي تناولت العائلات التي تحدّثت بانفتاح وتعاون أكبر عن التجارب الصعبة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر أيلول، أنّ أطفال هذه العائلات كانوا أقلّ عرضة للمشكلات السلوكية والاكتئاب والقلق، كما أظهروا أعراضًا أقل مثل الغضب أو تعاطي المواد المخدّرة.
تجادل فيفوش في مقابلة بودكاست Hidden Brain بأنّ سماعنا لصراعات الآخرين ضمن إطار “السرد القصصي التشاركي” يساعدنا كما يبدو على أن نكون أكثر مرونة في مواجهة الشدائد. أليس هذا ما اختبرته شخصيًا في حزيران/ يونيو ٢٠٢٣؟ ففي قمّة اليأس، بعد مرور تسعة أشهر على الإبادة ضدّ سكان قطاع غزة، وثلاثة عشر عامًا ونصف على الأوديسة السورية، دون أمل في إزاحة الأسد عن السلطة، وجدت نفسي بين عشرات السوريين والسوريات في مقرّ شبكة فبراير في برلين٬ المجتمعين لسماع قصص سيّدات سوريات مهجرات من ريف دمشق في أواخر عام ٢٠١٦، ومن بينهن ياسمين شربجي من داريا، من مجموعة “عائلات من أجل الحرية” المطالبة بالكشف عن مصير المختفين قسريًا، التي تحدّثت عمّا وصفوه بـ”أرض الديار” التي سوّتها براميل بشار الأسد بالأرض. كانت هناك الكثير من الدموع ولحظات الصمت إزاء الخسارات التي تحملتها هذه العائلات، لكن في الوقت ذاته، “وأنت تسمع حكاياهن، لا يمكنك إلا أن تشعر بحماسهن”، كما وصفت الروائية السورية والطبيبة نجاة عبد الصمد خلال إدارتها لحدث إطلاق كتاب “عدالة المكان”. كان هذا الكتاب محاولة “لملمة شتات العائلات”، وتشكيل ذاكرة “غير متخيلة” عن الحياة قبل التهجير.
(ياسمين شربجي (يسار) من مدينة داريا في ريف دمشق وتبدّل حالها بين بكاء وفرح وهي تروي قصة عائلتها وبجانبها الروائية السورية والطبيبة نجاة عبد الصمد خلال إطلاق كتاب “عدالة المكان في مكتب شبكة فبراير في برلين أواخو عام ٢٠١٦/ تصوير بسمة المهدي))
“عندما تحكي النساء، يتحدثن عن كلّ شيء. وعندما تتحدث نساء من نفس المكان، فإنهن يصنعن ذاكرة جماعية لهذا المكان، ويظهرن وجهًا آخر للعدالة، إلى أن يحين وقت محاسبة المجرمين”، كان هذا مما تردّد صداه يومها.
وسط تلك القصص السورية في محاولة استعادة عدالة مفقودة، كانت هذه المرّة الأولى التي أفكر فيها بذاكرتي المصرية عن سوريا، وبمراحل تشكّلها: من رتوش متناثرة إلى ذاكرة متخيّلة، ثم إلى شبه متخيّلة عن الحياة تحت حكم الأسد، ومحاولات الفرار، وأمل لا ينتهي في بداية جديدة والسعي لتحقيق العدالة. لم أمتلك رفاهية استعادة الذكريات وإعادة بنائها إلا في موقعي وسط المنافي الإجبارية لكثير من السوريين آنذاك.
(صوره التقطتها بسمة المهدي بتاريخ ٢٣ يونيو ٢٠٢٣ الساعة التاسعة والنصف صباحًا، على الطريق من السويداء إلى دمشق)
قبل عام ونصف، حظيت برفاهية أخرى لا تتوفّر لكثير من السوريين، بمن فيهم زوج؛ زيارة سوريا. كانت الزيارة التي كتبت عن جزء منها تحت اسم مستعار آنذاك، كانت فصلًا جديدًا وواقعيًا في ذاكرتي عن سوريا، واختبارًا لقوّة ذاكرتي “المتخيّلة” التي نسجتها حكايات السوريين والسوريات، تحديدًا عندما عبرت الطريق الممتد بين السويداء ودمشق، القاحل إلا من بعض أشجار الزيتون.
للمرّة الأولى منذ وطأت قدمي سوريا في بيت أهل زوجي، كنت وحدي. شعرت بوطأة كلّ القصص التي صنعت خيالي عن سوريا. من مقعدي، ومن خلف الزجاج، تجمّع كلّ أصدقائي ومعارفي السوريين على جانبي الطريق، رأيتهم يقفون على أرضهم، يضربون جذورهم فيها كأشجار الزيتون. لعنت روح الأسد وأبنائه بشار وماهر مع كلّ صورة صادفتها على حاجز عسكري في طريقي إلى دمشق، بينما دموعي تنهمر بصمتٍ في مقعدي خلف سائق الحافلة.
اليوم، لديّ رفاهية وامتياز متابعة اللحظة الراهنة في سوريا، وإمكانية الدخول والخروج منها، كما خرجت من غرفة معيشتي في برلين، عندما صرخ زوجي في وجهي، محاولًا تجنيبي مشاهدة صور صيدنايا. هو امتياز لم أتمتّع به سابقًا عندما كنت في مصر بين 2011 و2016، وهو أيضًا امتياز لا يحظى به كثير من السوريين الذين يعيشون كلّ هذه المشاعر في آن واحد، كما كرّر على مسامعي صديقي السوري الذي يتابع سيل الأخبار المتدفقة من سوريا منذ الثامن من كانون الأول/ديسمبر. بينما يهبط الإعلام الدولي والعربي “بمنطاد” لتغطيّة القصّة السورية تحت عناوين مثل “العودة إلى البيوت”، كانت الأخبار العاجلة قبل سنوات قليلة تتحدث عن “تهجير من البيوت”. ولكن قلّة من القصص تُروى، عن السنوات التي فصلت بينهم والمحاولات اللانهائية لاستعادة روحهم.
وبينما ينشغل السوريون/ات حولي بلحظتهم التاريخية، يصارعون حالة اللايقين مذعورين على وليدهم “الحرية”، أو كما تقول صديقتي زينة علي منشورها على فيسبوك “الجميع يشد شعر بعضهم البعض في الآونة الأخيرة.” أتأمل هذا الظرف الذي عايشته بدرجة ما مع ملايين المصريين/ات في 2011 وما بعدها. أسعى أنا، غير السورية، إلى التقاط الخيوط المتناثرة لأغزل بها وأرمّم ذاكرتي شبه المتخيّلة عن سوريا. أفعل ذلك على عكس ما تدربت عليه في دراستي الأكاديمية للصحافة وعملي الصحفي من اختزال والحفاظ على مسافة من الحدث.
أحاول، بدون امتلاك الأدوات الحرفية، لأنّ “ما حدث كان يجب ألا يحدث لأهل سوريا أو لأي شعب”، ويجب ألا يُنسى وسط زخم اللحظة التاريخية الحالية. ولأني تعلمت من السوريين/ات المجتمعين في إطلاق “عدالة المكان” يوم كان الجميع يائسًا من إزالة الأسد، قولهم: “الصخرة لا يفتتها سيل، بل قطرة فقطرة”.
( صورة التقطتها صديقة الكاتبة أروى عزوز خلال زيارتها الأخيرة إلى سوريا في أواخر كانون الأول/ ديسمبر٢٠٢٤)
وقبلها، تعلّمت أيضًا أنّ “الشاطرة السورية بتغزل برجل حمار”، وهو ما أحاول أن أفعله الآن، وأنا أتذكر الثمن الباهظ الذي دفعه المصريون لفقدان ذاكرتهم، حين هُدم مبنى الحزب الوطني في ٢٠١٥ ومعه الكثير من الذكريات المُطالبة بالتغيير.
“لا لهدم الذكريات”… ”المرة ده بجد بقى.”
حكاية ما انحكت
————————–
من بوابة التحرير إلى مفترق الطّرق… سورية ما بعد الأسد/ تيما شريط
الثلاثاء 7 يناير 2025
عاشت سوريا أكثر من ثلاثة عشر عاماً من الحروب التي غيّرت معالم الأرض والبشر. كنت خلالها أشبه بورقة تتقاذفها الرياح بين مدن تحترق وأخرى تترقب دورها. أحياناً كنت نازحة، وأحياناً أخرى لاجئة، وفي لحظات خاطفة كنت سائحة على شواطئ اللاذقية وطرطوس. هناك، على تلك الرمال، حاولت انتزاع دقائق من سلام زائف، بينما كنت أراقب أمواج البحر تحمل أسراراً لا يعرفها إلا من عاش الألم.
على الرغم من الحروب، كانت سوريا مقسّمة إلى عوالم متباينة؛ هناك من يعيشون داخلها، وهناك من يرونها من الخارج بعين تختلف تماماً. وكأننا نتحدث عن “سوريا” و”سيريا”، حيث يتسع الفارق بين واقع مليء بالدمار، وأحلام تملأها صور مرممة لا تعكس الحقيقة.
ولمن يسأل عن الفرق بين “سوريا” و”Syria”، فقد سبقني زميلي يوسف نعمان بتوضيح هذا الفرق في مادة كتبها هنا، عنوانها: “الاختلاف في البلاد نفسها، ما الذي يجمعنا نحن اليوم كسوريين”، يمكنك قراءتها لفهم كيف تبدو البلاد بشقّيها المختلفين، تلك التي نحياها وتلك التي يراها الآخرون من الخارج.
فرحة مؤقتة في ساحة الألم
خلال تلك السنوات الثقيلة، عشت تناقضات لا تنتهي، بين الجوع والبرد والألم، وبين لحظات خاطفة من السكينة والسعادة المسروقة. أحياناً، كنت أجد العزاء في صداقة أو حب عابر ومرّة أبديّ، وأحياناً في حضن طفلي الذي منحني أسباباً للبقاء وسط هذا الخراب.
ومع مرور الوقت، أصبح تمييز الوجوه السورية المهزومة موهبة أملكها. كنت أرى الهمّ مرسوماً كوشم على ملامح كل من حولي. كُتبت عنّا المقالات، ونُشرت الدراسات، كلها تحكي عن الألم الذي لا يرحمنا، عن أجيال تكبر تحت وطأة الحزن، وعن أمّة أصبحت موطناً دائماً لليأس.
سقوط الأسد وفرحة التحرير
في أواخر عام 2024، شهدنا حدثاً كان مستحيل التصديق: سقوط الأسد. ذلك النظام الذي حكمنا بقبضة من حديد لعقود طويلة، انتهى حكمه فجأة. كانت لحظة تاريخية خرج فيها الآلاف إلى الشوارع يحتفلون بالتحرير، وكأنهم تخلصوا من لعنة أبدية. لعنة الخوف الدائم، لعنة المصير المجهول، لعنة التوديع كل يوم خوفاً من أن نفقد بعضنا البعض، لعنة الخوف من حرية الكلمة وحرية الرأي.
كانت لحظات مؤثرة، خاصة مع خروج آلاف المعتقلين من السجون، أولئك الذين كانوا رمزاً للمأساة السورية. رأينا وجوههم الشاحبة، عيونهم التي لا تزال تحمل أهوال الظلام، وحكاياتهم التي كانت شاهدة على الجحيم الذي عاشوه. كان الفرح طاغياً، لكنه لم يكن كاملاً.
خوف من المجهول
وسط فرحة التحرير، بدأ الخوف يتسلّل إلينا. إلى أين تذهب سوريا بعد الأسد؟ من سيحكم البلاد التي مزقتها الحرب؟ كيف نعيد بناء وطن انهارت مؤسساته وتهدمت علاقاته أكثر ممّا هو عليه؟
هناك من يرى أن سقوط الأسد هو البداية نحو مستقبل أفضل، وهذا حق، حيث تشرق شمس الحرية وتتحقق العدالة. وهناك من يخشى أن يكون هذا السقوط بداية لفوضى جديدة، أو صراع آخر يلتهم ما تبقى من سوريا، وهذا أيضاً حق.
مشاعر السوريين اليوم مزيج معقد من الفرح والقلق؛ فرحٌ بسقوط الطاغية، وقلقٌ من المستقبل الذي يبدو مظلماً وغير واضح المعالم. البعض يتحدث عن إمكانية بناء وطن جديد على أنقاض هذا الدمار، بينما يرى آخرون أن ما حدث مجرّد استبدال طاغية بآخر.
الخوف الأكبر هو أن تتحول سوريا إلى ساحة أخرى للصراعات الإقليمية والدولية. الدول التي دعمت المعارضة، والقوى التي تدخلت لإسقاط النظام، هل ستترك سوريا لتقرر مصيرها، أم ستقسمها مناطق نفوذ؟
السوريون اليوم ليسوا فقط مشتتين بين الداخل والخارج، بل هم أيضاً مشتتون داخلياً بين الأمل واليأس. أولئك الذين ما زالوا داخل البلاد يعيشون واقعاً لا يمكنهم الهروب منه، بينما من هم في الخارج يشعرون بأنهم غرباء في أوطان جديدة لا تشبههم ولا ينتمون إليها.
في الداخل، يعيش الناس على وقع الشائعات والتكهّنات حول المرحلة القادمة. في الخارج، يتابع اللاجئون الأخبار بخوف وترقب، متسائلين: هل يمكننا العودة؟ هل هناك وطن ينتظرنا، أم أن العودة تعني مواجهة مصير مجهول؟
سورية بعد الأسد: حلم أو كابوس؟
سوريا اليوم تقف على مفترق طرق. هل يمكن أن تتحقق الحرية والديمقراطية التي طالما حلم بها الشعب السوري، أم أن الطريق إلى المستقبل سيظل محفوفاً بالمخاطر والانقسامات؟
هناك مخاوف حقيقية من أن يتكرّر سيناريو دول أخرى مزقتها الحروب الأهلية، حيث يصبح الوطن مسرحاً للصراعات بين الفصائل المسلحة، وتتحول الحياة اليومية إلى كابوس دائم، من جهة أخرى، هناك من يؤمن بأن الشعب السوري، الذي صمد طوال هذه السنوات، قادر على بناء وطن جديد، إذا أُتيحت له الفرصة.
الأطفال الذين كبروا في ظل الحرب يحملون ذاكرة جماعية مليئة بالألم. هؤلاء هم أمل المستقبل، لكنهم أيضاً ضحايا الحاضر. كيف يمكن أن نبني وطناً جديداً بأجيال لم تعرف سوى الحرب والنزوح؟
الحرب لم تقتل الأجساد فقط، بل دمّرت النفوس والأرواح. بناء سوريا جديدة يتطلب أكثر من مجرد إعادة إعمار المباني؛ إنه يتطلب إعادة بناء الإنسان السوري، الذي يحمل جراحاً لا تلتئم بسهولة.
إلى أين ستذهب سورية؟
هذا السؤال هو الهاجس الأكبر لكل سوري اليوم.
الأمل ما زال موجوداً، لكنه هشّ. الشعب السوري الذي قاوم كل هذه السنوات، لا يزال قادراً على الحلم، لكن تحقيق هذا الحلم يتطلب وحدة وطنية حقيقية، وعدالة شاملة، ومصالحة تعيد الثقة بين أبناء الوطن الواحد، هذا وإن توحّد شعبه.
أنا كغيري في هذه البلاد، رضعنا الهمّ ولم تفطمنا سورية عن همّها حتى اللحظة، تركنا الاستقرار منذ زمن بعيد، وتركنا معه الأمل. في كل مرة أظن أنني وصلت إلى وجهتي الأخيرة، أنني وجدت ملاذاً صغيراً أستطيع أن أُطلق عليه “بيتاً”، تأتي البلاد لتصفعني مرة أخرى. نحن لا نعيش لنخطط للمستقبل، بل لنبحث عن لحظة نلتقط فيها أنفاسنا قبل أن تعود العاصفة.
اليوم، ونحن نقف على أبواب مرحلة جديدة، لا أحد يملك الإجابة عن مستقبل سوريا. الفرح بسقوط النظام حقيقي، لكنه مشوب بالقلق والخوف من الغد.
نحن السوريين، أبناء الهموم الخالدة، نعلم أن الطريق إلى الحرية لن يكون سهلاً. نحن نحمل إرثاً من الألم، لكننا أيضاً نحمل أملاً خافتاً بأن هذا الوطن يستحق أن نكافح من أجله. في النهاية، ربما تكون الإجابة على سؤال “إلى أين ستذهب سوريا؟” هي في أيدينا نحن. نحن الذين عانينا، ونحلم بمستقبل أفضل، ونؤمن أن هذا الوطن، رغم كل شيء، ما زال يستحق الحياة.
لكنني لم أعد أحلم. الحلم ترفٌ لم يعد يناسبنا نحن السوريين. نحن أبناء المأساة الدائمة، لا نحلم ولا نتوقع شيئاً، نحنُ فقط نترقّب.
——————————
الطريق الى سوريا الجديدة/ خالد قنوت
لقاء التطمينات و الارتياب المشروع
لا أظن أن السيد أحمد الشرع سيغضب إذا كنيته بالجولاني, أليس كذلك؟. المهم, أني تابعت الخطاب الذي قدمه البارحة مع قناة العربية – السعودية مرتين و كان ما اثار ارتيابي هو هذا الخطاب المتوازن و المطمئن و الهادئ.
الارتياب مشروع لمن يعرف البعد الايديولوجي للسلفية الجهادية التي دفعت دول كثيرة في العالم أثماناً عظيمة بسبب طموحاتها و تعطشها الغريزي للسلطة و لفرض فهمها الخاص بالشريعة الاسلامية على الجميع أو على الأقل على السنة و معاملة الآخرين بسياسة الخراج و الجزية.
مع ذلك, التعامل الحذر مع تلك السلفية الجهادية كان بحكم الأمر الواقع حيث أنها كانت إحدى تداعيات هيمنة الاستبداد الأسدي الأكثر سوءاً في انتاج بديل سيء لم يكن, و أعتقد أنه لن يكون, حلماً وطنياً سورياً.
لكن ما أجج الارتياب في صدور الكثيرين, جملة يومية من الممارسات العنفية و غير الدستورية و غير الوطنية التي لا تكل الادارة الجديدة المسيطرة في أبداعها كل يوم:
1- ممارسات غير قانونية تجاه عناصر متهمة بأنها فلول نظام سابق دون مذكرات قضائية و غياب لمنصب النائب العام و غياب المحاكم و دور مجهول عن هيئة قضائية تراقب و تحاسب و تقر بالعدالة فهذا منطق فصائلي و ليس منطق دولة الحق و القانون التي طالبت بها الثورة السورية و دفعنا جميعاً الكثير.
بديهية يعرفها الجميع: من لا يدافع عن حق المتهم بالمحاكمة القانونية سيكون غداً متهماً بذات التهمة و تذكروا ماذا فعل حافظ الأسد بكل معارضيه بعد أن قضى على الاخوان المسلمين!
2- بالأمس محافظ دمشق يصرح بطموحات دولته الجديدة في السلام مع اسرائيل و بعدم وجود خلافات معها ثم تراجعه في اليوم التالي بتصريح آخر مغاير, دون محاسبة أو تأنيب!
3- البارحة السيدة عائشة تقرر عن السوريين مستقبل المرأة السورية و تقصي من يخالفها الرأي فيتداعى وزير الخارجية بتصريح ينفي ما ادعته الداعية الدبس.
4- صدور قرار من الجولاني بترفيع, و ليس منح, بعض العناصر من هيئته و بعض قادة الفصائل الأخرى رتباً عسكرية عالية في سابقة خطيرة يقوم بها شخص واحد بهذا العمل, حيث من العادة أن تقوم لجنة عسكرية بمثل هذا القرار. الخطر في هذا القرار الفردي و الاستئثاري هو استبعاد آلاف الضباط الوطنيين و بالأخص المنشقين عن النظام السابق من هذه المهمة الوطنية الهامة, و أيضاً من هم هؤلاء الضباط الجدد و ما قدراتهم العلمية العسكرية في انشاء مؤسسة عسكرية وطنية؟؟؟
كل خطاب تطميني يدعونا جميعاً للارتياب و مع آخر التطمينات يصرح السيد الشرع بأن الفترة الانتقالية ستكون أربع سنوات!!!
أريد أن أذكر, فلعل الذكرى تنفع السوريين, حافظ الأسد بنى سلطته الاستبدادية التي دامت على دماء الشعب السوري خمس عقود, بأقل من سنتين بعد أن قام بحركته التصحيحية على زملائه في الثورة و مع ذلك عين رئيس جمهورية مؤقت السيد أحمد الخطيب (من 18 تشرين الثاني 1970 إلى 22 شباط 1971) كي لا يخرق الدستور فكيف بمن يريدها اربع سنوات, بمفرده و لشخصه ثم يقول أن القانون هو من يحكم؟؟؟
لا للصمت المريب!
29 كانون الأول 2024
خالد قنوت
الفيس بوك
——————–
ملاحظات
Alaa Hamameh
بداية أعتذر من الأحبة والأصدقاء الذين يروا أنني أتحدث من باب “المبالغة” أو لوهن عزيمة الأمة، أو أنني أرسل رسائل سلبية غير مسؤولة. لانني وجدتُ مؤخرًا أن مشاركاتي التي كنت أنوي من خلالها التعبير عن القلق أو الخوف يتم تناولها بشكل خاطئ، حيث تعرضت للكثير من السجال وسوء الفهم. تم اعتبارها أحيانًا نوعًا من الافراط في الخوف أو دعوة للتشاؤم والإحباط، وجرى تفسيرها وكأنها تقليل من حجم الإنجاز والحدث العملاق. وأنا هنا لست بصدد التعبير عن فرحتي بالحدث العملاق، فهو حلم العمر الذي أصبح حقيقة.
ذلك لن يمنعني لاحقاً من مشاركة مخاوفي ولو بطرائق متنوعة، لكنني أكتب هذا المنشور كبيان أخير في الوقت الراهن، مع مرور سريع على أهم الأسباب التي تدفعني لمشاركة مخاوفي هذه، و بعد هذا المنشور ساستمر في العمل بكل تاكيد لانه لايوجد مجددا مكان لليأس والانسحاب، انما ساعاود العمل من خلال الوسائط والادوات التي تعودت من خلالها التعبير عن افكاري ومخاوفي وامالي خلال السنوات الفائتة بعيدا عن ضجيج السوشال ميديا وانحيازاته المستهلِكة!
بدايةَ، والاكثر اهمية وهو أن الخوف لم ولن يكون يومًا من المسلمين أو حكم الأغلبية المسلمة أو الإسلام كمفهوم عام. فمعظمنا ينتمي لعائلات مسلمة أو بيئات مسلمة بالصدفة الجغرافية أو بالوراثة والاعتقاد. فالإسلام، في جوهره، يتمحور حول مفاهيم التوحيد، العبادة، والمسؤولية الفردية والجماعية، وهي قيم تتقاطع بشكل كبير مع القيم الإنسانية العالمية المشتركة بين مئات الأديان الأخرى والمنتشرة في حضارات وثقافات العالم، وبالأخص تلك الديانات الـ12 الكبرى والتي تُعتبر الأكثر تأثيرًا وانتشارًا في العالم. وبالتالي، فإن الإسلام كمفهوم أولي ومن وجهة نظره، يدعو إلى التوحيد كركيزة روحية تجمع الإنسان بربه، والعبادة كوسيلة لتزكية النفس وتقوية الروح، والمسؤولية الفردية والجماعية كمنهج للحفاظ على التوازن الأخلاقي والاجتماعي. كما يبحث في قيم سامية مثل التسامح، الذي يشجع على التعايش السلمي مع الآخرين بغض النظر عن معتقداتهم، والعدل، الذي يمثل ركيزة أساسية للنزاهة في التعاملات اليومية، والرحمة، التي تشمل الإنسان والطبيعة على حد سواء.
إنما الخوف الحقيقي هو من تطبيق “الشريعة الإسلامية” بنموذجها المنطلق من أدبيات سلطة الأمر الواقع الحالية والقائم على محاججات استدلال دائري ومصادرة على المطلوب.
هذا النموذج من الشريعة الإسلامية، كنظام قانوني وتشريعي، وُضع في سياق تاريخي واجتماعي معين منذ أكثر من ألف عام، ولم يشهد أي عملية تطوير حقيقية منذ ذلك الحين. الأمر الذي أدى بدوره إلى فجوة واسعة بين القوانين التي يُطلب من الناس الالتزام بها والواقع المعاصر الذي يعيشونه، حيث يتغير العالم بوتيرة متسارعة من خلال التطور العلمي، التكنولوجي، الاجتماعي، والأخلاقي. بينما الواقع الذي تشهده الشريعة الإسلامية في المجتمعات الإسلامية التي تم تطبيق النموذج فيها يمكن فهمه كنتاج لعوامل عدة، مثل التمسك بالتقاليد التي تُعد مقدسة ولا يجوز المساس بها أو إعادة تفسيرها. ومن ثم غياب الاجتهاد المعاصر، والذي كان جزءًا من الديناميات الفكرية الإسلامية وأصبح محدودًا أو مقيدًا بسبب الخوف من الابتداع أو الخروج عن النصوص، وأيضًا الخلط بين الدين والتشريع، فكثيرًا ما يُعتبر الإسلام كدين متطابقًا بالكامل مع الشريعة، مما يحد من مرونة تفسير النصوص الدينية بطريقة تناسب العصر.
فالشرائع يُفترض أن تكون أداة لتنظيم حياة الناس، والشريعة الإسلامية صُممت في سياقات تاريخية واجتماعية محددة لتلبية احتياجات تلك المجتمعات. فعند النظر إلى الشريعة من هذا المنظور، يمكننا اعتبارها “أداة قانونية” أو “نظام تشغيل” هدفه الأساسي هو تنظيم العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. لكن التحدي يكمن في أن هذا النظام لم يخضع لتطوير جذري يناسب التطورات الهائلة التي شهدها العالم الحديث، فأصبحت اليوم أشبه بنظام تشغيل قديم يعمل على أجهزة بقدرات حديثة ومواكبة، مما يخلق حالة من عدم التوافق الواضحة. وبالأخص عند اعتماد الشريعة كمرجع أخلاقي، والذي سيؤدي بالضرورة إلى تداخل كبير بين الأخلاق والدين، ويخلق تحديًا أمام المجتمعات متعددة الأديان. ففي حين أن الأخلاق بطبيعتها شاملة وتتجاوز الحدود الدينية، فإن الشريعة ترتبط بمجموعة محددة من العقائد والممارسات، مما يجعلها أقل قدرة على أن تكون مرجعًا أخلاقيًا موحدًا للبشرية. إضافة إلى التغاضي عن الكثير من السلوكيات غير الأخلاقية بسبب ضعف النصوص المتعلقة بها، أو بسبب التركيز على الجوانب الشكلية في الالتزام الأخلاقي. على سبيل المثال، قد يتم التركيز على قضايا مثل اللباس أو الطقوس الدينية وملاحقة المختلفين على حساب قضايا العدالة الاجتماعية أو الاستثمار في طاقات الشعوب.
كما سيؤدي الاعتماد على الشريعة كمرجع أخلاقي وحيد إلى تحديات متعددة تتعلق بإقصاء المنظومات الفكرية والنظريات العلمية الراسخة، واستبدالها بأفكار غير مدعومة علميًا، مثل رفض نظرية التطور لصالح تفسيرات الخلق أو تلك الناتجة عن النصوص، مما يضعف مكانة المجتمع في مواكبة العصر. فالقوة اليوم هي فقط قوة المعرفة وصناعة اجيال يقظة. إضافة إلى ذلك، يظهر إقصاء المختلف دينيًا من خلال التمييز، وقمع حرية المعتقد، وتجريم الردة، وهو ما يتناقض مع القيم العالمية لحقوق الإنسان وحقوق الطفل والمساواة. فتبرز مشكلات مثل زواج القاصرات، الذي يتم تبريره بالنصوص التقليدية رغم أضراره الكارثية على الفتيات ومستقبل الأمة. علاوة على ذلك، التمييز ضد المرأة؛ إذ إن التفسيرات الفقهية التقليدية جعلتها “ناقصة عقل” أولًا، ومن ثم كرست دونيتها من خلال أحكام مثل القوامة، التمييز في الإرث والشهادة، تعدد الزوجات، والضرب والهجر وفرض الوصاية في الزواج وغيرها الكثير. اليوم، هناك حاجة ماسة للنظر مجددا في هذه التفسيرات بما يتناسب مع القيم الإنسانية المعاصرة، لضمان تحقيق حقوق المرأة وتمكينها كشريك متساوٍ في المجتمع. وفي الوقت نفسه، أصبحت المجتمعات الحديثة أكثر قبولًا واحترامًا للتنوع الجنسي والهوية الجندرية، وهو ما يتطلب منظومة أخلاقية تراعي هذه التغيرات وتتعامل مع الأفراد على أساس المساواة والكرامة الإنسانية، بعيدًا عن الأحكام الإقصائية التقليدية. هذه التحديات المتزايدة تؤكد الحاجة إلى إعادة قراءة النصوص الدينية وتطوير الشريعة لتتماشى مع القيم الإنسانية المعاصرة وتحترم الواقع المتغير في العالم.
وفي ظل هذه التساؤلات حول تطبيق الشريعة الإسلامية في المجتمعات الحديثة، يبرز تيار الإسلام السياسي المعتدل كمحاولة لتقديم مشروع يُفترض أنه يحافظ على القيم الدينية الإسلامية، مع محاولة التكيف مع مقتضيات العصر الحديث. ومع ذلك، فإن هذه المشاريع ستثير جدلًا واسعًا، خاصة في سياق المجتمع السوري، وبالأخص بعد تضحيات هائلة للوصول إلى سوريا حرة، عادلة ومدنية. إلا أنه ربما يكون الحل الوسط الممكن من خلال تصور نموذج يُعطي مساحة للقيم الدينية، دون أن يجعلها المرجعية الوحيدة للتشريع. ،لكن هذا مالم تشير اليه الاجراءات والسلوكيات الحالية، فلدينا عالميًا الكثير من نماذج الإسلام السياسي التي تسعى إلى إدماج مبادئ الشريعة ضمن أنظمة شبه ديمقراطية، حيث يمكن تعديل القوانين عبر المؤسسات التشريعية المنتخبة. لكن وعلى الرغم، من ان مشاريع الإسلام السياسي لم تكن جزءًا من التصور الوطني لسوريا المدنية القادمة. ومع ذلك، لن اتردد في مشاركة هذه الأفكار والمخاوف، التي قد لا تعجب الكثيرين، ليس فقط للتعبير عن القلق، وإنما أيضًا للمساهمة في الدفع نحو حلول ربما تضمن مستقبلًا يليق بتضحيات الثورة السورية وتطلعاتها.
اخيراً،
في بداية عام ٢٠٢٢ وتزامنا مع عودة الحراك في السويداء، شعرت حينها بالامل مجددا، وبدّدت مخاوفي من النسيان، وبدات العمل حينها على مشروع تجهيز في الفراغ ” بعنوان “توقيت” يستند على نص للفيلسوفة والمفكرة السياسية البارزة “حنا أرنت” ولم اتمكن من انهاء العمل حينها ولكنه اليوم عاد الي بقوة الحدث وربما ساعاود العمل عليه مجددا. وهنا اقتبس من النص مع الترجمة:
“لا يجب أن نخلط بين الحاضر والماضي. فيما يتعلق بالماضي، لا يمكن اتخاذ أي إجراء إضافي. لقد وقعت الحروب والطاعون والفضائح والخيانات، ولا يوجد أي وسيلة لمنع حدوثها؛ فقد أصبح الجلاد جلادًا وخضع الضحية لمصيره كضحية دون تدخلنا. كل ما يمكننا فعله هو الكشف عنه، ودمجه في التراث الإنساني، ورفعه إلى مستوى الوجود الجمالي الذي يحمل في طياته غايته النهائية. ولكن أولاً، كان لا بد من حدوث هذا التاريخ: حدث كفضيحة، أو تمرد، أو جريمة، أو تضحية، ولم يكن بإمكاننا محاولة إنقاذه إلا لأنه قدم لنا شكلاً او نموذجاً في البداية. ويجب أن يوجد الحاضر أيضًا قبل أن يُثبَت وجوده: إن مصيره هو أن يبدو وكأنه قد تم تبرير كل ما يتعلق به بالفعل بحيث لم يعد هناك ما يمكن رفضه فيه، وحينها لن يكون هناك أيضًا شيء يُقال عنه، لأنه لن يتخذ أي شكل. الحاضر يُكشف فقط من خلال الرفض، والرغبة والحب.”
أكبر مخاوفي اليوم هو أن الإنجاز العظيم المتمثل في إسقاط الأسد قد يدفع بعضنا إلى التغافل عن مسؤوليتهم في منع إعادة صناعة الوحش من جديد. وكما أعاد “فيورباخ” إنتاج مفهوم الاغتراب الهيغلي، موضحاً أن الإنسان يسقط خصائصه الجوهرية على الميتافيزيقا، مما يؤدي إلى اغترابه عن ذاته، فإنه دعا إلى استعادة هذه الخصائص إلى الإنسان نفسه وهنا تبدأ عملية صناعة الامم والاوطان.
*بوست قابل للتعديل والمراجعة.
العمل المرفق، من مجموعة ” وجهان لعملة واحدة” ٢٠١٤
٤٠-٦٠ سم – فحم على ورق.
الرابط لمشاهدة بقية اللوحات:
—————————
========================