سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسة

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 08 كانون الثاني 2025

لمتابعة التغطيات السابقة

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 07 كانون الثاني 2025

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 06 كانون الثاني 2025

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 05 كانون الثاني 2025

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 04 كانون الثاني 2025

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 03 كانون الثاني 2025

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 02 كانون الثاني 2025

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 01 كانون الثاني 2025

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 31 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 30 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 29 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 28 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 27 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 26 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 25 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 23 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 22 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 21 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 20 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 19 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 18 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 17 كانون الأول 2024

 
سوريا حرة إلى الأبد: المصاعب والتحديات، مقالات وتحليلات 16 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مهام اليوم التالي، مقالات وتحليلات 15 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 14 كانون الأول 2024

جمعة النصر الأولى على الطاغية، سوريا حرة إلى الأبد: سقوط الديكتاتور الفار بشار الأسد، مقالات وتحليلات

سوريا حرة إلى الأبد: سقوط الديكتاتور الفار بشار الأسد مقالات وتحليلات

———————————

الإطار الشرعي لعملية «ردع العدوان»: كيف ردّت «الهيئة» على تساؤلات عناصرها خلال المعركة وبعدها/ حسام جزماتي

08-01-2025

        ​صُوحِبَت عملية «ردع العدوان»، التي انطلقت في 27 تشرين الثاني (نوفمبر) 2024، بنشاط مكثف من «إدارة الشؤون السياسية» التي أصدرت عدداً متلاحقاً من بيانات التطمين للخارج والداخل، فاجأت المراقبين بما بدت عليه من «نضج» وفق وصف شائع، ودفعتهم إلى التساؤل عن «التحولات» في «هيئة تحرير الشام» التي وصلت عملياً إلى الحكم في دمشق خلال وقت قصير.

        ​والواقع أن هذا التحول كان مُختزَناً في أفكار ثلة مركزية قليلة من قيادة «الهيئة»، أبرزهم زعيمها أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع)، ورئيس «إدارة الشؤون السياسية» الذي كان معروفاً باسم مستعار هو زيد العطار ثم جرى الإفصاح عن هويته الحقيقية (أسعد الشيباني) عند تعيينه وزيراً للخارجية. وقد أتاح ظرف المعركة لهذه القيادة، واضطرها، إلى الإفصاح السريع عن كامل توجهاتها دون تحضير كافٍ لقواعدها. ولردم الفجوة الناشئة بين الإعداد الأصلي الشرعي للمقاتلين وبين ما باتوا يرونه على وسائل الإعلام ويتلقونه من أوامر، أنشأت «الإدارةُ العامة للتوجيه الشرعي»، بعد ثلاثة أيام على انطلاق العملية، قناة على تلغرام بعنوان فتاوى الثغور، هدفت إلى الإجابة عن الأسئلة والاستفسارات الطارئة من قبل العناصر في الميدان.

        ​كما يدلُّ اسمها، تتولى هذه الإدارة مهام التوجيه الإديولوجي لعناصر «هيئة تحرير الشام»، بما فيهم الجناح العسكري. ويرأسها مظهر الويس، أحد أبرز شرعيي «الهيئة»؛ عضو «مجلس شورى» الجماعة وعضو «المجلس الشرعي» لها وعضو «المجلس الأعلى للإفتاء». ولذلك فإن ما ورد في هذه القناة يُعدّ رسمياً.

        ​سنتجاوز هنا الأسئلة التفصيلية عن أحكام الشهادة وعدّة زوجة الشهيد وجواز قصر الصلاة وجمعها أثناء القتال؛ إلى الإطار الشرعي العام الذي جرت المعركة ضمنه، والتبريرات الإسلامية للخطاب الذي واكبها على المستوى السياسي، والذي فاجأ، كما يتضح من الأسئلة، عناصر الجماعة الذين رأوا أن عليهم التيقن من أنهم ما زالوا على الطريق القويم.

        الترجمة الشرعية للبيانات السياسية

        ​تتكرر الأسئلة عن «الخطاب الجديد تجاه الدول والأقليات». وهو ما تبرره «اللجنة العلمية» المكلفة بالإجابة على أنه نوع من «السياسة الشرعية» في «تحييد الأعداء وتطمينهم وعدم إذعارهم». أما عن الطوائف، «غير المسلمة» كما يقول السؤال، فتجيب اللجنة، دون أن تعترض على الوصف بالكُفر، بأنها عاشت في ظل حكم الإسلام بكل كرامة وعدالة منذ «العهدة العمرية» التي سمحت لهم بممارسة طقوسهم الشعائرية، وقد سارت مؤسسات الثورة [في إدلب قبل المعركة] على هذا النهج الراشد منذ زمن، ورأى الناس كيف كانت هذه الطوائف تنعم بالعدل والقسط وحسن المعاملة.

        وتتضح أحكام الطوائف من خلال النقاط التالية وفق «اللجنة»:

        1- التعامل مع هؤلاء في أحكام الدنيا شيء وحُكمهم في الآخرة شيءٌ آخر، فلا يلزم من الحُكم بكفرهم قتلهم ولا قتالهم ما لم يقاتلونا.

        2- ما دامت هذه الطوائف لم تقاتلنا نعاملهم بأحكام الإسلام من البرّ والعدل.

        3- عدو المجاهدين في سوريا هو نظام الأسد ومن سانده بغض عن النظر عن مذهبه وطائفته، فنقاتل من قاتلنا ونكفُّ عمن كفَّ عنا.

        4- من كفَّ عنا نتعامل معه بالعدل والإنصاف، وقد حذّرَ الشرع من الغدر بأهل الذمة وأصحاب العهود، وهم كل من أُعطي أماناً من المسلمين بغض النظر عن دينه.

        5- يجب على المسلمين الانتباه إلى حساسية المرحلة، وخطورة الظروف التي نمر بها، وأن تصرفات كل فردٍ مع أي طرفٍ باتت بالغة التأثير على «سمعة المجاهدين»، فيجب على كل منّا أن يراقب تصرفاته ويتقي الله قدرَ طاقته لئلا يُخذَل المجاهدون بسببه، وأن نعي أننا مُقبلون على مرحلةٍ جديدةٍ تحتاج إلى الكثير من الفقه في العمل والحكمة في التطبيق.

        فالواجب الشرعي يتضمن الالتزام بأحكام الشرع الإسلامي، وكذلك توصيات «إدارة العمليات» بتأمين أهل هذه الطوائف وحمايتهم وعدم الاعتداء عليهم، والسماح لهم بممارسة شعائرهم حسب ما يدينون ويعتقدون.

        وجواباً عن سؤال: من هم الأقليات؟ تجيب «اللجنة» أنهم الطوائف ذات الهوية الثقافية المغايرة لهوية المجتمع الثقافية الذي تعيش فيه؛ «كالنصارى والروافض والباطنية من النصيرية والدروز والإسماعيلية وغيرهم من الطوائف التي تعيش بين الشعوب المسلمة والسُنية». ولهؤلاء «حقوقٌ عدلية تلتزم بها سلطة المسلمين تجاههم، وعليهم كذلك واجبات في احترام الأنظمة والقوانين التي ستُعتمَد». أما التعامل الحالي مع هذه الطوائف فهو من السياسة الشرعية، التي ينبغي الالتزام بها وعدم تجاوزها والتعدي عليها.

        وعند السؤال: هل يعدُّ القتال تحت راية الثورة السورية من الرايات العُمِّيَّة؟ جاء الجواب بأن قتال المجاهدين في سوريا الآن عن حقٍ جليٍّ واضحٍ، وهو إقامةٌ للدين ودفعٌ للظلم والطغيان. ومن أوضح الواضحات جهادُ المرتدين ومقارعة الكافرين ورفع سلطانهم عن بلاد المسلمين. أما من أعماه الله عن هذا الحق الظاهر فلن تملك له من الله شيئاً، وفق الجواب.

        وعند السؤال: هل سيتم الثبات على راية الثورة الخضراء أم سيتم رفع راية التوحيد؟ استهانت «اللجنة» بلون أي علم يُرفَع، أخضر أو أحمر، لأن الأهم هو الغاية والمَقصد، أي إعلاء كلمة التوحيد؛ «ونحن بحمد لله نعيش أياماً من أيام الله، سُحق فيها سلطان الظلم والكفر وحلَّ بدلاً عنه سلطان وحُكم المسلمين».

        وعندما استفسر سائل عن «حكم ما قاله الشيخ الجولاني عن الحكم البرلماني» في إحدى مقابلاته بينت «اللجنة» إنه عندما سُئِل عن مستقبل سوريا لم يذكر البرلمان بل ذكر بناء المؤسسات من المجالس الاستشارية، والشورية، والقانون والدستور، وكلها ذكرها في ضمن الحديث عن الحُكم الإسلامي. وأوضحَ أن الحل الأمثل للمشاكل التي وَرَّثها النظام المجرم لعموم السوريين هو وجود قوانين ناظمة تحدد الحقوق والواجبات، وتكون بلا شك غير مخالفةٍ للشريعة الإسلامية ومتوافقة معها، بعد التشاور مع أهل الحل والعقد والعلم والفتوى.

        كما أن البرلمان، بحسب «اللجنة»، ليس محذوراً في نفسه، بل المنكر جعلُه منبراً للتشريع من دون الله. فأما إذا كان مجلساً لتشريع الأمور الدنيوية ونحوها مما لا يُعارض شرع الله فليس فيه أكثر من كونه مجلساً للشورى، وهو من الأمور التي حثَّ عليها الشرع الكريم.

        وعند السؤال عن تحكيم الشريعة في المناطق المحررة جاءَ الجوابُ بأن ذلك واجبٌ في كل مكانٍ وزمان، وهو على أنواعٍ ثلاثة:

        الأول: تحكيم الشريعة في الأصل: والمقصود به قبول أمر الله تعالى والخضوع والانقياد الإجمالي لدينه. فهذا أصلٌ لا يصِحُّ الإسلام إلا به؛ لأن الإسلام يُراد به الاستسلام والانقياد لله بالطاعة.

        الثاني: تحكيمها في السلطان؛ بأن تلتزم السلطة في قراراتها وقوانينها بأحكام الإسلام ولا تُشرِّع ما يخالف دين الله.

        الثالث: تحكيمها في أفراد المسائل على المسلم في نفسه ومَن تحت يده.

        لكن الواجبات الشرعية منوطة بالقدرة والاستطاعة. فكل من قَدِرَ على امتثال الأمر الشرعي وجبَ عليه امتثاله، ومن عجز عن شيءٍ من الواجبات فإن عليه تقوى الله بحسب وسعه وطاقته. وشأن الحُكم كهذا، فكل ما قَدِرَ السلطان المسلم على امتثاله من الأوامر فإن الواجب فعله، وما عجز عنه فعلَ منه بقدر ما يستطيع.

        والمجاهدون في المناطق المحررة يطبقون كل ما قدروا عليه من الأحكام الشرعية بحسب وسعهم وطاقتهم. فليس للأحكام في القضاء، مثلاً، مَرجعٌ غير أحكام الشريعة، وليس ثمّة تعطيلٌ لأبواب من الدين مقدورٌ عليها.

        وحين عبّرَ سائلٌ عن أن حماسه للجهاد قَلّ بسبب «البيانات السياسية التي فهمتُ منها أن المرحلة القادمة ستكون (مدنية) أو ما شابه ذلك» أتاه الجواب مُوبِّخاً بأن هذا «من تلبيس الشيطان وصدِّه لك عن سبيل الله». أما قولك عن المرحلة القادمة بأنها (مدنية) فهذه الكلمة تحتمل عدة معانٍ؛ فإن كان مقصدك أنها ستكون مرحلة تُبنى فيها البلاد والمؤسسات ويُخدَم فيها الناس فليس هذا مُنكَراً. وإن كان قصدك بمدنية أي علمانية فهذا مُنكَرٌ ولا شك. لكن فهمك الذي ذكرتَه لا يعدو أن يكون ظناً. والمعلوم قطعاً من حال المجاهدين في المحرّر خلال السنوات الماضية كلها تحكيمُ شرع الله. فقد تربوا على كلمة التوحيد، وتحكيم شرعه في أرضه، والدفاع عن دينه، وطرد الطغاة المحتلين. ومن لا يعرف قَدْرَ المجاهدين ومكانتهم «آثمٌ متقحم المهالك»، وهي خصلةٌ من خصال المنافقين في الصدِّ عن سبيل الله، نسأل الله له البصيرة والهداية.

        والواجب على المسلمين إحسانُ الظن بإخوانهم جميعاً، ومن بابٍ أولى إحسان الظن بقيادتهم التي ما رأوا منها في خلال سنوات الجهاد الماضية إلا كل خير.

        ومن ذلك أن قيادة المعركة رأت تغليب المصالح الراجحة في فتح أبواب التوبة للذين يقاتلون في صفوف النظام، رغم أنهم كفروا بفعلهم هذا بحسب «اللجنة»؛ ليعود كثير من المُغرَّر بهم ولينفرطَ عقد العدو إذا انفضَّ مقاتلوه. وهذه سياسة شرعية حسنة، إن لم تُفعَل قد يصر هؤلاء على القتال إلى آخر رمق، مما يضاعف خسائر المجاهدين.

        وإذا كان الجهاد بُغية الثأر من الظالمين والانتقام من المجرمين مقصدٌ مشروعٌ لا غبار عليه، فإنه ينبغي التنبه إلى أنه محكومٌ بمقصدٍ أوسع وهدفٍ أعظم وهو الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا ولإقامة دينه وحكمه وشريعته، فإن دخل الناس في هذا الحكم وكفّوا عنا وقبلوا بحكمنا فلا يجوز التعدي عليهم ونصرة النفس، اقتداء بما فعله الرسول ﷺ مع أهل مكة حين قال لهم: «اذهبوا فأنتم الطلقاء». فالقصد هداية الخلق وإدخالهم في دين الله. وإن قتالنا مع نظام الأسد قتال منظومة قائمة، فإن انهار بنيانها وأقمنا شريعة الله بدلاً عنها، ودخل الناس فيها، فهذا مقصدنا وتلك غايتنا.

        فقد قامت المعركة لأسباب ثلاثة؛ أولها إعلاء كلمة «لا إله إلا الله»، وثانيها دفع الصائل [المعتدي] عن المسلمين، وثالثها استنقاذ الأسرى من السجون. وبهذا تدخل في فروض الأعيان، ينبغي أن يلتحق بها كل قادر على حمل السلاح ولو كان صاحب عائلة، أو لم ينل موافقة والديه، أو مقيماً في الغرب. فإن لم يستطع فبإمكانه نشرُ محاسن المجاهدين وبيان فضائلهم وردُّ الشبهات عنهم، والدعاء لهم، والجهاد بالمال.

        أصل الانضباط

        ​تقول «اللجنة» إن تصرفات المجاهد ينبغي أن تلتزم بالشريعة أولاً وبما قررته قيادة العملية ثانياً. عملاً بقول النبي ﷺ: «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللهَ وَمَنْ يُطِعِ الْأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي وَمَنْ يَعْصِ الْأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي». ومن هذا المدخل أمسكت القيادة بعناصرها بمركزية شرعية تستند إلى السمع والطاعة، مما مكّنها من ضمان انضباطهم، وخاصة في ما لم يألفوه من قبل.

        ففي موضوع الأعمال الانتقامية قالت «اللجنة» إن حُكم الأسرى عائدٌ للإمام الذي يُخيَّر فيهم بين القتل، أو الفداء (المبادلة)، أو المَنّ (العفو). وفي معركتنا صدرت أوامر قيادة «إدارة العمليات» بعدم التعرض للأسرى إذا ألقوا السلاح، بل يُسلمون للجان مختصة بمتابعة أمورهم. وكذلك في مسألة الغنائم التي لم تحلّ الاستيلاء عليها فردياً إلا لضرورة، ويجب تسليمها للّجان المختصة بالإخلاء والغنائم.

        ​كما أن القيادة أمرت بتسليم المعدات العسكرية التي تركها العدو إلى اللّجان، لأنها من الأموال العامة التي عادت لأصحابها، وجرى العمل في «الجهاد الشامي» على وضعها في خدمة المعركة، فلا يجوز الأخذ منها لأنه من الغلول. وكذلك الحال بالنسبة إلى الدوائر الحكومية والمؤسسات المدنية التي أخلاها النظام، فإن ما فيها من تجهيزات هو من أموال المصالح العامة التي ترجع إلى بيت مال المسلمين، ولا يجوز الاعتداء عليها. بل على الأفراد والفصائل أن تحرص على حفظها وحمايتها دون المساس بها حتى تستلمها الجهات المعنية.

        ​وكذلك حال الممتلكات الخاصة التي تعود إلى من يوصفون بأنهم «شبّيحة». فقد أصدرت قيادة «إدارة العمليات» تعميماً بعدم الدخول إلى تلك المنازل تحت أي ذريعة، وإنما ذلك من صلاحيات الجهات الأمنية والإدارية وحدها.

        وحين جاء السؤال: يقوم بعض الإخوة بالدخول إلى بعض الخمارات وتكسير زجاجات الخمر في الشوارع. ما حُكم تصرفهم هذا، مع العلم أن الخمارات تعود لملكية النصارى؟ قال الجواب إنه لا شكَّ في تحريم الخمر، وإنها مُنكَر من المُنكَرات العظيمة. لكن من جهة أخرى فإن أموال النصارى مَصونة، لا يجوز التعرُّض لها؛ لأن «إدارة العمليات» أعطتهم الأمان الذي يسري على أنفسهم وأموالهم، والاعتداء عليها مُحرَّم. وإذا كانت الخمر من الأموال التي لا يجوز للمسلم شراؤها ولا التجارة فيها، فإنها ليست كذلك بالنسبة للنصارى. فقد نص الفقهاء على إقرار النصارى على خمرهم، وعلى تحريم الاعتداء عليها. ولكن من المهم، كما قالت «اللجنة»، التنبيه هنا إلى أمور منها:

        1- للخمر ونحوها من المحرمات التي يجوز للنصارى -ونحوهم- اتخاذها، شروطٌ معروفة عند أهل العلم، يُلزَمون بها من قبل السلطان المسلم بمقتضى الأمان الذي بُذِلَ لهم.

        2- التزامهم بهذه الأحكام لن يكون في يومٍ وليلة؛ لأن الأوضاع لم تستقر إلى الآن؛ ولأنهم لم يُبَلَّغوا بهذه التفاصيل بعد.

        الخطاب المزدوج إلى أين؟

        يتضح من الاستعراض السابق أن لكلام قيادة «الهيئة» ظاهراً وباطناً، وتأويلان يُسوَّقُ أحدهما للبعثات الخارجية والوزراء والسفراء الذين يزورون دمشق، والآخر لمواطني نموذج إدلب الذين قام «الفتح» على أكتافهم.

        وإذا كان الكثير من المراقبين يتساءلون عن مدى جذرية تَغيُّر خطاب الجولاني الذي تَحوَّلَ إلى أحمد الشرع، و«إدارة الشؤون السياسية» التي صارت «وزارة خارجية»؛ فإن الأدلة تشير إلى أن قيادة «الهيئة» ماضية في تحولاتها. وهي الآن تختار من الكوادر القديمة من يقبل بخطها الجديد وتحشو بهم يومياً مفاصل الدولة والحكومة، تمهيداً لحل «هيئة تحرير الشام» على أقرب مذبح وبأسرع وقت ممكن، تخلصاً من تركتها الإيديولوجية ومن المتشددين من كوادرها ومن تصنيفها بالإرهاب.

        لن يستطيع مواكبو الخط الجديد، بفعل توجهاتهم الشرعية الأصلية، أن يُلبّوا كل متطلبات الوجه المدني الذي يقابل به أحمد الشرع زُوّاره. ولذلك سيبقى لنمط الحكم القائم ملامحُ إسلامية سنّية واضحة بين أخذ وردّ. أما من لن يقبلوا بالسير في ركب هذا التحول فسيجدون أنفسهم في مواجهة «الدولة» دون غطاء تنظيمي. وربما يلجؤون إلى تأسيس جماعاتهم الخاصة الأكثر تشدداً في مناطقهم المحلية، كما سبق أن فعل منشقون عن «الهيئة» وعن طبعاتها السابقة.

موقع الجمهورية

——————–

شهر كامل بدون نظام الأسد.. كيف يرى السوريون بلدهم بعد نيل الحرية؟/ عبد الناصر القادري

2025.01.08

شهر كامل على سقوط النظام وهروب بشار الأسد، 30 يوماً بكل أيامها وساعاتها مرت، عاش فيها السوريون أجمل أيامهم وأكثرها ابتهاجاً وفرحاً، نزلوا إلى الساحات وغنوا للحرية بعد أن أسقطوا جميع تماثيل حافظ الأسد وابنه ومزقوا صورهم وما يمت لهم بأي صلة.

شهر كامل بدون قصف أو قتل تحت التعذيب أو تهجير ونزوح إلى العراء، شهر كامل لا اعتقالات أو حواجز أو دفع رشاوي، شهر بدون ما يعكر مزاج السوريين ويثير قلقهم ورعبهم.

شهر كامل، لم يكن فيها بشار الأسد جزءاً من سوريا، ولن يكون له أو لرموز نظامه المخلوع أي دور في مستقبلها، في معركة خاطفة بدأت في 27 تشرين الثاني وانتهت في 8 كانون الأول 2024، تغير تاريخ سوريا وحاضرها وصنع السوريون لحظتهم الفارقة، وبدؤوا مشواراً جديداً لبناء بلدهم في تدافع سياسي واجتماعي وثقافي ليس سهلاً أو بسيطاً ولكنه ممكن بحسب لسان الناس في شوارع دمشق ودرعا والسويداء وحلب وحمص وحماة والساحل وبقية البلاد.

أصبح لسوريا الجديدة قائداً انتقالياً هو أحمد الشرع (الذي قاد العمليات العسكرية)، ووزير خارجية هو أسعد الشيباني، ووزير دفاع هو مرهف أبو قصرة، وجهاز استخبارات جديدة بإدارة أنس خطاب، والعديد من الوزراء أو المكلفين بإدارة شؤون البلاد حتى آذار المقبل.

في هذا التقرير يرصد موقع تلفزيون سوريا، حال سوريا في الشهر الأول بعد سقوط النظام المخلوع، وكيف بدت الحالة العامة بالنسبة للسوريين داخل البلاد، بعد عقود طويلة من حكم الحزب الواحد وتغول القبضة الأمنية وخنق الحريات و14 عاماً من الثورة قتل فيها مئات آلاف السوريين وجرح واعتقل وهجر أكثر من نصف الشعب. وكيف بدت أجواء الحريات العامة مع استلام إدارة العمليات العسكرية لمرافق الدولة؟ وما الذي تغير على أرض الواقع وكيف يتعاطى السوريون مع  التغيير وما هي أمنياتهم في المستقبل القريب؟ أسئلة حملناها وحصلنا على أجوبتها من السوريين في الشارع.

كيف هي دمشق؟

في الطريق من معبر المصنع اللبناني إلى دمشق، بدأت الرحلة مع لافتة سوريا ترحب بكم، بجانبها عمود أزيلت من عليه صورة لبشار الأسد، وهذا المشهد سيتكرر كثيراً فقد مزق السوريون صوره وأعلامه، يساهم السائق في شرح تفاصيل الطريق، هذا حاجز لأسماء الأسد زوجة الرئيس المخلوع، وهذا حاجز الموت التابع للفرقة الرابعة التي كان يقودها شقيقه ماهر، وهذا حاجز المخابرات الجوية، ساعات كان يقضيها السائق بين المعبر ودمشق بسبب الحواجز والرشاوي التي يدفعها على شكل علب سجائر (مالبورو حصراً)، إلى جانب بعض آلاف الليرات السورية أحياناً.

في مدخل دمشق عند أوتستراد المزة، تبدأ أبنية دمشق الحديثة نسبياً بالظهور، السيارات الموجودة معظمها قديم ولا يتم تصليح أعطاله بسبب غلاء قطع الغيار، نقترب من السفارة الإيرانية وكان عليها بقايا من صور ممزقة لقاسم سليماني قائد فيلق القدس الذي اغتالته الولايات المتحدة مطلع عام 2020.

أمام الأفرع الأمنية بدمشق التي ارتفع على معظمها علم الثورة السورية، يوجد عدد من عناصر الإدارة العسكرية لحمايتها، بعد أن سرق منها قسم من محتوياتها ليلة سقوط النظام، فيما أن بعض الأفرع سلمت من ذلك، ولم يعد بداخلها أي معتقل، جميع الأحياء خرجوا إلى الشمس بعد سنوات طويلة من العتمة والظلام.

في ساحة الأمويين يتجمهر الآلاف من الناس، يترنمون على أغاني الثورة السورية، “ارفع راسك فوق أنت سوري حر، وجنة جنة جنة يا وطنا، عالهودلاك، سنظل فيها صامدين” وغيرها، يلتقط الناس الصور مع تمثال السيف الدمشقي المواجه لبناء الإذاعة والتلفزيون وينشرونها على حساباتهم بانتظار سلسلة لا تنتهي من القلوب الحمراء والإعجابات والتعليقات.

في المكتبة الوطنية بدمشق المطلة على ساحة الأمويين التي حملت اسم “الأسد” كمعظم مؤسسات البلاد، حطم سوريون تمثال حافظ الأسد الذي كان يجلس في مدخل المكتبة مستقبلاً زوارها ومحتكراً اسمها.

وكذلك الحال بالنسبة للجسر الذي يصل بين البرامكة وأبو رمانة وكان يحمل اسم “جسر الرئيس” فقد تغير اسمه، ما بين جسر الساروت وجسر الحرية، بالفعل لقد تغيرت الأشياء والصفات والمسميات وبات كل ما كان ممنوعاً مسموحاً.

حتى بائعي الكتب الذي أزيلت عربات و(كولبات) كتبهم بدؤوا بالعودة لبيع الكتب تحت الجسر وبالقرب منه.

نصل إلى ساحة المرجة، هناك يتجمع المئات من الناس حول نصب الشهداء التذكاري وسط الساحة، وقد امتلأت بصور المعتقلين والمغيبين قسرياً، ومعظمهم من أبناء الجزيرة السورية، ورغم مرور أيام طويلة على سقوط النظام، لا يزال لدى أهالي المعتقلين والمفقودين أمل بإمكانية أن تحصل معجزة ويعود الأبناء لأمهاتهم وآبائهم، الدموع في كل مكان، بشار الأسد ترك هؤلاء الناس في الطرقات ينتظرون خبراً عن أبنائهم.

عبر تلفزيون سوريا، وجه هؤلاء الناس رسائل عتب على القيادة الجديدة بأهمية أن يولوا اهتماماً أكبر لذوي المعتقلين والمفقودين لمعرفة مصير أبنائهم، كما طالبوا بالبحث أكثر عن سجون سرية أو مقابر جماعية بالقرب من السجون والأفرع الأمنية.

عشرات الآلاف من المعتقلين لم يعودوا، وبالغالب قد قتلوا تحت التعذيب مع اعتقالهم بين عامي (2011 – 2014) على يد الأفرع الأمنية كما ظهر في صور ملفات قيصر التي سربت وتم توثيق حقيقتها.

على الجدران في دمشق تتوزع صور المعتقلين والمفقودين بكل مكان، وإن تمركزت في ساحة المرجة، وعلى كل صورة اسم المعتقل ورقم هاتف ذويه للتواصل في حال سمع أي معلومة أو خبر عنه، حي كان أو ميت، كما أخبرنا العديد من ذوي المعتقلين.

534

صور المعتقلين والمفقودين معلقة في ساحة المرجة بدمشق (تلفزيون سوريا)

لقد تغيرت دمشق، رغم أن مركز المدينة لم يصبه الدمار الموجود في مدن الغوطتين وجنوب دمشق، إلا أنها تغيرت، أصبحت دمشق المليئة بالأشجار والياسمين أقرب للتصحر، الغبار بكل مكان، والأبنية التي تشبه الثكنات العسكرية متسخة ولا تدل على مدينة تمتد لأكثر من 7 آلاف عام من التراكم الحضاري والثقافي.

بردى المليء بالأوساخ، تحول إلى ما يشبه ترعة راكدة تمشي ببطءٍ مثل الزمن، هرب بشار الأسد من سوريا بعد أن دمر جزءاً كبيراً منها، لم يعد هناك حياة في داريا ومعضمية الشام وجوبر وزملكا وسقبا وحمورية ودوما والمليحة والقابون وبرزة ومخيم اليرموك وبيت سحم ويلدا وببيلا والعسالي والقدم، والحال نفسه في أحياء حمص وأرياف إدلب وحلب والرقة ودير الزور ودرعا.

ما الذي تغير في 30 يوماً؟

ورغم هذه الغصة التي علقت في حناجر الناس مع سقوط النظام بما يخص المعتقلين وحال البلد، تجد الناس متفائلة في شوارع دمشق، الفرح بادٍ على الوجوه، الجميع يقولون إن سوريا قد تنفست أخيراً وأصبح الهواء أنظف، خصوصاً مع كم التلوث الكبير الذي تعيشه سوريا بشكل عام.

ويؤكد الناس على تحسن الأسعار بشكل كبير مقارنة بما قبل سقوط النظام، وانتشار للسلع الأجنبية التي كان عرضها ممنوعاً من قبل، فقد تراجع سعر الموز من 50 ألف ليرة إلى 10 آلاف ليرة، وتوفر البنزين والغاز والمازوت في الكازيات وعلى الطرقات.

وأصبح نداء صرافي الدولار والليرة التركية يملأ كل مكان، بل وضعت عبارة “صراف” على كل شيء تقريباً، لدى بائعي الألبسة والحلويات والغذائيات والخضروات والفواكه، وعلى مختلف أنواع العربات.

ويعود تحسن أسعار السلع بالنسبة للتجار إلى انتهاء حالة الحواجز العسكرية التي كانت تأخذ إتاوات يومية من السائقين الذين ينقلون البضائع من مكان إلى آخر، وهذا يجعل السائق مضطراً لوضع ذلك على التاجر الصغير، والتاجر يضعها على المشتري، وبذلك يصبح سعر أي سلعة قد يصل إلى الضعف أحياناً.

لم تتحسن الخدمات بما فيه الكفاية، فقد بقيت الكهرباء حالة مستعصية في معظم المدن السورية، وخاصة مدن الأطراف والأرياف التي زرنا عدداً منها وما زالت الكهرباء تنقطع فيها لقرابة 12 ساعة مقابل ساعة وصل واحدة، والأمر كذلك بالنسبة للماء الذي يحتاج لوقود حتى تعمل المضخات التي تنقله إلى البيوت، ما يحمل الناس أعباء مالية بما يخص تعبئة “صهاريح ماء”، بما لا يقل عن 50 ألف ليرة.

ومع توفر السلع بما في ذلك المازوت والغاز والبنزين، وتحسن أسعارها، إلا أنها غير مدعومة وهذا زاد من الأعباء المادية على المواطنين الذي ليس لديهم دخل يكفي.

فالخبز المادة الأهم بالنسبة للسوريين بلغ سعر الربطة الواحدة 4 آلاف ليرة سورية، وهو ضعف السعر السابق على الأقل، ويسمح للعائلة بشراء ربطتين بالمرة الواحدة.

ورغم أن هذا تحسن كبير بما يخص الخبز، فقد كان للعائلة أربع ربطات أسبوعياً بالسعر المدعوم والذي كان 1500 ليرة للربطة عبر البطاقة الذكية، إلا أنه حالياً توفر ولم يعد هناك نقص وتم إلغاء البطاقة الذكية.

المعاناة الأخرى التي يشتكي منها الناس في شوارع سوريا، هو موضوع المواصلات وعدم تحديد سعر نهائي لخطوط السير، فبعد أن كانت التعرفة بين 1000 و 2500 ليرة بحسب طول الخط، صار أقل خط يأخذ من الراكب 5 إلى 10 آلاف ليرة، وهو ما زاد من الأعباء بشكل كبير خصوصاً على العائلات التي لديها طلبة جامعات ويحتاجون إلى تنقلات يومية ويبدلون أكثر من وسيلة نقل.

الأمر الأخير الذي ينتظره الناس، هو الراتب الشهري الذي حصلت وعود مع الأيام الأولى لسقوط النظام، بتحسنه إلى 400 بالمئة، إلا أنه تم تأجيل الزيادة إلى شهر شباط المقبل وفق تصريحات وزير المالية محمد أبا زيد لوكالة الأنباء السورية “سانا”.

هل يوجد حريات؟

بعد لحظات قليلة من سقوط النظام، أخذت سوريا نفساً عميقاً، وبات من الممكن للجميع التعبير عن رأيه بحرية، فلم يعد هناك ملاحقات أمنية أو اعتقالات بسبب رأي أي شخص، إنما هناك عمليات أمنية لملاحقة فلول النظام وخلاياه النائمة.

كما أنه لم نلحظ في أي من جولاتنا التي شملت معظم المحافظات السورية والمدن على تنوعها الديني والعرقي أي مساس بالحريات العامة، خصوصاً مع وجود فترة أعياد الميلاد ورأس السنة.

كما أنه ينظم وقفات تضامنية لأجل ذوي المعتقلين ومظاهرات في العديد من الساحات بدمشق، في ضمان كامل لحرية التظاهر.

بما يخص الحالة الأمنية، تجد أن سوريا اليوم، بحالة آمنة نسبياً، رغم تفشي السلاح وعدم تسليم الكثير من الأشخاص لأسلحتهم التي حصلوا عليها ليلة سقوط النظام بعد هروب قواته وتركهم لعشرات آلاف قطع السلاح والذخيرة والقنابل بما في ذلك صواريخ محمولة على الكتف.

في الليل تصبح المدن، خصوصاً دمشق أقرب لمدينة أشباح، لا أضواء شوارع ولا ناس في الطرقات، سوى بعض السيارات التي تخرج فجأة فتنير دروب الناس.

يكون الوضع أفضل حالاً في مناطق المطاعم والمقاهي التي لديها خطوط كهرباء أو مولدات أو طاقة شمسية تساعدها في تأمين الطاقة الكهربائية.

ماذا ينتظر السوريون؟

إذاً مر شهر كامل على سقوط النظام، والسؤال المهم ماذا يريد الناس الآن؟ وهل يكفيهم سقوط النظام وهروب بشار الأسد؟، كثيرون قالوا نعم، يكفينا ولا نريد شيئاً إضافياً على ذلك، وآخرون قالوا لنا نريد العدالة الانتقالية ومحاسبة من ارتكب كل تلك الجرائم أبنائنا وشبابنا في المعتقلات وعلى الجبهات.

ينتظر السوريون من الإدارة الجديدة أو الحكم المقبل أياً كان شكله ونوعه، أن يحقق لهم العدالة من خلال محاسبة مرتبكي الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب عبر محاكم عادلة وشفافة، وإجراء إصلاح شامل لمنظومة القضاء، وبناء جيش يحمي الناس، ومؤسسات وطنية تقوم على الكفاءات وتخضع للقانون وتحترم حقوق الإنسان.

كما ينتظرون تشكيل لجان خاصة بالتعاون مع الأمم المتحدة ومحكمة الجنايات الدولية ومحكمة العدل الدولية لكشف حقيقة الانتهاكات التي حصلت في السجن وتقديم تعويضات للضحايا لضمان جبر ضررهم ومنع تكرار الاستبداد بحقهم، وتعويض ذوي “الشهداء” بما يناسب تضحياتهم، ونزع السلاح من أيدي فلول النظام و”والطابور الخامس” الذي استغل فترة سقوط النظام للنهب والسرقة وتكديس الأسلحة.

كما ينتظرون أن يعود اللاجئون إلى بلدهم للمساهمة في إعمارها، فهناك نقص كبير في الكوادر بمختلف المجالات لا سيما الطبية والتعليمية والثقافية والتقنية والسياسية والعسكرية والأمنية، خصوصاً مع تعلم عدد كبير من اللاجئين في أفضل الجامعات، فبلدهم الجديدة أحق بهم.

تلفزيون سوريا

——————————

السلفية ليست خياراً/ علي العبدالله

08 يناير 2025

أثار إسقاط النظام السوري بأيدي فصائل عسكرية سلفية التوجّه أسئلةً عن مدى قدرة النزعة السلفية، فكراً وممارسةً، على التعاطي مع الواقع السوري الراهن، ومواجهة التحدّيات القائمة فيه، وحلّ المشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يواجهها الشعب، مع الأخذ بالاعتبار تداخلات هذه المشكلات وتشابكها مع مصالح المحيطَيْن، الإقليمي والدولي، بأبعادهما الجيوسياسية والجيوستراتيجية.

نشأت نزعة السلفية متأخّرةً نسبياً، إذ كانت بدايتها مع الفقيه تقيّ الدين أحمد بن تيمية، الذي عاش في القرن السابع الهجري (661 – 728هـ)، وتابع تلامذته، ابن القيم الجوزية خصوصاً، تعميق النزعة وترسيخها في الثقافة الإسلامية، إلّا أنها ضعفت وغابت من المشهد قروناً طويلة، حتى أعاد الداعية النجديّ محمّد بن عبد الوهاب بعثها في القرن الثاني عشر هجري؛ حين لاقت قبولاً لدى دعاة وفقهاء معاصرين بدأوا في التنظير لها والدعوة إلى الالتزام بها، وقد شهدت تحوّلاً عاصفاً بظهور تيّار السلفية الجهادية، الذي ظهر في الربع الأخير من القرن العشرين، ووضع معايير متشدّدة للتعامل مع المسلمين، بتكفير من لا يتّبع النزعة السلفية، وهدر دمه باعتباره مرتدّاً عن الإسلام وحدّه القتل، ومع غير المسلمين بالإفتاء باستباحة دمهم وأموالهم وسبي نسائهم وأطفالهم، وتقسيمه العالم بين فسطاطَي إيمان وكفر، إذ نفّذ أعضاؤه عمليات تفجير ضدّ مصالح دول ومجتمعات في معظم القارّات. في البدء، وقبل تقويم مدى صلاحية النزعة السلفية في تقديم حلول ومخارج للمشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تواجهها سورية، لا بدّ من تحديد فحواها، وأسسها النظرية وتطبيقاتها العملية، والبحث في الخيارات والاحتمالات التي تنطوي عليها.

تقوم النزعة السلفية على خمسة أسس رئيسة؛ أولها التوحيد بمستوياته، توحيد الربوبية (الإيمان بأن لهذا الكون خالق ورازق يتصف بالكمال)، وتوحيد الألوهية (أن تكون العبودية لله وحده)، وتوحيد الأسماء والصفات (لله عز وجل أسماء وصفات لا يشاركه فيها أحد). ثانيها التعاطي مع النصّ الديني (القرآن الكريم والسُنّة النبوية المشرّفة) وفق فهم السلف في القرون الثلاثة الأولى من تاريخ الإسلام. ثالثها الاجتهاد في فهم النصّ الديني واستنباط الأحكام على المستوى الشخصي من دون التقيّد بتفسيرات المذاهب الفقهية المشهورة. رابعها التحرّر من البدع. أمّا خامسها فعدم الركون إلى الأحاديث الضعيفة والموضوعة.

تعكس الأسس المذكورة قراءةً خاصّةً للقرآن الكريم، قراءة من جملة قراءات عرفها الفكر الإسلامي بمدارسه المتعدّدة والمتباينة، لكن ما يجعلها مصدر قلق وتوجّس ما رُتِّب عليها من استنتاجات وممارسات، فالأساس الأول (التوحيد) ليس مقياساً لصحّة الإيمان فقط، بل ولمعاقبة الخارجين منه، فاعتبر من يخرج كلّية وشمولية من أيّ من مستوياته الثلاثة، كما يفسرونها، كافراً يستتاب أو يقتل إن بقي على موقفه، وهو قول يتناقض مع مبدأها الثاني الذي يقول باعتمادها فهم السلف الصالح للكتاب والسُنّة، فالسلف في هذه القرون اتفقوا أن أركان الإيمان ثلاثة: الألوهية، والرسالة، والميعاد، من دون تفصيل، واعتبروا من يؤمن بذلك مؤمناً، دمه وعرضه وماله حرام، ما يجعل قول فقهاء السلفية غير متّسق مع موقف السلف، من جهة، ويجعله تزيّداً غير مبرَّر، وعنتاً على المسلمين، من جهة ثانية، خاصّةً أن القرآن الكريم لم يوجّه بقتل المرتدّ، وأن النبي علية الصلاة والسلام لم يقتل مرتدّاً طيلة حياته.

يثير المبدأ الثاني جملةً من المشكلات والعقد الشائكة، فثمّة ممّا قاله سلف القرون الثلاثة ما يثير الاختلاف وينشر المشكلات والفتن، مثل قولهم بوجود نسخ في القرآن الكريم بالاستناد إلى عوار في فهم آيات قرآنية مثل قوله تعالى “ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها” (البقرة، 106)، أو قوله عزّ وجل “وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ” (النحل، 101)، إذ اعتبروا المقصود في كلمة “آية” فقرةً من سورة من سور القرآن الكريم تحمل رقماً، وهو قول ينطوي على سوء فهم، إذ معنى “آية” هنا هو دليل أو برهان، وليس فقرة من سورة. وقد وردت كلمة “آية” في القرآن الكريم 82 مرّة بمعنى علامةً، ودليل، وبرهان، وإثبات، ومعجزة، مثل قوله تعالى “وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ” (العنكبوت، 50)، ولم تأتِ بمعنى فقرة من سورة ولا مرّة واحدة، حتى الآيتان اللتان استند اليهما القائلون بالنسخ لا تفيدان (كما يقتضي السياق) فقرة من سورة، وقد أطلق عليها ذاتها كلمة “آية”، لأنها برهان على حقيقة إلهية أو وجودية أو أخلاقية أو سياسية أو اجتماعية. لم يقف الضرر عند تكريس صورة غير لائقة لله عزّ وجل، لأنه غيّر في أحكامه وتوجيهاته، وهو العليم الحكيم، بل استخدم تيار السلفية الجهادية الآية: “فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ” (التوبة، 5)، المشهورة بآية السيف، ونسخوا بها 134 آية تتحدث عن الرحمة والحكمة والتسامح مثل قوله تعالى: “ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ” (النحل، 125)، فآية السيف وردت في سياق توجيه القرآن الكريم لحسم القتال مع مشركي قريش بعد إعطاءهم مهلةً مدّة الأشهر الحرم، والبدء بقتالهم إذا أصرّوا على موقفهم بالعداء للإسلام والمسلمين، وأن القرآن الكريم لم يوجّه بشنّ حرب هجومية، ولم يوجّه بمقاتلة المشركين، إلا إذا اعتدوا، أي أن القتال في الإسلام دفاعي؛ ودفاعي فقط. قال تعالى: “لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ” (الممتحنة، 8)، وقال جلّ من قائل: “وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ” (العنكبوت، 46)، حتى إنه لم يوجّه باعتزال المخالفين أو الكفار أو مقاطعتهم، قال: “وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ” (الأنعام، 68)، بل ونهى عن شتم آلهة المشركين “وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ” (الانعام، 108)، واعترف بالأديان الأخرى “آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ” (البقرة، 285)، ما يعني أن الاعتماد على فهم السلف ليس وصفةً صحيحة في جميع الحالات.

المبدأ الثالث، الاجتهاد في فهم النصّ الديني، واستنباط الأحكام على المستوى الشخصي من دون التقيّد بتفسيرات المذاهب الفقهية المشهورة، فيه نزعة تحرّرية من قيود التقليد، مع ملاحظة تعارضه مع المبدأ الثاني القائل بالالتزام بفهم السلف للقرآن والسُنّة. المبدآن الرابع والخامس مقبولان ولا غبار عليهما.

لقد أنجبت السلفية النظرية ولداً مشوّها، السلفية الجهادية، بمختلف تجلّياتها ومشايخها ومنظّريها، أطلقت بدورها مواقفَ، وروّجت مفاهيمَ وقيماً على الضدّ من تعاليم الإسلام وهديه، بدءاً من تكفيرها المجتمعات المسلمة لأنها لا تتبنّى المفاهيم والمعايير السلفية، وهدرها دم المخالف لها، مروراً بتكفير أتباع الديانات السماوية، وصولاً إلى الاستهانة بنصف المجتمع؛ المرآة، والحطّ من قدرها ومكانتها.

قلنا أعلاه ليس في الكتاب والسُنّة ما يقضي بقتل المرتدّ، وقد حصل أن ارتدّ مسلمون في المدينة المنورة وخرجوا عائدين إلى مكّة، وقد علم الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم يُلقِ القبض عليهم ولا أقام عليهم حدّ القتل، ولا اعترض طريقهم ودعاهم إلى العودة عما قاموا به. وموقف الإسلام من أتباع الديانات الأخرى واضح وصريح، قال تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ” (البقرة، 62)، وقوله: “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ” (المائدة، 69)، واعتبر الفصل بينهم حقّاً لله وحده، قال: “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ” (الحج، 17). كما كان موقفه من المرأة ومكانتها ودورها لافتاً بقوّته وإيجابيته، فاعتبرها مساويةً للرجل في آدميته المرتكزة إلى وحدة الأصل، ومكلّفةً مثله، ودورها تكاملي مع دور الرجل، وليس تكميلياً كما تذهب السلفية، في ضوء اعتباره الأسرة (ذكر وأنثى) الوحدة الأساسية للمجتمع، وعدم تحديده سقفاً أو محرّمات أمام دورها، وقد كان لافتاً أن القرآن الكريم في روايته لقصّة بلقيس ملكة سبأ مع النبي سليمان، لم يعكس أيّ تحفّظ حول موقعها في رأس هرم السلطة، ملكة في بلدها، بل نقل صورةً إيجابيةً عن قيادتها لبلدها بأنها لا تأخذ قراراً إلا بعد مشاورة مجلس حكماء في المملكة، وأن كلّ ما يقال عن أدوار وقيود وحدود لدور المرأة في المجتمع هو من وضع فقهاء المسلمين، رأي/اجتهاد بشر قابل للطعن والتعديل.

لا تقف سقطات السلفية عند ما ذكرناه أعلاه، فثمة نقاط أخرى نعرضها بكثافة في النقاط التالية:

أولاً، دعوتها إلى إقامة الخلافة (دولة أمّة المسلمين، دولة فوق وطنية) باعتبارها فرضاً إسلامياً، ما يجعلها من أصول الدين، وهو مخالف لما تواضع عليه المسلمون من أصول (الألوهية، والرسالة، والميعاد)، وليس له سند صلب وواضح من النصّ الديني (القرآن الكريم)، فلم ترد في النصّ لا صراحةً ولا مداورةً، فالتسمية وُلِدت عفوياً من وصف طبيعة دور الإمام الذي تلا الرسول (خلفه في موقعه في قيادة المسلمين فهو خليفة، ثمّ وصف النظام السياسي بالخلافة)، وقد استبدل بها عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، لأنه اعتبر نفسه خليفة أبي بكر وليس خليفة الرسول، ورأى أن وصفه سيكون “خليفةَ خليفةِ رسول الله”، وأن في ذلك ركاكةً وإرباكاً. أمّا الحديث الذي يستند إليه السلفيون “ثمّ تكون خلافة على منهاج النبوة”، فلا يصلح للاحتجاج به، لأنه حديث آحاد لا يؤخذ به، رواه شخص واحد هو داود بن إبراهيم العقيلي الواسطي. والدولة لم تعد كما كانت قبل قرون دولة المَلك أو الإمبراطور أو الخليفة، بل تطوّرت وأخذت معناها الحديث مؤسّسةً تضمّ كلّ أفراد المجتمع، ولكنّها تبقى مستقلّة عن أيّ فرد أو مجموعة (شخص اعتباري)، والسيادة فيها لمجموع الشعب، وتتولّى السلطةَ الفعلية (الممارسة) حكومةٌ ملتزمةٌ بحدود ترسمها قواعد عامّة ومُجرَّدة (دستور)، مع التمييز بين السيادة والسلطة، فالسيادة أشمل من السلطة، إذ السلطة هي ممارسة السيادة، وهذا استدعى التمييز بين الدولة والسلطات المتفرّعة منها (الرئيس والحكومة والبرلمان والقضاء… إلخ)، والسيادة لا تُسنَد في الدولة الحديثة إلى شخص طبيعي، بل إلى شخوص معنوية مُجرَّدة: الأمّة والشعب والدولة والمؤسّسات، وتُسند السلطة إلى شخوص طبيعيين لممارستها نيابة عن الدولة مع تقييدها بالدستور والقوانين، فالحكومة تمارس السلطة نيابةً عن الدولة، والسلطة التنفيذية تنفّذ التشريعات والقوانين التي تصدرها السلطة التشريعية (البرلمان)، والسلطة التشريعية تكلّف السلطة التنفيذية وتحاسبها، والسلطة القضائية تراقب دستورية القوانين وتقوّم الممارسة في السلطتين التنفيذية والتشريعية. فالدولة، ذلك الشخص الاعتباري الذي يتجسّد بالدستور والسلطات الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية، توكِل سلطتَها إلى من ينوب عنها في ممارستها، فالرئيس والحكومة والبرلمان والقضاء ليسوا أصحاب سيادة أصلاء، بل وكلاء الدولة في ممارسة السيادة، إنهم مفوَّضون من الدولة وليسوا أصحاب سيادة ذاتية، لقد مُنحوا حقّ إصدار القوانين، واحتكار حيازة وسائل الإكراه، وحقّ استخدامها في سبيل تطبيق القوانين، بهدف تأمين السلم والنظام، وتمكين التقدّم في الداخل والأمن من العدوان الخارجي.

ثانياً، عدم وجود تصوّر سلفي يلحظ ويتعاطى مع العالم المعاصر، وما فيه من قضايا ومسائل ومشكلات، تؤثّر في حياة الإنسان بشكل عام، والمسلم بشكل خاصّ، فالتصور السلفي فقير في مكوّناته، وغريب عن عالم اليوم، نتيجة استغراقه في الماضي، والانطلاق من نظرة نكوصية ترى القرون الأولى أفضل القرون، وتبدأ الحالة بالانحدار مع التقدّم في الزمان. ولذا، فهي غير قادرة على التعاطي مع الحاضر والمستقبل، وغير قادرة على طرح نموذج سياسي مقنع وجذّاب، ما لم تكسر قواعد نظرتها، وتنطلق من فهم التاريخ، واكتشاف السُنَن، والتطلّع إلى المستقبل من خلال احتياجات الإنسان الذي بُعِث الأنبياء لمساعدته على التحرّر والعيش في ظروف مريحة وإيجابية، فالدين جاء لخدمة الإنسان وليس العكس.

ثالثاً، عدم وجود تصوّر سلفي للتعاطي مع المُختلِف دينياً ومذهبياً، وتمسّك التيار بفقهِ أزمات قائم على فكرة الدفاع والمواجهة، ما جعله عاجزاً عن التعايش مع مجتمع تعدّدي ومفتوح، وانحيازه للصدام والعنف، في حالة لا تتسق مع منطق الدولة، أيّ دولة، فما بالك بالدولة الحديثة.

يشير الكلام أعلاه إلى عدم صلاحية النزعة السلفية خياراً للتعاطي مع العالم الحديث، والنهوض بواقع المسلمين المُزري، ما يستدعي العودة إلى الإسلام الأول المنسجم مع فطرة الإنسان، والتخلّي عن العنعنة الركيكة، فثقافة قال الله وقال الرسول، على مكانتها وتقديرها، ليست كافيةً بذاتها، لأنّها هي ذاتها تركت قضايا من دون تفصيل، وأخرى من دون توجيه محدّد، تركتها للمسلمين كي يُمعنوا النظر ويجتهدوا في فهمها، ووضع خطط وبرامج يواجهون بها واقعهم، ويحلّون بها المشكلات التي تواجههم كي يعيشوا عيشة هانئةً وسعيدةً. لعلّ أول القضايا التي تُرِكت لاجتهادهم قضية الشورى التي لم ينجح السلف في تقنينها، واختلفوا حول هل هي معلمة أم ملزمة، مع أن الهَدي القرآني جازم في الزاميتها، إذ قال: “وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ” (الشورى، 38)، ومطالبته للرسول بمشاورة المسلمين: “فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ” (آل عمران، 159).

إعادة نظر في منطلقات السلفية، وتطوير مفاهيمها، عبر قراءة النصّ الديني المؤسّس (القرآن الكريم) قراءةً قائمةً على الموضوعات واستكشاف القيم الإيجابية العظيمة فيه، ضرورة حيوية للخروج من عنق الزجاجة، والانفتاح على الواقع والمستقبل، وتكريس قواسمَ مشتركة مع الآخر المختلف، فتقنين الشورى ومأسستها مثلاً سيقودان إلى الكشف عن تقاطعها الواسع مع الديمقراطية في إدارة الاجتماع السياسي، والنظر إلى أتباع الديانات والمذاهب الأخرى أخوةَ إيمان، سيفتح الطريق للتماسك الوطني، وتحديد موقع المرأة ودورها الحقيقي سيتيح وضع قوى المجتمع وقدراته في معركة البناء والنماء، والتصرّف بدلالة الوطن سيعزّز سيادة الوطن ورسوخه.

العربي الجديدة،

———————————

العدالة الانتقالية في سورية… “الموت والعذراء”/ سمر يزبك

08 يناير 2025

تُعدّ العدالة الانتقالية إحدى أبرز المهام والضرورات والأدوات التي تعتمدها المجتمعات الخارجة من الصراعات والحروب، بهدف تجاوز الماضي وفتح صفحة جديدة قائمة على المصالحة والمساءلة. لكنّ هذه العدالة ليست دائماً مساراً واضحاً أو سهلاً، بل كثيراً ما تعترضها معضلاتٌ أخلاقيةٌ وفلسفية، تتعلّق بتوازن القوى بين الضحيّة والجاني، وبين الانتقام والعفو.

في هذا السياق، من المفيد الانتباه إلى التجربة التشيليّة في تطبيق العدالة الانتقالية، وما رافق هذه التجربة من تعقيدات أخلاقية وقانونية، إذ استطاعت المسرحية التشيليّة “الموت والعذراء”، للكاتب أرييل دورفمان، أن تعكس ضوءاً كاشفاً على جدلية العدالة والانتقام في المجتمعات التي مرّت في مرحلةٍ انتقالية.

تبرز شخصية بولينا نموذجاً حيّاً للضحايا، الذين يحملون جراحهم ويبحثون عن الإنصاف في مواجهة الماضي. عند إسقاط هذه الحكاية على الحالة السورية، يتضح حجم التشابه في الأسئلة والهموم، إذ إن سورية، مثل تشيلي وغيرها من الدول، تواجه تحدّياتٍ معقّدةً في سعيها إلى تحقيق العدالة بعد سنوات من القمع والانتهاكات. ليست مسرحية “الموت والعذراء” مُجرَّد عمل درامي، بل هي انعكاس عميق للتجارب الفردية والجماعية في ظلّ الأنظمة الاستبدادية. تدور القصة حول بولينا سالاس، التي تعرّضت للتعذيب والاغتصاب خلال فترة حكم بينوشيه. بعد سقوط الديكتاتور، وبدء المرحلة الانتقالية، تصادف بولينا الطبيب الذي أشرف على تعذيبها، لتقرّر احتجازه ومحاكمته بنفسها. تضعنا هذه المسرحية أمام السؤال الجوهري: هل إعدام الجاني يُعدّ تحقيقاً للعدالة أم أنه مُجرَّد انتقام مُقنَّع بقناع القانون؟

رغم معاناتها، لم تبحث بولينا عن القِصاص فقط، بل عن الاعتراف والاعتذار، وهو ما يعكس حاجة الضحايا في المجتمعات الخارجة من الحروب إلى سماع الحقيقة كاملة من أفواه الجناة. يوازي هذا المنحى في المسرحية ما يعيشه سوريون عديدون لا يزالون يحملون جراح الانتهاكات، ويطالبون بمحاكماتٍ علنيةٍ وشهادات تكشف عن جرائم الماضي. وعند تناول مسألة العدالة الانتقالية من منظور فلسفي، تبرز اختلافات جوهرية بين العدالة قيمةً كونيةً، والانتقام ردّة فعل شخصي على الظلم. يرى أفلاطون في “الجمهورية” أن العدالة تكمن في “إعطاء كلّ ذي حقّ حقه”، وهي بذلك تقوم على مبدأ الحياد والموضوعية. في المقابل، يرفض نيتشه هذا الطرح، معتبراً أن العدالة ليست سوى شكل من أشكال الانتقام الذي نُظّم ضمن بنية المجتمع. في كتابه “جنيالوجيا الأخلاق”، يُظهر نيتشه أن العدالة ليست قيمةً مطلقةً، بل هي تجسيدٌ لرغبة الأقوياء في ترويض الانتقام وضبطه. من هذا المنطلق، يمكن فهم شخصية بولينا بأنها تعكس هذا الصراع الفلسفي. من ناحية، تسعى إلى تحقيق العدالة من خلال محاكمة الطبيب ميراندا، ومن ناحية أخرى، تحرّكها مشاعر الانتقام التي لم تنطفئ رغم مرور السنوات. هذا الصراع ذاته هو ما يواجهه السوريون اليوم، إذ يقف المجتمع أمام خيار صعب بين اعتماد إجراءات قانونية ومؤسّساتية لتحقيق العدالة، أو اللجوء إلى العدالة الشخصية بدافع الانتقام، الذي يعبّر عن نفسه الآن بممارساتٍ فرديّة هنا وهناك، قد تؤدّي إلى دوّامات لا تنتهي من العنف.

تشهد سورية منذ اندلاع الثورة عام 2011 انتهاكاتٍ جسيمةً لحقوق الإنسان، شملت القتل خارج نطاق القانون، والتعذيب، والاختفاء القسري، واستخدام السلاح الكيماوي. ومع سقوط النظام، تبرز الحاجة إلى معالجة إرث الجرائم والانتهاكات التي تعرّض لها مئات الآلاف من السوريين. ليست العدالة الانتقالية خياراً ترفيهياً، بل ضرورة حتمية لبناء السلام المستدام. لكنّ تحقيق العدالة الانتقالية في سورية يصطدم بعدة تحدّياتٍ منها غياب الثقة في المؤسّسات القضائية المحلّية التي يُنظر إليها باعتبارها جزءاً من النظام المسؤول عن الانتهاكات، كما يخشى كثيرون من السوريين أن تؤدّي محاولات محاكمة الجناة إلى نشوب جولات جديدة من العنف والثأر. أيضاً، لا يزال الفاعلون السياسيون في سورية متردّدين في الاتفاق على إطار واضح للعدالة الانتقالية، ما يعزّز حالة الجمود.

من الفِكَر المحورية التي تقدّمها المسرحية، ويمكن إسقاطها على الحالة السورية، أهمية التوثيق أداةً لتحقيق العدالة الانتقالية. “لا بدّ لأحد ما أن يبقى حيّاً ليروي ما حدث”، تلخّص هذه العبارة التي قالها دورفمان أهمية حفظ الذاكرة الجماعية وسيلةً لمنع تكرار الجرائم. ليس التوثيق وسيلة للمساءلة فقط، بل هو أيضاً عملية شفاء جماعي تساعد المجتمعات في مواجهة الماضي والتصالح معه. ورغم أهمية العدالة الانتقالية، يبقى السؤال الأكثر أهميةً: هل يمكن تجاوز الماضي من دون السقوط في دوامة الانتقام؟… تقدّم المسرحيةُ إجابةً مختلفةً، حيث المصالحة لا تعني النسيان، بل تعني مواجهة الماضي بشجاعة، والاعتراف بالألم جزءاً من الهُويَّة الجماعية. في سورية، قد لا يكون الحلّ الممكن هو محاكمة كلّ الجناة، بل يمكن أن تكون المصالحة والمصارحة العلنية وسيلةً لبناء الثقة. لجان الحقيقة والمصالحة، والاعتراف، والكفّ عن التعالي، كما حدث في جنوب أفريقيا، قد تكون نموذجاً يمكن للسوريين تبنّيه.

والمسرحية، في تحليلها لفكرة العقاب، ترى أن العدالة ليست قيمةً ثابتةً، بل هي عملية مستمرّة تُعيد تشكيل ذاتها وفقاً للسياقات التاريخية والاجتماعية. لا يمثّل الطبيب ميراندا مُجرَّد جلّاد، بل هو نتاج نظام اجتماعي وسياسي أتاح له ممارسة جرائمه. من هذا المنطلق، يمكن أن يُنظر إلى بولينا ليس ضحيةً فحسب، بل أيضاً شخصيةً تعكس تعقيد العلاقة بين الجلاد والضحية في مراحل ما بعد الصراع. هذه الرؤية تفتح باب التساؤل عن إمكانية تحويل الجناة شركاءَ في إعادة البناء بدلاً من الاقتصار على عقابهم، خاصّة حين يقول قائل إن هذه الجرائم والانتهاكات لم تقتصر على جهةٍ واحدةٍ وطرف واحد. تحدُث المصالحة الحقيقية، بحسب بول ريكور، عندما يُتاح للضحايا سرد قصصهم بحرّية، وعندما يعترف الجناة بمسؤوليتهم. تقدّم المسرحية لحظة المواجهة بين بولينا وميراندا فرصةً للتحوّل، فيصبح الاعتراف أداةً للشفاء الجماعي. في سورية، يمكن أن تكون لجان المصارحة والاعتراف منصًةّ تُتيح للضحايا والجناة مواجهة الماضي بصدق، وهو ما قد يفتح الباب أمام مصالحة قائمة على الحقيقة، وليس على الإنكار.

تبقى تساؤلات مهمّة: هل يمكن تجاوز الماضي من دون السقوط في دوّامة الانتقام؟ وهل العدالة الانتقالية قادرة على معالجة معاناة الأفراد أم أنها مُجرَّد شعار سياسي؟ ما مدى مصداقية العدالة الانتقالية سياسةَ مصالحة وطنية؟ وفي بعض الحالات، تُعامَل العدالة الانتقالية واجهةً سياسية لتخفيف الضغط الدولي من دون أن تمسّ جوهر معاناة الضحايا، فكيف يمكن ضمان ألّا تتحول هذه الجهود دعايةً فارغةً؟ وهل الجهود المؤسّساتية لمحاكمة الجناة حقيقية أم دعائية، إذ قد يُنظر إلى بعض المحاكمات باعتبارها خطواتٍ شكليةً، خصوصاً في المجتمعات التي لا تزال تعاني من تدخّل القوى الخارجية بحجج مختلفة، منها حجّة حماية الأقليات؟ وهل الانتقام أكثر فعّالية إذا تمّ بيد الضحايا أنفسهم؟ لقد اختارت بولينا محاكمة الطبيب بنفسها، لكن هل يمكن تعميم هذه الفكرة على المجتمعات بأكملها، أم أن تحقيق العدالة الفردية يفتح الباب أمام فوضى لا نهاية لها؟ هل يمكن تحقيق العدالة الانتقالية في مجتمع منقسم طائفياً؟ وكيف يمكن ضمان أن هذه العدالة لا تؤدّي إلى تفاقم هذه الانقسامات؟ وكيف يمكن تطبيق العدالة الانتقالية بوجود سرديتَين مختلفتين، فكلّ طرفٍ في النزاع السوري يملك رواية مختلفة عن الأحداث؟ هل يمكن تحقيق مصالحة حقيقية في ظلّ غياب رواية موحّدة للتاريخ، إذ يطرح الدور الذي تلعبه القوى الخارجية في النزاع السوري تساؤلاً حول كيفية محاسبة الجناة إذا كانوا مدعومين من قوى إقليمية ودولية، أو إذا كان الجناة نفسهم من غير السوريين بعد أن استجلب النظام عشرات المليشيات من غير السوريين؟

ليست العدالة الانتقالية في سورية مُجرّد محاكمات أو تعويضات مالية، بل يجب أن تكون عمليةً شاملةً تُعيد صياغة العقد الاجتماعي، وتعيد بناء الثقة بين مكوّنات الشعب السوري.

العربي الجديد

—————————–

عامل ترامب” وبناء الدولة السورية/ مروان قبلان

08 يناير 2025

أحببنا ذلك أم لم نُحبّ، سوف يكون لسياسات إدارة الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب، أثر عميق في التحوّلات التي تشهدها سورية بعد سقوط بشّار الأسد ونظامه، وانطلاق عملية إعادة بناء الدولة، فقد تضع إدارة ترامب العراقيل في وجه هذه العملية وقد تسهل حصولها، وفي الحالتين ستكون لذلك تداعيات كبيرة على الواقع السوري. نحن هنا نتحدّث عن احتمالات تتراوح بين السقوط في الفوضى وبناء دولة مستقرّة ومزدهرة، وشتّان بين الاثنتين، فالموقف الأميركي مُعطىً مهمّ هنا لأسباب ثلاثة جوهرية، أولها متّصل بالعقوبات التي يُعتبَر رفعها شرطاً لازماً وضرورياً لإعادة بناء الاقتصاد السوري المدمّر، وعلى أساسه سوف تقدّم الدول الأخرى (أو تُحجِم) عن مدّ يد العون، والاستثمار، والمشاركة في عملية إعادة الإعمار.

عملياً، لن يمكننا المضي بعيداً في أيّ شأن سياسي أو اقتصادي أو أمني ما لم ترفع الولايات المتحدة عقوباتها عن سورية. السبب الثاني متّصل بالوجود العسكري الأميركي في مناطق شرق الفرات، ودعم المليشيات الكردية التي تسيطر على نحو ربع مساحة البلاد، وأكثر مصادر ثرواتها الطبيعية، من نفط وغاز وموارد مائية ومحاصيل استراتيجية، وبدونها لن يكون بمقدور أيّ حكومة في دمشق النهوض بالاقتصاد والاعتماد على مواردها الذاتية في بناء الدولة. نحتاج هنا إلى تعاون الولايات المتحدة أو (أقله) عدم عرقلتها جهود توحيد الدولة السورية، عبر حلّ المليشيات الكردية، وتسليم سلاحها، وإدماج من يرغب في القوات المسلّحة الجديدة. السبب الثالث متّصل بالاعتداءات الإسرائيلية على الأرض السورية، والذي نحتاج معه تعاوناً أميركياً لوقفها.

تفيد المعطيات الأولية بأن الرئيس ترامب لا يبدي شخصياً اهتماماً يُذكَر بسورية، فقد سبق ووصفها بأنها “بلاد الموت والرمال”. وخلال تقدّم قوات عملية ردع العدوان نحو دمشق، كتب قائلاً: “سورية في فوضى، لكنّها ليست صديقتنا، وينبغي للولايات المتحدة ألّا يكون لها أيّ علاقة بما يحدث. هذه ليست معركتنا”. بدا موقف ترامب حينه سالباً، لأن تدخّل إدارة جو بايدن منع إيران من إرسال مليشياتها من العراق لدعم نظام الأسد. ورغم أن ذلك ما كان ليغيّر نتيجة المعركة، إلا أنه كان يمكن أن يجعل تكلفتها أكبر، ومدّتها أطول.

السؤال الآن: كيف يمكن جعل موقف ترامب من التغيير في سورية إيجابياً، أو على الأقلّ غير معرقل؟ يمكن التفكير هنا بعدّة خطوات، منها مثلاً إرسال الإدارة الجديدة في دمشق، من باب البروتوكول والدبلوماسية، برقيةَ تهنئة لترامب، بمُجرَّد تنصيبه رئيساً في 20 من يناير/ كانون الثاني الجاري، فيها “كثير” من الإطراء والمجاملة. أحد الأصدقاء اقترح حتى إرفاق البرقية بدعوة لزيارة دمشق، وحتى الاستثمار فيها. وإذا تجاوب ترامب، كما فعل لدى زيارته كوريا الشمالية، فسوف يكون أوّل رئيس أميركي يزور سورية منذ 30 عاماً (تبدو الفكرة مجنونة، لكن هذا تماماً ما يُحبّ ترامب فعله). يحتاج الأمر طبعاً إلى كثير من العمل للفت انتباه ترامب، وجذب اهتمامه. من المهم ثانياً أن يدرك ترامب أن استقرار سورية يقلّل من احتمالات اندلاع حروب جديدة في المنطقة تورّط الولايات المتحدة، وأن الاستقرار والرخاء يعدّان مزيجاً مثالياً لمنع صعود التطرّف والإرهاب، وسياجاً متيناً في وجه اللجوء والهجرة.

وتعدّ محاربة الإرهاب ومنع تدفّق اللاجئين من أبرز أولويات إدارة ترامب داخلياً ودولياً، واستقرار سورية يخدم الهدفَين معاً. استقرار سورية يسمح أيضاً لترامب بسحب قواته من شرق الفرات، ويحدّ في الوقت نفسه من تأثير إيران ونفوذها، وقد يفيد كذلك في تحويل شركات الطاقة الأميركية شريكاً رئيساً في أيّ مشروع لنقل الغاز أو النفط من الخليج إلى أوروبا عبر سورية. لكن هذا كلّه لن يكون كافياً لإحداث التغيير المطلوب، خاصّة أن تهم الإرهاب تلاحق الحكم الجديد في دمشق، لذلك من المهمّ التوجه نحو تشكيل هيئة أو مجلس حكم أو حكومة (التسمية ليست مهمّة)، تضمّ أوسع طيف ممكن من القوى السياسية السورية، وتبني سياسات داخلية وخارجية متوازنة، وبنّاءة، من شأنها أن تسحب الأجواء السلبية كلّها تجاه التغيير في سورية. من شأن ذلك أن يعزّز السلم الأهلي، ويسهم في توحيد النسيج الاجتماعي السوري الممزّق، وينتزع اعترافاً دولياً بالحكم الجديد، ويشجّع ترامب على دعم التغيير في دمشق بجزئيَّتَي رفع العقوبات وسحب القوات.

العربي الجديد

—————————-

هيثم المالح وما لا تحتاجه سورية/ أرنست خوري

08 يناير 2025

يقلّل الاستماع إلى الحقوقي والسياسي السوري هيثم المالح (94 عاماً) من الجهد المطلوب لمعرفة ما لا تحتاجه سورية الجديدة من قناعات ومواقف وشخصيات، ذلك أن الكثير من الذي يجدر تفاديه يجسّده الرجل. ليست مناسبة الحديث هنا استذكار تصريحات المالح المهينة بحق المرأة في المجتمع والملبس والسلوك وحدود الحركة إلى حدّ لومها على قتلها أو خطفها إن تجرأت على الخروج عن الدور الذي يرسمه لها أمثاله، كما فعل ذات يوم على شاشة تلفزيون سوريا عام 2021 عندما أخذ على المناضلة الحقوقية المخفية قسراً من مليشيا زهران علوش (جيش الإسلام)، رزان زيتونة، أنها كانت تسير على عكس عادات مدينة دوما وتقاليدها، وكانت غير محتشمة في لباسها كما قال. ولا مناسبة الكلام نرجسية المالح في الحديث عن نفسه والكتابة عنها بوصفه أعظم عظماء سورية ومعارضيها وشخصياتها العامة. المناسبة إبلاغ هيثم المالح مشاهدي قناة “مكمّلين” المصرية، مساء الأحد الماضي، عيّنة من رأيه في المحيط القريب لسورية وفي العلاقات المستقبلية التي يتصوّرها مع جيرانها، واعتباره أن لبنان جزء من سورية، ويجب أن يعود إلى سيادة سورية وحكمها.

يصعب تحمّل الخفّة التي يتحدّث بها هيثم المالح عن موضوع حسّاس كاستقلال البُلدان والدعوة إلى محو ذلك الاستقلال واحتلال الدول الكبيرة ما يجاورها ويصغرها مساحةً، حتى يتساءل المشاهد: هل يعقل فعلاً أن يتفوه بهذا الكلام رجل يقولون إنه حقوقي مخضرم من المنطقي أن يكون قد راكم خبرات كثيرة في السياسة والتاريخ والصواب والحقوق والمعارف؟ بتلك الخفة التي لا تُحتمل، يقول ما حرفيته إن “لبنان يعني سورية، هذه كلها أراضٍ سورية ويجب أن ترجع الأراضي السورية إلى سورية، والسوريون الذين ذهبوا إلى لبنان، ذهبوا إلى أراضيهم”. وهل من وصفة أكثر من هذا العبث لتغذية عنصرية موجودة أصلاً عند لبنانيين كثر تجاه السوريين، في ظرف يفكّر فيه السوريون بأقصر الطرق لإعادة نسج علاقات طبيعية ومحترمة مع الخارج العربي وغير العربي بعدما جعل آل الأسد سورية عدوّاً أو تابعاً منبطحاً؟

هيثم المالح، المستعجل تأبيدَ الحقد والريبة بين الشعبين والدولتين، يستعجل أيضاً القفز من تعميم غير علمي ولا تاريخي إلى آخر، فبعدما يتفوّه بأن “هذه كلها أراضٍ سورية”، يُفرغ من داخله ضغينة لا تميز صديقاً من عدو، لا تفرّق بين حزب الله واللبنانيين الذين ينافسونه كرهاً لنظام الأسد، فيقول: “نحن فتحنا بيوتنا للبنانيين، ولكنهم تنكّروا لهذا المعروف”. أما وأنّ فتح بعض السوريين بيوتهم لبعض اللبنانيين معروف ما المقصود منه، على الأرجح، أي استقبال عائلات لبنانية كثيرة في سورية خلال حرب تموز 2006 الإسرائيلية على لبنان، فإنّ التنكر لهذا المعروف، هكذا، بالتعميم الذي يخلط حابل الـ”نحن” بنابل الـ”هم” “اللبنانيون” الذين يخبرنا في المقابلة إياها أنه “عيب عليهم” أن يسألوا السوريين إلى أين يذهبون (عندما يدخلون الأراضي اللبنانية)، يجعل الاستماع إلى الرجل تضييعاً للوقت لخلوّه من كلمة مفيدة واحدة.

لو كان لدى السوريين من المنخرطين في التفكير ببناء بلدهم على أسس ديمقراطية في الداخل مسالمة في علاقاتها الدولية، تحترم الخارج ويحترمها، وقتاً للتبذير، لكانوا ردّوا بالمئات على إهانات هيثم المالح وعبثيّته. لأنعشوا ذاكرته الهرمة بفاتحة بنود أشرف وثيقة سياسية لبنانية ــ سورية صدرت طوال التاريخ الطويل للشعبين والبلدين، أي “إعلان دمشق ــ بيروت” (2006)، وحرفيّتها “احترام وتمتين سيادة واستقلال كل من سورية ولبنان في إطار علاقات ممأسسة وشفافة تخدم مصالح الشعبين”. لكن ذلك كله لا يعني هيثم المالح على الأرجح، فهمّه الحصري كان أن يسقط النظام. ها قد سقط، وعاد الرجل من ألمانيا إلى سورية فلم يتصل به أحد على ما أخبرنا في منشور على “فيسبوك”، يشكو فيه إنزاله من على منصة الجامع الأموي من “لبناني متمشيخ”… هل مَن يُخبرنا ما مشكلة هيثم المالح بالضبط مع اللبنانيين؟

العربي الجديد

————————————–

ليس الشعب السوري قاصراً/ حنان البلخي

08 يناير 2025

بعد سقوط النظام في سورية، هرعت دولٌ عربية وإقليمية ودولية إلى إعلان دعمها الشعب السوري في سبيل تحقيق “انتقال سلمي للسلطة”. قد يبدو المشهد للوهلة الأولى مؤشراً إيجابيّاً على بداية صفحة جديدة ومقدّمة لعودة سورية إلى الساحتين، العربية والدولية، إلا أن الواقع يحمل دلالات مغايرة، خاصة عندما تتجلّى لغة استعلائية تُصرّ على فرض وصاية على شعب أثبت ولا يزال يثبت جدارته وإمكاناته.

بدا مشهد توافد البعثات الدبلوماسية أشبه بمزاد دولي مفتوح على جراح شعبٍ عانى الويلات سنوات، حيث يسعى الجميع إلى ضمان مصالحه قبل أي اعتبار آخر. وكأن عقود القتل والدمار التي مرّ بها الشعب السوري مجرّد تفاصيل هامشية في معادلة المصالح الدولية.

أثارت هذه الهرولة المفاجئة، التي جاءت بعد عقود من الصمت أو التواطؤ، تساؤلات حول النيات الحقيقية وراء هذا “الدعم” المزعوم، خاصة في محيط عربي يعيش هاجس الخوف من مصيرٍ مشابه لمصير الأسد، وإقليميّاً من إيران، التي ما زالت تحاول استيعاب صدمة هزيمتها في سورية. كانت خسارة إيران، الحليف الأكبر للنظام السوري، ضربة موجعة لمشروعها الإقليمي. ورغم خطاب خامنئي المستمر عن “تحطيم الأعداء تحت أقدام المجاهدين”، إلا أن الحقائق على الأرض تثبت العكس، حيث تآكل مشروعها الإقليمي مع تراجع نفوذها داخل سورية.

وجدت الدول الغربية، وفي مقدّمها الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، باباً جديداً لتدخل إلى الساحة السورية عبر شعارات براقة مثل “الانتقال السلمي للسلطة”، “حقوق الأقليات”، “حقوق المرأة”، “إعادة الإعمار”. لكن أين كان هذا الحرص على حقوق الإنسان عندما كان الشعب السوري يُذبح ويُعذب سنوات طويلة؟ أين كانت هذه الشعارات الإنسانية عندما كانت نساء يُغتصبن، وتنتهك أعراضهن، وعندما كانت البراميل المتفجّرة تُسقط على المدنيين العُزّل، وتُحوّل السجون إلى مقابر جماعية؟ مجازر الكيماوي، فضلاً عن مجازر أخرى لا حصر لها، وثقتها لجان التحقيق الدولية، ومع ذلك اكتفى المجتمع الدولي بالصمت أو بإصدار إدانات لفظية خجولة، من دون أي تحرّك جدي لحماية الشعب السوري.

بعد أن أسدل الستار عن حقبة شديدة البشاعة، وخرجت فظائع النظام إلى العلن، بدا العالم مفاجأً بحجم الجرائم المرتكبة داخل السجون وخارجها، وكأنه لم يعلم بحدوثها أو حتى يتوقعها. في عام 2017، أفادت تقارير أميركية بوجود محرقة للجثث في سجن صيدنايا العسكري، حيث كان النظام يحرق جثث المعتقلين الذين يعدمهم. ورغم فداحة هذه الجرائم، اكتفت الأمم المتحدة بالتصريح بعجزها عن التحقق من ذلك بسبب منع النظام السوري زيارة السجون.

لنتذكّر جميعنا المساعدات الغربية، كيف كانت تُقدّم على طبق من فضّة للنظام، في وقت كان الشعب السوري المحاصر يُترك لمصيره، فالدول الغربية التي أعلنت دعمها الإنساني للسوريين خصّصت ميزانيات سنوية، لكن هذه كانت تصل عبر الهلال الأحمر التابع للنظام، ليُسيطر عليها جنوده ويستفيد منها، بينما يُترك السوريون المحاصرون للمجاعة والخذلان. ورغم علم الجهات الدولية بهذه الحقيقة المأساوية، استمرّ هذا الوضع سنوات من دون أي تغيير.

ويواصل الإعلام الغربي وصف ما جرى في سورية “حرباً أهلية”، متجاهلاً جوهر القضية، أن ثورة شعبية قامت ضد نظام استبدادي حاول جاهداً تحويلها إلى صراع طائفي وعرقي. لكن الشعب السوري، بوعيه وإصراره، أفشل هذه المخطّطات، وظل متمسكاً بوحدته الوطنية، رغم محاولات التفتيت والتقسيم.

وهذه زيارة وزير الخارجية الفرنسي ونظيرته الألمانية دمشق نيابة عن الاتحاد الأوروبي، ولقاؤهما بالحكومة الجديدة، أثارت علامات استفهام عديدة، لكن الأكثر إثارة للدهشة قرارهما الاجتماع أولاً بممثل عن المسيحيين قبل لقائهما مع الحكومة. لماذا كان من الضروري أن يزور وزراء خارجية دول علمانية عظمى ممثلًا لمكون ديني واحد فقط، ويتجاهلون باقي المكونات، بغض النظر عن حجمها أو تأثيرها؟

في وقتٍ يُصر الغرب على ادّعاء حرصه على حقوق الأقليات، يكشف هذا الموقف الانتقائي عن ازدواجية في المعايير. على الرغم من أن القيم التي يروّجها الغرب تُشير إلى المساواة والعدالة بين جميع المكونات المجتمعية، فإن ممارساته في سورية تتناقض بشكل فاضح مع هذه القيم. وعلى الرغم من أهمية مسألة حقوق الأقليات، لا يمكن اعتبار زيارة كهذه “دعماً كاملاً” للأقليات من دون الأخذ في الاعتبار معاناة بقية الشعب السوري، فالزيارة تطرح تساؤلات مشروعة: لماذا يجري التركيز على فئة معينة دون غيرها، فيما تعاني جميع الفئات من الشعب السوري؟ هل تهدف الزيارة فعلاً إلى تحسين وضع الأقليات، أم أن الهدف هو استخدام هذه الفئة حصانَ طروادة للتأثير في مجريات الأمور داخل سورية؟

يكشف هذا السلوك بجلاءٍ عن ازدواجية المعايير التي يتبعها الغرب في تعامله مع القضايا الإنسانية والسياسية في المنطقة. رغم ادّعاء دعم حقوق الإنسان، بما في ذلك حقوق الأقليات، لكن الدعم غالباً ما يكون انتقائيّاً، ويُركز على فئة واحدة، بينما يتغاضى عن معاناة بقية الشعب السوري الذي يواجه الدمار والفقر والعنف، بما في ذلك غالبية السنّة والأكراد وغيرهم.

المشكلة أن الغرب غالباً ما يستخدم “حقوق الأقليات” أداة لتحقيق أهداف سياسية خاصة، قد تكون مرتبطة بتقوية النفوذ في مناطق معينة أو تحريك الملف السوري بما يتماشى مع مصالحه. ويتجاهل هذا التوجه تبعات هذه السياسات على بلدٍ مُتعدّد المكونات مثل سورية. فبدلاً من تعزيز الوحدة الوطنية قد يؤدي هذا السلوك إلى تعميق الانقسامات في المجتمع السوري، ما يُفاقم النزاعات الطائفية ويعيق أي جهود حقيقية لتحقيق السلام الدائم في البلاد.

إلى متى ستظل سورية ساحة لتصفية الحسابات السياسية بين روسيا والغرب؟ ركّز خطاب المسؤولين الأوروبيين في لقاءاتهم في دمشق على مسؤولية روسيا عمّا حلّ بالسوريين، وكأن الصراع في سورية مجرّد حرب بالوكالة، في حين غاب الحديث الجدّي عن محاسبة بشار الأسد. وكأن السوريين محكوم عليهم بالبقاء ضحية هذه التسويات الدولية، خاصة أن المجتمع الدولي، بدلًا من التركيز على تحميل النظام المسؤولية الكاملة عن الجرائم المرتكبة، يحاول مجدّداً تحويل القضية إلى صراع إقليمي ودولي. ما يحتاج إليه السوريون اليوم ليس مجرّد إدانات أو بيانات عائمة، بل محاسبة جدّية للنظام وضمان ألا تتحول سورية مرة أخرى إلى ساحة لتسوية صراعات القوى العظمى في المرحلة المقبلة.

في ظل ذلك كله، على السوريين اليوم أخذ الحيطة والحذر في ترتيب أوراقهم الداخلية والخارجية، وفي التعامل مع الوفود الغربية. ما كان على المجتمع الدولي أن يفعل هو تقديم اعتذار حقيقي للسوريين عن سنوات صمته وتواطئه، بدلاً من محاولة إملاء شروط المرحلة المقبلة. اليوم، وبعد أن حرّر الشعب السوري نفسه بدمائه وتضحياته، لا يحقّ لأي جهة أن تملي عليه شكل مستقبله. ليس الشعب السوري قاصراً. هو قادر على رسم ملامح دولته العادلة التي تتسع للجميع. رغم كل التحدّيات، يملك السوريون من الوعي والإرادة ما يجعلهم قادرين على تجاوز المحن وصناعة مستقبل أفضل.

العربي الجديد

————————-

مأساة المنفيين قسرا عن الوطن/ محمد كريشان

تحديث 08 كانون الثاني 2025

قد لا يعرفه كثيرون، وربما لم يسمع به البعض إلا بعد رحيله المفاجئ في الأيام الأخيرة من العام الذي ودّعناه… لكنه مشهور في بلده مصر.

محمد فوزي الذي اشتهر باسم محمد باكوس نسبة إلى حي باكوس في محافظة الإسكندرية الذي ولد فيه قبل 52 عاما عرف بمقاطع الفيديو التي يتناول فيها بأسلوب ساخر قضايا الفساد والتضخم وغلاء المعيشة في بلاد النيل وكلها متداخلة بطبيعة الحال مع الوضع السياسي المعقّد هناك.

برز اسمه بعد ثورة 25 يناير 2011، ونعته بعض المواقع المصرية «كأحد الأصوات التي عبرت عن أحلام وآمال الشعب المصري في التغيير حين قدّم محتوى جريئا انتقد فيه الفساد السياسي والاجتماعي، ما أكسبه قاعدة جماهيرية واسعة» وقد زادت شهرته بعد بث حلقة ساخرة أعلن فيها ترشحه للرئاسة عام 2011.

القصة ليست هنا، بل في أن هذا الفنان المصري غادر مصر في أكتوبر 2013 ولم يعد إليها حتى ليدفن فيها فقد وافاه الأجل في قطر. لم يكن هناك أي حكم صادر ضده، ولا شبهة بأنه من «الإخوان» مثلا، ولكنه في كل مرة كان يريد فيها العودة إلى مصر كان أصدقاؤه الخلّص ينصحونه بألاّ يفعل قائلين له بأن «القضية سيتم تركيبها فورا وأنت في المطار» ولم يصدّق ذلك إلا حين تم منع زوجته وابنه من السفر لزيارته.

لم يلتق بزوجته وابنه منذ 2020 ولم يسمح لهما بالسفر إلا بعد وفاته حتى أنهما لم يلحقا بجنازته وحرما من إلقاء نظرة وداع أخيرة عليه.

والسؤال الآن، كم من محمد باكوس في بلادنا العربية؟ كم من فنان أو صحافي أو سياسي يقيم حاليا خارج وطنه ولا يستطيع العودة إليه رغم أن لا حكم صادرا ضده؟ والسبب نشاطهم السلمي في التعبير عن رأيهم سواء كان ذلك في أعمال فنية أو مقالات صحافية أو برامج تلفزيونية أو أي نشاط ناقد لما يجري في دولهم.

بعد سقوط نظام صدام حسين في العراق إثر الغزو الأمريكي عام 2003، عاد إلى وطنهم المئات بل الآلاف، وكذلك الحال بعد سقوط نظام القذافي، فيما عاد كثيرون إلى تونس بعد سقوط بن علي، فيما غابت هذه الظاهرة عن مصر تقريبا بعد سقوط مبارك لأن الرجل كان يسمح، رغم كل المآخذ، بهامش معارضة لحكمه سواء في الإعلام أو النقابات أو الأحزاب، إلى أن تغيّر الحال هناك بالكامل بعد يوليو 2013 بمجيء السيسي وفي تونس بعد انفراد سعيّد بالحكم بعد يوليو 2021.

أما في سوريا فالحال مختلف تماما فقد ترك البلد زهاء نصف شعبها مشتتين في كل أصقاع العالم، فيما البقية بين نازح وسجين وقتيل ومغلوب على أمره. وحين سقط حكم آل الأسد، الذي أرادوه أن يكون إلى الأبد، عاد إلى الوطن الآلاف وهم لا يصدّقون أعينهم أن هذه اللحظة التاريخية قد حلّت فعلا وهم على قيد الحياة ومتحسّرون على من اختطفه الموت قبل أن ينعم بها. رأينا مثلا الصديق الصحافي تيسير علّوني وهو يعود إلى دمشق بعد أربعين عاما ليلتقي بأخواته الذين كان احتضنهم آخر مرة قبل أكثر من عشرين عاما في زيارة لهم إلى الخارج، فيما رأينا ذلك الفيديو الذي يصور العناق المؤثر للغاية بين الابن الذي قضى خمسين عاما خارج سوريا وأمه الذي تجاوزت المائة عام لكن الله كتب لها أن تحتضن فلذة كبدها بعد كل هذا الغياب الرهيب.

وتبقى القصة الأقسى في سوريا للعائدين إلى وطنهم هي تلك الخاصة بالناشط السوري المعارض مازن حمادة الذي اعتقله النظام مع بداية الثورة عام 2011 عدة مرات قبل أن يطلق سراحه بعد سنوات من الاعتقال والتعذيب ليتوجه إلى أوروبا ويحصل على اللجوء في هولندا، لكنه قرر فجأة العودة إلى سوريا بعد 4 أعوام في المنفى ليجدد النظام اعتقاله وتتكرر مأساة التعذيب الوحشي وقد عثر على جثته في سجن صيدنايا سيئ الصيت بعد سقوط النظام.

كان حمادة قد أمضى زهاء 3 سنوات في سجون الأسد، وبعد إطلاق سراحه عام 2014، قدم شهاداته التفصيلية في أنحاء العالم على التعذيب الذي تعرض له في سوريا، وكان مساهماً في إجراءات دولية لمحاكمة نظام الأسد، قبل أن يقرر عام 2020 العودة إلى دمشق حيث اختفى فور وصوله إلى المطار.

طبعا كان هناك من بين الغائبين عن بلدهم والمحرومين من العودة إليه من تعلّقت بهم قضايا وأحكام، بغض النظر عن وجاهتها وعدلها، لكن المشكل هي في هؤلاء الذين لم تكن لهم مثل هذه القضايا، ولا هم بالفارين من العدالة، إذا كان لمفردة العدالة من معنى هنا. هم ببساطة لم تكن لديهم «الجرأة» للعودة، لا لشيء سوى أن لا ثقة لهم في قضاء بلدهم ولا أمنييه ولا سياسييه ولا شيء يدمّر أي سلطة أكثر من عدم ثقة أبناء شعبها فيها.

كاتب وإعلامي تونسي

القدس العربي

—————————

هل تهدد فلول الأسد دول المغرب؟/ نزار بولحية

تحديث 08 كانون الثاني 2025

في الشمال الافريقي تصوب الأنظار بقوة هذه الأيام نحو سوريا، لكن إن كانت بعض الحكومات المغاربية مشغولة بمصير من كانوا معتقلين هناك من بين الحاملين لجنسياتها، الذين اتهموا بالإرهاب وأفرج عنهم بعد سقوط النظام، وترى في خروجهم من المعتقلات والسجون خطرا حقيقيا على أمنها، فإن أخرى قد تهتم وبدرجة أولى بإمكانية توظيف بعض الجهات للنخب العسكرية والأمنية والاستخباراتية التي كانت تمثل العمود الفقري لذلك النظام، في أعمال عدائية ضدها.

وفيما يرجح أن يكون بشار وأسرته الصغيرة قد استقروا في روسيا، فإن مصير النواة الصلبة في نظامه المنهار لا يزال غامضا ومجهولا، إذ بعد شهر من سقوطه المفاجئ والمدوي ما زال هناك كثير من الأسئلة الحائرة والعالقة. وواحد منها هو أين يمكن أن تكون قد اختفت مجموعات كاملة من كبار الضباط من ذوي الرتب العليا، التي كانت تمثل الحلقة الأولى من الدوائر القريبة من حاكم دمشق السابق. وفيما تستمر إدارة العمليات العسكرية في سوريا في شن حملات واسعة في مناطق شتى من سوريا منها، على سبيل المثال، حمص بهدف «محاصرة وملاحقة من تلطخت أيديهم بدماء السوريين ومجرمي الحرب ممن رفضوا تسليم السلاح»، وفقا لما ذكرته مصادر مسؤولة في وقت سابق لـ»القدس العربي»، يبدو واضحا أن هناك ضباطا رفيعي المستوى يقبعون الآن رهن الاعتقال، بالإضافة إلى آخرين ممن تم اعتقالهم في فترة سابقة، عندما تمت السيطرة الشهر الماضي على العاصمة السورية.

كما أن هناك وبالمثل أعدادا غير معروفة، خصوصا من القيادات الصغرى والوسطى، التي انتسبت إلى جيش بشار قد استجابت بالفعل للنداء الذي أطلقته السلطات الجديدة، وتقدمت وبشكل طوعي لتسليم الأسلحة والمعدات التي كانت تحت أيديها، مقابل حصولها على بطاقات أمنية مؤقتة صالحة لمدة ثلاثة أشهر تعفيها من الملاحقة القضائية، وتتيح لها السفر والتنقل، وتحميها من التعرض لأي عمل انتقامي. وربما وجدت من ضمن هؤلاء بعض الأسماء الكبرى والمعروفة مثل اللواء طلال مخلوف، الذي شغل منصب قائد الحرس الجمهوري السابق، وكان مدير مكتب القائد العام للجيش والقوات المسلحة في النظام السابق، عند فرار الأسد، والذي ذكرت بعض المصادر أنه قد أجرى بدوره تسوية في مركز حكومي، وسلم بالتالي ما كان يملكه من أسلحة حربية، لكن تلك العملية ظلت مع ذلك معلقة على شرط مهم وهو، أن لا تكون تلك العناصر قد تورطت في جرائم، أو أعمال قتالية، الأمر الذي يبدو في حالة بعض الأسماء المعروفة التي عملت مع النظام السابق أمرا صعب التحقق. ولأجل ذلك فإن فرضية هروب قسم واسع من كبار القادة العسكريين السوريين، الذين عملوا مع بشار الأسد إلى خارج سوريا تبدو الأكثر ترجيحا من غيرها. والسؤال هو إلى أي دولة يمكن أن يلجأ هؤلاء في تلك الحالة؟ وهل يمكن يتم استغلالهم أو استخدامهم من طرف الجهات التي قامت بتهريبهم، أو في المناطق التي لجأوا إليها في حروب، أو نزاعات إقليمية بعيدة كل البعد عن سوريا؟

أواخر الشهر الماضي ذكر المرصد السوري لحقوق الإنسان أن» القوات الروسية المتمركزة في قاعدة حميميم الجوية في ريف اللاذقية قامت بنقل العشرات من كبار ضباط النظام السوري السابق الى إحدى قواعدها في شمال افريقيا «وتمت عملية النقل» على دفعتين على الأقل خلال شهر ديسمبر/كانون الثاني الماضي، دون ذكر الوجهة النهائية. وحسب المرصد فقد جرى نقل الدفعة الأولى في الثامن من ديسمبر الماضي، تزامنا مع مغادرة الرئيس المخلوع بشار الأسد لسوريا «ونقلت المجموعة الأولى من الضباط التي تضم قيادات بارزة في الجيش والمخابرات وشخصيات نافذة في مؤسسات العهد السابق، عبر طائرة مدنية روسية». وفي الثالث عشر من الشهر الماضي «نقلت الدفعة الثانية باستخدام طائرة شحن عسكرية روسية وشملت العملية مجموعة جديدة من كبار الضباط»، يتزامن ذلك مع المعلومات التي ذكرتها صحيفة «وول ستريت جورنال» في الثامن عشر من الشهر الماضي نقلا عن مسؤولين أمريكيين وليبيين من أن روسيا قد نقلت معدات دفاع جوي متقدمة، بما في ذلك رادارات لأنظمة الدفاع الجوي أس 400 وأس 300 من سوريا إلى قواعد في شرق ليبيا يسيطر عليها اللواء المتقاعد خليفة حفتر.

وهذا ما يطرح سؤالين مهمين للغاية وهما، ما الذي تخطط روسيا لفعله في الشمال الافريقي؟ وهل أنها أقدمت على نقل معداتها العسكرية إلى هناك فقط بالتنسيق مع حفتر؟ أم أيضا مع دول أخرى في المنطقة؟ ثم هل إنها هرّبت تلك الشخصيات والقيادات العسكرية السورية إلى هناك حتى توفر لهم ملجأ آمنا نسبيا، أم أنها تفكر في إشراكها بطريقة من الطرق في الحروب والنزاعات الدائرة هناك؟ والتقاطع الذي يحدث هنا هو هل يمكن أن تستقطب جبهة البوليساريو مثلا جزءا من تلك القيادات وتوظفها في تدريب قواتها، بل ربما حتى في الاشتراك معها في عمليات قد تشنها في الصحراء ضد القوات المغربية؟ لعل البعض قد يرى أن مثل ذلك السيناريو يبدو خياليا للغاية، لكن ومع أن المغرب لم يوجه في السابق أي اتهام رسمي للنظام السوري بالضلوع في تدريب قوات البوليساريو داخل سوريا، إلا أن عدة تقارير إعلامية أشارت منذ وقت قريب إلى وجود أعداد من تلك القوات داخل الأراضي السورية يشرف على تدريبها إيرانيون، بل ذكر البعض منها، أن هناك من تم القبض عليه من بين هؤلاء عند انسحاب قوات النظام السوري السابق من بعض المدن مثل حلب، وفي صورة ما إذا ثبت ذلك فهل هناك ما قد يمنع غدا من أن تنتقل العملية إلى مكان آخر خارج سوريا، ويشرف بالتالي قادة سابقون في جيش بشار، بدل القادة العسكريين الايرانيين على تدريب ميليشيات البوليساريو داخل مخيمات تندوف، عوضا عن المعسكرات السورية؟

من البديهي أن حدوث ذلك الأمر سوف يتطلب توفر عدة عناصر وأولها الغرض الأساسي من وراء تهريبهم من الأراضي السورية وهذا ما يتقاطع بشكل كبير مع المصالح الروسية في المنطقة. فهل سيكون بوسع روسيا في هذا الصدد أن تجازف بتهديد مصالحها مع المغرب، لمجرد إرضاء الجزائر، أو الاستجابة لطلب من ذلك النوع قد تطلبه منها؟ ربما تدل التباينات الواضحة بين توجهات موسكو في الساحل الافريقي، وخيارات الجزائر هناك على أن تلك الإمكانية تبقى محدودة. كما أن قدرة وقابلية تلك القيادات للانخراط في حروب عصابات وعلى ميدان مختلف تماما عن الذي عملت فيه في السابق، قد تحد من ذلك بشكل كبير. لكن هل يعني ذلك أن فلول جيش بشار ستتمتع بتقاعد مريح في الشرق الليبي، مثلما يرجح ان يكون مكان وجودها الآن حسب عدة مصادر؟ يبدو من الصعب أن يحصل ذلك. أما ما طبيعة الأدوار، التي ستقوم بها وأين وكيف؟ فهذا ما ستكشفه الأيام.

كاتب وصحافي من تونس

القدس العربي

—————————

تنبّؤات كارثية/ فوّاز حداد

07 يناير 2025

يُعتبر سقوط نظام الأسد أهمّ حدث في سورية منذ ما يزيد عن مئة عام، فالانتداب الفرنسي لم يدُم أكثر من ربع قرن (1918 – 1946)، ومثله فترة الحُكم الوطني مع سلسلة الانقلابات، وضمنها فترة الوحدة والانفصال (1946 – 1970)، بينما استمرّ حُكم الأسد الأب والابن ما يزيد عنهما معاً (1970 – 2024)، ما أتاح لهما وقتاً كافياً لصناعة جمهورية فاسدة وخراب شامل، جمهورية كانت في طريقها للتحوّل إلى ملكية وراثية، فالعائلة في اتساع، والوراثة باتت قانوناً مرعياً. ختمت جمهورية الأسد حُكمها بحرب زادت عدد سنواتها (2011 – 2024) عن الحربين العالميّتَين، الأُولى والثانية. سقط النظام رغم الدعم والحماية التي أسبغتها عليه روسيا ومليشيات مذهبية إيرانية وحزب الله.

هذا كي نعطي فكرة صغيرة عن حجم حدث كبير، ويمكن تقدير مفعوله من اليأس الذي استولى على السوريّين ووقعوا في شراكه، حتّى إنّهم اقتنعوا بشعار الأبد الذي كان عنوان نظام الأسد، وكان على وشك أن يتحقّق، لولا سقوط النظام.

يبدو يوم الثامن من كانون الأوّل/ ديسمبر 2024 يوم الاستقلال السوري الثاني، باعتبار السابع عشر من نيسان/ إبريل عيد الجلاء؛ الاستقلال الأوّل، الذي كلّف سورية عدّة ثورات وتضحيات شارك فيها السوريون جميعاً، على الرغم من رمزيته الوطنية في حياتنا، يكاد يتفوق عليه الاستقلال السوري من الطغيان الأسدي، فبالمقارنة معه، من ناحية الضحايا والخراب والتهجير والنزوح وما استجرّه من احتلالات، تبدو الشقّة واسعة بينهما، خصوصاً أنّ الفرنسيّين قدّموا لسورية شيئاً لا يُستهان به من مؤسّسات، وإذا كانوا أحياناً قد عطّلوا حرّية الصحافة والبرلمان، لكن كان لهما وجود فاعل، وليس وجوداً من دون أيّة فعالية سياسية. ومهما بلغت الصدامات مع الفرنسيّين، فلم تتجاوز بضعة آلاف من الشهداء، وليس مليون شهيد، طبعاً لا مفاضلة بين الشهداء. والأهمّ إذا كان المحتلّ الأجنبي مزّق سورية بالطوائف، فإنّ الأسد رسّخها واستخدمها لإشعال حرب داخلية، تحت شعار حماية الأقليات.

إذا كان الاستقلال الأوّل رمزاً للتحرّر من الاستعمار الخارجي، فالثاني رمز للخلاص من الاستعمار المحلّي، وهذا لنؤكّد أنّ الداخلي لا يقلّ عن الخارجي، وقد يكون أبشع، وهو ما أثبتته عائلة الأسد التي كانت رغبتها في امتلاك سورية أرضاً وشعباً بموجب قانون الوراثة، بينما الفرنسي لم يجسر حتى على اعتباره وضع اليد على سورية احتلالاً، فدعاه بالانتداب.

بعد أربعة وخمسين عاماً تحرّرت سورية من الطغيان الأسدي، وحتى الآن بعد مضيّ نحو شهر، يعتقد الكثير من السوريّين أنّهم لا يعيشون ما أصبح الواقع، خاصّةً أنّه في الوقت الذي شيّعنا آخر أمل للخلاص من النظام، جاءت ضربة إسقاطه، خلال بضعة أيام أشبه بعملية غامضة جدّاً، أقرب إلى الحلم منها إلى الحقيقة، ولا استغراب إن خاف السوريّون من الاستيقاظ منه. هذا القلق ينتابهم من فرط ما عانوه. ما يبدّده هو أنّه لا يمكن أن يحلموا جميعهم الحلم نفسه. لكن، لمَ لا؟ ما دام أنّهم عاشوا الكابوس نفسه، فسوف يحلمون الحلم ذاته.

هذه اللحظة لو تأخّرت، لامتدّ عُمر النظام لا أقلّ من نصف قرن آخر، وربّما إلى ما يشبه الأبد، فهذه الأنظمة تنشد البقاء بكلّ الوسائل، أحدها القتل، لا تهتمّ بشعوبها، وتترك بلدانها تتعفّن إلى ما لا نهاية.

حسناً، لا بدّ من مرور بعض الوقت كي نعتاد على حرّية لا تُقدَّر بثمن، حُرمنا منها طويلاً، يُخشى الاستهتار بها وتمييعها في النقد المجّاني المنتشر في وسائل التواصل، وكأنّه تمرين على الهراء، لم يدركوا بعد أنّ سورية تخطو في قلب العالم، ولا بدّ لهم من تحمّل مسؤولياتهم كاملةً في بناء دولة لا تُبنى بالنقد لمجرّد النقد، وتَعِدُ بتنبّؤات كارثية تتجاوز كارثة عودة الاستبداد.

كم هي تافهة حرّية الرأي عندما تُهدر على استعراض مهارات لا تُبرز سوى عاهات ثقافة أدمنت النقد، ولا تعرف كيف تفكّر.

* روائي من سورية

——————————–

فلسطين بين الأسدين/ راسم المدهون

8 يناير 2025

تحمل علاقة نظام الأسدين البائد بالعرب وقضاياهم حالات من الغرابة لا أعتقد أنها حدثت أو تحدث في أية دولة عربية أخرى. ومنذ صعود حافظ الأسد سدّة رئاسة سورية بتنا نشاهد ونسمع ممارسات تثير الاستهجان ومعه الدهشة من مواقف للنظام من مختلف قضايا العرب، ابتداء بفلسطين بشكل خاص، وبالقضايا التي تخص كثيرًا من الدول العربية. يمكن القول هنا إن كل تلك الممارسات والسلوكيات كانت دائمًا تحمل صفة واحدة هي أن نظام الأسد يصادر من الجميع حقهم في التحدث باسم قضاياهم وما يتصل بهذا الحق من فكرة امتلاكهم موقفًا خاصًا بهم. نظام الأسد كان حتى لحظة سقوطه يتصرف بقضية فلسطين باعتباره صاحب الحق الأول – وربما الأخير – في التحدث عنها واقتراح مساراتها في كل المراحل، والشيء ذاته كان يقع بالنسبة إلى لبنان وما مر به من صراعات أهلية وبالطبع كما بقية القضايا والأزمات على امتداد الساحة العربية، وهو دور منحه الأسد لنفسه بتغطية فكرية – سياسية قومية تجعل من كل القضايا العربية قضايا “قومية” وهي بالمعنى الأسدي أقرب إلى مفهوم المشاع أو الملكية العامة.

ذلك في العناوين العامة، أما في التفاصيل التي تشكل الممارسة والواقع فإن كل تلك القضايا العربية تمر من خلال قناة وحيدة هي المخابرات، وكانت العلاقة السياسية اليومية لفصائل ومنظمات العمل الفلسطيني تسير بالتنسيق المباشر بين هذه الفصائل وبين “الضابطة الفدائية”، وهي جهاز أمني يتبع فرع “الأمن العسكري” الذي لا يمكن لأية منظمة فلسطينية أن تمارس عملها في سورية دون موافقاته الأمنية الخطية وتصاريحه التي يوقعها عادة ودائمَا رئيس الفرع، بما في ذلك تصاريح السفر لأعضاء المنظمة والعودة ولكافة النشاطات السياسية أو الندوات والاحتفالات والأنشطة الرياضية ونشاطات رياض الأطفال التابعة لهذا الفصيل أو ذاك. أتذكر أنني في عام 2008 تلقيت دعوة للمشاركة في “مهرجان شعراء البحر الأبيض المتوسط” في مدينة “لوديف” في جنوب فرنسا، وحصلت على فيزا “تشنغن” من السفارة الفرنسية في دمشق، ومع ذلك لم أتمكن من السفر عبر مطار دمشق الدولي لأن “الضابطة الفدائية” لم تمنحني تصريح الخروج. اللافت هنا أنهم بعد تقديم طلب السماح بالسفر لا يرفضون، أعني أنهم إما يبلغوا الفصيل المعني بالموافقة لاستلام “البرقية” كما يسمون موافقتهم أو يقولون أن الموضوع “قيد الدراسة”، ولم يحدث مرة في حدود علمي أنهم قالوا نرفض. هكذا كنت أراجع ولا أتلقى سوى جواب واحد: موضوعك عند “المعلم” للدراسة، وكان موعد السفر وموعد المهرجان ينقضيان دون أن يحرك المعلم ساكنًا، والأمر تكرّر في السنتين التاليتين 2009 و2010 وهذه المماطلة التي لا تعني سوى الرفض لا يقدمون لها عادة أي تفسير.

يحدث ذلك فيما كانوا يواصلون عبر الإعلام وفي تصريحات قادة ومسؤولي النظام الحديث عن دعمهم المطلق لفلسطين وقضيتها التي هي حسب قولهم “قضية العرب المركزية” التي تمنيت طيلة الوقت لو أنهم تنازلوا واعتبروها قضية ثانوية.

لاحظ الجميع ومنذ الشهور الأولى لحكمه أنهم أمام شخصية غير متزنة نفسيًا وراح السوريون ونحن معهم نشاهد خطاباته في مؤتمرات القمة العربية التي كان يقدم فيها دروسًا في التاريخ والفلسفة للملوك والرؤساء العرب

في أعقاب حرب 2006 بين لبنان واسرائيل تلقيت اتصالًا هاتفيًا من متحدث قال إنه رئيس”فرع أمن الدولة” وقال لي بالحرف الواحد أن أحضر لمكتبه خلال ربع ساعة وإلا سيضطر لإرسال دورية لإحضاري. ذهبت إلى مكتبه ليفاجئني بتهمة لم تخطر لي ببال ولم أكن أتخيل أن يستدعيني بهذه الفورية من أجلها، فقد قال دون تمهيد: لماذا تهاجم سماحة السيد؟

استغربت السؤال وكنت بالفعل لا أحب السيد وإن كنت لم أهاجمه، وقبل أن أجيب سألني لماذا لا تحب نصر الله؟ قلت له: هل عليّ أن أحبه إجباريًا؟

أتذكر هنا أنه استشاط غضبًا وهدّدني بإرسالي إلى “الإدارة” في دمشق، فقلت له: أرسلني. وكنت أعرف أن الأمر لا يعدو التهديد فهو لو كان قراره اعتقالي لجاء واقتحم بيتي من البداية. بعد ثلاثة أيام واجهني مأزق “سماحة السيد” من جديد ولكن هذه المرة من “فرع الأمن العسكري” في درعا الذي أبلغني بضرورة السفر غدًا إلى مركزهم الرئيس في محافظة السويداء لأشرح وأبرّر لهم جريمة أنني لا أحب “سماحة السيد” وهذا ما حدث.

هؤلاء طيور الظلام الجارحة كانوا في تلك الأيام قد بدأوا في التنصل تدريجيًا من القرارات التي تمنح الفلسطيني حقوقًا في سورية، والتي أصدرتها الدولة السورية زمن الراحل العظيم الرئيس شكري القوتلي: كانت إعلانات الوظائف في سورية توجّه إلى “السوريين ومن في حكمهم من الفلسطينيين”، وبدأت الجملة التي تخص من في حكمهم من الفلسطينيين تختفي من تلك الإعلانات، لكن هذا التغيير الذي بدأ في عهد الأسد- الأب، أخذ يتسع في عهد الوريث الذي أصدر قانونًا يحرّم أبناء السورية المتزوجة من فلسطيني من حق ورثة أمهم أو أبيهم وهذا ما جعلنا كعائلة نكتب بيتنا باسم ابنتي المتزوجة من سوري درءًا لخطر ضياع البيت.

في السياسة، كان هم حافظ الأسد الأول القبض على “القرار الفلسطيني” ومن أجل هذا خاض صراعات لها أول وليس لها آخر اقتضت تأليف انشقاقات في الساحة الفلسطينية ومحاولات دؤوبة لتشكيل بدائل عن منظمة التحرير الفلسطينية، وكل هذا تحت ذريعة “قومية القضية”.

في مقابل كل هذا التنكيل بالفلسطينيين كانت سورية تدخل عهد الوريث بما يشبه الفانتازيا حيث لاحظ الجميع ومنذ الشهور الأولى لحكمه أنهم أمام شخصية غير متزنة نفسيًا، وراح السوريون ونحن معهم نشاهد خطاباته في مؤتمرات القمة العربية التي كان يقدّم فيها دروسًا في التاريخ والفلسفة للملوك والرؤساء العرب، حتى إذا اندلعت الثورة السورية في آذار/ مارس 2011 فتح باب الجحيم الذي تواصل لقرابة ثلاثة عشر عامًا دامية تحولت فيها المدن لساحات تجريب الأسلحة بكل صنوفها ومعتقلاتها فيما دخل المعتقلات ما يقارب مليون من الرجال والنساء وحتى الأطفال وبتنا نعرف للمرة الأولى “القبور الجماعية” والمعتقلات التي لا تشبه سوى الخرافة، كما هو “سجن صيدنايا” وسجون الفروع الأمنية المنتشرة في طول البلاد وعرضها.

ليلة الثامن من كانون الأول/ ديسمبر كنت ساهرًا أطل من شرفة بيتي على انسحاب الدبابات من الثكنات المجاورة لبيتي، وكنت دون أن يخبرني أحد أحس أنهم ينسحبون وخلال أقل من ساعة هاتفني صديق وقال: لقد خرجوا من درعا نهائيًا.

أعرف أنني في تلك اللحظة بالذات بكيت كما لم أبك من قبل. كان ابني الأصغر قد استشهد في حربه مع النظام، وكان محظورًا عليّ وعلى عائلتي أن ننعيه أو نقيم خيمة عزاء، وهم سألوا وحققوا مع أصدقائي عن شيء واحد هو: هل أقمت عزاء أم لا؟

هكذا دخلوا التاريخ من أقذر أبوابه، وهكذا تنفسنا الصعداء بالمعنى الكامل للكلمة، وبتنا نقرأ بحزن بالغ عن فلسطينيين بعضهم من أهل الثقافة أحزنهم سقوط المخلوع لأنه ينتسب حسب أوهامهم إلى محور المقاومة والممانعة وما يشبهها من تعابير ومصطلحات ليست لها أية علاقة بالواقع ولم تتسبب سوى في تدمير بلداننا العربية في أكثر من ساحة وبلاد.

ضفة ثالثة

—————————————

السوريون.. أمثولة مصرية/ شادي لويس

الأربعاء 2025/01/08

في 15 يونيو/ حزيران العام 2013، جلس الرئيس المصري حينها، محمد مرسي، بين الشيخ علي أحمد السالوس رئيس الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح على يمينه، ووزير الأوقاف الشيخ طلعت عفيفي على يساره، وفي الخلفية كتب بخط كبير: مؤتمر الأمة المصرية لدعم الثورة السورية. وحمل المؤتمر الذي دعت له القوى الإسلامية في الصالة المغطاة باستاد القاهرة وبرعاية الرئيس نفسه، شعار “معاً حتى النصر”. تلى الخطبة التي استهلها مرسي بتكراره عبارة “لبيك يا سوريا”، دعوات إلى فتح باب الجهاد طرحها متحدثون لاحقون في المؤتمر. وساعتها، فسر ذلك على إنه مباركة ضمنية من الرئيس المصري لذهاب المصريين للمشاركة في القتال في سوريا. وظهر ذلك انتهاكاً من الرئيس لخطوط حمراء غير معلنة.

كانت خطبة مرسي متحفظة إلى حد كبير، تعد بالوقوف إلى جانب حق الشعب السوري في تقرير مصيره واختيار من يحكمه، داعياً المجلس الأمن إلى فرض حظر جوي فوق سوريا، وفي الوقت نفسه حض مواطنيه على أن يستوصوا خيراً بالعائلات السورية ومعاملتهم وكأنهم مصريين. وكانت الخطوة الفعلية الوحيدة التي اتخذتها الحكومة المصرية هو قطع العلاقات مع النظام السوري. إلا أن الصبغة الإسلامية التي طغت على المؤتمر، وعدد من الوجوه التي ظهرت فيه من الجهاديين السابقين والمدانين في قضايا عنف، جعل فعالياته أشبه باستعراض جهادي، القصد منه توجيه رسائل إلى الداخل أكثر منه متعلقاً بما يجري في سوريا البعيدة. ساعتها، كانت الأزمة السياسية في مصر في أوجها وحملة تجميع توقيعات حركة تمرد وصلت إلى ذروتها. وفي النصف الثاني من كلمة مرسي تحول إلى الحديث عن الوضع الداخلي، وأطلق عدة تهديدات ضد أنصار “النظام الفاسد”، وبدا وكأن القصد لم يكن إعلان الجهاد في سوريا كما ذهب البعض، بل التلويح بحمل السلاح في وجه الداخل في حال وصل الصدام المحلي إلى نقطة اللاعودة.

في نظر الكثيرين، شكل المؤتمر نذر النهاية لتجربة الديمقراطية قصيرة العمر في مصر بعد ثورة يناير، ولم يمر أسبوعان وكانت تظاهرات الثلاثين من يونيو تهدر في شوارع القاهرة والمدن المصرية، ممهدة الطريق لانقلاب الثالث من يوليو. بصورة ما، أصبحت سوريا مرآة لمصر أو العكس، أو صورة مقلوبة لما يمكن أن يحدث أو يخشى منه هنا أو هناك. بمعنى آخر، لم تكن سوريا في مؤتمر مرسى مكاناً حقيقياً بل أمثولة يتم القياس عليها أو هي مكان متخيل يمكن فيه تخطي الخطوط الحمراء وتصفية الحسابات المحلية، ولو رمزياً، مع القليل من استعراضات القوة الإسلامية.

وعلى القياس نفسه، وصبيحة الثالث من يوليو، ومع استهداف الأمن لأنصار الرئيس المخلوع مرسي، تم استهداف السوريين المقيمين في مصر. بالإضافة إلى الحملة الشرطية الواسعة التي أوقفت المئات من السوريين بشكل عشوائي، شرع الإعلام المصري في التحريض ضدهم. وبالفعل، تعرضت العائلات السورية لانتهاكات تراوحت من الطرد من محال أقامتهم وأماكن العمل إلى إيذائهم بدنياً. في هذا أيضاً لم يكن السوريين شخوصاً لهم انتماءات مختلفة وأوضاع قانونية متباينة، بل مجرد أمثولة أو فئة تصنيف يغلب عليها التجريد، تعكس في مرآة رهاب الأجانب كل مخاوف النظام الحاكم وعموم المصريين من العنف وانفلات الأمور. صار السوريون في كل مكان وصلوا إليه نوعاً من مثال شارح يوظف في الخطابات السياسية. ففي أوروبا بقوا لما يقرب من عقد صورة لـ”غزو” القوارب البرتقالية الآتية من البحر، المأساة الجديرة بالتعاطف من بعيد، ومصدر الخطر في آن معاً. تحت ظروف بعينها يغلفها الهول، تتحول شعوب بأكملها إلى ذكرى أو حلم أو كابوس أو حلية بلاغية. يتساوى في هذا السوريون مع الفلسطينيين.

ومع التطورات الأخيرة في سوريا تبدو خطبة مرسي الآتية من زمن آخر كنبوءة تحقق نصفها، فالنصر أصبح أمراً واقعاً لكنه لم يكن نصراً مشتركاً. وكما في السابق يعود النظام المصري لعقاب السوريين بالجملة، فارضاً قيوداً شاملة على دخولهم إلى مصر. فهذه المرة لا يعود السوريون تكثيفاً لكوابيس الاقتتال الأهلي والتمرد والفوضى فقط، بل أيضاً مثال حي على انهيار السلطة المفاجئ وانتصار قيم الحرية والكرامة ولو إلى حين.

المدن

————————–

إيران وخسائرها: تغيير المسار أو مواجهة الضربة الكبرى/ منير الربيع

الأربعاء 2025/01/08

لم تتقبل إيران حتى الآن ما يصفه مسؤولوها بـ”الهزيمة” في سوريا. منذ سقوط نظام بشار الأسد، وتحميله مع جيشه مسؤولية عدم القتال وعدم الصمود، تتوالى التصريحات الإيرانية الهجومية تجاه التطورات السورية. لن يكون من السهل على إيران الاستسلام، لكنها أيضاً تعلم جيداً موقفها “الحرج” في ظل الهجمة الأميركية الإسرائيلية عليها. خصوصاً أن الشعار المرفوع إسرائيلياً هو تغيير وجه الشرق الأوسط وضرب نفوذ إيران في المنطقة. الضغط العسكري والسياسي والمالي والأمني الذي تتعرض له إيران، هو عبارة عن مشروع تراكمي عمره سنوات، انفجر منذ عملية طوفان الأقصى ولا يزال مستمراً، ويفترض أن يشتد أكثر مع الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، الذي يريد المجيء بإيران إلى طاولة التفاوض بشروطه. ولذلك، لا يمانع بممارسة أقصى أنواع الضغوط عليها.

فرصة لإسرائيل

إسرائيلياً، فإن بنيامين نتنياهو يعتبر نفسه أمام فرصة تاريخية وقد لا تتكرر لتوجيه ضربة عسكرية كبرى لإيران لتأخير وتعطيل نشاطها النووي. هناك مخاوف إيرانية وإقليمية، من إقدام إسرائيل على تنفيذ ضربات بشكل مفاجئ، وفي الوقت المستقطع ما بين نهاية ولاية جو بايدن ودخول ترامب إلى البيت الأبيض. هذا ما تسعى إيران إلى تجنبه بشكل كامل. وهناك خطوط مفتوحة بشكل مباشر وغير مباشر مع إدارة ترامب للتفاوض على كل ما يجنب طهران الضربة. في إيران هناك احتساب لكل الاحتمالات والخيارات، لكن جهات دولية وإقليمية عديدة تنشط على خط خفض التصعيد، وترك الأمور على سكة التفاوض والديبلوماسية، مع إعطاء إشارات وإيحاءات واضحة لطهران بأن هناك استراتيجية جديدة يفترض أن تظهرها، وأن تتخلى عن الكثير من المشاريع القديمة.

يرفع المسؤولون الإيرانيون الصوت عالياً، ضد مسار تقويض نفوذ طهران في المنطقة، انطلاقاً من الساحة السورية خصوصاً. علماً أن هناك مؤشرات واضحة حول الاستيعاب الإقليمي والدولي لما جرى في سوريا، وأن هناك فرصة ممنوحة للقيادة الجديدة. وعليه، لا يمكن لإيران أن تكون في واجهة أي أحداث مضادة. وعلى الرغم من المواقف ذات السقف المرتفع، فإن الجو الغالب في الداخل الإيراني يذهب باتجاه التفاوض والتفاهم مع الأميركيين، وخصوصاً في عهد ترامب. الانقسامات مستمرة بين مراكز القوى المختلفة داخل إيران، لكن الميل هو لعدم الدخول في مواجهة لا مع العرب ولا مع الغرب وخصوصاً في هذه المرحلة.

رؤية إيرانية

لذا، هناك في إيران من يفكر بطريقة مختلفة وإن كانت تتقاطع مع مبدأ “تقويض الانفلاش” على مستوى المنطقة، والتركيز على التحاور مع ترامب، على أساس اتفاق جديد في الملف النووي، عنوانه خفض مستوى التخصيب، مع الاستعداد لفتح الباب أمام تعاون كامل حول تفتيش المنشآت، بالإضافة إلى القبول بالتفتيش المباغت وعبر زيارات غير معلنة مسبقاً. أما بملف الصواريخ البالستية، فهناك رفض إيراني للنقاش لتفكيك هذه البنية الصاروخية، مع ميل للتفكير بالعودة إلى ما كان قد طرح سابقاً وهو في وقف مسار تطوير هذه الصواريخ.

الأهم بالنسبة إلى الإقليم، هو التقدم برؤية إيرانية مختلفة لما كانت عليه رؤيتها في العقود الماضية، على قاعدة التعاون مع دول المنطقة المختلفة، ووقف مشاريع تصدير الثورة أو خلق الكيانات الموازية داخل كل دولة.

المسعى العراقي

هذا مسعى تقوده جهات دولية وإقليمية عديدة، على رأسها العراق، الذي يسعى إلى تحييد نفسه عن مسارات الصراع. وهو عمل منذ الحرب الإسرائيلية على المنطقة على تحييد نفسه وضبط ساحته عسكرياً، كما وضع رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني مساراً واضحاً لضبط السلاح المتفلت، وقد حظي بدعم مرجعية النجف ومقتدى الصدر حول ضرورة حصر السلاح بيد الدولة.

يسعى السوداني مع إيران في سبيل ضبط وضع الميليشيات، وإيجاد مخرج لوضع الحشد الشعبي تحت سلطة الدولة، والتفاوض مع الإيرانيين حول بعض الفصائل التي لا تزال ترفض الانخراط في هذا المشروع، وتريد الحفاظ على جسمها العسكري واستقلاليته، كحزب الله العراقي وفصائل أخرى. وهذه كلها ملفات يبحثها السوداني خلال زيارته إلى إيران، بالإضافة إلى البحث في ملفات كثيرة، لتجديد تغذية إيران للعراق بالغاز والكهرباء، بالإضافة إلى السعي لفتح قنوات تواصل بين إيران وسوريا، وتخفيف الحدّة الإيرانية تجاه سوريا مع التوسط لفتح العلاقات بين الطرفين، خصوصاً أن العراق معني جداً بتهدئة الأوضاع، لأن انفجارها سينعكس بشكل مباشر على الساحة العراقية. بعدها يتوجه السوداني إلى عواصم عربية ويعمل على جدولة زيارات إلى عواصم غربية، بينها لندن، في إطار تعزيز دوره التفاوضي في سبيل تحييد العراق عن أي مواجهة، ومحاولة لعب دور تقريبي بين إيران والغرب.

أربعة ملفات

ما يسعى إليه العراق مع طهران، تريد إيران تلقفه على مستوى المنطقة، إذ لا بد له أن ينسحب على 4 ملفات أساسية. أولاً، سوريا والتي يعتبر الإيرانيون أنها لم تستقر حتى الآن، وقد تشهد الكثير من الصراعات أو الصدامات بين مكونات مختلفة وفصائل متعددة. وهذه قد تجدها إيران فرصة لإعادة تثبيت حضورها هناك، وإن كانت فيه غير متصدرة للمشهد. ثانياً، لبنان، والذي تراهن قوى دولية وإقليمية عديدة على إيران ودورها في إقناع حزب الله بتطبيق اتفاق وقف إطلاق النار، والتخلي عن السلاح، والانتقال إلى مرحلة جديدة من الممارسة السياسية. وذلك، من خلال إنتاج تسوية سياسية تحظى بقبول المجتمع الدولي. ثالثاً، اليمن في إطار السعي الدولي والخليجي لتوفير سلامة الملاحة في البحر الأحمر. رابعاً والأهم، فلسطين، إذ هناك تشديد أميركي إسرائيلي مع ضغوط مكثفة على إيران لوقف مسار دعم فصائل المقاومة الفلسطينية واستمرار المواجهة العسكرية، مع تصريحات علنية واضحة لمسؤولين أميركيين وإسرائيليين طالبوا إيران بعدم العودة إلى استخدام لغة “زوال إسرائيل”.

قد تنحني إيران للريح في مرحلة ما، لكن لن يكون من السهل عليها التسليم بكل ما هو مطلوب، وقد تنتظر فرصة للانقضاض والانقلاب.

في المقابل، قد لا تبدو دول كثيرة مقتنعة بقدرتها على إلزام طهران بهذه الشروط. وهو ما سيبقي المعركة مفتوحة وإن كانت دون سقف المواجهة العسكرية، وتركزت على الشؤون الداخلية في السياسة وفي طبيعة النظام وتركيبته.

المدن

——————————-

من دمشق/ وفائي ليلا

-1-

صباح الخير يا رفاق …

سأقول ملاحظات عن دمشق والدخول إليها عبر الحدود اللبنانية ومطار بيروت  تباعاً هنا وما رأيت  لمن يسأل ويهتم لأن أصدقاء كثر لي  يستفسرون عن ذلك  وقد يكون هذا مفيداً لمن يحب زيارة سوريا من مطار بيروت هذه الأونة

من البداية الجانب اللبناني في المطار كانوا لطيفين ومرحبين بل ومهنئيين لنا بالحرية رغم أن من أجرى اجراءات الدخول لي ولعائلتي كان عسكرياً أو ضابطاً ولم يتم حتى تفتيش حقائبنا واعطونا شهر إقامة مقدماً كي نقضي أياماً في لبنان كما قال لي الضابط لو أحببنا ذلك ( هناك ازدحام في نقطة الحدود اللبنانية جهة المصنع وهو طبيعي عند الدخول )

الاوراق المطلوبة في لبنان إن كنت أوروبيًا هي جوازك الأوروبي وأي ورقة تثبت أنك سوري حتى لو كان منته الصلاحية (جواز قديم ، هوية قديمة، إخراج قيد)

الدخول إلى سوريا كان رائعاً … كل الشباب السوريين  المتواجدين على الحدود كانوا  لطيفين للغاية ويعملون على تنظيم المرور بلطف رغم الازدحام الشديد وهم يرتدون ملابس عسكرية واغلبهم شباب بعمر صغير ومعي كانت اختي وابنة اختي وهن سافرات ( أذكر هذا التفصيل لمن يهتم ويرغب بالاطمئنان على الحريات الفردية )

للعبور قاموا بالتالي : اخذوا الجواز الأوروبي وقارنوا الصورة على الجواز بوجوهنا وأهلاً وسهلاً مع ابتسامة عريضة …

كانوا سعيدين أكثر منا بعودتنا كما شعرت .. الطريق إلى دمشق آمن جداً ولا دوريات ولا حواجز ولا شيء من هذا ولا يوجد ختم على الجواز ( في العودة كان هناك موظفين لتسجيل الخروج دون ختم ) كل هذا حتى التخوم ورؤية دمشق البهية تلوح مثل بحر من جمال ممتد لا يكف ولا ينتهي …

يتبع ..

—————–

دمشق 2

كل شيء متوفر بدمشق بالنسبة للمواد الغذائية ولكن الوقود فقط يباع  على جوانب الطريق الآتي من لبنان لأنه أنظف كما سمعت. هناك بعض المباني محترقة مثل الأمن الجنائي، والجوازات، ورابطة الشبيبة بدوار باب مصلى وأفرع الأمن التي بدا الرصاص على جدرانها واضحاً. 

المطاعم وأماكن اللهو ما زالت كما هي حتى الكباريهات مازالت تعمل لمن يهمه التأكد أنه لم تمس حرية الناس في السهر أو الشرب.

البارات، الاختلاط بكل الأماكن العامة أمر عادي

الغلاء كبير بالنسبة للناس وسمعت عن انخفاض ببعض السلع.

الوجوه غالباً في الاسواق العامة أكثر تفاؤلاً

في المخيمات  هناك دمار شاسع، بعض العائلات رممت ما تبقى من بيوتهاوبعضهم عاد ليرسم على الجدران ويعلق صور الشهداء

بالنسبة للمسلحين العسكريين المتواجدين قرب الاماكن الحكومية كانوا على الأغلب مندمجين مع الناس ويتبادلون الاحاديث العادية معهم وفي آخر الليل “وأتحدث هنا عن الاحياء” كان هناك ثلاثة أو أربعة من الشبان بملابسهم العسكرية يقفون على الجانب وحين تتقدم سيارة ينظرون إلى الركاب والوجهة ويسألون الراكب عن وجهته ويلوحون بأيديهم دون أي كلمة أو سلوك  خاطىء رغم خوف أبدي يسكننا نحن السوريين كلما سألنا أحد ما من قبل  مسلح أو جهة أمنية.

في المرجة علقت صور المفقودين وعلى جدران دمشق هناك صور ونعوات لمفقودين كتبتها الامهات أحياناً يبتعد بعض المسلحين حين التصوير بالقرب وبعضهم لا يمانع بإلتقاط الصور مع الناس والاطفال.

في ليلة رأس السنة تواجد النساء والاطفال والرجال في ساحة باب توما بأعداد هائلة(المحجبات أكثر بكثير هده المرة والسافرات أقل بما لا يتناسب وطبيعة المكان )  

المقاهي  والاختلاط والضحك والموسيقا كما هي والعناقات لم ألمح ولا سلوك يدل على تدخل أو محاولة لمنع الناس أن يكونوا هم

الناس عموماً مستبشرين وهناك أسئلة قلقة ( محقة) حول المستقبل وتفاؤل حذر

التقيت أصدقاء من كل الانتماءات والمشارب والمذاهب  وكثير منهم قلق ومتوتر   مع أسئلة المثقفين المشككين والخائفين من الآتي وخصوصاً تصنيف الناس لبعضهم البعضهم {بالفلول والشبيحة مثلا }صار سهلاً وغالباً يقال للتهكم وللمرح

لمحت غناء جماعي لشباب وبنات في مقاه عامة وهي ظاهرة لربما لم تكن موجودة

المواصلات متوافرة ولا يوجد ازدحام أو اختناقات مرورية وقد تجد رجال ينظمون المرور دون ملابس رسمية

على أطراف دمشق وحتى في وسطها يظهر البؤس والفقر جلياً في ملابس ووجوه الناس

هناك أطفال لم يتجاوزوا العاشرة يضعون علب دخان في جيوبهم الخلفية وكأنه شيء

اعتيادي

تستطيع ان تتعرف الناس وتحبهم بسهولة في دمشق المكان البسيط الأليف مثل بيتك حين تمد يدك للمصافحة

الفيس بوك

—————————–

ماذا يفعل “وليد جنبلاط” في “فرع فلسطين”؟/ هلا نهاد نصرالدين

08.01.2025

اطّلع فريق “درج” على مجموعة من وثائق النظام السوري السابق داخل أحد مباني الفرع 235، المعروف بـ”فرع فلسطين” في دمشق. من بين هذه الوثائق، برزت وثيقة غير مألوفة تحمل عنواناً من كلمتين: “وليد جنبلاط”. الوثيقة، المؤلفة من ثلاث صفحات، كُتبت بأسلوب شخصي على يد المهندس (إ. ب) الذي نتحفّظ عن ذكر اسمه لحماية هويته.

 (إ. ب) بحسب ما تُظهر الوثيقة، موظف في المؤسسة العامة للاتصالات في ريف دمشق، علماً أن عائلة (ب) هي عائلة درزية من السويداء. الوثيقة تفتقر إلى الطابع الرسمي المعتاد في المستندات الأمنية، حيث لا تتضمن تاريخاً أو صيغة واضحة للمرسل والمستلم، أو عنواناً واضحاً.

النص لا يتضمّن أي تاريخ، لكنه يتطرّق عدة مرات إلى الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006، ويتناول دور النائب اللبناني مروان حمادة المقرب من جنبلاط، متهماً إياه بالتجسس لصالح إسرائيل وأميركا، وإبلاغه “عن تحركات عناصر المقاومة، بالإضافة إلى التجسس على الاتصالات في لبنان لصالح الكيان الصهيوني وأميركا”.

النص ممتلئ بالهجوم الشخصي على جنبلاط، حيث يصفه (ب) بأنه “إنسان مخادع جبان لا يعرف الأدب والاحترام والتقدير، إنسان باع نفسه للصهيونية والإمبريالية الأميركية وحلفائها أعداء لبنان والأمة العربية والشعوب الحرة، إنسان أسير هواجسه وأحلامه الخيالية الشريرة الشيطانية… إنه إنسان كافر جاحد لنعم الله وفضل الآخرين… خسيس نذل، تعض اليد التي امتدت إليك”.

وكأن هذا النص جاء للردّ على خطاب جنبلاط الشهير بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري في شباط/ فبراير 2005، حيث صرخ فيه جنبلاط قائلًا: “يا طاغية الشام… يا قرداً لم تعرفه الطبيعة، يا أفعى هربت منها الأفاعي، يا حوتاً لفظته البحار، يا وحشاً من وحوش البراري، يا مخلوقاً من أنصاف الرجال، يا منتجاً إسرائيلياً على أشلاء الجنوب وأبناء الجنوب”.

ولكن بحسب الكاتب، النص جاء ليردّ على وصف جنبلاط لبشار الأسد بالإرهابي، قائلًا له: “أيها الأميركي المتصهين الضعيف الواهن ذو التركيبة الغريبة العجيبة في بنيتها الداخلية والفيزيولوجية… ها هو اليوم هذا العميل يصف سيادة الرئيس الدكتور بشار الأسد بالإرهابي”.

لا بد من الإشارة إلى أنه في العام 2015، غرّد جنبلاط قائلاً: “طالما هناك سوري واحد يقاتل النظام الإرهابي لبشار الأسد فأنا مع هذا السوري”.

يتابع (ب): “… هذه الشخصية الفريدة من نوعها في الخسة والدناءة والخيانة والوهن والضعف. شخصية هزلية غير متوازنة متفككة بعيدة كل البعد عن الصدق والحق والمنطق في الأقوال والأفعال… عملاء أمثالك أفاعٍ محتالون دجالون مذبذبون… يزرعون الخراب والفساد والتفرقة”، ويضيف: “أنظر أيها المغفل الراقد في سباتك العميق… وبعد كل هذا وللأسف الشديد، أقول لك إنني لا أجدك إلا كحجر شطرنج تحركه يد الصهيونية والأميركية والإمبريالية العالمية، لتضعه في المكان الذي يناسبها، والذي يحقق مصالحها وأهدافها، أو كدمية يفصّلون لها الثوب الذي تريد أن تلبسه، أو ككرة في الملعب يلعبون بها بأقدامهم متى يشاءون، ويضعونها في الزاوية التي يريدون. هذه هي شخصيتك الحقيقية يا وليد بيك”.

“يا هذا، ألا تخجل من نفسك عندما تدّعي وتفتري على الآخرين بالقول إن نظام الرئيس الراحل حافظ الأسد، هو الذي قتل والدك (كمال جنبلاط)؟ الراحل حافظ الأسد لم يكن يوماً إرهابياً يمارس القتل ضد أي إنسان عربي عادي، فكيف يمكن أن يمارس القتل ضد رجال أحرار مثل والدك؟”. هكذا جاء في النص، معتبراً أن “حافظ الأسد كان مثالاً للفكر الديمقراطي الحر، الذي لا يستخدم لغة القتل والعنف والقوة ضد خصومه، إنما يعتمد على لغة الحوار”.

مع ذلك، يبقى مصير هذا النص غير واضح. هل نُشر كمقال صحافي أو كمنشور على مواقع التواصل الاجتماعي؟ أم أُرسل كرسالة مباشرة إلى وليد جنبلاط؟ أم أنه ظل محفوظاً في أقبية فرع فلسطين من دون أن يرى النور؟.

زيارة جنبلاط للشرع: هل تعيد بناء العلاقات اللبنانية- السورية؟

بعد انقطاع دام 15 عاماً عن سوريا، سارع النائب اللبناني السابق وليد جنبلاط بزيارة تاريخية إلى دمشق، حيث التقى أحمد الشرع قائد الإدارة الانتقالية السورية الجديدة. هذه الزيارة، التي جاءت بعد سقوط نظام بشار الأسد، حملت أبعاداً سياسية ودينية عميقة، ووصفتها جريدة الشرق الأوسط بأنها خطوة جعلت جنبلاط “رأس حربة التواصل اللبناني مع القيادة السورية الجديدة”.

جنبلاط كان أول شخصية لبنانية رسمية بارزة تزور سوريا بعد سقوط النظام السابق، ورافقه وفد من نواب “اللقاء الديمقراطي” وعدد من المشايخ الدروز، يتقدمهم شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ سامي أبي المنى.

بعد زيارته دمشق، توجه جنبلاط إلى أنقرة حيث التقى الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، وتحدّثت تسريبات صحافية “عن احتمال قيامه (جنبلاط) بدور وساطة بين تركيا والإدارة الذاتية الكردية في شمال شرقي سوريا، لوقف هجمات القوات التركية والفصائل الموالية لها، على مواقع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في ظل العلاقة الجيدة بينه وبين قسد”.

في هذا السياق، وفي مقابلة تلفزيونية لجنبلاط مع برنامج “2030” على قناة LBC اللبنانية بتاريخ 6 كانون الثاني/ يناير 2025، قال جنبلاط إن “القومية العربية ميزت واضطهدت وقتلت”، مضيفاً أن “القومية العربية بتاريخها الناصري والبعثي أساءت كلياً إلى كرد سوريا والعراق”.

واعتبر أن النظام السوري “دخل على دم كمال جنبلاط، وخرج على دم رفيق الحريري”، كما دعا في المقابلة إلى”قطف فرصة سقوط النظام”، داعياً جميع الأطراف إلى منح أحمد الشرع وسلطته فرصة لإدارة المرحلة الانتقالية، قائلاً: “من منا ماضيه ناصع البياض؟ لسنا أبرياء… أعطوا فرصة لأحمد الشرع وانسوا تاريخه”.

درج”

———————

العلويون في سوريا: من عبودية الأسد إلى يُتم الدولة الجديدة/ عمر قدور

08.01.2025

سقط الأسد، ولا يُعرف بعد المسار الذي ستسلكه سوريا والدولة السورية الوليدة بعد ما يزيد عن نصف قرن من دولة الأسد. المؤكد أن المسارات جميعها شائكة، ومفخّخة بانقسامات أهلية، وبالانقسامات التي حدثت على خلفية الثورة عام 2011. الأنظار متجهة أولاً إلى تعزيز السلم الأهلي بالمعنى المباشر للكلمة، لأن السيطرة على الانفلات “إذا حدث” قد لا تكون ممكنة بسهولة، ومن المرجّح أن تكون مكلفة على الصعيدين القريب والبعيد.

على كثرة ما كُتب عن العلويين، ومحاولة فهم علاقتهم بالسلطة الأسدية، لم تُبذل محاولات مماثلة إزاء فهم علاقتهم بسوريا نفسها. ثمة كليشيهات شائعة على هذا الصعيد، من موقع اتهامي غالباً، تتعلق بعريضة وقّعها وجهاء علويون، طالبوا فيها فرنسا بإبقاء انتدابها على سوريا. وقد اشتُهرت العريضة بسبب ما أُشيع عن توقيع جدّ بشار الأسد عليها، برغم ما هو معروف عن عدم انتماء العائلة إلى فئة الوجهاء، ومن المرجّح أن يكون شخص آخر هو الموقِّع على البيان، وأن ثمّة تشابهاً وخلطاً بين الأسماء.

هناك أيضاً، من الموقع المضاد نفسه، كليشيه عن جيش الشرق الذي أُنشئ أيام فرنسا واعتمد على الأقليات، ثم صار الجيش السوري الرسمي. وفق هذه الرواية، فخّخت فرنسا الدولةَ السورية الوليدة بتحالف عسكري للأقليات، وهذا التحالف أوصل سوريا إلى انقلاب البعث، ثم إلى هيمنة العلويين المطلقة على السلطة بعد انقلاب الأسد. وهذه الرواية، التي تبدو كأنها تُكمل سابقتها، لا تقول شيئاً يُذكر عن حقبة الخمسينيات التي تبقى كأنها فجوة زمنية لا أكثر، وتعزّز كسابقتها الظنّ بأن العلويين هم ضد الدولة السورية، بدءاً من رفض استقلالها عن فرنسا، وصولاً إلى الهيمنة عليها في عهد الأسد.

بخلاف هذه الصورة التبسيطية، نزعم أن العلويين تحديداً لا خيار لهم سوى الدولة السورية، وأنهم كانوا معنيين (ربما أكثر من الجماعات السورية الأخرى) بالكيان السوري الوليد. الأمر لا يتعلق هنا بالتوجهات الشخصية لأي منها، بل تحكمه الوقائع، والأخيرة تقول إن معظم الجماعات السورية الأخرى لها امتدادات تفيض على حدود الكيان السوري، بخلاف العلويين الذين ليس لديهم في مخيالهم الجمعي (إن جاز التعبير) هذا الامتداد، ولا هو موجود في إرث رمزي متداول.

الجماعة العربية السنية هي الأكثرية العددية الساحقة في سوريا، لكن هذا لا يقول كل شيء عن موقعها، فهذه الجماعة تستند أيضاً إلى محيط جغرافي واسع؛ سنّي وعربي- سني، ما يجعلها أشد اطمئناناً إلى أكثريتها المحلية.

وكما نعلم، شهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر تدخلاً أوروبياً حثيثاً في بلاد الشام، من أجل حماية الطوائف المسيحية، على خلفية الأحداث والمذابح الطائفية التي حدثت آنذاك. هذا، من دون الوقوع في فخّ الاتهام والتبسيط، منحَ الطوائف المسيحية اطمئناناً إلى كونها مسنودة بالغرب القوي، فوق القرابة الدينية. والانتماء المزدوج، إلى الغرب والشرق معاً، نجد له إرثاً رمزياً شديد الصراحة في الأدبيات اللبنانية، خصوصاً المسيحية منها.

وعلى رغم تأخر الكرد في بلورة تنظيمات سياسية، يجوز القول إنهم إجمالاً غير راضين عن تقسيم المنطقة الذي نشأ بموجبه الكيان السوري. يستند الكرد في عدم الرضا، إلى إغفال القسمة الدولية إقامةَ دولة كردية، ليبقى الكرد موزّعين بين أربع من دول المنطقة. لكن، بناء على القسمة ذاتها، يمكن القول إن كرد سوريا لديهم إحساس بالوجود خارج حدود الدولة السورية، بدءاً من العمق العراقي الذي كان له بدايةً الأثر الأكبر (من خلال ثورة البارزاني) في تشكيل إرث رمزي نضالي، وصولاً إلى الارتباط بكرد تركيا عبر منظومة حزب “العمال الكردستاني”.

درزياً، يمكن أيضاً الحديث عن عمق درزي يتجاوز الحدود السورية إلى لبنان وفلسطين، وكان دروز سوريا قد حصلوا على اعتراف معنوي مهم، بالتوافق الذي حدث على تسمية سلطان باشا الأطرش قائداً عاماً للثورة السورية الكبرى، ما جعلهم ينظرون إلى أنفسهم (وقتها ولاحقاً) بوصفهم عنوان الوطن السوري. يُضاف إلى العامل الأخير أن الدروز نالوا الاعتراف بهم كطائفة، لجهة قوانين الأحوال الشخصية ذات الأهمية الكبرى للحفاظ على الطائفة قليلة العدد نسبياً.

لا يمكن، في المقابل من الامتدادات العابرة للحدود للجماعات السورية، الحديث عن عمق خارجي للعلويين، باستثناء جزء من سكان لواء إسكندرون الذي أُعطي لتركيا عام 1939. الوجود العلَوي في تركيا لا يشكّل عمقاً، لأسباب تتعلق بالاختلاف المذهبي بين الطرفين، وأيضاً بالاختلاف اللغوي، فضلاً عن الجرح العلَوي “السوري” من الدولة العثمانية، ما يجعل العلويين بعيدين كلياً عن كل ما يمتّ بصلة إلى “الحضن” التركي.

واحد من الدلالات العميقة التي تؤكد أن سوريا هي عمق العلويين، الواقعي والرمزي، أنهم “تاريخياً” الأقل هجرة واغتراباً. هذا لا يُردّ فقط إلى الوجود في السلطة بدءاً من الستينيات، لأنه يصحّ على المستفيدين منها، ولا يصحّ على الفقراء منهم الذين لم يهاجروا بدوافع اقتصادية أسوة بأمثالهم من بقية السوريين. واليوم واحد من رهانات الوطن السوري ألا يشعروا بأن عمقهم السوري مهدَّد، وأن يضطروا إلى توسّل عمق خارجي بديل. هذا لا يخص العلويين وحدهم، بل ينسحب على مختلف الجماعات السورية التي يؤمل أن تجد عمقها، وأن تتبدد هواجسها، في دولة المواطنة.

العبودية للأسد لم تكن ممكنة بالبطش وحده، لأن ولاء العبد يُحصَّل بالعنف عند اللزوم، وبما يبقيه على الحياة وعلى ولائه عندما لا يكون العنف ضرورياً.

العبودية للأسد

بعد سقوط الأسد بثلاثة أيام، أجرت قناة “بي بي سي” مقابلة مع حافظ منذر الأسد، حفيد جميل الأسد شقيق حافظ الأسد. حافظ الصغير يوصف بحسب “بي بي سي”، بأنه حاكم اللاذقية، وهو متهم بالعديد من التهم التي ينفيها، أقلّها شأناً ضلوعه في تجارة الكبتاغون. ينفي حافظ الصغير ما أمكن تورّطه في استخدام العنف ضد المعارضين، ومشاركته في تصنيع وتجارة الكبتاغون.

 إلا أن ما يهمنا في هذا السياق هو استخدامه كلمة الدولة من أجل تبرير القليل مما يعترف به، وبرغم ما في الاستخدام من استغلال وتلطٍّ وراء الكلمة، لكن شيوعه يستحق الانتباه إلى ما تعنيه الدولة حقاً في مخيال الجماعة.

“لسنا مذنبين، لقد كنا تحت سقف دولة”، يقول حافظ الصغير. مضيفاً أنه جاهز للعدالة ومستعد للحوار إذا كانت هناك (دولة نظامية) مستشهداً بمثال رامي مخلوف، ليؤكد أن التحديات التي واجهتها العائلة كانت أكبر من تلك التي يواجهها “الغريب”! ثم يضيف أيضاً أن دوره العسكري مع النظام اقتصر فقط على توفير/ تجنيد الأشخاص وإرسالهم إلى الفروع الأمنية، مثل الأمن العسكري أو الفرقة الرابعة، مؤكداً أن هذه الأعمال كانت تتم تحت مظلة (الدولة) وبطلب منها.

ولا يجد أدنى تعارض مع هذا الدور وقوله: أنا مثلي مثل غيري، لم أدخل في السياسة أو الدين ولا علم لدي بالمعتقلين. وفيما يتعلق بالاتهامات الموجهة إليه باستخدام العنف ضد المتظاهرين، نفى حافظ ذلك تماماً، قائلاً: غير صحيح، كنت تاجراً وممولاً فقط تحت (سقف الدولة) ولم أكن في موقع عسكري أو أمني!.

كما يُلاحَظ من أقواله، يفصل حافظ أفعاله عن مسؤوليته الشخصية عنها، بما أنها بطلب من الدولة. والدولة، بحسب هذا السياق، هي بمثابة شبح كليّ السطوة، غير متعيّن بمستويات متدرجة من السلطة والمسؤولية عنها. هي الصنم الذي يُعبَد، ويُطاع بلا تدقيق في كنه هذا الصنم أو كنه العبودية له.

 وربما يكون صادماً قولنا إن صاحب هذه الأقوال لا يتلطّى كاذباً فقط وراء (الدولة) بل يستند أيضاً إلى إرث رمزي جماعي تحضر فيه (الدولة العثمانية) كقاتلة على الهوية، وكمُقصية للجماعة جغرافياً وسياسياً واقتصادياً. استيلاء حافظ الأسد على السلطة لم يغيّر من صورتها، حتى لدى الذين امتلكوا حصة من السلطة، أو الذين صار لديهم وهْم امتلاكها.

ومن الشائع أن الأسد في بداية انقلابه غازل بقايا البرجوازية المدينية السنية، إلا أن شهر العسل بين الطرفين انتهى على أبعد تقدير عام 1976، مع دخول قواته إلى لبنان. الدخول إلى لبنان، بعد الشعبية التي نالها إثر حرب تشرين 1973، أتاح له الشروع في إرساء دولته، ومرة أخرى كان صنم الدولة مطلوباً، مثلما كان مطلوباً تصنيع عبيدها. ولا غرابة في أن التاريخ نفسه، عام 1976، شهد استهلال صعود رفعت الأسد مع ملمح طائفي لا يمكن إلا أن يكون متعمّداً، ومع استعراض مفرط للقوة من خلال قيادته ميليشيا “سرايا الدفاع”، ومن خلال كونه شقيقاً للرئيس.

يجوز القول إن الوحش الذي صنعه الأسد يلاقي صورة وحش الدولة في أسوأ تجلياتها، ضمن المخيال العلوي عن زمن التهجير العثماني وقتل الذكور وبقر بطون الحوامل؛ بصرف النظر عن دقة المعلومات وموثوقيتها تاريخياً. وهذا التلاقي لا يجعل من الوحش الأسدي انتقاماً من وحش الماضي، عن طريق الانتقام من أدواته المحلية طائفياً، فالأهم أنه يعزز فكرة (وحش الدولة) وأن الدولة كانت وستبقى على هذا المنوال. بعد تعزيز هذه الفكرة، سيكون من الأنسب بالتأكيد امتلاك الوحش بدل الوقوع ضحيته، أو أن يكون وهم امتلاكه لدى البعض بديلاً عن الخشية منه، بما أنه حال الدولة الذي لا يتغير.

لن يتأخر حافظ الأسد نفسه عن أن يكون تجسيداً صنمياً لوحش الدولة، والإشارة هنا تذهب إلى الواقع قبل المجاز. إذ مع إظهاره توحش دولته، بالاعتقالات والتعذيب أولاً، ثم بمجازر صغيرة تُوِّجت بمجزرة حماة، مع هذا التوحّش الفاجر راحت تماثيله تغزو كافة أنحاء سوريا، وصارت البلديات الصغيرة والكبيرة كافة، ملزمة بوضع صنمه على المداخل الرئيسية وفي الساحات الكبرى.

صنم حافظ الأسد المُستنسخ على طول البلاد وعرضها، هو تجسيد لكائن الدولة الخرافي، المتعالي على “رعاياها”، وهو يُعبَد لتماهيه مع هذه المنزلة. والعبودية للأسد لم تكن ممكنة بالبطش وحده، لأن ولاء العبد يُحصَّل بالعنف عند اللزوم، وبما يبقيه على الحياة وعلى ولائه عندما لا يكون العنف ضرورياً. على هذا الصعيد، كانت النماذج جاهزة أمام حافظ الأسد ليستلهم منها خلطته، بدءاً من النموذج السوفيتي الأم، مروراً بالنموذج الكوري الشمالي، وصولاً إلى تشاوشيسكو في رومانيا.

نحن لا نستطيع الحديث عن عبودية للأسد، ما لم تكن أيضاً عبودية للدولة التي أرساها، والتي ليست مخابرات وجيشاً فقط، أو حتى تنظيمات حزبية وأخرى رديفة لها على الصعيد غير العسكري المباشر. فالدولة الأسدية هي نمط استُهل مع انقلاب البعث، من خلال التوجه إلى النموذج الاشتراكي، فصدرت قرارات التأميم والإصلاح الزراعي، إلا أنه تفاقم في السبعينيات مع تضخم القطاع العام، سواء على الصعيد البيروقراطي المحض، أو على صعيد شركات القطاع العام الخدمية، أو في مضمار بعض الصناعات، ومنها شركات كانت قد أُمّمت.

ما حدث لا ينطبق عليه وصف “رأسمالية الدولة” الذي يُطلق على تجارب دول أخرى في القطاع العام، فالدولة الأسدية لم تنشئ صناعات يُعتد بها، والطابع المهيمن عليها هو قطاع عام مهلهل، يعتمد جيش موظفّيه على اقتصاد ريعي؛ جزء من الريع تكفّلت به المساعدات الخليجية التي لم تنقطع إلا لسنوات قليلة، وجزء آخر يعتمد على الثروات العامة. ولا أهمية إطلاقاً لتحصيل الضرائب، لأن النشاط الاقتصادي الخاص لم يكن المعترف به رسمياً.

وكانت الدولة الأسدية قد ورثت معاهد التأهيل المهني من الحقبة السابقة، إلا أنها صارت بلا وظيفة مع التراجع عن نمط الإنتاج الرأسمالي، وكذلك سيكون حال المدارس الثانوية- الليسيه المهنية التي أُنشئت أيام الأسد، إذ لم تقم بدور يُذكر لتأهيل الكوادر من أجل سوق العمل كما هو مفترض نظرياً. في الحصيلة، الحديث هو عن ملايين، عن النسبة الأكبر من السوريين الذين اشتغلوا عند “الدولة”، ولو بمواصفات عمل أشبه بالبطالة المقنَّعة، واشتغل معظمهم خارج المهارات العصرية المطلوبة في سوق العمل، وضمن دخل كان يتردّى باستمرار ليكون وصف وضعهم بالعبودية للدولة أقرب وصف.

من المؤكد أن نسبة ساحقة من الذين انضووا ضمن عبودية الدولة تعود أصول أفرادها إلى الأرياف، وهؤلاء اكتسبوا “مهارتهم” الوحيدة من التعليم الحكومي الذي كان يتردّى بدوره. ومن المعلوم أن أبناء المدن لا يكنّون احتراماً للوظيفة العامة، بقدر ما يهتمون بالحرف والصناعات التي لبعضها إرث قديم، ولهذا أهمية خاصة مع عدم وجود منهجية عامة للتعليم المهني على النحو، الذي تعتمد عليه مكاتب العمل في الدول الرأسمالية.

ما ينطبق على الأرياف السورية عموماً ينطبق على العلويين، مع التنويه بأن نسبة الريفيين بينهم هي الأكبر بالمقارنة مع الجماعات السورية الأخرى، وهذا الواقع معطوف على أن المدن كانت تاريخياً إلى حدّ كبير مركزاً للسلطة متماهياً معها دينياً. أي أن ما يصحّ في الكلام عن عبودية الدولة الأسدية على الجماعات السورية عموماً يصحّ بنسبة أكبر على العلويين، وهم “أكثر من غيرهم” متضررون من نمط الدولة الأسدية الاقتصادي، لأنه جعل العبودية بديلاً من مسارات أخرى هي الأفضل، ومنها “مثلاً لا حصراً”، مساهمة الدولة في تنمية المهارات ودعم الحرف والمشاريع الصغيرة وتمكينها… إلخ.

في تعبير عن وطأة ما حدث خلال عقود، سخر كثر على وسائل التواصل الاجتماعي من مطالبة “أو حتى سؤال” علويين عن رواتبهم بعد سقوط الأسد. وجه السخرية، الذي يبدو منطقياً جداً، هو أن الذين يطالبون بذلك كان البعض منهم موظّفاً في هياكل شاركت في قتل سوريين أثناء الثورة، والأولى بهم المطالبة بالعفو أو بالصفح. لكن هذا المنطق يواجهه منطق آخر، لا يقلّ تماسكاً من جهته، هو أحقية أولئك برواتبهم ما لم يكونوا موقوفين بجرم ما، وبالنسبة لكثر منهم قد يكون توقيفهم أرحم لأسرهم، إذا تكفّلت الدولة بتأمين الخبز لأولادهم، بدل تركهم طلقاء بلا رواتب.

وعلى رغم أن حافظ الأسد لاقى مبكراً معارضة بين العلويين، فإن اجتماع العبودية لدولته مع صورة وحش الدولة (أو صنمها) جعل فكرة معارضة (الدولة) غير واردة على نطاق واسع، كما هو الحال خاصة في أوساط مدينية “سنية غالباً” منفصلة عن العبودية المعيشية للدولة، ويتطلّع أثرياؤها إلى ترويض الوحش، لا الانصياع له. أي أن فكرة المعارضة كانت مستهجنة لدى شرائح واسعة تقبل الدولة الأسدية بكل توحّشها، بل تراه من (طبيعة الدولة) وتقبل بعبوديتها التي تراها أيضاً من طبائع الأمور.

في حادثة نعرفها عن كثب: راج بعد الثورة في بعض أوساط العلويين وضع لوائح بأسماء الخونة “المعارضين”، وكان ذلك بمثابة استباحة لهم، إذا قرر الشبيحة استهداف مَن يَرِد اسمه. ذلك دفع بواحد من “الخونة” إلى تهديد من وضعوا اسمه في اللائحة بمقاضاتهم، وكان أن ذهب إلى ممرضة مساهمة في التحريض، تعمل في مستشفى عام، ولما عرّفها بنفسه قالت بتعجّب شديد وحقيقي وكأنها ترى كائناً خرافياً من كوكب آخر: أنت المعارض ع.ح شخصياً! فما كان منه إزاء تعجّبها إلا أن قال لها: وما رأيك أن تأخذي صورة تذكارية معي؟

درج”

—————————–

أيها الأقوياء انغلبوا”: شهر على سقوط الأسد!/ مناهل السهوي

سوريا

08.01.2025

ما جرى في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر لا يُكتب في مادة أو مقال أو كتاب، يُعاش كل يوم، وسيبقى معنا لعقود. سنحكي لأبنائنا عنه بالحماسة نفسها، عن رحلتنا قبل الأسد وبعده. سينظرون إلينا بأعين مندهشة عندما نحدثهم عن تلك الأيام الثقيلة، عن الظلمات التي عشناها.

شهر مضى على سقوط الأسد. أصبحنا الآن قادرين على حساب الزمن بعده، بعد أن كنا نتساءل: متى سيرحل؟ عقد؟ ربع قرن؟ هل سيأتي ابنه من بعده؟ هل سنظل ندور في الحلقة ذاتها؟ لكنه سقط أخيراً، وصارت الأيام تُحسب بما بعد الأبد، بما بعد سقوط الأسد.

قبل شهر، كنا ننشد الخلاص ونحن نحمل قلقاً يُثقل صدورنا. يومها، شغّلت ترتيلة “لأن الله معنا” وسمعتها مراراً وتكراراً. كانت قوات المعارضة قد دخلت حلب بالفعل، والأمل قريب منا، يكاد يُلمَس. لكنه كان أملاً هشاً، مثقلاً بالدم والبراميل ومعتقلات الأسد.

كيف لا نخاف؟ وكل واحد منا إما هو، وإما قريبه، وإما صديقه، قد ذاق الاعتقال أو التعذيب أو التغييب القسري. كنا نعيش الخوف بكل تفاصيله، خوفاً مكتمل الملامح.

لم أسمع الترتيلة في ذلك الوقت لأي سبب ديني، بل لأنها عكست ما كنت أمرّ به من أكثر لحظات الأمل والخوف التي اختبرتها في حياتي. كنت أريد أن أصدق أنهم سيُهزمون، وأن الله أقوى من الأسد الذي جعلنا ننطوي على مخاوفنا لأجيال.

 كانت ترتيلة “لأن الله معنا” تتحدث عنا نحن السوريين قبل سقوط الأسد: نحن “الشعب السالك في الظلمة”، نحن من يعيش “في بلد الموت وظلماته”، ونحن من “أشرق عليهم نور”. في تلك الليالي الطويلة قبل سقوطه، كانت هذه الترتيلة أكثر ما يعبر عن كل مخاوفي، وعن أمل كنت أخشى أن يكون وهماً.

يقول أحد المقاطع: “إن الشعب السالك في الظلمة قد أبصر نوراً عظيماً… لأن الله معنا

أيها السكان في بلد الموت وظلمته نور يشرق عليكم… لأن الله معنا”.

شهر اختبرنا فيه مشاعر لم نعِشها طوال 54 عاماً، كنا فرحين حد البكاء، خائفين ومتحمسين، أحراراً ومكتملين، مترددين ومتأهبين، منتصرين وقلقين. عشنا شهراً حافلاً بالمشاعر المتناقضة والمنهكة. أحزاننا كاملة على من رحلوا، وعلى أولئك الذين لم يُتح لهم أن يشهدوا بأعينهم سقوط من ظنناه لا يسقط.

بالنسبة إلى شعب ذاق صنوفاً لا تُحتَمل من الظلم، كان رحيل الأسد أشبه بالأعجوبة. كنا مستعدين للإيمان بأي شيء أو أي شخص، فقط لنخفف جزءاً صغيراً من ألمنا، أو نمحو من ذاكرتنا وحش سوريا. كنا نتعلق بأي أمل، ولو كان ضئيلاً، قد يفتح أبواب تلك المعتقلات المغلقة منذ زمن طويل.

ما جرى في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر لا يُكتب في مادة أو مقال أو كتاب، يُعاش كل يوم، وسيبقى معنا لعقود. سنحكي لأبنائنا عنه بالحماسة نفسها، عن رحلتنا قبل الأسد وبعده. سينظرون إلينا بأعين مندهشة عندما نحدثهم عن تلك الأيام الثقيلة، عن الظلمات التي عشناها.

كيف لا نخاف؟ وكل واحد منا إما هو، وإما قريبه، وإما صديقه، قد ذاق الاعتقال أو التعذيب أو التغييب القسري. كنا نعيش الخوف بكل تفاصيله، خوفاً مكتمل الملامح.

سيسأل أبناؤنا عن تفاصيل تلك الليلة، كيف فُتحت أبواب السجون والمعتقلات، وانفتحت معها قلوب السوريين، وكيف خرج الألم ممتزجاً بالفرح بطريقة جعلت من المستحيل التمييز بينهما. في ذلك اليوم، كان الفرح والألم شيئاً واحداً. لن يعرف السوريون الفرح من دون ألم، لأن هذا الالتصاق العميق بينهما هو ما جعل الفرح في ذلك اليوم فريداً، ولّدته أقصى درجات الألم.

وطوال أيام ما قبل السقوط رافقتني تلك الترتيلة، وحيدة في منزلي وسط بيروت، أتابع الأخبار وأستمع إلى “إن الله معنا”، أعيد مقطع: “أيها الأقوياء انغلبوا… لأن الله معنا. لأنكم وإن قويتم أيضا ستغلبون… لأن الله معنا” وأصدق أن الأقوياء ينغلبون في النهاية.

كانت كلمة “ستغلبون”، بكل غموضها وغيبية معناها، يقيني الوحيد الذي سند هشاشة الخسارات المتتالية. كنت أفكر بالمعتقلين، أولئك الذين ربما لا يعرفون شيئاً عما يحدث خارج جدران عزلتهم. كيف عاشوا في ظلمة حقيقية، محاطين بصمت خانق، يمر الوقت عليهم بلا يقين أو أمل. ثم جاء ذلك اليوم، حين سمعوا الأغلال تتحطم. حتى تلك اللحظة، كنت أظن أن حكاية الأغلال التي تكسّر مجرد خرافة، لا تمت إلى الواقع بصلة.

أذكر أول حاجز رأيته قبل 14 عاماً على طريق دمشق – السويداء، وكيف ارتجف قلبي خوفاً في تلك اللحظة. كان ذلك الخوف يوازي كل ما عشته لاحقاً من رعب، لأنني في تلك اللحظة أدركت شيئاً عميقاً ومروّعاً: أن النظام قد حسم طريقة المواجهة، وأن بطاقاتنا الشخصية أصبحت تهمتنا في بلدنا. لم يكن الحاجز مجرد نقطة تفتيش، بل رمز للسيطرة والقهر، حيث صار الخوف جزءاً من هوية كل منا.

شهر على السقوط، حدث قد لا يتكرر إلا بعد سنوات طويلة مقبلة، لا لأن الحكام لا يسقطون، بل لأن نظام الأسد ليس كغيره من الديكتاتوريات. السقوط كان بداية التعافي الطويل، إذ وجدنا أنفسنا بلا نظام الأسد، أمام مرحلة جديدة. ومهما كانت صعوبتها، نحن مستعدون لها. فعبارة “لا شيء أسوأ من نظام الأسد” حقيقية، ليس لأن الظلم أو الديكتاتورية غير موجودين، بل لأن السوريين وصلوا إلى قاع الألم، حتى باتوا يعرفون جيداً قاتلهم وكيف ينتفضون في وجهه. شعب خسر أكثر من نصف مليون شخص في 14 عاماً، يدرك تماماً معنى الاستمرار ومعنى النهوض من بين الركام.

بعد فرار الأسد، واجهنا واحدة من أعقد مشاعرنا: ماذا سنفعل الآن؟ كيف تُعاش الحياة من دون نظام طغى على تفاصيلنا لعقود؟ أدركنا أن النظام لم يكن مجرد سلطة سياسية، بل كان قيداً يلف حياتنا بأكملها، يحدد مساراتها ويخنق احتمالاتها ويتركنا للبحار والمعتقلات ومخيمات اللجوء. نعم، كنا نعلم أن هناك حياة ممكنة من دونه، لكننا لم نعشها من قبل، ولم نعرف كيف نخطو أولى خطواتنا نحوها. كيف نبني عالماً جديداً من رحم الخراب؟ كيف نتحرر من مخاوف أصبحت جزءاً من تكويننا؟ كان السؤال الحقيقي الذي يطاردنا هو: هل يمكننا حقاً أن نصبح أحراراً، لا فقط من النظام، بل من ظله الثقيل الذي ما زال يطارد ذاكرتنا؟.

وأدركتُ فجأة أن جزءاً كبيراً من اكتئابي الذي رافقني لسنوات، كان نتيجة لنظام الأسد، ولشعوري العميق بالظلم واستحالة الحصول على العدالة. كانت تلك الثقلات النفسية التي عشتها، لا سيما الإحساس المستمر بالعجز، هي ما كبلني لسنوات. كنت أظن أن هذا الاكتئاب جزء من تكويني الشخصي، وأن الأدوية وحدها هي ما ستسيطر عليه، إلى أن اكتشفت أن الأسد كان السبب الرئيسي لهذا الاكتئاب. كان وجوده هو مصدر تلك الظلال الثقيلة التي خيمت على حياتي، وعندما سقط، شعرت أنني قد تخففت من عبء ثقيل كنت أظن أنه مستمر إلى الأبد.

شهر على السقوط، وما زال أول ما نفكر به عند الاستيقاظ هو فرار الأسد، وهو لحظة بداية حياتنا الجديدة التي نراها ممتدة إلى ما لا نهاية. لقد تخلّصنا أخيراً من ثقل الأسد الذي كان يثقل كل تفاصيل حياتنا. الآن، أصبحنا نرى العالم بطريقة مختلفة، ونشعر أن القادم يحمل لنا فرصة للتغيير. أصبحنا نمتلك يقيناً بأننا سنظل أقوياء، لأنه رغم كل محاولات النظام للبقاء، نعلم أنه سيُهزم.

والآن، نستطيع أن نقول بكل إيمان: “أيها الأقوياء انغلبوا، لأنكم وإن قويتم ستنغلبون أيضاً، لأن الله معنا”.

درح

——————————–

التغيير في سوريا… تغيير التوازن الإقليمي/ خيرالله خيرالله

من يتمعن في نقاط التفاهم بين الأسد وكيسينجر يكتشف أسباب تعلق إسرائيل بالنظام العربي السوري الذي قبل الذهاب بعيدا في تحمل المسؤولية عن أي عمل عدائي يستهدف إسرائيل انطلاقا من الجولان.

الأربعاء 2025/01/08

أي دور سيلعبه التغيير السوري في سياق تغيير المنطقة؟ يطرح هذا السؤال نفسه بعدما أدّى انهيار النظام العلوي في سوريا إلى ولادة توازن إقليمي جديد. خرج هذا البلد العربي المهمّ من “محور الممانعة” الذي كانت تسيطر عليه إيران وتوجهه في خدمة مشروع توسعي لا أفق سياسيا له. بل كان له أفق واحد يتمثل في تفتيت المنطقة العربيّة واختراقها لا أكثر. مثل هذا التفتت كان يخدم “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران التي تريد، ولا تزال تريد، إثبات أنّها الطرف المهيمن على الشرق الأوسط والخليج وأنّ ليس أمام الولايات المتحدة سوى عقد صفقة معها.

يتأكّد وجود توازن إقليمي جديد كلّيا بعد شهر على فرار بشّار الأسد إلى موسكو. كان الفرار نهاية تليق بالرئيس السوري السابق وبالنظام الأقلوي الذي عمّر 54 عاما وحرم المواطن السوري من أي نوع من الشعور بالكرامة.

توجد حاليا نقاط عدة تحتاج إلى التوقف عندها. أولى تلك النقاط أنّ ليس في استطاعة أي نظام جديد في سوريا أن يكون أسوأ من نظام الأسدين (الأب والابن) الذي لم يؤمن سوى بالقمع وإلغاء الآخر. يظلّ الدليل الملموس الأهمّ على ذلك سجن صيدنايا ومراكز الاعتقال في مختلف الفروع التابعة للأجهزة الأمنيّة، خصوصا ما يسمّى “فرع فلسطين”.

ثمة نقطة مهمّة أخرى يفترض التوقف عندها أيضا. تتمثّل هذه النقطة في الولاء الأسدي للنظام الإيراني. كان الولاء كبيرا في عهد حافظ الأسد الذي انضمّ إلى “الجمهوريّة الإسلاميّة” في الحرب مع العراق بين عامي 1980 و1988. صار ولاء النظام السوري لما يقرره الوليّ الفقيه في طهران ولاء أعمى في عهد بشّار الأسد الذي وضع نفسه في تصرّف حسن نصرالله الأمين العام الراحل لـ“حزب الله”. يشير إلى هذا الولاء الأعمى الغطاء الذي وفّره الرئيس السوري السابق لعملية اغتيال رفيق الحريري ورفاقه في 14 شباط – فبراير 2005. مثل هذه التغطية لجريمة، ذات طابع إقليمي، نفذتها عناصر من “حزب الله”، وهو لواء في “الحرس الثوري” الإيراني، لم تكن صدفة. تندرج الجريمة التي حملت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان عناصر من “حزب الله” مسؤوليتها في سياق تحالف في العمق بين نظامين اعتقدا، من منطلق مذهبي، أنّ في استطاعتهما ممارسة سياسة الابتزاز إلى ما لا نهاية، عربيا وإقليميا ودوليا…

ثمة نقطة ثالثة لا يمكن تجاهلها في ضوء سقوط نظام الأسدين. تتعلّق تلك النقطة بقيام توازن إقليمي جديد فرضه خروج سوريا من قبضة إيران. عادت الأكثرية السنّية إلى حكم سوريا بعد غياب استمر منذ 23 شباط – فبراير 1966. يومذاك، نفذ الضباط العلويون الثلاثة الكبار (محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد) انقلابهم الذي مهد ليتحوّل حزب البعث إلى مجرّد غطاء لنظام علوي ما لبث أن تحوّل تدريجا إلى نظام عائلي مع احتكار حافظ الأسد للسلطة ابتداء من 16 تشرين الثاني – نوفمبر 1970. استطاع حافظ الأسد، الذي كان يكن كرها وحقدا للمدن السنّية الكبرى وللرموز السنيّة فيها، أن يكون أول رئيس علوي للجمهورية العربيّة السورية. كان في حاجة دائمة إلى إثبات شرعيته. لم تكن لديه سوى لغة القتل لتحقيق ذلك. الدليل على ذلك ما ارتكبه مع ضباطه من مجازر في حماة في شباط – فبراير من العام 1982.

 لم يرض حافظ الأسد سوى بتوريث الرئاسة لابنه بشّار، علما أن محيطين به، بمن في ذلك نائب رئيس الجمهوريّة عبدالحليم خدّام، كانوا يعرفون أن الرجل لم يكن شخصا طبيعيا بل كان يعاني من أمراض نفسية. تحدّث خدام، بالصوت والصورة قبل وفاته، عن مرض بشّار في لقاء تلفزيوني مع إحدى الزميلات (زينة يازجي) طلبت رأيه في عدد من الشخصيات السورية التي عرفها عن كثب.

يمكن إيراد نقاط أخرى تستأهل التوقف عندها في ضوء الحدث السوري الذي كانت وراءه إسرائيل التي قررت أخيرا التخلي عن النظام السوري الذي أمّن لها هدوءا على جبهة الجولان منذ “التفاهمات” التي توصل إليها حافظ الأسد مع هنري كيسينجر في العام 1974. من يتمعن في نقاط التفاهم بين الأسد وكيسينجر يكتشف أسباب تعلّق إسرائيل بالنظام العربي السوري الذي قبل الذهاب بعيدا في تحمّل المسؤولية عن أي عمل عدائي يستهدف إسرائيل انطلاقا من الجولان.

مع قيام توازن جديد في المنطقة، سيبرز سؤال في غاية الأهمّية. هل يستطيع أحمد الشرع، الذي يقف على رأس القيادة في دمشق، العمل من أجل أن تكون سوريا صاحبة دور مختلف في المنطقة؟ تصدر عن المسؤولين السوريين الجدد حاليا رسائل طمأنة موجهة إلى الدول العربيّة. فحوى الرسائل أنّ المطلوب أن تكون سوريا دولة ذات عمق عربي وليس دولة، تدّعي العروبة وتتاجر بفلسطين… وذات عمق إيراني.

سيعتمد الكثير على ما إذا كان أحمد الشرع سيكون قادرا على تنفيذ ما يعد به للمسؤولين العرب والأوروبيين والأميركيين الذين يلتقيهم. إلى الآن، تبدو الأمور مشجعة على الرغم من الإشاعات التي تحدثت عن تغيير في مناهج التعليم والتي ثبت أنّها غير صحيحة. لكنّ تولي متطرفين حقيقيين مواقع مهمّة، خصوصا في المجالين العسكري والأمني يبقى تطورا مقلقا…

الأكيد أنّ أحمد الشرع يحاول التأقلم مع التغيير الكبير الذي حصل في سوريا وأن يكون في الوقت ذاته في مستوى هذا التغيير. على الرغم من ذلك، يظلّ الحذر واجبا. سيعتمد الكثير على الدستور الجديد لسوريا وعلى مؤتمر الحوار الوطني ومن سيشارك فيه.

لا شكّ أن تأجيل مؤتمر الحوار الوطني كان مفيدا. إنه يعني أن السلطة الجديدة في سوريا باتت مقتنعة بضرورة مشاركة كلّ مكونات المجتمع السوري في هذا المؤتمر. هل يفي أحمد الشرع بوعوده مؤكّدا، بالأفعال، أنّه وطني سوري قبل أي شيء آخر؟

إعلامي لبناني

خيرالله خيرالله

العرب

————————-

سوريا… والهستيريا/ طارق الحميد

8 يناير 2025 م

منذ فرار بشار الأسد هناك حالةٌ هستيريةٌ حيال سوريا، سواء مع أو ضد. فهناك مشاعر إعجاب تتحسس من الملاحظة والنقد، مثلما هناك هستيرية في النقد، والتصيد، والتصعيد، وبلغت حداً ملفتاً من الانحدار.

يحدث كل ذلك رغم أن اليوم يصادف مرور شهر على فرار الأسد من دمشق إلى موسكو، ووصول الإدارة السورية الجديدة للحكم. صحيح أن أسبوعاً يعد وقتاً طويلاً في السياسة، لكن ما نحن بصدده مختلف تماماً.

كنت، وما زلت، على قناعة بأن لا تشابه في الحالات السياسية في منطقتنا، ومنذ «الربيع العربي»، حيث سقوط الأنظمة، ورحيل من رحل من الرؤساء، إلا في بعض الأخطاء المتكررة من التوقيت، وجدية التحرك، لكن لا يوجد «كتالوج» موحد للمنطقة.

سوريا بحد ذاتها حالة مختلفة، من جدية ثورتها إلى عمق معاناتها، وحجم الدمار المؤسسي فيها بسبب فساد الأسد، الأب والابن، ثم ما لحق بها من دمار وخراب، وتدمير ممنهج للنسيج الاجتماعي طوال أربعة عشر عاماً مضت بسبب التدخل الإيراني.

اليوم هناك هستيريا مطالبات، وانتقادات، وتأجيج وتضليل ممنهج، بل وطعن بالإدارة الجديدة، وكذلك هناك احتفاء هو أقرب للحلم حول سوريا الجديدة، ونظامها الحالي، الذي سيكون، والحقيقة أن لا هذا مطلوب، ولا ذاك، بل مزيد من العقلانية والوعي، والتواضع.

المطلوب اليوم هو دعم سوريا، والالتفاف حولها، والقول علناً إن الجميع سيلتزم بالأفعال وليس الأقوال. ويجب ألا نغر في قصة «الأقليات»، فالأهم هو الوطن والمواطنة، والمؤسسات الضامنة لذلك.

الأهم اليوم هو أن سوريا بيد أهلها، ويجب أن يقبل الجميع بما يقبله السوريون لأنفسهم، ودون أوهام العودة الإيرانية، أو تأجيج الأوضاع، فمن مصلحة المنطقة، والمجتمع الدولي، أن تكون سوريا مستقرة وناجحة.

من مصلحة الجميع أن تكون سوريا شريكاً، وليس وكر مؤامرات ومطامع إقليمية، وأيدولوجية. ولا يمكن مطالبة «البعض» للسوريين بإنجاز ما لم ينجزوه هم أنفسهم في دولهم، والأمثلة كثيرة. مثلاً، لا تكن نتاج محاصصات طائفية، وميليشيات، وتحاضر السوريين. هذا غير مقبول.

كما لا يمكن مطالبة أحمد الشرع الآن بضرورة إنجاز كل شيء بنفس اللحظة، وهو ما لم ينفذه الأسد طوال حكمه، بل وكان هناك من يبرر له رغم كل جرائمه. اليوم علينا المشاركة والدعم لتأكد أن عربة الإصلاح والاستقرار قد انطلقت، وذلك أجدى، وأرقى، من الهجوم غير المبرر، وغير المقبول.

في القصة السورية لا يوجد أبيض وأسود، ولا يوجد هذا أصلاً في السياسة، لكن علينا تذكر أن أي شيء غير بشار الأسد هو أمر جيد، كنظام أو فرد، ويقيني أن سوريا أفضل بكثير بعد فرار الأسد، وسقوط نظامه الإجرامي.

المطلوب اليوم هو دعم سوريا، والتواصل معها عربياً بشكل مكثف، وتذكر أن النظام الجديد، وأياً كان، أمامه تحديات حقيقية بسبب ما خلفه الأسد الأب والابن، وبسبب ظروف المنطقة. ولذا الواجب اليوم هو أن تسود لغة العقل، وبلا اندفاع «حالم»، ولا انكفاء خاطئ.

هذه هي لحظة دعم سوريا «المفيدة» لأهلها، واستقرار وازدهار المنطقة.

الشرق الأوسط

—————————-

لا يطمئن السوريّين إلّا… وطنيّتهم السوريّة/ حازم صاغية

8 يناير 2025 م

قضت ظروف تاريخيّة، لا يتّسع المجال هنا لعدّها، بكبت الوطنيّة السوريّة ووضعها بين مزدوجين. فسوريّا، «قلب العروبة النابض»، غدت في اللغة البعثيّة الشهيرة «قُطراً». وكان هذا الدمج لـ»الأكثر» و»الأقلّ» كاشفاً في ما يخصّ مصاعب البناء الوطنيّ.

والحال أنّ ما فعله البعثيّون والأسديّون على نطاق موسّع، وُجدت مقدّمات له في تاريخ سابق عليهم جسّدها عديد الأحداث والتطوّرات.

وفي الخلفيّة أنّ منطقة المشرق، على عمومها، صنعت وجهةً واستقبلت وجهةً، وكانت الوجهتان المتلاحقتان مدمّرتين: الأوّلى، الانتقال، بقيادة الراديكاليّين والضبّاط، من عروبة ثقافيّة تُحبّب بالوطن ضدّاً على الوحدة العثمانيّة، إلى عروبة سياسيّة ونضاليّة تُكرّه بالأوطان بوصفها صنيعة سايكس بيكو. والثانية مدّتنا بها الحرب الباردة التي عمّمت فكرة مفادها أنّ الوطنيّة تقتصر على «مناهضة الإمبرياليّة» والاصطفاف وراء الاتّحاد السوفياتيّ.

ورغم محاولات قليلة لبلورة وطنيّة سوريّة، أقدم عليها بعض الأعيان البرلمانيّين في سنوات حكمهم القليلة، ظلّ نزع السوريّة عن سوريّا هو السائد.

فحينما أحسّ «انفصاليّو» 1961 بالحرج من جرّاء إنجازهم الاستقلال عن «دولة الوحدة»، بات اسم جمهوريّتهم «عربيّة سوريّة»، فكأنّهم جعلوا «السوريّة» تستتر بـ»العربيّة».

قبلذاك قُدّم النضال الاستقلاليّ ضدّ الفرنسيّين بوصفه هدفاً قوميّاً للعروبة قبل أن يكون هدفاً وطنيّاً لسوريّا. أمّا النشيد الوطنيّ الذي صوّر البلد بوصفه «عرين العروبة»، فاحتفل بـ»الوليد» (خالد) وبـ»الرشيد» (هارون)، ولم يذكر رمزاً تاريخيّاً واحداً وُلد في المساحة الجغرافيّة التي باتت تُعرف بسوريّا الحديثة. وفي 1946، مع الجلاء، أعلن شكري القوتلي، رئيس الجمهوريّة يومذاك، أنّه ينحني لعلم بلده في انتظار اليوم الذي ينحني فيه لعلم الدولة العربيّة الموعودة. هكذا اقترنت مناسبة الولادة بإعلان أنّ المولود مؤقّت وزائل، وهذا غير مألوف في أعياد الميلاد. لكنْ في الخمسينات، عندما استضعف السوريّون أنفسهم، واستضعفهم سواهم، وغدت بلادهم ساحة لصراع مصريّ – عراقيّ، كان الحلّ، غير المسبوق تاريخيّاً، إقدام الضبّاط على إهداء سوريّا إلى مصر الناصريّة وإقامة «الجمهوريّة العربيّة المتّحدة».

ما أضافه البعثيّون والأسديّون إلى تلك المقدّمات كثير وبالغ الضرر. فعلى أيديهم صارت سوريّا محض وظيفة استراتيجيّة، لا تُحكم داخليّاً إلاّ بالقمع، ولا تُدار علاقتها مع جوارها إلاّ بالعدوانيّة. وإذ جُعلت الدولة أداة قهر ومصفاة تمييز، استفحلت قوّة الانتماءات الأهليّة التي تكفّلت، هي الأخرى، بامتصاص ذاك القليل المتوفّر من الوطنيّة السوريّة. ثمّ منذ الثمانينات، مع تحوّل الإسلاميّين الطرف المعارضَ الأبرز للأسديّة، أضيف تغييب سوريّا في «أمّة الإسلام» الوهميّة إلى تغييبها الأقدم عهداً في «أمّة العرب» الأشدّ وهميّة.

والأمر قد يكون سببيّاً وقد لا يكون، لكنّ إضعاف الوطنيّة السوريّة تلازم، أقلّه منذ وحدة 1958 ثمّ نظام البعث، مع عقيدة قويّة بلغت ذروة قوّتها إبّان 1966 – 1970، وهذا قبل أن يحكم البلد، ابتداءً بـ1970، زعيم قويّ هو حافظ الأسد.

أمّا النجل بشّار، بشخصه وسلوكه ودمويّته، فكان الثمرة العجفاء الأهمّ لمسار تغييب الوطنيّة السوريّة، ولحجب السوريّين تالياً. فضدّاً على العهود السابقة في 1958 – 1961، ثمّ منذ 1963، وتتويجاً لمسارها الانحطاطيّ المديد، فرغت الجعبة تماماً من العقائد القويّة ومن الزعماء الأقوياء، وبات ضعف الوطنيّة التقليديّ يمثُل عارياً بلا إسناد أو حجّة أو تعويض. وربّما كان في هذه النهاية الصِفريّة التي جسّدها بشّار ما يفسّر بعض أسباب سقوط عالمه المجوّف. أمّا باقي الثمار العجفاء التي اقترنت به فكان منها خضوع البلد لاحتلالات عدّة، وتحوّل سجونه إلى مسالخ ومقابر جماعيّة وتغييب لعشرات آلاف السكّان، وهبوط 90 في المئة من السوريّين إلى ما دون خطّ الفقر، والتردّي المريع في علاقة سوريّا بـ «الأشقّاء» الذين أريدَ استتباعهم وإخضاعهم، أو أريدَ غزوهم بالكبتاغون. أمّا آيديولوجيا الصمود والمقاومة التي مارسها، بقدر من التفاوت، حكّام سوريّا، فانتهت انهياراً فضائحيّاً للسلطة، وللسيطرة على الأجواء والسواحل، وتدميراً للبنية التحتيّة العسكرية. وتمثّلت الهزيمة الأكبر لـ»ثقافة النظام» في ظهور قطيعة كاملة بين السوريّين وشهيّة الصراع الإقليميّ الذي لم يأت عليهم بغير المآسي.

بمعنى آخر، شكّل الإفلاسُ الشامل الطورَ الثاني من كبت الوطنيّة السوريّة، بعدما ارتبط الطور الأوّل بزعيم أو بعقيدة فاسدين إنّما قويّين.

واليوم قد يجد البعض ما يغريهم في الردّ على الصِفريّة البشّاريّة من خلال زعيم وعقيدة قويّين يكونان نقيض الافتقارين اللذين انطوى عليهما الرئيس الساقط. لكنّ هذا سيكون ردّاً على النتيجة لا على السبب، وعلى لحظة الاهتراء والتداعي لا على كامل السياق الذي انتهى به انحطاطه إلى تلك اللحظة. فالردّ والتجاوز الفعليّان لا يكونان إلاّ بإعادة تأسيس سوريا بوصفها وطناً للسوريّين، يساوي بينهم ويعترف بخصوصيّاتهم، ولا ينتج عقيدة أو زعيماً قويّين كائنين من كانا.

فالوطنيّة السوريّة هي وحدها النقيض المانع لهذين الخطرين، وللخواء على المذهب البشّاريّ الذي يقيم في فصليهما الأخيرين. وهذا ما يطمئن السوريّين وما يستحقّ أن يقود سعيهم.

———————————–

آثار سوريا في انتظار خطة الإنقاذ/ د. خالد عزب

8/1/2025

نشر تنظيم الدولة الإسلامية صورا على الإنترنت قال إنها التقطت في مدينة تدمر الأثرية بوسط سوريا، وبدت فيها الآثار سليمة بعد انتزاع مقاتليه السيطرة على المدينة من القوات الحكومية.

آثار مدينة تدمر السورية (مواقع التواصل الاجتماعي)

حسنًا فعلت الإدارة السورية الجديدة أن بادرت للتعاون مع المسؤولين عن المتاحف والآثار السورية لحماية المنشآت الأثرية من التعرض للنهب أو التدمير مع سقوط النظام السابق، ويبقى أن حال الآثار في تلك البلاد التي عاشت حربًا مدمرة، لا يزال يثير قلق المهتمين بهذا التراث الذي يجسد بعضًا من أهم الحقب التاريخية.

في حديث للسيد محمد نظير عوض المدير العام للآثار والمتاحف في سوريا، وهو يشغل هذا المنصب منذ العام 2020 وحتى الآن، قال الرجل: إن المسؤولين عن الآثار بادروا للاتصال بهيئة العمليات العسكرية للمعارضة فور دخولها إلى دمشق لإخبارها بالمخاطر المحتملة التي تواجه الآثار، فبادرت إلى إرسال قوات تحمي تلك المنشآت الأثرية على مدار الساعة، وبهذا نجت مقتنيات تلك المنشآت من النهب الذي تعرضت له الآثار العراقية يوم سقوط النظام قبل 20 عامًا.

وهكذا، فعلى عكس ما يحدث في حالات الحروب الداخلية أو الغزو الخارجي، فإن عددًا محدودًا من المواقع السورية الأثرية تعرّض لحوادث بعد سقوط النظام، من ذلك الحريق الذي تعرض له “المعهد التقني للآثار والمتاحف” الواقع في قلعة دمشق، وسرقة بعض القطع من متحف طرطوس، والفضل في ذلك – كما ذكرنا – يعود للسرعة التي تحركت بها القوات التي حررت سوريا، وأحكمت قبضتها على البلاد، إضافة إلى الدور الفعال للمبادرة التي أطلقتها لجنة “إيكوموس سوريا” تحت عنوان: “تراثك حياتك” للتضافر لحماية تراث سوريا من النهب أو التدمير. فقد ساهمت هذه المبادرة في تحجيم إلحاق الضرر بآثار ومتاحف سوريا.

يزيل هذا التحرك بعضًا من القلق الذي ثار على مدى سنوات الحرب بشأن الآثار التي كانت مسرحًا للقتال والنهب، فضلًا عن ذلك المشهد المروع الذي شهدته البلاد قبل عقد من الزمان عندما قام تنظيم الدولة بإعدام عالم الآثار السوري الكبير خالد الأسعد (82 عامًا) في تدمر التي أفنى عمره في دراستها، وتم وصفه وقتها بأنه “مدير للأصنام”، ثم قيام ذلك التنظيم بعد ذلك بربط أشخاص إلى أعمدة معبد “بعل شمين”، الذي يعد من أهم كنوز العالم والمسجل في قائمة التراث العالمي، ثم فجرتهم فيه.

رغم ذلك، فمبررات القلق لا تزال قائمة، فالنزيف الذي تعرضت له آثار سوريا خلال السنوات السابقة كان كبيرًا، لدرجة يمكن القول معها إن من الصعب حصر ما تعرضت له المواقع الأثرية من أضرار. ويعود هذا لسببين:

    الأول: تحول العديد من المواقع الأثرية خلال سنوات الحرب إلى معسكرات وأماكن تخزين للأسلحة، ودارت فيها وحولها معارك عنيفة. وتعرضت المدن العتيقة كحلب للقصف، فدُمر سوقها التاريخي، الذي يعد الأكبر في العالم، إذ يضم 4 آلاف حانوت، وقد رمم جزئيًا لاحقًا. كما دُمر جانب من الجامع الأموي في حلب ومداخله ومئذنته. هذا الجامع، يعد من أقدم مساجد العالم الإسلامي، وهو رمز للعمارة الأموية في حلب، لذا كانت السيطرة عليه ورفع العلم فوقه رمزًا للسيطرة على المدينة. ومثله تعرضت مداخل وأجزاء من قلعة حلب للأضرار، وهي تعد أيضًا رمزًا للمدينة.

    الثاني: تعامل تنظيم الدولة في وقت نفوذه مع الآثار، خاصة التي تعود لحقب ما قبل الإسلام، من وجهة نظر متشددة ترى أنها أوثان. وفي المقابل، تعامل معها نظام الأسد باعتبارها موردًا اقتصاديًا لا أكثر. فلم يحفل بالقتال حولها أو تدميرها، ولا بالتنقيب غير المشروع عن الآثار، ولا تهريبها فكان بذلك شريكًا في تدمير تراث سوريا بكافة المعاني والدرجات التي تحملها كلمة تدمير.

خلال سنوات الحرب، بات تدمير التراث ممارسة شائعة على مستويات متعددة؛ أجزاء كاملة من بيوت دمشق التراثية فككت ونُقلت خارج سوريا، دون أن يعي من قاموا بذلك أنهم يفككون روح دمشق القديمة.

والسرقة التي تعرض لها متحف حماة عام 2012 كانت مقدمة لتكرار نفس الفعل في متاحف أخرى، كمتحف الرقة الذي نُهبت منه 6 آلاف قطعة، ومتحف إدلب الذي سرقت منه “رقم طينية” (ألواح كتابة) من مكتبة إيبلا التاريخية.

كانت هذه الرقم تضم مواضيع اقتصادية وسياسية واجتماعية تهم المؤرخين، لنصل إلى مصادرة السلطات التركية 20 ألف قطعة أثرية سورية على الأقل كانت في طريقها للتهريب، ومصادرة السلطات اللبنانية عددًا آخر من القطع الأثرية السورية المهربة. وفي تلك الفترة أصبحت صالات بيع الآثار تعج بالقطع الأثرية السورية، وانعكس ذلك سلبًا على قيمتها المادية.

لكن على جانب آخر هبّت العديد من المؤسسات الدولية لإنقاذ تراث سوريا، فأعلن المجلس الدولي للمتاحف قائمة حمراء للتراث السوري المسروق والمسجل في سجلات سوريا الأثرية.

ضمت هذه القائمة مئات القطع، منها: مجوهرات كالخواتم المصنوعة من الذهب والفضة، وقلادات على شكل نجمة أو زهرة، وأساور وأقراط مطعمة بالأحجار الملونة، وأختام أسطوانية ومسطحة من الحجر أو الفخار، وعملات أثرية تعود للعصور الرومانية والإسلامية، وقطع فخارية من مختلف العصور، وعناصر معمارية وأرضيات من الفسيفساء وأسلحة وتماثيل حجرية وأوانٍ فخارية، لكن الأكثر فقدانًا كان العديد من القطع التي ترجع لعصور ما قبل التاريخ.

في عام 2017 دعم صندوق صون التراث، بدعم من الاتحاد الأوروبي، ترميم أسد أثينا، وهو من القطع الهامة التي دمرت في تدمر عام 2015، والذي كانت بعثة بولندية كشفت عنه عام 1977. وكان هذا نتاج بعثة لليونسكو أُرسلت لسوريا عام 2016 لتقييم الأضرار التي لحقت بتدمر.

والمفارقة، أن التدمير خرج بفائدة في واحدة من الحالات، حيث قاد لاكتشاف طبقات كان من الصعب الوصول لها، وهو ما حدث في باب النصر بالسور الشمالي لحلب، حيث كشفت أجزاء من السور القديم والباب وطبقات أقدم.

ما قامت به السلطات حتى الآن جيد، ولكنه ليس كافيًا. فالتعامل مع تراث سوريا لا يزال يتطلب من السلطات الحالية إطلاق حملة دولية لحماية المواقع الأثرية والمتاحف، وإبراز موقف واضح من هذا التراث، فضلًا عن الحاجة العاجلة للتعامل مع الأضرار التي تحتاج تدخلًا عاجلًا، وكذلك وضع خطة وطنية لإنقاذ وترميم المواقع المتضررة وفق جدول يحدد الأولويات. إن مئات المواقع وعشرات المتاحف باتت في حاجة ماسّة لهذه الخطة.

الاهتمام بالآثار ليس ترفًا، فهي ليست مجرد مكتشفات تعود للماضي السحيق أو القريب، بل وسيلة نستخدمها لمحاولة فهم الإنسان، وتتبع تطور المعرفة الإنسانية.

تخبرنا هذه الآثار كيف كنا؟ وكيف نحن الآن؟ وبين هذين التساؤلين مساحة واسعة، سواء من حيث الزمن، أو المعرفة، أو التطور الذي لحق بالإنسانية. هذه الآثار تساعد على إعادة بناء الماضي لفهمه، وهو هدف وطني.

—————————-

سوريا الجديدة ونموذج حكم إدلب/ فراس كرم

إدلب وأرياف حلب الشمالية محط أنظار السوريين

8 يناير 2025

يتوق السوريون بمختلف انتماءاتهم الدينية والعرقية والقومية، إلى السلام والاستقرار والعيش بهدوء، في بلدهم الذي شهد حربا ساحقة ماحقة على مدار 14 عاما، دمرت فيها آلة الأسد (المخلوع) العسكرية، معظم المدن السورية بمدارسها ومراكزها الطبية والصناعية والتجارية والسياحية والمؤسسات، عدا محافظة إدلب وأرياف حلب التي خضعت لإدارة تمثلت بحكومة “الإنقاذ السورية”، نظمت فيها الحياة المدنية والإدارية، والتي باتت اليوم تحكم سوريا تحت اسم “حكومة تصريف الأعمال” بعد سقوط نظام بشار الأسد.

ولعلها المرة الأولى التي يتمكن فيها سوريون من زيارة إدلب، ليتفاجأوا، كما يقولون، بنهضة اقتصادية وعمرانية واستتباب للأمن، وذلك بعد إزالة الحواجز والجدار العسكري الذي أسسه الأخير مع شمال غربي سوريا، فضلا عن انتشار مقاطع فيديو عن الحياة في إدلب على مواقع التواصل الاجتماعي، التي كانت تحظرها سلطات الأسد.

ومع تحرير مدينة حلب ومناطق أخرى وسقوط النظام السوري في البلاد، جرى فتح الطرق الرئيسة بين المحافظات السورية، وإزالة الحواجز الإسمنتية والعسكرية التي أنشأها النظام للفصل بين مناطقه قبل سقوطه ومناطق المعارضة في شمال غربي سوريا، وأصبحت إدلب وأرياف حلب الشمالية، محط أنظار السوريين و وجهتهم للتسوق منها وزيارتها.

يقول رجل الأعمال السوري أحمد السراج من مدينة حلب، في تصريح لـ”المجلة” إنه لم يكن يعلم قبل تحرير مدينة حلب وسوريا عن إدلب أي شيء نظرا للتضييق الذي مارسته مخابرات النظام السوري على المواطنين وحجبت عنهم معرفة أي أخبار تتعلق بالمناطق التي كانت خارج سيطرته وبخاصة إدلب، وعندما زار مدينة سرمدا، اندهش من الانتعاش التجاري في أسواقها.

توحيد الساحة العسكرية… وخبرة إدارية

في إدلب وعلى مدار 6 سنوات خلت، استطاعت “هيئة تحرير الشام” توحيد الساحة العسكرية على الرغم من اختلاف توجهاتها الفكرية، مع بناء ودعم حكومة “الإنقاذ السورية” التي أخذت منذ تأسيسها في أوائل نوفمبر/تشرين الثاني 2017 طابع “التكنوقراطية” بابتعادها عن الانتماءات السياسية والفصائلية، واعتمادها على ذوي الكفاءات وأصحاب الخبرات العلمية والتقنية.

واكتسبت حكومة “الإنقاذ السورية” خبرة واسعة في الحكم والإدارة، خاصة خلال التعامل مع ملفات صعبة وأزمات عدة  وفي مقدمتها الملفات الإنسانية، نظرا لاكتظاظ المنطقة بالمخيمات العشوائية التي تؤوي نحو 4 ملايين ونصف المليون نازح، وإدارة الملف الإنساني بوسائل متطورة من خلال الاعتماد على عملية “الترميز والترقيم” للمساكن والمخيمات بشكل دقيق، لضمان وصول المساعدات الإنسانية “الدولية” والمحلية لمستحقيها، ووفرت خلال أقل من 4 سنوات أكثر من 40 ألف فرصة عمل في الصناعات المعدنية والدوائية والغذائية، وتوفير نحو 265 سلعة ومنتجا محليا، إضافة إلى تنظيم عملية الخدمات المدعومة من قبل المنظمات الإنسانية الدولية وفق الأولوية والاحتياج.

وعلى الطريق الواصل بين بوابة “باب الهوى” الحدودية مع تركيا شمال سوريا، ومدينتي سرمدا والدانا شمال إدلب، بنى الصناعيون وأصحاب رؤوس الأموال عشرات المعامل والمصانع، وافتُتحت عشرات المراكز التجارية ومعارض السيارات، وأكبر سوق لبيع الذهب والمعادن الثمينة الأخرى، وفي الوقت نفسه كانت حكومة “الإنقاذ السورية” تدير مسؤولياتها الإدارية في مدينة إدلب وعبر فروعها ومديرياتها المنتشرة في خمس مناطق (إدلب المركزية وسرمدا والدانا وجسر الشغور وأريحا)، ودوائرها في المناطق الأخرى في شمال غربي سوريا، وركزت في نشاطها العملي على الجانبين الأمني والإنساني، بموازاة التركيز على تعزيز دور القضاء المستقل في أكثر من 6 محاكم رئيسة (لا سلطة عليها فوق سلطة الحكومة)، ونظمت “الإنقاذ السورية” حركة النقل والمواصلات بين المناطق في شمال غربي سوريا، لتخفيف أعباء التنقل للمواطنين وخاصة الموظفين في القطاع العام والبالغ عددهم نحو 8 آلاف موظف، بأجور شبه رمزية.

ذهبت حكومة “الإنقاذ السورية” خلال السنوات الأخيرة الماضية، إلى دعم الجانب التعليمي من خلال إنشاء وافتتاح جامعات وكليات ومعاهد تعليمية (في إدلب وجامعة الشهباء في الدانا)، وكان الهدف من إنشائها هو تلبية الحاجة المجتمعية والعلمية، وتأمين الخريج الجامعي المختص والمؤهل بالعلوم اللازمة في سوق العمل وتوفير الكوادر الطبية والتعليمية في المشافي والمراكز الصحية ومراكز التعليم.

يقول الناشط السوري في المجال الإنساني أدهم الحاج يونس لـ”المجلة”، إنه في الوقت الذي دمرت فيه آلة النظام السوري (المخلوع) البنى التحتية في شمال غربي سوريا، وتفاقمت الأزمات الإنسانية عند النازحين في أكثر من 1430 مخيما تؤوي قرابة 5 ملايين نازح، دخلت “الإنقاذ السورية” بكل ثقلها ونشاطها الإداري، وبالتعاون مع المنظمات الإنسانية الشريكة للأمم المتحدة، وأشرفت بشكل مباشر على وصول المستحقات الإنسانية إلى مستحقيها.

ويضيف يونس: “أدارت (الإنقاذ السورية) الملف الخدمي والصحي في مناطق شمال غربي سوريا وفق الاحتياجات الإنسانية والأولويات، كبناء وترميم وإصلاح المشافي العامة وكذلك المدارس ودور التعليم وتعبيد الطرق الداخلية والرئيسة، مع نشر المراكز الأمنية في المناطق الرئيسة ومناطق انتشار مخيمات النازحين، لتعزيز وإرساء حالة الأمن والاستقرار في ملاحقة الخارجين عن القانون، ما ساهم في تراجع نسبة الجريمة إلى ما دون 20 في المئة، مقارنة بالأعوام الأولى من اندلاع الثورة السورية 2011، عندما سادت الجريمة وطغت على المشهد، وكل ذلك قد يساهم في خلق انطباع حسن وثقة عند المنظمات الدولية في قدرة (الإنقاذ)، على إدارة المنطقة بصورة جيدة”.

وفي تصريح صحافي لوكالة “سانا” السورية، قال وزير الإدارة المحلية والبيئة في الحكومة الانتقالية السورية محمد مسلم إنه من خلال المسح الجوي الأولي لعدد من المناطق المدمرة، سجلنا حجم دمار هائل في جميع المحافظات السورية، سواء في المدن أو القرى والأرياف.

وتابع: “ما زلنا في مرحلة الإحصاء لجميع القطاعات التي تحتاج لإعادة إعمار، وجدير بالذكر أن النظام البائد لم يقم بأي عملية إحصاء دقيقة للمحافظات سابقا، وسنعتمد فرقا متخصصة محترفة بعمليات الإحصاء، وسنضمها إلى ورشات عمل تطبيقية لتباشر الإحصاء الدقيق في المحافظات كافة لمختلف المرافق المتضررة التي تحتاج لإعادة إعمار، كما سنسعى لتأسيس قاعدة بيانات واضحة عن حجم الدمار، ووضع خطط وأهداف تتناسب معها للمرحلة القادمة”.

ويقول الإعلامي السوري جلال إبراهيم الذي عمل مذيعا في قناة “الإخبارية” السورية في زمن النظام السوري (المخلوع)، لـ”المجلة”، إنه لربما تكون المقدمات التي صدرت من القيادة السورية الجديدة مبشرة لنا جميعا ومطمئنة بعد ثورة استمرت 14 عاما وفتحت الطريق لسوريا جديدة.

وعرض في حديثه مجموعة من التساؤلات تلخصت في الآتي: “ما مصير الموظفين العاملين في عدد من القطاعات والذين لا يملكون أي مصدر آخر للدخل سوى رواتبهم؟ وكيف سيتم التعامل مع العسكريين السابقين، وهل سيحصلون على مستحقاتهم المالية بعد نهاية خدمتهم؟ وماذا بشأن العسكريين الذين ألقوا أسلحتهم وهم الآن موجودون في السجون؟ وهل ستتمكن الحكومة الحالية من خلق فرص عمل جديدة تستوعب ولو جزئيا العاطلين عن العمل؟ ومن سيستفيد من المعونات الإنسانية التي بدأت تصل من الدول و المنظمات الدولية؟

أسئلة لا يسعنا في أجواء الفرح الكبيرة التي أعقبت التحرير الكبير، إلا أن نتفاءل ونستبشر بنجاح الحكومة الحالية في الإجابة عنها، والعمل على استيعابها، مع العلم أن حساسية المرحلة تتطلب القليل من الصبر لإعطاء الحكومة الانتقالية الوقت الكافي لاتخاذ القرارات المناسبة وهي التي تحمل إرثا كبيرا من الفساد و الاقتصاد المتهالك”.

ويرى رضوان الأطرش، مدير المركز السوري للتنمية المجتمعية، أن “الخطوة الأساسية والهامة نحو الاستقرار وضبط الأمن فرصة كبيرة لتحقيق السلم الأهلي، وبناء الثقة بين جميع الأطراف السورية، وخلق بيئة مجتمعية مستقرة، وكلها أمور تنطلق من إقامة مؤتمر سوري جامع للحوار، والذي يجري التحضير له قريبا، ومن المقرر عقده في منتصف الشهر الجاري، بحسب مصادر في الإدارة المدنية السورية الجديدة”.

ويقول الأطرش إن فكرة عقد مؤتمر الحوار الوطني في سوريا أصبحت ضروروية لمعالجة أمور بعينها، من بينها موضوع الدستور الجديد وتنظيم آلية الحكم خلال تلك الفترة وتحقيق العدالة الانتقالية.

المجلة

———————–

عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري: إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد/ نور الخطيب

08-01-2025

        تُعَدّ الشرعية مفهوماً أساسياً في علوم السياسة والقانون، إذ تعكس مدى قبول الشعب أو المجتمع لنظام الحُكم أو القرارات التي تصدر عنه. وبينما تُعتبَر الشرعية الدستورية ركيزة أساسية للنُظُم الديمقراطية المستقرة، تظهر الشرعية الثورية في لحظات التحوّل الجذري، عندما يتجاوز الشعب الأنظمة القائمة استجابةً لمطالب التغيير العميق. وفي مرحلة التحول السياسي التاريخي في سوريا، يبرز مفهوم الشرعية كعنصر أساسي لتعريف وتقييم النُظُم السياسية الناشئة وتحقيق الاستقرار. ويكتسب النقاش حول الشرعية الثورية والشرعية الدستورية أهمية كبرى، خصوصاً في سياق ما بعد سقوط نظام بشار الأسد.

        بعد سقوط النظام السوري في 8 كانون الأول (ديسمبر) الماضي، ظهرت إدارة العمليات العسكرية كقوة مركزية تولّت مسؤولية الحكم، مستندة إلى دورها الحاسم في إنهاء حكم بشار الأسد بعد سنوات طويلة من النضال الشعبي منذ انطلاق الثورة في العام 2011. ورغم نجاحها في فرض السيطرة على معظم الأراضي السورية، وتشكيل حكومة مؤقتة لتصريف الأعمال، فإن شرعية هذه الإدارة في قيادة المرحلة الانتقالية تبقى مَحلَّ جدل بين مختلف الفاعلين في الثورة السورية، وذلك في ظل الطابع الديناميكي والتحولي للوضع السوري في هذه المرحلة، وفي ظلّ السياق المعقد والمتغير الذي يثير مخاوف بشأن احتمالية تَفرُّدها بالسلطة. ذلك إلى جانب أن نهجها البراغماتي المُتقلّب يطرح تساؤلات بشأن مدى قدرتها على، أو رغبتها في، تحقيق انتقال سياسي يضمن المشاركة السياسية التعددية.

        الشرعية الثورية؛ طبيعتها وحدودها

        تُبنى الثورات في جوهرها على تجاوز القوانين القائمة وتعطيل الهياكل الدستورية التي تسندُ الأنظمة المستبدة، فليس هناك ثورة في التاريخ تُطيع القانون. ومن صُلب هذه الحقيقة يأتي مفهوم الشرعية الثورية، التي من خلالها يكتسب الشعب الحق في مقاومة السلطة المستبدة، والتي تستمد شرعيتها بالتالي من نفسها وليس من القانون. في هذا السياق ينشأ مفهوم الشرعية الثورية؛ من القوة الاجتماعية أو الشعبية والسياسية التي تدفع باتجاه تغيير جذري في النظام القائم، الذي يرى الشعبُ فيه نظاماً فاقداً للشرعية الأخلاقية أو السياسية. وتقوم الشرعية الثورية على أُسس ترتكز إلى الإرادة الشعبية، وإلى التغيير الجذري عبر إحداث قطيعة مع الماضي، على نحو ما تعكسه فلسفة هيغل في إفناء القديم بتحويله -على نحو جذري- إلى ضده. وتحملُ الشرعية الثورية مفهوما تكيفياً يعتبر الثورة وسيلة مشروعة لتحقيق الغايات السياسية والاجتماعية، وتُبرِّر تحطيم قانون الدولة في حالة الظلم والقمع، على أن تكون الثورة وفق الشرعية الثورية داعمة للعدالة وضمان الحقوق، وإحداث تغيير فعّال ودائم في النظام السياسي.

        وفي الحالة السورية، شكّلَ الشعبُ الشرعية الثورية من خلال الثورة الشعبية التي بدأت عام 2011 ضد نظام بشار الأسد، لكن هذه الشرعية تبقى مؤقتة، إذ تنتهي بمجرد تحقيق أهداف الثورة الأساسية، المتمثلة في إسقاط النظام القديم وإلغاء إطاره الدستوري، ووضع الأسس اللازمة لبناء نظام جديد يُعبّر عن تطلعات الشعب ويؤسس لمرحلة دستورية مستقرة. وربما هنا يظهر مفهوم المشروعية كمعيار يعتمد على مدى قبول الشعب، وعلى استمرارية هذا القبول، للقرارات والأنظمة التي تُتَّخذ خلال المرحلة الانتقالية.

        رغم أن مفهوم المشروعية إشكالي، نظراً لصعوبة تحديد معيار موضوعي واحد لتعريفه، فإنه يمكن القول إن الحكومة التي تنشأ عقب ثورة شعبية قد تُعتبر غير شرعية من منظور قانوني جامد، لكنها تحظى بالمشروعية لأنها تستمد قبولها من الشعب، كونها تُعبِّرُ عن إرادة عامة تتطلّع للتغيير بما يمنحها التفويضَ اللازم لقيادة المرحلة الانتقالية.

        الشرعية الدستورية: إطار الاستقرار

        على النقيض من الشرعية الثورية، تأتي الشرعية الدستورية بوصفها شرعية النظام السياسي المُستمدة من الالتزام بالدستور، الذي يُعتبر العقدَ الاجتماعي الأعلى بين الدولة والمواطنين. وتقوم هذه الشرعية على مبادئ سيادة القانون واحترام الحقوق والحريات الأساسية من حيث المبدأ، وكذلك الفصل بين السلطات لضمان عدم تركيز السلطة في يد جهة واحدة. وينبغي أن يتم تأسيس الشرعية الدستورية من خلال انتخابات حرة ونزيهة، بمشاركة شعبية واسعة، وفي ظلّ إطار قانوني يحكم العلاقة بين الحاكم والمحكوم.

        مع ذلك، تُواجه الشرعية الدستورية تحدياتها الخاصة، إذ يمكن أن تُقوَّضَ سيادة القانون إذا تم التحايل على الدستور من قبل السلطات الحاكمة. ويبرز هذا الخطر بشكل خاص في مراحل التحول السياسي، حينما تكون المؤسسات ضعيفة والثقة الشعبية هشَّة أو قابلة للانعكاس. في سوريا ما بعد الأسد، يبقى السؤال الأبرز حول كيفية بناء نظام دستوري تمثيلي يُحقّق تطلعات الشعب، في ظل تَعدُّد القوى السياسية والعسكرية التي قد تتنافس على السلطة، وفي ظلّ تبايُنها من حيث القوة والتأثير وحتى الاتجاهات.

        التبايُن والتكامُل

        ثمة تحديات مختلفة تواجه الشرعية بنوعيها (الثورية والدستورية)، إذ قد تنحرف الشرعية الثورية نحو الفوضى أو تُنتِجُ نظاماً استبدادياً جديداً إذا غاب الإطار القانوني الواضح والرؤية السياسية المستقبلية. أما الشرعية الدستورية، فقد تفقد فعاليتها إذا لم تَستند إلى إرادة شعبية حقيقية، أو إذا تحايلت السلطات على أُسسها. ويُضاف إلى هذه التحديات صعوبة الانتقال بين الشرعيتين، الأمر الذي التي يُشكِّلُ تحدياً في حد ذاته.

        على الرغم من التباين الواضح بين الشرعية الدستورية والشرعية الثورية، فإن التكامل بينهما يصبح ضرورة في ظل التحولات السياسية الكبرى. إذ يمكن للشرعية الثورية أن تُمهِّدَ الطريق لإنشاء شرعية دستورية جديدة عبر انتقال مدروس ومخطط، وتُجسِّد الثورة الفرنسية (1789) مثالًا كلاسيكياً على الشرعية الثورية التي أطاحت بالنظام الملكي، وأرسَت شرعية دستورية جديدة. إن هذا التكامل خلال مرحلة الانتقال يُعَدُّ أمراً حيوياًِ لتحقيق العدالة والاستقرار، بما أنه يجسد العدالة السياسية والاجتماعية التي تمثل جوهر كلٍّ من الشرعية الثورية والدستورية.

        بينما يخوض الشعب السوري أولى تجاربه في التحول السياسي منذ نصف قرن، يبرز الانتقال من الشرعية الثورية إلى الشرعية الدستورية كخطوة محورية تتطلب إدارة واعية ومنظمة. ويستدعي هذا الانتقالُ وضعَ خطوات واضحة ومدروسة لصياغة خارطة شاملة للانتقال السياسي، تُشرِكُ جميعَ شرائح المجتمع السوري في حوار وطني جامع وشامل يغيب عنه الإقصاء، لتحويل النضال الثوري إلى عملية دستورية متكاملة تضمن تحقيق الأهداف المنشودة للثورة ضمن إطار قانوني يحمي الحقوق ويوفر الاستقرار السياسي والاجتماعي.

        يُشكِّلُ المؤتمرُ الوطني خطوة تأسيسية محورية في بداية مسار طويل لبناء الدولة السورية الجديدة، دولة ترتكز على العدالة والحرية والكرامة لجميع مواطنيها. إن هذا المؤتمر، الذي يُطرَح كنواة لميلاد سياسي جديد، لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال تحضيرات دقيقة تبدأ بتشكيل لجنة تنظيمية شاملة. هذه اللجنة، التي تضمُّ ممثلين عن الأطياف السياسية والوجاهية والمجتمع المدني والخبراء، تتولى وضع جدول أعمال واضح ومحدد. يقوم المؤتمر على مبادئ أساسية لا يمكن التنازل عنها، أبرزها الالتزام بحقوق الإنسان، وسيادة القانون، والوحدة الوطنية، كخطوة ضرورية لتجاوز إرث الانقسام والاستبداد. ومع اتّساع وتعقيد القضايا المطروحة للنقاش، يأخذ المؤتمر ما يتطلبه من وقت لتناول قضايا المرحلة الانتقالية بشكل شامل ومدروس. يُتوَّجُ المؤتمر بإعلان وثيقة وطنية تشكل خارطة طريق للمرحلة الانتقالية، تتضمن تشكيل حكومة انتقالية جامعة تمثل مختلف المكونات السياسية والاجتماعية، وتكليف لجان تأسيسية لصياغة دستور دائم يُطرَح للاستفتاء الشعبي، وتنظيم انتخابات حرة تُشرف عليها جهات مستقلة لضمان النزاهة والشفافية.

        يشكل المؤتمر الوطني بمعناه الحقيقي حجر الزاوية في بناء سوريا المستقبل، ويُعَدّ بداية مرحلة انتقالية شاقة، لكنها حاسمة في تحقيق الحرية والعدالة والمواطنة لجميع المواطنين. من شأن إطلاق هذا المؤتمر أن يضمن نقل سوريا من مرحلة الشرعية الثورية إلى الشرعية الدستورية، مع الحفاظ على توازن القوى وتحقيق العدالة السياسية والاجتماعية.

موقع الجمهورية

————————-

 سوريا الجديدة.. هل تعيد تعريف الإسلام السياسي في العالم؟/إياد أحمد شمسي

2025.01.08

أحمد الشرع قائد فصيل هيئة تحرير الشام برفقة الصحفي البريطاني جيريمي بوين داخل القصر الجمهوري بدمشق عقب سقوط الأسد

+A

حجم الخط

-A

مع سقوط نظام بشار الأسد، دخلت سوريا مرحلة جديدة تماماً تحمل في طيّاتها إمكانات غير مسبوقة لإعادة تعريف دور الإسلام السياسي في المنطقة وربما العالم.

لم تعد سوريا مجرد ساحة لصراع إقليمي ودولي؛ بل أصبحت اليوم مختبراً لتطوير نموذج سياسي جديد قد يعيد صياغة العلاقة بين الدين والدولة، مع رؤية تُوازن بين الهوية الوطنية والقيم الدينية ومتطلبات الدولة الحديثة.

تحت قيادة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) و”هيئة تحرير الشام”، تواجه سوريا تحديات جمة لإعادة بناء الدولة على أسس تتجاوز الصيغ التقليدية للإسلام السياسي، ما يفتح الباب أمام تساؤلات كبيرة: هل يمكن أن تقدم سوريا نموذجاً حضارياً مستداماً؟ وهل يمكن لهذا النموذج أن يُحدث نقلة نوعية في العلاقة بين الإسلام والسياسة عالمياً؟

الإسلام السياسي: بين الإرث المثقل وفرص التجديد

    إرث ممتلئ بالإخفاقات

منذ منتصف القرن العشرين، كان الإسلام السياسي في قلب الجدل السياسي والاجتماعي على مستوى العالم، تجارب الحركات الإسلامية في مصر وتونس وأفغانستان وغيرها قدّمت شعارات براقة، لكنها اصطدمت بتحديات حقيقية تتعلق بالحوكمة، والتوفيق بين الهوية الدينية ومتطلبات الدولة المدنية الحديثة.

فشلت هذه التجارب غالباً في تحقيق الاستقرار أو تقديم نموذج مستدام، ما أدى إلى نفور قطاعات واسعة من الشعوب منها.

    سوريا ومسار جديد

اليوم، تبدو القيادة السورية الجديدة وكأنها تدرك أخطاء الماضي وتسعى لتجنبها.

وبدلاً من استنساخ تجارب الحركات الإسلامية السابقة، تتبنى القيادة نهجاً نقدياً يهدف إلى تطوير نموذج يجمع بين التقاليد والحداثة، بين الخصوصية السورية ومتطلبات النظام العالمي، هذه الرؤية الجديدة ليست مجرد محاولة لإعادة إنتاج الإسلام السياسي، بل هي فرصة لإعادة تعريفه بالكامل.

النموذج السوري: ثلاثية الدين والوطن والدولة

    1. الدين كإطار أخلاقي وليس أداة سياسية

في النموذج السوري الناشئ، يُعاد للدين دوره الأساسي كمرجعية أخلاقية تحكم السلوك العام وتضمن العدالة، من دون أن يُستخدم كأداة قمعية أو وسيلة لفرض السياسات.

هذا التوجه يعيد تعريف دور الدين في الحياة العامة، حيث يكون الإيمان دافعًا للسلوك الصالح والتعاون بدلاً من أن يتحوّل إلى سلاح سياسي يُستخدم لفرض الهيمنة.

    2. الوطنية كهوية جامعة

في سوريا الجديدة، لا يُنظر إلى الإسلام السياسي كبديل للوطنية، بل كجزء منها.

النموذج السوري الناشئ يسعى لتوحيد الشعب تحت راية وطنية تتجاوز الانتماءات الطائفية والعرقية.

الهدف هو بناء دولة تكون لكل السوريين، بغض النظر عن خلفياتهم، مع رؤية تجعل من سوريا وطناً شاملاً يحترم التنوع ويعززه.

    3. الدولة كإطار مدني شامل

الدولة السورية الجديدة لا تُبنى على أساس ديني بحت، بل على أساس مدني يضمن التعددية ويحتكم إلى القانون.

الهدف هو إقامة دولة تحمي الحريات، تعزز الحوار الوطني، وتعيد بناء العقد الاجتماعي. هذه الرؤية تتناقض مع الأنماط السابقة التي حاولت دمج الدين بالدولة بطريقة قسرية، مما أدى إلى فشل في تحقيق التوازن.

الإعلام: أداة لتغيير الصورة النمطية عن الإسلام السياسي

    خطاب جديد يبني الثقة

تعتمد القيادة السورية الجديدة على الإعلام كأداة لإعادة تشكيل السردية العامة حول الإسلام السياسي، بدلاً من الخطاب العدائي والصدامي، يتم تقديم لغة هادئة ومتزنة تُركز على طمأنة الداخل السوري وإظهار الانفتاح تجاه المجتمع الدولي.

الهدف هو بناء صورة جديدة للإسلام السياسي كقوة حضارية قادرة على الإسهام في بناء الدول وتحقيق الاستقرار.

    إعادة تشكيل السردية العامة

الإعلام لم يعد مجرد أداة لنقل الرسائل، بل أصبح ساحة لإعادة صياغة المفاهيم.

تعمل القيادة على تقديم الإسلام السياسي كعامل وحدة وطنية وليس كأداة انقسام، يتم التركيز على القيم العالمية المشتركة، مثل العدالة والحرية، لإظهار الإسلام السياسي كمشروع سياسي حديث يتماشى مع متطلبات العصر.

التحديات: معوقات في وجه النموذج السوري الجديد

    1. التنوع الداخلي وإدارة التعددية

سوريا، بتاريخها العريق وتنوعها الديني والعرقي، تحتاج إلى قيادة حكيمة تستطيع إدارة هذا التنوع من دون الوقوع في فخ الإقصاء أو التهميش.

التحدي يكمن في تحقيق العدالة والمساواة لجميع مكونات المجتمع، مع احترام التعددية كقيمة أساسية في بناء الدولة.

    2. الريبة الدولية وضغوط الخارج

ما تزال “هيئة تحرير الشام” تصنف كمنظمة إرهابية من قبل العديد من الدول، مما يضع عراقيل أمام محاولات القيادة السورية للحصول على اعتراف دولي.

العمل على تغيير هذه الصورة يتطلب سياسات ذكية ومبادرات تُظهر التزام القيادة بالقوانين الدولية وقيم حقوق الإنسان.

    3. بناء مؤسسات قوية ومستدامة

تحقيق الاستقرار في سوريا الجديدة يعتمد بشكل كبير على بناء مؤسسات قادرة على تحمل أعباء الدولة الحديثة.

هذه المؤسسات يجب أن تكون شفافة، قادرة على تقديم الخدمات الأساسية، ومبنية على مبدأ سيادة القانون.

خاتمة: رهان حضاري على مستقبل سوريا

سوريا الجديدة تقف اليوم أمام فرصة تاريخية لإحداث تحول عميق في مفهوم الإسلام السياسي، إذا استطاعت القيادة الجديدة تجاوز التحديات وتحقيق رؤيتها، فستُقدم نموذجاً يُعيد تعريف العلاقة بين الدين والوطن والدولة، ليس فقط داخل حدود سوريا، بل على مستوى عالمي.

هذا الرهان الحضاري الكبير يُمكن أن يجعل من سوريا مصدر إلهام لتجارب سياسية أخرى، تُحاول الجمع بين الأصالة والحداثة، بين الالتزام الأخلاقي والاحتراف السياسي.

النجاح في هذا المسار لن يكون انتصارًا لسوريا فقط، بل سيكون بداية جديدة لإسلام سياسي أكثر توازنًا وتقدمًا، يتماشى مع روح القرن الحادي والعشرين.

—————————–

حديث الأكثرية والأقلية/ عدنان علي

2025.01.08

في بلد مثل سوريا، تعيش فيه مجموعات دينية ومذهبية وقومية عدة، إلى جانب “أكثرية” من العرب السنة، فإن أي حديث في الشأن العام، كثيراً ما ينطلق من قاعدة ضيقة، تتصل بمخاوف هذه المجموعات من هيمنة الأكثرية، مقابل مظلومية هذه الأكثرية من تهميشها خلال العقود الماضية، وحقها تاليا في استعادة دورها المغتصب من جانب “أقلية” حكمت البلاد خلال العقود الستة الماضية.

وبعد تمكن مجموعة عسكرية محسوبة على العرب السنة من الإطاحة بحكم آل الأسد “الأقلوي”، ينشغل الفضاء السوري اليوم بنقاشات تدور أساساً في هذا الفلك، وإن كانت تتلطى خلف يافطات مدنية، مثل الديمقراطية والتشاركية والعلمانية.. إلخ.

والحقيقة أن الانتماءات الضيقة، وإن كانت موجودة منذ عشرات ومئات السنين، لكنها انتعشت بعد ثورة عام 2011، والتي جرى خلالها استهداف الأكثرية (العرب السنة) على نحو لا يمكن تجاهله، ولا يمكن الزعم بأن الضرر وقع على الجميع بالقدر نفسه، حيث جرى تدمير حواضر العرب السنة، وتهجير كثير منهم داخل البلاد وخارجها، فضلا عن أنهم كانوا رأس الحربة ضد النظام المخلوع، بينما وقفت بقية الفئات إما مع النظام، أو على الحياد، وكانت مشاركة أبنائها في الثورة، فردية، وهو ما جنبها انتقام النظام جماعيا منها.

    إن الاحتكام إلى الآليات الديمقراطية ينبغي أن يكون هو المعيار والفيصل في المرحلة الانتقالية المقبلة، وهو ما يستلزم إعطاء هذه المرحلة ما تستحق من وقت وتحضير وإتقان، بحيث تكون الثغرات والأخطاء في الحد الأدنى، ولا بأس حتى في طلب خبرات وإشراف خارجي، ضمن الإطار التقني، وليس السياسي.

ورغم أن الإدارة الجديدة التي تحكم دمشق اليوم، لم تفصح عن توجهاتها بشأن آليات الحكم المستقبلية، لكنها تقول إنه سيقوم على المشاركة والتعددية، ولن يتم إقصاء أحد بناء على طائفته، أو إثنيته، نحو بناء دولة تقوم على المواطنة والحقوق المتساوية، وسوغت استئثارها بمعظم السلطة في هذه المرحلة، بأنه تدبير مؤقت، يساعدها على تشكيل فريق متجانس يستطيع التصدي بفاعلية أكبر للتحديات الطارئة المطروحة بعد رحيل النظام السابق الذي ترك البلاد في حالة يرثى لها.

والواقع ليس أمام الجميع سوى القبول بهذا الطرح، ليس من منطلق أن “من حرر يحكم”، بل لأن الطرح بحد ذاته يحمل بعض الوجاهة، وهو محدود زمنيا بفترة قصيرة لا تتجاوز ثلاثة أشهر.

ولعل المخاوف المثارة لا تتعلق بهذه الفترة، لكن بما بعدها، انطلاقا من الحديث عن مؤتمر للحوار الوطني، مرورا بوضع الدستور، وصولا إلى إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والمحلية. وعلى أي أساس سيتم كل ذلك، ومن سيشرف على هذه المراحل، وهو ما ستعمد الحكومة المسيطرة على التحكم بها للوصول إلى النتائج التي تريدها؟

هذه مخاوف تبدو مشروعة، ليس لدى “الأقليات” فقط، بل لدى جمهور “العرب السنة” أيضاً والذين لا يعتبرون أنفسهم، ولا يتصرفون على أساس أنهم طائفة دينية، بل هم الحامل التاريخي لكل المشاريع الوطنية، ولديهم تاليا اجتهادات مختلفة بشأن طبيعة الدولة وهويتها وطريقة حكمها، على أساس سياسي، وليس هوياتيا ضيقا.

ومن هنا، فإن سياسة “التطمينات” لا تكفي لتبديد هذه المخاوف، بل يجب أن تكون واضحة الأسس التي ستدار وفقها المرحلة المقبلة، والتي يجب أن تكون وطنية وديمقراطية في آن، بحيث لا تشعر أية فئة بالتهميش أو الاستبعاد من المساهمة في صناعة مستقبل البلاد، ولكن في الوقت نفسه على الجميع الإعلان المسبق عن استعدادهم للقبول بما تفرزه هذه الآليات المتفق عليها من نتائج، ولا تتكرر في سوريا، تجارب بلدان أخرى، اعتمدت الآليات الديمقراطية للحكم، وحين جاءت النتائج على غير هوى بعض القوى، انقلبت على التوافق الوطني، وصارت تطالب بميزات خاصة بها، لم تستطع الحصول عليها بالعملية الديمقراطية، وتريد فرضها بوسائل أخرى، عبر التمرد أو الاستقواء بقوى خارجية.

    إن الحديث عن الأكثرية والأقلية، يجب أن يقوم على أساس وطني، وبرامج سياسية واقتصادية، وليس على أساس طائفي وفئوي ضيق، ذلك أن الاحتشاد الفئوي، مهما كانت مبرراته، لا يمكن أن يقود في النهاية إلا لمزيد من التعصب والانغلاق والتصادم.

إن الاحتكام إلى الآليات الديمقراطية ينبغي أن يكون هو المعيار والفيصل في المرحلة الانتقالية المقبلة، وهو ما يستلزم إعطاء هذه المرحلة ما تستحق من وقت وتحضير وإتقان، بحيث تكون الثغرات والأخطاء في الحد الأدنى، ولا بأس حتى في طلب خبرات وإشراف خارجي، ضمن الإطار التقني، وليس السياسي، من جهات محايدة مثل الأمم المتحدة، تلافيا لأية شكوك أو اتهامات قد توجه للسلطة الحاكمة باستخدام نفوذها للتأثير في النتائج.

وسوريا التي عرفت الحياة الديمقراطية قبل استياء حزب البعث على السلطة عام 1963، ومن ثم وصول الحكم الأسدي عام 1970، قادرة على إحياء هذه التجربة، إذا توفر القدر المطلوب من الحكمة والتعقل والنيات الحسنة، بما يقطع الطريق على الدعوات الفئوية ضيقة الأفق والتي كثيرا ما تنطلق طروحاتها من مخاوف مرضية مزمنة، وليس من وقائع حقيقة قائمة على الأرض، بغض النظر عن تجاوزات قد تحدث هنا وهناك في هذه المرحلة، وهذا أمر طبيعي، ولا يمكن لعاقل توقع أن تسير كل الأمور في كل المجالات من دون أخطاء وتجاوزات، لكن تصيد هذه الأخطاء، ومحاولة تضخيمها، لا يمكن أن يعبر عن نية حسنة، أو رغبة صادقة في المساهمة بإعادة إحياء البلاد، بعد عقود من الحكم الأحادي الذي خرب النفوس وسمم العلاقات بين مكونات المجتمع المختلفة، قبل تخريب العمران والاقتصاد، فضلا عن تجويف الحياة السياسية، وتغذية كل عوامل الفرقة والاختلاف.

ومن هنا، فإن الحديث عن الأكثرية والأقلية، يجب أن يقوم على أساس وطني، وبرامج سياسية واقتصادية، وليس على أساس طائفي وفئوي ضيق، ذلك أن الاحتشاد الفئوي، مهما كانت مبرراته، لا يمكن أن يقود في النهاية إلا لمزيد من التعصب والانغلاق والتصادم.

تلفزيون سوريا

—————————

من أجل عبور آمن نحو الاستقرار/ مصطفى إبراهيم المصطفى

2025.01.08

يروي حمود الشوفي الذي كان يوما ما الأمين العام لحزب البعث وسفير سوريا لدى الأمم المتحدة أن حافظ الأسد قال له في عام ١٩٧٠ في جلسة خاصة: “إن الناس لهم مطالب اقتصادية بالدرجة الأولى يتطلعون إلى الحصول عليها، مثل: قطعة من الأرض، أو بيت، أو سيارة، أو ما شابه ذلك. وأضاف: هناك -فقط- مئة شخص أو مئتان على الأكثر ممن يعملون جديا بالسياسة أو يتخذون منها مهنة لهم، وهؤلاء سيكونون ضده مهما فعل، وخلص إلى أن سجن المزة -أصلا- مبني من أجل هؤلاء”.

السوريون والسياسة

بعيدا عما يقال بأن السوريين ساسة بالفطرة فإن الواقع يقول غير ذلك، وإذا كان العدد -حسب تقديرات حافظ الأسد- يتأرجح بين المئة والمئتين قبل أن يستولي على السلطة، فالقول إنه من النادر أن تجد بعض السوريين الذين يمتهنون السياسة لن يكون افتراء أو مبالغة بعد أن جعل نظام البعث من ممارسة السياسة جريمة لا تغتفر. تجلى ذلك بكل وضوح بعد انطلاق الثورة السورية في العام ٢٠١١؛ فرغم امتداد الثورة لما يقارب الأربعة عشر عاما لم يستطع السوريون تشكيل تيارات أو أحزاب كبيرة قادرة على أن تعبر عن تطلعات السوريين، أو أن تمثل شرائح واسعة منهم، فوفق بعض التقديرات ظهرت أعداد كبيرة من الكيانات السياسية لكنها جميعا تشكلت من عشرات الأشخاص، وربما مئة أو مئتين في أحسن تقدير، وهي بالمجمل استنساخ لتجارب كلاسيكية فاشلة. من هنا يمكن القول: إن الطرح الذي جاء على لسان السيد أحمد الشرع بامتداد الفترة التحضيرية لثلاث أو أربع سنوات يبدو أنه طرح متسرع، فأربع سنوات غير كافية لبناء وهيكلة أحزاب كبيرة تمتلك من النضج ما يكفي لممارسة اللعبة السياسية.

ضربة استباقية للثورة المضادة

بعد السقوط المدوي لنظام الطغيان صبيحة الثامن من كانون الأول ٢٠٢٤ انبرت الفصائل المسلحة وعلى رأسها هيئة تحرير الشام التي قادت عملية التحرير لملء الفراغ الإداري والسياسي الذي نجم عن سقوط النظام واختفاء رموزه، وفيما يبدو أنه ضربة استباقية لأي ثورة مضادة؛ سارعت قيادة العمليات إلى تشكيل جيش نظامي قوامه مقاتلو الثورة وقادتهم بعد أن تبخر جيش النظام البائد نتيجة الهزيمة الساحقة التي مني بها، وتكفلت القوات الثورية بملاحقة وتفكيك الخلايا التي يمكن أن تشكل خطرا في المستقبل. وعلى المستوى الإداري تتالت التعيينات والتكليفات ليصار إلى السيطرة على مفاصل الدولة بشكل تام. ولكن، رغم أن الإجراءات المتخذة تبدو مدروسة وذكية، إلا أن خطر انقسام المجتمع إلى فئتين متناقضتين قد يكون نتيجة طبيعية لهذه الإجراءات، فالذين تم إبعادهم عن المناصب الإدارية والعسكرية، وباقي المتضررين من سقوط النظام سينتظرون إلى أن تظهر بعض الأصوات والفئات التي كانت محسوبة على الثورة أن تعبر عن امتعاضها نتيجة ما تظن أنه تهميش لها لتلتحق بها وتتحد معها لتشكل ما يمكن أن نسميه فئة أو تيار الناقمين على الفئة الأولى: فئة المستفيدين.

الأمن والازدهار والرضا الواسع

في مجمل الأحوال، يبدو أن فكرة الوصول إلى مجتمع لا توجد فيه فئة ناقمة على السلطة هي فكرة شبه مستحيلة، فالفكرة الأكثر جدوى تتجلى في جعل الفئة الناقمة فئة صغيرة لا تشكل خطرا يذكر، ويمكن الوصول إلى ذلك بحيازة السلطات الحاكمة على رضا الأغلبية من الشعب من خلال إنعاش الاقتصاد والتوسع في مجال الخدمات والحماية التي تقدمها الدولة، فالمواطن بطبعه لا يحب السلطة عندما تكون جديدة؛ إلا أنه لا يلبث أن يشعر بالحاجة لوجودها نتيجة ما تحققه من أمن وازدهار للبلاد. بهذا المعنى قد تكون الفئة غير الراضية كبيرة في البداية لكنها لا تلبث أن تتلاشى عندما تبدأ المصالح الشخصية للأفراد بالتحقق، فباعث المصلحة الشخصية هو الذي يسير الفرد في هذا العالم كما تقول الفرضية الاقتصادية الشهيرة. ومما لا شك فيه أن مصالح الأفراد تتحقق بالدرجة الأولى من الفرص الاقتصادية التي يمكن أن توفرها الدولة لجميع أفراد المجتمع من دون تمييز. إذاً لم يكن حافظ الأسد مخطئا عندما اعتقد أن المصالح الاقتصادية تأتي بالدرجة الأولى؛ لكنه فشل في تنفيذ ذلك عندما استولى على السلطة.

معوقات ثقافية

لا أحد يعلم إن كان حافظ الأسد فشل في تحقيق المطالب الاقتصادية للسوريين نتيجة اكتشافه لنقص موارد الدولة السورية أم أنه غض الطرف عن هذه الرؤية نتيجة لتعارضها مع رغبته ببناء نظام سلطوي قمعي يرسخ تفرده بالسلطة، لكن الأهم من ذلك العبث بثقافة السوريين وصياغة مفردات العقل الجمعي للسوريين بما يخدم الخط السياسي للنظام الحاكم، فاليوم رغم سقوط النظام بأشخاصه ورموزه، إلا أن ما تركه في الثقافة السياسية للشعب السوري ما يزال قائما، وربما تشكل هذه الثقافة عائقا أمام السلطات الجديدة إن هي رغبت بانتهاج سلوك تصالحي مع الجميع، والذي هو من أهم متطلبات التنمية الاقتصادية وجلب الاستثمارات، فالخطاب المفعم بالتحدي والعنجهية الذي يجذب الأغلبية الساحقة من السوريين يتناقض تماما مع المساعي والرغبات بالتنمية الاقتصادية، فسوريا -على عكس ما يعتقد أغلبية السوريين- بلد فقير بالموارد الطبيعية وهو بحاجة ماسة للمساعدات والاستثمارات الأجنبية. وهكذا؛ إن لم يحصل التعديل والتصحيح في بعض المفاهيم وبعض المعتقدات؛ قد تكون الثقافة السياسية الموروثة عن نظام الاستبداد أكبر معوق أمام التنمية الاقتصادية، وبالتالي أمام رغبات السلطات الجديدة بأن تكون الأغلبية الساحقة من السوريين تشعر بالرضا.

أخيرا؛ لا يمكن للشعوب أن تعبر الأطوار الانتقالية دون بعض المنغصات والعثرات، ويعتقد أن التنمية الاقتصادية وتحقيق الأمن والازدهار هو الطريق الأقصر والأسلم للعبور الآمن نحو الاستقرار.

—————————

ملاحظات/ بلال خبيز

يعني مش دايما النظام الديمقراطي بيوعد الفرد بالجنة. المقصود، إن النظام الديمقراطي بيأكد للفرد، المقطوع من شجرة، إنه محمي بموجب القانون. هلق موضوع القانون وحمايته، وتعذر هذه الحماية، بحاجة لبحث طويل. إنما الأكيد أن الفردية بالمجتمعات الديمقراطية ليست دائما مرغوبة ومطلوبة. غالبا ما بينتظم الفرد في هذه المجتمعات بروابط أو بينتمي لطوائف أو فئات ثابتة او متغيرة، لحتى يقدر يعيش بقدر من الطمأنينة والسلام. الانتماء، حتى بالمجتمعات التي تحفظ حقوق الأفراد مرغوب ومشجع عليه.

بحالتنا في بلادنا يمكن لازم نحكي عن تجاربنا الشخصية. أنا اعتبر نفسي فردا، انتميت في أوقات وانشققت في أوقات، إنما بالإجمال فيي قول إني لم أتلقى دعما من طائفتي أو أهلي أو جماعتي في أي مرة احتجت هذا الدعم. هلق مش عم لوم، كل الي بدي قولو إنو فرديتي على الأرجح لم تكن خيارا، يمكن لو بيرجع الزمن فيي كنت بفضل أقعد في كنف الأهل، واشتغل ما يشتغلون به، وأتزوج من أقاربي إلى آخره. إنما ولأسباب خارجة عن إرادتي، أنا لم أستطع يوما أن أنتمي، عمري كله تهجير وهزائم، أول مرة تهجرت كان عمري 6  سنين، رحت من ضيعة كانت تعيش في مجاهل القرن التاسع عشر إلى مدينة فيها كل واجهات الحداثة لكنها لم تكن تحتفي بالأفراد، الأفراد في مدن لبنان تلك العقود كانوا مرحب فيهم بوصفهم عمال مياومين في أحط الوظائف فقط. بمعنى أنو بتجي من ضيعتك بتشتغل بقطف الليمون، وبتنام وبتاكل كيفما اتفق، وبعدين بترجع على ضيعتك وبالتالي إلى أهلك.

كأفراد في تلك المدينة كنا قلة قليلة وعبارة عن مهجرين، غرباء، قليلي الشأن. ما بقول إنو حدا اعتدى علينا، بس كنا أدباء، استنادا إلى المثل الرائج: الغريب بيكون أديب.

هذه مفارقة متل ما واضح: المفروض المدن هي من تحث على الفردية الجالبة للإبداع والمتطلبة النقد الذاتي، لكن مدننا كانت مقفلة على أهلها، وترك لنا من حيزها العام السوق فقط، نشتري وناكل فول وحمص، ونشتغل بطرقاتها. ببلد متل لبنان، والأرجح سوريا كمان، لم تنشأ مدن عماد سكانها الأفراد. في بحث مهم كثير إعادة الاطلاع عليه اليوم لوضاح شرارة، اسمه المدينة الموقوفة. بيوضح فيها كيف بعد تكاثر الهجرات، تحول هؤلاء الأفراد قليلي الشأن إلى أهل أيضا، حيث سكنوا في أحياء متجانسة ببيروت وضواحيها، والروابط العائلية والطائفية والمناطقية هي التي حكمت علاقتهم بالمدينة وبالبلد.

باختصار، عندي سؤال: إذا عملنا قانون انتخابي مثلا، يعتمد المواطنة هل أحد يعتقد أن آل المقداد في حي المقداد الي هني مش بيروتيين، سيصوتون لآل عيتاني البيروتيين؟ أم أن التحالفات والروابط السياسية ستكون طائفية للعظم؟

وباختصار أيضا، نحنا الي عشنا كأفراد وبعضنا حقق نجاحات باهرة في حياته، هل نعرف حقا حي آل المقداد؟ أم اكتفينا بالحمرا والجميزة؟ وهل شي مرة تذوقنا شو بتطبخ الست من بيت العيتاني او شاتيلا؟ أصلا هل منعرف حقا شو هو المطبخ البيروتي؟ أم أننا اكتفينا بأكل الباستا؟

وعليه: كيف ممكن نبني بلد للمواطن ونحنا ما بيولد عنا المواطن الفرد إلا بعد مواجهة كل مصاعب الأرض وكل تحديات العالم؟

مش صار لازم نراجع مسلماتنا قليلا؟ مش صار لازم ننتبه إن الديمقراطية الي عم نحكي عنها ليست مختصرة بقانون الانتخاب؟ مش صار لازم أيضا ننتبه أن الديمقراطية لا تعني إنو  كل رأي كائنا من كان قائله بيوزن بالشأن العام. وإلا كان مفروض إذا أرسلت هذا الرأي إلى واشنطن بوست ينشروه من دون تردد بحجة حرية الرأي.

رأيي ممكن يكون مشغول ودقيق ومقمش إنما هذا لا يمنع أن يكون رأيا أقل أهمية بما لا يقاس من رأي شيخ بجامع بيقدر يجمع حوله آلاف المقتنعين برأيه.

بدي ناضل منشان احتفظ بحقي بإبداء الرأي. إنما أيضا بدي أعرف أن رأيي الذي أبديه ليس منزلا وليس مؤثرا ما دمت لا أنطق بلسان وضمير فئة واسعة من الناس.

نحنا مشكلتنا أنو ما حدا موافق على رأي الثاني، وبالوقت نفسه، ما حدا مستعد ياخذ باعتباره موازين القوى والرأي في بلده، ومعتبرين إننا منعرف كل شي وكفى الله المؤمنين شر القتال.

لما بقول ما حدا ما بكون عم إجمل، هذا محط كلام، بس أحيانا بقرا نصوص لأصدقاء، بالغة الأهمية وتعالج جزء من هذه الهواجس. لكنني حين أطلع على التعليقات بياكلني الخوف.

الفيس بوك

—————————

مآلات التغيير: أخطاء فردية ../ نداء الدندشي

لعقود خلت، اعتاد الشعب السوري سماع جملة “خطأ فردي” تتردد على لسان مسؤول هنا ، أو هناك, كتبرير لحادثة فاقعة جرت في مدينة ما أو بلدة على مساحة الوطن ، وما أكثرها كانت من حوادث تتكرر باستمرار وسط استهانة مخطط لها بحق المواطن وكرامته.

سطوة القمع الذي تعاني منه سورية ، كانت تدفع للصمت إزاء ما يحدث من ممارسات غير مقبولة، فالشعب يحاول جاهدا أن ينأى بحياته وحياة أفراد عائلته بعيدا عن أي مواجهة مع رجال الأمن الذين يترصدون به وبأسرته على مدار اللحظة ، وأي صدام يحدث لن تحمد عقبى نتائجه لاختلال موازين القوة في البلد.

هذا التبرير غير المقبول يعني في حيثياته أن الحكومة غير مسؤولة ، وأن ما حدث جرى خارج إرادتها، بكلمة أخرى أنها غير معنية بإصلاح الخطأ، فهو فردي ناتج عن حالة سلوك عامة هي بمنأى عنه.

“خطأ فردي” مالبث أن تفاقم أمره وتحول إلى سلوك عام يمارس على مرأى ومسمع الجميع، يدفع المواطن ضريبته الباهظة من أمنه، الذي تجاوزت حالة الفلتان فيه حدود اللامعقول، والنتيجة أن تحولت الحياة اليومية إلى شبه كابوس مستمر لا يمكن للإنسان العادي الخلاص من وطأته.

الآن قلبت تلك الصفحة البائسة من تاريخ سورية، وحل خطاب آخر يضع نصب عينيه حق المواطن السوري بحياة لائقة، صون كرامته، وعدم المساس بقيمة الفرد أي كان. لكن إلى أي حد يمكن لمس تطبيق هكذا خطاب على أرض الواقع.

يشكو العديد من المواطنين الآن من ممارسات شاذة يواجهونها خلال تنقلهم في الأحياء، أو بين البلدات والمدن السورية خلال سعيهم لتأمين متطلبات حياتهم وعوائلهم العادية، او تنقلهم إلى مراكز عملهم ، ممارسات خارجة عن نمط حياتهم المعتاد، وهو الحق الوحيد الذي حفظ لهم مما تبقى من شروط الحياة الممكنة وسط المستحيل الذي كان سائدا، لكن المشكلة الفاقعة التي طفت على سطح التغيير أنها أعادت على مسامعهم جملة هتكت حقهم وكرامتهم في الماضي “خطأ فردي”، هنا يتبادر إلى الأذهان سؤال محق، هل تستعين الحكومة الجديدة بشيء من أسلوب نظام مكروه ومنبوذ من معظم أطياف الشعب لتبرر لعناصرها فعلتهم؟

على سطح مجريات الأمور تلك طفت على سطح الأحداث مشكلتان تستوجبان التوقف أمامهما، دخول بعض العناصر الذين من المفترض انهم  حملوا على عاتقهم مهمة تحرير سورية من البين الذي لحق بها لعقود من الزمن، وهم يدخلون إلى الحافلات التي تقل المسافرين ثم يطلبون فصل النساء عن الرجال، وهي مسألة تمس فطرة الإنسان السوري الذي اعتاد احترام المرأة التي تجلس بجانبه.

هذا التصرف تم تبريره بأنه “خطأ فردي”، حسنا، ماذا عن السخرية والاستهانة بمعتقدات الآخرين الدينية، موقف واجهه العديد من المسيحيين السوريين، ملح الأرض السورية وجذورها الضاربة في عمق التاريخ، أيضا تم تبرير الموقف على أنه خطأ فردي، اعتذر هنا على هذه المكاشفة الفظة، لكنه مايجري على مساحة وطن نأمل أن يحصل على  حريته وحقوقه كاملة غير منقوصة.

ممارسو “الأخطاء الفردية” الفاقعة تلك تتحمل الحكومة الحالية وزر أخطائهم، تكرارها لن يصب في مصلحتهم مستقبلا ان هم لم يتصدوا للمشكلة وبجدية مسؤولة، فظواهر مثل هذه الممارسات تبتعد عن فطرة شعب سورية التي يجب أن تراعى وتؤخذ بعين الحكمة، وأن تشغل أولويات  من هم على رأس السدة، فالأخطاء الفردية تتوالى واحدة إثر الأخرى، تتراكم وقد تتحول إلى جائحة مجتمعية لا تلبث أن تصبح خارج السيطرة، بحيث تعجز حتى الحكومة على كبح جماحها ان لم تتصدى لها في بداياتها، وفي جميع الحالات يكون المواطن الذي لا حول له ولا قوة هو الضحية المستهدفة، باعتبار أن لا أولويات لكرامة المواطن ضمن أجندة الحكومة، وفق ما يصدر عنها من تبريرات لأحداث غير مقبولة.

أتساءل هنا هل قدر على شعب سورية أن يمضي حياته مقهورا في بلد امتهنت حكوماته المتعاقبة مهمة القهر الجماعي والمجتمعي؟

كلمة حق أقولها، إن أردت من الآخرين أن يحترموا عاداتك ومعتقدك، فعليك أن تبدأ من نفسك وتروضها على احترام عادات ومعتقدات الآخرين، والا فبئس ما تفعل، فقد ينقلب السحر على الساحر ذات يوم.

حكمة الحياة تقول ” ويل للمستكبر ، فلا أحد بمنأى مهما طال الزمن”.

كاتبة وباحثة سورية

—————————–

بيان الأكثريّة الوطنيّة:

‎نحن لسنا أقليات أو أغلبيات، نحن سوريون وسوريات نحمل مسؤولية بناء سوريا الجديدة، الدولة والمجتمع والهوية معاً.

‎نريد تحقيق قيم الحرية، المساواة، العدالة الاجتماعية، المواطنة، وسيادة القانون في سوريا التي تستحقنا ونستحقها.

‎كما نريد دولة حديثة مستقلة ذات سيادة يتساوى فيها جميع المواطنين والمواطنات بحماية دستور عادل يكفل الحريات الفردية والجماعية، ويحمي الحقوق الأساسية، ويتيح مشاركة جماعية في الحكم، ويضمن تداولاً ديمقراطياً للسلطة، ويمنع الاستئثار بها من قبل أي فرد أو جماعة.

‎لا نقبل بأي دولة أو سلطة غير منتخبة من السوريين والسوريات أن تنتدب نفسها للحديث باسمنا، سواء كانت دولية أو محلية، مدنية أو دينية.

‎لذا نطالب القائمين على إدارة المرحلة الحالية في سوريا بالإعلان عن تشكيل اللجنة التحضيرية للمؤتمر الوطني، مع تحديد برنامجه، أهدافه، خطة عمله، والإطار الزمني لإتمام هذا الحوار والخروج بنتائج ملموسة. ويجب أن تكون هذه الإجراءات شفافة ومتاحة للجميع لضمان ثقة المواطنين في العملية.

‎ونطالب أيضاً بتحديد معايير تمثيل واضحة للمؤتمر الوطني العام القادم، بحيث يكون التمثيل نابعاً من إرادة الشعب ويعبر عن مصالح السوريين والسوريات على مختلف الأصعدة وإتاحة مهلة زمنية للسوريين والسوريات لانتخاب ممثلين عنهم من خلال اجتماعات تشاورية محلية تعقد قبل المؤتمر الوطني العام.

‎كما نؤكد على ضرورة إشراك المرأة، الشباب، المغتربين والمغتربات، واللاجئين واللاجئات في كل مراحل إنجاز المؤتمر الوطني، من خلال تمثيل صحيح يعكس التنوع المجتمعي ويعزز الشمولية.

‎إن بناء سوريا الدولة والمجتمع والهوية على أسس صحيحة يتطلب مشاركة كل السوريين والسوريات في الداخل والخارج. هذه المشاركة تفرض علينا مسؤولية وطنية مشتركة للمساهمة الفعالة والمستمرة في العملية السياسية.

‎لذا نطالب جميع الأطراف السورية البدء بتنظيم فعاليات حوارية على نطاق مصغر في كل المناطق السورية ودول الاغتراب واللجوء، لضمان أوسع مشاركة ممكنة في العملية السياسية وانتخاب مجموعة من الشخصيات الوطنية للتمثيل في المؤتمر الوطني العام. كما نؤكد على ضرورة الالتزام بالشفافية في كل مراحل العمل السياسي، مما سيعزز الثقة بين المواطنين/ات والجهات التمثيلية من جهة وبين المواطنين/ات والدولة من جهة أخرى.

‎دمتم ودامت سوريا حرة أبية

‎هذا البيان مفتوح للتوقيع من أي سوري وسورية والجمعيات المدنية السورية والأحزاب السياسية السورية داخل وخارج الوطن ممن يجدون أن البيان يلبي تطلعاتهم من خلال إضافة الاسم الكامل والصفة المهنية.

‎ساندرا علوش – إعلامية

‎عباس محمد الموسى – محامي

‎عزة البحرة – ممثلة

‎أسامة شقير – فنان تشكيلي

‎لبانة القنطار – مغنية أوبرا

‎زيد النجار – مهندس

‎رأفت الرفاعي – صحفي

‎رشا رزق – موسيقية

‎صباح الحلاق – عضو المجلس الاستشاري النسائي

‎رياض الخوري

‎الياس ابو عسلة

‎آلاء عامر – إعلامية

‎ميشيل سعد

‎صبري الحرح

‎طارق محرم – ناشط

‎مضر الخطيب – ناشط واعلامي

‎مضر رمضان – مسرحي ومترجم

‎نادين أسود – صيدلانية

‎يوسف العبسي – ناشط اعلامي

‎فواز شحادة – صحفي

‎مضر قولي – مطور أعمال

‎تامبي الشركس – جيولوجي

‎ مهدي الناصر – صحفي

‎طارق عبد – طبيب

‎حسن سهل موسى – مدرس فيزياء

‎يامن العلي – طبيب

‎بشار الشيخ

‎آية صعب ـ طبيبة أسنان

‎نظام علوش

‎أصلان علي – مهندس

‎وسام عطفة

‎كلير معوض  – مدرّسة

‎حسام قصاب باشي

‎بسمة دالي – اعلامية

‎رأفت الرفاعي – صحفي

‎فواز شحادة – صحفي

‎محمود العاشق – ناشط

‎نوار خضور – دكتوراه تربية

‎يوسف الكريم – ناشط

‎هنا ابراهيم – صحفية

‎أميمة الهلو _ مترجمة

‎رود الغاوي

‎عابد حُوَّري

‎ليال قطيش

‎محمد نور شموط – مهندس

‎نازار الماجيان – صحفي

‎ماجد حمّود – مخرج سينمائي

‎محمود المصري – رسام

‎جميل فرح أبو داود – استشاري

‎علي قطيفان – إعلامي

‎سليمان العبد _ مهندس معماري

‎ريزان حبش – مصور و شاعر

‎محمود الشيخ ـ دكتور اسنان

‎ميادة الكبة

‎فادي جاكيش

‎أديب الشماس _ موسيقي

‎وائل السوّاح – كاتب سياسي

‎حنّا حيمو – شاعر

‎أنس حنا

‎هيلدا عياش 

‎يامن قصبة

‎فادي طنطة

‎علي  رضوان – مدرس كيمياء

‎شفيع بدرالدين – موسيقي

‎حنّا حيمو – شاعر

‎حسن سليم – مهندس

‎جمال حتمل – فنان تشكيلي

‎خالد سرحان – إعلامي وسياسي مستقل

‎شفيع بدرالدين – موسيقي

‎غياث قداح ـ حقوقي

‎فادي طنطة

‎بسام القوتلي – سياسي

‎عصام غزلان

‎أحمد البرهو -كاتب

‎شفيق كسحوت – مهندس ميكانيك

‎حكمت شيخ سليمان – مهندس

‎حنّا حيمو – شاعر

‎عبدالجليل الشققي – ناشط مدني

‎عساف الكعدي

‎غيث حمور – روائي وصحفي

‎فتوح قصار – متقاعد

‎فهد مخول – مهندس مدني

‎ليلى هيلانة – أعمال حرة

‎محمد البخاري

‎مي العربي -ناشطة نسوية سياسية

‎نسرين طرابلسي_ كاتبة وإعلامية

‎نوفا يوسف سلوم – متقاعدة

‎سامي داوود – ناشط

‎عساف الكعدي

‎عمرو الفحام – مهندس

‎أميرة الكعدي – موظفة

‎شام علوش

‎ زياد المعري – تاجر

‎أحمد الدقر – مهندس معلوماتية

‎أسعد طنوس

‎جهينة رزق  – تأهيل لسوق العمل

‎يوسف صباغ – محامي

‎جورج عبدو

‎ريتا ماريا – طبيبة

‎سامر قبوات

‎سامان حسن

‎جورج عبدو

‎مصعب الموعد ـ معلم

‎جورج الفريد حنا – مصور

‎ألان علم الدين – فاعل سياسي وكاتب

‎زهرية عقيل – معالجة نفسية

‎فادي عربي كاتبي

‎عثمان الأحمد _ أخصائي في تأهيل السمع والنطق

‎زينة أبوداود

‎سينم حسين – مهندسة

‎غيث متري – محامي

‎إحسان غسان – مخرج فني

‎محمد دهمان – مهندس معلوماتية

‎منال صافي – صحافية

‎غدير برهوم

‎شادي المحاميد

‎يحيى حياتي السيد – مدرس متقاعد

‎نوفا سلوم – متقاعدة

‎مي يعقوب

‎صفوان هواش – مخرج

‎ايڤلين سمعان – أثارية

‎ماريا كورية

‎ابراهيم لاوند ناشط مع مجتمع سورية المدني

‎هشام الحناوي – طبيب أسنان

‎مجتمع سورية المدني (عدة ناشطون سوريون

‎من كافة طوائف المجتمع)

‎إيمان الذياب حزب الإرادة الشعبية

‎عدنان البب – مهندس زراعي

‎أحمد السراج

‎غفران الباقوني

‎أسامة البني ـ موسيقي

‎احمد حمامي – محامي

‎غريس رزق – صيدلانيه

‎حبيب سرور – طبيب

‎الياس الخوري

========================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى