سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسة

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 10 كانون الثاني 2025

لمتابعة التغطيات السابقة

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 08 كانون الثاني 2025

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 07 كانون الثاني 2025

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 06 كانون الثاني 2025

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 05 كانون الثاني 2025

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 04 كانون الثاني 2025

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 03 كانون الثاني 2025

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 02 كانون الثاني 2025

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 01 كانون الثاني 2025

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 31 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 30 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 29 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 28 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 27 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 26 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 25 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 23 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 22 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 21 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 20 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 19 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 18 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 17 كانون الأول 2024

 
سوريا حرة إلى الأبد: المصاعب والتحديات، مقالات وتحليلات 16 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مهام اليوم التالي، مقالات وتحليلات 15 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 14 كانون الأول 2024

جمعة النصر الأولى على الطاغية، سوريا حرة إلى الأبد: سقوط الديكتاتور الفار بشار الأسد، مقالات وتحليلات

سوريا حرة إلى الأبد: سقوط الديكتاتور الفار بشار الأسد مقالات وتحليلات

———————————–

المرحلة الانتقالية في سورية… مقاربة إدارة بايدن بعد سقوط نظام الأسد

المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

09 يناير 2025

على الرغم من ترحيب إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، بسقوط نظام بشّار الأسد في سورية في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، واعتبارها ذلك بمنزلة “فرصة تاريخية للشعب السوري” لبناء مستقبل أفضل، فإنها عبرت عن قلقها من حالة “عدم اليقين” التي تمرّ بها سورية. وتواجه واشنطن معضلة في التعامل مع هذا الواقع الجديد؛ إذ إن هيئة تحرير الشام، المصنفة أميركيًا وأوروبيًا وأمميًا “كيانًا إرهابيًا” منذ عام 2018، هي التي تقود المرحلة الانتقالية في البلاد بعد سقوط نظام الأسد، وفي الوقت نفسه لا تريد واشنطن أن تفسح مجالًا لقوى إقليمية ودولية مناوئة لها، كإيران وروسيا، لملء الفراغ هناك، أو أن تتحول سورية إلى مصدر للفوضى والتهديد وعدم الاستقرار لجيرانها.

أولاً: مقاربة بايدن للتغيير في سورية

اعتبر بايدن أن المقاربة التي اتبعتها إدارته في سورية أضعفت نظام الأسد، وأسهمت في إسقاطه، وذلك من خلال:

تشديد العقوبات على نظام الأسد من أجل إرغامه على الانخراط في عملية سياسية، “لكن الأسد رفض، ولذلك نفذت الولايات المتحدة الأميركية برنامج عقوبات شاملًا ضده وضد جميع المسؤولين عن الفظائع المرتكبة في حق الشعب السوري”. وكان لهذه العقوبات أثر فعال في تآكل مؤسسات الدولة، بما في ذلك الجيش والأمن، واهترائها، وتعطيل حوافز الدفاع عن النظام.

والحفاظ على وجود عسكري في سورية في إطار الحملة على تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، وضمان عدم تمكنه من إنشاء ملاذ آمن مرة أخرى هناك. ودعم حرية الحركة لدى إسرائيل في العمل ضد الشبكات الإيرانية في سورية، وضد الجهات الفاعلة المتحالفة مع إيران فيها، واستخدام القوة العسكرية ضد حلفاء طهران لحماية القوات الأميركية. ويرى بايدن أن نهجه هذا “غيّر ميزان القوى في الشرق الأوسط”.

ولم يكتفِ بايدن بادعاء الفضل في إسقاط نظام الأسد، بل أكد رغبة إدارته في التدخل في تشكيل سورية الجديدة. وتستند إدارته في ضغوطها على الحكم الانتقالي الجديد في دمشق إلى جملة من الأدوات أهمها:

1. إن هيئة تحرير الشام ورئيسها أحمد الشرع (المعروف سابقًا بأبي محمد الجولاني)، لا يزالان على قوائم الإرهاب الأميركية والدولية. ومع أن الولايات المتحدة ألغت مكافأة العشرة ملايين دولار لمن يساعد في إلقاء القبض عليه بعد لقاء وفد رفيع من الخارجية الأميركية معه في دمشق في 20 ديسمبر 2024، فإنه ما يزال مصنفًا على قوائم الإرهاب في الولايات المتحدة منذ عام 2013.

2. ما زالت سورية تئن تحت وطأة العقوبات الاقتصادية الأميركية والدولية، التي وإن كانت قد صُمِّمَت لاستهداف نظام الأسد وتضييق الخناق عليه، فإنها لم تُرفع عن البلاد بعد انهيار نظامه. وتحتاج سورية إلى مساعدات إغاثية واقتصادية عاجلة، كما أنها في حاجة إلى ضخ أموال طائلة لإعادة الإعمار وتوطين ملايين اللاجئين والنازحين السوريين بعد أكثر من 13 عامًا من الحرب.

3. وجود قوات عسكرية أميركية في شرق سورية خارج سلطة دمشق؛ حيث تسيطر المليشيات الكردية بدعم أميركي. وكشفت مصادر عسكرية أميركية مؤخرًا أن حجم القوة العسكرية الأميركية في شرق سورية هو 2000 جندي، وليس 900 كما قيل سابقًا.

وقد أعلن بايدن أن بلاده ستعمل مع شركائها وحلفائها على اغتنام الفرص وإدارة المخاطر في سورية من خلال:

1. دعم “جيران سورية، بما في ذلك الأردن ولبنان والعراق وإسرائيل، في حال ظهور أي تهديد من سورية خلال هذه الفترة الانتقالية”.

في هذا السياق، سعت إدارة بايدن لتبرير توغل إسرائيل العدواني وغير القانوني في الأراضي السورية، واحتلالها مزيدًا من الأراضي في هضبة الجولان المحتلة وحوض اليرموك، فضلًا عن قيام طيرانها العسكري بشن مئات الغارات الجوية على القواعد والقدرات العسكرية السورية بعد انهيار نظام الأسد؛ ما تسبب في تدمير نحو 85 في المئة منها. واعتبرت إدارة بايدن العدوان الإسرائيلي السافر دفاعًا عن النفس.

2. المساعدة في “ضمان استقرار مناطق شرق سورية”، وحماية القوات الأميركية ضد أي تهديدات. وأعلن بايدن، أيضًا، استمرار المهمة الأميركية ضد “داعش” لمنعه من الاستفادة من أي فراغ لإعادة بناء قدراته وخلق ملاذ آمن في سورية من جديد، وكذلك الحفاظ على أمن مراكز الاعتقال حيث يحتجز حوالى 8000 من مقاتلي “داعش” وعائلاتهم تحت إشراف المليشيات الكردية.

    شنّت الولايات المتحدة، في اليوم الذي أُعلِن فيه عن سقوط نظام الأسد، أكثر من 75 غارة جوية على أهداف قالت إنها لـ”داعش” في سورية

وقد شنّت الولايات المتحدة، في اليوم الذي أُعلِن فيه عن سقوط نظام الأسد، أكثر من 75 غارة جوية على أهداف قالت إنها لـ”داعش” في سورية. وفي 19 ديسمبر/ كانون الأول 2024؛ أي قبل يوم واحد من اجتماع وفد أميركي رفيع المستوى مع الشرع في دمشق، أعلنت القيادة المركزية الأميركية أنها نفذت غارة جوية قضت من خلالها على زعيم “داعش” في سورية ومساعد له. وقال بيان للقيادة المركزية الأميركية إن الضربة نُفذت “في منطقة كانت خاضعة في السابق لسيطرة النظام السوري وروسيا”.

3. “التعاون مع كل القوى السورية، في إطار العملية السياسية التي تقودها الأمم المتحدة، من أجل إرساء انتقال بعيد عن نظام الأسد، نحو سورية المستقلة ذات السيادة مع دستور جديد وحكومة جديدة تخدم كل السوريين”.

ثانيًا: إدارة المرحلة الانتقالية ومخرجاتها

بعد ثلاثة أيام على إطاحة نظام الأسد، أوفدت إدارة بايدن وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، إلى أنقرة لتنسيق مواقف حلفاء واشنطن بشأن الوضع فيها، في محاولة لفرض الشكل الذي ينبغي أن تكون عليه المرحلة الانتقالية ومخرجاتها. وزار بلينكن تركيا، في 12 كانون الأول/ ديسمبر، والتقى رئيسها رجب طيب أردوغان، في محاولة لضمان عدم وقوع تصعيد عسكري مع المليشيات الكردية شمال شرقي سورية بذريعة عدم إتاحة مجال لـ”داعش” لإعادة تجميع صفوفه، ثمَّ زار العراق، في 13 من الشهر نفسه؛ حيث التقى رئيس الوزراء، محمد شياع السوداني، وناقشا سبل منع “داعش” من تشكيل تهديد جديد لسورية والعراق، وأخيرًا، الأردن حيث شارك في اجتماع مدينة العقبة، في 14 من الشهر نفسه، الذي حضرته أطراف إقليمية ودولية لمناقشة الأوضاع في سورية ومستقبلها. وقد دعا البيان الصادر عن الاجتماع إلى ضرورة وجود عملية سياسية شاملة يقودها السوريون أنفسهم، “وفقًا لما نصّ عليه قرار مجلس الأمن رقم 2254، بما يحقّق تطلعات الشعب السوري، ويضمن إعادة بناء مؤسّسات الدولة، ويحافظ على وحدة الأراضي السورية وسلامتها وسيادتها”.

وحدد بلينكن سبعة شروط أو “مبادئ” توافقت عليها الأطراف المشاركة في اجتماع العقبة لدعم عملية الانتقال في سورية هي:

1. أن ينتج عن عملية الانتقال التي ينبغي أن يقودها السوريون حكومة شاملة وتمثيلية.

2. احترام حقوق جميع السوريين، بما فيهم الأقليات والنساء.

3. وصول المساعدات الإنسانية إلى المحتاجين إليها.

4. “عدم استخدام سورية قاعدةً للجماعات الإرهابية أو غيرها من الجماعات التي تهدد الشعب السوري أو جيرانه أو العالم”.

5. “تأمين مخزونات الأسلحة الكيميائية وتدميرها بأمان”.

6. ضرورة أن تقيم سورية علاقات سلمية مع جيرانها.

7. السماح للمنظمات ذات الصلة بـ “الوصول إلى المرافق التي يمكن أن تساعد في تحديد مصير السوريين المفقودين والمواطنين الأجانب، وفي نهاية المطاف محاسبة المعتدين”.

وفي سياق مساعي إدارة بايدن لفرض رؤيتها على المرحلة الانتقالية، جاءت زيارة الوفد الأميركي لدمشق، برئاسة مساعدة وزير الخارجية، باربرا ليف، وضمَّ المبعوث الرئاسي الخاص لشؤون الرهائن، روجر كارستينز، والسفير، دانيال روبنشتاين. والتقى الوفد بالشرع، وممثلين آخرين عن الهيئة، وكذلك ناشطين في المجتمع المدني وعاملين في المجال الإنساني وغيرهم، لمناقشة رؤيتهم لمستقبل سورية، وكيف يمكن أن تدعمهم الولايات المتحدة. وبحسب بيان للخارجية الأميركية، فقد أكدت ليف “دعم الولايات المتحدة الكامل للانتقال السياسي الشامل بقيادة سورية، وعملية تؤدي إلى حكم موثوق وشامل وتمثيلي وغير طائفي يلبي المعايير الدولية للشفافية والمساءلة بروح قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254”. وقالت إن النقاشات مع الشرع كانت “جيدة للغاية ومثمرة للغاية ومفصلة”، ووصفته بأنه “بدا عمليًا”، ولكنها استدركت بالقول إن واشنطن ستحكم “على الأفعال وليس على الأقوال فقط”.

وفي إشارة لافتة، أعلنت الولايات المتحدة إلغاء مكافأة العشرة ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات تقود إلى القبض على الشرع، على أساس أن هذا قرار سياسي يصب “في مصلحة بدء نقاش مع هيئة تحرير الشام”. وكانت الهيئة قد ساعدت الولايات المتحدة في تأمين إخراج المواطن الأميركي ترافيس تيمرمان خارج سورية، والذي اختفى في سجون الأسد قبل سبعة أشهر. وتعمل الهيئة وفصائل سورية أخرى مع إدارة بايدن من أجل العثور على الصحافي الأميركي، أوستن تايس، الذي اختفى قبل أكثر من عقد في سورية. وبحسب مسؤولين أميركيين، فإن واشنطن تدرس إمكانية رفع هيئة تحرير الشام من قوائم الإرهاب.

ثالثًا: سياسات إدارة دونالد ترامب

تتركز الأنظار خلال الفترة المقبلة على سياسات إدارة الرئيس ترامب الذي سبق أن أشار، خلال عملية “ردع العدوان” التي أسفرت عن إسقاط نظام الأسد، إلى أن “سورية في فوضى، لكنها ليست صديقتنا، ولا ينبغي للولايات المتحدة أن يكون لها أي علاقة بما يحدث”، ولمّح إلى التسليم بدور تركي في سورية. ولما كان ترامب لا يملك رؤية واضحة لسياسة الولايات المتحدة الخارجية وينطلق من مبدأ “أميركا أولًا”، يخشى بعض الأميركيين أن تفسح إدارته المقبلة المجال لاستفحال الفوضى في سورية وعودة “داعش”. وكانت مقاربة ترامب في ولايته الرئاسية الأولى نحو سورية متقلبة؛ إذ اتخذ إجراءات عسكرية ضد نظام الأسد عامَي 2017 و2018 بعد أن استخدم الأسلحة الكيميائية ضد شعبه. ثمّ، عاد وأعلن في نهاية عام 2018 أنه سيسحب القوات الأميركية من سورية على أساس أن واشنطن نجحت في تدمير “داعش”، إلا أن مستشاريه أثنوه عن ذلك بعد أن أكدوا له أهمية الوجود الأميركي هناك. لكنّ آخرين، بمن فيهم مسؤولون حاليون ومستشارون لترامب، لا يتفقون مع هذا الرأي، ويقولون إنه من غير المرجح أن يتخلى الرئيس المقبل عن الوجود العسكري الأميركي في سورية كما أراد أن يفعل خلال إدارته الأولى. ويقول هؤلاء إن العودة المحتملة لـ”داعش” أكبر من أن يتحمل ترامب تداعياتها. ويرى جويل رايبورن، الذي يعمل في فريق الأمن القومي لترامب، أن “الجولاني واهم إذا كان يعتقد أن العالم وجيران سورية سيدعمون حكومة الإنقاذ التي تهيمن عليها هيئة تحرير الشام لمجرد أنها تفرض حكومة انتقالية على كل سورية”.

ويذهب فريق ثالث إلى أن سقوط الأسد يمنح الولايات المتحدة فرصة مهمة لإعادة صياغة الشرق الأوسط لصالحها. ولكن ترامب يشكك في قدرة واشنطن على تغيير الأمور في سورية، خاصة أن سجل بلاده في ترويج الديمقراطية عبر العالم كان فاشلًا. ومع ذلك، لا ينبغي التقليل من احتمالات تخلّي واشنطن تحت إدارة ترامب عن اشتراطات إدارة بايدن في حكومة سورية وتمثيلية شاملة، في الوقت الذي تقر فيه لإسرائيل باحتلالها أراضيَ سورية جديدة، كما اعترفت إدارته الأولى، عام 2019، بأن هضبة الجولان السورية المحتلة جزء من دولة إسرائيل.

خلاصة

تواجه إدارة سورية في المرحلة الانتقالية تحديات عديدة، منها ضرورة رفع العقوبات لتحريك عجلة الاقتصاد، والتحدي الأمني، وتوحيد الأراضي السورية. وللولايات المتحدة دور مركزي في جميع هذه التحديات. ولا بد من إدارة الأزمة والعلاقة معها بحكمة وروية، ومن دون التنازل عن أي حق من حقوق سورية، بما في ذلك في الجولان المحتل.

وتتطلب إدارة هذه المعركة أيضًا وحدة الشعب السوري، وبذل إدارة المرحلة الانتقالية جهدًا في توحيد قوى هذا الشعب في مواجهة التحديات من خلال احترام المواطنة المتساوية، والمشاركة في إدارة الدولة ومؤسساتها، وطرح نموذج ديمقراطي تعددي يمكنه دمج قطاعات الشعب السوري في الشرق والشمال والجنوب ومناطق سورية الخارجة عن سيطرة الدولة، وتجريد القوى الخارجية، ومنها الولايات المتحدة، من أي حجج لإبقاء العقوبات، أو الاحتفاظ بوجود عسكري على أراضي سورية، أو العبث بوحدتها.

———————————

الصراع في شمال سورية: توازنات القوى وآفاق التسوية السياسية

نشر في 10 كانون الثاني/يناير ,2025

يبدو أن الصراع في شمال شرق سورية سيكون أحد أكثر الملفات تعقيدًا في الأزمة السورية في المرحلة المقبلة، حيث تتداخل فيه المصالح الإقليمية والدولية مع التطلعات المحلية، ويتّسم هذا الصراع حاليًا بالمواجهات المستمرة مع قوّات سوريا الديمقراطية (قسد)، في ظلّ جهود الإدارة السورية الجديدة بقيادة أحمد الشرع، لإعادة توحيد البلاد تحت مظلة سيادية واحدة.

أخذت (قسد) في الفترة الأخيرة تحاول الحفاظ على مكتسباتها العسكرية، مستخدمة الدعم الغربي وتقديم نفسها كشريك أساسي في محاربة “الإرهاب”، في حين ترى القوى السورية الأخرى أن (قسد) تمثل مشروعًا انفصاليًا يهدد وحدة البلاد، ومن جانب آخر، تسعى تركيا إلى تحييد (قسد)، إذ تعدّها امتدادًا لحزب العمال الكردستاني PKK، عبر مزيج من التهديدات العسكرية والضغط الدبلوماسي.

يأتي هذا الصدام المستمر في ظل موقف أميركي متردد، ودعم أوروبي متفاوت، ورغبة الإدارة السورية الجديدة في إيجاد حل شامل يُجنّب البلاد حالة الانقسام والصدامات الكبرى، مع تركيزها على المسار التفاوضي كخيار أولي، من دون استبعاد الخيارات العسكرية إذا اقتضت الضرورة.

نستعرض في هذه الورقة تعقيدات الواقع العسكري، ومواقف الأطراف الفاعلة، وأبرز السيناريوهات المتوقعة.

    الواقع العسكري الحالي:

يشهد الشمال السوري في الفترة الأخيرة التي تلت سقوط نظام الأسد وضعًا عسكريًا متغيرًا، حيث تمكنت المعارضة السورية من تحقيق مكاسب عسكرية على حساب قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، أبرزها السيطرة على منطقتي تل رفعت ومنبج، في المقابل، لا تزال (قسد) تحتفظ بسيطرتها على حيي الأشرفية والشيخ مقصود في مدينة حلب، ومنطقتي دير حافر ومسكنة، إلى جانب مناطق محيطة بسدّ تشرين ومنطقة عين العرب (كوباني) في محافظة حلب.

خلال العمليات العسكرية، أظهرت (قسد) قدرة على المناورة، حيث أوحت بالانسحاب من منطقة تل رفعت نحو شرق الفرات بناءً على اتفاقات مسبقة، لكنها سرعان ما أخلّت بالتزاماتها، وعملت على إعادة التمركز في مناطق أخرى، مثل دير حافر ومسكنة، معلنة ضم هذه المناطق لإدارتها الذاتية، وكانت قوات المعارضة قد أطلقت عملية “فجر الحرية”، بدعمٍ تركي، للضغط على (قسد)، لكنها افتقرت إلى التنظيم، وأدّى ذلك إلى خسائر في صفوفها. وعلى الرغم من ذلك، نجحت المعارضة في تحقيق تقدّم جزئي على بعض المحاور.

ولم تتدخل القوات التركية، رغم تهديداتها المستمرة بشنّ عملية عسكرية واسعة بشكل مباشر حتى الآن، مكتفية بتقديم الدعم العسكري واللوجستي للمعارضة، مع التركيز على الضغط الدبلوماسي، لإجبار (قسد) على الانسحاب من المناطق الحدودية، وعلى الجانب الآخر، تستمر (قسد) في تعزيز مواقعها العسكرية وتكثيف وجودها في مناطق استراتيجية، مع تصعيد سياسي وإعلامي ضد تركيا والمعارضة، وتمارس (قسد) انتهاكات كبيرة، وعمليات قتل عشوائي للمدنيين، وحملات اعتقال، لفرض سلطتها بالقوة العسكرية على الأهالي في تلك المناطق.

بالمجمل، يتميز الواقع العسكري الحالي بالتوتر والاستعداد لأيّ تصعيد محتمل، حيث تراوح المواجهات بين هجمات متفرقة ومحاولات مستمرة من الأطراف لتعزيز مكاسبها أو الدفاع عن مواقعها، في ظل غياب أي تسوية سياسية واضحة حتى الآن.

وكان هناك حديثٌ بالأمس عن عقد اتفاق بين (قسد) والسلطة السورية الجديدة بقيادة الشرع، لكن دون تأكيد من أي طرف، وقيل إن الاتفاق جرى في قاعدة الضمير العسكرية، ونصّ على نشر قوات وزارة الدفاع في المناطق التي كان ينتشر فيها النظام السوري في مناطق شرق الفرات، وتسليم المعابر الحدودية مع تركيا لحكومة دمشق، وتسليم ملف النفط لحكومة دمشق، وتخصيص جزءٍ من عائداته لمناطق شرق الفرات، ودمج قوات (قسد) ضمن الجيش الجديد، مع استبعاد العناصر الأجنبية (على الرغم من أن السلطة الجديدة قد دمجت عناصر أجنبية قيادية في الجيش السوري المزمع تشكيله)، وإشراك (قسد) و (مسد) في مؤتمر الحوار الوطني المرتقب، لكن الاتفاق من حيث البنود سيؤدي إلى نهاية (قسد)، في حال صحته، لذلك من غير المتوقع أن تكون (قسد) قد وافقت على شروط كهذه، إلا إذا كانت أميركا ستنسحب قريبًا من المنطقة.

    موقف (قسد):

تعمل (قسد) على تثبيت مكاسبها العسكرية والسياسية، حيث تركّز على تعزيز مواقعها الاستراتيجية في مناطق مثل دير حافر، مسكنة، والمناطق المحيطة بسد تشرين، بالإضافة إلى منطقة عين العرب (كوباني)، وتحصن مواقعها عبر تفجير الجسور، وزرع الألغام على خطوط التماس مع المعارضة، وتستقدم تعزيزات عسكرية.

وتستفيد (قسد) من دعم الولايات المتحدة وفرنسا، حيث تقدّم نفسها كحليف رئيسي في محاربة الإرهاب وتنظيم “داعش”، مما يمنحها غطاءً سياسيًا وعسكريًا لتعزيز وجودها، إلى جانب ذلك، تروّج (قسد) لمشروعها السياسي كإدارة ذاتية، وتسعى للحصول على اعتراف رسمي بمكتسباتها ضمن أي تسوية سياسية مستقبلية، مع الإصرار على الاحتفاظ بقوّاتها المسلحة ككيان مستقلّ، تحت مظلة الدولة السورية. وتطرح مطالبَ تشمل الحصول على حصة من الموارد النفطية في المناطق التي تسيطر عليها، مما يثير حساسية كبيرة لدى القوى المحلية والإقليمية.

على الجانب الآخر، تتبنّى (قسد) موقفًا متشددًا تجاه التهديدات التركية، وتصف التحركات العسكرية التركية بأنها محاولة لإضعاف مشروعها، وإجراء تغييرات ديموغرافية في المناطق التي تسيطر عليها، وما زالت ترفض الانسحاب من المناطق الحدودية أو نزع سلاحها إلا ضمن تسوية شاملة تضمن مصالحها، وهدّدت مرارًا باستخدام ورقة مقاتلي تنظيم (داعش) المحتجزين لديها، كوسيلة ضغط على تركيا والمجتمع الدولي، حيث قال مظلوم عبدي: “لدينا معلومات تفيد بأنه تنظيم داعش يريد الهجوم على مدن سورية، خلال احتفالات رأس السنة الجديدة”[1]، وهذا يعني أن (قسد) ما زالت تتخذ تهديد “داعش” المحتمل ذريعةً لاستمرار وجودها، وما زالت تصريحات مسؤوليها غير واضحة، حيث إنهم تارةً يُبدون استعدادهم للتفاوض والدخول في تشكيل الدولة الجديدة مع إدارة دمشق، والتخلّي عن المقاتلين الأجانب لديهم[2]، وتارة يبدون جاهزيتهم للحرب مهما كان الثمن، ويتهمون تركيا بأنها تحاول التمدّد داخل الأراضي السورية[3].

في الوقت نفسه، تحاول (قسد) إظهار انفتاح على الحوار مع الإدارة السورية الجديدة، وهو الأمر الذي أكده مظلوم عبدي قائد قوات (قسد)، حيث أعلن استعداده تسليم النقاط الحدودية إلى السلطات الجديدة في دمشق[4]. وقد يبدو من التصريحات أن قوات (قسد) تمدّ يديها إلى سلطة دمشق الجديدة، لكن الواقع يشير إلى أن هذه التصريحات الإيجابية ما زالت لا تقترب من الواقع بالشكل الكافي، حيث تضع شروطًا معقدة، مثل الاعتراف بإدارتها الذاتية وضمان وضع خاص لها.

 وعلى الرغم من تصاعد التوترات، تسعى (قسد) إلى تعزيز موقفها عبر استغلال الخلافات بين القوى الدولية والإقليمية، حيث تراهن على استمرار الدعم الأميركي والأوروبي، مع تعزيز خطابها السياسي والإعلامي الذي يركز على اتهام تركيا والمعارضة بمحاولة فرض واقع ديموغرافي جديد، في ظل هذه المواقف المتناقضة، تحاول (قسد) الجمع بين الاستعداد لمواجهة أي تهديد عسكري والمناورة السياسية لتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب في المستقبل.

    موقف السلطة السورية الجديدة في دمشق:

تتبنى السلطة السورية الجديدة بقيادة أحمد الشرع موقفًا يقوم على السعي لإعادة توحيد الأراضي السورية تحت سيادة مركزية واحدة، مع رفض أي مشاريع انفصالية أو محاولات لتقسيم البلاد، وتؤكد الإدارة أن الحل السياسي هو الخيار الأمثل لتحقيق الاستقرار في سورية، مشددة على أهمية الحوار والتفاوض مع جميع الأطراف، ومنها قوات (قسد)، مع وضع شروط واضحة لضمان وحدة الدولة. من أبرز هذه الشروط دمج قوات (قسد) كأفراد ضمن الجيش السوري الموحد، والتخلي عن السلاح الثقيل، وضمان أن تكون جميع القوى العسكرية تحت قيادة مركزية للدولة السورية. وتعلن الإدارة انفتاحها على معالجة الملفات المتعلقة بحقوق الأكراد، باعتبارهم مكونًا أصيلًا من الشعب السوري، لكن في إطار دولة موحدة تضمن الحقوق السياسية والثقافية لجميع المكونات دون المساس بسيادة الدولة.

وتبدي الإدارة مرونة في فتح باب التفاوض، لكنها ترفض بشكل قاطع الاعتراف بالإدارة الذاتية لـ (قسد) أو منحها أي وضع خاص خارج إطار الدولة الموحدة، وتسعى الإدارة إلى استثمار الضغط التركي على (قسد) كوسيلة لدفعها نحو التنازل، معتبرة أن التنسيق مع تركيا حول هذا الملف يمكن أن يُسهم في حلّ القضية بطريقة تحافظ على السيادة السورية. وعلى الرغم من تبني الإدارة الخيار التفاوضي، فإنها لا تستبعد الخيار العسكري إذا فشلت المفاوضات في تحقيق أهدافها. كما تعمل الإدارة على تعزيز مكانتها الإقليمية والدولية من خلال تأكيد رفضها لتقسيم البلاد، وسعيها لإعادة بناء مؤسسات الدولة، وتحقيق الاستقرار بما يشجع المجتمع الدولي على دعم إعادة الإعمار ورفع العقوبات المفروضة على سورية.

ومن خلال التصريحات التي أدلى بها أحمد الشرع في الفترة الماضية، يمكن تلخيص موقفه من قوات (قسد) بأنه يحاول تجنّب الحل العسكري معهم، لكنه في الوقت نفسه يسعى لتجنيب سورية أن تكون مصدر تهديد لأمن دول الجوار ومنها تركيا، حيث قال إنه لن يسمح بأن تصير سورية منصة انطلاق لهجمات تنظيم “PKK”، ولن يسمح بتقسيم سورية، ولن يقبل بالفيدرالية كشكل من أشكال الحكم[5]، فالإدارة الجديدة تسعى إلى تحقيق التوازن في علاقاتها الإقليمية والدولية، حيث تبدي انفتاحًا على التعاون مع تركيا لمعالجة ملف (قسد)، خاصة في ظل التهديدات التركية بالتدخل العسكري، وتؤكد الإدارة ضرورة أن يتم حل ملف (قسد) ضمن الإطار السيادي السوري، بما يضمن إبعادها عن أي ارتباطات خارجية قد تهدد الأمن الإقليمي. في الوقت نفسه، تحاول الإدارة استثمار الضغوط التركية على (قسد) لدفع الأخيرة نحو تقديم تنازلات في المفاوضات. وتسعى أيضًا إلى كسب دعم المجتمع الدولي، من خلال تأكيد التزامها بوحدة الأراضي السورية، ودورها في مكافحة الإرهاب، وفتح الباب أمام إعادة الإعمار ورفع العقوبات الدولية المفروضة على البلاد.

وعلى الرغم من هذه المواقف السياسية المرنة، تبقي الإدارة على خيار العمل العسكري مطروحًا كأداة ضغط، إذا فشلت المفاوضات مع (قسد) في تحقيق النتائج المرجوة. ومع ذلك، تحرص الإدارة على تجنب التصعيد العسكري المباشر، مفضلة الاستفادة من التهديدات التركية والضغوط الدولية لدفع (قسد) إلى تقديم تنازلات، مع الحفاظ على علاقات متوازنة مع مختلف القوى الفاعلة في الملف السوري. وتشير التصريحات المتكررة للإدارة إلى رفضها القاطع لأي فيدرالية أو حكم ذاتي بعيد عن سلطة المركز، مؤكدةً أن أي حل سياسي يجب أن يتم وفق رؤية وطنية موحدة تعيد بناء مؤسسات الدولة وتعزز سيادتها.

خريطة

    الموقف التركي:

تعُدّ تركيا قوات (قسد) تهديدًا رئيسيًا لأمنها القومي، حيث ترى فيها امتدادًا لحزب العمال الكردستاني (PKK)، الذي تصنّفه منظمة إرهابية. ويرتكز الموقف التركي على ضرورة تحجيم نفوذ (قسد) ومنعها من تحقيق أي مشروع انفصالي قد يؤثر في استقرار المناطق الحدودية التركية.

وتدعو تركيا إلى انسحاب (قسد) من المناطق الحدودية، وتسليم السيطرة عليها للإدارة السورية الجديدة بقيادة أحمد الشرع، بما يضمن نزع سلاحها وتفكيكها كقوة عسكرية مستقلة، لكن تركيا، على الرغم من التهديدات المتكررة بشنّ عملية عسكرية واسعة، لم تتخذ خطوات عسكرية مباشرة وشاملة حتى الآن، مفضّلة استخدام التهديد كوسيلة ضغط لتحقيق أهدافها دبلوماسيًا، وتسعى أنقرة إلى تحقيق مكاسب استراتيجية عبر التنسيق مع الإدارة السورية الجديدة، وتشجيعها على حل ملف (قسد) بشكل نهائي، وتدعم تركيا خيار دمج قوات (قسد) ضمن الجيش السوري الموحّد، لكنها ترفض بشكل قاطع استمرار وجودها ككيان عسكري أو إداري مستقل.

كما تدعو تركيا إلى نقل إدارة معسكرات وسجون مقاتلي تنظيم “داعش”، التي تحتفظ بها (قسد)، إلى سلطة الدولة السورية[6]، وترى أن استمرار سيطرة (قسد) على هذه المعسكرات يمنحها ورقة ضغط دولية، وتعتبر إنهاء هذه السيطرة خطوة ضرورية لضمان عدم استغلالها مستقبلًا، وفي سياق آخر، وجّه وزير الخارجية التركي إنذارًا نهائيًا لتنظيم “YPG” عبر الولايات المتحدة الأميركية، وعبر الصحافة، تضمّن ضرورة مغادرة المقاتلين الأجانب الذين يعملون في صفوف التنظيم[7].

وتعتبر أنقرة أن حل ملف (قسد) شرط أساسي لضمان استقرار سورية ووحدتها، وصرّح الرئيس رجب طيب أردوغان، بضرورة القضاء على “التنظيمات الإرهابية وأذرعها”، في مستقبل سورية الجديدة[8]. وأكدت تركيا أنها لن تتردد في استخدام القوة العسكرية، إذا استمر التهديد الأمني على حدودها[9]، مشددة على أنها مستعدة للتعامل مع أي فراغ أمني في شمال سورية لحماية مصالحها الوطنية. وأكد وزير الخارجية التركي أن القضاء على “وحدات حماية الشعب” الكردية في سورية بات مسألة وقت[10]، وقال: إن “المهلة التي أعطيناها لهم (وحدات حماية الشعب) عبر الأميركيين واضحة”[11].

    الموقف الأميركي:

تنظر أميركا إلى قوات سوريا الديمقراطية (قسد) كشريك أساسي في الحرب على تنظيم “داعش”، وتعتبر أن دورها محوري في استقرار المناطق التي تضم سجونًا ومعسكرات لمقاتلي التنظيم وعائلاتهم. لهذا السبب، تستمر واشنطن في تقديم الدعم العسكري واللوجستي لـ (قسد)، معتمدةً عليها كحليف موثوق يُسهم في منع عودة نشاط التنظيم في سورية والعراق. ومع ذلك، تدرك الولايات المتحدة أن هذا الدعم يثير استياء حليفتها تركيا التي تعدّ (قسد) تهديدًا لأمنها القومي، بسبب ارتباطها بحزب العمال الكردستاني (PKK). وتسعى واشنطن إلى تحقيق توازن دقيق بين حماية مصالحها مع تركيا، والحفاظ على (قسد) كقوة قادرة على إدارة المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية في شمال شرق سورية.

تمارس الولايات المتحدة ضغوطًا على (قسد) لدفعها نحو تقديم تنازلات سياسية وعسكرية، مثل القبول بإعادة هيكلة قواتها، ودمجها ضمن الجيش السوري الموحد تحت قيادة الإدارة السورية الجديدة، وتخفيف التوترات مع تركيا، وضمان عدم تصعيد الموقف العسكري، ومع انتقال السلطة في الولايات المتحدة إلى الرئيس الجديد دونالد ترامب، هناك إشارات إلى احتمال إعادة تقييم الاستراتيجية الأميركية في سورية، تتضمّن هذه التغييرات المحتملة انسحابًا جزئيًا أو كلّيًا للقوات الأميركية، ما يضع (قسد) أمام خيارات صعبة، ويزيد من تعقيد المشهد السياسي والعسكري في المنطقة.

وقالت مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى باربرا ليف: إن واشنطن تعمل مع أنقرة و(قسد) من أجل “انتقال محكم فيما يتعلق بدور (قسد) في ذلك الجزء من البلاد”، لكن الرئيس المنتخب دونالد ترامب قد يأمر بسحبها عندما يتولّى منصبه في 20 كانون الثاني/ يناير، وقد قال في 16 كانون الأول/ ديسمبر 2024: “إن تركيا ستمتلك قدرة التحكم في مجريات الأحداث في سورية”[12]، لكنه لم يكشف عن خططه للقوات الأميركية المتمركزة هناك.

ويبدو أن إدارة (قسد) تحاول اللعب على مواقف الدول الفاعلة في الملف السوري، بغية الحصول على أكبر قدر من المكتسبات، وأعلنت وكالة (نورث برس) العاملة في مناطق (قسد) أن القوات الأميركية تجهز لبناء قاعدة في بلدة عين العرب، فيما نفت وزارة الدفاع الأميركية وجود خطط تقضي ببناء قاعدة أميركية هناك[13]، ما يشير إلى أن القوات الأميركية ليست بوارد التفكير في زيادة انتشارها في مناطق شرق الفرات، وهذا الأمر قد يسبب قلقلًا وجوديًا لقوات (قسد) مستقبلًا.

وستظل السياسة الأميركية تجاه (قسد) مرتبطة بتوازن المصالح مع تركيا، وهو ما يدفع واشنطن إلى محاولة التوصل إلى حلول سياسية، تقلل من التوترات وتضمن مصالح الأطراف كافة، ومن تلك الحلول دمج (قسد) ضمن التسوية السياسية السورية.

    الموقف الدولي:

تُعَدّ فرنسا من أبرز الدول الأوروبية التي تقدّم دعمًا واضحًا لـ (قسد)، حيث تعتبرها قوة فعالة في مواجهة الإرهاب وتثبيت الاستقرار في شمال شرق سورية. وقد عبّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن التزامه بعدم التخلي عن المقاتلين الأكراد المتحالفين مع الغرب[14]، داعيًا إلى النظر بجدية إلى الأوضاع في سورية بعد التغيرات السياسية الأخيرة.

 على الجانب الآخر، تدعو ألمانيا إلى نهج أكثر حذرًا، حيث تؤكد أهمية نزع سلاح (قسد) ودمجها ضمن قوات الأمن السورية الجديدة، ما يعكس رغبتها في دعم وحدة الأراضي السورية، وإنهاء أي مشاريع انفصالية[15]. وفي سياق المواقف الأوروبية، تبرز بلجيكا كطرف يدعم الإدارة السورية الجديدة بشكل غير مباشر، من خلال تأييدها لعودة مقاتلي “داعش” البلجيكيين من سجون (قسد) إلى بلادهم، وهو ما يمكن تفسيره كرغبة في تقليص أوراق القوة التي تحتفظ بها (قسد)[16].

في المجمل، تعكس المواقف الدولية تجاه (قسد) حالةً من التباين والصراع بين المصالح الاستراتيجية والسياسية. وبينما تدعم الولايات المتحدة وفرنسا (قسد) لأسباب أمنية وإقليمية، ترى دول أخرى مثل روسيا وألمانيا ضرورة إنهاء سيطرتها العسكرية ودمجها في إطار الدولة السورية. هذا التباين يعكس الطبيعة المعقدة للصراع في شمال سورية، حيث تسعى كل قوة دولية لتحقيق أهدافها الخاصة، مع تأثيرات مباشرة على مستقبل (قسد) ومصير التسوية السياسية في البلاد.

    السيناريوهات المتوقعة:

مع استمرار تعقيد المشهد العسكري والسياسي في شمال سورية، وغياب توافق إقليمي ودولي واضح، تتبلور عدة سيناريوهات محتملة لمستقبل الصراع مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، في ظل تدخلات القوى الدولية والإقليمية المتعددة.

السيناريو الأول: انسحاب أميركي واتفاق سياسي شامل

في حال قرّرت الولايات المتحدة الانسحاب من مناطق شرق الفرات، قد تجد قوّات (قسد) نفسها مضطرة إلى الدخول في مفاوضات مباشرة مع السلطة السورية الجديدة بقيادة أحمد الشرع، ويمكن أن يؤدي ذلك إلى اتفاق سياسي يتم بموجبه:

    سيطرة دمشق على كامل مناطق شرق الفرات، حتى المعابر الحدودية والمرافق الحيوية، مثل حقول النفط.

    إعادة هيكلة (قسد) ودمجها ضمن الجيش السوري الموحد، مع استبعاد المقاتلين الأجانب.

    منح المناطق ذات الأغلبية الكردية شكلًا محدودًا من الحكم الذاتي أو بعض المزايا، وأن يشمل ذلك الاعتراف بحقوقهم الثقافية والسياسية ضمن إطار الدولة السورية الموحدة.

    إشراك (قسد) في العملية السياسية الوطنية، مثل الحوار الوطني وصياغة الدستور الجديد، بما يضمن تمثيلًا للمكونات الكردية في الهيكل السياسي للدولة.

وعلى الرغم من أن هذا السيناريو قد يُسهم في تهدئة الأوضاع وتعزيز وحدة الأراضي السورية، فإنه قد يواجِه تحدّيات داخلية ضمن (قسد) بسبب التنازلات، إضافة إلى تداعيات انسحاب الدعم الأميركي الذي تعتمد عليه.

السيناريو الثاني: استمرار القوات الأميركية واستخدام (قسد) كورقة ضغط

إذا قررت الولايات المتحدة الإبقاء على وجودها العسكري في شرق الفرات، فإنها ستستمر في دعم قوات (قسد)، وفي استخدامها كأداة ضغط على السلطة السورية الجديدة، لتحقيق تغييرات جوهرية في سياساتها. ويتضمن هذا السيناريو:

    الضغط على الإدارة الجديدة لتعديل سياساتها، مثل اعتماد نموذج إداري أكثر شمولية يتجاوز سياسة “اللون الواحد”.

    إصلاح مؤسسات الجيش والأمن والشرطة، بما يضمن تمثيلًا أكبر للمكونات السورية كافة، ومنها الأكراد.

    الحد من السيطرة المركزية على النمط الإداري والاقتصادي، مع السماح بمزيد من الاستقلالية للمناطق.

    استمرار ملف العقوبات الدولية كورقة ضغط لتعزيز هذه المطالب.

    سعي الولايات المتحدة إلى ضمان عدم وقوع فراغ أمني قد تستفيد منه قوى أخرى.

هذا السيناريو قد يُسهم في إبقاء التوترات بين (قسد) والسلطة السورية الجديدة، مع تصاعد الضغوط الدولية على دمشق، ومن ثم سيطول أمد الأزمة ويُعوّق الاستقرار الشامل.

السيناريو الثالث: التصعيد الشامل

في حال فشل الجهود السياسية وتصاعد التوترات بين الأطراف، قد يتحوّل الوضع إلى تصعيد عسكري شامل في شمال شرق سورية. يتضمن هذا السيناريو:

    تنفيذ تركيا عملية عسكرية واسعة النطاق، بالتعاون مع المعارضة السورية للسيطرة على مناطق (قسد).

    تحرّك السلطة السورية الجديدة لاستعادة السيطرة بالقوّة على المناطق التي تسيطر عليها (قسد)، خاصة المناطق النفطية والمعابر الحدودية.

    دعم محدود من الولايات المتحدة وفرنسا لـ (قسد)، وازدياد شدة المواجهات.

    تفاقم الأزمة الإنسانية، بسبب العمليات العسكرية والنزوح الجماعي للسكان من مناطق الصراع.

ومع أن هذا السيناريو قد يؤدي إلى إنهاء وجود (قسد) ككيان مستقل، فإنه سيكبّد الأطراف جميعها خسائر وسيعقد الوضع الإقليمي، مع تصاعد الضغوط الدولية لوقف التصعيد والعودة إلى طاولة المفاوضات.

تعتمد السيناريوهات المتوقعة للصراع في شمال سورية على تفاعل عوامل عدّة، أبرزها الموقف الأميركي من دعم (قسد)، واستعداد تركيا لتنفيذ تهديداتها، وقدرة السلطة السورية الجديدة على استيعاب الأطراف المتصارعة، وفي ظلّ غياب توافق دولي أو إقليمي شامل، تبقى احتمالات التصعيد العسكري قائمة، ما قد يزيد من تعقيد الوضع في المنطقة، وبالمقابل، قد يؤدي ضغط المجتمع الدولي إلى دفع الأطراف نحو تسوية سياسية تهدف إلى تحقيق استقرار طويل الأمد، ولا سيما أن هناك شبه توافق دولي على ضرورة عدم السماح بتقسيم سورية، وعلى ضرورة بناء مؤسسات الدولة السورية، وهذا قد يكون سببًا مباشرًا في القضاء على تنظيم (قسد)، لكن ذلك يرتبط بقبول المجتمع الدولي عن الإدارة الجديدة في سورية، ومن الواضح أن هناك قبولًا لها، لكنه ما زال في طور القبول القلق أو المشروط.

[1] Syria general wants unity — but fears return of Islamic State, 24 December 2024, link: https://2u.pw/t0YMta2u

[2] Exclusive: Syrian Kurdish commander: non-Syrian Kurdish fighters to leave if total truce agreed with Turkey, 19 December 2024, link: https://2u.pw/NnFPKmEl

[3] “قسد” لسكاي نيوز عربية: مستعدون للانضمام إلى الجيش السوري، سكاي نيوز، 24 كانون الأول/ ديسمبر 2024، شوهد في 10 كانون الثاني/ يناير 2025، الرابط: https://2u.pw/Z8aFWLWw

[4] قائد «قسد»: سوريا يجب أن تبقى موحدة، صحيفة الشرق الأوسط، 27 كانون الأول/ ديسمبر 2024، شوهد في 10 كانون الثاني/ يناير 2025، الرابط: https://2u.pw/gGaBuMlB

[5] الشرع: لم أحرر سوريا وتنظيم انتخابات قد يستغرق 4 سنوات، العربية، 29 كانون الأول/ ديسمبر 2024، شوهد في 10 كانون الثاني/ يناير 2025، الرابط: https://2u.pw/5OeEIxYC

[6] تركيا: على الإدارة السورية الإشراف على معسكرات احتجاز عناصر «داعش»، صحيفة الشرق الأوسط، 2 كانون الثاني/ يناير 2025، شوهد في 10 كانون الثاني/ يناير 2025، الرابط: https://2u.pw/SAvoI83S

[7] فيدان: توجيه إنذار نهائي لتنظيم “واي بي جي” الإرهابي، وكالة الأناضول، 8 كانون الثاني/ يناير 2025، شوهد في 10 كانون الثاني/ يناير 2025، الرابط: https://2u.pw/5G269T9h

[8] الرئيس أردوغان يستقبل مسرور بارزاني، وكالة الأناضول، 7 كانون الثاني/ يناير 2025، شوهد في 10 كانون الثاني/ يناير 2025، الرابط: https://2u.pw/ssx9PERU

[9] تركيا: سنهاجم وحدات حماية الشعب الكردية إذا لم تلب مطالبنا، العربية، 8 كانون الثاني/ يناير 2025، شوهد في 10 كانون الثاني/ يناير 2025، الرابط: https://2u.pw/0ZqYxtm9

[10] تحذيرات تركية من سيناريوهات لتقسيم سوريا إلى 4 دويلات، صحيفة الشرق الأوسط، 7 كانون الثاني/ يناير 2025، شوهد في 10 كانون الثاني/ يناير 2025، الرابط: https://2u.pw/e7NZsn1F

[11] تركيا توجه “إنذارًا نهائيًا” لقسد وتضع شرطا “فوريًا” أمامها، الجزيرة نت، 8 كانون الثاني/ يناير 2025، شوهد في 10 كانون الثاني/ يناير 2025، الرابط: https://2u.pw/2yYi3HNP4

[12] ترامب: تركيا تتحكم بفصائل سوريا.. وبيدها مفتاح الأحداث، سكاي نيوز، 16 كانون الثاني/ يناير 2024، شوهد في 10 كانون الثاني/ يناير 2025/ الرابط: https://2u.pw/v0RZXhLV

[13] Deputy Pentagon Press Secretary Sabrina Singh Holds Press Briefing, 3 January 2025, link: https://2u.pw/dUD3YD7E

[14] Algérie, Ukraine, Mercosur : ce qu’il faut retenir du discours d’Emmanuel Macron devant les ambassadeurs, 6 January 2025, link: https://2u.pw/ZngCTYFO

[15] Germany says Kurdish militias in Syria must be disarmed, 20 December 2024, link: https://2u.pw/gtVkANGj

[16] Current Belgian government will not decide on repatriation of foreign fighters from Syria, 3 January 2025, link: https://2u.pw/VeehPk5A

مركز حرمون

——————————–

حكومة دمشق وبناء توازنات جديدة للمنطقة/ رانيا مصطفى

10 يناير 2025

شكّل سقوط نظام الأسد ضربةً قاصمةً لمحور المقاومة الذي بنته إيران في المنطقة، فلم تعد سورية منطقة نفوذٍ روسية بعد الآن؛ كما أن الابتعاد عن الدولتَين هو من أكثر شروط الساسة الغربيين على حكام دمشق الجدد أهميةً، إذ اشتُرِطَ استثناء “المعاملات مع أو نيابة عن كلّ من روسيا وإيران” ضمن قرار الخزانة الأميركية أخيراً بتخفيف بعض العقوبات عن القطاعات الأساسية. هذا يعني أنه سيكون لسورية دورٌ أساس ضمن ترتيباتٍ جديدة لمنطقة الشرق الأوسط، وهذا يُفسِّر الحراك الدبلوماسي المحموم، الدولي والإقليمي والعربي، الذي بدأ منذ اللحظات الأولى لسيطرة الحكام الجدد على دمشق، والذي يعني اعتراف تلك الأطراف بأحمد الشرع، ومن معه، حكّاماً فعليين لسورية.

قال الشرع في اللقاء معه في قناة العربية أن كتابة الدستور تحتاج سنتين أو ثلاثة، وإجراءَ انتخاباتٍ يحتاجُ إلى أربع سنوات، فيما كان هناك حديثٌ عن مؤتمر وطني لم يُحدَّد المدعوون إليه ولا توقيتُه، ولم تُصدِر القيادة الجديدة أيَّ قرارات بهذا الخصوص. هذا يعني أن هذه السلطات ستحكم في السنوات المقبلة من دون صفة شرعية، وربّما تقع عليها في هذه السنوات مهامّ صعبة ومنها نسجُ شبكة علاقات جديدة مع دول المنطقة تُحقّقُ المصالح المتشابكة لتلك الدول في سورية. لكن يمكن القول إن جميع الدول التي التقت بالقيادة الجديدة عبر زيارات دبلوماسية تراهنُ على قدرتها على تحقيق التوازنات.

خفَّفت الإدارة الأميركية العقوبات على الحكومة السورية في بعض القطاعات المتعلقّة بالطاقة والتربية والصحّة والمياه وغيرها، لتسهيل وصول المساعدات الإنسانية إلى سورية، ولستّة أشهر، في خطوة تدلّ على دعم هذه الحكومة، واختبار قدرتها على الإدارة الداخلية، خاصّة ما يتعلّق بتوفير الأمن وإعادة بناء مؤسّسات الدولة ومنها الجيش، وإنهاء الحالة الفصائلية، ومنع ظهور تنظيم “داعش” وتوحيد البلاد، وعدم حصول انتهاكات بحقّ الأقليات. وخارجياً مراعاة المصالح الأميركية في المنطقة، وعلى رأسها الابتعاد عن إيران وروسيا، وقد تحقَّق ذلك لخمسين سنة، حسب قول الشرع، وألا تُشكّل سورية خطراً على أمن دول الجوار، ويُقصَد هنا إسرائيل، وقد احتلت الأخيرة مواقع جديدة في الأراضي السورية، ودمّرت ما تبقّى من السلاح السوري بهجماتها الماضية في كامل الأراضي السورية، وليس في وسع الحكّام الجدد غير مطالبة الأمم المتحدة بإدانة تلك الاعتداءات.

راهنت السعودية، ودول عربية أخرى، في السابق، على إعادة تأهيل الأسد بإعادة مقعده إلى جامعة الدول العربية، وتبادل فتح السفارات معه، في مقابل أن يترك الحضن الإيراني، ويحارب تجارة الكبتاغون عبر الحدود الأردنية. فشل هذا الرهان لأن العلاقة بين نظام الأسد وطهران كانت عضوية، ولأن الفساد وجني أرباح الاتجار بالمخدرات كانا عنوان السنوات الأخيرة من حكمه؛ وقد بدا بسقوطه السريع أنه كان نظاماً من ورق. أرسل الشرع رسائل إيجابية تجاه السعودية، وكانت الأخيرة محطّةً لأوّل زيارة رسمية للوفد السوري الجديد، قبل أن يُكمل طريقه إلى قطر والإمارات والأردن؛ وتبدو كل هذه الدول مرحِّبة بالحكومة الجديدة. السعودية والإمارات والأردن غير راغبة بأن يسيطر الإخوان المسلمون على دمشق، ولا أن تكون سورية منطقة نفوذ لتركيا، وقد أشيع عن نية الأخيرة بناء قاعدتَين عسكريتَين وسط سورية، وهي كانت داعمةً عمليةَ ردع العدوان منذ انطلاقتها. كما أن دولة الاحتلال الإسرائيلي كانت قد حذَّرت من الوجود التركي في سورية ومن تمكين أنقرة من تحريك قوَّاتها العسكرية داخل سورية. وعلى ذلك، هناك توافق بين هذه الأطراف على تحجيم النفوذ التركي المتضخِّم في سورية.

كانت مشكلة اللاجئين السوريين في تركيا من القضايا الملحَّة في أجندة الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان، وبسببها، طلب من الأسد المصالحة، وكانت ستحصل لولا أن الأخير رفضها، وقد حُلَّت بسقوطه. أما تهديدات عناصر حزب العمّال الكردستاني الموجودين في سورية ضمن تنظيم قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، فهي المشكلة الأكبر التي بسببها تدعم تركيا فصائل سورية تسيطر على المناطق الحدودية، وتهدّد بدخول عين العرب (كوباني). يبدو أن حلَّ المسألة الأمنية التركية، وكذلك ضمّ مناطق شرق الفرات إلى الإدارة الجديدة في دمشق، ينتظر تسلّم دونالد ترامب مقاليد الحكم في الـ20 من الشهر الجاري (يناير/كانون الثاني)، بسبب تعقيدات المهمَّة، خاصّة ما يرتبط بمحاربة تنظيم داعش، ومصير عائلات مقاتليه في مخيَّمَي الهول وروج. توحيد الأراضي السورية سيعني أيضاً حلَّ الفصائل المدعومة من تركيا، وقد يتم التوافق مع الحكومة السورية على صيغة جديدة لاتفاق أضنة لعام 1998، وعلاقات تجارية جيدة بين البلدَين، وربّما استثمارات مستقبلية، ومنها إحياء مشروع ضخّ الغاز القطري عبر سورية إلى تركيا والاتحاد الأوروبي.

راهنت قطر على دعم الثورة السورية من البداية، ولم تقبل مصالحة نظام الأسد، وكسبت الرهان. وهي اليوم داعمٌ كبير للحكومة الجديدة، وتتطلّع إلى علاقات متينة، سياسية واقتصادية، مع سورية. أمّا الأوروبيون، فقد صمتوا عن مجازر نظام الأسد التي ترقى إلى وصفها بالهولوكست السوري، والتي تسببت بأزمة لجوء إلى أوروبا. يريد الأوروبيون الاستقرار في سورية، وعدم حصول موجات هجرة جديدة، وإعادة جزء من اللاجئين السوريين إليهم، لذلك يتوافدون إلى دمشق للقاء الحكومة الجديدة، في خطوة فيها اعتراف بها، مع فرض الشروط، وبأسلوب استعلائي بدا في زيارة وزيري خارجية ألمانيا وفرنسا.

هناك توافق بين معظم الدول المعنية بالشأن السوري على دعم الحكّام الجدد في توحيد الأراضي السورية وتحقيق الاستقرار فيها في السنوات المقبلة. وفي المقابل، تُحسِن الحكومة الجديدة بقيادة الشرع تقديم صورة مستقبلية لسورية جديدة لا تتدخّل في دول الجوار، ولا تصطفّ في أيّ محاور إقليمية. يبدو أن واشنطن والأوروبيون يُفضِّلون أن تظلَّ هذه الحكومة ضعيفة، وهم يملكون كل أوراق الضغط عليها، خاصَّة أن قادتَها ما زالوا يُصنَّفون إرهابيين، وإن اجتهدوا في تقديم صورة غير ذلك؛ وهم سيبررون أيّ اعتداءات إسرائيلية جديدة تستهدف إمكانية بناء حكومة دمشق القدرات العسكرية السورية.

———————–

الإدارة السورية الجديدة في شهرها الأول/ عمار ديوب

10 يناير 2025

مضى شهرٌ على تسلّم أحمد الشرع إدارة شؤون الدولة السورية. لم يعد قائداً لهيئة تحرير الشام ولإدارة العمليات العسكرية. أصبح العالم يتعامل معه قائداً لسورية، وبدأت الفعاليات والوفود الدبلوماسية والإعلامية بزيارته، والتعرّف إلى أفكاره وسياساته، وقد ارتدى البذلة وربطة العنق. داخلياً، بدأت قيادات الفصائل الأساسية زيارته، وجاءته وفود من درعا والسويداء، وهناك مشكلات كبرى مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) خاصّة. الآن بدأ تاريخ جديد يتجسّد في سورية، وانتهى إلى غير رجعة زمن النظام القديم، ولا إمكانية لعودته، فالقوة العسكرية والأمنية تفكّكت، وحاضنته الشعبية أعلنت تأييد النظام الجديد. وعودٌ كثيرةٌ يطلقها الشرع عن التحوّل إلى دولة المؤسّسات، وهذا خيار صائب، فقد انتهى زمن الفصائل وصار زمن الدولة والقوانين.

أهم ما حدث خلال هذا الشهر، هو الانضباط الكبير في المسألة الأمنية، وخلافاً للتوقّعات بشلالات من الدم حين تدخل الهيئة مناطق غالبيتها من العلويين، كانت الانتهاكات محدودةً، وتعزيز الثقة بالرجل الأوّل في سورية وبحكومته، يكون بتفعيل دور أجهزة الشرطة، وإبعاد الموتورين أو المجموعات الثأرية، الذين ينتمون لأحياء حمصية، أو من أريافها، كانت شهدت مجازر طائفية، واعتداءات للشبيحة في الأعوام الأولى للثورة، ولا سيّما في حمص، ويمكن تعميم الأمر على المدن السورية كلّها.

شاب الارتجال وسياسات متسرّعة بعض قرارات الوزراء، وخالفت كذلك أفكار الشرع ذاته، مثل محاولة وزير التربية تمرير التغيير في المناهج، بأسلمتها وفقاً لتأويل خاصّ به، وهذا ليس من حقّه وزيراً في حكومة تسيير الأعمال؛ فحقوق الحكومة هذه تتحدّد في تدبير شؤون الناس، ومن دون أيّ تغييرٍ كبيرٍ، كإقرار القوانين الجديدة أو التغيير في المناهج التعليمية وسواها. هناك أيضاً، قرارات اقتصادية يجب التراجع عنها، مثل تحرير الأسعار، لا سيّما أسعار الخبز والغاز المنزلي، والاستغناء عن أعداد كبيرة من الموظّفين من قطاعات الدولة ليس سليماً، سيّما أن النظام القديم كان قد أوقف التوظيف منذ عقود كثيرة، باستثناء قطاعات التعليم والجيش والأمن. المقصد أن الأمر يتطلّب كثيراً من التريّث ووضع خطّة على مستوى الدولة، وتُستثنَى من ذلك القيادات الكُبرى والفاسدة في الدولة.

برز دور إيجابي في إطار العلاقات الخارجية، التي يقودها الوزير أسعد الشيباني، فقد استقبَل مع الشرع وفوداً أجنبية وعربية وإقليمية عديدة، وزار دولاً بقصد إيضاح سياسات إداراته، التي تطوي تاريخها بسرعة مدهشة، من حركة سلفية إلى حركة منفتحة على الداخل السوري وعلى العالم، ولديها رغبة بتصفير المشكلات مع الدول العربية، وبعكس سياسات اللعب الإقليمي التي مورست في سورية منذ الاستقلال. هناك ضرورة لإنهاء أيّ مشكلات مع مصر ولبنان، والعراق كذلك، والإمارات أيضاً؛ وهو ما تجتهد حكومة الشرع لتحقيقها.

ما تأخّر به الشرع وحكومته هو الإعلان عن شكل النظام السياسي المأمول. لا يكفي الكلام عن دولة مؤسّسات وقوانين، هناك شكل واحد سعى إليه السوريون منذ 2011، وهو الديمقراطية. وكذلك، هناك هُويَّة الدولة التي يجب التقدّم بها نحو دولة تقوم على المواطنة وحقوق الإنسان، وعلاقات متساوية بين الأفراد، بغضّ النظر عن الدين والقومية والجنس والطبقة. إن الإعلان عن هذه المواضيع في بلدٍ متعدّد قومياً ودينياً ومذهبياً وسياسياً، سيعطي شعوراً هائلاً بالثقة في النظام الجديد، وسيغلق النوافذ والأبواب أمام التدخّل الخارجي، الذي يستغلّ هذه القضايا لوضع الشروط على النظام الجديد التي عبّرت عنها الوفود الأجنبية في دمشق. الشرع وحكومته في عين الإعلام العالمي، وعلى طاولات السياسة العالمية، ولهذا هم مدعوون للإسراع في الكلام حول القضيتَين المذكورتَين بصفة خاصّة.

وأبرز قضية في السياسة الداخلية في هذه اللحظة كيفية شرعنة النظام الجديد. تقتصر شرعيته الثورية على هيمنة هيئة تحرير الشام، وتحريرها الجزء الأكبر من البلاد، ولا تزال “قسد” مسيطرةً على أكثر من ربع سورية، وهناك قوىً مسلّحةٌ خارج السيطرة. إدارة الشرع الآن هي الممثلة لسورية، وكي تتشرعن لا بد لها من مؤسّسات شرعية. تبدأ هذه المؤسّسات من عقد مؤتمرٍ وطني للفعّاليات السورية كافّة، تتمثّل فيه أطياف الشعب السوري كلّها. إن مصدر الشرعية الدستورية يأتي من هذا الباب بالتحديد. ورغم أهمية هذا الموضوع، فالكلام عنه من خارج الإدارة الجديدة، سوى بعض كلمات من الشرع، فلا يزال الغموض سارياً تجاهه، وهو مؤشّر سلبي في الشهر الأول للحكومة، التي حدّدت أعمالها بثلاثة أشهر. هناك شهران مقبلان يُفترَض فيهما الإسراع في عقد لجنة استشارية أوّلية تتدارس كيفية عقد هذا المؤتمر. هناك بعض الأوراق والنصوص بدأت تتناول المؤتمر، وإن بشكل غير كثيف، ولكنّه أصبح حديث الساعة في سورية. إن تشكيل هذه اللجنة، ومن شخصيات وطنية وخبيرة بشؤون المدن السورية سيساعد في عقده بأسرع وقت.

سيكون المؤتمر، وبدءاً بإعلانه، بداية الشرعنة الدستورية، وبانطلاق أعماله، ستتثبت شرعية الشرع وحكومته كذلك، وكلما كان التمثيل واسعاً للشعب السوري، وفي مناطقه كلّها، ومن جميع فئاته، اقتربت الإدارة الجديدة أكثر فأكثر من هموم وقضايا ومشاغل السوريين. هذا طريق من أراد أن يواجه مشكلات سورية الضخمة والمتراكمة منذ ما قبل 2011، وتضاعفت بعدها. سيُناقش المؤتمر قضايا كثيرة، تشكيل هيئة للعدالة الانتقالية، وهُويَّة الدولة، وشكل النظام المقبل، وشكل الاقتصاد، وإصدار إعلان دستوري للمرحلة الراهنة، وتحديد شخصيات للحكومة الانتقالية أو التكنوقراط، وموضوع كتابة الدستور، وكيفية إجراء الانتخابات القادمة، وتشكيل مجلس عسكري جديد، وسواه كثير.

لم نشهد في الشهر المنصرم اعتقالات تذكر، وتنفّس السوريون الحرّيات العامّة؛ فعقدوا اللقاءات ونشروا البيانات المدنية والسياسية والأهلية، وكَتبت الصحافة انتقادات للإدارة الجديدة. إن الابتعاد عن القمع السياسي هو حلم للسوريين منذ عقود، وهذا يُسجَّل لصالح الإدارة الجديدة. الآن هناك رفع جزئي للعقوبات الأميركية، ومُحدّد بستّة أشهر، وهناك دعم تركي وقطري وسعودي مهمّ، ولكن سورية غارقة في الأزمات، جاءت السطور أعلاه على بعض أوجهها. يتطلب هذا الانفتاح الإيجابي على الإدارة منها وضع خطط وطنية لكيفية إدارة المرحلة الحالية، والاستفادة القصوى من أشكال الدعم هذا، بقصد الحدّ من الأزمات المباشرة في الكهرباء والطاقة، وخفض أسعار الخبز والغاز المنزلي والوقود بعامّة، ودعم الفلاحين وأجور المعلّمين بشكل خاص. إن أزمات سورية كبيرة وفي مختلف القطاعات، وتتطلّب خبرات واسعة لوضع الخطط الوطنية، خبرات سورية أولاً، وإعطاءها الحرّية الكاملة في صياغة الخطط، والاهتداء بها في تسيير شؤون الحكومة الحالية ومؤسّسات الدولة، وإن كلّ تأخير بتشكيل هذه اللجان سيعطي إشارات سلبية للداخل والخارج، والعكس صحيح. هو شهر نعم، ولكنّه حلم انتظرناه منذ 2011.

————————

في ضرورة تطور الإدارة السورية الجديدة فقهياً وفكرياً/ أسامة أبو ارشيد

10 يناير 2025

لنضع جانباً الاستعلاء والصلف الغربي الإمبرياليّ (ليس الغرب كلّه إمبرياليٌّ دائماً) في التعامل مع الإدارة السورية الجديدة، ومساعي ابتزازها، وفرض تصورات تتعلّق بالمستقبل عليها عبر توظيف العقوبات القائمة على سورية منذ عهد النظام المخلوع والتلويح بمزيد منها، فذلك ثابت لا يجادل فيه إلا منحاز. ويكفي أن نذكّر هنا بالصمت الغربي الإمبرياليّ المُطبِق، بل إن بعضه لم يتردّد في التبرير (كما الولايات المتحدة) للاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة على سورية، وتهديد وحدة وسلامة أراضيها. تبرز هنا مسألتان، الأولى أن بعض المطالب الغربية الإمبريالية، إذا ما أُخذت مُجرَّدةً من دون النظر في دوافعها غير البريئة، محقّة ولا خلاف عليها، لناحية قيام نظام حكم تمثيلي تشاركي أساسه المواطنة، يحترم حقوق الأقلّيات ومكوّنات المجتمع من اتجاهات فكرية وثقافية متعدّدة المشارب. لكنّنا نعلم أن هذا المطلب الغربي الإمبرياليّ ابتزازيّ هنا، إذ إن الغرب الإمبرياليّ نفسه شرذم العراق من قبل، على أساس عرقي ومذهبي بذريعة الديمقراطية، وهو ذاته الغرب الإمبرياليِّ الذي هندس ودعم نظام المحاصصة الطائفية في لبنان. ومن ثمَّ، فإن ما يريده الغرب الإمبرياليّ، وبعض حلفائه العرب، هو تفسيخ سورية وإيهانها، لا الحفاظ على وحدتها وتأمين نظام حكم ديمقراطي فيها. الثانية (وهي ما يهمّنا هنا)، تتعلّق بضرورة أن تتواءم الإدارة السورية الجديدة مع متطلّبات المرحلة الراهنة، وأن تتطور فقهياً، على أساس أن مرجعيتها إسلامية، وفكرياً، خاصّة أنها تطوّرت بشكل واضح إدارياً وسياسياً.

زار وزيرا الخارجية الألماني والفرنسي الأسبوع الماضي سورية، والتقيا مسؤول الإدارة الجديدة أحمد الشرع في دمشق. وبعيداً من السلوك النزق والاستعلائي للمسؤولَين الأوروبيَّين وتجاوزهما الأعراف الديبلوماسية ولجوئهما إلى نبرة الإملاءات والوعيد المبطّن خلال تلك الزيارة، فإن ما ركّز عليه الإعلام، وثار حوله كثير من النقاش، كان امتناع مسؤولي الإدارة الجديدة، وفي رأسهم الشرع نفسه، عن مصافحة وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك. شخصياً، أتفهّم من يقول إن احترام القناعات ينبغي أن ينسحب على الجميع، لا أن يكون انتقائياً. ومعلوم أن بيربوك هذه “نسوية” و”تقدّمية” انتقائية، فهي تزعم أنها مع حقوق المرأة وحكم القانون في ألمانيا وأوكرانيا، ولكنّها مع إسرائيل في جرائم الحرب وحرب الإبادة التي ترتكبها في قطاع غزّة، بما في ذلك ضدّ النساء والأطفال. لكن، إذا كان مؤيّدو الإدارة الجديدة في سورية يُشهِرون مسوّغ الواقعية في وجه من ينتقد عدم ردّها على الاعتداءات الإسرائيلية منذ سقوط نظام الأسد، وتوغّلها في الأراضي السورية، فربّما عليهم إعادة النظر في نطاق الواقعية المطلوبة هنا. الحكم في دمشق ليس مؤسّسةً دينيةً كالفاتيكان أو الأزهر، إذ إن له متطلّبات أخرى، وسورية تبحر اليوم في خضمّ بحر متلاطم من المؤامرات الدولية والإقليمية والداخلية عليها وعلى وحدتها. ولولا إدراك الشرع ومسؤولي هيئة تحرير الشام، التي تقود المرحلة الجديدة في سورية، للعقبات والتحدّيات التي تواجههم وتواجه البلاد، لما كانوا أبانوا عن هذا الحجم من المرونة التي نراها منهم إلى الآن، بما في ذلك استقبال الوفود الأميركية والأوروبية في دمشق، رغم أن دولهم ما زالت تصنّفهم كياناً إرهابياً، ومتحمّلين صلفهم ووقاحتهم في التعامل معهم.

هذه المواءمات، وهذه المرونة، وهذه الواقعية، لا تعيب الشرع ولا هيئة تحرير الشام، بل هي الأمر السليم للحفاظ على استقرار المسار الانتقالي في سورية وضمان نجاحه. ومن ثمَّ، فإن الانغماس في فرعيات مثل قضية مصافحة النساء أمر لا فائدة ترجى منه، بقدر ما أنه يتحوّل أداةَ ابتزاز وتشتيت لأولويات المرحلة الانتقالية في سورية، التي تتطلّب تقليل الأعداء، أو على الأقلّ تجنّب شرّهم ما أمكن، وتعظيم المنجزات.

مرّة أخرى، هذا ما يفعله الآن، إلى حد كبير، الشرع وهيئة تحرير الشام سياسياً وإدارياً منذ إسقاط نظام الأسد الشهر الماضي (ديسمبر/ كانون الأول 2024). تاريخ هيئة تحرير الشام معروف بجذورها السلفية الجهادية الضاربة في أعماق تنظيمَي القاعدة والدولة الإسلامية (داعش). وهي عندما تمرّدت على “داعش” تحوّلت إلى “القاعدة” باسم “جبهة النصرة”، ثمّ عندما انفكّت من القاعدة تحوّلت لهيئة تحرير الشام. وفترة حكمها في إدلب منذ عام 2017 صقلت تجاربها، وطوّرت فكرها وممارساتها، بعد أخطاء وقعت فيها، ونرى أثري هذا الصقل وهذا التطوّر في إدارتها الجديدة في سورية. لكن، واضح أن ثمَّة حاجة إلى مزيد من التأهيل، ليس سياسياً وإدارياً فحسب (مع أنهما لم يكتملا هما الآخران)، وإنما فقهياً وفكرياً كذلك.

كاتب السطور ليس متخصّصاً في المجال الفقهي، لكنّه (كغيره) اطلع على كثير من التقعيد والتأصيل الفقهي في مسألة مصافحة المرأة والآراء المتعدّدة فيه، والتي تراوح ما بين الحلّية والكراهة والحرمة. هذا فضاء واسع في الفقه الإسلامي المُعتبَر، ومن ثمَّ يغدو من غير المنطقي ولا العقلاني ولا العملي الانزواء في تفسيرات ضيّقةٍ لا تأخذ الواقع وإكراهاته في اعتبارها. لكن (للأسف!)، فإن كثيراً من الأيديولوجيين، ومنهم الإسلاميون قطعاً، يبنون قلاعاً ليكتشفوا بعد أن ينتهوا منها أنهم محاصرون داخل حصونها وأسوارها، ولا يملكون مفاتيح أبوابها. حينها، يجد هؤلاء أنفسهم أسارى خيارَين صعبَين، إمّا أن يتسلّقوا الأسوار ويلقوا بأنفسهم إلى مصير مجهول، وإمّا أن يهدموا الحصون والأسوار، وبالتالي يكون جهدهم ضاع هدراً، هذا غير شماتة الخصوم بهم، وانصدام قواعدهم. أمر آخر من الضروري ملاحظته هنا، ألا وهو أن قابلية كثير من الإسلاميين للتطوّر (وربما الانحراف) سياسياً أسرع من تطورهم الفكري والفقهي، بل إن الثاني يكاد يكون (غالباً) نتيجةً مترتّبةً على الأول. في العراق شارك الحزب الإسلامي (الإخوان المسلمون) في “مجلس الحكم” الذي شكّله الاحتلال الأميركي بعد إطاحة نظام صدّام حسين عام 2003. وفي الضفة الغربية وقطاع غزّة شاركت حركة حماس في الانتخابات التشريعية عام 2006، وفازت فيها، وشكّلت الحكومة الفلسطينية بعد ذلك، رغم أنها نتيجة مترتبة على اتفاقية أوسلو التي ترفضها. وقس على ذلك تجارب كثيرة عربيّاً، في مصر والسودان والأردن والمغرب وتونس واليمن. ربّما باستثناء السودان وتونس والمغرب، فإن التطوّر الفكري الأوسع، بغضّ النظر عن عمقه ومداه، جاء بعد خوض غمار السياسة والارتطام بإكراهاتها لا قبل ذلك.

واضح أن هيئة تحرير الشام، والشرع تحديداً، قد قطعت شوطاً جيّداً في التطوّر والتواؤم مع متطلّبات المرحلة، لكن تهذيب اللحية ولبس البدلة واستخدام اللغتين السياسية والديبلوماسية أمور لن تكون كافيةً لإعانتهم على الإبحار في الأجواء العاصفة التي تمرّ فيها سورية اليوم. ولذلك، فإنّ المصالح العليا تتطلّب تطوّراً أعمق وأوسع، وهذا لا يعني أبداً الخروج من الفضاء الإسلامي وتمرّداً عليه، بل تطوّر في داخله، إن استوعبت درجة رحابته ومرونته. المتربّصون بسورية كثر وهم يملكون أدواتٍ مؤثّرة قادرة على حرف مسار السفينة، إن لم يكن إغراقها، والمسؤولون في الإدارة الجديدة مدركون ذلك تماماً، كما توحي كثير من سياساتهم وأفعالهم، ومن ثمَّ لن يضيرهم أن ينزعوا بعض أدوات ابتزاز فعّالة ومؤثّرة بيد الخصوم المتربّصين، ومرّة أخرى ضمن الفضاء الإسلامي الذي يؤمنون به ويلتزمون به.

تبقى كلمة، مسألة المساواة في المواطنة واحترام تعدّد المجتمع السوري، دينياً ومذهبياً وعرقياً وفكرياً وسياسياً، أمور لا ينبغي أن تخضع للمساومة ضمن عقد اجتماعي يحترم ثقافة المجتمع السوري وتاريخه وقيمه وتقاليده وأعرافه. هذا لا ينبغي أن يكون استجابةً لضغوط وابتزاز من قبل أفّاقين، بل من قناعة راسخة لدى الجميع.

العربي الجديد

———————

ضرب الاستقرار الأمني: الوجه الجديد للتدخل الإيراني في سوريا/ هاني عضاضة

09.01.2025

عدد من دول العالم والمنطقة لم يحسم موقفه بعد بخصوص الإدارة المؤقتة في سوريا. لكن هذا التردد والترقب، الذي يأتي في إطار إعادة خلط الأوراق على أساس المتغيرات في الواقع، كما تفعل بعض دول الخليج وروسيا مثلاً، يقابله تخبط واضح في الموقف الإيراني…

منذ اليوم الأول لعملية “ردع العدوان” والعمليات اللاحقة التي تبعتها ضد نظام الأسد، بدأت المجموعات الإعلامية المرتبطة بإيران الترويج بكثافة لوجود مخطط إسرائيلي يدعم قوى المعارضة السورية، من دون أي تمييز بينها، ونشر مقاطع فيديو مفبركة أو مضللة وأخبار كاذبة على مواقع التواصل الاجتماعي، هدفها خلق الفوضى والارتباك، والتأثير على الرأي العام بين الأقليات الطائفية والإثنية في المجتمع السوري.

أما على أرض الواقع، فقد بلغت تدخلات إيران في سوريا مرحلة خطيرة، إذ تنذر بإحداث تفكيك جديد في النسيج الاجتماعي وإعادة تشكيله وفقاً لمصالحها، مستغلة مخاوف الأقليات وعدد من التجاوزات التي تحصل بحقها، ومحاولة خلق مساحة جديدة لها على حسابها، وبالتحديد الطائفة العلوية في مناطق الساحل السوري. هذا التدخل يذكّر بالمسار الذي فرضته إيران في العراق حين تم قوننة الطائفية، بعد تمكّنها من دخول العراق من الباب الأميركي. لكنها اليوم تحاول الدخول مجدداً إلى سوريا من باب الصراع الأهلي، الذي إن لم يكن موجوداً من تلقاء نفسه، فإن إيران تسعى إلى إيجاده. ذلك على عكس ما تقوم به روسيا التي تكيفت مع المتغيرات السياسية، وفتحت باب الحوار مع الحكومة المؤقتة للحفاظ على مصالحها الاستراتيجية، برغم العداء الذي راكمته تجاه الشعب السوري منذ عام 2015.

تصريحات إيرانية متناقضة

عدد من دول العالم والمنطقة لم يحسم موقفه بعد بخصوص الإدارة المؤقتة في سوريا. لكن هذا التردد والترقب، الذي يأتي في إطار إعادة خلط الأوراق على أساس المتغيرات في الواقع، كما تفعل بعض دول الخليج وروسيا مثلاً، يقابله تخبط واضح في الموقف الإيراني، يتراوح بين ردود أفعال ناتجة عن نكران صدمة فقدان السيطرة على الأرض، بعضها يتسم بإيجابية خجولة، وموقف عدائي من السلطة الأعلى في طهران، يُعلن صراحة نية إيران الاستثمار في زعزعة الاستقرار في مرحلة حساسة جداً من تاريخ سوريا، وذلك برغم توجه قائد الإدارة المؤقتة أحمد الشرع مراراً وتكراراً إلى إيران، برسائل دبلوماسية من أجل استعادة العلاقات الرسمية بين البلدين على أسس سليمة.

على الرغم من كلام المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية إسماعيل بقائي، الذي أكد أن “جميع من في المنطقة يؤمنون بصون سيادة سوريا ووحدة أراضيها، وتحديد شعبها مصيره من دون تدخل أجنبي”، وتعبيره عن أمل إيران في أن “يتمكن الشعب السوري من اختيار نظامه السياسي”، وأنه “ليس لدى إيران أطماع في المنطقة”، لكن الواقع مختلف بشكل كبير، حيث لم تتوقف التصريحات الإيرانية التحريضية من جهة، ولا محاولات التدخل العلنية في السياسة السورية الداخلية على لسان المسؤولين الإيرانيين من جهة أخرى.

ففي لقاء أقامه المرشد الأعلى للثورة الإسلامية آية الله علي الخامنئي منذ أسبوعين، قال: “تمكنت مجموعة مثيرة للقلق بمساعدة الحكومات الأجنبية وتخطيطها، من استغلال الضعف الداخلي في سوريا وجر هذا البلد إلى الفوضى”، وأضاف: “نتوقع ظهور مجموعة قوية ومشرفة في سوريا أيضاً، لأن الشباب السوري اليوم ليس لديه ما يخسره، ومدرسته وجامعته ومنزله وشارعه غير آمن، لذلك يجب أن يقفوا بقوة الإرادة في وجه مخططي الانفلات الأمني ومنفذيه ​​ويتغلبوا عليه”.

استمر الخامنئي في التصعيد في خطاباته، التي تتالت بوتيرة مستغربة، حيث لمّح في كلمته الأخيرة بمناسبة الذكرى الخامسة لاغتيال اللواء قاسم سليماني، التي ألقاها منذ أيام قليلة، إلى أن الوجود الإيراني في سوريا كان عاملاً للاستقرار، إذ قال حرفياً: “من الأخطاء الكبيرة في بعض البلدان أنهم يُخرجون عوامل الاستقرار والقوة من الساحة. مجموعة الشباب المؤمنين الذين هم مستعدون للتضحية بأرواحهم، هؤلاء هم أهم عوامل قوة الأمة؛ لا ينبغي إخراجهم من الساحة”، وأكمل: “يُخرجون عوامل الاستقرار وعوامل القوة، فيصبح الوضع مثل سوريا، يصبح فوضى”. لم يتوقف الخامنئي عند هذا الحد، بل عبّر عن نية واضحة في التدخل بشكل مباشر في الشأن الأمني السوري، قائلاً: “بالطبع، هؤلاء لا يمكنهم البقاء. سوريا ستعود إلى الشعب السوري. الذين اعتدوا على أرض الشعب السوري، في يوم من الأيام سيضطرون للرجوع أمام قوة الشباب الغيورين السوريين؛ بلا شك، سيحدث هذا”، معتبراً أن السلطة الجديدة في سوريا تابعة للولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل.

في الوقت الذي شدّد فيه وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي في تصريح صحافي، قبل يوم واحد من اندلاع التظاهرات العلوية في عدد من المدن السورية، يوم الأربعاء في 25 كانون الأول/ ديسمبر 2024، وفي تقاطع واضح مع المرشد الأعلى، على أنه “من السابق لأوانه الحكم على مستقبل سوريا، سواء بالنسبة إلينا أو بالنسبة إلى الآخرين الذين يعتقدون أنه كانت هناك انتصارات على أي حال”، وأنه “سيكون هناك تطورات كثيرة في المستقبل”، ثم عاد فقال في 30 كانون الأول/ ديسمبر 2024 في مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره العُماني إن “الجمهورية الإسلامية تؤكد عدم التدخل في شؤون سوريا الداخلية”، ما يتناقض بشكل كبير مع تصريحاته السابقة.

ومن الملاحظ أن السفارة السورية في طهران لم ترفع العلم السوري الجديد، بينما لا تزال السفارة الإيرانية في دمشق مغلقة منذ اقتحامها وتخريبها من قبل محتجين سوريين في اليوم الأول لسقوط نظام الأسد.

تبعت التصريحات الإيرانية تظاهرات اتخذت بعداً طائفياً، تنديداً بحرق مقام السيد أبي عبد الله الحسين بن حمدان الخصيبي المعروف باسم الشيخ يبرق، وذلك بعد انتشار مقطع فيديو يدّعي أن مسلحين قاموا بإحراق المقام وتخريبه والتنكيل بجثث خمسة من خدّامه، وقاد جزء أساسي من التظاهرات شيوخ معممون وصل الأمر ببعضهم إلى التهديد بإثارة أعمال عنف.

لكن سرعان ما تبيّن أن مقطع الفيديو الذي انتشر لحرق المقام، قديم، و”أقدمت عليه مجموعات مجهولة خلال فترة تحرير مدينة حلب”، كما جاء في بيان وزارة الداخلية في الحكومة السورية المؤقتة، أنه “لم ُتسجل حوادث مشابهة منذ التحرير”، كما أتى في تصريح صحافي لوزير الإعلام في الحكومة المؤقتة محمد العمر. كذلك تبيّن أن أحد الداعين الأساسيين إلى “الاستنفار” هو الشيخ لقمان بدر غرة، وهو أحد أتباع جميل الأسد بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، وكان الشيخ قد سارع إلى مباركة انتصار الثورة و”الفتح المبين” بعد سقوط نظام الأسد، قبل أن يظهر في مقطع فيديو يحرّض فيه المتظاهرين ويدعو إلى “قطع رأس أي شخصٍ يستفزنا”.

ونشرت منصة “تأكَّد” تقريراً يوضح ملابسات حادثة المقام بعد إرسالها فريقاً إلى الموقع، مؤكدة أن المقطع المنشور صحيح، لكنه أتى في سياقٍ مضلل، حيث قال عناصر حماية المقام إن “التسجيل المتداول يعود إلى فترة المعارك التي جرت بين الثوار المشاركين في عملية “ردع العدوان” وقوات النظام السوري أواخر شهر تشرين الثاني الماضي”، وأوضحوا أن “القتلى الذين ظهروا في التسجيل يتبعون لقوات النظام، التي كانت تشتبك مع الثوار من داخل المقام”، وأشاروا إلى أن “تلك الجثث سُلمت لمنظمة الدفاع المدني (الخوذ البيضاء) ليتم تسليمها إلى ذويها أو دفنها وفق الأصول”.

كما أُرفق بالتقرير بيان توضيحي صادر عن شيوخ المقام، أكد أن “الفيديو لا يعود إلى اليوم، بل إلى فترة دخول قوات المعارضة إلى المدينة، وأن الحادثة لم تكن معروفة لديهم إلا بعد التواصل مع جيران المقام اليوم”، وعلى الرغم من تبيان حقيقة الموضوع، لكن المجموعات الإعلامية وصفحات مواقع التواصل الاجتماعي المحرِّضة، استمرت بصب المزيد من الزيت على النار، لتتأكد النوايا الفتنوية.

كمائن مسلحة، جرائم متنقلة، وإطلاق نار على تظاهرات

ترافقت التصريحات الإيرانية التحريضية، وحملة التضليل الإعلامي، والتظاهرات ذات الطابع الطائفي، مع كمين مسلح نصبه “فلول الأسد” في ريف طرطوس، قُتِل فيه 14 عنصراً من الأمن العام التابع لـ “إدارة العمليات العسكرية”، وأصيب 10 آخرون بجروح، خلال تنفيذهم مهمة إلقاء القبض على أحد ضباط النظام السابق المطلوبين بجرائم ضد الإنسانية. وبحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان فإن المطلوب هو “الضابط محمد كنجو حسن الذي شغل منصب مدير إدارة القضاء العسكري ورئيس المحكمة الميدانية وأحد المسؤولين عن جرائم سجن صيدنايا”. نصب الكمائن المسلحة استمر طوال فترة الحملات الأمنية لملاحقة فلول الأسد الذين رفضوا تسوية أوضاعهم، وكان آخرها في 6 كانون الثاني/ يناير 2025 في حي العوينة في مدينة اللاذقية، حيث سقط قتلى من مسلحي “إدارة العمليات العسكرية” من بينهم قيادي.

وفي مدينة حمص، قُتِل متظاهر يوم الأربعاء في 25 كانون الأول/ ديسمبر 2024، وأصيب خمسة آخرون، بعد أن أطلق عناصر الأمن العام التابع لـ “إدارة العمليات العسكرية” النار على المتظاهرين المندّدين بحرق مقام الخصيبي لتفريقهم، بأسلوبٍ يعيد إلى الأذهان مشاهد إطلاق النار على المتظاهرين السلميين عام 2011 من قبل عناصر أمن وجيش نظام الأسد، إضافة إلى فرض حظر للتجول ليلاً، في مؤشر سلبي على إمكانية تجدد ديناميات الاستبداد التي أرساها نظام الأسد لأكثر من 50 عاماً.

وأشار المرصد إلى أن جرائم القتل في كل أنحاء سوريا منذ سقوط نظام الأسد في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024 حتى 6 كانون الثاني/ يناير 2025، بلغت 107 جرائم راح ضحيتها 184 شخصاً. معظم تلك الجرائم نُفذت من قبل “مسلحين مجهولين”، وبعضها من قبل مسلحين من “إدارة العمليات العسكرية”، ولم تُعرف دوافعها،  لكن تشوبها نزعة الانتقام.

محاولات خلق “الفوضى المنظمة”ونشر الخراب في جميع أنحاء سوريا بعد إسقاط نظام الأسد، بدأت يوم الخميس في 19 كانون الأول/ ديسمبر 2024 ولم تتوقف منذ ذلك الوقت، أي قبل أسبوع من بدء التظاهرات والأحداث التي تبعتها، وبعد أسبوعين من تهيئة الأرضية لإحداث الفوضى الأمنية عبر سيل من التحريض الطائفي والإشاعات. في ذلك اليوم وحده، نشب حريق ضخم في ملعب حلب الدولي الذي تطلب بناؤه أكثر من 25 عاماً، فيما لم تُعرف بعد أسبابه، وتعرضت مطرانية حماة للروم الأرثوذكس في مدينة حماة، ومزارات للطائفة العلوية في قرية الربيعة في ريف حماة، للاعتداءات بشكل متزامن، وتم إلقاء القبض على قسم من المعتدين بحسب العقيد ماهر مرعي قائد شرطة حماة، وحاول شاب من فلول الأسد أُلقي القبض عليه بعد ملاحقته انتحال صفة مقاتل في “هيئة تحرير الشام” في حي القصاع في العاصمة دمشق، لفرض منع تقديم الكحول في أحد البارات، وقامت مجموعات في طرطوس بأعمال سطو مسلح أُلقي القبض على إحداها من قبل “إدارة العمليات العسكرية”، وتعرض مقر أخوية مار يعقوب النصيبيني التابع للكنيسة السريانية الأرثوذكسية في مدينة القامشلي للاعتداء من قبل مجموعة “مجهولة”.

ترافقت كل تلك الأحداث مع اعتصام في العاصمة دمشق، نظمه أفراد من فلول الأسد، لبعضهم باع طويل في تمجيد البراميل المتفجرة والقتل الجماعي، متلطين خلف شعارات سياسية محقة في محاولة لاستجلاب قمعٍ لم يحدث. شارك في الاعتصام عدد كبير من الأشخاص الذين لم يكن لديهم أي فكرة عن خلفية المنظمين وأهدافهم الفعلية، فعبّر الكثيرون منهم عن الشعور بالخيبة بعد انفضاح الحقيقة.

وفي 29 كانون الأول/ ديسمبر 2024، ظهرت مجموعة أطلقت على نفسها اسم “المقاومة السورية في الساحل”، انسجاماً مع دعوة الخامنئي حول “ظهور مجموعة قوية ومشرفة”، ورداً على الحملة الأمنية لـ”إدارة العمليات العسكرية” لملاحقة عدد من المسؤولين الأمنيين في النظام السابق الذين ثبت تورطهم في ارتكاب جرائم كبيرة. وقد أصدرت المجموعة بياناً ركيكاً استندت فيه إلى مجموعة من المغالطات التي اختُلقت في الأيام الماضية، حول وجود “عمليات إجرامية ضد مكونات الشعب السوري”، مهددة بـ”حمام دماء” في حال عدم توقف “المشروع الصهيو-وهابي”، المتمثل بحكومة “العصابات الإرهابية”، عن “قتل أبناء الشعب السوري” و”تجويع مناطق سكنية وقصفها وحصارها”.

تعرض البيان لحملة من الرفض والاستنكار من أهالي مدن الساحل السوري وبلداته. كما أُنشئت صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي تحت اسم “المقاومة السورية”، حيث يتضمن الجزء الأكبر من محتواها تحريضاً يدعو إلى تأجيج جولات العنف والقتال من جديد في سوريا، بحجة أن مسلحي “إدارة العمليات” يرتكبون جرائم ضد “الأقليات” في إطار ملاحقتهم لفلول الأسد. تسعى تلك الصفحات إلى تصوير عمليات ملاحقة المسؤولين المتورطين في دماء الآلاف من السوريين، التي تصطدم أحياناً بكمائن مسلحة، على أنها “حرب ضد الأقليات”. وبرغم وجود تجاوزات وجرائم كراهية تحدث بالفعل، فإن معظمها يتم بدافع الانتقام، وليس لأسباب طائفية تمثل تهديداً وجودياً حقيقياً لفئات معينة، ومعالجتها يجب أن تكون من خلال فرض العدالة وتعزيز سيادة القانون ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم بدل التمترس الطائفي.

نتائج وخيمة محتملة أخطرها “اللبننة”

أصبح جلياً أن الموقف الإيراني تجاه سوريا يميل إلى العداء برغم الإشارات المختلطة، وأن الاستراتيجية الإيرانية بعد سقوط نظام الأسد تعتمد على إثارة الفتنة الطائفية، ومنع تطور المرحلة الانتقالية باتجاه تأسيس نظام سياسي جديد، لا يكون لإيران فيه قدرة على التدخل المباشر وممارسة أي شكل من أشكال الهيمنة. تستغل إيران هشاشة الوضع الأمني بعد توغل قوات الاحتلال الإسرائيلي في محافظة القنيطرة خارج المنطقة العازلة من جهة، وازدياد إشكالية “قوات سوريا الديمقراطية” تعقيداً في ظل تصلّب كلا الموقفين التركي والكُردي، واستمرار المواجهات المسلحة في ريف منبج ومنطقة سد تشرين من جهة أخرى.

وقد تكون أخطر نتائج التدخل الإيراني ما بعد حكم الأسد هي “لبننة” سوريا، تماماً كما حدث في العراق بعد الغزو الأميركي، حيث استغلت إيران الفوضى لتوسيع نفوذها، من خلال تقديم الدعم المالي والعسكري للقوى السياسية الشيعية، ثم الدفع نحو تشكيل نظام سياسي يتمحور حول الانتماءات الطائفية. حوّلت إيران الطوائف الدينية في العراق إلى كيانات سياسية، ثم حولت دولة العراق إلى دولة طائفية، وهو ما تحاول فعله اليوم في سوريا. وربما يكون البيان رقم 3 الصادر عن “المجلس الإسلامي العلوي في محافظة حمص”، مؤشراً جدياً على أن مصطلحات مثل “المكون الطائفي” و”الحفاظ على السلم الأهلي والعيش المشترك” و”الأمن الذاتي”، ستُستخدم في سياق تكريس الإفلات من العدالة والتهرب من المحاسبة، تماماً كما يحدث في لبنان في كل أزمة وعلى جميع مستويات الحكم.

في نهاية المطاف، فإن الإرادة الإيرانية يمكن أن تتقاطع مع السياسة الأميركية في سوريا في تأجيج الصراع الداخلي السوري، برغم إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي سيتم تنصيبه لولاية ثانية في 20 كانون الثاني/ يناير 2025، في منشور على منصته للتواصل الاجتماعي “تروث سوشل” أنه لا ينبغي للولايات المتحدة الأميركية أن يكون لها أي علاقة بما يحصل في سوريا الآن. لكنه في الوقت نفسه قال: “سوريا في حالة من الفوضى، لكنها ليست صديقتنا”. في حين تواصل القوات الأميركية استقدام تعزيزات عسكرية إلى شمال سوريا وشرقها، ما يتناقض فعلياً مع دعوة ترامب لعدم التدخل في الشؤون الداخلية لسوريا.

درج

———————-

وأخيراً سقط الأسد… فهل نبدأ من الصفر مرة أخرى؟/ سلمى الفتيّح الشيخ

10.01.2025

فرار الأسد إلى روسيا لم يُعط أحداً خاتمة، القصة لا تزال مفتوحة، ترك وراءه أمهات تبحثن في الأوراق المتناثرة على أرضيّة السجون عن معلومة عن أولادهن وأزواجهن المختفين قسرياً، ترك وراءه أسئلة كثيرة بلا أي إجابات، ترك وراءه أناساً يسألون أنفسهم: لماذا حصل هذا كله وهل كنّا نستحقه؟

للمرة الأولى أستطيع الكتابة عن سوريا والنظام من دون خوف من تقرير أو نشرة سياسيّة. بدأت الثورة وأنا في الخامسة عشرة من عمري، اليوم وبعد 14 عاماً أيقظ سقوط الأسد داخلي كماً من القهر كنتُ أتجاهله وأُسكِتهُ لسنوات عدة.

في السنوات الأولى للثورة، كان الوضع إلى حدٍّ ما غير مفهوم، وكنتُ أسمع ما حصل في التظاهرات من أصدقائي، وأعرف من قُتِل ومن اختُطف أيضاً، بسبب الخوف الكبير في بيتنا من أن نضع قناة “أورينت” التي كانت تنقل ما تشهده سوريا.

لاحظت لاحقاً انتشار الحواجز في دمشق وريفها، ثم أقيم حاجز بين منزلي ومدرستي، فتحوّلت رحلة الخمس دقائق في السيّارة إلى ساعة ونصف الساعة أحياناً، بسبب خضوع كلّ سيارة وكل الهويّات للتفتيش. آنذاك، كنتُ أسمع أغاني سميح شقير وأناشيد السّاروت خلسةً عبر سمّاعات هاتفي وأنا على الحاجز، فأشعر بالانتصار.

فقدان مقومات الحياة

مع الوقت بدأ النظام حرب تضييق على السوريين، كانت أشبه بعقاب جماعي، فلا ماء ولا غاز ولا محروقات للتدفئة ولا كهرباء. تجاوزتُ الثانوية العامة وأنا أدرسُ على ضوء الشمعة، خصوصاً أن مكان سكني وأسرتي في ريف دمشق مغضوبٌ عليه، حيث الغالبية من السنّة وخرجوا في تظاهرات ضد النظام، الذي قرر عقاب الجميع.

هزّ سقوط الأسد كيان السوريين، وشعرتُ شخصياً بأن تسع سنوات خارج سوريا ذهبت سدى، سنوات أمضيتها عاجزةً عن إكمال تعليمي، وأعمل في مجالات لا تمتُّ الى دراستي بصلة، فقط لأستطيع دفع إيجار منزلي وفواتيري، تسع سنوات من أزمات مستمرّة وتشرّد وشتات، تسع سنوات من الذل والقهر والتعب والإقصاء، تسع سنوات كنتُ فيها عالقة في بيروت بسبب اتفاق النظام السوري مع نظيره اللبناني على ذلّ أي شخص سوري وكسره.

بيروت التي انسلختُ فيها عن سوريتي!

وللنجاة، اضطررت في بيروت الى التحدّث بلهجة لبنانيّة مع من لا يعرفني كي لا يتم استهدافي أو استضعافي ، وكثرٌ ممن أعرفهم اتّبعوا الأسلوب ذاته، وفي حديثٍ مع أصدقاء لي في بيروت قالوا: “تواجهين العُنصرية إي إحكي لبناني!”.

 كانت إجابتي أنّ هناك حقاً مشكلة هائلة في أن اضطر لتغيير لهجتي فقط لأنّ العنصريّة طبيعيّة، والعنصريّة كانت مربوطة بدخول النظام السوري إلى لبنان في الحرب الأهليّة وفظاعة ما ارتكبه الجيش السوري حينها. أما نحن الهاربين، فلا دور لنا، وليس من المفترض أن نحمل خطايا النظام وأزلامه. وإلى اليوم لا أستطيع التصديق بأن من اختبر في لبنان الظلم، لم يفهم سبب فرار السوريين.

كانت سوريا سجناً كبيراً، القضبان على نوافذ الحافلات والمدارس والمستشفيات، موجودة فقط لتُذكّرك بأنّك محاصرٌ دائماً. الكثيرون من غير السوريين صُدِموا بالسجون وكمّ الوحشيّة التي مورست بها يوميّاً، الكثيرون لم يُصدّقو أنه بالنسبة الى الشعب السوري كان الحصول على ربطة خبزٍ يُعدُّ حلماً، وأن الظلام لم يقتصر فقط على ظلام الزنزانة، إذ إن ساعة واحدة من الكهرباء كانت تصله في الـ24 ساعة، وأن شوارع العاصمة ليلاً غرقت في عتمة مُخيفة.

كلُّ سوريّ عرفتهُ في بيروت، هرب لسببٍ مختلف، لكنّ الأسباب باختلافها تنتجُ من شيءٍ واحد وهو الخوف، كلُّ الأسباب مُحقّة وكلُّ سوريّ في لبنان أو في بلادٍ أُخرى على حدٍّ سواء، لم يختر اللجوء طوعاً إنّما حاول بطاقتهِ أن يبقى إلى أنّ ضاقت بهِ السُّبل ووجد نفسهُ في أوّل قارب/طائرة/سيّارة يبتعدُ من هذا السجن الكبير ويقصدُ المجهول أملاً بمُستقبل أفضل.

كانت سوريا سجناً كبيراً، القضبان على نوافذ الحافلات والمدارس والمستشفيات، موجودة فقط لتُذكّرك بأنّك محاصرٌ دائماً.

لعنة أن تكون سوريّ!

في عهد الأسد، لم يكُن هناك أمر إيجابيّ واحد لكونك سوريّاً، عدا عن القتل والقصف والمجازر والاعتقال والتعذيب، كان الواحد منا محكوماً بموت بطيء بصورة يوميّة، كونه ينتمي إلى هذا البلد، إذ اقتلع الوطن من السوريّ وتحول إلى رهينة، تحتاجُ إلى أن تنصاع إلى الأوامر والتعليمات لكي تُبصر نور اليوم التالي.

سوريا كانت تعني أن من يمتلكون رتبة عسكرية يستطيعون أن يدوسوا رأسك ويلفقوا لك تُهماً بكتابة تقرير كاذب. سوريا كانت تعني أن تذهب إلى سفارة بلادك وتتعرّض للتحقير والإهانة من موظفيها، أن تدفع مبالغ طائلة لتصديق أوراق أو استخراج جواز سفر، أن تتعرّض للتحقيق من الموظفين لأقلّ سبب ممكن.

أنهكنا الخوف والذل، ولم تعد لدى الكثيرين القدرة على التمرّد أو قول لا، كلٌّ نهارٍ في حياة السوريّ مقسّم إلى الحصول على أساسيّات وبديهيّات المعيشة من الخبز إلى إمكانية الاستحمام بماءٍ دافئ في الصباح.

سوريين الشتات، أصبحت أولويّتهم الحصول على إقامات وتأمين أعمال حتى لو كانت لا تمتُّ الى اختصاصهم بصلة، فقط ليستطيعوا دفع الإيجار في بلاد اللجوء، وإرسال ما تبقّى لأهلهم العالقين.

بعد هذا كله سقط الأسد، لكن بقي ألمنا وقهرنا، وكبر خوفنا من تكرار سيناريوهات البلاد العربيّة الأُخرى ما بعد الثورات. اليوم نحن في حيرة، هل نترك كل ما أنجزناه في بلاد اللجوء ونعود لنبني حياتنا من الصفر؟ هل هو سهلٌ أن تبدأ من الصفر آلاف المرّات؟ أما بلاد اللجوء الآن فلن تفهم لماذا لن يرغب أيّ سوري في العودة، لأنّ لا أحد يفهم تجربتنا.

فرار الأسد إلى روسيا لم يُعط أحداً خاتمة، القصة لا تزال مفتوحة، ترك وراءه أمهات تبحثن في الأوراق المتناثرة على أرضيّة السجون عن معلومة عن أولادهن وأزواجهن المختفين قسرياً، ترك وراءه أسئلة كثيرة بلا أي إجابات، ترك وراءه أناساً يسألون أنفسهم: لماذا حصل هذا كله وهل كنّا نستحقه؟

في المنفى الجديد!

أُعلّقُ في بلدٍ جديد بعض الصور على الحائط، طقسٌ أُمارسه لكي أشعر بأن المكان مألوفٌ قليلاً، مع علمي التام بأنّ هذا المنزل ليس لي، وبأنني لن أبقى هنا طويلاً ، وأسألُ نفسي أين أصبح البيت؟ إلى أين أتّجه؟

كيف يُتوقّع مني بعد هذا الألم كلّه أن أمسح آلامي تماماً كما أمسح المكياج عن وجهي بعد نهارٍ مُتعب، هذا ليس بالسهل. فقدتُ المعنى تماماً منذ آخر تسع سنوات أمضيتها مقصية، أُلاحق الأمل بأمان كمن يُلاحق أضواء سيّارات ظنّاً منه بأنها نجوم. الأمل فعلاً موجود ، ولكن هل يكون مفيداً فعلاً بعد كل هذا القهر والحزن.

الأمل خطير ومن مثلي لا يحتملون الأمل ولا خيبته.

درج

—————————-

سورية في لعبة الأمم والدول/ رفيق عبد السلام

10 يناير 2025

التغيير الذي حصل في سورية حدث من الوزن الثقيل، وستكون له تداعيات واسعة في عموم المحيط العربي، وما هو أبعد، فسورية تظلّ المرآة العاكسة لكلّ تموّجات المنطقة واتجاهاتها المستقبلية، ومن يضع يده على الشام وضع يده على قلب وعقل العالم العربي، والشرق الإسلامي عامّة، فهناك ولدت أولى التجمّعات الحضرية، وتشكَّل مفهوم المدينة، ونشأت واستوطنت أغلب الرسالات الروحية، وهناك تركّزت الهجمات الصليبية على الشرق قبل أن يتم كسرها بتعاضد دمشق والقاهرة، وهناك نضجت الفكرة الإصلاحية الإسلامية، ومن بعدها تبلورت الرابطة العربية، وبدأ صعود موجة العساكر العرب وحركة الانقلابات والانقلابات المضادّة إثر ولادة المشروع الصهيوني في أواخر أربعينيّات القرن الماضي.

في بلاد الشام تتزاحم الفِكَر والتيّارات والمدارس، وتولد المشاريع أو تموت، تنضج أو تذبل، وليس مبالغة القول إن تاريخ العرب الحديث يتكثّف في الشام وما حولها، ومن أراد أن يعرف إلى أين يتّجه العرب فعليه أن يعرف الوجهة التي تتّخذها دمشق. وقد أيقظت “الدولة العميقة” في واشنطن، وريثة الإمبرياليات الأوروبية المتمرّسة بلعبة الأمم، دونالد ترامب من سباته حين صرّح بأن سورية “بلد صغير ولا يهمّنا أمره”، ودليل ذلك تتالي زيارات وتصريحات المسؤولين الأميركيين بشّأن سورية لاحقاً (!).

وإذا تجاوزنا هذه المقدّمات العامّة وركّزنا التشخيص حول الخيارات التي ستسلكها القوى الدولية والإقليمية الفاعلة في التعاطي مع الحدث السوري الذي فاجأ الجميع، فإنه يمكن تصنيف هذه المواقف، بشيء من التلخيص، في ثلاثة خطوط رئيسة تتوزّع ما بين المساندة والإلغاء والاحتواء وما بينها من تفريعات. فإذا استثنينا الدول التي احتضنت الثورة السورية منذ البداية مثل تركيا وقطر، واستمرت في نهجها، مع محاولة تدارك الثغرات السابقة في التعامل مع ثورات الربيع العربي المغدور بها، فإن بقيّة المواقف الدولية والإقليمية تراوح بين رفض الواقع الجديد، مع ما يتبع ذلك من حملات سياسية وإعلامية مُشيطِنة للثورة والثوار، وخيار مسايرة الموجة والعمل على احتوائها وكبح جماحها تدريجياً بالأدوات الناعمة، والغالب أن ما سيرجّح كفّة أيّ من الخيارات الثلاثة التي ذكرناها أعلاه، هو ميزان القوى في أرض الواقع، واتجاه الأحداث العامّة في هذا البلد، وما إذا كان فريق الحكم الجديد قادراً على ضبط الوضع العام والتحكّم في وتيرة الأحداث، أم أن الأمور ستكون أكبر من الفاعلين الجدد، فالكلّ يراقب الآن تطوّرات المشهد السوري ليثبت خياراته أو يعدّلها لاحقاً وفق اتجاهات الأحداث وموازين القوى.

صُدم الأميركيون من انهيار النظام بتلك السرعة، ومن اقتحام قوة راديكالية دمشق ما زال قادتها مصنّفين في قوائم الإرهاب، ما لم يعطهم فسحةً من الوقت للدخول إلى الميدان وتوجيه الأحداث، وهذا ما يُفسّر أنهم يتعاملون بقدر كبير من الحذر مع التطوّرات الجارية، ولك أن تقول هنا إنهم في طور جسّ النبض من دون إرخاء الحبل أو شدّه نهائياً. وما بدا واضحاً إلى حدّ الآن، من خلال تجميد سلاح العقوبات ستّة أشهر فقط، هو التلويح بسياسة العصا والجزرة مع الحكّام الجدد، وهي مدّة كافية لاختبار سلوك دمشق، وفي أيّ وجهة ستسير، فكلّ ما يعنيهم الآن هو انتزاع سورية من المحور الروسي الإيراني، وفكّ علاقتها بالمقاومة في لبنان وفلسطين، وما زاد على ذلك من حديث عن الديمقراطية والمشاركة والأقلّيات والمرأة وغيرها، فهي محسّنات سياسية، يمكن أن تتقدّم في الخطاب إذا اتسعت هوة الخلاف مع حكّام سورية الجدد، ويمكنها أن تتأخّر إذا وجدوا قدراً من الاستجابة والتكيّف من دمشق، والأرجح أن الإدارة الجديدة مع ترامب ستنظر لسورية واحداً من ملفّات التفاوض مع أنقرة، إلى جانب ملفّات إقليمية أخرى.

تحلّى الروس بشيء من المرونة، وسارعوا بالقفز من سفينة بشّار الأسد الغارقة، واختاروا عدم معاندة الأحداث، أو وضع أنفسهم في صفّ المهزومين، لا سيّما أن ما يشغلهم هو الحفاظ على قاعدتيهم العسكريتين، في حميميم (الجوية)، وطرطوس (البحرية)، وألا ينقطع حبل الوصل مع فريق الحكم الجديد في سورية. أمّا طهران فقد وجدت صعوبةً كبيرةً في التكيّف مع الوضع الجديد، وصدرت عنها خطابات وتحذيرات تفيد بأنّها قد خسرت كثيراً بسقوط نظام بشّار الأسد، رغم وجود اتجاه من داخلها يدعو إلى التحلّي بالبراغماتية والتفكير في المستقبل، بدل الانحباس في الماضي.

أمّا الأوروبيون فهم منزعجون من الوضع الجديد، ومن ذلك الضيق بالقوى التي أسقطت بشّار، ومن انحسار نفوذهم في المشرق العربي مع صعود الإسلاميين، ولكنّهم يبتلعون غصّتهم ويتوارون خلف المجاملات الدبلوماسية وتوالي الزيارات الاستطلاعية، وتتركّز أولويتهم العامّة (على نحو ما أفصحت عنه زيارة وزيري خارجية ألمانيا وفرنسا) في جانبَين اثنَين، دعم المكوّن الكردي رصيداً احتياطياً للتحكّم في مسارات سورية وما حولها، مع ميل الفرنسيين أكثر نحو تصدّر “حماية المسيحيين”، والمفارقة العجيبة أن فرنسا التي تتحدّث بلغة الجمهورية المُجرَّدة في الداخل الفرنسي، ولا تعترف بأيّ هُويَّات جزئية ما دون الجمهورية، لا ترى في منطقتنا سوى تقسيمات المسلمين والمسيحيين والسُنّة والشيعة والدروز والعلويين والعرب والكرد والبربر وغيرها، يضاف إلى ذلك ميل الأوروبيين إلى كبح التوجّهات الإسلامية في الدولة والاجتماع والثقافة، في إطار توجّه استراتيجي صامت منذ نهاية الحرب الباردة، يقوم على اعتبار وجود إسلام مسيّس مهما كان شكله (ولونه) في الحدود الجنوبية للقارّة يمثّل خطراً عليها. وقد ترسّخت هذه الرؤية أكثر مع صعود الحالة الإسلامية منذ الثورة الإيرانية، ثمّ صعود التيّارات اليمينية في كثير من العواصم الأوروبية، التي انخرطت في إعادة بناء الهُويَّة القومية والقارّية عامّة، في مقابل الآخر الإسلامي، ولا غرو أن تجد أوروبا المؤدلجة صعوبةً كبيرةً في التعايش مع إسلام حاكم، ولا فرق في ذلك عندها بين نموذج طالبان ونموذج أردوغان.

أمّا الدول العربية، فقد اختلط عندها الرفض بهواجس خوف مضاعف، خوف من عودة “الربيع العربي” المغدور به، وخوف من عودة الإسلاميين، الذين كان يُظنّ أنهم قد قُبِروا تحت الركام إلى غير رجعة مع وأد الثورات العربية بالانقلابات والحروب الأهلية، وقد عكس اجتماعُ العقبة في الأردن، الذي انعقد على عجل وبعد أيّام قليلة من سقوط نظام بشّار الأسد، حالةَ الارتياب العربي، مع الملاحظ هنا أن مواقف القاهرة وأبوظبي وبغداد والجزائر وتونس تظل الأكثر حدّةً ورفضاً للواقع الجديد، وقد زادت القاهرة وتونس على ذلك بإطلاق العنان لحمّى إعلامية في الفضائيات والصحف ومواقع التواصل الاجتماعي التابعة، تتوحّد تقريباً في سردية المؤامرة، ورمي القوى السورية الجديدة بالشناعات كلّها من إرهاب وخيانة وتآمر وغيره.

أمّا إسرائيل فيختلط عندها الشعور بالنصر بمرارة الهزيمة، لا سيّما أنها فزعت من وجود قوة إسلامية ذات خلفية جذرية في حدودها الجنوبية الغربية، وهي تتحسّب من حلول ما تعتبره محور أنقرة دمشق، بديلاً من محور طهران دمشق، أو ما تسمّيه صعود جبهة إسلام سنّي، بديلاً من الإسلام الشيعي، وهي التي كانت تراهن على بقاء الأسد في دمشق ضعيفاً ومنزوع المخالب والأنياب، في ظلّ كيان كردي شرق الفرات، يمكن أن يستخدم لاحقاً مخلباً في وجه دمشق وأنقرة، وجيب درزي موالٍ لها عند حدودها، وكان الأميركيون يسيرون في الركب ذاته تقريباً، فما هو جيّد لتلّ أبيب جيّد لواشنطن.

الواضح حتى الآن أن اصطفافات “الربيع العربي” لم تتغيّر سوى على صعيد الإخراج، فالدول التي دعمت الموجة الأولى للثورات العربية سارعت إلى دعم الثورة السورية من دون تردّد، والدول التي تحفّظت ورفضت ما زالت هي نفسها تقريباً، مع أن القدر الواضح إلى حدّ الآن هو غلبة منسوب التوجّس والخوف والامتعاض مع محاولة مسايرة الموجة، وتجنّب مواجهة العاصفة، وتقليل الخسائر ما أمكن، على خلفية الاحتواء وتوجيه القاطرة السورية نحو الوجهة المرغوب فيها، وإذا وجدت هذه الدول فرصةً في الانقضاض على التجربة وقلب ظهر المجنّ، فلن تتردّد في ذلك.

ستظلّ هذه التكتيكات السياسية تتزاحم على سورية في مرحلة طافية بالصراعات والتقلّبات، وما سيحدّد فعلاً رجحان أيّ من الخيارات هو ميزان القوى في أرض الواقع، فإذا صمدت التجربة في مواجهة هذه العواصف الهوجاء سيتراجع تدريجياً منسوب الرفض، ويضطر الجميع للتكيّف والبحث عن مصالحهم ومواقعهم في المشهد الجديد، بوابةً رئيسةً لضبط إيقاع المشرق العربي وما حوله، أمّا إذا تعثّرت القاطرة (لا قدّر الله) فستكثر المناورات والمُكايدات، ويستعمل المال والإعلام والسلاح، وكلّ شيء، كما جرى مع تجارب “الربيع العربي” السابقة. بيد أن ما يعطي شيئاً من الخصوصية والحصانة للتجربة السورية، مقارنةً بتجارب “الربيع العربي” السابقة، هو انهيار الدولة العميقة بجيشها وبوليسها ومخابراتها، بما يحدّ من مفعول الثورة المضادّة، ويجعل إمكانيات الاختراق أكثر صعوبة، فضلاً عن وجود إسناد تركي قوي، ومرافقة لصيقة لملفّ باتت أنقرة تعتبره جزءاً من أمنها القومي.

هذه المعطيات كلّها التي ذكرناها أعلاه، تشير إلى حجم التحدّيات التي تواجه (وستواجه) سورية في المستقبل القريب، وهي تحدّيات تفرض درجةً عُليا من الحيطة والمهارة والصبر في إدارة هذه الصراعات الساخنة والباردة وكثرة المتدخلين واللاعبين في المشهد السوري المحاط برؤوس ثعابين كثيرة. طبعاً سيسمع السوريون كثيراً من المديح والإطراء لثورتهم المجيدة، وعليهم أن يقابلوا هذه المجاملات بالمجاملات، ومبادلة الكلام بالكلام، والأكثر أهميةً من ذلك أن يراهنوا على الأفعال والطريقة التي ستتصرّف بها الدول، أكثر من المراهنة على التصريحات والموعودات. سبق أن تلقى التونسيون كثيراً من المديح والثناء على ثورة البوعزيري، كما تلقّى المصريون من بعدهم إطراءً على ثورة 25 يناير (2011)، وشجاعة شبابهم ووعيهم الثاقب، إلى درجة أن الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما تمنّى أن يكون واحداً من شباب مصر المرابطين في ميدان التحرير، ولكن حينما تحرّكت الدبابات والعربات العسكرية لنسف صناديق الاقتراع، ولتخريب الديمقراطيات الوليدة في دول “الربيع العربي”، لم تجد بواكيَ لها في العواصم الغربية والشرقية، بل قوبلت ببهجة واحتفالات في عواصم الاستبداد العربي. لذلك على السوريين أن يعوّلوا على أنفسهم، ويحافظوا على حزامهم الشعبي الداعم للثورة أولاً، ثمّ على دعم الأصدقاء الموثوقين، وقبل ذلك (وبعده) تحصين تجربتهم بالمخالب والأنياب اللازمة، التي تتيح لها الدفاع عن نفسها، مع العمل على الانفتاح والتعاون مع الجميع وفق الأولويات وقوانين الجغرافيا السياسية. فليس من مصلحة السوريين الانخراط في سياسة المحاور، أو تسليم رقبتهم لأيّ قوة دولية مهما كانت مغرياتها، ولا خوض حروب بالنيابة عن أحد.

العربي الجديد

———————————-

تشريح الثورات.. ما الذي تضيفه ثورات الربيع العربي؟/ أحمد الشمام

2025.01.10

لا يخفى على أي مهتم بدراسة الثورات كتاب المؤرخ الأميركي “كرين برنتن تشريح الثورة”، والذي ناقش فيه أربع ثورات هي الفرنسية، الأميركية، البلشفية، والحرب الأهلية في إنكلترا. وقد وضع نمطا عاما للثورات تبدأ بالرفض والتمرد والحمى، ثم تمر بالعنف، ثم الافتراق الداخلي بين تشدد واعتدال، تختتم بتغير الوجوه وعودة نظام الحكم كما سبق بوجوه جديدة مع تغير طفيف.

يبدو ذلك النمط في ترتيب وتحقيب مراحل الثورات معتمدا ورائجا في مستوى الخط العام للتحولات التي تصيبها، لكن انتقادات كثيرة طالت الكتاب وقد أضاف الكاتب لاحقا تعديلات عديدة؛ منوها بعدم وجود حالة نمطية واحدة تخضع لها الثورات مع اشتراكها في الخط العام الذي ذكره، غير أنه لايمكن تجاوز واقع مهم يتعلق بتلك الدراسة وهو أن رؤيته و نتائجه قد بنيت انطلاقا من دراسة ثورات حدثت قبل 1945م، يبدو ذلك مبررا في حينه لعاملين أحدهما عدم وجود ثورات هزت بلادا كتلك، وسابقا على الحراك الذي أسقط الشيوعية في الاتحاد السوفياتي وشرقي أوربا بعد سقوط جدار برلين من جهة، ومن جهة أخرى ماعادت أ ي دراسة في الغالب خارجة عن أطر الاستثمار، والتدخل الخارجي بما في ذلك النظام العالمي الجديد وآفاق التحكم وأطر الهيمنة، تلك التحديات التي لو طالت الثورة الفرنسية التي صدرت قيمها للعالم رغم المجازر التي ارتكبتها لما نجحت، إذ شاع في الثورة الفرنسية بناء المقاصل والمحاكم الميدانية، وراديكالية ما تشكل تحت بند الشرعية الثورية كرست فكرة أن تأكل الثورة أبناءها، حتى كتبت حنا أرندت ” الحقيقة المحزنة.. هي أن الثورة الفرنسية التي انتهت بكارثة صنعت تاريخًا عالميًا، في حين أن الثورة الأميركية (1776) التي كانت مظفرة في نجاحها قد ظلت حدثا لا تتجاوز أهميته المحلية إلا قليلًا”، اقتربت حنا أرندت من روح الثورة ورصدت القيم والدوافع الحقيقية لها، أدواتها، قياداتها، والفعل الحشدي الذي يمكن استغلاله وتجييره ليكون أداة ووقودا يتم الالتفاف عليه كما حصل في الثورة البلشفية؛ التي أسمت الباحثة قادتها بمغفلي التاريخ، كما تلمست حنا أرندت قيمة مهمة للثورة بتمييزها بين التحرر وبين الحرية حيث “تأسيس الحرية يشبه تأسيس الدساتير، فالأولى تحتاج إلى روح ثورية، في حين يحتاج الثاني إلى كيان سياسي يمتلك مشروعية التأسيس..وإذا كانت الدساتير هي المحصلة النهائية للثورات، فإن الهدف النهائي التأسيسي للثورة هو الحرية، وكلاهما: الدستور والحرية، لا يمكن بلوغهما إلا من خلال كيان سياسي جديد، يعلن بداية فعل تأسيس يكون الأساس الأول والأخير لصناعة الدستور وتكوين الحرية: إنه فعل الثورة”.

أمام ذلك كله عربيا -مشرقيا فإن دولنا التي خضعت للاستعمار وتحررت، قد بقيت جزءا من المجال الكولونيالي الجديد بدءا من قفزة العسكر إلى السلطة في معظمها، وعانت الشعوب العسف والتجهيل والعبودية، فانتفضت للانعتاق سعيا لبناء الدولة الحرة وتحقيق العدالة واندلعت بثوراتها المستحيلة؛ سرعان ما تم إفشالها بسبب التدخل الخارجي الذي دعم مايسمى بالثورة المضادة؛ لإعادة الشعوب إلى حظيرة الحكم القديم بوجوه جديدة. أمام هذه الالتفافة لتكريس الهيمنة من جديد، ولأجل تدجين من لم يثُر من شعوب مجاورة؛ صرنا نجد في المجال الثقافي العربي تبريرا له عبر التنظير لما أورده كرين برنتن في كتابه المذكور، كما صرنا نجده في الدعاية المضادة لثورة الشعب السوري بعد انتصارها غير المسبوق؛ عبر الحديث عن احتكار السلطة والتخويف من العنف بعد انتصار الثوار، هنا نقف وجها لوجه مع فكرة تم تسويقها سياسيا -حتى قبل يوم من التحرير- عبر نزعة واقعية وبراغماتية تقول بالممكن والخضوع له، متجاهلين شكلا آخر من الواقعية والبراغماتية قد أنجز المستحيلات من دون سطوة التخذيل تلك، فالواقعية التي تم التنظير لها غربيا وجدت متنفسا لدحض الواقع المر والثورة عليه عبر الإيمان بأيديولوجيا أو دين، وكلاهما صورة عن انبثاق الإيمان / الميتافيزيقيا قبالة التشاؤم الذي يشهره الواقع بوجوهنا عند حالة العجز المعمم وحضيض الاستنقاع، كما كتب وليم جيمس “عند مواجهة المشكلة، ستقدَّم إليك الفلسفة التجريبية -أو الواقعية-  ولكنك ستجد أنه ليس فيها من الدين ما يكفي لاحتياجاتك، وستقدم إليك الفلسفة الدينية – ميتافيزيقيا – ولكنك لن تجد فيها شيئًا من التجريبية يشبع احتياجاتك”  ليبدو المزيج بين الاثنتين مضمارا للعمل الجاد فما الذي يمكن استنتاجه من نمط ثورات المشرق، أو بلاد الشام عبر دراسات لم تنل حصتها من الضوء؟.

وينبثق السؤال المقلق هل يمكن لمؤمنين مسلمين أن ينجزوا نصرا ورؤية للدولة الحديثة مؤسسيا؟ نجد الحل في قراءات في تجارب سابقة بعيدا عن شرقنا كما في التجربة الإنكليزية وفقا لتحليلات كثيرة، إذ توجد قراءات خرجت عن رؤية تشريح الثورة لكرين برنتن، واقتربت نحو مفاصل مهمة تم تجاوزها تدلنا على مؤشرات جديدة، وقد حلل علي عزت بيغوفيتش الثورات التي اكتسحت أوربا وأميركا، واستعان بدراسات لباحثين كثر لم يكونوا أقل قدرة في ابتداع رؤى جديدة تسهم في فهم الثورات، كما أثبت الكاتب الإنكليزي الاشتراكي كروسمان أن “الديمقراطية البريطانية كانت مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالنضال من أجل الحرية الدينية. فتم تهذيب الوازع الديني في شكله المسيحي الأصلي من أجل الديمقراطية، وكان انتصار الليبرالية مؤديًا إلى تجديد الدين في إنكلترا العصر الڤكتوري… في حين نجد التقدم والديمقراطية عند الليبراليين الألمان والإيطاليين، هي موضوعات قاصرة على النزعة العلمانية. فالمؤمنون بالكاثوليكية يعتقدون أنه لا يوجد جسر على الثغرة الفارقة بين الإيمان والتقدم”، مثلما أن الاشتراكية الإنكليزية هي الأخرى من نوع مختلف عن نظيراتها في أوربا. فالاشتراكية في أوربا مرتبطة ارتباطا وثيقا بالفلسفة المادية والإلحادية، إذ “نستمع من منصة حزب العمال البريطاني اقتباسات من الكتاب المقدس مثلما نسمعها من منبر الكنيسة هناك” كما يتناقلها بعض الصحفيين، ورصدها بالتحليل والنقد بيغوفتش في كتابه “الإسلام بين الغرب والشرق”. وتناول أثر الدين في السياسة والمجتمع.

إن نمطا إنكليزيا يظهر عبر دراسات كثيرة تتميز بها بريطانيا عن جوارها؛ حيث اتخذت نمطا معتدلا وسطيا، فقد حافظت على الدين في مرحلة الثورات ضده بين ماركسية وداروينية، وكانت تمثل نمطا مفرطا ومتحللا للدين وحضوره في المجال العام والسياسي؛ عندما كانت أوربا تقبع تحت رحى التشدد المذهبي، وبقيت ملتزمة التوجه ذاته المختلف عن النمط الأوربي، وأبقت عليه فيما بعد عندما ذهبت دول أوربا الشرقية للغرق بالأيديولوجيا الماركسية، وذهبت دولها الغربية للغرق في موجة العلمانية المخالفة للدين أو المحاربة له تبعا لأيدولوجيا لائكية كما في فرنسا، فقدمت بريطانيا نمطا مغايرا وهو ما ظهر حتى في الثورة البريطانية عندما أنجزت نصف الأهداف وفقا لدراسين كثر؛ وتركت للتحول المجتمعي والمدني أن يكمل المهمة؛ محافظة على النمط الإنكليزي المعتدل وهو ما يفسر في جزء منه قَسَم ملك بريطانيا لخدمة الكنيسة عند توليه العرش منذ عامين، ما أثار الصدمة لدى علمانيينا العرب، ويسارنا التقليدي المتخشب في خطابات الماركسية الآفلة.

نصف الأهداف هذا أو الاعتدال والوسطية التي شهدته بريطانيا، يسترعي الانتباه لما قام به إسلاميون من تتويج أربعة عشر عاما من ثورة اشترك بها الجميع بالنصر، واستطاعت أن تزيح حكم الأسد، وتطلق دعوتها لبناء الدولة الحديثة المدنية وذهنية شراكة مع جميع الطوائف والأديان في المجتمع السوري، قبالة ذلك يتساءل المرء هل تحمل الشام -سوريا نمطها الخاص كما حفلت به بريطانيا تاريخيا؟ سواء على مستوى الشكل الجديد لما أظهرته هيئة تحرير الشام في إدراتها غرفة العمليات وحرب التحرير، ثم وهي في سدة الحكم الانتقالي الحالية إذ تفتح باب العمل السياسي الحر للشعب السوري، لنتساءل هل يمثل العمل المتميز تحولا في الرؤية الإسلامية الجهادية؟ هل تخيل الباحثون أن كتلة جهادية في ساح الحرب تصبح مدنية تعددية في دعوتها للعمل المدني الحر المتعدد كما تقدمت به من تصريحات؟ قبالة ذلك هل يستطيع يسارنا الخشبي الخروج من سردياته القديمة، وشعبويته ومن هويته في تعريفها الضيق كند للدين وأهله؟ ذاك سؤال برسم الجميع.

تلفزيون سوريا

————————-

سوريا ومرحلة اللا دولة والفوضى/ جمال الشوفي

2025.01.10

مضى شهر على سقوط النظام وهروب رأس حكمه وذلك في أسوأ شكل لنهاية رئيس كان يدعي المقاومة والصمود والتصدي. وحقيقة الأمر أنه كان نظاماً أمنياً قاتلاً ومستبداً بكل شؤون حياة السوريين، وهمومه لا تتجاوز متعه المريضة بالحكم وجني المال والرفاهيات ومن خلفه منظومته الحاكمة الفاسدة، وآخر همه هو هذا الشعب. الشعب المقهور والمحكوم بالحديد والنار لعقود والمنهك للدرك الأسفل مادياً واقتصادياً، ما إن زال ما كان جاثماً على صدره من رعب أمني حتى انفكت عقد خوفه وبدأ يتكلم في كل شؤونه الحياتية والسياسية وحقوقه المسلوبة، كما وعادت الكثير من المشاريع السابقة والمعطلة المعروفة بالمعارضة التاريخية بالظهور للعلن وتوقعها قرب تحقق أهدافها، إن لم يكن أحقية وراهنية تحققها. ما فتح المجال الواسع للفرضيات والتوصيفات والشرعيات التي تجتاح الساحة السورية اليوم في كم فوضوي كبير.

اليوم تمر سوريا بمرحلة اللا دولة، مرحلة مفرغة من جهازي الشرطة والجيش بشكل رئيسي مع شبه فراغ مالي واقتصادي، سمتها حكومة الإنقاذ المؤقتة بمرحلة تيسير أعمال مؤسسات الدولة السابقة الإدارية والخدمية. فالخدمات الأساسية من كهرباء وماء ومحروقات ومواد الغذاء الأساسية، الأمن والأمان أولويات أولى يتطلب استمرارها دون الوقوع في الفراغ. وهي أولوية أولى في هذه المرحلة الصعبة والمعقدة ما بعد سقوط النظام. إذ تعتبر المرحلة الحالية تحدياً كبيراً أمام السوريين مقابل ما كانت تطلقه بعض المؤسسات الدولية والأممية عن سقوط مؤسسات الدولة بسقوط النظام في السنوات السابقة، وهذا مشروط للحظة بالقدرة الإدارية للحكومة المؤقتة والتعاون المجتمعي والعربي والدولي معها. فيما القضايا السياسية والمستقبلية فهي ليست ببعيدة المنال وهي محط حوار بدأ منذ سنوات الثورة الأولى وما زال مستمراً.

فمن قبل أن يسقط نظام الحكم في سوريا بزمن ونحن السوريين نناقش ونجادل معرفياً وفكرياً بضرورة البحث في شؤون الحكم المستند في الجذر على مفهوم الدولة الحيادي تجاه كل مؤسساتها، فيما تكون السلطة السياسية حتى وإن كانت سيادية، هي إحدى مؤسساتها المحددة صلاحياتها بدستور الدولة، وذلك من حيث الصلاحيات والمدة الزمنية بحيث تضمن القوانين الوضعية عدم تغولها على مؤسسات الدولة وإسباغها نموذجها السلطوي عليها، كما فعل البعث في سوريا لعقود. واليوم، تجتاح سوريا حمى الوصفات العامة وسيل هائل من فوضى الاشتباك اللغوي والوصفي لشكل الدولة السورية. فهي مركزية مقابل لا مركزية، وعلمانية مقابل دينية.. ومن هذه الأربعة يمكن اشتقاق أي صفتين مع بعض: مركزية دينية أو مركزية علمانية، ولا مركزية علمانية ولا مركزية دينية، فكيف وإن أضفنا على هذا مثلاً صفات العربية والقومية أو غيرها؟ فالعجب العجاب! لكن رغم هذا، وحتى لا نسهم في تأجيج حمى وفوضى الأسماء والصفات، لنعترف بالمبدأ بمحددات الواقع الحالي:

    إنها المرة الأولى في تاريخ سوريا يستطيع كل فرد أو مجموعة فيها أن يعبر عن أفكاره وطموحاته دون خوف من اعتقال وتغييب وراء السجون، فقد سقط نظام القتل، وهذا إيجابي.

    حق الاختلاف الذي طالما نظرنا له فكرياً وسياسياً بات أمراً واقعاً ونعيشه لحظياً بالواقع باختلاف الأفكار والطروحات والمشاريع، فقد سقط نظام اللون الواحد، وهذا أيضاً إيجابي.

    القلق العام الذي يسود شرائح واسعة من السوريين حول المستقبل والتخوف من عودة الاستبداد لحياتهم وإن كان بصفات جديدة أمر طبيعي، فنظام القمع ذهب بلا عودة، ولن يأتي أبداً أسوأ منه فهو الأسوأ بالتاريخ، وهذا منتج إيجابي آخر لكن يشوبه التخوف والقلق ولن تتضح معالمه السياسية إلا ما بعد أول آذار.

    مرحلة اللا دولة وجهد الحكومة المؤقتة بالسعي لتلبية الخدمات العامة يصطدم بحواجز أهمها: ضعف الموارد العامة ما يجعل التحسن في الخدمات طفيفاً جداً، وغياب لجهازي الأمن العام المتمثل بالشرطة والمؤسسة العسكرية، مع انتشار واسع للحالة الفصائلية التي كانت قوام العملية الأساسية التي حررت المدن السورية من نظام العصابة الحاكم. وهذه المؤشرات بجماعها لليوم تعتبر سيئة وتحتاج إلى عمل دؤوب وحثيث لملء هذا الفراغ الحاصل تقنياً ومادياً من حيث العتاد والأفراد، وذهنياً ونفسياً من حيث بناء القدرات المحلية وتهيئتها للعمل وفق قواعد وأنظمة القانون المعروف عرفاً بكونه قوانين دولة قبل أن تتشكل الدولة بذاتها وهنا يبدو التحدي الأكبر.

    الخلاف على مستويات المرحلة الانتقالية سواء من حيث صفات الدولة أو دستورها هو خلاف طبيعي لكنه يعتبر استباقاً مرحلياً يؤجج فوضى الأفكار والمشاريع، والأكثر حيوية وأهمية للمستقبل القريب هو ضرورة السعي باتجاه إقامة التفاهمات الذاتية المحلية حول هذه المرحلة وفق عناوين واضحة هي:

الحكومة الانتقالية المصغرة أو هيئة الحكم الانتقالي، اللجنة التأسيسية المنتخبة لصياغة الدستور، هيئة قضائية مستقلة لتحقيق العدالة الانتقالية. وهذه المؤسسات الثلاث هي ما يجب أن تكون محور العناوين السورية في الفترة الحالية سواء من حيث الصلاحيات والمدة الزمنية وآليات التمثيل والتشكيل.

الخلاف المستعصي لليوم، والذي تقوم حوله السجالات والخلافات، وتتشكل خلفه المحاور والاستعصاءات، هو الدولة وإعطاؤها صفاتها الجسمية والقانونية والدستورية والسلطوية، قبل أن تتحقق الدولة ذاتها، كمن يكسي شقته قبل أن يبني هيكلها الأولي ويمتن أساساتها. فبدل أن تتفق الأطر المحلية السورية على الأسس الأولى للمرحلة الحالية وضعياً بعيداً عن المخاض الثوري، بدأ الخلاف مبكراً على صفات الدولة. والنتيجة اليوم، وعلى الرغم من عديد المحاولات البحثية والإنقاذية لتفادي هذه الفوضى إلا أنها تصطدم بفجوة واسعة من مرحلة اللا دولة والتي يمكن أن تستوعب أي صفة لها لكن لا يمكنها أن تستنفذها. وبالضرورة تبدو مرحلة الوصول للتعاقد الوطني العام ستمر بمرحلة من التجاذبات والحوارات الواسعة حتى تكتسي الدولة شكلها وجسمها وهذا قد يأخذ وقته النسبي. ومع هذا أعتقد أنه ثمة أسس عريضة يمكن أن تؤسس لنواة هذه الدولة وتعتبر توافقية وثورية وعصرية بالوقت ذاته ولا تستنفذ سواها، ويمكن اعتمادها حجر أساس للدولة المنشودة هي:

    القانون الوضعي هو تعاقد البشر الرضائي على طريقة إدارة أمور حياتهم المادية والسياسية والاقتصادية بين حدي عدم الاعتداء الشخصي أو العام، دون ميزة لجهة سياسية أو دينية على الآخرين.

    حق الإنسان الفرد وكل إنسان (رجل امرأة طفل) أيا كان انتمائه الديني أو السياسي المدني أو الأهلي بصفاته الجنسية والشخصية بالحياة الحرة الكريمة، وضمان فرص العمل المتكافئة والعلم والصحة.

    حق التعبير عن الرأي وتشكيل الجمعيات والأحزاب والمؤسسات المدنية والسياسية، وحق تمثيلها الانتخابي وإقامة تحالفاتها السياسية ضمن القانون الوضعي.

وهذه الثلاث تحديداً هي جذر مفهوم الدولة بلا صفات أو نكهات، حيث مثلث: الشعب والمؤسسات ضمن حيز جغرافي يُضاف لها الإرادة الشعبية، أو هويتها الذاتية وشخصيتها العمومية، والتي تقر بوجود الجميع بأفكارهم ومعتقداتهم جميعاً مهما اختلفوا فيما بينهم، لكنهم ملتزمون ببناء دولة غير مرتهنة لا للعسكر ولا للدين ولا مشاريع استثمارية خارجية، ولا تتعارض مع الديني ولا العلماني ولا غيره من الأيديولوجيا، وهذا رهن بالمستقبل القريب. 

————————

سوريا بين سنوات الأمل وسنوات اليأس/ مالك داغستاني

2025.01.09

منذ عام 2011 وحتى تحرير دمشق نهاية العام المنصرم، تجرَّع السوريون، وهم يتابعون حلمهم بالانعتاق، الأثمان وإن على دفعات، وكلما ازدادت عليهم جرعة النيران، خصوصاً في السنوات الأولى، كانوا يواجهونها بعزيمة وصلابة، لم يعرف النظام ولم يكن في حسبانه، أن السوريين مازالوا يمتلكونها بعد عقود من التيئيس المبرمج لهم ولأحلامهم بأي تغيير.

عقودُ جعلت معظم السوريين يعتبرون حكم الأسد جزءاً طبيعياً من قدرهم، مع ضخٍّ إعلاميٍ امتد لأربعة عقود يعتبر فكرة “الأسد للأبد” واحدة من المسلمات.

بعد انطلاق الثورة، لم يدَّخر بشار الأسد ومجرموه أي جهد ليقنع السوريين، ثواراً وموالين، أن الثورة عليه هي المدخل إلى جحيمٍ سوريٍ لن يُنتِجَ أي أمل.. قَتَلَ المتظاهرين السلميين بالرصاص وتحت التعذيب، أطلقَ حُراس جهنمه ليرتكبوا جرائمهم برعايته، دمَّر المدن والقرى، ورماها بكل الأسلحة الجحيمية المتوفرة في ترسانته وترسانات حلفائه، كل ذلك مترافقاً مع أفق عالمي مفتوح ومُشرع على انعدام الأمل بأية مساعدة، وسط عجز دولي غير مسبوق عن إيقاف المجزرة المستمرة.

خرج السوريون إلى الشارع وصرخوا بمواجهة الأسد، تلقّوا رصاصَهُ وتابعوا صرخاتهم، بعد أن عاشوا وتذوقوا طعم الحرية التي لم يعرفوها يوماً، واجتاحتهم الآمال أنهم لا بدَّ واصلون إليها.

كبرت الأثمان، ولم ينكسر أملهم، وراحوا كل يوم، وهم ينزفون دمهم، يدارون حلمهم من الانطفاء، خسروا كل شيء، ولم يعد هناك ما يدفعهم إلا هذا الأمل، الذي يحكم كل حركتهم في الطريق إلى حريتهم، ويقيناً لو واجه أي مجتمع آخر ما واجهه السوريون فعلى الأرجح أنه كان سيتراجع أمام فداحة الخسائر وخاصة البشرية.

عندما تعود الذاكرة إلى البدايات، ستلتقط ومضات تراجيدية تنتمي إلى ما هو غير قابل للتصديق، يُدمَّر البيت فتردُّ امرأة سورية: “لا بأس سوف نبني أفضل منه”، يُعتقل الابن في سجون الأسد، التي قد لا يخرج منها حيّاً، فيجيب أبٌ سوري: “حسناً، إنه ليس أغلى من بقية الشباب السوريين”، يسقط الضحايا بالعشرات يومياً ويردد السوريون: “إنهم شهداؤنا، وهم في الجنّة”، هكذا بقي السوريون قيد الأمل خلال الأعوام الأولى للثورة، والمواجهة مع نظامٍ مُنفلت من أي عقل أو أخلاق.

بعدها فعل الزمن ما يمكن أن يفعله بأي شعب خسر كل شيء، وسُدَّت في وجهه أية نافذة للأمل، سيطر على معظمنا اليأس، خصوصاً بعد استعادة الأسد معظم المناطق المحررة، بدعم من الحليفين الإيراني والروسي، ما أوحى بالتواطؤ الدولي لتسليم الملف السوري إلى روسيا، خفتت أصوات من هم في مناطق النظام، وغابت كثير من الأصوات في الخارج، وبدا أن دور الأجسام السياسية المعارضة يقتصر على تمرير الوقت، من دون أية فاعلية منتجة.

عندما بدأت معركة “ردع العدوان”، مثل أيّ سوري اختبر المناوشات بين الفصائل العسكرية المعارضة وقوات الأسد، انتابني الخوف، كل الأمثلة السابقة كانت تفيد بأن معركة محدودة ستُفتح، ربما لمصلحة طرف خارجي، وسيدفع المدنيون السوريون الثمن قصفاً بالطائرات الروسية وبراميل الأسد، ثم يعود الأمر إلى ما كان عليه مع مئات الضحايا، من دون أي توظيف سياسي يصبُّ في مصلحة مستقبل السوريين.

وثانيةً، مثل أي سوريّ اكتشفت عند وصول قوات المعارضة إلى أبواب مدينة حلب، أن المعركة ليست نسخة من سيناريوهات، لطالما تكررت وكانت مخزية في نتائجها، مع المتابعة إلى حماة بدا الأمر وكأن الغطاء الدولي الذي كان يحمي بقاء الأسد قد تم رفعه، بالطبع هذا لم يكن ليحدث لولا أن هناك تطمينا لصُنّاع القرار الدولي، أن هيئة تحرير الشام الذي ستطيح بالأسد، ليست هي ذاتها التي عرفها العالم قبل سنوات، وبالتأكيد أنها لن تقيم الدولة الإسلامية المنغلقة والمتطرفة، التي يخشى العالم قيامها، وكان هذا بالغ الوضوح بعد تحرير حلب، حيث تعاملت قوات المعارضة بمعايير تشي بهذا التغيّر الانقلابي.

مع ملاحظة بعض الانتهاكات المُدانة بالتأكيد، بدا أن السوريين يعودون إلى التمسك بأهداف وسلوكيات الثورة السلمية الأولى، حتى في حالة (المدافعين) عن تلك الانتهاكات، فإن دفاعهم تبريري ويستبطن إدانةً لها، حين يفسرها هؤلاء بأنها ردات فعل طبيعية على جرائم النظام وشبيحته.

وهذا يعني فيما يعنيه، أن هؤلاء يقيِّمون هذا السلوك باعتباره سلوكاً غير أخلاقي، ومع ذلك يعتبرونه مُفَسراً في سياقه كردة فعل، طبعاً ما سبق لا يجب أن يدعنا ننام مطمئنين لقناعة ساذجة أن الأمور بخير، بل على العكس، يجب أن يدفع الجميع للعمل على تصويب ما يرونه مُشوِّها لسوريا التي يريدون.

إن أخطر ما سيواجه المجتمع السوري اليوم، هو الاستسلام لإرث وثقافة النظام، المبنية على التجاوز والارتكاب ومن ثم الإفلات من العقاب، بذريعة حصانةٍ ما، فالتحدي الأكبر هو بناء ثقافة عدالة جديدة تكون جديرة باسمها، ولا تقوم على أية حالة انحياز لا على أساس سياسي ولا ديني، ولا على أي اعتبار مشابه آخر.

شخصياً، ما يبشّرني بأننا مقدمون على عصر سوريّ جديد ومختلف كلّياً، أنني من خلال متابعتي للمحطات الفضائية، أجد عشرات الفرق الإعلامية التلفزيونية والصحفية العربية والعالمية مقيمة في دمشق! سابقة لم تحدث منذ ستة عقود، وربما لم تحدث بهذا الحجم في كامل تاريخ سوريا، سوريا التي كانت مسوّرة بسياج فولاذي بمواجهة الإعلام الدولي، ومنغلقة في إعلامها الداخلي باتت مفتوحة اليوم على الحريات، والإعلاميون والمحللون يتحدثون بوجهات نظرهم، حتى بمواجهة الحكام الجدد، ومن داخل دمشق! ليبدو الأمر وكأن المعجزة السورية تتحقق.

وما يزيد من استبشاري، الإعلان المتكرر من السلطات اليوم بأن سوريا سوف تكون لكل السوريين من دون استثناء، وهو ما يكذِّب ويجوِّف الرواية التي حرص الأسد على ترسيخها حين كان يطرح أمام الرأي العام الداخلي والخارجي ثنائياته للمقارنة.

أنا أو الفلتان الأمني والحرب الأهلية والنزاع الطائفي.. أنا أو المجموعات الإرهابية والتكفيرية (القاعدة) التي ستحكم سوريا.

لاحظوا أن الأسد كان مستسلماً لحقيقة أنه نظام سيئ، ما اضطره في كل مرّة إلى المقارنة مع نموذج أسوأ، أما اليوم فأمام سوريا الفرصة الأولى لتقرّر بأنها لن تكون فقط في حال أفضل من حالها إبان حكم الأسد، فتلك مقارنة لا تليق مع نظام هو الأسوأ في العالم.. اليوم الأفق مفتوح لتقديم نموذج يجعل السوريين جميعاً فخورين ببلدهم، حتى لو اختلفوا مع السلطات الجديدة.

————————

سفاح دمشق الساكن فينا!/ سامر القرنشاوي

10.01.2025

تخبرنا دراسة  الفلسفة أن التفكير الحقيقي هو الشك، فهل نشرع في التفكير يوماً؟ هل نسائل وننقد ونحاسِب ونُحاسَب؟ هل يمكننا قبول أنفسنا وغيرنا أفراداً أحراراً؟ لست متفائلاً، لكن في سوريا وغير سوريا لا مهرب من هذه الأسئلة، وإن لم يكن اليوم فغداً.

لا!  لا آل الأسد ولا بشاعاتهم سقطوا من السماء، ولا الثقافة  السياسية التي حملتهم محصورةٌ بسوريا. أما وقد مر شهر بعد بحر الدم الذي خاضه السوريون، مهم أن نذكُر  ونذكّر  بأن القضاء على حكم طاغية ليس إلا بداية حرب أصعب على أفكارٍ ومفاهيم أوردتنا المهالك لعشرات السنين، صراعٌ يستلزم مساءلةً تذهب أبعدُ من حاكمٍ أو نظامٍ أو عقيدة أو بلدٍ بعينه.

لنبدأ من الواقعية السياسية المحضة (realpolitik). قبل سقوط بشار الأسد كان هناك سعيٌ عربيٌ رسمي الى “إعادة تأهيله”، أساسه أنه قد “انتصر”. مفهومٌ أن هذا التوجه حرّكه خوفٌ من الإسلام السياسي، وسعْيّ الى اجتذاب سفاح دمشق بعيداً من الجمهورية الإسلامية. لكن غير المفهوم كيف اعتُبرت سلطةٌ كهذه “منتصرة”، ناهيك بأن تكون (بتعابير علوم البيئة) “قابلة للاستدامة” (sustainable)؟ تخطى عدد قتلى الحرب الأهلية في سوريا الستمائة ألف في بعض التقديرات، ناهيك بالجرحى، أما المهجرون، داخل البلاد وخارجها، فتُقارب أعدادهم ثلثي السوريين  (حوالى 14 مليوناً). ليس هناك من شكٍ في أن النسبةَ الكبرى من المسفوك دمهم قُتلوا بأوامر من منظومة حكم آل الأسد، ناهيك بفظاعات التعذيب والتمثيل بالجثث والمقابر الجماعية. لكن حتى ضحايا الجماعات المسلحة المعارضة للنظام، الرئيس الهارب مسؤولٌ عن أرواحهم. المتظاهرون في الشهور الأولى لم يحملوا سلاحاً لكن استقبلهم الرصاص. توظيف الطائفية شكّل سياسة النظام قبل أيٍّ من معارضيه. فكانت النتيجة رد فعل عنيف على البطش وصولاً إلى فوضى مسلحة (ما زالت تتهدد سوريا). إن لم يكن تدميراً متعمداً له،  أليس هذا فشلاً ذريعاً في الحفاظ على السلم الأهلي؟  وأي موت وجوع وأطلال تلك التي تؤشرُ إلى “نصرٍ” استدعى “إعادة تأهيل”؟ كيف يُعد “منتصراً” من انحدر ببلاده إلى “دولة-مخدرات” (Narco-state)؟  علماً أننا لم نذكر أن مساحاتٍ شاسعة من البلاد لم تكن، لسنواتٍ سبقت فرار الأسد الابن، تحت سيطرته. ألا يؤشر ذلك كله إلى أن النظام كان يعاني أزمةً وجودية؟ حتى إن لم يتوقع أحد تبخره في أحد عشر يوماً؟

مساعي إعادة التأهيل هذه، وقبلها دعم إيران وروسيا، جمعها تجاهلٌ لأدنى ضرورات السياسة: “شعرة معاوية”؛  احتياج أي سلطة الى رغبة قطاع واسعٍ فاعلٍ من المحكومين في استمرار وجودها. لكن كيفما عرّفناها، الشرعية افتقدها حكم بشار الأسد، السوريون في غالبيتهم كانوا قطعاً ضده، بل لولا تدخل الداعمين الأجانب لسقط قبل عقدٍ أو أكثر. وراء الغفلة عن دور المحكوم هنا، عن حقيقة أن هذه علاقة ذات طرفين، افتراض ثبت خطأه المرة تلو المرة: قدرة الحلول الأمنية منفردةً على تحقيق “الاستقرار”، بينما في الحقيقة أقصى ما يوفره ارتهان الحكم بالحل الأمني (أو القمع إن شئنا الدقة) هو تأجيل الانفجار و(من ثم) مفاقمة احتمالات التشظّي، فالعنف هنا لا ينتج عنفاً مضاداً فحسب، بل يخنق السياسة، ومن ثم يضعفُ القدرة َعلى اجتراح الحلول الوسط، ويحّجم، إن لم يلغِ، إمكانية التعايش مع المختلف. لكن ماذا يتوقعُ من الحبيس إذا كان السجان من صنف آل الأسد؟ طبيعي أن تخشى أي نخبة  الفوضى التي تهدد بها أي ثورة، لكن مُعيب من يعتقد أن القبضة الحديدية تغني عن الشرعية أو أن الإلغاء المطلق لاحتمال الثورة ممكن.

العمى عن غياب الاستدامة عن النظام البعثي الساقط لا يقف عند صانع قرار، بل هو تعبيرٌ عن منطق يجمع جمهوراً واسعاً في منطقتنا، عربيٌ وغير عربي.  والمُبرر الأوسع قبولاً (خارج سوريا)؟ “عدو عدوي  صديقي”، إذ إن العدو (طبعاً) إسرائيل. على سذاجة هذا المنطق، في هذه الحالة بالذات، لم يكن واضحاً أي نوعٍ من العداء لـ”الكيان الصهيوني”، هذا القائم بين حُكمٍ لم يطُلق رصاصةً في الجولان المُحتل منذ خمسين عاماً، فيما كانت الطائرات الإسرائيلية تمرح في سمائه من دون مقاومةٍ تُذكر.

صحيح، احتفظ النظام دوماً بـ”رطانة” المقاومة التي استندت إلى موقفين “مبدئيين” لهما شعبية واسعة: لا اعتراف بإسرائيل، و لا مقاومة إلا بالسلاح. لكن الأسد الأب تفاوض مع الإسرائيليين ولم يكن بعيداً من اتفاق معهم، تحديداً في النصف الأول من التسعينات، وعادت احتمالات اتفاق إسرائيل مع الأسد الابن مطلع العقد الماضي قبل أن ينحدر المشهد السوري نحو الحرب الأهلية.

أما اقتصار” المقاومة” على العنف التي ادعى النظام الساقط نفسه حلقة أساس في “محورها” فوراءه الكثير. آخر مواجهة كانت فوق البقاع اللبناني عام 1982 حيث فقدت سوريا في نهارٍ واحد تسعين طائرة مقاتلة (من أصل مئة وسبعين) من دون خسارةٍ إسرائيلية واحدة، علماً أن حافظ الأسد، من حيث التخصص العسكري، كان  طياراً.

بعد هذه الهزيمة (الثالثة للأسد بعد 1967، إذ كان آنذاك وزيراً للدفاع وقائداً للطيران و1973 وكان وقتها رئيساً)، أو على الرغم منها، كسب حكم “الأسدين”  الكثير من “المقاومة” عبر عقود عمره الخمسة، سهل وحرّك فيها حروباً خاضها آخرون وتكبدوا هم أثمانها، دماً ومالاً، بينما “جبهة” الجولان هي الهدوء بعينه.  أما مع الفلسطينيين، فتاريخ الأسدين معروف بما في ذلك إشعال حرب المخيمات في لبنان والصراع الممتد مع ياسر عرفات للسيطرة على القرار الفلسطيني وصولاً، خلال الثورة السورية وحربها الأهلية، الى حصار مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين بدمشق، حتى موت العشرات من سكانه جوعاً. هذه “مقاومة” آل الأسد باختصارٍ شديد.

لكن محورية “المقاومة”، إلى حد التعمية على الواقع بمجرد استدعاء اسمها، تشارك فيه أطرافٌ متناقضة يوحّدها منظورٌ محوره الجماعة،  لا قيمةَ فيه للفرد. تتشارك في هذا “قومياتنا” المختلفة؛ مثلاً لا حصراً؛ يجتمع “البعثان” العراقي والسوري، والناصريون الذين خسر “زعيمهم الخالد” كل حروبه، مع الإسلام السياسي السني والشيعي على حدّ سواء (بما في ذلك حماس في فلسطين وحزب الله في لبنان، وغيره من أتباع الولي الفقيه عبر المنطقة). يتفق هؤلاء وغيرهم في تقديس الجماعة التي ينتسبون إليها. من جهة، القداسة تنسحب على معارك الجماعة، وبداهةً، ما من مسعىً أكثر عدالةً من الصراع مع إسرائيل، ومن جهة أخرى تلفّ الرمزية قيادة الجماعة ومقاومتها، فيُلغى الأفراد ليبقى القائدُ فرداً أوحد يذوب فيه الآخرون. من ثمّ فعالية قداسة الجماعة ووحدتها في خدمة الطغيان لا تحتاج إشارة، كما عجزها المتكرر عادة (كما يخبرنا التاريخ) عن تحقيق شيء إلا الهزيمة أو النصر المحدود كحدٍّ أقصى. لكن، لأن المعركة عادلة، والجماعة مُنزهة، فمساءلة طبيعة الفعل والتوجه مرفوضة والنصر (افتراضاً) محتوم، حتى يصل الأمر إلى تأليه القادة وإنكار الهزائم بالكلية مهما كانت صارخة، بل وادعائها انتصارات (مثلاً لا حصراً: تصريحات أمين عام حزب الله الشيخ نعيم قاسم عن حرب حزبه الأخيرة مع  إسرائيل، وسبقه في هذا خالد مشعل متحدثاً عن “نصر” حماس في غزة، ومثلهم كثر عبر عشرات السنين).

ولأن وحدة الجماعة معبودة تتنزل قداستها على كل ما يُفعل تحت رايتها، تُقلب المعايير وتُستَرخص الأرواح. مثلاً لا حصراً، باسم محور المقاومة، برر أمين عام حزب الله الراحل حسن نصرالله موقفه المعادي للانتفاضة على الأسد، ثم أضاف الى ذلك دعوى الدفاع عن مراقد آل البيت في سوريا تحت شعار: “لن نترك زينب تُسبى مرتين”. لم يرَ لا “السيد” نصرالله، ولا إمامه الولي الفقيه “السيد” الخامنئي تناقضاً بين الربط بين الدفاع عن نظام آل الأسد والدفاع عن مرقد حفيدة الرسول وأخت الإمام الحسين الذي يحتفل الشيعة كل عام باستشهاده في معركة غير متكافئة ضد حاكم ظالم، تبعها إذلال آل بيت الرسول (من ثم “سبي (السيدة) زينب”). وكأنما قررت الجمهورية الإسلامية أن على أتباع الحسين أن يقدموا أرواحهم فداءً لـ”يزيدٍ” من عصرهم. هذا المنطق المعكوس بررته قداسة المقاومة و”جماعتها”، وخدمه الخوف من الجهادية السلفية، التي تهدد أي مرقد أو مزار. صحيح، كانت للجمهورية الإسلامية مصلحة في حكم في دمشقٍ يتعاون معها، لكن، هل كان بشار الأسد وطبيعة نظامه هما الخيار الوحيد؟ لكن ربما في سجل الجمهورية الإسلامية في قمع مواطنيها بعضُ التفسير.

ذكرى القمع البشع الذي مارسه البعثي صدام حسين بحق معارضيه عموماً، وبحق الأكراد والتنظيمات السياسية الشيعية خصوصاً، حاضرة بقوة. رغم ذلك، ساند الولي الفقيه طاغيةً بعثياً آخر في دمشق وقدم حزب الله الأرواح دفاعاً عنه، لكن المعايير المزدوجة لا تقف هنا. مثلاً: معروفٌ مدى حنق أتباع حسن البنا على حكم البعث السوري وعلى عبد الناصر في مصر قبله، لكن كثراً منهم كالوا المديح والثناء لـ”الشهيد” صدام حسين. ما فعله جزار بغداد بمن رأى فيهم معارضين، والظلم الدموي الفاجر الذي ميز أفعاله لا وزن له في عين هؤلاء، ومثلما لم تهزّ لهؤلاء شعرة أن صدام في “عملية الأنفال” وحدها (1986-1988) قتل ما يقارب ثلاثمائة ألف كردي، لا شك في أن الغالبية الكاسحة منهم من العُزّل. كذلك لم يُسمع منهم اعتراضٌ يذكر على ما ارتكب عمر البشير الذي دعموه في السودان، هو و”جنجويده”، بأهل دارفور من مذابح واغتصاب وتنكيل (“قوات الدعم السريع” التي نسمع ببشاعتها اليوم، امتداد للجنجاويد). 

في ثقافة سياسية تبقى مُغرقة في الشعبوية والفاشية، لا معيار أخلاقي هنا، فهذا يستلزم المقياس الواحد، لكن تقديس الجماعة يعني تجزئة الأخلاق، التي يتوقف تطبيقها عند حدود “جماعتي”، حيث ما ومن عداها خطأ مطلق. لذلك ينتقل الحكم الأخلاقي من الفعل، أياً كانت بشاعته، إلى هوية الفاعل والضحية. فمرتكب الجرم مهما كبر، طالما هو “منا” فهو على صواب، وطالما “العدو” ضدنا وغيرنا فلا خطأ في ما يُفعل ضده. وكأنما لسان الحال يقول “نحن لا نخطئ”.  الشر حكماً من الخارج، إلى الحد الذي، مثلما نعمى عن الهزائم الصارخة نصل إلى عمىً عن الواقع.

الصهيونية مشروع استعماري إحلالي مجرم. لكن هل “الكيان” هو  الأكثر أذىً لأهل هذه المنطقة؟ عدد من قتلت إسرائيل في كل الحروب العربية معها (بما في ذلك الخمسة عشر شهراً السود الأخيرة) أقل من مائتي ألف، وإن أضفنا كل من تسببت إسرائيل بمقتله بشكل غير مباشر، فلن يتخطى الرقم الأربعمئة ألف، ومن هجرتهم، عبر مذابح ممنهجة هدفت الى التطهير العرقي، لا يتخطى المليون  (بما في ذلك التطهير العرقي الممنهج الجاري الآن في شمال غزة). أقل تقدير لقتلى الحرب العراقية – الإيرانية يتخطى الخمسمائة ألف. شن جزار بغداد هذه الحرب وحينما انقلب الأمر عليه وسعى الى إنهاء الحرب، رفض الخميني كل محاولات الصلح لست سنوات كاملة، فأزهقت مئات الآلاف من الأرواح بلا مكسبٍ لأي من الطرفين، ناهيك بالتكلفة الاقتصادية الهائلة. هذا علماً أننا لم نذكر غزو الكويت وما جره، ولا أفضنا في تفاصيل قمع الشيعة البشع الذي تلاه، ولم نذكر إلا جانباً واحداً من مذابح صدام حسين بحق الأكراد (وغير ذلك كثير).

في السودان، قتل نظام عمر البشير وعصاباته من الجنجويد، من أهل دارفور أكثر من ثلاثمائة  ألف، وتسببوا في تهجير أكثر من مليون ونصف المليون. أما جرائم آل الأسد فحدّث و لا حرج.  فمن أخطر عليك قائد “من أهلك” يفعل بك هذا، أم عدو لا تتوقع منه غير ذلك؟ لكن طالما لا عدواً إلا إسرائيل، أو “الأغيار” (حسب الرطانة البعثية)، ولا شراً يصدر من عندنا، يصبح، مثلاً لا حصراً، دعم الأسد مبرراً من أجل “المقاومة”. علما أننا لم نشر الى مسؤولية من قادونا الى الهزيمة تلو الهزيمة، أو ادّعوا هزائمهم انتصارات أو ضخّموا ما حققوا، ولا الفساد الأسطوري هنا وهناك. فعلى العكس من الإسرائيليين (وهم المنتصرون عادة)، قلما يحاسب صانع قرار في بلادنا (وكيف يحاسُب “الرمز” الذي يختصر في نفسه جوهر الجماعة وقداستها؟).

هذا (اللا)منطق يبقى السائد بيننا، وإلا فلِمَ ترَ صوراً لصدام حسين على سياراتٍ في مدن عربية؟ و لمَ تصر غالبية معتبرة أن ما فعلته “المقاومة” في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 كان صواباً لا يساءَل وإن مُحيت غزة من على وجه الأرض؟ وكأنما إدانة إجرام إسرائيل المتوحش تناقض مساءلة “المقاومة” (حماس في هذه الحالة) على قراراتها، أو أن كل ما يسمى “مقاومة” لا يُحاسب؟   ولِمَ تُصر دولةُ الولي الفقيه على تجاهل كل جرائم حليفها الساقط وصولاً إلى الدعوة المبطنة لحربٍ أهلية جديدة في سورية؟ ويهدد، نجم الإسلام السياسي السني، إردوغان، فصيلاً من أكراد سوريا بالدفن إن لم يسلم سلاحه؟ وكأنما قرن من العنف ضد الأكراد، هو عمر الجمهورية التركية، حقق شيئاً سوى الفشل؟ أي قدر هائل من اليقين التام بالصواب والعجز المطلق عن نقد الذات والاستخفاف بحيوات الأفراد يجمع كل هذه المواقف؟

يشارك من سعوا الى إعادة تأهيل حكم سفاح دمشق الساقط مع إردوغان الذي لعب دوراً رئيسياً في إسقاطه، في الدفاع المستميت عن حدود الدول القائمة، وعن وحدة كياناتها، اللهم طبعاً إلا إذا كان التغيير لصالح “قومهم” و”قوميتهم” (كما نرى من أصواتٍ تصدر من أقصى اليمين التركي تطالب بضم حلب)،   تُفرض هنا هوُياتٍ وتُسحق أخرى، كما رأينا مراراً عبر عشرات السنين، وتغّيب بديهياتٌ أساس: أن كل وحدة مفروضة بالحديد والنار فُرقةٌ مؤجلة، وأن الوحدة قد تتعدد صيغها سياسياً بما يحترم التنوع كما نرى في نماذج مختلفةٍ حول العالم، وأن الدولة ليست هدفاً في حد ذاته، بل هي أداة لحيوات أفضل لمواطنيها. فإن فشلت في ذلك انتفى سبب وجودها، ناهيك بفرض “وحدتها” بالقوة، وأنه لا كرامة لجماعة الفردٌ فيها ذليل. لكن في ظل فاشياتٍ من ألوان مختلفة، ما بين عرقيةٍ، ودينية وقومية أو خليطٌ من هذا وذاك، لا فرد ولا فردية، ومن ثَم حُكماً لا مواطنة، (ولا وطناً إلا بالمواطنة)، فالحق كل الحق للجماعة، والجماعة في معركة، وكما قيل لنا دوماً لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وكوننا نخسر معاركنا عادةً، أمر يحَرّم ذكره ناهيك بالتفكير فيه.

تخبرنا دراسة  الفلسفة أن التفكير الحقيقي هو الشك، فهل نشرع في التفكير يوماً؟ هل نسائل وننقد ونحاسِب ونُحاسَب؟ هل يمكننا قبول أنفسنا وغيرنا أفراداً أحراراً؟ لست متفائلاً، لكن في سوريا وغير سوريا لا مهرب من هذه الأسئلة، وإن لم يكن اليوم فغداً.

درج

—————————

سقوط النظام في سوريا ولبنان: فرصة الخروج من المستنقع ومسار النهوض/ رائد بو حمدان

10.01.2025

لا شك في أن التطورات الإقليمية والدولية منذ 7 تشرين الأول، وصولاً الى سقوط النظام في سوريا وتحجيم الدور الإيراني في المنطقة، خلقت فرصة تاريخية أمام لبنان للخروج من مستنقع المزارع الطائفية الفاشلة باتجاه الدولة المدنية التعددية العادلة.

لم يحكم نظام الأسد سوريا فقط، بل كان حاكماً في لبنان أيضاً، من الأدوار المحورية ما قبل الحرب الأهلية اللبنانية في ستينات القرن الماضي مروراً بمحطات الحرب الأساسية ومسارها ومعاركها ونهايتها دخولاً بمرحلة وصايا كاملة بعد الطائف ووصولاً الى مرحلة الحكم بالوكالة عبر الحليف حزب الله منذ الخروج العسكري و”شكراً سوريا” في 2005 حتى السقوط.

شهدت تلك العقود الخمسة تغلغل البعث في السياسة اللبنانية، فكراً وممارسة، إذ تخطت العلاقات النظام السوري بالسياسة اللبنانية مستويات التعاون والتنسيق والتحالف وحتى شعار “وحدة المسار والمصير”، فكان آل الأسد (الأب ثم الإبن) الحكام الفعليين للبنان عسكرياً وأمنياً ومخابراتياً وإعلامياً وسياسياً، وكان البعث يشكل نهجاً وعقلية مكرسة في الأحزاب كافة حتى تلك التي اصطدمت معه في بعض المحطات، بالإضافة الى دوره في تثبيت منظومة العائلات والكارتيلات المتحكمة بالسلطة في لبنان وفي ضبط علاقاتها في ما بين مكوناتها ومع الخارج، إذ أوجدت سطوة البعث حضورَ ودورَ عدد كبير جداً من الأحزاب والزعامات والشخصيات التي استمدت قوتها من دعم الأسد ومحيطه، ومكّنتها علاقتها بضباط النظام السوري من دخول السلطة واحتكارها وتوريثها، فصممت “قبضة الأسد-الحزب” خلال 50 سنة قوانين انتخابية، وشكلت وزارات وعينت رئاسات ووزعت وحددت مقاعد نيابية ووزارات وحصصاً في المراكز الأمنية الأساسية والإدارية والقضائية والمصرفية وحتى الاحتكارات والمنافع الاقتصادية.

هذا الارتباط والتأثير العميق وهذه البنية المتشابكة لمنظومة المصالح التي رعاها نظام الأسد في لبنان وحماها، لا يمكن إلا أن تسقط بسقوطه. وإذا كان ممكناً أن تعزل المنظومة الحاكمة في لبنان نفسها عن تأثيرات سقوط النظام في سوريا لو حدث ذلك في 2011 أو 2012، لكن اليوم، سقوط بشار ترافق مع سقوط إيران ومعها حزب الله في سوريا، بعد أيام من اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان الذي أعلن نهاية متوازية لسطوة الحزب على القرار اللبناني بفعل نتائج الحرب الإسرائيلية، وليس لأن إسرائيل تريد ذلك، بل لأن نظريات الحزب عن الردع والقوة والمقاومة سقطت ولم تعد تقنع أياً من اللبنانيين، في البيئة وكل البيئات… تداعيات ذلك كله بعد 5 سنوات من الأزمات والانفجارات والانهيارات المالية والسياسية والاجتماعية وتصدّؤ الانتظام السياسي وتحلل الدولة، لا يمكن أن تُشخَّص على أنها أقل من سقوط للنظام.

بناءً عليه، يحاول بعض السياسيين اللبنانيين “من المتحاذقين”، تدارك ارتدادات السقوط الثلاثي (الأسد وإيران والحزب) في لبنان وتحويله الى انتصار داخلي – لم يشاركوا في صناعته – لفريق على فريق آخر وإعادة تدوير أركان النظام والحد من تداعياته على المشهد في لبنان من خلال بعض التقلبات والبهلوانيات الساذجة التي تعكس حالة إنكار حجم السقوط وتأثيراته على المستقبل، كأننا ما زلنا في 6 تشرين الأول/ أكتوبر 2023.

الفرصة للخروج من المستقنع

مع هذا السقوط، يقف لبنان اليوم على أبواب 1990، وللمفارقة التاريخية يقف، في لحظة مشابهة مع سوريا هذه المرة، أمام فرصة لإنهاء حربه الأهلية التي لم تلتئم جراحها حتى الآن “عن قصد”، وبتواطؤ أحزابه الحاكمة والمتحكمة التي تحولت من كونها ميليشيات طائفية وزعامات حرب وقادة محاور بالزي العسكري ولبست بدلات السياسة وتقاسمت الحكم في الوزارات والبرلمانات والإدارات الرسمية، بإدارة الحاكم الفعلي يومها نظام الأسد، ومباركة الرعاة الإقليميين والدوليين.

الفرصة أمام اللبنانيين لبناء الدولة التي لطالما حلموا بها. لكن شرط العبور إليها بنجاح هو أولاً فهم المعطيات والتعقيدات الإقليمية والدولية التي لا يمكن تجاوزها، بل يجب تثميرها لصالح مشروع بناء الدولة، وثانياً عدم تكرار تجربة تسوية الطائف بالقفز فوق المعالجات الضرورية للبنية الاجتماعية والسياسية ومقاربة جذور المسألة اللبنانية وهواجس اللبنانيين الحقيقية، أفراداً وجماعات، بما فيها الهواجس الهوياتية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وتفكيك الألغام التي إن لم نفككها اليوم، ستنفجر بالمجتمع اللبناني لاحقاً.

لا شك في أن التطورات الإقليمية والدولية منذ 7 تشرين الأول، وصولاً الى سقوط النظام في سوريا وتحجيم الدور الإيراني في المنطقة، خلقت فرصة تاريخية أمام لبنان للخروج من مستنقع المزارع الطائفية الفاشلة باتجاه الدولة المدنية التعددية العادلة.

هذه الفرصة موجودة بقوة، وهناك قناعة واسعة لدى غالبية اللبنانيين بالتقاطها لبناء الدولة المنشودة العادلة السيدة والقوية القادرة على حماية جميع أبنائها وثرواتها وأرضها وجوّها وبحرها، دولة الشرعية الكاملة من الناس، بعد ثبوت فشل كل أنواع الشرعيات الأخرى، من شرعية الأنظمة الشقيقة الى شرعية المقاومة والسلاح وشرعية المحاور الإقليمية والدولية الى شرعية المحاصصة الطائفية.

فالمطلوب اليوم هو توقّف اللبنانيين عن الإنكار والمكابرة وتواضع الجميع والاعتراف بسقوط الهيكل اللبناني، حيث تتشكّل الحاجة الملحّة الى مسار انتقال سياسي، لا ترقيع الوضع بما تيسر ولا تكرار تجارب الفشل التي وقع فيها اتفاق الطائف.

قد يكون اليوم هو الوقت الأمثل لتقييم اتفاق الطائف واستخلاص الدروس والعبر لتفادي تكرار الأخطاء، فوثيقة الوفاق الوطني كنص حاز إجماعاً عريضاً من القوى السياسية اللبنانية المتنازعة شكلت أرضية مقبولة لوقف الاقتتال ووقف الحرب الأهلية. لكن المشكلة كانت في الالتفاف على النص الذي مارسه نظام الوصاية السوري بتفويض دولي وبالشراكة مع القوى اللبنانية المتحكمة، ما سبب بإبقاء الحرب الأهلية مفتوحة ومنع عبور لبنان الى الدولة.

فعلى الرغم من أن شعار الطائف كان “لا غالب ولا مغلوب”، إنما الواقع السياسي كرّس غلبة الفريق الإسلامي (بري وجنبلاط والحريري) وباسم الطوائف، على الفريق المسيحي الذي نُفيت قياداته (عون والجميل) أو سجنت (جعجع)، فينا كرست قاعدة “عفا الله عما مضى” وما رافقها من تسلط مرتكبي الحرب على السياسة وتعميم الفساد في إعادة الإعمار وإعادة المهجرين والتعويض عن المتضررين ولاحقاً الكهرباء والاتصالات والكازينو والمصارف وغيرها من صناديق سوداء موّلت استمرار زعماء الحرب وأزلامهم في قيادة السلم، ما خلق اختلالات عميقة منعت تشكل مسار صحي للعبور الى الدولة. وكرت مسبحة التهرب من تطبيق بنود الاتفاق بالكامل وبخاصةً البنود الأساسية مثل حل الميليشيات الذي استثنى “المقاومة” واللامركزية وإلغاء الطائفية السياسية، وكلها خروقات حصلت برعاية الأسد وإجماع الأحزاب اللبنانية، فبقيت وثيقة الوفاق الوطني كاتفاق سلام حبراً على ورق ولم تتحول الى عقد اجتماعي فعلي يحكم علاقة اللبنانيين بعضهم ببعض وعلاقتهم بدولتهم.

خارطة طريق نحو عقد اجتماعي جديد

الحاجة الى إنتاج عقد اجتماعي جديد بين اللبنانيين ليست مهمة مستحيلة ولا شعاراً فضفاضاً. ببساطة، نحن بحاجة الى تطوير الاتفاق المكتوب الذي أنتجه اللبنانيون ودفعوا ثمنه مئات آلاف الضحايا، أي اتفاق الطائف، وتعديله حيث يلزم وتطبيقه عبر سلة من الإصلاحات في النظام السياسي تهدف إلى تمكين شرعية الدولة وتعزيز دورها كمرجعية للمواطنين بدل مرجعية الطوائف من ضمن برنامج انتقالي يتضمن ما يلي:

التطبيق الكامل والمفصل لاتفاق وقف إطلاق النار

الالتزام الجاد بتطبيق 1701 بشكل كامل وتفكيك البنية العسكرية لحزب الله حسب ما نص الاتفاق وتسليمها للجيش اللبناني، وكذلك النقاط المتعلقة بتصنيع الأسلحة وشرائها، وبالتوازي متابعة الخروقات الإسرائيلية وتكثيف العمل الدبلوماسي والسياسي مع لجنة المتابعة التي اتفق عليها الموقعون على الاتفاق لوضع حد لأي تجاوزات وأطماع للعدو في الأراضي والأجواء اللبنانية، وتأمين انسحابه الكامل من لبنان.

تعويض المتضررين من الحرب الأخيرة وإعادة الإعمار

على الحكومة اللبنانية القيام بمهامها لتعويض المتضررين من الحرب الإسرائيلية الأخيرة وإدارة ملف إعادة إعمار الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية، وأن تؤمن الأموال اللازمة لذلك ولتعويض الأضرار البشرية لعائلات الشهداء والضحايا والجرحى، والمادية في المنازل والممتلكات وجبر الضرر لدى جميع المتضررين في المناطق اللبنانية كافة.

تعزيز سلطة الجيش على كامل الأراضي اللبنانية

استكمال اتفاق وقف إطلاق النار بوضع كل السلاح الموجود لدى حزب الله تحديداً والفصائل الفلسطينية داخل وخارج المخيمات بيد الجيش اللبناني وضبط الحدود مع إسرائيل وسوريا، بالإضافة الى اتخاذ القرار السياسي بتعزيز قدرات الجيش من أسلحة وعديد وعتاد وفتح باب التطوع لضم القدرات البشرية التي يمتلكها الحزب وتمكين أفراده اقتصادياً ومعيشياً بما يعزز الثقة بالمؤسسة العسكرية.

اكتساب شرعية الدولة وتثبيتها

إعادة الانتظام الى المؤسسات الدستورية، انتخاب رئيس جمهورية يحمل مهمة تنفيذ البرنامج الانتقالي وتشكيل حكومة بصلاحيات ودور محدد، وهو الانتقال السياسي بلبنان من دولة الشرعية الطائفية المرتبطة برهانات على الخارج الى دولة الشرعية من الناس ومصالحهم، والدعوة الى الانتخابات البلدية المؤجلة ووصولاً الى انتخابات نيابية تجدّد الشرعية.

سياسة خارجية تقوم على تصفير المشاكل مع المحاور

نسج علاقات خارجية إيجابية مع القوى الإقليمية والدولية كافة، بخاصة مع الدول العربية من سوريا الحرة الى دول الخليج ومصر والأردن والعراق الى تركيا وإيران وصولاً الى الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين والولايات المتحدة الأميركية، مع الالتزام بمناصرة قضايا الشعوب وحقها بتقرير المصير، وعلى رأسها قضية الشعب الفلسطيني وحقه بالتحرر من الاحتلال الإسرائيلي، وبدولة كاملة السيادة ومواطنة كاملة الحقوق، والتمسك باتفاقية الهدنة 1974 مع العدو الإسرائيلي.

التحول إلى نظام مدني تعددي لا مركزي

الانتقال ببنية النظام من السلطة المركزية نحو لا مركزية إدارية موسعة تقوم على مجالس محلية منتخبة ذات صلاحيات واسعة على مستوى الإدارة المحلية وشؤون الناس اليومية والاقتصادية والاجتماعية والصحية والتربوية والأمنية والإدارية، مع الحفاظ على قانون مدني للأحوال الشخصية على مستوى الوطن، وتطبيق اتفاق الطائف لجهة إنشاء مجلس للشيوخ يمثل المكونات الطائفية كمقدمة لانتخاب مجلس نواب خارج القيد الطائفي وإلغاء الفيتوهات الطائفية كالثلث المعطل وإنهاء المحاصصة الطائفية في الوظائف العامة.

العدالة الاجتماعية للتعافي الاقتصادي

تنفيذ خطة للتعافي الاقتصادي مبنية على مبادئ خطة التعافي المالي لسنة 2020 (المسماة خطة لازارد) بعد تحديثها وتعديل أرقامها لتكون المخرج لحل أزمة الودائع بشكل عادل وتحميل المصارف مسؤولياتها وإعادة هيكليتها من دون المس بأصول الدولة وأملاكها، والقيام بتصحيح عادل الأجور، إذ يجب أن تضع هذه الخطة المداميك الأولى لاقتصاد منحاز الى الناس منتج وعادل ومحفز للإبداع وجاذب للاستثمارات.

الحفاظ على الحريات وتعزيز حكم القانون والمؤسسات واستقلال القضاء

إعادة هيكلة القطاع العام والأجهزة الأمنية وتفعيل الأجهزة الرقابية وتحديد صلاحيات بعض الأجهزة الأمنية، ومنها إلغاء المحكمة العسكرية وإقرار وتطبيق قانون استقلالية القضاء والقوانين المرتبطة به، واستكمال التعيينات والشواغر في الإدارات العامة.

درج

——————————–

مشكلة” قسد أم قضيّة وطنية؟/ بشير أمين

سوريا

10.01.2025

لا تزال المسألة في شرق الفرات تُرى على أنها “مشكلة” حلّها إما عسكري بالتحرير، أو أنها مشكلة جانبية عالقة لا قضية وطنية، ويُنتظر من المعنيين حلّها واللجوء الى الحكمة والقرار الوطني. وبالتالي، فهي مشكلة مؤقتة أعاقت السوريين من استكمال مشوار التغيير المنتظر.

مقاربتان حول المنطقة الشرقية تتصدران المشهد السوري من معظم القوى السياسية، كلاهما متمثل برؤية ما يحدث في المنطقة الشرقية على أنها “مشكلة قسد”، على اعتبارها الحلقة الأخيرة قبل البدء بمرحلة التغيير الحقيقي. تستند الرؤية الأولى إلى أن مناطق قسد لا تزال مناطق محتلّة، وبالتالي وجبَ تحريرها. وهذا لا يتعلق بالمسلحين المدعومين من تركيا فقط، فقد شارك ناشطون وإعلاميون في وسم (هاشتاغ) (#أنا_من_الجزيرة_السورية_المحتلة

#الرقة_ديرالزور_الحسكة)

وهناك تيار يتّسم بمرونة أكبر، من ضمنه شخصيات ليبرالية ديمقراطية، ربما، يرى أن مسألة شرق الفرات هي “مشكلة” ويمنّ النفس بحلّها، ويأمل بأن تحل المشكلة بالحوار والتفاوض. وهنا المعنيان بالأمر هما قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وهيئة تحرير الشام (هتش)، للتوافق بقرار سيادي من دون العودة الى قوى خارجية، وتحديداً الولايات المتحدة وتركيا كقوتين متخاصمتين حول هذا الملف.

في كلَي الحالتين، لا تزال المسألة في شرق الفرات تُرى على أنها “مشكلة” حلّها إما عسكري بالتحرير، أو أنها مشكلة جانبية عالقة لا قضية وطنية، ويُنتظر من المعنيين حلّها واللجوء الى الحكمة والقرار الوطني. وبالتالي، فهي مشكلة مؤقتة أعاقت السوريين من استكمال مشوار التغيير المنتظر.

لا يبدو سهلاً إقناع الطرف الأول بتعقيدات المشهد في شرق الفرات، لأن رؤية قوات سوريا الديمقراطية على أنها قوات احتلال أجنبي ليست مجرد فكرة عابرة، وإنما عملت عليها تركيا والمعارضة السورية خلال سنوات الحرب بشكل دؤوب يجعل من السوري البعيد من هذه المنطقة يعتقد أن إسرائيل جديدة تتشكّل. وهذه ليست استعارة من أي نوع، بل هي تشبيه لطالما كررته أطراف عدة.

الجانب الآخر من هذه الفرضية يرتكز على حقيقة أن حزب الاتحاد الديمقراطي، والذي يشكل دعامة رئيسية في قسد، يتبنى أيديولوجية عبدالله أوجلان، وحزب العمال الكردستاني. وكون هذا الطرح صحيحاً ولم ينفه الحزب نفسه، فإن لهذا الارتباط الأيديولوجي سياقاته التاريخية والمحلية المرتبطة بتركيبة مجتمع تغيّب السوريون عن معرفته في ظل الأسدية، ولا يزالون بعيدين من فهم تعقيداته. ناهيك بوجود أطراف وأحزاب سورية عدة، مرجعيتها الأيديولوجية تمتد الى خارج الحدود ومستمدّة منها، وبالتالي فإن المشروع الموجود على ضفة الفرات الشرقية بعيد تماماً من أن يكون احتلالاً أجنبياً، وهذا لا يمهد سوى لإبادة بشرية. 

الحالة الثانية تستحق الوقوف عندها وتفكيك تعقيدها، لأن اعتبار مسألة شرق الفرات الغامضة “مشكلة” ليس مغلوطاً بشكل كلّي، كون هناك معارك شديدة ومستمرة منذ 8 كانون الأول/ ديسمبر على الأقل، وتشارك فيها أطراف عدة. لكن للتعاطي مع هذه القضية مدلولاته أيضاً.

التعاطي مع مسألة شرق الفرات على أنها مشكلة وينتظر الفاعلون السوريون أن تحلّها الأطراف المنخرطة، يشكل مسألة توضح مدى مركزية سوريا حول دمشق أولاً، وتهميش الملف الشرقي والكردي خصوصاً. فنحن اليوم أمام مسألة سيادة وطنية غاية في التعقيد ينتظر السوريون تركيا والولايات المتحدة لتقررا مصيرها. منطقة لا تقل عن ربع مساحة سوريا، وتحوي نسبة عظمى من مواردها، يديرها ائتلاف سوري بنى شكلاً ونمطاً جديدين ومتمايزين من الحوكمة والمؤسسات في المنطقة ككل. استقطبت هذه المنطقة اهتماماً عالمياً وأكاديمياً، إلا أنها لم تشدّ في ما يبدو اهتمام الشارع والقوى السياسية السوية للمشاركة فيها والمساهمة في طرح حلول أو التظاهر بشأنها.

وبينما يتم تطبيع هيئة تحرير الشام(هتش) وتقديمها على أنها الطرف الوحيد القادر على إدارة الأمور بسبب الوضعية الاستثنائية، يُطلب من قسد القبول بهذا الأمر الواقع. فيما يدفع “الواقع السياسي” بما يكفي السوريين الى القبول بسلاح الهيئة وإدارتها المشهد بحكم غياب البديل لحظة إعلان سقوط النظام وترك البلد على شفير الهاوية.

 لكن، لا يبدو المشهد كذلك في شرق الفرات، لأن الوضع الأمني والمشهد السياسي القائم لم يتغيرا سوى على الحدود الشمالية. ولا مبرر لقسد لفتح الباب أمام الهيئة للسيطرة على المنطقة أو ترك سلاحها من دون أن توضح ملامح المرحلة المقبلة. فالاندماج المباشر، أولاً، يعطي “هتش” شرعية لا تملكها، وهي شرعية قد لا تقل عن شرعية قسد. وثانياً، فإن اندماجاً عسكرياً سريعاً بهذا القدر من التباين قد يشكل وضعاً قابلاً للانفجار والصراع الداخلي في أية لحظة.

وجدير ذكره، أن مسألة سلاح قسد قد تكون ثانوية وحلّها بالتفاوض السياسي أمر ممكن، على عكس الوضع الأمني الموتور في الساحل السوري. إذ إن السوريين أمام مخاطر ثورة مضادة أو اقتتال طائفي، وتلك قد تكون حالة أكثر إسعافية في المشهد العام.

المسألة تتعلق بتكوين سوريا المقبل، شكل علاقة المركز مع الأطراف، شكل الدستور، الحكم، السلطات الثلاث وآليات الحكم. في كل قسم من سوريا، تشكَّل أشباه كيانات، فلا يمكن الدفع نحو اندماج سريع مع طرف لا يثق السوريون بعدُ به، حتى وإن يراد للتطمينات وما يقابلها من حسن النية أن تأخذ مجراها. والى حينها، على السوريين التعامل مع الموقف على أنه مسألة وطنية وليس “مشكلة” يُنتظر حلها بالأمنيات. فمن معرفتنا لتركيا، قد تطول هذه المسألة سنوات وتكون قضية عالقة تتعلق بأطماع طويلة الأمد.

درج

—————————

لا مؤتمر وطنيا في الأفق.. والسوريون يتمرنون على الحياة السياسية/ عصام اللحام

2025.01.10

لم يحدد إلى الآن رسميا أو عن طريق التسربيات موعد المؤتمر الوطني العام، الذي كان مقررا في الرابع والخامس من الشهر الجاري، وتأجل حتى منتصف الشهر إلى أن بات اليوم غير معلوم الموعد أو الشكل.

 تقول مصادر عديدة (غير رسمية) إن التحضيرات للمؤتمر اصطدمت بعوائق عدة بينها ما هو متعلق بتركيبة الدعوات وآلية توجيهها ومن يوجهها ومن هم المدعوون والداعون، ومنها ماهو متعلق بالوضع السياسي العام مع اقتناع الإدارة الجديدة بأن الثورة انتصرت وبالتالي زالت المسميات والأجسام وبات الجميع متساوين أمام السلطة، وهي مرحلة للانطلاق من جديد في بلد أشبه بهيكل عظمي لا لحم وجلد فيه ولا عضلات أو أعصاب تحركه.

تجارب ومنتديات سياسية في دمشق

يتدرب السوريون اليوم على الحياة السياسية وتكثر تجمعاتهم، بعد أن تحرروا من عقد الخوف تدريجيا مع مضي أكثر من شهر على انهيار نظام الأسد، فتتحول المقاهي في دمشق (حيث أتواجد) إلى ملتقيات تجمع المتشابهين والمتخالفين في نقاشات تتدرج من السطحية إلى أعمق ما يمكن الوصول إليه، فقد حمل الوافدون الجدد تجاربهم وتجارب المجتمعات التي عاشوا ضمنها في الخارج، في الوقت الذي يستعد المعارضون القدماء لإعادة إحياء تكتلاتهم ومنتدياتهم، في محاولة لتأمين انطلاقة جديدة نحو سوريا التي يرغبون فيها، وإن اختلفت اتجاهات الرغبات لكنها تتفق على أن التغيير مطلوب لا محال، ومطلوب على مدى ليس قريبا فيكفي أن يكون هناك نية وإرادة لذلك.

لا حوارات حقيقية ولا نتائج واضحة مما تجمعه دمشق وغيرها من المحافظات التي تخلصت من النظام على حين غرة، وباتت في مواجهة حقيقة مع اليوم التالي الذي كان عنوانا مربكا للجميع على الصعيدين الداخلي والدولي، مما يتيح للإدارة وقتا أكثر للتفكير بالمؤتمر ومخرجاته، ومدى إمكانية تحقيق رضا نسبي من بعض الساعين للمشاركة السياسية والأهم الراغبون بالدخول وفق منطق المحاصصة الديمغرافية أو الإثنية، وهو ما يبدو مرفوضا رافضا قاطعا من الإدارة السورية، التي أبدت استعدادها للحوار مع الجميع وفق مبدأ وطني لا محاصصة فيه ولا تقاسم.

تساؤلات حول المؤتمر الوطني

المؤتمر الوطني الذي جرى الترويج له على عجالة بعد أيام قليلة من انهيار النظام، بدا أقل تنسيقا وشابه كثير من الغموض فاتحا آلاف التساؤلات التي لا تنتهي بدأت من الاسم ولم تنتهِ عند ما سيفرزه من قرارات أو لجان وهيئات ذات طابع استشاري أو تشريعي أو بسلطة رقابية أو تخصصية فيما يتعلق بوضع دستور أو تحضير لانتخاب.

قد تكون الإدارة الجديدة قد وضعت في حسبانها كثيرا من الأمور وقدمت إلى دمشق وفي جعبتها خطط لكل شيء، كما قال أحمد الشرع عندما التقيناه في دمشق بعد انهيار النظام بأيام، وأشار حينها أنه يحتاج لبيانات وأرقام حتى تتحول الخطط لأمر واقع على الأرض، لكن ذلك قد ينطبق على الواقع الخدمي والاقتصادي، أما على الصعيد السياسي فيبدو شاقا، مع رفض كتل وأجسام معارضة حل نفسها والتعامل على مستوى الأفراد لا مؤسسات وهيئات.

 للآن يرفض الائتلاف الوطني وهيئة التفاوض إعلان نهاية عهدهما فيقول مسؤوليهما إنهم تعبوا من النضال السياسي ويرغبون بالانسحاب والراحة لفترة، لكن هذه الراحة لن يصلوا إليها مالم يتم الاتفاق مع الإدارة الجديدة على تسليم الملفات لها، وضمان وجود هيئة حكم انتقالي، وهي خط نهاية عملهما، لكن ذلك لا يبدو متاحا بالنسبة للإدارة الجديدة التي لم تلتق بأي جسم سياسي كجسم سياسي، لا رسميا ولا بطرق غير مباشرة، فالشرط الموضوع يتمثل (الأجسام انتهت والعمل حاليا بشكل جماعي لا يتضمن كيانات).

التعقيدات بالمشهد السياسي تبدو متوقعة، وطرق حلها تعتمد على الاستيعاب أو التجاهل، ولا يعرف للآن أي الطريقين ستسلكه الإدارة الوليدة، لكن هناك تعقيدات بدأت تتسع مع البنى الدينية والاجتماعية التي تشكل الهوية السورية، وتعد من بنيانها، فلم تنجح مشاركة دعائم الإدارة السورية في تشييع الشيخ سارية الرفاعي في تأمين حقيقي للتآلف بين الطرفين، فبدا المجلس الإسلامي السوري (المشكل في الخارج والذي اختار مفتيا عاما لسوريا قبل أعوام) أكثر رغبة بالتمسك بمؤسسته مع إعلانه بقاء اسمه ومفتيه بمكانتهم، وهو أمر يتعارض مع الإعلان الواضح والصريح بأن لا أجسام مهما كانت موجودة بعد 8 كانون الأول 2024.

الاشتباك السياسي قد يكون مطلوبا في هذه التواقيت التاريخية التي تعيشها سوريا، لكن غياب قواعد هذا الاشتباك وحدوده والأهم أهدافه تجعل منه معرقلا لأي نهج منتظر سواء اقتصاديا أم اجتماعيا أو سياسيا، في بلد ما زالت أربعة جيوش على الأقل موجودة على أرضه.

تلفزيون سوريا

—————————

فيما يخصّ تعديل المناهج: نعم للحرية لا للجهل/ مصعب الحمادي

2025.01.09

اليوم وقد أشرقت شمس الحرية على بلدنا سوريا، علينا أن نمضي في طريق التنوير والحداثة لا أن نستخدم حريتنا كي ننكص ونرتدّ إلى الجهل والتخلف.

ما تسرّب عن خطط وزارة التربية في الحكومة الانتقالية لتعديل المناهج وحذف ما له علاقة بنشأة الحياة وتطور الدماغ لا يسيء لموقفنا من العلم والمعرفة فحسب، بل يستهين بالمثل الدينية التي يبدو أن السيد وزير التربية يرمي إلى حمايتها.

الدين ببساطة ليس ضد العلم ولا يتناقض مع النظريات والكشوفات العلمية الحديثة، وأي توهّم بالتعارض هو عجزٌ في تأويل الدين على النحو الذي يتيح لنا تحقيق التقدم والسعادة في الحياة، وهذا العجز لو حصل سيكون مبعثاً للركود والتخلف وبوابةً للدخول تحت سيطرة الدول الأخرى المتقدمة.

قديماً قال الأديب المصري الراحل سلامة موسى، إن “الأمم التي تمارس العلم سوف تسخّر الأمم التي لا تمارس العلم كما نسخّر نحن البغال والحمير”، وهذا لعمري قولٌ يصحّ اليوم أكثر بكثيرٍ مما كان يصحّ عندما قاله صاحبه قبل حوالي مئة سنة.

بدأت الحياة في كوكبنا على شكل جزيئاتٍ عضوية معقدة قبل حوالي أربعة مليارات سنة وهي منذ ذلك الوقت في حالةٍ مستمرة من التنوع والتطور بفعل آلياتٍ من قبيل الطفرات الجينية، والانتقاء الطبيعي، والتكيف.

ثم قبل سبعة ملايين سنة انفصل أشباه الإنسان عن القردة العليا، أعقب ذلك تطور جنس الإنسان (Homo) قبل حوالي ثلاثة ملايين سنة، روّض جنس الإنسان النار وبدأ أكل اللحم المشوي ما أدّى إلى نمو دماغه وضمور أنيابه إلى أن انبثق عنه قبل ثلاثمئة ألف سنة الإنسان العاقل (Homo Sapiens) الذي صار لديه بفضل الدماغ الكبير مقدرة على التفكير، وبفضل الحنجرة الصالحة والأسنان الناعمة القدرة على النطق والكلام.

هذا الإنسان العاقل انحدرنا منه نحن البشر المعاصرين، ولعلم السيد وزير التربية فإن الدماغ -نعم- تطور عبر مراحل، والأمر كما يرى أن الجنس البشري ذاته هو حصيلة عملية تطورية مديدة وهذا لا يتناقض مع القرآن ولا مع الدين، بل هو برأي مفتي طرابلس الشيخ نديم الجسر -في كتابه “قصة الإنسان” الصادر عام 1956- جزءٌ من خطة إلهية تقتضي أن يكون الخلق عملية مستمرة تتطور على مرّ العصور على أن يكون حركةً واحدة حدثت لمرةٍ في نقطة من التاريخ وانتهت، وفي هذا تجلي أكبر لعظمة الخالق.

نشأة الكون وتمدّده، مبدأ الإنتروبيا وقوانين الديناميكية الحرارية، تطور الحياة ونشأة الوعي، نسيج الواقع وطبيعة المادة كل هذه الأمور هي حقول علمية عظيمة تتطور قدماً يوماً بعد يوم وتمدنا بالإجابات الرائعة على أسئلة الأصول التي تشغلنا جميعاً ولا أرى أن من صالح وزارة التربية في أي دولةٍ من دول الجنوب التي لا تنتج العلم أن تورّط نفسها بالصدام مع نتائج هذه الحقول العلمية البحتة.

فما دمنا لا ننتج العلم -وهذه طامّة كبرى- فلا نزيدنّ الأمر على أنفسنا فنتنكر للعلم ونرتد للجهل متوهمين أننا نمارس الحرية ونحافظ على الدين، في حين نحن في الحقيقة نرفس الحرية ونقود الدين إلى الهدم فنضعه في خصومةٍ مع العقل ومع العلم الحديث.

ولن أدخل هنا في معارضة التعديلات الكارثية المقترحة على مادة التربية الإسلامية في المدارس فهذا جدل بيزنطي لا نهاية له ولا طائل منه، ولكني أتساءل (وأنا جادّ تماماً في هذا التساؤل) لماذا لا نعمد إلى إلغاء مادة التربية الدينية في مدارسنا كما ألغينا مادة التربية القومية؟

الدين أمر شخصي وعائلي ومللي -يخصّ الملّة الواحدة ضمن الدين أو الطائفة- وليس من شأن الدولة تعليمه للأولاد في المدارس، سوريا فيها مذاهب إسلامية كثيرة وسيكون من الإرهاق إيجاد كتابٍ واحد لتدريسه لكل الأطفال المسلمين على اختلاف مذاهب أهلهم وأشكال تدينهم.

ولا نغفل فوق ذلك وجود شريحةٍ كبيرة من السوريين غير المتدينين أصلاً ممن لا يحبّذون الإيغال مع أطفالهم في تفاصيل الدين وطقوس العبادة ومفاوز النصوص المقدسة في عالمٍ يميل للتماثل يوماً بعد يوم، وينجح فيه البشر على امتداد المعمورة بإيجاد طرقٍ للتواصل العابر للحدود والأديان والثقافات.

هذه ليست دعوة لإقصاء الدين، بل لإقصاء الدولة عن الدين وتركه لمعتنقيه وحريتهم الشخصية بدل فرضه على الأولاد في المدارس بطريقةٍ لن ترضي جميع الأطراف مهما حاولنا.

ختاماً بودّي لو تنأى الحكومة الانتقالية المؤقتة بنفسها عن كل هذا التشتت بالطاقات وتركّز جهودها على الوضع الأمني والمعيشي، وتيسير أمور الناس، ومسح جراحهم، والبحث عن مفقوديهم، ولملمة عظام ذويهم من المقابر الجماعية.

من غير المقبول أن يتورّط المسؤولون والوزراء المؤقتون بإثارة الجدل والانقسام في وقتٍ نحن أحوج ما نكون فيه إلى الوحدة والتضامن.

————————–

الطبل في دوما والعرس في حرستا”.. كيف تعكس الترندات هوية المجتمع السوري؟/ عليوي الذرعي

2025.01.09

في بدايات سيطرة تنظيم “الدولة” للرقة، كنت أدون يومياتي ومشاهداتي على الفيس بوك تحت عنوان “يوميات مواطن تحت حكم داعش”. تتعدد المواضيع وتختلف المشاهدات تحت هذا العنوان العريض، وكان يتواصل معي في تلك الأيام كثير من المهتمين للوقوف على حقيقة المشهد بعيداً عن تهويل الإعلام الغربي.

أذكر أن شخصية سورية بارزة تواصلت معي تستفسر عن حقيقة وحشية التنظيم التي تظهر بمقاطع الفيديو الترويجية الخاصة به، وتبين لي لاحقاً أن هذه الشخصية لا تؤمن بالأديان (ليست ملحدة لكنها لا تؤمن بالرسالات السماوية بحسب تعبيرها). قالت لي معلّقة على مشاركة تحت عنوان “يوميات مواطن تحت حكم داعش- داعش وصلاة الجماعة”، إنها غير مؤمنة بالأنبياء ورغم ذلك عندما تشعر بضيق شديد تذهب إلى الكنيسة، حيث نشأت في أسرة دمشقية عريقة ذات أصول مسيحية.

أستذكر هذه الحادثة بعد موجة التأييد والانتقادات على حادثة عدم مصافحة أحمد الشرع لوزيرة الخارجية الألمانية، ويذكرني هذا الترند أيضاً بمصافحة الشيخ معاذ الخطيب لمعاونته السيدة سهير الأتاسي عند ترؤسه “الائتلاف السوري” في أول تشكيله.

للخطيب مرجعيته الإسلامية، وأذكر أن المدافعين عن الخطيب يومها استشهدوا بفتوى للمرحوم الشيخ يوسف القرضاوي في برنامج “الشريعة والحياة” على قناة الجزيرة، تبيح المصافحة بشروط محققة بمصافحة الخطيب حينذاك، وبمصافحة الشرع لوزيرة الخارجية اليوم -لو حصلت.

بعد البحث عن فتوى القرضاوي في أثناء كتابة هذه المقالة، تبين أنها وردت في الجزء الثاني من كتابه “فتاوى معاصرة

” ضمن فصل اختلاط الجنسين (صفحة 277).

***

الجامع المشترك بين مصافحة الخطيب للمرأة، وعدم مصافحة الشرع للمرأة هو اشتعال السوشال ميديا السورية وحتى العربية بهذا الحدث الذي يعتبره البعض هامشيا لا يرتقي لمستوى الأحداث والتغيرات التاريخية الآنية.

إلا أن المتأمل والمتابع لترندات الثورة السورية منذ بدايتها يجد أنها غالباً ما تركز على قضايا بسيطة أو هامشية، بحسب ما يصفها البعض. فعلى سبيل المثال، نالت فضائح البريد الإلكتروني المسربة لبشار الأسد وعلاقاته المشبوهة بموظفات القصر الجمهوري قبل عدة سنوات، ولاحقاً ألبوم صوره “العارية” بعد هروبه، حيزاً مهماً من هذه الترندات.

هذه الترندات ليست حوادث عشوائية يسلط عليها الضوء “التافهون” كما يُنظّر البعض، إنما هي أنساق ثقافية مضمرة داخل وجدان الشعب السوري؛ أنساق تحتاج إلى عشرات الدراسات والمقالات لتفكيكها وتوضيحها.

قد يحسب للسوشال ميديا أنها سرّعت من وتيرة هذه الترندات، لكنها ليست جديدة فمنذ بداية “الحكم العضوض” كانت اهتمامات الناس تظهر بأشكال مختلفة وبصور متنوعة، فكانت تظهر على شكل أسئلة فقهية مكررة وكثيفة توجه إلى طبقة من العلماء المتحالفين مع السلطة، واليوم تظهر على شكل مشاركات عبر صفحات وسائل التواصل الاجتماعي.

ما وراء السؤال: دلالات سياسية في أسئلة فقهية

تشكل هذه الاهتمامات (ترندات اليوم) نمطاً مكرراً عبر التاريخ. إذ يُركز الناس على تفصيلٍ هامشي في واقعٍ معقد، ويبذلون جهوداً كبيرة في مناقشته، وإثارة الأسئلة حوله. يشبه ذلك المثل الشعبي المتداول: “الطبل بدوما والعرس بحرستا”.

هناك سوابق ثقافية مشابهة، فخلال تحولات الحكم الإسلامي من “خلافة نبوة ورحمة” إلى “مُلْك عضوض” كما جاء في الحديث الشريف، خضعت فتاوى الفقهاء وأسئلة الناس لمحددات السلطة الجبرية، وبما أن الذكاء الفطري للعوام -كما يحلو للسلطة أن تصفهم- مرتفع، فهم غالباً ما يطرحون أسئلة سياسية عن شرعية السلطة مُغلّفة بأسئلة فقهية بسيطة، محاولة منهم لإزالة الشرعية عن السلطة، أو فضح طبقة الفقهاء المتحالفين معها. فهم يدركون المشاكل الحقيقية للمجتمع، ويعلمون أن تصنيفهم بين “عَامَّة وخَاصَّة” هو تصنيف سياسي للسلطة الجبرية، لذلك يحاولون بحنكة إحراج الفقهاء عبر طرح مثل هذه الأسئلة.

فسؤال: “هل مرتكب الكبيرة كافر أم مؤمن؟” مثلاً، هو سؤال سياسي لنزع الشرعية عن السلطة. فبعد أن شرعن الفقهاء “بيعة المتغلب”، لم يتطرقوا إلى حكم الدماء التي أُريقت في سبيل ذلك، وتلك الدماء واضحة وجليّة لا يستطيع الفقهاء إنكارها. ولذلك يُكرّر “العوام” السؤال السالف. 

فإذا أجاب الفقيه بأن “مرتكب الكبيرة مؤمن”، فستسقط بذلك الشرعية عن الفقيه أمام الشريحة الواسعة من الناس. وإذا أجاب بـ “كفر مرتكب الكبيرة”، فهذا يعني سقوط شرعية الحاكم، وبذلك تذوب الحدود الفاصلة بين العوام والفقهاء، وتصبح الثورة على الحاكم فرض عين على كل مسلم سواء كان فقيهاً أم عامياً.

حنكة الناس المستترة خلف قناع الأسئلة البسيطة، قوبلت باختراع بعض الفقهاء لمنزلة بين منزلتين، وهي “الفسق”، بهدف الهروب من الاستحقاق السياسي بإسقاط شرعية السلطة، في محاولة لإعادة تسويق أنفسهم بأنهم قادرون على إطلاق حكم الفسق على رؤوس السلطة؛ فالفسق لا يستوجب سقوط شرعية الحاكم!

***

جميع الأسئلة السياسية المقنعة بأسئلة فقهية، يحاول الفقيه الفاهم لدوافعها التحايل عليها بإجابات من هذا النوع، بينما يتعامل معها الفقيه السويّ، أو غير المدرك لأبعادها السياسية، ضمن إطارها الفقهي فقط.

وهناك قسم ثالث يدرك المرامي السياسية لأسئلة الناس المكررة، لكن أمانتهم تمنعهم من تبديل الأحكام بناءً على رغبة السلطان، منهم الإمام مالك، فقد كان يروي للناس حديث ابن عباس “ليس لمكره، ولا لمضطهد طلاق”.

وبالطبع، فإن تضخيم أهمية حديث يتعلق بالأحوال الشخصية ناتجة عن دوافع سياسية، لدرجة أن يتدخل الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور وينهى الإمام مالك عن روايته، لكن الإمام لا يستطيع كتمان حديث شريف، حتى لو أدرك المنصور أن كثرة السؤال عن حديث “طلاق المكره” هو تساؤل العامة عن بيعة العباسيين التي يعلم الإمام مالك وأبو جعفر المنصور أنها بيعة إكراه وإجبار. فقد تزامنت كثافة السؤال عن طلاق المكره مع ثورة محمد النفس الزكية على الحكم العباسي.

بالعودة إلى حال السوريين اليوم، فإن اهتمام الناس بفضائح الفنانين، وآل الأسد الفاسدين، وبأخبار حكم مصافحة المرأة عند الشرع والخطيب، عبارة عن أنساق مضمرة، معبرة عن هوية المجتمع السوري المتجذرة بوجدانه، مثل صديقي الذي يذهب إلى الكنيسة عندما يشعر بالضيق رغم عدم إيمانه بالمسيحية.

أنساق مضمرة تبين لنا أن قيم المجتمع السوري ما تزال خطوطاً حمراء، وأن ممارسات النظام السادية من تهجير وقتل وتعذيب وتغييب لم ولن تفك الارتباط بين الإنسان السوري ومنظومة القيم التي ينتمي إليها.

———————–

كيف مهدت إجراءات عائلة الأسد لسقوطه على مراحل؟/ طارق علي

حين يجوع الشعب يصير استبدال الحاكم ضرورة تفرح لأجلها كل المكونات

الجمعة 10 يناير 2025

ليكتمل مشروع أسماء كان لا بد لها من استحداث فريق يعينها على حمل الإرث الاقتصادي – العائلي والسير به نحو أرباح طائلة تصب في مصلحة العائلة من دون مراعاة أدنى شروط النهوض الاقتصادي أو الحفاظ عليه، وفي الأقل عدم السماح له بالانهيار دفعةً واحدة كما حصل.

مع بداية عام 2020 في سوريا تغيّر شكل البلاد بصورة كاملة، وضربت موجة من المجاعة شبه الجماعية أركان البلاد، وكان النظام يعيد الأمر للبدء بتطبيق قانون “قيصر” الأميركي، لكن الحقيقة كانت أبعد من ذلك بكثير، ففي هذا العام تغيرت الإستراتيجية الاقتصادية للنظام نحو الجباية المنظمة، وتحولت الفرقة الرابعة التي يديرها ماهر الأسد من فرقة قتالية إلى فرقة بنكية معنية بالجباية وجمع الأموال بطرق غير شرعية، إضافة إلى أنها جزء رئيس في إنتاج الكبتاغون وتصديره.

نهب وتغييب وفدية

وتحولت كذلك أفرع أمن عدة ومن أبرزها فرع الخطيب أو ما يسمى “الفرع الداخلي”، إضافة إلى فرع المداهمة أو السرية 215 إلى شبح يطارد الناس في لقمة عيشهم وينهب أموالهم بالاعتقال والتغييب والفدية للخروج، كذلك فرضت شروط غير منطقية على الحاجات الأساسية كإلزام المواطنين دفع جمركة تعادل سعر هاتفهم الخليوي ليعمل على الشبكة، ودفع 100 دولار عند دخول الحدود وحزمة إجراءات بإدارة أسماء الأسد للمشهد الاقتصادي عبر المكتب السري.

تلك الإجراءات الكثيرة خلقت مشكلات اجتماعية لم يتصور الأسد كم ستكون وخيمة عليه بعد أعوام، إذ أجبر رؤوس الأموال والمستثمرين والتجار على الهرب، كما أرغم مئات آلاف المواطنين على الهجرة تحت وطأة الظروف الاقتصادية لا الأمنية والعسكرية كما حال الهجرات قبل عام 2020، وكذلك خلق شرخاً بدليل فرح كل المكونات بسقوطه ونظامه.

بداية الانهيار: رامي مخلوف

كان يمكن لحظ بداية الانهيار الاقتصادي منذ إزاحة رامي مخلوف “إمبراطور” الاقتصاد السوري لعقود وارثاً إياه عن أبيه محمد مخلوف خال الرئيس السابق بشار الأسد الذي تولى، أي محمد، في عهد الأسد الأب إدارة الملف الاقتصادي السوري الداخلي والدولي، وفي عهد الأسد الابن تولى رامي مسؤولية إدارة تلك التركة ونجح في الأقل لعقدين منذ عام 2000 وحتى إزاحته قبيل 2020 في إمساك عصا الاقتصاد من المنتصف.

وعلى رغم أن مخلوف الابن كان يدير الاقتصاد العام ويضع أسسه وشكله ونوعيته ولكنه كان بارعاً في “اللصوصية” بحسب خبراء اقتصاد من دون أن يفقر الشعب ويرمي بعملته نحو قاع سحيق سحق معه كل أنواع المعيشة والعيش الكريم مع قرار أسماء الأسد تولي إدارة الملف الاقتصادي بنفسها.

ولكي تدير أسماء ذلك الاقتصاد، أحدثت مشكلات جمة داخل العائلة الحاكمة، ولما كان من المعروف عنها تأثيرها القوي في شخصية بشار وقراراته، تمكنت من استبعاد مخلوف بطريقة وصفت بـ”المذلّة” في الشارع السوري، ومصادرة أمواله ووضعه تحت الإقامة الجبرية.

المكتب السري

وليكتمل مشروع أسماء كان لا بد لها من استحداث فريق يعينها على حمل الإرث الاقتصادي – العائلي والسير به نحو أرباح طائلة تصب في مصلحة العائلة من دون مراعاة أدنى شروط النهوض الاقتصادي أو الحفاظ عليه، وفي الأقل عدم السماح له بالانهيار دفعة واحدة كما حصل، إذ يعرف السوريون أنها تسلمت اقتصاد البلاد من مخلوف بعد 10 أعوام من الحرب بانهيار قارب 10 أضعاف قيمة الليرة عما قبل الحرب أمام الدولار الأميركي الواحد، وسرعان ما انهارت قيمة الليرة لاحقاً 300 ضعف، وكان الدولار حافظ في عهد مخلوف الاقتصادي على ثبات قارب 500 ليرة للدولار الواحد، وفي العهد التالي وصلت قيمة الدولار إلى أكثر من 15 ألف ليرة سورية.

أنشأت أسماء فريقاً اقتصادياً ضيّقاً مكوناً من أفراد عدة يترأسهم شخص اسمه يسار إبراهيم وهؤلاء تمت تسميتهم في المكتب السري، وهو المكتب الذي تولى شؤون إدارة الاقتصاد وكان أساس عمله يقوم على استحداث المضاربة الداخلية بين السوق الحكومية والسوق السوداء، وداخل السوق السوداء التي كان يرعاها أيضاً، ليس بدءاً من أسعار الخضراوات والدخان وليس انتهاءً بإنشاء المنصة الاقتصادية التي تجبر التاجر على وضع ما يعادل قيمة ما سيستورده من الخارج ضمن ما هو مسموح بالقطع الأجنبي ثم تعويضه بالقطع المحلي متدني القيمة انطلاقاً من الرهان على انهيار قيمة العملة، فيسترد قيمة بضائعه بالليرة في معادلة حسابية خاسرة تكون عطلت وأخّرت عملية الاستيراد من جهة، واستحوذت على أمواله بغير حق من جهة أخرى، مروراً برفع الدعم عن المحروقات التي كانت تستوردها من إيران بمقابل زهيد وتبيعها للشعب بمبالغ مرهقة، حتى صار راتب الموظف السوري يعادل غالون بنزين.

وفي إطار الاستحواذ على القطع الأجنبي، جرى إصدار مراسيم جمهورية وقوانين وعقوبات تجرّم التعامل بالدولار بين الأفراد وتصل عقوبة بعض تلك القوانين إلى السجن 20 عاماً، مع إغراق السوق السوداء بالدولار مرتفع القيمة عما هو عليه في البنك المركزي.

ويُشار هنا إلى أن تقارير اقتصادية عدة أعدتها شبكات معنية تحدثت عن نسبة تقارب الـ70 في المئة من السوريين في الداخل الذين يعتاشون على الحوالات الواردة إليهم من ذويهم في الخارج، ورأى المكتب السري وسيلة جباية جديدة وهي خفض قيمة الدولار في البنك المركزي مقابل السوق السوداء، وحصر تسلّم الحوالات بالليرة السورية، مما كان يمثل خسارة تصل أحياناً إلى 20 في المئة من قيمة الدولار الواحد، وذلك كان باب إثراء مهم لا يمكن تجاوزه.

قوانين على المقاس

“عام 2021 كان يمتلك الشاب معاذ السمح محلاً صغيراً لبيع الدخان، الوطني والمهرب، إذ إن كثيرين يدخنون سجائر أجنبية تصل إلى سوريا تهريباً من العراق ولبنان، وهي منتشرة في كل محال البيع تقريباً، لكن العبرة فيمن يقع”، هكذا وصف معاذ ما حصل معه ذاك العام، إذ داهمت محله دورية من الجمارك، وعثروا لديه على 10 صناديق صغيرة تحوي دخاناً غير وطني، ليُقتاد فوراً إلى الجمارك، وكما هو معمول به في القانون الجمركي كان يفترض أن يجري صاحب المحل تسوية فورية ويدفع ثلاثة أضعاف قيمة البضائع المصادرة ويخرج فوراً بعد عرضه على القضاء، وقيمة تلك البضائع لم تكُن إلا آلاف دولارات قليلة، لكنه فوجئ بنوع التسوية التي حصلت.

يقول معاذ “أوقفت أياماً عدة في الجمارك من دون عرض التسوية القانونية عليّ وإحالتي مباشرة إلى القضاء، بل تم تحويلي إلى فرع الخطيب، وهناك تلقيت بعض الإهانات لدى وصولي ولكنها لا ترقى للأمانة إلى أن تسمى تعذيباً وما إلى هنالك، فالغاية هنا هي المال، وليس الصراع على موقف، وبعد فترة توقيف تم التحقيق معي مرات عدة حول مصدر الدخان، وهم يعرفون سلفاً مصدره وكمية انتشاره، كنت علمت كما يعلم الجميع أني هنا من أجل تسوية مالية لإخراجي، ومع تأخر التسوية حينها قد أتعرض للتعذيب”.

ويضيف أنه “أخيراً تم إبلاغي بتغريمي بمبلغ 100 ألف دولار تحت بند تهمة التلاعب بالأمن الاقتصادي، وكان الرقم كبيراً وصادماً، وحين سألتهم لماذا لا يتم تغريمي على أساس جمركي؟، قالوا لي إنهم احتسبوا صادراتي ووارداتي وحجم مبيعاتي منذ افتتاح المحل عام 2012، والمضحك أني افتتحت المحل عام 2019، ولكنهم كانوا مقتنعين بما يقولون تماماً، هذا ما نسميه ’تبلياً وافتراء‘ وهو ما عاشه قسم كبير من تجار سوريا إلى أن قرروا الرحيل”.

خلال ثلاثة أشهر من توقيف البائع، تمكن والده من بيع منزلهم وجمع بقية المبلغ المطلوب، واللافت بحسب الوالد أن الطلب كان الدفع بالدولار، مما يمنعه القانون أساساً، وقام بسداد المبلغ للفرع كفدية لإخراج ولده الذي صار الآن في أبو ظبي مهاجراً تحت وطأة ظلم فكك المجتمع من أرضيته وحتى رأس هرمه مع مرور الوقت.

اللعب من الخلف

أسماء الأسد ولّت هذه المهمة في هذا الجانب من الجباية لرجل مغمور يدعى أبو علي خضر الذي ظهر من العدم في مرحلة ما بعد رامي مخلوف ليصير واحداً من أكبر أمراء الحرب، متسلماً إلى جانب المتابعة الأمنية للتجار ملف المعابر غير الشرعية والبضائع المهربة، وعلى رغم قصر خبرته الاقتصادية والسياسية تمكن من بناء ما سمي “إمبراطورية” خاصةٍ به، إلى أن لاقى مصير رامي مخلوف عام 2023 حين تجاوز صلاحياته وأصبح يعمل لمصلحته الشخصية.

في ذلك العام، اكتشفت أسماء ومعها بشار ومن خلفهما المكتب الاقتصادي عن وجود 250 تاجراً معتقلاً في الفرع 215 لمصلحة أبو علي خضر من دون أن يعلموا عنهم شيئاً، مما استدعى توجيهات فورية بإقالة رئيس الفرع أسامة صيوح وتحويله إلى التحقيق وتجريد أبو علي خضر من أمواله ومصادرة ممتلكاته، وذلك كان بأمر رئاسي علني تصدّر صفحات مواقع التواصل الاجتماعي.

لكن المشكلة لم تكُن في حجم المعتقلين اقتصادياً، بل لأن أحداً تجرأ على العمل خارج منظومة الجباية لحسابه الشخصي، وكاد يشكل خطراً على سير العملية برمتها بتمكنه من توليد إمارة داخل الإمارة.

سيدة الصبار

كانت تراعي أسماء الأسد تسويق أسماء مختلفة لها، كـ”سيدة الياسمين” و”أم الكل” والسيدة الأولى، وغير ذلك، لكن الناس، ومن الطينة المؤيدة حتى كانوا يصفونها همساً بـ”سيدة الصبار”، ومن بين أولئك شاب اسمه يونس زيتون وكان يملك متجراً صغيراً لبيع الأجهزة الخليوية برأسمال لا يتخطى 10 آلاف دولار.

بعيد مطلع عام 2023، فوجئ بدخول عنصري أمن إلى محله مغلقين الباب خلفهما بعد أن أنزلوا سحاب المتجر من الخارج، وأول شيء فعلوه هو سحب تسجيلات الكاميرات، ثم النظر في سجل المبيعات وحجمها، وتالياً البحث بأيّ طريقة عن شيء مخالف، وكان أولئك العناصر من الفرع 215، وكان ذلك السلوك جماعياً ويومياً لمحال الأجهزة الخليوية، إذ يكاد من لم يتعرض لضربةٍ منهم يمكن إحصاؤه بسهولة.

كان أول جرم يجري البحث عنه هو إيجاد جهاز خليوي معروض للبيع لا يحمل ملصق شركة “إيما تيل”، وهي الشركة التي استأثرت بالسوق وطردت الباقين وحصرت مبيعات الهواتف بها، وبالطبع تلك الشركة تعود ملكيتها لأسماء ويدير أعمالها أبو علي خضر.

ومع العثور على جهاز واحد لا يحمل ذلك الملصق كانت التهمة بالتهرب من البيع المنصوص عليه جاهزة لتُكال للبائع، وفي حال كان كل شيء سليماً فلن يخرج أولئك العناصر خالي الوفاض، إذ إن ملصقات شاشات الهواتف وبيوت الحماية لها تعتبر مخالفة لأنها مهربة، وسوريا عموماً لا تنتج هذه الأشياء البسيطة، وعلى بساطتها فهي الأكثر طلباً وهي عماد محال الأجهزة الخليوية في إطار المبيعات اليومية.

لا يثقون ببعض

وللحفاظ على سرية حملة المداهمة، كان الفرع يسحب من عناصره أجهزتهم الخليوية قبل التوجه إلى الهدف لمنع إجراء عمليات تواصل خارجية، كما كان العناصر يأتون من خارج المدينة، فمثلاً الفرع 215 يتبع للأمن العسكري، وهو فرع مقره في دمشق، فإن داهم في حمص كان لا يستعين بفرع الأمن العسكري في المدينة لأجل السرية أيضاً.

في ذلك اليوم، اقتيد يونس إلى الفرع ليس لعرضه أجهزة على واجهة محله لا تتبع للشركة الوحيدة، بل لأن الجهاز الذي يحمله هو نفسه لم يكُن يتبع للشركة، وبعد أخذ وجذب جرى تحريره لقاء 30 ألف دولار.

كقصص يونس ومعاذ ثمة مئات وربما آلاف القصص، وكذلك نجحت أسماء في تحويل سوريا إلى دولة للجباية مفتوحة على مصراعيها أمام سلطة طوّعت الأمن بكل قوته في إحكام القبضة على كل ليرة تتحرك في السوق، ولكل ليرة كانت هناك وسيلة للعقاب والجباية، وتلك الطرق كلها كانت خارج القانون السوري، ولكنها في صميم القانون الأسري العائلي.

الآلة الحاسبة مكان السلاح

وكذلك نجح بشار برفقة أخيه ماهر في الاشتباك الاقتصادي ضمن ملفات أكثر ضخامة وتأثيراً، “فحوّلا معاً، الجيش، وعلى رأسه الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري، إلى فرق بنكية ألقت السلاح جانباً واستبدلته بالآلات الحاسبة”، بحسب خبراء، “فمداخيل التشليح على الحواجز والإشراف على التهريب والتلاعب بالموازنة وتصنيع الكبتاغون وتصديره للخارج ضمنت لهما إتمام عهد ما بدأته أسماء واستكمال عقد النهب الممنهج في كل اتجاه”، وفق هؤلاء.

سارق ذكي ولص غبي

لا يبرر السوريون لرامي مخلوف سرقاته المليارية واكتنازه غير المشروع لأموال تعادل موازنات كاملة، لكنهم يفرقون بين “سارق ذكي ولص غبي”، فالسوريون كانوا يخبرون بعضهم أن “اللصوصية الغبية أي أفعال السلطة الحاكمة التي أدت إلى مشكلات فاقمت من سوء الواقع، وأفضت إلى تأكيد الأمم المتحدة أن 90 في المئة من السوريين هم تحت خط الفقر”.

لكن عدالة الحياة تدخلت وأقصت النظام الذي كان قائماً والذي “كان يحاضر في أسس المواطنة والعدالة والمساواة ثم يوجه ضرباته نحو مختلف شرائح المجتمع”.

ولكل تلك الأسباب وغيرها، فرحت كل مكونات الشعب بإزاحة نظام كان يقتات لبقائه على ما في جيوبهم من أموال قليلة، فكانت نهايته الحتمية ما صنعه بيديه من مجاعة تركت الناس تموت جوعاً وكمداً وقهراً وبحثاً عن علاج باهظ الثمن.

تلك الممارسات التي ارتكبها النظام السابق جعلت جيشه وشعبه يحجمان عن الدفاع عنه طرفة عين، ففي الجوع تتساوى الرؤوس، ورحل هارباً تاركاً خلفه بلداً مهدماً مدمراً، بإرث ثقيل لإدارة جديدة عليها أن تحارب حتى أجل غير معلوم لتتمكن من إعادة موارد الدولة إلى حالها الأساسية ولتعمر بنيته التحتية ولتعيد كرامات الناس.

“بطل إضاعة الفرص”

وعلى رغم أن المعارك المباشرة في سوريا، أي معارك المدن، انتهت في منتصف عام 2018، وحظي بعدها الأسد بانفتاح عربي ودولي جزئياً، لكنه كما تم وصفه “بطل إضاعة الفرص”، الفرص التي تلقاها على تحديداً من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للقائه، فرفض مراراً، وكل تلك المؤشرات مع انتهاء الحرب كانت تتيح له البدء بتنمية شاملة، مستفيداً من إمكان الانتقال من الفكر الاقتصادي الاشتراكي إلى نوعية رأس المال الحر، فقام بدمج المفاهيم الاقتصادية العالمية في بوتقة واحدة، بوتقة الإثراء الشخصي على حساب ملايين الجائعين.

————————–

ثقافة الشارع: لماذا ننفصل عن «الواقع»؟/ محمد سامي الكيال

تحديث 10 كانون الثاني 2025

تستخدم مفردة «الواقع»، أو «الواقعية»، في التداول العربي المعاصر، بطريقة لا يمكن وصفها إلا بالأيديولوجية. دائماً يوجد متحدّث، يؤكد أنه ملتصق بالواقع، ويتخذ مواقفه على أساس الواقعية، متهماً مخالفيه بالانفصال عنهما، دون تقديم أي براهين متماسكة، على امتلاكه المعرفة الصحيحة والكافية عن ذلك الواقع. هذا يعني الادعاء بأنه لا يتكلّم بناءً على موقع اجتماعي، أو مصلحة، أو عقيدة، أو منهج نظري، أو ميول طائفية وثقافية، وإنما من قلب «الواقع» مباشرةً، ودون توسّط، وبالتالي فكلامه لا يقبل المعارضة، أو التكذيب، أو التحليل، أو النقد.

من يجرؤ على دخول مناقشة مع «الواقع» شخصياً؟ وهذا هو التعريف الأبسط للاحتيال الأيديولوجي: مذهب من الأفكار والرؤى، يُقدّم نفسه على أنه «الطبيعة» أو «الواقع»، وأحياناً الوحي أو النص الإلهي، مغطّياً بذلك على موقع وميول ومصالح الجهة التي تحمله. ما يجعل «الواقعية»، الموصوفة أعلاه، أيديولوجيا رديئة أكثر، افتراضها أن قراءة معيّنة للواقع، يجب أن تؤدي إلى نتيجة واحدة، وموقف سياسي موحّد أو شبه موحّد، ما يلغي المجال السياسي نفسه، فـ»الواقع»، الذي ينتج موقفاً حتمياً، سيفترض علينا الدخول في نوع من «الجبهات الوطنية»، ذات المنظور والهدف الواحد، الأمر الذي ينفي، من حيث الأساس، إمكانية وجود مواقع اجتماعية مختلفة، أو حتى متعارضة ومتصارعة، يحقّ لها التعبير عن نفسها، ورؤاها ومصالحها، واتخاذ مواقف مختلفة بناءً على ذلك، حتى لو اتفقت على القراءة نفسها للظروف الاجتماعية والسياسية، أي حتى لو اتفقت في رؤيتها لـ»الواقع».

قد يتماشى ذلك كثيراً مع نزعة «الحوكمة»، المنتشرة حالياً، التي تقوم، في جانب مهم منها، على إلغاء السياسة، لمصلحة نمط من التحكّم البيروقراطي/التكنوقراطي: لا نريد أفكاراً سياسية وثقافية متعارضة، فالخبراء يخططون، ويعرفون ما يلزم لأجل الازدهار، بل ربما الأخلاق الاجتماعية السليمة والصحيحة؛ ولا نحتاج حتى إلى قوى سياسية، فلينضوِ الناس تحت مظلة المؤسسات المحوكمة، بوصفهم أفراداً وليسوا قوى. والطريف أن هذه النزعة، الضد سياسية، تناسب حتى الجهاديين، الذين يبشّرون بمثلها حالياً في سوريا.

مفهوم «الواقع» أعقد بكثير بالطبع من هذا الاحتيال الأيديولوجي، وكذلك المذاهب والمناهج الجديّة، التي تصف نفسها بالواقعية، سواء في الفلسفة أو النظرية السياسية. ولكن بعيداً عن نقاش «الواقع»، ومستوياته المتعددة، مفاهيمياً، ربما كان الأجدى التساؤل عن الأسباب التي تجعل كثيراً من البشر يخضعون للاحتيال، رغم أنه يمسّ مباشرة رغباتهم ومصالحهم، بل حتى وجودهم الاجتماعي؟ بعبارة أخرى: كيف نسكت على خيارات ومقولات سياسية وأيديولوجية، نشعر بقوة بتبعاتها التدميرية علينا أو على آخرين؟ الأحداث الكبرى التي شهدتها المنطقة مؤخراً، مثل حرب غزة وسقوط النظام السوري، تجعل هذا السؤال شديد الضرورة. إذ كيف مرّ علينا خراب المدن والمجتمعات، والمغامرات المسلّحة غير واضحة الغايات والهدف، والتهجير، وخطر الشمولية الدينية، والاضطهاد الطائفي، بوصفه «الواقع» الحتمي، الذي لا يحق لنا أن نقترح ونسعى إلى بدائل عنه؟

إرهاب الابتزاز

تتردد دائماً، في أي صيغة من «الواقعية» المبتذلة، مفردات مثل الشعب أو الناس، أو الشارع. وهؤلاء دائماً لديهم روح أو نبض معيّن، يعرفه ويمثّله «الواقعيون»؛ فضلاً عن هذا يعانون من ظروف صعبة، فهم غالباً مضطهدون أو فقراء أو حتى جائعون. الأهم أنهم الكل، ووحدهم المهمون، الباقون يجب أن يلتحموا بهم، ويماهوا خطابهم معهم. لماذا؟ ربما لأن ذاك الشعب، أو الشارع هو الطرف الأصيل، أو المعبّر عن جوهر معيّن، أو أكثرية ما، وغيره فروع غير أصيلة، يعيبها اختلافها عنه. وهذا يعني أن غير الأصيلين لا يمكن أن تكون لهم حقوق متساوية، أو قدرة على التعبير، تخالف ما يريده الأصيلون. هذا النوع من المقولات يتضمّن بالضرورة نوعاً من الإلغائية، لكل ما يخالف التقديم الأيديولوجي للكتلة الموصوفة بـ»الشعب»؛ ويهدد، بشكل مبطّن أو صريح، بردة فعلها المتوقّعة على المخالفة؛ كما أنه يعتمد على طرح المعاناة بوصفها حجة، لا يمكن مناقشتها، وكأن أفكار مَنْ يعاني صحيحة بالضرورة، أو حتى تضمن خروجه من المعاناة. نتحدث إذن عن مزيج من الإرهاب والابتزاز، أو الإرهاب بالابتزاز.

إذا تجاوزنا الوظيفة الأيديولوجية لتلك المقولات، لن نحتاج إلى نقاش طويل، ففي مجتمعات لا تتوقف اضطراباتها الاجتماعية العنيفة؛ وانقساماتها الفئوية والعصبوية والطائفية، غير القابلة للتوفيق؛ بل حتى حروبها الأهلية، الباردة والساخنة، يبدو الحديث عن كتلة واحدة هي «الشعب»، أمراً غير مفهوم، مَنْ الذين يتصارعون إذا كان الشعب يمتلك روحاً وأهدافاً واحدة؟ ثم على أي أساس نتصوّر أن حاجات أساسية مشتركة لدى الجميع، مثل الأمن والمستوى المعيشي الجيد، ستولّد بالضرورة موقفاً موحّداً؟ ألا يمكن أن يرى كل طرف اجتماعي أن أمنه ومعيشته يتحققان بالتنافس أو الصراع مع الآخرين، أو لا يكونان إلا بحماية الذات منهم؟ الأغلب أن الابتزاز بالشعب أو الناس هو مقولة تروّجها أطراف تسعى للتغلّب على الآخرين، في ظل غياب أي آلية سياسية مستقرة، تضمن حدّاً أدنى من تمثيل التنوّع الاجتماعي، والمشاركة السياسية في القرار. يتم تعويض غياب الأطر، والإجراءات السياسية والقانونية والمؤسساتية القابلة للقياس، بأحاديث عائمة عن «الناس» واحتياجاتهم؛ كما تتم التغطية على تغلّب عُصبة معيّنة، وممارساتها القمعية تجاه غيرها، كونها تمثيلاً لروح الشعب المضطهد تاريخياً، أو الجائع.

قد يكون كل هذا نافعاً في أنظمة ديكتاتورية قوية، تقوم على مزيج من السياسات الاجتماعية، التي تؤمّن احتياجات فئات اجتماعية متعددة؛ والهيمنة الأيديولوجية، التي تضمن نوعاً من خضوع ورضا المحكومين، دون اللجوء دائماً إلى العنف المباشر، وبذلك تنتج تلك الأنظمة «شعبها» الخاص، ولو على حساب إقصاء وقمع، وربما إبادة، كل فئة قد لا تتسق مع ذاك الشعب وهويته. ولكن في دول مضمحلة، عاجزة عن أداء أبسط وظائفها؛ ومجتمعات منقسمة بشدة، لا سبيل لإيجاد آلية لاستيعاب تناقضها؛ ومساحات تتقاسمها الميليشيات، يُمسي الابتزاز بـ»الشعب» أقرب لمحاولة للتغطية على حرب أهلية، تُمارس بشكل يومي، حتى لو لم تشهد دائماً معارك كبيرة، فضلاً عن أنها مرشّحة دائماً للتصاعد بشكل شديد الدموية. هنا يمكننا أن نفهم أكثر فعالية الإرهاب بالابتزاز: الحديث عن «الشعب»، الذي يعاني، ليس سوى تهديد بكوارث مقبلة، قد تتسبّب بها العصبة أو الميليشيا الأقوى، تجاه كل من يقف في وجه تغلّبها. وهو تهديد يدركه الجميع، ويبقى في خلفية وعيه.

يبدو أننا تعوّدنا على العيش تحت التهديد، فمن تهديد الدول القمعية، وحتى تهديد الميليشيات وقوى الأمر الواقع، التي تأخذ سلطات الدولة، دون مسؤولياتها وبناها القانونية، علينا أن نصمت، ولا نعبّر عن وجودنا الاجتماعي، ومن ثمّ نقنع أنفسنا بأننا نفعل كل هذا، لأن «الشعب» يريده.

ضد التفكير

المشكلة الأخرى في «الواقعية» المبتذلة، أنها ليست فقط ضد السياسة، بل أيضاً ضد التفكير نفسه، فعندما يدّعي أنصارها معرفتهم المباشرة بـ»الواقع» و»نبض الشارع»، ودون حاجة لأي عمليات عقلية وسيطة، مثل التجريد والتحليل والمقارنة والاستنتاج والاستنباط، وإنتاج الموضوعات، ومعالجة البيانات، فهم يستهينون بكل مَنْ يمارسون هذه العمليات، بوصفهم متفلسفين، أو منظّرين، أو حتى مثقفين. قد تكون الثقافة السياسة الفقيرة، المستهينة بالفلسفة والنظرية والفعل الثقافي، «خصوصية عربية»، يصعب أن نجد لها نظائر فعلية في لغات وثقافات أخرى، فعلى الرغم من كل النصوص العالمية المكرّسة لنقد المثقفين، والتيارات الفكرية الناقدة لـ»النظرية»، يندر أن نجد مَنْ يعتبر الفلسفة أو الثقافة مذمّة أو انتقاصاً من أحد، أو حجّةً ضد كلامه. ربما باستثناء بعض الشعبويين، على الطراز الأمريكي الترامبي.

معاداة التفكير الشاملة هذه مرتبطة بتحطيم المجال السياسي، فعندما لا تكون هنالك قوى سياسة واجتماعية مستقلة، عليها ابتكار برامجها وخطابتها الخاصة، وتقديم منظورها المتماسك للمجتمع والتاريخ، و»الواقع» الذي تعيشه، سيسود خطاب الجموع، التي لا رأس لها، إلا القائد المتغلّب، وإنما تملك فقط «روحاً» و»نبضاً» و»حاجات»، ومناهضة بطبعها لأي عقل. لقد انتقل هذا الخطاب من الأنظمة الديكتاتورية، التي بدأت بتحطيم السياسة، إلى من يظنون أنهم ثوّارٌ أو متمرّدون عليها، وهم، في «الواقع»، ليسوا سوى نسخة مشوّهة عنها.

تقوم مناهضة التفكير أيضاً على المنظور شديد الذاتية، الذي يحسب أن إحساسه، وتجربته، ووجوده ضمن مجموعة هوية معيّنة، يعطيه معرفة مباشرة، لا ريب فيها، ولا يمكن مناقشتها، دون أي محاولة للتوصّل لمنظور متجاوز لمحدودية التجربة الذاتية، والتي لا يمكن أن تكون متكاملة، أو أمينة، أو خالية من فجوات وانحيازات الذاكرة، أو قادرة على ملاحظة كل البيانات والتفاصيل، خارج الدائرة الضيقة لصاحبها. يجعل هذا من التجربة نقيضاً لأي مفهوم منضبط عن «الواقعية». ومجدداً يمكن ربطه بالدول القمعية، التي حدّت بشدة، من أفق الجميع، وسجنتهم في ما يشبه المعازل المجتمعية، ونشرت بينهم أدوات رديئة للتفكير، من أهمها التجريدات الشمولية والمتعالية عن الأمة الأحادية، ذات الشعب الواحد، الذي يرفض أي تعددية، اجتماعية وفكرية.

يمكن القول إن هذا النوع من الشموليات، التي تزداد رثاثة مع الزمن، لا يقدّم إلا نظاماً واحداً للتعبير، يحوي مجموعة فقيرة وغير متقنة من المفاهيم والأدوات والمقولات، التي يَسهُل تكرارها من طرف الجموع، غير المسموح لها بأي استقلالية، وتجربة مستقلة؛ بل الصراخ بها بصوتٍ عالٍ، وممارسة العنف المادي والمعنوي على أساسها. ولذلك يبدو ذلك الصراخ العنيف «الأكثرية»، أو حتى «الشعب». خارج هذا النظام، الذي يدعم الهراء، يوجد بشر كثيرون، يضطرون لخفض أصواتهم، أو الصمت التام، أو مسايرة التيار، خوفاً من الإرهاب والابتزاز. الأنكى أن نظام التعبير هذا، على فقره، يُقدّم على أنه «الواقع»، الذي يجب أن نلتحم به، ولذلك سيكثر بالتأكيد «المنفصلون عن الواقع»، إذ يصعب بالتأكيد على البشر أن يتعاملوا مع ظروف حياتهم، والانتهاكات التي يعايشونها يومياً، والتهديد الشامل لوجودهم، بعدد محدود من الجُمَل، التي لا تقول شيئاً، ولا حيثية لها، إلا ضوضاء من يستسهلون ترديدها. ربما كان من المفيد أن ننفصل قليلاً عن هذا «الواقع»، ونلجأ إلى آفاق من التفكير والمخيلة، أكثر ذكاءً، والتي ستكون لذلك بالتأكيد أكثر واقعية من «الواقع».

كاتب سوري

القدس العربي

————————–

صياصنة والجامع العمري: الشيخ الثائر والرمز المقيم

صبحي حديدي

تحديث 10 كانون الثاني 2025

مرفوع الرأس ومحمولاً على الأكتاف، وسط تهليل وتكبير من أبناء حوران السورية، عاد الشيخ أحمد صياصنة (79 سنة) إلى الجامع العمري الكبير في مدينة درعا، بعد 12 سنة ونيف من حياة المنفى في الأردن؛ الخيار الذي اضُطرّ إليه بسبب ملاحقته من أجهزة النظام والتنكيل به وبأسرته واغتيال ابنه، عقاباً على مواقفه المؤيدة للانتفاضة الشعبية. وفي مستهلّ تصريحاته قال الشيخ: «نحن شعب عظيم، نريد الحرية، نريد البناء، نريد الرخاء. لقد قضينا ستين عاماً تحت القهر والاستبداد، وها نحن اليوم ننتفض لنعلن للدنيا أننا نرفض الطغيان ونريد أن نكون أحراراً كما ولدتنا أمهاتنا».

وإذا كانت للشيخ رمزيته الخاصة، وهو الكفيف الثائر والإمام المدرّس ومقارع الاستبداد والفساد في حوران التي دشنت لانتفاضة وخرّ شبابها حسام عياش ومحمد الجوابرة وأيهم الحريري أوائل شهداء أجهزة النظام؛ فإنّ لمسجده العمري رمزية موازية خاصة بدورها، تنامت وترسخت منذ الأيام الأولى للانتفاضة، حين دوّن أطفال درعا على الجدران عبارة «إجاك الدور يا دكتور» فأمر رأس النظام باستخدام الرصاص الحيّ ضدّ المتظاهرين في شوارع المدينة، وأرسل وحدات خاصة لاقتحام جامع المدينة العريق وسفك المزيد من الدماء في باحته وداخل جدرانه. يومها عبر بشار الأسد نهر الروبيكون، الدامي تماماً كما يتوجب القول، لتصبح دماء السوريين هي الفاصل بينه وبين الشعب، وهي الفيصل الصريح والأقصى. ولقد دقّ، بنفسه ثلاثة مسامير كبرى في نعش عصاباته/ نظام أبيه، الذي صار آيلاً إلى سقوط، بَعُدت لحظته 14 سنة لكنها دنت في 8 كانون الأول (ديسمبر) 2024.

المسمار الأوّل كان الاطمئنان، الناجم بالضرورة عن اختلاطات الطيش والغطرسة والنرجسية، إلى أنّ هذا الحراك الشعبي، في دمشق وبانياس ودير الزور وحمص والقنيطرة، قبل درعا، لا يمثّل إلا فئة من «المندسين» و«العملاء»؛ لأنّ الشعب بأسره يحبّ «الرئيس» بدلالة ذلك الشعار الذي تغصّ به شوارع سوريا: «منحبّك»! وكان أمراً تلقائياً، أو بالأحرى غريزياً، أن يفضي ذلك الاطمئنان إلى يقين الدكتاتور، وناصحيه من شركاء النهب والحكم العائلي المافيوزي، بأنّ الردّ يحتاج إلى خيار الأرض المحروقة، والبتر المبكر، على الفور؛ من دون أي ترجيح حتى لاحتمال العلاج بالكيّ. ولقد كان مذهلاً، حتى لأصدقاء النظام الإقليميين (وكان بينهم آنذاك رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، على سبيل المثال) أن يلجأ النظام إلى الذخيرة الحية في مواجهة أوّل تظاهرة سلمية نوعية، وأن يسقط الشهداء في ساعات قليلة.

المسمار الثاني هو الاستهانة بالمغزى الرمزي، قبل ذاك الديني، لاقتحام مسجد أوى إليه جرحى ومواطنون لا يحملون حتى الحجارة، ولم يكن لهم أن يتسببوا بأي أذى للمفارز الأمنية والوحدات العسكرية التي تطوّق المسجد. ولكي تُضاف الإهانة إلى الجرح، وتُخلي المأساةُ مشهدها الدامي لصالح مهزلة ركيكة سخيفة مستهلكة، دخلت عدسات إعلام السلطة إلى المسجد و«ضبطت» الأموال والأسلحة المخزّنة هناك، والتي وصلت إلى «المندسين» من جهات خارجية. كأنّ الأسد لم يتعلّم أبسط الدروس من اتهامات مماثلة، ساقتها حينذاك سلطات الاستبداد في تونس ومصر واليمن وليبيا، ولم تعد أضحوكة المواطن العربي، والبشر في مشارق الأرض ومغاربها، فحسب؛ بل صارت مبعث اشمئزاز واحتقار.

أو، في مقارنة أخرى، كأنّ الابن نسي حرص أبيه ـ وكان أشدّ بطشاً واستشراساً في قمع الاحتجاج، أياً كانت طبيعته أو نطاقاته ـ على تفادي اقتحام المساجد، حتى حين أعطى الأوامر بقصفها، خالية كانت أم على رؤوس اللاجئين إليها من بني البشر. صحيح أنّ رهط المنافقين من المشائخ، المطبّلين المزمّرين للنظام، التزموا الصمت المطبق؛ ومثلهم فعل رجال دين وميليشيات أمثال حسن نصر الله؛ إلا أنّ اقتحام مسجد آمن مسالم كان يتجاوز بكثير حرق الأصابع جرّاء لعب الهواة بالنار. ذاك، أغلب الظنّ، ما أدركه الأب مكيافيللي النهج، وفات على الابن الوريث «الممانِع».

المسمار الثالث هو احتقار الذاكرة الشعبية السورية، عن طريق اقتراح حلول تنطلق من افتراض الدرجة صفر في الذكاء الأخلاقي للمواطن السوري، أو الدرجة ذاتها في كرامته الوطنية؛ كما حين اختار الأسد أن يكون وسيطه في الحوار مع أهل درعا هو اللواء رستم غزالي، أحد كبار أدوات الفساد والاستبداد، دون سواه! الأرجح أنّ منطق اعتماد غزالي انطلق من اعتبارات مناطقية صرفة، في طليعتها أنّ اللواء من أبناء المحافظة، وأنّ له بالتالي «موانة» على أهلها وشهدائها، أياً كانت موبقاته في قمع أبناء محافظته أنفسهم، كي لا يتحدّث المرء عن قبائح غزالي في عنجر وسائر لبنان.

وفي كلّ حال، بينما كان «الوسيط» يسعى إلى ممارسة مهاراته في التفاوض، كما اكتسبها من سيّده السابق اللواء غازي كنعان، أو من مراقبة ألاعيب أصدقائه الساسة اللبنانيين الأفاقين؛ كانت وحدات عسكرية خاصة قد تلقّت لتوّها الأوامر بحصار المدينة، وقطع الكهرباء عنها، واتصالات الهاتف الجوّال والإنترنت، تمهيداً لارتكاب المجزرة في الجامع العمري، بعد ساعات قلائل. في السياق ذاته، بدا الأسد مستعداً لتقديم كبش فداء إلى مواطني درعا، تمثّل في مرسوم إقالة المحافظ فيصل كلثوم، متناسياً أنّ أهالي المحافظة كانوا على إدراك تامّ بأنّ الأخير ليس سوى بيدق صغير في شطرنج بيت السلطة، ومسنّن أصغر في آلة الفساد الجهنمية، ومن الإهانة اعتبار إقالته بلسماً لجراح المحافظة ولأمهات الشهداء الثكالى.

والحال أنّ صياصنة كان مثالاً، بل لعله انقلب إلى أمثولة، على تخبّط سياسات الأسد الابن تجاه اتساع نطاق الانتفاضة الشعبية، إذْ أنّ إعلام النظام بدأ بإعلاء شأن الشيخ والإطناب في مديحه خلال الأيام الأولى من اندلاع تظاهرات درعا، حين كان التكتيك يقتضي مغازلة الشيخ بهدف تليين عريكته، أو لاكتسابه إلى صفّ النظام، وصولاً إلى حرق مكانته على الصعيد الشعبي. وبين ليلة وضحاها، تمّ تأثيم صياصنة وصار رأسه مطلوباً، إلى درجة إعدام ابنه أسامة في قلب الجامع العمري لأنه رفض الإفصاح عن مكان اختفاء أبيه. كذلك صار الشيخ موضوع تلفيق رخيص، وأُجبر البعض على «اعترافات» تنسب إليه تسليح «الإرهابيين» وتمويلهم؛ بل ذهب أحد أبواق النظام الإعلامية، طالب إبراهيم، إلى درجة التأكيد بأنّ المسجد العمري شهد اجتماعاً تآمرياً بين الشيخ المسلم و… «الزعيم الشيوعي» رياض الترك!

الأوّل، الشيخ صياصنة، عاد اليوم إلى بلده وأهله ومدينته ومسجده، معززاً مكرّماً، مبشّراً بمستقبل وضاء للسوريين على اختلاف أعراقهم وأديانهم ومذاهبهم وعقائدهم؛ والثاني، الترك (1930 ــ 2024) المعارض والقائد السياسي البارز الذي استحقّ اللقب الشعبي «مانديلا سوريا» قياساً على سنوات سجن طويلة ومتعاقبة امتدت نحو ربع قرن، رحل في منفاه الفرنسي ولكنه سكن عميقاً في وجدان سواد أعظم من بنات وأبناء بلده. أمّا آخر سلالة الاستبداد والعسف وجرائم الحرب الأسدية، فإنه طريد قابع في سلال مهملات التاريخ، ينتظر الحساب العسير.

الجامع العمري من جانبه ظلّ حمّال رمزيات شتى، وطنية وإنسانية وتاريخية وروحية عالية، مقيمة ومتنامية في آن؛ ليس لأنّه معلم أثري شامخ يعود الأصل في تشييده إلى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، وشهد رعاية صحابة كبار أمثال معاذ بن جبل وأبي عبيدة بن الجراح، فحسب؛ بل لأنه، أيضاً، سجّل محطة فارقة في نقلات نظام «الحركة التصحيحية» بين الهمجية والسعار والتخبط، وبين العماء والأفول والسقوط.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

———————–

كانتونات للدروز وأخرى للأكراد… ترسيم سوريا بخطط إسرائيل/ أمال شحادة

تركيا في مركز تخوفات تل أبيب لكن المصالح المشتركة بأمان

الجمعة 10 يناير 2025

في تل أبيب دعوا إلى أن تكون مناقشة مقترح المؤتمر الدولي والكانتونات سرية منعاً لمعارضة واسعة لكون الاقتراح من إسرائيل، لكن وعلى رغم اقتصار الكابينت على عدد قليل من الوزراء ومسؤولين أمنيين إلا أن تفاصيله تسربت ومن بينها فكرة الكانتونات.

في وقت يثور المجتمع الإسرائيلي على الحكومة ورئيسها بنيامين نتنياهو لرفض تقديم خطة لليوم التالي في غزة، كخطوة تنهي الحرب وتعيد جميع الأسرى لدى “حماس”، تبلور تل أبيب خطة “اليوم التالي” في سوريا، بما يضمن لها منطقة واسعة بالقرب من خط وقف إطلاق النار الذي يفصل بين الجولان المحتل تحت السيادة الإسرائيلية والجولان السوري الذي تسيطر عليه اليوم إسرائيل مع مناطق سورية واسعة وتبقيه معها كورقة مساومة قوية في أية تسوية مستقبلية، على ألا يحدث أي انسحاب قبل اتضاح الوضع في سوريا وإنهاء القتال واستقرار النظام، والأهم عدم سيطرة تنظيمات متطرفة معادية لإسرائيل أو تركيا.

هذا السيناريو دفع وزير الأمن يسرائيل كاتس، بالتنسيق مع رئيس الحكومة، إلى دعوة اجتماع كابينت مقلص من دون مشاركة بنيامين نتنياهو لأسباب صحية، لبحث مقترح ما سمته الحكومة “اليوم التالي في سوريا”، على أن تتم بلورة الفكرة ومن ثم يعقد اجتماع موسع، من المتوقع له الأسبوع المقبل، ليكون نتنياهو تعافى بعد الجراحة التي أجراها، ليشارك فيه ويبحث سبل التقدم في الخطة.

الفكرة المركزية لهذه الخطة هي تقسيم سوريا إلى كانتونات، وبحث الاجتماع مبادرة إسرائيل لعقد مؤتمر دولي حولها بدعوى ضمان حماية الأقليات، وهم الدروز والأكراد، وكانت إسرائيل طرحت ملفيهما منذ اليوم الأول من انهيار نظام بشار الأسد.

وبحسب ما نقل عن مشاركين في الكابينت المقلص، فإنه من المتوقع عقد الاجتماع الموسع الأسبوع المقبل، بمشاركة نتنياهو وسيكون النقاش الأوسع فيه إلى جانب المؤتمر الدولي هو التدخل التركي في سوريا.

وبحسب أحد المشاركين فإن مداولات الكابينت تناولت مجمل التغييرات والأوضاع التي تشهدها سوريا، وأعرب المجتمعون عن خشيتهم من تداعيات نظام أحمد الشرع (الجولاني) على إسرائيل، وكذلك على سلامة الأقليات الدرزية والكردية في المنطقة.

وإلى جانب خطة الكانتونات يواصل الجيش الإسرائيلي تعزيز انتشاره وتموضعه في الأرض السورية، وكشف مسؤول أمني، مساء أمس الخميس، عن خطة سيباشر الجيش بتنفيذها وتضمن ما سماه  “وجود عملياتي” بعمق 15 كيلومترا داخل الأراضي السورية وإبقاء منطقة نفوذ بطول 60 كيلومتراً تحت سيطرة ومراقبة الاستخبارات  لمنع أي نوع من التهديدات على إسرائيل.

الأبحاث السرية

عضو الكابينت الوزير إيلي كوهين، يرى في عقد مؤتمر دولي في شأن سوريا مساهمة في تعزيز الاستقرار بالشرق الأوسط، والأهم، بحسبه، “ضمان أمن حدود إسرائيل الشمالية، والسماح لها بالدفاع في وجه التهديد المحدق بها من التنظيمات غير الملتزمة باتفاقات فصل القوات”.

في تل أبيب دعوا إلى أن تكون مناقشة مقترح المؤتمر الدولي والكانتونات سرية منعاً لمعارضة واسعة لكون الاقتراح من إسرائيل، لكن وعلى رغم اقتصار الكابينت على عدد قليل من الوزراء ومسؤولين أمنيين إلا أن تفاصيله تسربت ومن بينها فكرة الكانتونات.

واتضح أن فكرة الكانتونات طرحت في أبحاث الكابينت منذ سقوط نظام الأسد، وبحسب ما أوضحها الوزير كوهين، فإن تقسيم سوريا إلى كانتونات يضمن الأمن والحقوق لجميع الجماعات الإثنية في سوريا، وهو الأمر الذي سيكون محل بحث في مؤتمر دولي ستبدأ إسرائيل الإعداد له.

كوهين وغيره من المشاركين في الاجتماع أكدوا أن إسرائيل لم تناقش منذ سيطرة الجيش على مناطق واسعة في سوريا مسألة انسحابها من هناك أو تحديد الفترة الزمنية، إذ أكد وزراء الكابينت ما هو متفق عليه بعدم حدوث ذلك حتى ضمان الاستقرار، وهذا، بحسب مسؤول أمني يتم بأفضل شكل إذا جاء عبر مؤتمر دولي يبلور وضعية سوريا وحدودها من جديد بصورة تتمكن فيها إسرائيل من سحب قواتها من دون تعريض أمنها للخطر.

لماذا تخشى إسرائيل تركيا؟

بقدر ما حظي موضوع تقسيم سوريا إلى كانتونات في الكابينت كذلك كان لوضع تركيا في سوريا، إذ حذر أكثر من مسؤول سياسي وعسكري إسرائيلي من تداعيات وأخطار تعزيز نفوذها ووجودها قريبة على الحدود مع إسرائيل.

منذ بداية حرب “طوفان الأقصى” والأزمة محتدمة بين تل أبيب وأنقرة، على رغم تأكيد أكثر من مسؤول أن علاقات المصالح العسكرية والأمنية بينهما لم تتوقف يوماً.

الباحث في معهد أبحاث الأمن القومي في تل أبيب، خبير العلاقات الإسرائيلية – التركية رامي دانييل، استبعد ما حذر منه سياسيون وأمنيون من صدام بين تركيا وإسرائيل، قائلاً “صحيح أن العلاقة مركبة ومعقدة، لكن أبعد ما يمكن أن يحصل هو الصدام الكبير بين البلدين، إذ ما زالت هناك مساحة واسعة لمصالح مشتركة في سوريا ينبغي البحث عنها والتصرف بموجبها”.

منذ بدء الأعمال العسكرية في قطاع غزة هاجم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إسرائيل وتحدث عنها بصورة سلبية في المنظمات الدولية، وتبقى أنقرة الداعم الأكبر لحركة “حماس”، وفي خطوة غير مسبوقة قرر أردوغان قطع العلاقات التجارية بين الدولتين.

يقول دانييل إن هذا الوضع أدى إلى تخوف كثير من الإسرائيليين من التقدم التركي في سوريا، وبإطلاق تحذيرات من أن أنقرة قد تصبح نوعاً من “إيران جديدة” بالنسبة إلى إسرائيل، مضيفاً “لا خلاف في أن على إسرائيل أن تستعد لواقع يكون لها فيه حدود افتراضية مع تركيا في سوريا، لكن لا ينبغي المبالغة في وصف التهديد التركي، فتركيا ليست إيران، لا من ناحية السياسة الداخلية، ولا في سيطرتها في سوريا ولا في علاقاتها مع إسرائيل، فتركيا وإسرائيل لا تزالان تقيمان علاقات سياسية، حتى وإن كان على مستوى متدن”.

تسوية لا عداء مع تركيا

الوضع غير المستقر في سوريا من شأنه أن ينقلب على تركيا، وفق ما يرى الباحث دانييل كما أنه يرى أنه من السابق لأوانه معرفة تداعيات سياسة إدارة ترمب الجديدة على الشرق الأوسط وبأن ميزان القوى بين أنقرة وتل أبيب من شأنه أن يتغير، وكل تغيير كهذا سيؤثر أيضاً في العلاقات بينهما.

ويدعو دانييل متخذ القرار في إسرائيل إلى عدم التعامل مع تركيا على كونها تهديداً لإسرائيل، “إسرائيل وتركيا في إحدى الفترات المعقدة والباعثة على التحدي. في علاقاتهما توجد أخطار واضحة وفرص محدودة، إلى جانب الحاجة الحقيقية إلى الاستعداد لكل سيناريو محتمل، بخاصة في سوريا، إذ لا يزال من المجدي توجيه التفكير إلى الحد الأقصى من الفرص القائمة والامتناع عن تعريف تركيا كتهديد على إسرائيل. فالعمل بمنطق المصالح يتطلب الآن إيجاد تسوية موقتة مع تركيا. أمر كهذا مركب، حساس وغير شعبي، لكنه ضروري”.

——————–

تفاصيل وضع القوات الإيرانية قبيل سقوط الأسد

قيادي في “الحرس الثوري” يتحدث عن صراع مع روسيا وفساد مستشرٍ في جيش النظام السوري

الجمعة 10 يناير 2025

قال العميد إثباتي إن “الفساد الناجم عن الفقر انتشر في جميع أركان الجيش السوري، وكان معظم الجنود الذين كان من المفترض أن يدافعوا عن مدينة حلب ضد ‘المتمردين’ قد فروا قبل أن يدخلوها”. كما تحدث القيادي في الحرس الثوري عن وقوع “خيانة” في جيش النظام السوري من دون أن يذكر التفاصيل.

اعترف أحد قادة الحرس الثوري الإيراني الذي كان مشاركاً في الحرب الأهلية السورية في تصريحات نادراً ما تصدر عن مسؤولين إيرانيين، بأن بلاده تلقت ضربة موجعة في سوريا، مضيفاً أنه ينبغي لإيران ألا تصعد التوترات في المنطقة في الوقت الحالي.

وتختلف تصريحات العميد بهروز إثباتي، وهو أحد كبار قادة “الحرس” الذين عملوا في سوريا، بصورة كبيرة عن المواقف الرسمية لمسؤولين آخرين في النظام الإيراني في شأن الأحداث في سوريا.

لوم روسيا

وألقى العميد إثباتي باللوم على روسيا، في انهيار نظام بشار الأسد، مدعياً أن موسكو سمحت لإسرائيل باستهداف القواعد والعسكريين الإيرانيين من خلال وقف تشغيل أنظمة الرادار الروسية في سوريا.

وقد تناول المرشد علي خامنئي وفي أكثر من مناسبة الأسباب التي أدت إلى سقوط نظام الأسد، لكنه لم يعترف بالهزيمة في سوريا، وقال إنه على عكس التحليلات فإن “إيران قوية ومقتدرة، وستصبح أقوى”. وقدم العميد بهروز إثباتي، الذي يشغل أيضاً منصب رئيس مقر الفضاء الإلكتروني في هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة، في كلمته التي استمرت نحو ساعة ونشرتها وسائل الإعلام المحلية الإيرانية في شكل ملف صوتي، تفاصيل عن الوضع في سوريا في الفترة التي سبقت سقوط نظام الأسد.

تدهور سريع

وفي إشارة إلى النقص الشديد في المرافق الخدمية والمشكلات مثل انقطاع التيار الكهربائي المستمر في سوريا، قال العميد إثباتي إن “الأوضاع في سوريا تدهورت بصورة حادة خلال العامين الماضيين”.

وأشار أيضاً إلى الرواتب المنخفضة جداً للقادة الميدانيين والقادة ذوي الرتب المتوسطة في الجيش السوري قائلاً إن “العسكريين السوريين في حلب كانوا قد توقعوا سقوط المدينة”.

وتمكنت المعارضة المسلحة في سوريا بقيادة “هيئة تحرير الشام”، التي كانت تسيطر على محافظة إدلب في شمال غربي سوريا، من السيطرة على مدينتي حلب وحمص في عملية عسكرية خاطفة، وبعد 10 أيام فقط من بدء هذه العملية في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024، دخلوا العاصمة دمشق، مما أدى إلى فرار بشار الأسد من سوريا إلى روسيا.

وقال العميد إثباتي إن “الفساد الناجم عن الفقر انتشر في جميع أركان الجيش السوري، وكان معظم الجنود الذين كان من المفترض أن يدافعوا عن مدينة حلب ضد ‘المتمردين’ قد فروا قبل أن يدخلوها”. كما تحدث القيادي في الحرس الثوري عن وقوع “خيانة” في جيش النظام السوري من دون أن يذكر التفاصيل.

الشعب انتفض

وتابع العميد إثباتي الذي كان مشاركاً في الأحداث السورية “كنا نعلم أنه لا توجد قوات للدفاع عن بشار الأسد، لكن الرئيس السوري لم يصدق ذلك”، مضيفاً “نحن لم نهزم عسكرياً، ولم تكن هناك حرب على الإطلاق، بل الشعب (السوري) انتفض وأزال نظاماً فاسداً”.

وأردف قائلاً إن “رؤية بشار الأسد للمقاومة تختلف كثيراً عن رؤيتنا، إذ إنه يرى دور سوريا في المقاومة بأنه محدود للغاية”. وقال القيادي في “الحرس”، “عندما بدأ ’طوفان الأقصى‘ كنا قد أعلنا من خلال السفير والقائد (المرشد علي خامنئي) بأن الوقت قد حان، إذ يمكن لسوريا أن تهاجم وتستولي على الأراضي التي احتلتها إسرائيل. فقلنا (لبشار الأسد) نحن سندعم، لكنه قال لا، سوريا مجرد منصة لكم لدعم المقاومة، وإذا أردتم أن تنقلوا السلاح والعتاد وتذهبوا للحرب فلن أدخل في حرب مع إسرائيل”.

وزعم العميد إثباتي أن “الروس خدعوا الأسد وهم السبب الرئيس وراء انهيار نظامه”، مؤكداً أنه “بعد ’طوفان الأقصى‘ عمل الروس (سياسياً وميدانياً) لمصلحة إسرائيل”.

وأكد العميد بهروز إثباتي أنه كلما أرادت إسرائيل مهاجمة مقارنا الرئيسة، على سبيل المثل عندما هاجمت مقر “الشهيد صادق” للاستخبارات، كان الروس قد أوقفوا أنظمة الرادار حتى تتمكن إسرائيل من ضرب هذا المقر”. وأضاف أن “نظام بشار الأسد وتحت تأثير دول عربية مارس أكبر قدر من الضغوط على الإيرانيين خلال الأشهر الثلاثة الماضية”. وزاد “لم نبخل، وإيران لم تقصر حقاً، لكن لم يكن من المفترض أن نقاتل بدلاً منه. ولم يكن أي من أركان النظام يريد ذلك. لا الحزب ولا الحكومة ولا الشعب ولا الجيش يريد (القتال)”.

خسرنا سوريا

وأقر إثباتي “أولاً، يجب القول إنه بالنسبة إليَّ لست فخوراً بأننا خسرنا سوريا. لا، لقد تلقينا ضربة موجعة. كما قال أحدهم: لقد خسرنا، لقد خسرنا كل شيء. نعم، لقد خسرنا وتأذينا. كان الأمر صعباً بالنسبة إلينا، بخاصة للأشخاص مثلي”. ورأى أن “فكرة هزيمة ‘حماس’ و’قوى المقاومة’ هي نتاج العمليات النفسية الإسرائيلية”، مضيفاً “من قال إن اليمن هو الذي يدافع فحسب، القول إن المقاومة انتهت غير صحيح على الإطلاق”.

وتحدث العميد إثباتي عن أن “المقاومة الولائية بدأت العمل في سوريا. انتبهوا جيداً لهذه الجزئية. الآن أصبح بإمكاننا تفعيل الشبكات التي كنا على اتصال بها خلال الأعوام القليلة الماضية في مثل هذه الأوضاع، لنشكل خلايا المقاومة. الآن يمكننا أن نعمل مثل بقية الدول، وقد بدأنا بالفعل”.

وانقطع حديث العميد بهروز إثباتي فجأة عندما أشار إلى تصريحات خامنئي حول شباب سوريا، إذ وصفهم المرشد بـ”الشباب السوري الشغوف”.

وكان وزير الخارجية في الحكومة السورية الموقتة أسعد حسن شيباني، حذر إيران قبل أسبوعين من نشر الفوضى في سوريا.

وتوقع خامنئي في وقت سابق، ظهور “قوة شريفة وقوية في سوريا”. وقال إن “الشباب السوري لم يعد لديه ما يخسره، لأنه لا يشعر بالأمان لا في الجامعات ولا المدارس، والمنازل غير آمنة والشارع غير آمن وحياته غير آمنة. إذاً ماذا يجب أن يفعل؟ يجب عليه أن يقف بقوة وحزم أمام أولئك الذين خططوا لهذه الفوضى ومن نفذوها”.

وقال العميد إثباتي رداً على سؤال حول الهجوم الإيراني الانتقامي على إسرائيل أو القواعد العسكرية الأميركية إنه “الآن وفي مثل هذه الظروف فإن جر المنطقة إلى صراع عسكري ليس في مصلحة ‘المقاومة’، لأنه إذا ما قمنا بأي عمل سيهاجمنا العدو مرة أخرى”.

“الوعد الصادق 3”

وفي إشارة إلى “الوعد الصادق 3” الذي وعدت إيران بتنفيذه رداً على الهجوم الإسرائيلي الأخير على إيران في الـ26 من أكتوبر (تشرين الأول) 2024، قال إنه لا يعرف شيئاً عنه لأنه لم يكن ضمن الفريق المعني باتخاذ القرار”، لكنه أضاف “أعتقد أن المشهد (السياسي) الآن لم يعد يتماشى مع ’الوعد الصادق 3‘”.

وفي هذا السياق، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إنه بعد سقوط نظام الأسد، نُقل 4 آلاف عسكري إيراني عبر قاعدة حميميم الجوية الروسية في الساحل السوري.

وعندما اهتز النظام عام 2011 إثر الانتفاضة الشعبية والحرب الأهلية زودت طهران الأسد بالجنود والأسلحة والوقود. كما قتل أكثر من 2000 جندي وقيادي عسكري إيراني في سوريا، فيما قالت طهران إنهم ذهبوا إلى هناك بصفة “مستشارين عسكريين”. وكانت سوريا تحت سلطة بشار الأسد جزءاً من “المحور الإيراني”، إذ كانت تربط إيران بـ”حزب الله” في لبنان، وأدت دوراً محورياً في نقل الأسلحة والعتاد الحربي إلى الحزب.

————————

الطريق إلى دمشق الجديدة/ حسام كنفاني

10 يناير 2025

لم أكن يوماً من محبي زيارة دمشق في عهد حكم الأسديْن، رغم ما أحمله من مشاعر لهذه الحاضرة العربية الكبيرة. خلال السنوات السابقة للثورة السورية، اضطرّني العمل الصحافي إلى زيارة سورية مرّات قليلة، وفي كل مرة كان التوتر سيد الموقف طوال الرحلة من بيروت إلى الحدود السورية.

كان الدخول إلى مركز الأمن السوري، في ذلك الوقت، رعباً للسوريين واللبنانيين وكثيرين من الناشطين أو الصحافيين العرب الذين لا يدرون أي كلمة كتبوها أو قالوها استفزّت النظام المستبد، وباتوا إثرها مطلوبين لأحد الأجهزة الأمنية الكثيرة في سورية.

لحظات الوقوف أمام موظف الأمن في المركز الحدودي السوري حينها تمرّ كأنها ساعات، وربما لا يمكنك تمالك نفسك من التعرّق نتيجة القلق مما قد يظهر لهذا الفرد على جهاز الكمبيوتر الذي يعمل عليه، وخصوصاً حين يرفع عينيه عن الشاشة وينظر إليك. ولا يمكن تخيّل كم الارتياح الذي يمكن أن تشعر به حين يسلمك الموظف جواز سفرك أو بطاقة هويتك لتتابع رحلتك بسلام، مؤقتاً. هذا من دون الحديث عن الصلف والجلافة اللذيْن كان يتعاطى بهما معظم الموظفين الأمنيين في كل المراكز السورية، إضافة إلى طلب الرشى بشكل فجٍّ لا يمكنك تجاهله.

الرحلة هذه المرة إلى دمشق، بعد سقوط “الأبد”، كانت مختلفة. القلق الوحيد كان من عدم القدرة على الدخول بفعل الإجراءات التي فرضتها السلطات الجديدة على اللبنانيين، ضمن مبدأ المعاملة بالمثل، حتى وإن كانوا حملة جوازات أخرى غير لبنانية. وبالفعل، كانت هناك بعض العراقيل، غير أن عمل الموظفين الجدد في المركز الأمني، وغالبيتهم من المدنيين، على تخطّيها كان في قمة الدماثة واللطف والاحترام، وكأن دروساً موحّدة أعطيت للجميع في كيفية التعاطي مع المواطنين والزائرين.

كانت هذه المفاجأة الأولى في سورية الجديدة، والتي خلا الطريق إلى عاصمتها من حواجز التفتيش التي كانت تفرض إتاواتٍ على المركبات العابرة إلى المحافظات السورية. حواجز معالمها حاضرة على طول الطريق بين معبر جديدة يابوس الحدودي ودمشق، وكل منها تابع لإحدى الفرق العسكرية، وأهمها الفرقة الرابعة التابعة لماهر الأسد. كان الحاجز يتميز عن غيره بوجود جهاز مسح للمركبات، وهو أمر غير متوفر على المعبر الرسمي التابع للدولة السورية. لا يزال الجهاز موجوداً على الطريق، وإن طاوله التكسير، شاهداً على دويلات آل الأسد التي أنشأوها على أنقاض الدولة السورية.

دقائق بعد تخطي أنقاض الحواجز، تطل عليك دمشق من بعيد، ويلقي قاسيونها عليك التحية الأولى قبل أن تدخل إلى المدينة الخارجة حديثاً من حكم استبدادي دام أكثر من خمسين عاماً.

منذ الزيارة الأخيرة إلى دمشق، في عام 2009، لم ألحظ تغيراً في معالم المدينة ولا في طبيعة حياتها الاجتماعية، لكن ملامح من البهجة كانت في ملامح معظم أبنائها، رغم الأوضاع الاقتصادية المتردّية في البلاد، والتي دفعت سوريين كثيرين إلى حافّة البؤس.

بات الحديث في السياسي اليوم شأناً عاماً للسوريين الذين كانوا محرومين من التنفس والتعبير. النقاشات سيدة الموقف في المقاهي والمطاعم عن شكل الدولة، وتوجهات السلطات الحاكمة اليوم من دون خوف من تقارير المخابرات. انتقادات كثيرة ممكن أن تسمعها لبعض الإجراءات التي تقوم بها السلطات حالياً، في المقابل، هناك من يدافع ويطلب منحها مزيداً من الوقت. حالة سياسية حيوية ما كنت ترصدها في سورية القديمة، بانتظار أن تتحوّل إلى هيئات وأحزاب تساهم في تشكيل المشهد السياسي السوري الجديد.

لا شك أن هناك قلقاً من الآتي، وأي مسار قد تسلكه الأحداث، وأي تدخلات أو ممارسات تعقد المرحلة المقبلة، لكن الأكيد أن البهجة بالخلاص من النظام السابق هي الطاغية.

————————

كيف يسيئون للعلمانية/ رشا عمران

10 يناير 2025

في معرض دفاعهم عن الدولة الإسلامية التي يبدو أن سورية في طريقها إليها حسب ما يبدو من استفراد سلفيّي هيئة تحرير الشام في إدارة شؤون البلاد، وامتناعهم عن الحديث عن أيّ تداول للسلطة أو عن شكل الدولة المقبلة، ورفضهم نطق كلمة ديمقراطية حتى اللحظة… في معرض هذا الدفاع، يتحدّث المؤيدون لهذا النمط من الحكم أن من حقّ الإسلاميين أخيراً أن تكون لهم دولتهم، طالما هم الأكثرية في سورية، وهم من حرّرها (من يحرّر يقرّر)، كما أن العلمانيين أخذوا فرصتهم التي أوصلت سورية إلى الهاوية، ثمّ يعدّدون ما فعله نظام الأسد العلماني، حسب وصفهم، من جرائم بحقّ سورية والسوريين منذ استلامه الحكم حتى لحظة فرار بشّار الأسد.

في الحقيقة، ما يردّدونه ليّ أعناق حقائق مؤكّدة لا يريدون الاعتراف بها، أو على الأقلّ لا يريدون رؤيتها، فالأكثرية السورية مسلمة نعم، لكنّها ليست إسلاميةً سلفية. هذا نوع من التعدّي على الحقائق بقدر ما هو إساءة بالغة للسوريين، فالإسلام السوري لم يكن يوماً سلفياً، هو متنوّع ومختلف ومتعدّد، والبارز فيه التيّار الصوفي المعادي صراحة للسلفية، وهذا ربّما سيقف بقوة في وجه السلفيين، ومحاولاتهم فرض أيديولوجيتهم على عموم السوريين.

النقطة الأخرى هي الإساءة للعلمانية بالترديد المتواصل أن نظام الأسد كان علمانياً، بينما هو نظام مافياوي طائفي شمولي ومستبدّ، لا يمتّ بأيّ صلةٍ للعلمانية، لا من قريب ولا من بعيد، فالعلمانية هي نظام حكم يُقرَّر في الدستور، يساوي بين جميع المواطنين بالحقوق والواجبات من دون تمييز لا في الجنس ولا في العقيدة ولا في العرق. في العلمانية، لا يوجد دين للدولة ولا لرئيس الجمهورية، يحقّ لأيّ مواطن الترشّح لمنصب الرئيس طالما تتوفّر فيه الشروط المُضمَّنة في الدستور. الآن، لو عدنا إلى الدساتير السورية المعمول بها فترة نظام الأسد، هل يوجد فيها ما يقترب من العلمانية؟ في الدستور السوري دين الدولة هو الإسلام وعلى الرئيس السوري أن يكون مسلماً، وهذا (بالمناسبة) شكّل عقبةً حين قاد حافظ الأسد ما سمّاها “الحركة التصحيحية” (1970)، وأراد استلام الحكم، ذلك أن العلويين قبل ذلك لم يكونوا محسوبين على الإسلام في الأدبيات الدينية، ما استدعى إصدار فتوى شرعية من الأزهر الشريف في مصر، بالاشتراك مع رئيس الطائفة الشيعية الأعلى في ذلك الوقت، موسى الصدر، (اختفى بعد سنوات قليلة في ليبيا) تنصّ على اعتبار العلويين فرقةً من فرق الشيعة المسلمة، ويُحرَّم تكفيرها. إذاً لم يحكم آل الأسد بالاستناد إلى دستور علماني، بل تحايلوا على الوقائع التاريخية، بتواطؤ من أكبر مرجعيتَين دينيتَين في العالم العربي. مع أن حافظ الأسد وقتها كان قادراً على تغيير الدستور وتحويله دستوراً علمانياً، وفرضه على السوريين (على طريقة أتاتورك)، لكنّه شخصياً لم يكن يؤمن بالعلمانية التي تلزم أن يكون شكل الحكم ديمقراطياً، بينما كان حافظ الأسد يخطّط للبقاء الأبدي في حكم سورية.

يمارس مؤيّدو الدولة الإسلامية إرهاباً فكرياً عبر تعميم ربط العلمانية بالنظام السوري السابق، وعبر ربطها بالكفر، مع أن العلمانية أكثر أنظمة الحكم احتراماً للعقائد، وربطها بالإجرام والاستبداد، مع أنها نظام حكم يُعلي من شأن العدالة وحقوق الإنسان، بينما لم تقدّم أنظمة الحكم الدينية المعروفة حالياً (إيران وأفغانستان) سوى نماذجَ شديدة الوضوح عن التمييز والقمع والإقصاء والظلم والتعدّي على الآخرين، والانتقاص من الكرامات الفردية، والاعتداء على حقوق النساء والأطفال والأقلّيات، وانعدام المواطنة، والترهيب باسم الدين والشريعة. في المقابل، نرى دولاً أخرى تحكمها أحزاب إسلامية يسودها العدل والازدهار والنجاح والتقدّم واحترام المواطنة (تركيا وماليزيا وإندونيسيا)، وهذه الدول ذات دساتير وأنظمة حكم علمانية وديمقراطية، لا تتميّز فيها فئة من أخرى ولا جنس من آخر.

سورية اليوم أمام مفترق طرق خطير، يعزّز خطورته الخطاب الإقصائي مرتفع النبرة، الذي يحاول تكريسه حُكّام الأمر الواقع عبر شموليتهم في الإدارة والحكم، وعبر محاولات فرض نمطهم على سورية المتنوّعة، وعبر السماح لـ”شبّيحتهم” وعناصرهم بانتهاك كرامة كلّ من يختلف مع التوجّه السلفي الذي يريدونه لسورية، أو مع ورؤيتهم لشكل الحُكم المقبل.

———————–

طُرُق العدالة/ ممدوح عزام

10 يناير 2025

يُفرّق نويل كالهون، في كتابه “معضلات العدالة الانتقالية” (الشبكة العربية للأبحاث، 2014) بين الخيارات الممكنة للحُكم الجديد في أيّ بلد، تجاه الأفراد الذين كانوا يشكّلون قوّات، أو آلات قمع، أو مجرمي العهد البائد، ويجد، في التجربة البشرية، ثلاثة طُرُق مورست في المجتمعات البشرية كافّة، منذ العصور القديمة إلى عصرنا الراهن؛ وهي: القصاص العنيف، أو الصفح عن جرائم الماضي والتسامح، أو اتباع سياسات الحقّ والعدالة.

تختار الجماعات والأفراد واحدة من بين هذه الطرق الثلاث لممارسة انتصارها على الأرض، ومحاسبة من يُطلَق عليهم اليوم في سورية اسم “الفلول”. وقد تبدو الطريقة الأُولى أكثرها “سهولة” وسرعة؛ إذ يعمد المظلومون إلى الثأر والانتقام من ظالميهم، بعد أن ينتصروا عليهم في الحرب، أو في السلم، ومن بينها ما نفّذته قبائل التوتسي ضدّ قبائل الهوتو في رواندا، حين قتلوا ما يقارب مليون شخص انتقاماً.

وقد يختار الحُكم الجديد أن يصفح عن أخطاء الماضي، ويطلق السياسيون في العربية جملة “عفا الله عمّا مضى”. وفي هذه الحالة يمكن لأعضاء شاركوا في الحكومة السابقة، أن يكونوا جزءاً من حكومات العهد الجديد. يُعدّد كالهون الأخطار الناجمة عن ذلك، ومنها أن يكون لدى كثيرين من بينهم الاستعداد النفسي والفكري ذاته لممارسة أساليب القهر، والمثال هو عن الضبّاط الفرنسيّين الذين كانوا يتعاونون مع النازيّين في الحرب العالمية الثانية، ثمّ ارتكبوا جرائم بشعة في الجزائر أثناء ثورتها.

غير أنّ أفضل الطُّرُق، بحسب التجربة والممارسة في طيف واسع من الدول التي حدثت فيها انقلابات كبيرة بين حُكمَين، وعالَمَين، هو طريق العدالة الانتقالية.

تحتاج العدالة للقانون العادل، بقدر حاجتها للروح الإنسانية القادرة على تقبُّل الانتظار إلى زمن تحقيق العدالة، ففي زمن الانتصار، يغلب على المقهورين، والذين عانوا من السجن والاعتقال، والتعذيب، وخسارة الأحبّة، الرغبة المستعجلة في الانتقام، وروح التشفّي في الانتقام العاجل.

حتى اليوم تبدو مسألة حقوق الإنسان الموضوع الأكثر إهمالاً، ولا مبالاة؛ فالمعاناة الطويلة من النظام السابق، في موضوع الحقوق الشخصية والحرّيات العامّة، أدّى إلى اعتبارها ثانوية في سياق التخلُّص من النظام، ومن أعوانه المجرمين بحقّ البشر، من قبل معظم الأطراف المشاركة في صناعة المستقبل السوري. واللافت أنّ ارتكاب الانتهاكات الصغيرة أو الكبيرة لهذه الحقوق تجاه أولئك الذين كانوا بالأمس ينتهكونها، لا يلقى الكثير من الرفض أو الاحتجاج، بينما يغيب تماماً الحديث عن العدالة الانتقالية، وطُرُق تنفيذها في الواقع.

والأضرار التي تلحق بنا من جرّاء التساهل إزاء حقوق الإنسان بذريعة أنّ هذا الشخص (وسوف يُجرَّد من صفة الإنسان كي يسهل على المنتقمين الثأر منه، واعتباره حيوانا، وهذه يفسّر لماذا يعمد بعض رجال أمن السُّلطة الجديدة إلى إجبار من يقبضون عليهم من شبّيحة نظام الأسد على النباح أو النهيق) كان مجرماً، أو سفّاحاً، أو مارس القهر والتعذيب، لا يؤدّي إلى إيذائه وحده، بل إلى إيذائنا جميعاً، لأنّه يجعلنا عراةً أمام أنفسنا، مكشوفين كمنتقمين فقط، لا طلّاب عدالة، ومجتمعاً يحترم القانون.

* روائي من سورية

————————————

نظام الأسدين ومفاعيل سياسة الرعب والترهيب/ سمر شمة

9 يناير 2025

“الحيطان لها آذان” مثل شعبي كان السوريون يرددونه باستمرار منذ أكثر من خمسة عقود عاشوها تحت قمع ووحشية نظام وأجهزة أمنية دموية، هي أشبه بمحاكم التفتيش في القرون الوسطى، وتحت سطوة حكم عسكري شمولي سلّط سيفه على رقاب الجميع بدون استثناء، حيث القوانين والتشريعات المقِيدة للحريات، والأعداد الكبيرة من الأجهزة الأمنية والسجون المروّعة، والتي حلّت محل التنظيمات المدنية المجتمعية والأهلية، وجعلت المجتمع برمّته يفقد فعاليته وقدرته على النهوض، وتوجّت الفساد سلطة منفلتة من عقالها تستبيح القطاعات كافة والسوريين في الداخل والخارج إن استطاعت إلى ذلك سبيلًا.

عاش السوريون منذ أكثر من أربعة وخمسين عامًا إرهاب الدولة السياسي والاجتماعي والاقتصادي والذي قضى على المؤسسات الإعلامية والثقافية والفكرية والإنتاجية ومؤسسات العمل الوطني والأهلي، وحوّل البلاد إلى معتقل كبير لا كرامة لأحد فيه، وحاصر الشعب السوري بسياسة الرعب والخوف والبطش من خلال عمليات الاعتقال التعسفي والاختطاف والاختفاء القسري والتعذيب الوحشي والقتل العشوائي الفردي والجماعي، إضافة إلى الاغتيالات والتهديد بلقمة العيش واتخاذ العائلة والأهل والأبناء رهائن إلى أجل غير مسمى، والتسريح التعسفي من العمل والاضطهاد.

رسّخ نظام الأسد الأب منذ بداية استيلائه على السلطة بانقلاب عسكري سماه “الحركة التصحيحية” سياسة الرعب والاستبداد في عموم سورية، وهذا ما جعل الشعب السوري ممنوعًا من الاحتجاجات والاعتراض على مظاهر الفساد التي تفشت في كل مفاصل الدولة والتي تحولت مع مرور الزمن واستيلاء الأسد الابن على الحكم – كوريث لا بديل عنه- إلى عصابات ومافيات يقودها رأس النظام وعائلته ومن لف لفهم.

حوّل هذا النظام أجهزته القمعية الأمنية والعسكرية والبعثية إلى سيف من حديد ونار مسلط على المواطنين لترسيخ الهيمنة على المجتمع في الذهنية الجماعية، وأسس شبكة معقدة ومحكمة من أجهزة صناعة الخوف والموت، سيطرت على كل شيء ونشرت الرعب في المدن والقرى السورية.

اتبّع النظام السوري البائد منذ تولي حزب البعث مقاليد السلطة عام 1963 سياسة الاضطهاد والإرهاب ورسخها منذ ذلك الحين إلى يوم سقوط بشار الأسد وهروبه من سورية تحت جنح الظلام، لم تعرف البلاد انتخابات ديمقراطية وحكمها الأسد منفردًا بعد وصوله للسلطة، وجعل دستور البلاد منذ 1973 يمنح حزب البعث دور القائد الوحيد للدولة والمجتمع ويعطي الرئيس صلاحيات واسعة لا تناقش. انتهت التعددية السياسية وحُلّت جميع الأحزاب بعد 1970 ما عدا مجموعة صغيرة من القوى اليسارية والقومية والعربية والاشتراكية سمحت السلطة العسكرية ببقائها وضمتها إلى الجبهة الوطنية التقدمية التي كانت في مواقفها نسخة مشوهة عن النظام عبر عقود.

يلجأ المستبد عادة – والنظام السوري من أعتى المستبدين – إلى وسائل التنكيل بمعارضيه والبطش بهم، ويجعلهم عبرة لغيرهم، وإلى ارتكاب جرائم الحرب التي عرفتها سورية جيدًا منذ الثمانينيات وحتى سقوط النظام، ويفترش بصوره وتماثيله وشعاراته الميادين والمرافق العامة والشوارع والساحات والمراكز الثقافية ووسائل الإعلام والشبكات والمطبوعات المدرسية ويطارد مواطنيه في كل مكان. يوظف نظرية “فرق تسد” بين أفراد شعبه لإضعافهم وضمان سيطرته عليهم، ويلجأ أحيانًا إلى بث روح الطائفية بأبشع صورها، وهذا ما جرى في سورية منذ عقود وازداد كمًا ونوعًا بعد قيام الثورة السورية بطرق وأدوات وأسلحة أكثر وحشية وقتلًا وتدميرًا.

تحاول الأنظمة الاستبدادية دائمًا تحويل شعوبها إلى قطيع، ابتداءً من المنزل إلى المدرسة إلى الجامعة ثم العمل والشارع والمصنع وأروقة المحاكم ومسارات المرور والدوائر الرسمية، وتحاول استخدام الترهيب والترغيب في مؤسسات المجتمع والدولة، وتنشر سياسة الخوف مناخًا اضطهاديًا وتشوهات عميقة في المجتمع في الأخلاق والسلوك وأنماط التفكير، وتنشر الشك بين الناس وفقدان الثقة والطمأنينة والنفاق والانتهازية والسعي الدائم للخلاص الفردي عمومًا، وهذا ما رسّخه النظام السوري من خلال حكم بدأ في السبعينيات وانتهى في الشهر الماضي حيث حوّل البلاد إلى مزرعة مستباحة وسيطر على مقدراتها كاملة وانتهك القيم والأخلاق والحقوق الاجتماعية والسياسية بواسطة العنف وأبشع وسائل التعذيب اللاإنسانية البربرية، محاولًا أن تكون ثقافة الرعب والخضوع من أبرز سلوكيات الناس ومواقفهم وخياراتهم.

الشك بين الناس وفقدان الثقة والطمأنينة والنفاق والانتهازية والسعي الدائم للخلاص الفردي، هذا ما رسّخه النظام السوري من خلال حكم بدأ في السبعينيات وانتهى في الشهر الماضي

لا شك في أن الخوف رافق الإنسان في كل العصور منذ عهد الإقطاع الذي استمر عشرات القرون حتى عصر الصناعة وسيادة نمط الإنتاج الرأسمالي وبقاء الدولة الحديثة أداة بيد من يهيمن على الثروة في المجتمع من خلال وسائل عديدة أبرزها القمع، وحتى بعد تطور الأنظمة الرأسمالية وتحديدًا بعد الحرب العالمية الأولى فقد برز الخوف من جديد ولكنه تعاظم في عهد العسكر والديكتاتوريات، وهذا ما جرى في سورية منذ عام 1963- تاريخ استيلاء البعثيين على الحكم وتولي حافظ الأسد حقيبة وزارة الدفاع آنذاك حتى تاريخ الثامن من الشهر الماضي لحظة سقوط النظام، فسياسة البطش هي السائدة وازدادت دموية بعد اندلاع الثورة السورية والتي كانت احتجاجًا على سنوات طويلة من القهر والعبودية وإفقار الناس وزجهم في المعتقلات بدون محاكمات أو قوانين، وتحدّيًا لهذه السياسة التعسفية التي نشرت الرعب والخوف بين صفوف السوريين من خلال بناء السجون وتوسعة مراكز الاعتقال التي تعود لفترة الأسد الأب حيث مارس نظامه البوليسي سياسات استبدادية حوّلت البلاد إلى مسلخ بشري، وكانت مدينة حماة بمن فيها من ضحاياه عندما أُبيدت على رؤوس ساكنيها وتعرّضت لأبشع المجازر عام 1982 والتي ذهب ضحيتها أكثر من أربعين ألف شهيد من المدنيين وأكثر من سبعة عشر ألف مفقود.

والمعروف أن في سورية عددًا كبيرًا من السجون والتي كُتبت على جدرانها بدم المعتقلين والمعتقلات حقائق مروعة عن إجرام النظام واستخدامه أكثر الأساليب وحشية في تعذيب سجناء الرأي السياسيين وخصوصًا بعد عام 2011 عندما استخدم بشار الأسد الحل الأمني العسكري للقضاء على معارضيه.

لقد ذُهل العالم بأسره من الحقائق التي تكشفت عن سجن صيدنايا، أكبر السجون العسكرية وأكثرها وحشية ومركز الاعدامات الجماعية بعد سقوط النظام وتحرير السجناء، وما خفي أعظم في السجون الأخرى كسجن تدمر الشهير بالمجازر والقتل تحت التعذيب أو بسبب الجوع والمرض والاكتظاظ والاختناق، وسجن عدرا في ريف دمشق للنساء والرجال، وسجن دوما للنساء قبل الثورة، وسجن المزة العسكري، وسجون حلب وحمص وطرطوس والسويداء وغيرها من السجون السرية التي لم يُكشف عنها جميعها حتى الآن.

وهناك أيضًا أجهزة الأمن وفروع الاعتقال المروعة وهي لتوقيف المعتقلين السياسيين والتحقيق معهم ولقد ارتُكب في أقبيتها ولا سيما بعد الثورة السورية أبشع وأخطر أنواع الانتهاكات الجسدية والنفسية والقتل والتعذيب والاغتصاب والتجويع بحق المعتقلين رجالًا ونساءً وأطفالًا وعربًا وأجانب، ومن هذه الأفرع: فرع أمن الدولة – فرع المخابرات العامة – الأمن السياسي – الأمن العسكري – المخابرات الجوية، وجميعها مرتبطة بمكتب الأمن القومي وفروعها التابعة لها منتشرة في المدن والقرى السورية.

بعد قيام الثورة السورية عام 2011 واستخدام النظام السابق للحل العسكري الهمجي ضد شعبه، دفع السوريون أثمانًا باهظة من حياتهم وحياة أبنائهم وأطفالهم وبناتهم من أجل تحرير سورية من نظام شمولي لم يعرف العالم المعاصر شبيهًا له، فقد أشار تقرير للشبكة السورية لحقوق الإنسان الصادر في آب/ أغسطس 2024 إلى أن النظام السوري احتجز حوالي 136614 شخصًا منذ بدء الثورة بينهم 96321 شخصًا في عداد المختفين قسرًا، وكشفت تقارير دولية وتقارير لمنظمة العفو الدولية عن الحجم المخيف للحملة المنسقة من عمليات الاختفاء القسري مارستها أجهزة النظام السوري خلال الثورة وقبلها، وهذه الجرائم ممنهجة تصل إلى مستوى جرائم ضد الإنسانية وذلك لنشر الرعب وسحق أدنى بادرة لمعارضة هذا النظام. وقالت الشبكة السورية لحقوق الإنسان مؤخرًا إن 503 مدنيين قتلوا في سورية في كانون الأول/ ديسمبر 2024 بينهم 96 طفلًا، و49 سيدة، و4 ضحايا بسبب التعذيب، وكانت قد وثقت مقتل 1264 مدنيًا في سورية بينهم 242 طفلًا و118 سيدة و86 ضحية بسبب التعذيب وذلك عام 2024 هذا عدا عن مئات آلاف الشهداء في الأعوام السابقة.

وقال المرصد السوري لحقوق الإنسان 2021 إن عدد المعتقلين والمختفين قسريًا وصل إلى مليون شخص منذ بداية الثورة، وأن جرائم مروعة وانتهاكات جسيمة تعرض لها المعتقلون. ووثق أيضًا استشهاد نحو 13139 داخل المعتقلات الأمنية منذ مطلع عام 2024، وقال مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فضل عبد الغني، أن كل المختفين قسرًا الذين لم يُعثر عليهم حتى الآن قتلوا من قبل النظام السوري الذي أخطر عام 2018 أهالي 1100 معتقل بوفاتهم في السجون بدون تقديم تفاصيل عن سبب الوفاة أو عن أماكن دفنهم، وفي العام نفسه وثق المركز السوري للعدالة والمساءلة وفاة أكثر من ألفي معتقل تحت التعذيب. بينما أشارت منظمة هيومن رايتس ووتش إلى أن أكثر من 90 بالمائة من سجناء سجن تدمر تعرضوا للتعذيب الممنهج بما في ذلك التجويع والحرمان من النوم لأيام طويلة جدًا، وكانت منظمة العفو الدولية قد أشارت عام 2017 إلى أن أكثر من 13000 شخص تم إعدامهم في سجن صيدنايا بين 2011-2015 .

وبعد سقوط نظام بشار الأسد المجرم أكد رئيس الآلية الدولية المحايدة والمستقلة التابعة للأمم المتحدة، روبرت بوتيت، أنهم وثقوا المئات من مراكز الاعتقال في سورية وقال: “كل مركز أمني وكل قاعدة عسكرية وكل سجن كان له مكان احتجاز أو مقبرة جماعية خاصة به، وبالتالي سيستغرق الأمر وقتًا طويلًا قبل أن نعرف الحجم الكامل للجرائم المرتكبة”.

لم يسلم الاقتصاد السوري أيضًا من سياسة العنف والقمع، وخسر كثيرًا من فعالياته الاقتصادية التي هربت خارج سورية بعد أن مارس الأب ووريثه الابن القمع على الاقتصاديين وفرضوا عليهم الرشاوى والخوّات، وخاصة في السنوات التي تلت قيام الثورة السورية وسيطرة أسماء الأسد على الاقتصاد بكافة قطاعاته، إذ حلت محل الدولة الممزقة والمفككة ونتج عن ذلك إفقار الشعب السوري وانهيار الاقتصاد.

استخدم النظام أيضًا المؤسسات الإعلامية والثقافية لبث الذعر بين عموم الشعب والفرقة بين مكوناته ولنشر الأكاذيب لتوجيه مشاعر الناس ومواقفهم نحو الوجهة التي تخدم السلطة المركزية ولإخضاع الإرادات وصولًا إلى الاقتناع بالمستبد والدفاع عنه حتى الموت وكان ذلك واضحًا وجليًا بعد قيام الثورة السورية.

تحدث الفلاسفة كثيرًا وكذلك السياسيون عن العنف لدى الأنظمة، فقال تزفيتان تودوروف، الفيلسوف البلغاري، عن النازية والاعتقال: “إن الدولة الشمولية تقوم على إنهاء الحدود الفاصلة بين العام والخاص لدى الناس، وتريد أن تستبدل جهنم المتخَيلة في الحياة الآخرة لتحل محلها جهنم ملموسة يراها الناس بأم أعينهم، وأنها تنتظر كل من يضل عن الطريق الذي تقرره السلطة”.

اليوم وبعد مرور شهر على سقوط النظام السوري وهروب طاغية الشام إلى روسيا مذعورًا، وبعد أن ارتكب النظام جرائم يندى لها جبين العالم من قصف للمدنيين بالبراميل المتفجرة والسلاح الكيماوي إلى سفك دماء السوريين داخل السجون وخارجها، وبعد الانتصار الذي حققه الشعب السوري، يبقى السؤال مطروحًا عن كيفية تحقيق العدالة وتسليم المجرمين إلى المحاكم ومحاسبتهم، وعن مستقبل سورية الذي خطّه السوريون بدمائهم ودموع أطفالهم وأمهاتهم وأوجاعهم في الخيام ومعسكرات اللجوء القاسية، المستقبل الذي لا يضطرون فيه للعودة إلى قولهم: “الحيطان لها آذان” و”ما متنا بس شفنا اللي مات”، بل يقولون: سورية حرة لكل السوريين.

—————————-

حزب الله و”المراجعة” المنتظرة/ يوسف بزي

الخميس 2025/01/09

انتهت “الحركات الثورية” في أميركا اللاتينية وإفريقيا وآسيا، بلا استثناء، إلى عصابات مسلحة تمول نفسها بزراعة وتصنيع المخدرات وتهريبها. وبعضها، في إفريقيا خصوصاً، تحوّل إلى الإتجار بالبشر، بل وبالأعضاء البشرية أيضاً، أو العمل بما يسمى “الماس الدموي”، أي تجارة السلاح مقابل الأحجار الكريمة.

وأفضى كل هذا إلى تحوّل تلك الحركات لمجرد عصابات إجرامية.

وكان حافظ الأسد قد عمد إثر فشل اقتصاده “الاشتراكي”، والحصار الدولي الذي تعرض له أواسط الثمانينات، إلى السيطرة على زراعة الحشيشة وتشجيع زراعة الأفيون في سهل البقاع اللبناني، ورعاية التهريب بالشراكة مع الميليشيات اللبنانية، والاستحواذ على الحصة الكبرى من الأرباح التي قدرت حينها بنحو 4 مليارات دولار سنوياً، شكلت الدخل الأساسي من العملة الصعبة للنظام. ولم تنته زراعة الأفيون كما الحد من زراعة الحشيشة إلا بعد تطبيع العلاقات بين النظام السوري والولايات المتحدة (ودول الخليج ضمناً)، إبان الانخراط في التحالف الدولي لتحرير الكويت، وكذلك بعد توقيع اتفاق الطائف وانتهاء الحروب اللبنانية.

وعلى هذا المنوال، وبعدما تحوّل النظام السوري قبل عقدين إلى عصابة إجرامية تحكم دولة محاصرة بالعقوبات، وبما أن الإبن سر أبيه، لجأ بشار الأسد وأخوه ماهر، بالشراكة الكاملة مع حزب الله والميليشيات الإيرانية في سوريا، إلى صناعة المخدرات وترويجها، والانخراط في كل الأعمال المافياوية من تبييض الأموال وطباعة العملات المزورة، إلى تهريب البضائع، عدا “التعفيش” والاستيلاء على الأملاك والعقارات، وفرض الأتاوات ونهب المساعدات الإغاثية الدولية، وصولاً إلى سرقة كلى المعتقلين السياسيين.

العصابة السورية انتهت، ولو أن الثمن كان باهظاً ودموياً. وتبعات ما اقترفته يستلزم عقوداً مديدة.

التورط العميق والفادح للميليشيات اللبنانية في “الأعمال السورية”، المقتلة الكبرى التي تسببت في تشريد 13 مليون إنسان، وقتل نصف مليون رجل وطفل وامرأة، وتدمير معظم العمران السوري (تكلفة إعادة الإعمار لا تقل عن 300 مليار دولار).. كل هذا، لن يُمسح أو يحذف لا من الذاكرة ولا من حسابات الحاضر والمستقبل.

وهذه الميليشيات التي أضافت فوق الكارثة السورية، نكبات لبنانية مبتدئة منذ العام 2005 وموصولة بالحرب غير المنتهية مفاعيلها في ديارنا راهناً، لا يسعها بعد اليوم تمويل هياكلها وأجسامها ومؤسساتها، ولا “بيئتها” أو “شعبها”، لا من تجارات غير شرعية، ولا من تمويل إيراني بات عسيراً وقد يصبح متعذراً.

وإزاء المأزق المالي الذي يعانيه حزب الله، علاوة على هزيمته العسكرية القاسية، وفي بلد كان هو المساهم الأكبر بخرابه الاقتصادي، وعجزه الفعلي هو والدولة عن تكرار “معجزة” 2006 بإعادة الإعمار، يواجه الحزب خيارات مريرة وشديدة الصعوبة في البقاء على قيد الحياة.

وسيتعاظم المأزق ليكون أشمل وأبعد من التمويل. فتقديم آلاف الشبان أضحية في سوريا سدى، وتكريس عداوة مع الشعب السوري ستكلف لبنان أكثر مما نتصور، والطائفة الشيعية خصوصاً، ثم التضحية مجدداً بآلاف الشبان في حرب خاسرة ومهلكة وغير مبررة.. سيضع الحزب أمام حساب عسير ومصيري.

ولأن ما يُطرح هنا لا علاقة له بـ”التشفي” ولا بمطمع الاستقواء أو بمنطق الغلبة، بل بأمل إنقاذ ما تبقى من دولة ومجتمع ومستقبل، يجوز تشجيع الحزب المذكور على “مراجعة” مختلفة تماماً عما أعلنه من مراجعة سياسية وأمنية-استخبارية. فلا يكفي البحث في الثغرات الأمنية التي أودت بقياداته، ولا البحث في سوء التقدير العسكري الذي أدى إلى الهزيمة، إنما التفكّر ملياً بالقناعات الأساسية التي راكمت على مدى عقدين أسباب خراب لبنان وسوريا.

السياسات الممتشقة السلاح والعنف والاقتصاد الأسود واحتقار إرادات الشعوب ومعاداة الدول، والتحالف مع أنظمة استبدادية، وتخريب القضاء وحماية الفساد والفاسدين، واستجلاب العقوبات الدولية والعزلة والحصار وإفقار البلاد.. هذه السياسات ما عاد ممكناً استمرارها.

المفارقة الكبرى، أن تنظيم أحمد الشرع يبدو هو السبّاق في إدراك تلك “المراجعة” وها هو يقطف ثمارها في دمشق. فهل يتعظ حزب الله؟

المدن

———————–

شعراء الأسد/ محمد حجيري

الخميس 2025/01/09

بعد سقوط نظام صدام حسين في العراق، “نبش” الباحثون قصائد الشعراء التي تُليت ونُشرت في مديحه، ومجّدت حكمه وطغيانه وقادسيته، وكانت القصائد موضع جدل وذمّ في المنابر الثقافية. في أيامها كتب الروائي العراقي سلام عبود: “لا يمكن الأديب في أي حال من الأحوال أن يقول كلمة في وطن يحكمه صدام أو هتلر، إلا بطريقتين، أولاهما أن يتحامق ويكتب علناً، فيكتب في الوقت ذاته وصية موته. وثانيتهما أن يصمت، وبذلك يكتب وصية موته الأدبي. تلك المعادلة الصعبة واجهها كتّاب العراق ممن ولدوا أدبياً في الزمن الصدامي وسنوات حكم البعث”.

واليوم مع سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، يعاد التذكير بقصائد قالها شعراء من لبنان وبلدان أخرى، في مديح حافظ الأسد وابنه باسل الذي توفي في حادث سير العام 1994، ولم تكن القصائد إلا محاولات آثمة لتبييض صفحة الطغيان، وربّما نوعاً من تشبيح مقنع ومسايرة مقيتة من الشعراء للسلطان. الشاعر السوري المقيم في لندن، نوري الجراح كتب في فايسبوكه مذكراً بما قاله الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري في مديح حافظ الأسد:

“سلاماً أيها الأسدُ/ سلمت وتسلمُ البلدُ

وتسلمُ أمَّةٌ فَخَرت/ بأنك خيرُ من تلدُ.

هذان البيتان يحفظهما كل سوري بسبب التكرار اليومي لهما في التلفزيون السوري وموسيقياً في مقدمة نشرة الأخبار طوال سنوات، واعتبر الجراح أن هذين البيتين “إكليل من العار على رأس الشاعر الجواهري”. في الواقع كان الجواهري المحسوب على “اليسار”، شاعر الملوك والرؤساء، يوزع المديح طولاً وعرضاً. مدح الملك حسين في قصيدة شهيرة “يا سيدي أسعف فمي”. ومدح الملك فيصل الأول ملك العراق، وعمل في بلاطه ثلاث سنوات (1927 – 1930)، ومدح عبد الكريم قاسم وكان قريباً منه، ومدح القائد البريطاني مونتغمري في قصيدة “تونس”.

أيضاً ذكّر نوري الجراح بعبارات قالها الشاعر اللبناني طلال حيدر في مديح باسل الأسد:

سامع صهيل الفرس وينو عريس الزين

خيال برج الأسد أسمر كحيل العين.

وإذا عدنا إلى مسار طلال حيدر ونتاجه القليل، نجد أنه في جانب منه كان شاعر الترف والمديح، هذا دفع بالشاعر اللبناني عبده وازن في فايسبوكه إلى مطالبة حيدر بالاعتذار من السوريين، وكتب: “طلال حيدر شاعر مهم وكتب قصائد جميلة، لكن نتاجه ضئيل جداً، فهو قضى حياته يشرب ويحشش كما يعترف علناً، ومرة كنا في فرنسا مع أدونيس فتحدث طلال الى صحافية لبنانية من لوريان لوجور قائلاً لها: هذا الرجل الذي يحكيك في دمه طن ويسكي وطن حشيشة…”، ويذكر وازن جملة من الاتهامات الأدبية والسياسية بحق حيدر منها: “تزلمه وتزلفه لنظام حافظ وبشار(..) وغازي كنعان”. أضاف وازن: “عندما انقلب الأسد والعبث انقلب طلال وصار حريرياً جداً وتنعم بالحريرية. ومرة ألقى قصيدة في ذكرى الحريري هي قصيدة قديمة ومنشورة وقد بدّل فيها قليلاً”. هذا عدا الاتهامات الأخرى التي يوردها وازن النصب والفضائح المالية.

وبغض النظر عن صحة الاتهامات من عدمها، فهذا ليس موضوعنا، لكن الواقع أن علاقة الشعراء والكتاب بالسلاطين والطغاة والمال وربما النساء، مشكلة عويصة وعميقة وتطاول الكثيرين. في الغرب تبدو الأمور واضحة، مجرّدة، كل السير الأدبية موضع تشريح ونقد، من رامبو وتجارة الأسلحة، إلى ستالينية بابلوا نيرودا، وفاشية عزرا باوند. لكن في ديارنا نخاف حتى من رسائل غادة السمان، ونعتمد ثقافة “التكويع” وطي الصفحة، ضمن منطق “مات الملك عاش الملك”، وثقافة التكسّب لها أشكال وألوان وأساليب وفتاوى وأبواب، أحياناً تمارس بوقاحة، ومرات تتسم بالمواربة والنتيجة واحدة.

لم يكن طلال حيدر وحده من كتب قصيدة في مناسبة أسدية. مَن يعود إلى أرشيف الصحف اللبنانية سيجد العجائب في علاقة اللبنانيين بالنظام السوري، سواء السياسيين أو الأمنيين أو رجال الدين وحتى الشعراء والسياديين والعلمانيين وأبناء الجبل وأبناء السهل، كانوا يتبارون على حضور المناسبات الأسدية، أو يُجبرون على حضورها. حبذا لو نبش أحدهم القصائد التي كانت تلقى في تلك المرحلة. ربما أشهر من مدح الأسديين، الشاعر اللبناني الراحل جوزف حرب صاحب الأغنيات الشهيرة لفيروز وزياد الرحباني. نجهل كيف بدأت العلاقة بين حرب وآل الأسد، وكيف صار الشاعر “المتمرد” والثوري صديقاً للاستبداد الأسدي، يهاجم كل الأنظمة العربية وحين يصل إلى النظام السوري يكيل له المديح. ما نعرفه، وسجلته الصحف، أن حرب ذهب في الذكرى الأربعين لحافظ الأسد إلى بلدة القرداحة السورية وقدم قصيدة في رثاء ابنها بعنوان “النشيد الدمشقي”، وفيها يقول:

أبطال أمتك الماضون ما انطفؤوا‏

أهدوك إكليل شمس عندما أفلوا‏

ذا خالد ذا صلاح الدين ذا يزن

‏وذا هشام وتيك الأعصر الأول‏

وذي أمية أولما بذي حلب‏

دانت لدولة سيف الدولة الدول‏

كأنما أعنق الأعداء منبرهم

‏وخطبة الدم فيها السيف يرتجل‏

وأنت منهم مضوا ما نكسوا علما‏

يوما وعن صهوات الخيل ما نزلوا‏

وغداة تشييع باسل الأسد أيضاً، وقف أحد الشعراء اللبنانيين على المنصة يلقي قصيدة في مديح باسل الأسد فقال: “أسد والناس من تحتك عدد”. انتبه كثر الى هذه العبارة الفجة والوقحة وباتت مثالاً صارخاً على إدانة الشاعر اللبناني الذي أنكرها لاحقاً. نُسيت القصيدة وبقيت منها هذه العبارة شديدة الوقاحة، راسخة في الأذهان لشدة وطأتها.

وإذا قلنا إن الجواهري كان يرضي الأسد بسبب لجوئه إلى دمشق هرباً من نظام صدام، وإذا قلنا أن بعض الشعراء اللبنانيين كانون يفرطون في التملّق للنظام الأسدي للأسباب المعروفة، لكن ما الذي يجعل الشاعر الفلسطيني سميح القاسم يمدح حافظ الأسد أو يرثيه:

(…)

أسدَ العروبةِ هل تغادر ساحها وعلى التخومِ فرنجةٌ ومغولُ

وبنو أميّةَ يولمونَ خيولهم وضيوفهم قبلَ الأفولِ أفولُ؟

—————————-

معن سجيناً: رفع الصوت في وجه علي مملوك/

بثينة عوض

الجمعة 2025/01/10

الإسم: معن عاقل

المؤهلات العلمية: خريج كلية إعلام

المهنة: صحافي مشاكس في جريدة “الثورة” الحكومية

التهمة: الثرثرة

23/11/2009 كان يوماً استثنائياً، ما زال محفوراً في ذاكرتي بكل تفاصيله حتى الآن. صباحه بدأ مليئاً بالضحك والفرح مع ابني وزوجتي. كنا نشتري ثياب العيد لطفلي نوار الذي أصرّ على اختيار اللون البرتقالي رغم اعتراضاتي. كانت الأجواء حماسية، فنحن نستعد للسفر إلى قريتي في الساحل السوري، لكن هذا الدفء العائلي قُطع فجأة باتصال طارئ من رئيس تحرير جريدة “الثورة” حيث كنت أعمل.

كان الاتصال يحمل إلحاحاً غريباً بضرورة حضوري الفوري إلى مقر الجريدة. حاولت تأجيل الأمر للاستمتاع بهذه اللحظات الأسرية، لكنه أصرّ بشدة. بعد نقاش طويل، وافقت على الذهاب، لكني وعدت عائلتي بألا أتأخر أكثر من نصف ساعة. أوصلت زوجتي وابني، قبّلتهما، وطلبت منهما أن ينتظراني.

وصلت إلى مرآب الجريدة التي طالما نشرت فيها تحقيقات أثارت الجدل. ركنت سيارتي كالمعتاد وصعدت إلى مكتب رئيس التحرير في الطابق السادس. هناك، كان المشهد مريباً؛: عنصران من الأمن يجلسان في المكتب الفاخر، يحتسيان القهوة وسط ترحيب واضح من رئيس التحرير.

صافح أحدهما رئيس التحرير بحرارة ثم أمسك بيدي بقسوة، طالباً مني مرافقته فوراً. حاولت التملص، وأخبرته أني صحافي في جريدة حكومية، وليس من حقه استدعائي بهذه الطريقة. تدخل رئيس التحرير مطالباً بأن أذهب معهم لبعض الوقت، لكني رفضت، موضحاً أني في عطلة رسمية وفي عجلة من أمري، فاليوم يوم عيد.

لاحظت ترددهما في اتخاذ خطوة مباشرة داخل المكتب، وسمعتهما يتشاوران حول نصب كمين لي خارج الجريدة. رئيس التحرير طمأنني: “لن يستغرق الأمر سوى دقائق”. أدركت حينها أني في مأزق، وأنني طُعنت في ظهري وسط المكان حيث أفنيت سنوات من عمري في خدمته. في النهاية، استُدرجت إلى مواجهة لم تكن في الحسبان، وسلمت نفسي للأمن في مشهد يختزل الخذلان بأبشع صوره.

بشرى الأسد

أنا الآن في فرع أمن الدولة، على بُعد خطوات من مبنى الجريدة، حيث يجري معي رئيس الفرع تحقيقاً حول تحقيق استقصائي كنت أعمل عليه. كان التحقيق يتناول ملفاً حساساً عن الدواء السوري، مُوثَّقاً بالتفاصيل حول فعاليته واستثماره. كنت قد وزعت العمل على مراحل وطرحت أسئلة جريئة، مثل: لماذا يوصي الأطباء بأدوية أجنبية بدلاً من السورية؟ من هم مالكو معامل الأدوية؟ ما مصادر المواد الأولية المستخدمة في تصنيعها؟ ولماذا تُستورد من دول بعينها دون غيرها؟

حتى تلك اللحظة، كانت الأسئلة تبدو ضمن السياق المقبول، لكن الأزمة الحقيقية بدأت عند سؤال تضمَّن علاقة بشرى الأسد، بشكل مباشر أو غير مباشر، بصناعة الدواء. هنا بدأ التوتر، وأحد المحققين استفهم بغضب: “كيف تتجرأ على طرح مثل هذا السؤال؟ هل لزوجة الرئيس، أسماء الأسد، علاقة بدفعك لذلك؟”.

حاولت الدفاع عن نفسي، مؤكداً أن عملي كصحافي يتطلب توثيق الحقائق، وأن طرح السؤال مشروع في سياق التأكد من صحة الإشاعات المنتشرة في الشارع السوري. وأوضحت أن بحوزتي تسجيلات بالصوت والصورة تثبت حيادية ما أكتب، لكن ذلك لم يغير شيئاً.

رئيس مكتب الأمن القومي وصفني بالكاذب وقليل الأدب. أجبته بحزم: “أنا صحافي ولست سجيناً لديك”، ليضحك بازدراء ويهز رأسه قائلاً: “بلى، أنت موقوف. خذوه”!

أثناء اقتيادي، همس لي أحد السجانين، الذي بدا طيباً بشكل لافت: “من رفعت صوتك في وجهه هو علي مملوك. كان عليك أن تضبط أعصابك”. شعرت حينها بخطورة الموقف وتبعاته.

في ساعات قليلة، تحوَّلت من صحافي يحتفل بالعيد مع عائلته، إلى سجين يعيش عالم التحقيق والزنزانة، عائداً إلى تجربة سبق لي خوضها كسجين سياسي. داخل الزنزانة، فكرت في طفلي نوار وكنزته البرتقالية، في العيد الذي كنت أستعد له، وفي العائلة التي تنتظرني. كل هذا لأني تجاوزت الخطوط الحُمر لمافيا الدواء.

الاقتحام والعقاب

تم اقتحام منزلي بعنف، ومصادرة كل ما عملت عليه من وثائق وتحقيقات. ثم صدر قرار رسمي بفصلي من العمل، وحُذفت كل التحقيقات الاستقصائية التي نفّذتها من الموقع الإلكتروني للجريدة. حتى سيارتي، التي كانت مركونة في مرآب الجريدة، تمت مصادرتها، وأُعلن عبر وسائل الإعلام أن اعتقالي تم على خلفية قضية جنائية.

لكن الحقيقة واضحة لكل من يعرف مهام الأجهزة الأمنية في سوريا: من نفّذ الاعتقال كان إدارة المخابرات العامة (أمن الدولة)، وليس الأمن الجنائي. وهذا وحده يكفي لإسقاط مزاعم القضية الجنائية، إذ باتت محاولات تشويه السمعة مكشوفة.

أنا الآن الصحافي الذي وثّق الفساد ورفض الكثير من الأموال مقابل الصمت. أتذكر تحقيق “الحمى القلاعية”، حين حاول مندوب من وزارة الزراعة رشوتي بعرض نسبة  مالية، مقابل عدم نشر الحقائق. واليوم، يحاولون إقناع الناس بأني سجين سيء السمعة.

رغم كل شيء، زملاء المهنة يدافعون عني، ومنظمات حقوقية تطالب بإطلاق سراحي، لكن بلا جدوى. وأنا، في زنزانتي، غارق في التفكير في لحظة لقائي بطفلي، وفي الهروب من قسوة الانتظار عبر تسجيل كل ما أراه حولي في ذاكرتي.

لا أصوات تعذيب هنا كما في سجن صيدنايا، بل إن هدوءاً غريباً يعم المكان، يعززه شعور دائم بالشك تجاه الجميع. أتشارك زنزانتي مع رجل متهم بالتخابر مع إسرائيل، يحرص على تكرار قصته لي حرفياً كل يوم، معتقداً أني قد أكون مخبراً. أخبره مراراً أنني حفظت القصة عن ظهر قلب، لكن هذا جزء من ثقافة سجوننا.

يقطع وحدتنا صوت السجّان، الذي كان بمثابة قناة الاتصال الوحيدة بيني وبين عائلتي، يخبرني أن عائلتي ما زالت تنتظرني. أحاول التغلب على قسوة الانتظار بمشاركة السجناء الإسلاميين في لعب الورق. من بينهم كان زهران علوش، المعروف بنشاطه الدعوي، ومؤسس “لواء الإسلام” لاحقاً، قبل مقتله في الغوطة. كنت أجد في اللعبة ملاذاً مؤقتاً من الوحدة، لكن الألم لا يغادرنا.

في إحدى الزوايا، ثلاثة موقوفين بتهمة بيع كِلاهم في مصر، مقابل 175 ألف ليرة سورية للكِلية الواحدة، فقط ليتمكنوا من بناء مسكن يأوي أطفالهم. مشاهد القهر والضعف كانت في كل مكان.

يطالب المرصد السوري لحقوق الإنسان بالإفراج عني، ويدعو إلى وقف التضييق على الصحافيين، وضرورة إلغاء محكمة أمن الدولة السورية، واصفاً إياها بأنها سيئة السمعة والتأثير. لكن كل هذه المناشدات بدت بلا جدوى.

بعد ثلاثة أشهر، فُتح باب السجن أمامي. قيل لي إن تهمتي كانت “الثرثرة”. خرجت لأجد نفسي مفصولاً من عملي الذي أخلصت له، بينما بقيت آثار التجربة محفورة في أعماقي، تذكرني بثمن الكلمة الحرة في مواجهة منظومة الفساد.

الصمت أولاً

بعد خروجي من السجن، عانقت طفلي وزوجتي مطولاً، محاولاً استعادة دفء العائلة الذي افتقدته طيلة شهور. طلبت منهما أن يستعدا مجدداً للسفر، وأن نكمل حياتنا من النقطة التي توقفنا عندها. قررت الصمت بشأن أسباب اعتقالي، فقد كنت مقتنعاً بأن ما حدث لا يعدو كونه “غباوة أمنية”.

لكن المفاجأة الكبرى لم تأتِ من الجهات الأمنية، بل من اتحاد الصحافيين نفسه، الذي طعن في نزاهتي واتهمني بإشراك الأمن في عملي على ملف الدواء السوري! زعموا أن اعتقالي لم يكن مرتبطاً بمهنتي كصحافي، وهو ما دفعني إلى اتخاذ قرار بالحديث بصوت عالٍ.

صرحت بوضوح: “تم اعتقالي لأني طرحت سؤالاً حول شخصية مهمة مقربة من مركز القرار السياسي والأمني، وما إذا كانت لهذه الشخصية علاقة بصناعة الدواء في سوريا. تساءلت أيضاً عما إذا كانت هناك مراكز قوى في السلطة شريكة خفية في هذه الصناعة”.

الإجابات التي تلقيتها حينها كانت نفياً قاطعاً: “لا علاقة لها بأي معمل من المعامل، ولم يكن لها أي عمل خاص لأسباب سياسية”. لكن المشكلة لم تكن في الإجابات، بل في السؤال ذاته، الذي اعتُبر محظوراً. من كان يجب أن يخضع للمحاسبة هو من أصرّ على ملاحقتي، بينما كنت أنا من دافع، واعتُقل، ومُنع من السفر.

في ذلك الوقت، كنت داعماً للمشروع الإصلاحي الذي طرحه الرئيس بشار الأسد، مؤمناً بضرورة تغيير واقع المؤسسات الإعلامية. لكن ما كان مطلوباً من الإعلاميين آنذاك هو أن يكونوا أدوات مطيعة بمقاسات محددة؛ فاسدين لا يجرأون على طرح أي مشكلة حقيقية.

هذا الواقع دفعني لاحقاً للنزول إلى الشارع، موثقاً التظاهرات ومشاركاً فيها. كانت تلك المرحلة نقطة تحول كبيرة في مسيرتي، إذ أدركت أن الصمت لم يعد خياراً، وأن مواجهة الفساد والاستبداد تتطلب صوتاً عالياً مهما كان الثمن.

الذهاب بعيداً

أعيش اليوم مع طفلي، الذي كبر وأصبح شاباً، حياة هادئة في فرنسا. اخترت الابتعاد عن العمل الصحافي منذ زمن طويل، وانتقلت إلى مهنة أخرى لا تمت بصلة إلى شغفي الحقيقي.

رغم هدوء حياتي، إلا أن قلبي ما زال مثقلاً بالقلق على مستقبل بلادي، أتمنى لها الأفضل دائماً، وأحلم أن ترى أياماً أكثر إشراقاً. لكني، حتى الآن، ما زلت أعتبر البرتقالي لوناً ضائعاً بين الأحمر والأصفر، تماماً كأحلام مؤجلة وآمال معلقة بين واقع مؤلم ومستقبل غامض.

المدن

—————————

أسماء الأسد التي خدعت الإعلام الغربي/ بسمة الخطيب

الأربعاء 2025/01/01

بعد هروب رئيس النظام السوري المخلوع بشار الأسد، أبدى الإعلام الغربي فضولاً كبيراً تجاه مصير زوجته أسماء الأخرس، طارحاً أسئلة حول مستقبلها وثرواتها ودورها في الجرائم المكتشفة في عموم البلاد، وقبل كل هذا حول انخداعه بها.

“لقد خدعتنا جميعاً”، كان لسان حال المنابر الإعلامية الغربية البارزة، مثل “بي بي سي” و”سكاي نيوز” و”فوكس” و”غارديان”، في مراجعة بدأت بالفعل قبل سنوات إثر الثورة السورية التي انطلقت العام 2011 وتمت مجابهتها بسياسة الأرض المحروقة.

ونصبت الآلة الدعائية السخية الميزانية للسيدة الأولى فخاً محكماً للإعلام والرأي العام الدولي حتى كادوا يصدقون أن الشابة “الأنيقة الأكثر نضارة بين السيدات الأول” كما وصفتها مجلة “فوغ” العام 2011 والتي “لا تتزين بمجوهرات في العلن”، وتزور المناطق السورية متنكرةً لتقف على أحوال الشعب كما باحت لمحرر “سكاي نيوز” العام 2009، لا يمكن أن يكون زوجها ديكتاتوراً وسفاحاً.

وبجرعة من الندم وطعم الخديعة، تناول الإعلام العالمي “صعود وهبوط” أسماء، وفرارها إلى موسكو وعدم ترحيب بريطانيا التي تحمل جنسيتها بها والعقوبات الأميركية لها ولأهلها وما هربته من ثروات سورية معها.

في صحيفة “غارديان” البريطانية كتبت زوي ويليامز الأسبوع الماضي مقالاً بعنوان “كيف خدع بشار وأسماء الأسد الإعلام” موضحةً أن بعض الصحافيين استخفوا بالرئيس الأسد، مظهراً وسلوكاً، وشبهه الكاتب البريطاني الأميركي كريستوفر هيتشنز بـ”فرشاة الأسنان” واستدعى مقولة حنا أرندت “تفاهة الشر” في توصيفه.

أقلام أخرى شبهته بالزرافة، ومحرر “سكاي نيوز” اعتبره مثيراً للشفقة مقارنة بأخيه باسل الأوسم والأقوى شخصية، واستخفوا عموماً في أن يكون مصدر تهديد لشعبه، أما زوجته، وفق ويليامز فخدعت الجميع عبر بورتريه مجلة “فوغ” الذي وصفها بـ”وردة الصحراء”، وهو تتويج مهم لسياستها الدعائية في بناء صورة جذابة لها في أوساط النخبة العالمية ونيل إعجاب الغرب وإيهامهم بتغير الحكم في سوريا وقيادة زوجها الشبابية والحيوية والمنفتحة.

وسبق ذلك البورتريه دعوة مهمة وجهتها أسماء وزوجها العام 2009 إلى “سكاي نيوز”، واستضافتهما لمحرر الشؤون الدولية فيها، دومينيك واغهوم، الذي تجول مع الزوجين الشابين في بيتهما المتواضع “الكئيب” كما وصفه، قبل انتقالهما للسكن إلى قصرهما الفاخر، حين باحت له أسماء بسرها وهو أنها تتجول متنكرة في أرجاء سوريا لتقف على احتياجات أهلها، وأنها وزوجها يشكلان “أسرة من الطبقة المتوسطة لا يسعدهما شيء أكثر من مفاجأة أهل دمشق وتناول العشاء في مطاعم العاصمة”.

واستعاد واغهوم تلك الزيارة قبل أيام، وعرض انطباعاته السلبية عن الرئيس السابق، وكيف انكشفت وعوده الخادعة بالتغيير والديموقراطية حين اختار، رداً على الثورة السورية، استراتيجية والده في سحق انتفاضة حماة العام 1982 بدعم من زوجته “الرقيقة”.

وخلص المحرر الدولي في موقع “راديو نيوزيلندا” الإلكتروني إلى أن صورة أسماء الأسد انحدرت من مثال الليدي ديانا إلى مثال ماري أنطوانيت. أما سام هانكوك في موقع “بي بي سي نيوز” فتتبع تاريخ أسماء وأسرتها الحمصية ورأى منطقياً أن تكون موسكو منفاها بعدما اعتبرتها لندن غير مرحب بها، وهي أدركت باكراً ذلك وخططت لمنفاها الروسي عبر شراء عقارات كثيرة في الفترة الأخيرة في موسكو بملايين الدولارات.

وذهب تقرير “ذا ميل أونلاين” إلى ملاحقة والدي أسماء، جراح القلب فواز الأخرس وزوجته الدبلوماسية المتقاعدة، وتحرى مكانهما من الأصدقاء والجيران، معلناً أنهما التحقا بابنتهما في موسكو لمواساتها وزوجها. وأوحى غريغ وينر في موقع “فوكس نيوز” أن أسماء بعدما يئست من لعب دور “ديانا السورية” ركزت على المهام الاقتصادية التي كلفها بها زوجها والتي ما لبثت تتسع وتتعاظم.

ودعمت أسماء خيار زوجها، حيث تزوجت ابن حافظ الأسد وتزوجت معه نظامه وإرثه. فقط مَنْ تتمرد على هذه القاعدة هي التي تستحق ربما لقب “ديانا”، رمز التمرد على الموروثات والتوق إلى الحرية قبل أن تكون أيقونة الموضة والرفاهية الباذخة. لكن أسماء بدل أن تغير النظام وتلطف وحشيته أبدت تعطشاً للانتماء له ولدور شريكة المستبد، بل لعلها أبدعت فيه، فيما أطلقت عليها مجلة “دير شبيغل” الألمانية قبل سنوات لقب “وجه الدكتاتورية الحقيقي في سوريا”.

وبعد عام من الثورة السورية، وبينما استعان الأسد بجيوش نظامية وغير نظامية لقمعها، جواً وأرضاً، سربت منصة “ويكيليكس” رسائل للسيدة الأولى تثبت تسوقها عبر وسيط بمبالغ طائلة، بينها أكثر من 300 ألف دولار ثمناً لأثاث، وحذاء بكعب من الكريستال بقيمة 7 آلاف دولار، مثالاً لا حصراً. صدم الإعلام الذي روج لبساطة أسماء وتواضعها، وفهم أخيراً أن عدم تزينها بالجواهر النفيسة والملابس الباهظة في جلسات التصوير وتمثيلياته المدبرة لا يعني أنها لا تشتريها، وسيفهم لاحقاً أنها لن تترك خلفها تلك الكنوز حين تفر، وما نبش في قصورها العديدة هو البضائع المتواضعة التي زهدت فيها.

وحين ضرب الأسد خان شيخون التابعة لمحافظة إدلب بغاز السارين ربيع العام 2017، وافترشت جثث الأطفال القتلى الأرض، نشرت أسماء صورتها بفستان أنيق وهي تتأمل مبتسمة برقة، ونشرت صفحاتها الأخرى تحت هاشتاغ “نحن نحبك يا أسماء” صوراً لها تقرأ قصة لأطفال قتل أهلهم الموالون لزوجها في الحرب.

وبين مجزرة وأخرى كانت أسماء تنشر أنشطتها الإنسانية واحتفالاتها وزوجها بعيد الأم والأب والربيع والطفل، لكن كل هذا ما كان ليحجب إجرام زوجها. حوصرت أسماء إعلامياً، فلجأت إلى الإعلام الروسي الوحيد الذي أفسح لها مجالاً دولياً، مع تطبيل لبناني محدود. ثم أعلن عن إصابتها بالسرطان الذي كان يعني توقف أنشطتها في المجال العام، ولكنها لم تغب تماماً بل أشركت متابعيها في مواقع التواصل الاجتماعي مراحل علاجها ودعم زوجها لها وأخيراً إعلان تعافيها الكامل، في “المستشفيات الوطنية”، وباتت صورتها مثالاً لـ”انتصار سوريا على الحرب الكونية” في دعاية النظام.

وعادت أسماء المتعافية أقوى من قبل، وأحكمت نفوذها الاقتصادي في سوريا وأقصت منافسها القوي رامي مخلوف. وعاد الإعلام الدولي المغرم بالثروات وبلغة المال، للتركيز على مصادر ثروتها، والملاذات الضريبية التي قد تلجأ لها، وتحايلها على العقوبات الأميركية على شخصها، وعلى الاقتصاد السوري، حتى يوم فرارها من سوريا وسقوط أحد أعتى الأنظمة التوتاليتارية في العصر الحديث.

لن يكفي أن يتصرف الإعلام على طريقة “فوغ” العام 2011 حين سحب البورتريه المتملق لأسماء، أو حين وصفتها المحررة بـ”سيدة الإجرام الأولى” بدل “وردة الصحراء”. الندم لا يجدي هنا. هذه قضية إنسانية أممية وليست شخصية. الخديعة كانت عالمية وإهانة لمهنة ذات رسائل أخلاقية. لذلك ينتظر أن تترجم الصحافة الدولية ندمها وتنتقم لشعورها بالمهانة والخديعة عبر تبني قضايا إعادة الأموال المنهوبة إلى الشعب السوري وحقه في تقرير مصيره ومحاكمة من ارتكب جرائم بحقه.

المدن

————————–

ما بعد سقوط الأسد: إعادة قراءة المشهد السوري/ إبراهيم اليوسف

تحديث 10 كانون الثاني 2025

الثورة بين المفهوم والواقع

لا يختلف اثنان على أنَّ الثورة الحقيقية، في جوهرها، هي تعبير عن إرادة الشعوب الطامحة إلى التغيير الجذري في الأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تسلب حقوقها وحرياتها. إنها حركة تنبع من شعور عميق بالظلم والقهر، تهدف إلى تأسيس واقع أكثر عدلًا وإنصافًا. بهذا المعنى المثالي، كانت الثورة السورية في بداياتها- في أشهر ولادتها الأولى- تعبيرًا عن هذا الطموح المشروع، حيث خرج السوريون من كل الفئات والانتماءات يطالبون بالكرامة والحرية بعد عقود طويلة من القمع الممنهج. لكن الحلم الثوري لم يدم طويلاً. إذ سرعان ما انحرفت الثورة عن مسارها العفوي النقي، وتحولت إلى ساحة لصراع المصالح الإقليمية والدولية، بسبب قوى داخلية وخارجية استغلت حالة الفوضى. ما جرى بعد ذلك لم يكن استمرارًا للثورة بمفهومها الأصيل، بل كان نتيجة مباشرة لإعلانها، حيث واجه نظام الأسد، المعتاد على القمع والتنكيل، شعبًا منتفضًا بأساليب أكثر قسوة، مما فتح الباب أمام حرب متعددة الأطراف، أجهضت المشروع الثوري ووضعت سوريا في دوامة مدمرة.

البداية النقية والمآلات المنحرفة

بدا المشهد السوري في ربيع عام 2011، وكأنه إشراقة عصر جديد، من خلال الحلم بتغيير جذري، بعد عقود من الاستبداد. فقد خرج الشعب السوري، من أقصى البلاد إلى أقصاها، متحديًا الخوف والترهيب، ليعلن رفضه للظلم والمطالبة بحياة كريمة ودولة تسودها العدالة والمساواة. لكن هذا الحلم الجماعي سرعان ما تعرَّض للتشويه بفعل عوامل عدة. تدخلت الأيدي الخارجية عبر الهيمنة على مؤسسات المعارضة، مثل المجلس الوطني السوري والائتلاف الوطني، اللذين بديا عاجزين عن الاستمرار فيما أوجدا له، و تقديم مشروع سياسي متماسك، من دون هيمنة الممولين. حيث أُعيد تشكيل هذين الكيانين وفقًا لمصالح دولية وإقليمية، فصارا مجرد واجهتين ضمن أدوات إطالة الصراع بدلًا من إنهائه، رغم أهمية هذين المشروعين، في لحظة تأسيسهما.

وللأسف، أنه وبمرور الوقت، تغيَّرت طبيعة الحراك الشعبي. إذ ظهرت انقسامات داخل صفوف المعارضة، وتزايدت وتيرة العنف بين الأطراف المتصارعة. من خلال تدخل قوى إقليمية ودولية لدعم أطراف معينة وفقًا لأجنداتها، ما أدى إلى انحراف الثورة عن مسارها الأصلي، واستقطاب عناصر مستقدمين من بلدان العالم لدخول الساحة السورية. حيث بدأ المشهد السوري يتحول إلى مسرح فوضوي حيث اختلطت الأهداف الثورية النبيلة مع أجندات الممولين والداعمين. الإطاحة بنظام الأسد لم تكن مستحيلة في بدايات الحراك، لكن الإرادة الدولية والإقليمية فضلت استنزاف سوريا وشعبها في حرب طويلة الأمد. وهكذا تحولت الثورة إلى فوضى مقصودة، وغرقت البلاد في دوامة من القتل والدمار. في هذا السياق، تحالف التيار العروبوي مع التيار الإسلاموي، وأعيد تعريف المشهد السوري بناءً على أجندات لا علاقة لها بتطلعات الشعب السوري.

قصص مقترحة

    وجود صحافة حرة ليس مجرد حق يُمنح للصحفيين بل هو شرط أساسي لبناء مجتمع ديمقراطيما مبرر قمع الصحفيين في سوريا؟

    لاعب وسط ميلان الدولي الإنكليزي روبن لوفتوس-تشيك يتابع كرة برأسه أمام مدافعي نابولي في مباراة في الدوري الإيطالي على ملعب سان سيرو في ميلانو في 29 تشرين الأول/أكتوبر 2024بطولة إيطاليا: لوفتوس-تشيك يبتعد عن صفوف ميلانو بسبب تمزق في الفخذ

    في ديسمبر 2023، بالكاد تمكنت أندريا من فتح عينيها وعانت من تورم حول خديها بعد حقن الوجه في عيادة تجميل”دفعت لطبيب تجميل مزيّف آلاف الدولارات، والآن أبدو مثل الوحش”

مظاهر الرعب والخوف وسط فرحة السوريين

رغم الآمال الكبيرة التي حملها السوريون في بدايات الحراك، فإن المشهد- على الأرض- كان كارثيًا منذ اللحظات الأولى. اختلطت مشاعر الفرح بالخوف والقلق. شوارع المدن السورية، التي شهدت المظاهرات السلمية، سرعان ما تحولت إلى مساحات للرعب مع تصاعد العنف. استخدام النظام للقوة المفرطة ضد المتظاهرين، بما في ذلك القصف العشوائي وعمليات الاعتقال التعسفي، خلق حالة من الذعر. المدن التي كانت يومًا تعج بالحياة أصبحت ساحات للدمار. دمشق وحلب وحمص، مدن كانت رموزًا للحضارة السورية، تعرضت لتدمير هائل. الشوارع التي امتلأت بالهتافات المطالبة بالحرية، امتلأت بالجثث والركام. الأطفال، الذين كانوا يلعبون في الساحات، أصبحوا ضحايا الحرب، سواء كلاجئين في المخيمات أو قتلى في القصف. مشهد القصف العشوائي كان الأكثر إيلامًا. المدن السورية كانت تُضرب بالبراميل المتفجرة والصواريخ دون تمييز، ما أدى إلى مقتل الآلاف من المدنيين الأبرياء. العائلات كانت تفقد كل شيء في لحظة واحدة؛ المنزل، الأحبة، والأمل. حالة الخوف لم تقتصر على القصف فقط؛ الاعتقالات الجماعية والتعذيب في السجون خلقا جوًا من الرعب الدائم.

الكرد بين التهميش السياسي والتمثيل العسكري

بينما كان السوريون يكافحون من أجل حريتهم، ظل الكرد يعانون من التهميش الذي استمر لعقود. الكرد، الذين يشكلون جزءًا أساسيًا من النسيج السوري، لم يحظوا يومًا بتمثيل سياسي حقيقي. منذ تأسيس أول حزب كردي في سوريا عام 1957، ظل الكرد يتعرضون لسياسات الإقصاء والتهميش، ولم يكن الحراك الثوري استثناءً. على الرغم من مشاركتهم الفعالة في المظاهرات السلمية، إلا أنهم وجدوا أنفسهم مُستبعدين من قبل النظام والمعارضة على حد سواء. مناطق الكرد تعرضت لسياسات التهجير القسري والتغيير الديموغرافي، لاسيما المدن التي تم احتلالها من قبل تركيا ومرتزقتها في: عفرين وكوباني وسري كانيي، فقد عانت المجتمعات الكردية من الهجمات المتكررة والتهجير المنظم، حيث أُجبر السكان على مغادرة أراضيهم لصالح قوى مدعومة من الخارج. إلا أنَّ العروبوية والإسلاموية اللتين طغتا على المعارضة- لا أعني أهلنا العرب ولا الدين الذي أحترم وأؤمن به- زادتا من معاناة الكرد، الذين كانوا هدفًا للتيارات” العروبوية الإسلاموية” التي رفضت الاعتراف بتعددية المجتمع السوري. على الجانب العسكري، ظهرت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) كممثل عسكري رئيس للكرد، لا يمكن أن يتم تجاوزه، لاسيما بعد الاتفاق على عودة عناصر ب ك ك إلى مهادهم. رغم الانتقادات التي طالت هذه القوات، إلا أن قسد- وفق تصوري- ظلت أقل انتهاكًا من باقي الفصائل المسلحة. التحالف الدولي أبدى دعمًا عسكريًا لقسد، لكنها بقيت معزولة سياسيًا. لم يُمنح الكرد مكانًا على طاولات الحوار الدولي، مما جعلهم يشعرون بأن نضالهم يُستخدم لتحقيق أهداف الآخرين.

مظاهر الأسلمة المرعبة

مع تصاعد الصراع، بدأ التيار الإسلاموي يسيطر على المعارضة المسلحة. مجموعات مثل النصرة وبقايا داعش وفصائل راديكالية أعادت تشكيل المشهد السوري على أساس أجندات متطرفة، ما خلق حالة من الرعب في المناطق التي سيطرت عليها. لقد فرضت هذه المجموعات قوانينها الخاصة، التي اتسمت بالقمع والتشدد. النساء أُجبرن على ارتداء النقاب، والمدارس أُغلقت أو أُعيدت هيكلتها لتتناسب مع الفكر المتطرف، بعد فرحة التخلص من تبعيث وتأسيد المناهج بما في ذلك التربية الدينية. واحدة من أبرز ممارسات هذه التيارات كانت تحطيم تماثيل الشعراء والمفكرين الكبار، باعتبارها رموزًا للثقافة والفكر. هذا النهج لم يكن محصورًا بداعش، بل تسربت بعض مظاهره إلى جهات أخرى في المعارضة، ما عمق حالة الصدمة لدى السوريين الذين رأوا في هذه الممارسات تحطيمًا لتراثهم الثقافي. كما وصلت هذه المظاهر إلى عزل النساء عن الرجال في وسائل النقل العامة، كالباصات، وهي خطوة أثارت الكثير من الجدل والاستياء. ورغم أن بعض الجهات نفت حدوث ذلك، فإن مجرد تكرار الشائعات حول هذه الممارسات كان كافيًا لإثارة القلق.

إعادة صياغة المشهد بعد سقوط الأسد اليوم، وبعد أكثر من عقد على بداية الحراك، تواجه سوريا واقعًا مريرًا. سقوط نظام الأسد، إذا حدث، لن يكون نهاية المأساة، بل بداية لتحديات جديدة. إعادة بناء البلاد تتطلب الاعتراف بحقوق جميع مكوناتها، وعلى رأسهم الكرد، الذين عانوا طويلًا من الظلم والتهميش. إعادة صياغة المشهد السوري على أسس عادلة تستوجب:

الاعتراف بالتعددية: إذ يجب أن تعكس الدولة السورية المستقبلية التنوع الثقافي والإثني للمجتمع السوري، وأن تُمنح الكرد حقوقهم الكاملة في إطار وطني جامع.

محاسبة المسؤولين عن الجرائم: باعتبار أن العدالة الانتقالية يجب أن تكون جزءًا أساسيًا من أي تسوية سياسية، لضمان محاسبة كل من تورط في انتهاكات حقوق الإنسان.

إعادة الإعمار: حيث لا يقتصر الأمر على إعادة بناء البنية التحتية، بل يشمل بناء مجتمع مدني قادر على تجاوز آثار الحرب.

دعم الحلول السلمية: وذلك تحقيق الاستقرار يتطلب إنهاء الصراع المسلح واعتماد الحوار كوسيلة لحل الخلافات. فما حدث في سوريا لا يمكن وصفه بثورة مكتملة، لأن المآلات شوهت نقاء البدايات. إنها مأساة إنسانية تُظهر كيف يمكن أن تتحول أحلام الشعوب إلى كوابيس بفعل القوى المتصارعة. المشهد السوري اليوم هو نتاج سنوات من القمع والاستغلال السياسي. رغم كل ما حدث، لا تزال هناك فرصة لإعادة بناء سوريا على أسس عادلة. هذا لن يتحقق إلا بالاعتراف بمعاناة الجميع، وعلى رأسهم الكرد، وضمان حقوقهم في المستقبل. الثورة، في بداياتها، كانت حلمًا مشروعًا، لكن ما تبعها كان كابوسًا يجب أن ينتهي يومًا ما.

ايلاف

————————–

سوريا بعد الأسد واستقبال الجديد/ رضوان السيد

10 يناير 2025 م

الأسود ليست مثل بعضها، ولا كذلك الثعالب. فأسد حكاية «كليلة ودمنة» كان «مستبداً معجباً برأيه غير آخذٍ برأي أحدٍ من أصحابه». أما الثعلب، «دمنة»، الذي استمات للتقرب من ذاك السلطان فمن أجل «أن يسرّ الصديق ويسوءَ العدو». في حين أن أسد الحكاية الأخرى، «الأسد والغواص»، كان «حسن الطريقة في مملكته محموداً في رعيته». أما الثعلب الملقَّب بـ«الغواص»، فقد قصد أيضاً إلى التقرُّب من الملك: «لأنّ في صلاح الملك صلاح مملكته ورعيته، وفي صلاح المملكة والرعية صلاح الجملة التي الناصحُ جزءٌ منها؛ يضره ما يضرها، وينفعه ما ينفعها!».

ما كانت سوريا الأسد، وبخاصة في سنواتها الأخيرة، دولة ولا شبه دولة. وإلّا لما هجرها أو هُجِّر منها نصف سكانها. النقص والانتقاص يتناول كل شيء، وكنت تستمع إلى بشار الأسد فتحسبه فيلسوفاً استيقظ من رقدته قبل لحظات، وهو بريءٌ براءة الذئب من دم يوسف (!). أما على الأرض، فكان الوضع غير ذلك تماماً؛ فهو يعرف عن السجون أهلها، ويعرف عن التهجير، ويعرف عن الاغتيالات والقمع والكيماوي، ويرى أنه بعد تهجير الملايين صار الشعب السوري أكثر انسجاماً بين عناصره (!). وهكذا كان بشار أسداً ليس كالأسود، وكان أعوانه من الذئاب والثعالب، وأولهم شقيقه ماهر، ليسوا بالمعهود عن تلك الحيوانات الوديعة، وإلاّ لما اشتغلوا بالقتل والتعذيب في السجون والاتجار بـ«الكبتاغون».

ما أعسر مهمة استقبال الجديد بعد هذا التدمير الذي اعتدنا على تسميته ممنهجاً، لكنه قد يكون غير ذلك تماماً. فلنتصور أنهم فكروا أخيراً قبل هروبهم في تدمير الجيش الذي قاتل بقيادتهم أربعة عشر عاماً ضد الشعب الأعزل وغير الأعزل!

هناك انقسامٌ كبير في النظر إلى الوضع السوري اليوم؛ فهناك مَن يعتبر الوضع غير شرعي إلى حين القيام بإجراءات أُخرى. وهناك مَن يطالب بالتحقيق الكامل لمواصفات الدولة المدنية العلمانية، ومواصفات أُخرى، مثل حماية الأقليات، وضمان حريات المرأة وحقوقها، وتدبير أعمال لعشرات الألوف ممن كان النظام الأسدي يصطنع المؤسسات من أجل توظيفهم، ولو شبيحة في وضح النهار! وهذا كله فضلاً عن الحقوق الخاصة للأكراد وغيرهم، لأنهم قاتلوا أيضاً ضد النظام السابق وضد الإرهاب. وقد قابلتهم الإدارة العسكرية لأحمد الشرع بمنطقٍ آخر: التصدي للمجاعة، والنهوض بالوضع الاقتصادي، ومدّ اليد للعرب والأجانب لإعادة الإعمار. وإن كان لا بد من أجل الطمأنة، فسيكون هناك دستور وانتخابات، لكن بعد 3 أو 4 سنوات. وبانتظار ذلك يتشكل الجيش الجديد وتتشكل الوزارة والإدارة من أعضاء حاليين في تنظيمه وحركته!

هل بهذه الطريقة يجري استقبال الجديد؟ إذا اعتبرنا دعوات المنذرين مسرفة في حداثتها، وربما في سوء نياتها؛ فماذا نقول عن الوزراء وكبار الموظفين وضباط الجيش الأشاوس الخارجين من خنادق إدلب المحاصَرة على مدى سنوات، وهل ما يصلح لإدارة إدلب وريفها يصلح لدمشق وحلب وحماة وحمص ولو مؤقتاً؟! العرب جميعاً على وجه التقريب، وحتى الدوليون الفارضون للعقوبات من قبل، سارعوا للترحيب، وعرضوا المساعدة، وما اشترطوا إلا أمن سوريا ووحدة أراضيها وخلوَّها من الإرهاب والمسلحين والمتدخلين من شتى الأمم والدول والنواحي. ويعود هذا الترحيب السريع إلى ما عاناه الجميع من الأوضاع السورية بعد عام 2011، والتشرذم الذي نال من الشعب السوري بالداخل وبالخارج؛ فإضافة إلى العساكر الأميركية والروسية، كانت هناك التنظيمات الإرهابية، ومنها «هيئة تحرير الشام»، وقبل ذلك وبعده جحافل إيران وميليشياتها الذين أرادوا حماية حليفهم بشار، و«حماية» مزارات أهل البيت، ثم طمحوا للخلود في سوريا من خلال تغيير الديموغرافيا والدين! ولا ننسى الأتراك الذين دخلوا بعسكرهم أيضاً فتبنوا ميليشيات، وشكلوا أخرى، وزعموا أنهم لا يريدون غير إقصاء عسكر حزب العمال الكردستاني المتسربين من تركيا لقتال تركيا!

كانت كل هذه الدول والميليشيات مستمتعة بالحرب السورية وبالانقسام السوري، وكلها تراهن على حاجة نظام بشار إليها ضد ثوران شعبه، بما في ذلك إسرائيل، التي ما رماها بشار بحجر، مع إغاراتها على الداخل السوري بحجة ملاحقة الإيرانيين لأكثر من 5 سنوات!

إن المفروض أن النظام الجديد يسعى بالتفاوض أو بالوسائل الأخرى لإخراج كل هؤلاء من سوريا واستعادة وحدة التراب السوري. بيد أنّ أحداً منهم لا يريد الخروج، بل حتى الإيرانيون الذين اختفوا هم وميليشياتهم يقولون الآن إنهم درّبوا مائة وثلاثين ألفاً، وهم يريدون دفعهم الآن لمقاتلة السلطة الجديدة!

وإذا أضفنا إلى ذلك أعباء عشرة ملايين نازح سوري بل أكثر، الذين إذا أرادوا العودة يفتقرون إلى كل شيء، يتبين لنا مدى تراكم الأولويات وتعقدها، وهذا ونحن لم نتعرض بعد لقضايا العدالة الانتقالية التي تُهم أهل الضحايا ليس منذ أربعة عشر عاماً، بل ومنذ عام 1982.

يستطيع كل أحدٍ الحديث عن الجديد، إنما الأهمّ القدرة على استقباله!

الشرق الأوسط

———————

ملاحقة فلول النظام السوري.. أهداف وأبعاد تتجاوز الجانب الأمني/ بسام السليمان

10/1/2025

منذ 26 ديسمبر/كانون الأول 2024 تواصل حكومة تصريف الأعمال السورية عملياتها الأمنية التي أطلقتها ضد من سمتهم “فلول النظام السوري” وذلك على خلفية مقتل 14 من عناصرها الأمنية والعسكرية في هجوم مسلح وقع في ناحية صافيتا بريف طرطوس.

وعلى الرغم من أن الحملة طالت معظم المحافظات الخاضعة لسيطرتها مثل دمشق وحلب، فإنها استهدفت بشكل رئيس محافظات الساحل والوسط (اللاذقية، طرطوس، حماة، حمص)، مع تركيز واضح على النواحي والأحياء التي شكلت طيلة السنوات السابقة معقلا وحاضنة لضباط أمن وجيش نظام الأسد.

ورغم الطابع الأمني والعسكري الواضح للحملة، فإنها تعكس أيضا أبعادا سياسية وقانونية واجتماعية واقتصادية أعمق تصب في إطار إعادة استقرار وبناء سوريا بعد سنوات الحرب، مما يستدعي الوقوف على هذه الأبعاد المختلفة وتأثيراتها المحتملة على المستقبل السوري.

الأبعاد السياسية

تمثّل هذه العملية الأمنية خطوة مهمة نحو ترسيخ الاستقرار السياسي في سوريا، لأن تحركات فلول النظام، التي استهدفت الأجهزة الأمنية والعسكرية، تمثل تهديدا مباشرا لاستقرار البلاد ولمساعي الحكومة في بناء علاقات فاعلة على صعيدي السياسة الداخلية والخارجية تمهيدا للتفرغ لإعادة البناء.

إلى جانب ذلك، تزامنت تحركات “فلول النظام” مع تصريحات إيرانية مقلقة تحرّض على الإدارة السورية الجديدة، أبرزها تصريحات المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران علي خامنئي، الذي تحدث عن أن الولايات المتحدة تسعى من خلال مخططاتها في سوريا إلى نشر الفوضى وإثارة الشغب لفرض هيمنتها على المنطقة، متوقعا أن تخرج ما وصفها بـ”مجموعة من الشرفاء” لتغيير الوضع الجديد وإخراج من وصفهم بـ”الثوار”.

وكذلك تصريحات المتحدث باسم السلطة القضائية في إيران أصغر جهانغير، الذي تحدث عن أن تنبؤات خامنئي حول “ظهور الشباب السوري الشريف والقوي الذي سيدحر المحتلين من أرض بلاده، ستتحقق في القريب العاجل”، وأن “المقاومة الآتية ستثبت انتصار الحق على الباطل” مما يعكس مسعى إيرانيا واضحا للتدخل في الشأن السوري وزعزعة الاستقرار الداخلي عبر تحريض بعض فئات المجتمع السوري ضد الإدارة الجديدة.

من هنا، تبدو هذه العملية كرسالة سياسية على الصعيدين الداخلي والخارجي:

    داخليا، تؤكد قدرة الحكومة على ضبط الأمن واحتواء التهديدات الموروثة من النظام السابق، وفي هذا السياق، تأتي عمليات ملاحقة الفلول ومنع تحولها إلى مجموعات منظمة لديها القدرة على تنسيق عمليات كبيرة ذات طابع منظم، تأتي لتقطع الطريق على لاعبين محليين (قسد نموذجا) لاستغلال أي فوضى في الدفع بمشروع تقسيم أو فدرلة في سوريا المستقبلية.

    خارجيا، تسعى إلى تحجيم النفوذ الإيراني وأدواته، بما في ذلك القوى الموالية له داخل سوريا، لضمان عدم استخدامها كورقة ضغط سياسية أو أداة لزعزعة الاستقرار.

إضافة لذلك، تسعى الإدارة الجديدة من خلال هذه العملية إلى طمأنة الدول الإقليمية والدولية بأنها قادرة على ضبط الأمن بما يضمن تحقيق انتقال سياسي حقيقي يُرسخ حكم القانون، ويعزز استقرار البلاد، ويمنع تحولها إلى بؤرة توتر وقلق أمني إقليمي ودولي.

الأبعاد القانونية

تمثّل العملية الأمنية المستمرة خطوة على صعيد سيادة وتطبيق القانون وتحقيق العدالة الانتقالية في سوريا، بما يساعد على طي صفحة الماضي، وإعادة بناء الثقة بين مختلف مكونات المجتمع السوري.

فهذه العملية تستهدف عددا من الشخصيات البارزة المتورطة في ارتكاب جرائم حرب بحق المدنيين السوريين خلال سنوات الثورة، مثل شجاع العلي الملقب بجزار الحولة، ومحمد نور الدين شلهوم المتورط في تعطيل كاميرات سجن صيدنايا وسرقة الملفات منه قبيل وصول قوات إدارة العمليات العسكرية إليه.

إضافة إلى عدد من الشخصيات الأخرى، التي ارتبطت أسماؤها بانتهاكات جسيمة بحق الشعب السوري، كساهر النداف وسومر العلي وغيرهم من الشخصيات المسؤولة عن الأعمال الوحشية، إن محاكمة هؤلاء الأشخاص ليست فقط مطلبا قانونيا لضمان العدالة لضحايا النظام.

لكنها أيضا تعتبر خطوة أساسية نحو تسوية الصراعات الداخلية، وإن ضمان عدم الإفلات من العقاب يعزز من مصداقية الحكومة الجديدة، ويظهر جديتها في معالجة الشروخ الاجتماعية التي خلفتها سياسات النظام السوري السابق.

لانتشار قوات إدارة العمليات العسكرية في قرية خربة المعزة بريف طرطوس في محافظة اللاذقية غربي سوريا كالة الأنباء السورية (سانا)

انتشار قوات إدارة العمليات العسكرية في قرية خربة المعزة بريف طرطوس في محافظة اللاذقية غربي سوريا (سانا)

الأبعاد الاجتماعية

اعتمد النظام السوري السابق في توطيد حكمه على سياسة “فرّق تسد”، حيث عمل على تأجيج النعرات بين مكونات المجتمع السوري واستغلال التوترات الطائفية بهدف تأسيس كتلة بشرية صلبة يعتمد عليها في تثبيت سلطته.

وقد أدّت هذه السياسة إلى شروخ اجتماعية، خصوصا في مناطق الاحتكاك الطائفي مثل اللاذقية وطرطوس وحمص وريف حماة الغربي، هذه المناطق التي شهدت مع بداية الثورة ظهور شخصيات وعائلات موالية للنظام انخرطت في عمليات القتل ضد شخصيات وعائلات معارضة له، مما تسبب بحالة عداء مركبة ذات أبعاد شخصية وعائلية ومناطقية طائفية.

ومع سقوط النظام وعودة العائلات المهجرة إلى مناطقها، بدأت حالة العداء ودعوات الثأر تظهر بوضوح مهددة في حال عدم احتوائها بالدخول في دوامة من العمليات الانتقامية التي يمكن أن تتطور إلى صدام طائفي.

    تحت شعارات ياعلي متظاهرين في طرطوس

    من يقوم بتحريك هؤلاء هم مشايخ العلويين

    تحركوا من أجل كذبة المقام ولم يتحركوا لمجازر استمرت ل 13 سنة pic.twitter.com/8zkCwS4ZwL

    — Wolverine (@Wolveri07681751) December 25, 20243ث

ولهذا، فإن قيام الحكومة بنفسها بملاحقة هؤلاء المتورطين ومحاكمتهم يسهم بمنع عمليات الثأر أو على الأقل يحد منها، كما أن المطلوبين للعدالة يمكن أن يسعوا إلى تأجيج النعرات الطائفية، بهدف تشكيل غطاء طائفي لهم يحميهم من المحاكمة.

وهذا ما بدا واضحا في الاحتجاجات التي اندلعت في 25 ديسمبر/كانون الأول 2024 على خلفية انتشار فيديو يظهر حرق مقام الحسين الخصيبي، والذي ظهر فيه بعض المتورطين مثل جزار الحولة شجاع العلي وهو يحرض على حرق مساجد المسلمين السنة.

لهذا، تعدّ هذه العمليات عاملا مهما يحفظ النسيج الاجتماعي السوري المتنوع، كونه يعزز ثقة المواطنين بالمؤسسات الأمنية والقانونية الجديدة، ويمنع حالات الانتقام الفردي التي قد تتسبب بتجدد دوامة العنف وانفلات الأمن، كما أن هذا النهج يبعث برسالة واضحة ألا أحد فوق القانون، مما يسهم في تقوية أسس العدالة الانتقالية التي يحتاجها الشعب السوري وتطالب به مختلف دول العالم.

الأبعاد الاقتصادية

تحمل العملية الأمنية بعدا اقتصاديا حيويا يتمثل في تعزيز السيطرة وضمان الأمن في مناطق إستراتيجية تُعد بمثابة الشرايين في الاقتصاد السوري.

فقد تركزت تحركات فلول النظام في محافظات طرطوس واللاذقية، حيث تقع الموانئ الرئيسة التي تشكل الواجهة البحرية لسوريا وبوابتها للتجارة الدولية، إضافة لمحافظتي حمص وحماة اللتين تعتبران عقدة مواصلات مركزية تربط الساحل بالداخل السوري.

كما تربط شمال سوريا وعاصمتها الاقتصادية حلب بجنوبها وعاصمتها السياسية دمشق، لهذا، فإن بسط الأمن في هذه المناطق مهم لضمان استمرار تدفق البضائع بين الساحل والداخل والشمال والجنوب، وتشغيل عجلة الاقتصاد بما يخدم الاستقرار والتنمية وضمان وصول الخدمات والسلع الرئيسة.

إضافة لذلك، تحمل هذه العملية بعدا اقتصاديا آخر، حيث ستؤدي إذا نجحت في بسط الأمن إلى تعزيز ثقة المستثمرين بالحكومة الجديدة وقدرتها على مواجهة التحديات الأمنية، مما يزيد في قدرة سوريا على جذب الاستثمارات والمستثمرين في مختلف القطاعات الاقتصادية.

ختاما

رغم النجاحات الأولية التي حققتها هذه العملية، تظل الإدارة الجديدة أمام تحديات كبيرة للحفاظ على مكتسباتها وتعزيزها.

ولعل التحدي الأبرز يتمثل في ضرورة تقييد نطاق الملاحقات الأمنية لضمان محاسبة المتورطين الفعليين فقط، دون المساس بالمواطنين الأبرياء أيا كان انتماؤهم، مما يعزز الثقة الشعبية في الحكومة وفي سيادة القانون، ويُرسخ العدالة الانتقالية بشفافية وفعالية.

كما تُبرز هذه العملية أهمية العمل على مسارات اجتماعية وسياسية وقانونية موازية للمسار الأمني، بما يضمن إشعار جميع مكونات المجتمع السوري بالأمان وسيادة القانون في ظل الإدارة الجديدة، وإشراكها في عملية البناء بما يعزز مسار المصالحة الوطنية وإعادة ثقة السوريين ببعضهم.

وسيسهم هذا في تحصين المجتمع السوري بكل مكوناته أمام أي دعوات لاستغلاله من أي جهة داخلية كانت أو خارجية.

أخيرا، تعتبر هذه العملية أول اختبار أمني حقيقي للحكومة الجديدة، ونجاحها فيه سينعكس إيجابا على سوريا في مختلف النواحي، السياسية والقانونية والاجتماعية والاقتصادية.

وعلى النقيض من ذلك، فإن فشلها في احتوائه أو حتى نجاحها في احتوائه بالمسار الأمني فقط، دون العمل على مسارات اجتماعية وسياسية وقانونية موازية تعزز ثقة مختلف أطياف الشعب السوري بالحكومة الجديدة، يمكن أن يبقي المجتمع السوري قلقا وعرضة للاستغلال من فواعل داخلية وخارجية قد لا تريد للسوريين خيرا.

المصدر : الجزيرة

—————————

السنوار الذي أسقط الأسد.. كيف نفهم ما حدث؟/ كمال أوزتورك

10/1/2025

دعونا نتوقف لحظة.. لنترك الأفكار القديمة، والتصورات المسبقة، والتحيزات جانبًا، فلقد دخلنا مرحلة تتغير فيها الجيوسياسة في الشرق الأوسط والعالم.

وإذا لم نفهم هذا التغيير، فسنكون على الجانب الخطأ من التاريخ، وسنفوت فرصة التكيف مع هذه التغيرات.

دعوني أشرح لكم هذه الجيوسياسة المتغيرة.

الزخْم الذهبي

حدثت ثورة في سوريا، وفي 11 يومًا فقط سقط نظام البعث الذي دام 61 عامًا، وفي تلك الفترة، بدأ ما كان يُعتبر سابقًا “منظمة إرهابية” يظهر قدرة غير متوقعة على إدارة الأمور في دمشق، مما فاجأ الجميع.

كيف يمكن أن يحدث هذا؟

بعد زياراتي المتكررة إلى سوريا، كان هذا من أكثر الأسئلة التي طُرحت عليَّ بدهشة.

سبب هذه الدهشة يكمن في عدم الفهم الكامل للتغيرات الجيوسياسية التي حدثت، فلقد تغيرت الجيوسياسة.

لكن كيف حدث هذا التغيير بسرعة كبيرة؟

أسمي هذا التغيير “الزخْم الذهبي”، وهو يعني تقاطع عدة عوامل في وقت واحد محدثة دُوامة سريعة تغير كل شيء حولها.

بعبارة أكثر وضوحًا: تزامن تراجع قوة كل من روسيا، وإيران، وحزب الله، ونظام الأسد في الميدان، مع التغيرات السياسية في الولايات المتحدة، وزيادة العدوانية الإسرائيلية، مما أدى إلى حدوث تحول جيوسياسي مفاجئ.

واستفادت المعارضة السورية من هذا الفراغ الذي نتج عن الزخم الذهبي، وملأت الفراغ بسرعة، مما غيّر مجرى التاريخ في 11 يومًا فقط.

غزة كمحفز للتغيير

لو قيل ليحيى السنوار أن عمليته ستؤدي إلى إسقاط نظام الأسد بدلًا من إسقاط حكومة نتنياهو، لما صدق ذلك على الأرجح. وليس السنوار فقط، بل لا أعتقد أنّ أحدًا كان سيصدق ذلك.

غير أن العملية الشهيرة التي وقعت في 7 أكتوبر/ تشرين الأول قد أظهرت طاقة كامنة في المنطقة بطريقة قوية للغاية، وكان تأثير الزلزال الذي أعقبها سببًا في سقوط النظام في سوريا، وتغير التحالفات في المنطقة فجأة، مما أدى إلى ظهور مشهد جديد كليًا.

وكأنما حدث انفجار في لحظة ما، تراجعت الدول التي دعمت إيران، وروسيا، وحزب الله، ونظام الأسد بشكل سريع وغير متوقع، ليحدث تغير جذري في الوضع.

تركيا، التي كانت تواجه تحديات مع حكومة دمشق لمدة 50 عامًا، أبرمت تحالفًا قويًا مع الإدارة الجديدة. كما اقتربت السعودية، والإمارات، من تركيا، وبدأتا في بناء علاقات قوية مع حكومة دمشق.

وفجأة، جاء وفد من الحكومة اللبنانية إلى أنقرة، وأعلن عن بداية مرحلة جديدة، كما بدأ الاتحاد الأوروبي بإرسال وفود إلى دمشق بشكل متتابع، وبدأت الاتصالات مع الحكومة السورية الجديدة. وحتى دونالد ترامب قال إن تركيا هي الدولة الرئيسية في المرحلة الجديدة في سوريا.

ما هو أكثر إثارة للاهتمام هو أن التغيير في الجيوسياسة لن يتوقف هنا. وإذا استطاعت الدول في المنطقة قراءة هذا التغيير، فستتمكن من الانتقال بسلاسة وتكييف نفسها مع الوضع الجديد، أو قد تتحول المنطقة إلى مسرح لتغييرات جديدة في الأنظمة.

لقد أدّى الشعور بالقلق الناتج عن تأثير العدوان الإسرائيلي والأميركي على خمس دول إلى تسريع التغيير في المنطقة.

وأدرك الجميع أن الجلوس على “مائدة أبراهام” والتفاوض مع إسرائيل حول “وجبة” جديدة لم يعد كافيًا لتحقيق الأهداف، وعندها أصبح واضحًا ضرورة إنشاء موائد جديدة، وبناء تحالفات مختلفة، لإنشاء درع حماية جديد ضد الاحتلال والعدوان.

الجيوسياسة الجديدة ستؤدي إلى تحالفات جديدة

لقد أدرك بعض المثقفين في المنطقة حقيقة مهمة، وأعتقد أن من يديرون الدول قد أدركوا ذلك أيضًا الآن: إذا لم تنتهِ الدول في المنطقة من خلافاتها وتبني تحالفات فيما بينها، فإنها في المستقبل ستواجه إما الاحتلال أو الدمار.

لقد شهدنا مصير من وثقوا بروسيا في سوريا، ومن وثقوا بأميركا في العراق فوجدوا أنفسهم في دولة منقسمة ومفتقدة للأمن.

وأولئك الذين آمنوا بأوهام “مائدة أبراهام” (اتفاقات أبراهام) مع إسرائيل، رأوا بأعينهم الدمار والموت يقتربان منهم.

جميع الدول الإسلامية التي دخلت في صراعات طائفية، وصراع على السلطة والقوة، تأثرت بذلك. ودُمرت مدنها، وشُردت شعوبها، وتحولت إلى حالة من الفوضى.

يجب أن تكون الحكومات قد أدركت الآن هذه الحقيقة المريرة.

والآن، عليهم أن يتجمعوا حول هذه الأفكار الأربعة الأساسية:

    تجاوز جميع الانقسامات والخلافات، وأن يبنوا تحالفات جديدة بين الدول الإسلامية.

    عدم السماح للدول من خارج المنطقة بالتدخل في الشؤون الداخلية، أو استغلال الموارد الطبيعية تحت الأرض وفوقها.

    احترام سيادة الدول وحدودها.

    على كل حكومة أن توفر لشعبها الرفاهية والحرية والعدالة، وأن تضمن له مزيدًا من المشاركة في اتخاذ القرار في الحكم.

من أجل ذلك، يجب على الدول الإسلامية في المنطقة أن تنشئ أنظمة جديدة قادرة على تبادل الخبرات في مجالات التنمية، والاقتصاد، والصناعات الدفاعية، والحكم، والبنية التحتية.

وسوف نرى بأعيننا قريبًا مؤسسات بديلة تعبر عن الجيوسياسة الجديدة.

الجزيرة

—————————–

ثلاثة افتراضات متشائمة تجاه التحول السوري/ محمود علوش

10/1/2025

هناك ثلاثة افتراضات متشائمة في المنطقة العربية تجاه التحول السوري، رغم أنه لا يتم التعبير عنها بوضوح:

    الأول، أن تصدُّر هيئة “تحرير الشام” المشهد بعد الإطاحة بنظام الرئيس المخلوع بشار الأسد وفرض سلطة جديدة بقيادتها يُشكلان تهديدًا للطبيعة الطائفية والثقافية والعرقية المتنوعة لسوريا، ويُقوضان من فرص إعادة بناء البلد وفق معايير الدولة الحديثة.

    والثاني، أن هذا التحول نذير شؤم للمنطقة العربية؛ لأنه سيُغرق سوريا في فوضى طويلة الأمد وستترك عواقب وخيمة على الأمن الإقليمي، وقد تؤدي إلى زعزعة الاستقرار السياسي في بعض الدول العربية.

    والثالث، أن سوريا بعد هذا التحول ستُصبح تحت وصاية تركيا التي تطمح إلى إعادة إحياء إرثها العثماني في العالم العربي.

لحسن الحظ، فإن هذه الافتراضات لم تمنع الدول العربية المتوجسة ضمنيًا من هذا التحول من الانفتاح على السلطة الجديدة، وإظهار استعدادها لدعمها من أجل إنجاح عملية التحول.

سارعت السعودية إلى إرسال وفد دبلوماسي إلى دمشق في الأيام التي أعقبت الإطاحة بالأسد، واستضافت وفدًا من الإدارة السورية الجديدة.

كما أجرى وزير الخارجية الإماراتي أول اتصال رسمي مع نظيره السوري الجديد أسعد الشيباني. وكذلك زار وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي دمشق، والتقى بقائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع.

يندرج هذا الانفتاح قبل أي شيء في إطار التكيف الذي تُظهره الدول العربية مع الواقع الجديد، بعد أن كانت أعادت تطبيع علاقاتها مع نظام الأسد في السنوات الأخيرة، وهو تكيف لا يُبدد بأي حال هذه الافتراضات الثلاثة.

مع هذا، يبدو أن العواصم العربية، التي عارضت تحولات الربيع العربي بعد عام 2011، لاعتبارات مُختلفة ليس أكثرها أهمية الهاجس من صعود تيار الإسلام السياسي وجماعة الإخوان المسلمين على وجه الخصوص، لديها الكثير لتقلق بشأنه في حال عدم إظهار تفاعل إيجابي مع التحول السوري.

لا شك أن معظم هذه العواصم، لم تكن ترى في بشار الأسد عندما أعادت علاقاتها معه المخلص لسوريا. لكنها اعتقدت لفترة أن الأسد انتصر في الحرب، ولا بُد من التعاطي مع هذا الوضع كحقيقة لا مفر منها.

كما ساد اعتقاد قوي بأن الانفتاح على الأسد يُمكن أن يُشكل محفزًا له لتقويض حضور إيران في سوريا، وإخراجها منها في نهاية المطاف. وبمعزل عما إذا كان مثل هذا الرهان واقعيًا لو بقي الأسد في السلطة، فإن إيران من بين أكبر الخاسرين في التحول السوري. ومثل هذه النتيجة ينبغي أن تكون مُرضية بشدة لهذه الدول.

علاوة على ذلك، فإن الحكمة في التعامل مع الحالة السورية منذ اندلاع الصراع، أن الانكفاء عن لعب دور عربي مؤثر يوجد فراغات تستفيد منها قوى إقليمية ودولية أخرى. بينما أصبحت إيران وروسيا اليوم خارج المعادلة السورية تقريبًا، فإن تردد العالم العربي في الحضور في سوريا، سيُعزز بطبيعة الحال من المكاسب الهائلة التي حققتها تركيا في هذا البلد.

وعلى الرغم مما سبق، فإن النظرة إلى الحضور التركي القوي في سوريا على أنه مُهدد للمصالح العربية، تتجاهل في الغالب حقيقتين مُهمتين:

    الأولى، أن هذا الحضور يعمل كضمانة قوية لتوجيه التحول السوري، والحفاظ على وحدة سوريا، والحد من مخاطر تحوّلها إلى دولة فاشلة مُهددة لاستقرار الإقليم.

    والثانية، أن الأتراك أنفسهم يرغبون في أن يكون للعالم العربي انخراط قوي في بناء سوريا الجديدة وتعافيها من آثار الحرب. ولا يرجع ذلك إلى حقيقة أن الدول العربية الغنية يُمكن أن تلعب دورًا محوريًا في تمويل جهود إعادة الإعمار فحسب، بل أيضًا إلى تصور تركي بأن الشراكات الإستراتيجية الناشئة مع المنطقة العربية في السنوات الأخيرة تؤسس لعهد تركي عربي قادر على لعب دور محوري في إدارة شؤون المنطقة، بينما لم تعد الولايات المتحدة قادرةً أو راغبة -أو كلتيهما معًا- على لعب دور القوة العالمية المُهيمنة في الجغرافيا السياسية الإقليمية.

إن الانخراط العربي الواسع في دعم ورعاية التحول السوري، يُمكن أن يؤدي إلى تبديد الهواجس من هذه الافتراضات الثلاثة المتشائمة. فمن جانب، سيعمل هذا الانخراط كورقة تأثير قوية على هيئة تحرير الشام لتوجيه التحول السوري بما يخدم فرص العبور نحو الدولة الجديدة، وفق المعايير والمبادئ التي طرحها بيان اجتماع العقبة.

ومن جانب آخر، يجلب الانخراط في عملية إعادة إعمار سوريا فرصًا اقتصادية كبيرة ومزايا جيوسياسية للعالم العربي، ما دام أنه سيحد من مخاطر فشل التحول. علاوة على ذلك، فإن الفوضى المحتملة المترتبة على فشل عملية التحول السوري، ستخلق تحديات أمنية وجيوسياسية خطيرة للمنطقة العربية.

لقد تقبلت إيران على مضض حقيقة أنها انهزمت في سوريا. لكنّ مثل هذه الفوضى قد تمنحها فرصة جديدة للعودة إلى سوريا. كما أن إسرائيل، التي سارعت إلى استثمار التحول السوري من أجل السيطرة على المنطقة العازلة في الجولان المحتل، وعلى قمة جبل الشيخ الإستراتيجية، ستجد في فوضى كهذه فرصة لتكريس احتلالها الجديد لسوريا بحجة أمنها.

يُعظم التعاون التركي- العربي في دعم ورعاية التحول السوري من فرص نجاحه، ويُمكن أن يسهم في معالجة هواجس بعض الدول العربية من هذا التحول.

بالنظر إلى النفوذ القوي الذي تمتلكه أنقرة في سوريا الجديدة، فإن بمقدورها العمل على تخفيف الصبغة الإسلامية للسلطة الجديدة، وتشكيل حكومة شاملة قادرة على إعادة تشكيل الدولة وتعافيها وإخراجها من عزلتها الدولية.

كما أن المزايا الكبيرة التي يجلبها الانخراط العربي في سوريا يُمكن أن تُشكل حافزًا قويًا لهيئة تحرير الشام، لتعزيز أجندتها الجديدة كقوة إسلامية وطنية تعمل على مخاطبة كافة الشرائح السورية، والتعبير عن طموحاتها في بناء دولة القانون والمؤسسات.

الجزيرة

—————————

على العالم ألا يكرر أخطاء أفغانستان في سوريا: عزل حكام دمشق الجدد لن يجعلهم معتدلين/ جيرومي دريفون و ديليني سايمون و غرايم سميث

الجمعة 10 يناير 2025

يواجه قادة سوريا الجدد، بزعامة “هيئة تحرير الشام”، تحديات مشابهة لتلك التي واجهتها “طالبان” بعد استيلائها على السلطة في أفغانستان، خصوصاً فيما يتعلق بالعقوبات والعزلة الدولية. في الوقت الذي تسعى فيه الهيئة لتجنب أخطاء “طالبان” بتبني نهج أكثر مرونة، فإن القيود المفروضة عليها بسبب تصنيفها كمنظمة إرهابية تعيق إعادة الإعمار والاعتراف الدوليز بالتالي على الغرب التحرك بسرعة لدعم سوريا الجديدة لتجنب المزيد من الفوضى والتهديدات الإقليمية.

لا يملك قادة سوريا الجدد سوى نماذج قليلة يمكنهم اتباعها في سعيهم إلى الحصول على الاعتراف الدولي. لا توجد كتب إرشادية حول كيفية إدارة حكومة تضم جماعات مصنفة كإرهابية، ولا توجد مجموعة واضحة من القواعد للحكومات الأجنبية في شأن كيفية إعادة جماعة كانت تابعة لـ”القاعدة” إلى الساحة الدولية. لكن يمكن لـ “هيئة تحرير الشام”، الجماعة التي أطاحت بالديكتاتور السوري بشار الأسد في أوائل ديسمبر (كانون الأول) عام 2024 والحكومات الخارجية، على حد سواء، التعلم من سابقة تحذيرية: عودة “طالبان” للسلطة في أفغانستان عام 2021.

بعد أن استولت حركة “طالبان” على كابول، عانت أفغانستان تحت وطأة العقوبات وأشكال أخرى من العزلة الاقتصادية والدبلوماسية. وفشلت الحكومات الأخرى في التحرك بسرعة وجرأة كافيتين لتخفيف أزمة الفقر في البلاد، وواصلت فرض عقوبات اقتصادية لم تؤثر في نهج “طالبان”، بل دفعت الأفغان نحو حافة المجاعة. رفضت معظم الدول التفاوض مع “طالبان” بصورة يمكن أن تعزز حقوق المرأة والمعايير الدولية الأخرى، واختارت بدلاً من ذلك الانتظار لترى ما إذا كان قادة أفغانستان الجدد سيفعلون ذلك بمحض إرادتهم. هذا التردد في التعامل مع “طالبان” وجه ضربة للجناح البراغماتي في الحركة، مما عزز من نفوذ المتشددين خلال الأشهر الأولى الحساسة للنظام.

في الشهر الماضي، تفاعل المسؤولون الدوليون مع “هيئة تحرير الشام” على نحو أعمق مما فعلوه مع “طالبان” بعد سقوط كابول. وشجعت “هيئة تحرير الشام” هذا الانفتاح من المسؤولين الأجانب من خلال إظهار مرونة سياسية وفكرية تميزها عن “طالبان”. ومع ذلك، يبدو أن الأطراف الخارجية مستعدة لتكرار كثير من الأخطاء نفسها التي ارتُكبت في أفغانستان بعد استيلاء “طالبان” على السلطة.

في الواقع، خلال مرحلة التحول السياسي، يمكن لكل خطوة أن تغير مجرى التاريخ. ويبدو المسؤولون الغربيون، خصوصاً، متحمسين لاحتمال قيام سوريا جديدة، وهم محقون في ذلك. لكن من دون اتخاذ إجراءات تسمح لسوريا بإعادة بناء اقتصادها وتنشيطه بعد أعوام من الحرب، قد تعاني البلاد مزيداً من الفوضى وعدم الاستقرار، مما لا يريده الغرب ولا السوريون. لذا، لدى الحكومات الغربية مصلحة قوية في التعلم من أخطائها في أفغانستان لأن أزمة طويلة الأمد في سوريا قد تمتد إلى بقية أنحاء الشرق الأوسط، وتقوض النفوذ الغربي في المنطقة، وتدفع مزيداً من الناس إلى الفرار من البلاد. والأهم من ذلك، أن السوريين يستحقون مستقبلاً أفضل.

إذاً، يتعين على الولايات المتحدة وشركائها التحرك بسرعة لتخفيف الآثار القاسية للعقوبات على سوريا أثناء محاولتها التعافي. علاوة على ذلك، يجب أن يحددوا مساراً واضحاً نحو رفع هذه العقوبات والاعتراف الدبلوماسي بـ”هيئة تحرير الشام” مقابل التزامات وإجراءات من جانب القادة الجدد في سوريا. إذا تأخر الغرب في التحرك، فقد يدفع البلاد نحو الانهيار ويفوت نافذته الضيقة لإقناع المتمردين السابقين باتباع المسار الصحيح.

دروس من التاريخ

من المستحيل حساب مدى تأثير الإجراءات الخارجية في أفغانستان بعد استيلاء “طالبان” على السلطة في أغسطس (آب) عام 2021. ولا يمكن لأحد فصل تأثير السياسات الدولية عن تأثير حكم حركة “طالبان” السيئ. ومع ذلك، يُستخلص من تاريخ أفغانستان الحديث درسان مهمان للحالة السورية.

الدرس الأول هو أنه في الحالة الأفغانية، تحركت الجهات الدولية ببطء شديد للتخفيف من المعاناة الإنسانية، بخاصة الآثار المفقرة الناجمة عن عقوباتها والقيود المصرفية والسياسات الاقتصادية الأخرى. فقد فرضت الولايات المتحدة والأمم المتحدة وكيانات أخرى عقوبات على حركة “طالبان” في البداية في تسعينيات القرن الـ20، ثم زادت من حدتها بعد أحداث الـ11 من سبتمبر (أيلول) عام 2001. ولكن هذا الإرث من القيود المفروضة على “طالبان” عاقب فعلياً البلد بأكمله بعد أن سيطر المتمردون السابقون على الحكومة. ورأى المواطنون الأفغان العاديون أن الحركة طردت القوات الأجنبية التي دخلت البلاد منذ عام 2001 بعد أن أطاحت قوات تقودها الولايات المتحدة بحكومة “طالبان” السابقة، ونظر كثيرون منهم إلى التدابير الاقتصادية ضد “طالبان” على أنها عمل انتقامي من جانب الغزاة المهزومين. وعلى الصعيد المادي، أسهمت العقوبات والقيود في انخفاض حاد في قيمة العملة المحلية، وفقدان البنك المركزي القدرة على الوصول إلى احتياطاته، وتعطيل سلاسل التوريد في الأشهر التي تلت عودة “طالبان”. وبحلول ديسمبر 2021، وصفت وكالات الأمم المتحدة أفغانستان بأنها أكبر كارثة إنسانية في العالم.

في الواقع، لم تبدأ الحكومات الأجنبية بتعديل عقوباتها بصورة تتناسب مع حجم الكارثة إلا بعد ستة أشهر من سقوط كابول، مع اقتراب المجاعة. وأصدرت واشنطن أكبر إعفاءات قُدمت على الإطلاق في تاريخ العقوبات الأميركية، فيما حسنت الأمم المتحدة الاستقرار النقدي في أفغانستان من خلال إرسال مبالغ نقدية لدعم عمليات الإغاثة. وعلى رغم أن هذه التدابير ساعدت، فإنها جاءت متأخرة للغاية وكانت متواضعة للغاية. فترددت الشركات الخاصة ووكالات التنمية في التعامل مع دولة منبوذة ذات قطاع مصرفي مشلول. في الحقيقة، كثير من المستثمرين المحتملين لم يكونوا على علم بالإعفاءات الأميركية، وحتى أولئك الذين كانوا على علم بها ساورتهم مخاوف في شأن انتهاك العقوبات، وخرق قوانين مكافحة الإرهاب التي فرضتها دول أخرى ولم تخفف من صرامة قيودها وسياساتها.

أما الدرس الثاني الذي ينبغي أن نستخلصه أيضاً، فهو يتعلق بفشل الغرب في تقديم إيضاحات كافية لـ”طالبان” حول كيفية حصولها على الاعتراف الدبلوماسي والتخلص من العقوبات. وعلى رغم أن الجهات الفاعلة الأجنبية تحدثت عن الحاجة إلى الاستقرار واتخذت بعض التدابير الرامية إلى تخفيف الأزمة الاقتصادية، فإن المشاركة الدولية ظلت محدودة بسبب إحجام الغرب عن اتخاذ أي خطوات قد تمنح الشرعية لقادة كابول الجدد. كذلك، قدمت الحكومات الغربية مطالب غامضة في شأن احترام حقوق المرأة وتشكيل حكومة “شاملة”، وهو مصطلح حسن النية، ولكنه غامض تتداوله الآن الجهات الفاعلة الدولية التي تناقش مستقبل سوريا، لكنها لم تحدد المقابل [البديل] المتوقع.

في الواقع، إن الجزء الأكبر من المسؤولية عن تحول أفغانستان إلى دولة منبوذة يقع على عاتق رجال الدين الذين أصروا على فرض قيود على سلوك النساء والفتيات بطرق تنتهك المعايير الدولية وتجعل “طالبان” مرفوضة سياسياً. ولكن كان هناك براغماتيون داخل “طالبان” أيضاً، بيد أن هؤلاء المعتدلين لم يتمكنوا أبداً من إقناع المتشددين بأن السياسات الأكثر تسامحاً ستؤدي إلى فوائد ملموسة، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن العالم الخارجي فشل في تقديم مكافآت واضحة مقابل تحسين السياسات. ومراراً وتكراراً، زار البراغماتيون قادتهم الدينيين في قندهار للضغط ضد إصدار قرارات صارمة جديدة، لكنهم كانوا يعودون خاليي الوفاض في كل مرة.

ثم ظهر ما يمكن اعتباره أقرب عرض صريح في يونيو (حزيران) 2023، خلال زيارة قام بها منسق الأمم المتحدة الخاص فريدون سينيرلي أوغلو إلى أفغانستان. خلال تلك الزيارة، حصل مسؤولو “طالبان” على انطباع بأن حكومتهم يمكن أن تمثل أفغانستان في الأمم المتحدة إذا سمحت للفتيات من جميع الأعمار بتلقي التعليم. لكن “طالبان” أرادت اقتراحاً ثابتاً وصريحاً، مما لم تتلقَّه قط. بعد مشاورات مع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، قدم سينيرلي أوغلو تقريراً إلى مجلس الأمن تضمن مجموعة واسعة من المطالب يجب على “طالبان” تنفيذها، لكنه اقتصر على وعود مبهمة في شأن الطريق نحو التطبيع [أي إعادة التأهيل والدخول مجدداً في المجتمع الدولي] الذي يمكن أن يحققه النظام في المقابل.

بالطبع لم يكُن هناك ما يضمن بأن نهجاً يعتمد أكثر على الصفقات والتبادلات كان سيقنع قيادة “طالبان” بتغيير سياساتها مقابل نيل الاعتراف الدولي ورفع العقوبات. كما أن بعض الدبلوماسيين يرفضون فكرة المساومة مع “طالبان”، قائلين إن حقوق النساء والفتيات غير قابلة للتفاوض. ولكن مثل هذا النهج لم يخضع قط للاختبار بصورة مناسبة وكافية. وفي غياب أي احتمال حقيقي لتقديم تنازلات جدية من جانب الدول الغربية، أصبحت حركة “طالبان” متشككة في إمكان اكتساب الشرعية على الساحة الدولية.

رياح معتدلة

على غرار حركة “طالبان”، ينتمي زعماء سوريا الجدد إلى حركة إسلامية متشددة. ظهرت “هيئة تحرير الشام” عام 2017 بعد تشكيل تحالف من جماعات مسلحة عدة حول فصيل جهادي كان يدعى “جبهة النصرة”. أما “جبهة النصرة”، فأُنشئت من قبل أحمد الشرع، القائد الحالي لـ”هيئة تحرير الشام” الذي كان في ذلك الوقت عضواً سورياً في تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). ولكن، عام 2013، قطع الشرع علاقاته مع “داعش” وتعهد بالولاء لتنظيم “القاعدة” ثم انفصل عن هذا الأخير عام 2016.

ومع ذلك، تختلف “هيئة تحرير الشام” عن “طالبان” في جوانب جوهرية. في الواقع، ولد زعيم “طالبان” في قرية ذات جدران طينية ودافع عن التعليم الديني الصارم وحذر من التأثيرات الشريرة في العالم الخارجي. على النقيض من ذلك، نشأ قادة “هيئة تحرير الشام”، على رغم التزامهم الديني، في مدن حديثة في سوريا، وغالباً ما تخرجوا في الجامعات ويسعون إلى تعزيز العلاقات مع العالم الخارجي. وكثيراً ما حاولت المجموعة التخلص من روابطها بأعداء الغرب، بدءاً بالجماعات الإرهابية التي يكرهها الغرب. وشنت “هيئة تحرير الشام” حملة صارمة ضد “حراس الدين”، وهي جماعة تابعة لتنظيم “القاعدة” في شمال غربي سوريا لم تشارك في التمرد ضد الأسد عام 2024. واستكمالاً، قمعت الهيئة عناصر “داعش” السوريين بشدة، فاعتقلتهم وأعدمتهم في بعض الأحيان علناً، كما أنها تتعهد بمواصلة محاربة “داعش” في شرق سوريا.

إضافة إلى ذلك، أمضى المتمردون السوريون أعواماً في صد هجمات من خصمين قديمين للغرب هما الأسد وروسيا. وشهد انتصارهم سقوط عدوين للولايات المتحدة، في حين جسد فوز “طالبان” هزيمة أميركية. وعلى رغم أن “هيئة تحرير الشام” تسير بحذر وتتخذ خطوات محسوبة الآن لتجنب إثارة عداوة روسيا، مانحةً موسكو الفرصة للاحتفاظ بقواعدها العسكرية في سوريا، استضافت السلطات الجديدة في دمشق أخيراً وزير خارجية أوكرانيا وتعهدت بتعزيز العلاقات مع كييف. في المقابل، كانت علاقة “هيئة تحرير الشام” بإيران أكثر برودة وأقرب إلى العداء، إذ شددت الهيئة على أن إيران لا بد من أن تتحمل المسؤولية عن أفعالها الكثيرة المزعزعة للاستقرار في سوريا. وأكد المتمردون السابقون أنهم لن يهددوا جيران سوريا، وهي لفتة يبدو أنها تهدف جزئياً إلى طمأنة إسرائيل، الحليف الإقليمي الأقرب للولايات المتحدة.

يتمتع القادة الجدد في سوريا بسجل حكم أكثر اعتدالاً. فعندما حكمت “هيئة تحرير الشام” إدلب، المحافظة السورية الخاضعة لسيطرتها منذ عام 2017، حافظت على القيود التي فرضتها الفصائل الحاكمة السابقة على بعض الديانات غير الإسلامية، مثل منع قرع أجراس الكنائس. ولم تضم الهيئة أي نساء في قيادتها أو في الهيئة التشريعية المحلية. ومع ذلك، كان المتمردون بصورة عامة أكثر تسامحاً بكثير من “طالبان”. ففي حين تجوب دوريات شرطة الآداب شوارع أفغانستان، جمدت “هيئة تحرير الشام” في وقت سابق من هذا العام الأنظمة والقوانين المقترحة التي دعت إلى فرض قواعد إسلامية في مراكز التسوق والمطاعم والمقاهي في إدلب. وبينما تهيمن العناصر الدينية المحافظة على قيادة “طالبان”، نجحت “هيئة تحرير الشام” في إضعاف نفوذ شيوخها الأكثر تطرفاً. وتتفاخر الهيئة بسجلها في تعزيز تعليم الفتيات من مختلف الأعمار، وإن كان ذلك في صفوف تفصل بين الجنسين.

ومنذ الاستيلاء على دمشق، تبنى المتمردون السوريون نبرة تصالحية بصورة ملحوظة. فتعهدت “هيئة تحرير الشام” باحترام حقوق المسيحيين والعلويين وغيرهم من الأقليات. وأكدت على حق شرائح المجتمع كافة في المشاركة في الاحتجاجات السلمية. والتزمت حلّ نفسها ثم الاندماج في الهياكل الحكومية الرسمية. وفي الآونة الأخيرة، عين قادة سوريا الجدد نساء في مناصب قيادية، بمن في ذلك رئاسة مكتب شؤون المرأة ومصرف سوريا المركزي.

ربما تواجه الخطابات والأفعال المعتدلة التي تتبناها “هيئة تحرير الشام” جمهوراً متشككاً في مختلف أنحاء العالم بسبب انتماءاتها السابقة والتساؤلات المستمرة حول قدرتها على حكم دولة كبيرة. ولكن يبدو أن قادة سوريا الجدد أكثر حرصاً من “طالبان” على كسب ود الغرب، ويرجع هذا جزئياً إلى أن قادة “هيئة تحرير الشام” يدركون على ما يبدو أن التنمية وإعادة الإعمار ستتطلبان دعماً غربياً وتخفيف العقوبات. ومن المفترض أن تزداد ثقة القوى الخارجية بدمشق إذا حكمت السلطات الجديدة بالانفتاح نفسه الذي أظهرته خلال أسابيعها الأولى في الحكم.

العبء الموروث

حقيقة أن المتمردين السوريين يبعثون برسائل أكثر قبولاً للقوى الخارجية لا تعني أنهم سيجدون سهولة أكبر في التخلص من العقوبات مقارنةً بـ”طالبان”. في الواقع، لا تزال الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة وتركيا ودول مؤثرة أخرى تصنف “هيئة تحرير الشام” باعتبارها جماعة إرهابية. ومنذ عام 2014، اعتبرت الولايات المتحدة “هيئة تحرير الشام” “منظمة إرهابية أجنبية” (FTO)، وهو تصنيف يحمل تبعات أشد قسوة من تصنيف “طالبان” كـ”منظمة إرهابية عالمية مصنفة بصورة خاصة” (SDGT). وعند تصنيف هدف ما باعتباره “منظمة إرهابية أجنبية”، يصبح التفاعل معه خطراً جداً ويحمل عواقب شديدة سواء سياسياً أو قانونياً، ويرجع هذا جزئياً إلى أن الولايات المتحدة تحظر تقديم أي دعم مادي للجماعات المدرجة في قائمتها، بما في ذلك التدريب والمشورة. ويمكن فرض عقوبات شديدة على الأميركيين وغير الأميركيين الذين ينتهكون القواعد، بما في ذلك غرامات تصل إلى 500 ألف دولار وأعوام طويلة في السجن. ومع وجود مجموعة مدرجة على قائمة المنظمات “الإرهابية الأجنبية” تدير الحكومة السورية الجديدة، أصبحت كل التعاملات تقريباً في البلاد محفوفة بالأخطار القانونية، مما يمنع عمال الإغاثة وأصحاب الأعمال وحتى الدبلوماسيين من العمل في البلاد. وحتى لو انحلت “هيئة تحرير الشام”، فإن تصنيفها كمنظمة إرهابية أجنبية لن يُلغى تلقائياً، وقد يستغرق إلغاؤه سنوات.

وإضافة إلى القيود المفروضة على “هيئة تحرير الشام”، هناك عقوبات معقدة مفروضة على سوريا نفسها، سيرثها القادة الجدد. فقد صنفت الولايات المتحدة سوريا كـ”دولة راعية للإرهاب” عام 1979 وشددت العقوبات في السنوات الأولى من القرن الحالي، وفي العقد الثاني من القرن، عندما قمعت الحكومة السورية بوحشية انتفاضة شعبية وغرقت في حرب أهلية، أصدرت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وكيانات دولية أخرى قيوداً اقتصادية جديدة لا تزال قائمة حتى اليوم، وهي تشمل عقوبات على قطاعات الطاقة والمصارف والاتصالات، وحظر استيراد معظم السلع الأميركية، فضلاً عن سلع من دول أخرى تحوي مكونات مصنوعة في الولايات المتحدة، وقواعد تمنع الشركات غير الأميركية من التجارة مع الشركات السورية. وفُرض عدد من هذه القيود بطريقة تشريعية، مما يجعل رفعها أمراً صعباً للغاية. والنتيجة المترتبة على هذه القيود المتداخلة هي حظر تجاري شبه كامل.

قبل سقوط دمشق في ديسمبر، أسهمت العقوبات، إلى جانب عوامل أخرى مثل سوء إدارة نظام الأسد، في انهيار الاقتصاد السوري واندلاع أزمة إنسانية جعلت 70 في المئة من سكان سوريا في حاجة ماسة إلى الغذاء والمياه وغيرهما من الأساسيات. كما أن القيود الاقتصادية أعاقت وصول المساعدات، إذ وجدت المنظمات الإنسانية صعوبة في العثور على بنوك تتيح إرسال المدفوعات إلى سوريا، في حين أن الأعمال الورقية الإضافية المطلوبة للامتثال القانوني استهلكت الوقت والموارد. وتبين في بعض الأحيان أن التأخير في تسليم المساعدات أدى إلى عواقب قاتلة. ففي أعقاب الزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا عام 2023، قضت فرق الطوارئ أسابيع في انتظار الحصول على إذن لإحضار الحفارات التي كانوا بحاجة إليها للوصول إلى الناجين تحت الأنقاض لأن ضوابط التصدير الأميركية حظرت استيراد مثل هذه الأدوات.

ستستمر هذه المشكلات ما دام أن القيود الاقتصادية الواسعة النطاق قائمة، على رغم أن عقوبات كثيرة فقدت أهميتها على أي حال لأنها كانت تستهدف نظام الأسد الذي لم يعُد موجوداً. ومن دون تخفيف العقوبات على سوريا، ستتفاقم حدة الفقر والعقبات أمام إيصال المساعدات لأن الحكومة الجديدة تخضع لسيطرة جماعة تحمل تصنيفاً إرهابياً. وبالفعل، في أجزاء من شمال غربي سوريا التي كانت تحت سيطرة “هيئة تحرير الشام” لأعوام، أدى الخوف من الملاحقة القضائية إلى عرقلة توريد السلع الأساسية وتوفير المساعدات. والآن، من الممكن أن تنتشر هذه المشكلات في جميع أنحاء البلاد.

فخ الفقر

ما لم يتم التصدي لهذه المشكلة بسرعة، فإن العزلة التي فرضها العالم على “هيئة تحرير الشام” والدولة السورية، ربما تخلق أزمة تفوق في حدتها الأزمة التي شهدتها أفغانستان. وأسفرت سلسلة المعارك التي أدت إلى الإطاحة بالأسد عن نزوح نحو 900 ألف سوري في الأشهر الأخيرة من عام 2024. وتوقعت الأمم المتحدة أن 3.3 مليون سوري سيحتاجون إلى المساعدة خلال العام المقبل. وحتى إذا تحركت القوى الأجنبية بسرعة على الصعيد الإنساني، فإن المساعدات الخارجية لا يمكنها أن تعيل بلداً بأكمله: فسوريا لا تحتاج إلى إمدادات طارئة فحسب، بل أيضاً إلى الدعم لكي يتعافى اقتصادها الذي توقف بصورة شبه كاملة خلال الحرب. ويتطلب إصلاح الاقتصاد دعماً مالياً وتقنياً من الجهات المانحة والمؤسسات الدولية. ومع ذلك، تظل مؤسسات مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي محظورة عن العمل بسبب تصنيف الولايات المتحدة لسوريا كدولة راعية للإرهاب، مما يلزم واشنطن التي تملك صوتاً حاسماً في مجالس إدارة هذه المؤسسات، معارضة تقديم مثل هذا الدعم. كما أن جهات أخرى، مثل الاتحاد الأوروبي، لا تزال تفرض قيوداً وأنظمة تمنع تقديم القروض والمساعدات لسوريا. إضافة إلى ذلك، ما دام أن “هيئة تحرير الشام” مدرجة على قائمة المنظمات الإرهابية الأجنبية التي وضعتها الولايات المتحدة، فإن أي خبير يقدم المشورة إلى النظام الجديد يخاطر بانتهاك القوانين الأميركية.

وستتطلب عملية التعافي الاقتصادي استئنافاً سريعاً لأنشطة القطاع الخاص والتجارة الدولية التي انكمشت بنحو 80 في المئة بين عامي 2010 و2022. ومع ذلك، فإن دولاً عدة تحظر على مواطنيها ممارسة الأعمال التجارية مع سوريا. وما دام أن البنك المركزي السوري لا يزال خاضعاً للعقوبات، ستظل المؤسسات المالية السورية معزولة عن العالم. ومن المحتمل أن تنشأ تحديات إضافية نتيجة للصعوبة التي يواجهها ربما أي بنك مركزي في التزام المعايير العالمية لمكافحة تمويل الإرهاب إذا ما كانت السلطة المسؤولة عن تعيين قيادته مصنفة على أنها إرهابية.

إن استمرار عزل الاقتصاد السوري يهدد بدفعه إلى مزيد من عدم الشفافية والأنشطة الخفية. فإذا لم يتمكن السوريون من الحصول على إذن للتجارة مع العالم، فقد يعتمدون بصورة أكبر على الصناعات غير المشروعة التي كانت من بين المصادر القليلة لتحقيق الأرباح خلال الأعوام الأخيرة. وبالاسترجاع، اعتمد نظام الأسد على إنتاج الكبتاغون وتصديره، وهو منشط محظور. وسيضغط المسؤولون الدوليون على “هيئة تحرير الشام” للحد من تجارة المخدرات، لكن القادة السوريين سيواجهون صعوبة في الامتثال لتلك الضغوط ما لم تقترن بفرص اقتصادية جديدة لبناء سبل عيش مستدامة.

واستطراداً، يمكن أن تؤدي أزمة اقتصادية وإنسانية متفاقمة في سوريا إلى تقويض المصالح الجيوسياسية الغربية. فنظام الأسد، المعزول عن بقية العالم، اعتمد بصورة كبيرة على روسيا وإيران. في المقابل، يحاول القادة الجدد في سوريا إبعاد بلادهم من هذين الطرفين، فبعد أيام من الإطاحة بالأسد، غيرت ناقلة نفط محملة بالنفط الخام الإيراني مسارها واتجهت بعيداً من سوريا، مما يشير إلى احتمال توقف طهران عن دعم قطاع الطاقة في البلاد. ولكن إذا ظلت القيود الغربية المفروضة على الاقتصاد السوري قائمة، فقد لا يكون أمام القادة الجدد في دمشق سوى طلب المساعدة من خصوم الغرب من أجل الحفاظ على استمرار الخدمات الأساسية.

الخروج من المأزق

ترغب الحكومات الغربية في رؤية سوريا تتحسن من جديد وأن تعمل على وقف تدفق الهجرة وعلى قمع الإرهاب. وتسارعت وتيرة المحادثات خلف الكواليس خلال الأسابيع الأخيرة بين الدول الغربية والعربية حول كيفية التعامل مع القادة الجدد في سوريا. وأجرى كبار المسؤولين من فرنسا وألمانيا وتركيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة ودول الخليج العربية والأمم المتحدة، من بين دول أخرى، بالفعل محادثات مع “هيئة تحرير الشام”، وشرع كثير منهم في زيارات إلى دمشق. وفي أواخر ديسمبر 2024، ألغت الولايات المتحدة مكافأة بقيمة عشرة ملايين دولار كانت مخصصة لمن يدلي بمعلومات عن الشرع. فقبل شهر واحد فحسب كان من غير الممكن التفكير في حدوث هذه المحادثات المباشرة على مستوى رفيع، حينما كانت دول عدة تتبنى سياسة عدم التعامل مع “هيئة تحرير الشام”.

ومع ذلك، هناك علامات أخرى تشير إلى أن العالم قد يرتكب في سوريا كثيراً من الأخطاء نفسها التي ارتكبها في أفغانستان بعد عام 2021. فالعواصم الغربية لم تكُن على استعداد لالتزام خطة عمل تخفف العقوبات وتؤدي في نهاية المطاف إلى الاعتراف بالسلطات الجديدة، وهي خطة تتضمن اتخاذ خطوات محددة من جانب “هيئة تحرير الشام” مقابل خطوات محددة من جانب الدول الغربية. وبطريقة موازية، لم يتخذ الغرب بعد التدابير التي باتت مطلوبة بصورة عاجلة لتخفيف تأثير العقوبات في الأزمة الإنسانية والاقتصادية في سوريا. 

—————————–

فيم تختلف نهاية “البعث” السوري عن العراقي؟/ وحيد عبد المجيد

لم تلجأ الإدارة الجديدة في سوريا إلى انتقام منهجي من أعضاء “البعث”

9 يناير 2025

يبدو أن نهاية حزب “البعث” في سوريا ستكون مختلفة عنها في العراق، مثلما تباين مساره في كل من البلدين منذ تأسيسه الأول عام 1947. بدأ حزب “البعث” بمبادرة من السياسي السوري ميشال عفلق في ذلك العام، تأسيسا على كتابه “في سبيل البعث”. كان اسمه في البداية حزب “البعث العربي”، ثم أُضيفت إليه كلمة “الاشتراكي” بعد اندماجه مع “الحزب العربي الاشتراكي” بقيادة أكرم الحوراني عام 1952. وكان وجوده في العراق قد بدأ في العام السابق على ذلك الاندماج كفرعٍ للحزب السوري “قطر العراق”. لكنه لم يلبث أن صار حزبا مستقلا. وأُنشئت “قيادة قومية” ضمت الحزبين، إلى جانب أحزاب أخرى صغيرة أو قزمية في عدد من البلدان العربية مثل لبنان والأردن واليمن، فيما فشلت محاولة إقامة “حزب للبعث” في مصر.

ولم تمض سنوات حتى بات الحزبان اللذان كانا حزبا واحدا وظلا يحملان الاسم نفسه، متنافسين ثم متصارعين. واشتد الصراع بينهما بعد وصول “البعث السوري” إلى السلطة عام 1963، واستيلاء نظيره في العراق على الحكم عام 1968. وبدا غريبا في البداية أن يتصاعد الصراع بينهما إلى حد تحوله إلى صدام بين الدولتين اللتين أُخضعتا لحكمهما، قبل أن يصبح هذا الصدام معتادا ويصير جزءا من تفاعلات ما أُطلق عليه نظام إقليمي عربي.

اضطرب مسار الحزبين في كل من سوريا والعراق، فارتبكت الأوضاع في البلدين، ثم اضطربت بفعل خيارات غير واقعية وتحركات غير محسوبة قادتهما إلى نهاية دراماتيكية في 2003 و2024. ومن غرائب العلاقات بينهما أن النظام الذي حكم باسم حزب “البعث” في سوريا أسهم بمقدار معين في إنهاء سلطة نظيره الذي كان الحزب نفسه واجهته الأساسية. كانت مغامرة غزو الكويت في أغسطس/آب 1990 بداية نهاية “البعث” العراقي ونظامه. وإذا كان غريبا أن يبلغ الصراع بين حزبين حملا اسم “البعث” المبلغ الذي وصل إليه، فالأغرب أن نظاما استند إلى أحدهما شارك في حرب ضد نظيره الذي اعتمد على الثاني. فقد أرسل نظامٌ كان يرأسه الأمين العام القطري لحزب “البعث” في سوريا كتيبة من الفرقة الرابعة المدرعة ضمن قوات التحالف الدولي الذي شُكل لتحرير الكويت (عملية عاصفة الصحراء) بين 24 و28 فبراير/شباط 1991. صحيح أن تلك الكتيبة لم تشارك في القتال بشكل مباشر، إذ اتُفق في قيادة القوات المشتركة على أن تكون قوة احتياط، ولكن مدرعاتها كانت قريبة جدا من مواقع قوات عراقية، وكان احتمال الاشتباك بين الطرفين قائما في أية لحظة خلال تلك الأيام.

وإذ هُزمت القوات العراقية وأُرغمت على مغادرة الأراضي الكويتية التي غزتها، فقد أُضعف النظام الذي أرسلها وبدأ العد التنازلي لنهايته ومعه حزب “البعث” بعد فترة حصار أعقبها هجوم أميركي بريطاني في مارس/آذار2003.

لم يحدث مثل ذلك في سوريا التي لم يُقدم النظام الذي حكم باسم “البعث” فيها على مغامرة من هذا النوع. ولكن خياره مغادرة الصف العربي والاتجاه صوب طهران أضعفه تدريجيا، وهو الذي لجأ إليه اعتقادا في أنه يُقويه لوجوده في محورٍ بدا لوقت غير قصير أنه قويٌ اعتمادا على حلفاء أو أذرع في بعض البلدان العربية، واستنادا على شعارات كانت لها شعبية في أوساط قطاعات لا يُستهان بها من الجمهور العربي، مثل الممانعة والمقاومة.

وما يجمع سلوك نظامي “البعث” في العراق وسوريا أن كلا منهما اختار طريقا ظن أنه يقود إلى تقويته ودعم نفوذه وهو لا يدري أنه يورده موارد التهلكة. ولكن الفرق أن التهلكة الناتجة من الخيار العراقي في 1990 كانت فورية تقريبا، في حين أنها كانت تدريجية في حالة الخيار السوري. فقد بدأ العد التنازلي الطويل لنهاية نظام البعث السوري منذ أن أساء التعامل مع الهبة الشعبية التي بدأت في مارس/آذار 2011، وفشل في احتوائها فخلقت أزمة ممتدة أخذت طابعا مسلحا. ثم كان فشل “محور المقاومة” الذي اختاره نظام “البعث” السوري، في اختبار لا يعد كبيرا في 2015-2016، وحاجته إلى دور روسي مباشر لإنقاذ هذا النظام، علامة أولى على ضعف غطاه نفوذٌ اكتسبه “حزب الله” داخل لبنان بعد حرب 2006. ولكن هذا الغطاء كُشف خلال المعارك التي ترتبت على هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، والضربات المؤلمة التي تعرض لها “حزب الله” واضطراره لسحب مقاتليه من سوريا في لحظة اضطراب كبير أتاحت لفصائل المعارضة التقدم من إدلب إلى دمشق وإسقاط نظام بشار الأسد وحزب “البعث” السوري بعد 21 عاما من القضاء على نظيره العراقي.

اختلفت، إذن، طريقة نهاية “البعث” في الحالتين. وربما يختلف أيضا مصير أعضائه في سوريا عنه في العراق. لم تلجأ الإدارة الجديدة في سوريا إلى انتقام منهجي من أعضاء “البعث”، ولم تستهدفهم على الهوية الحزبية، بخلاف ما حدث في العراق تحت شعار “اجتثاث البعث”. ويبدو حتى الآن أن الاستهداف مقصور على قادة الحزب وأعضائه الذين ارتكبوا جرائم أو شاركوا في ارتكابها. ويُفهم من قرار استمرار عمل المؤسسات ودعوة موظفيها إلى أداء أعمالهم أنه قد لا تحدث ملاحقةٌ لأعضاء “البعث” في المستوى القاعدي، وربما الوسيط، باعتبارهم موجودين ضمن هؤلاء الموظفين.

كما يبدو الاختلاف واضحا فى مبادرة قيادة “البعث” السوري إلى إعلان تعليق أنشطته حتى إشعار آخر، وتوجيه كوادره لتسليم ما لديهم من وثائق وأسلحة إلى الإدارة الجديدة، بخلاف ما حدث في العراق 2003 حين حاول بعض قادة “البعث” تنظيم مقاومة ضد الوجود الأميركي والنظام الذي كان قيد التشكل في ذلك الوقت.

وهكذا اختلفت طريقة نهاية “البعث” في سوريا والعراق. ولكنها تظل نهاية دراماتيكية في الحالتين بعد عقود طويلة. أكثر من 75 عاما هى عمر حزب “البعث” منذ بدايته الأولى. وخلالها حكم سوريا 61 عاما، والعراق 35 سنة. وطول تلك الفترة، كثُرت الاختلالات الداخلية وليست الأخطاء والمغامرات الخارجية فقط. ويبدو هذا طبيعيا نتيجة الاعتماد على شعاراتٍ تبدو للوهلة الأولى ملهمة، ولكنها في حقيقتها خاوية، مثل “أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة”، و”وحدة– حرية– اشتراكية”، وغيرهما. وكانت سياسات نظاميه بعيدة كل البعد عن فكرة الوحدة التي اعتُمدت كأساس لشعاراتهما. وعلى سبيل المثال بدل أن يُوحد الحزبان سوريا والعراق عندما توليا السلطة فيهما، أدخلا البلدين في صراع وصل إلى حد قطع العلاقات وحشد القوات على الحدود في بعض الفترات.

فيا له من مسارٍ مضطرب رسم صورة نهاية كلٍ منها، وصارا تاريخا يصح أن يُدرس وأن تُستوعب دورسه… وما أكثرها.

المجلة

——————————————

عن القتل والقاتل وظلاله: قراءة في عرض «كينونة» المسرحي/ علاء الدين العالم

09-01-2025

        بعد أن هرب القاتلُ الأكبر وسقط نظامه في سوريا، وبعد خروجنا من خضمِّ مقتلة عِشنا فيها ثلاثة عشر عاماً، كيف نفهم القاتل؟ وكيف لنا أن نشعر بعملية القتل؟ وما هي سيكولوجية المقاتل؟ وأين هي تلك اللحظة الفاصلة بين قرار القتل، وتنفيذه؟ وماذا يجري خلالها في نفس الفاعل/القاتل؟ القتل، بتعريفه الأبسط، هو استجلابُ الموت في غير وقته، هو إرادة التدخل في العملية التلقائية للوجود. القتل هو الضدُّ من الولادة، وهو إرادة إيقاف كينونة أحدهم ووجوده.

        عن القتل والقاتل وظلاله كان العرض المسرحي كينونة، الذي قُدِّم في مسرح تاك (Tak) في برلين يومي 27 و28 تشرين الثاني (نوفمبر) 2024، من تأليف وهاد سليمان وإخراج ليديا تسيمكه (Lydia Ziemke) وأداء كل من أمل عمران، محمد آل رشي، ألويس ماري باور (Marie Bauer) وألويس راينهاردت (Alois Reinhardt).

        المسرح كبديلٍ لحدث اجتماعي مفقود

        أولى الملاحظات التوصيفية السريعة على مسرحية كينونة أن المخرجة، وقبلها الكاتبة، عملتَا على محو هوية الشخصيات المسرحية. لا يمكن تحديد موطنهم أو هويتهم، فقد يكونون سوريين أو أي جنسية أخرى. إلا أن هذا التفصيل لم يؤثر في الجمهور الحاضر للمسرحية الألمانية العربية.

        على مدار يومين، شكلت المسرحية حالة لقاء للسوريين المقيمين في أوروبا، كأي حادثة أهلية يجتمع فيها أهالي الحي/ القرية/ المدينة/ البلد. هذا ليس جديداً، مع المسرح تحديداً نتيجة طبيعته، إذ دائماً ما كان أي عرض مسرحي سوري في أوروبا مساحة للقاء السوريين ببعضهم، إلا أن ما ميّزَ اللقاء هذا أنه جاء بالتزامن مع حدث جلل، وأقصدُ بداية التحرير واقتحام فصائل المعارضة لحلب، وانتقالها إلى حماة، في محاولة لإعادة تشكيل كينونة هذه المدن.

        اثني عشر عاماً مرّت على عرض مسرحية حدث ذلك غداً في مسرح الرور، المسرحية التي قدّمتها أمل عمران ومحمد آل رشي وأخرجها أسامة غنم. كان الجمهور الألماني والأوروبي آنذاك توّاقاً لسماع الحكاية السورية، ماذا حدث هناك؟ وما الذي يحدث؟ يسأل المتلقي الأوروبي بفضول. بعد ذلك، مرّت عروض مسرحية كثيرة في ألمانيا، وتشكلت تجمعات وشراكات مسرحية سورية مختلفة، وانفضّت، وقُدِّمت عشرات المسرحيات السورية على الخشبات المسرحية الألمانية، انهمَّ الجمهور الأوروبي، وملَّ الجمهور الأوروبي، وبقي عمران وآل رشي دؤوبَين على تقديم العمل المسرحي. حقَّقَ الاثنان حالة خاصة على مستوى المسرح السوري، لا بكونهما نجمين مسرحيين يحفل رصيدهما بأعمالٍ وخبرة طويلة وحسب، بل بقدرتهما على الاستمرار في العمل المسرحي في أوروبا في سنوات النفي والنار.

        من خلال أعمال مسرحية مختلفة، بمخرجين ونصوص عربية وأوروبية، وباستمرارية مع تجربتهما المسرحية السابقة على انتقالهما إلى أوروبا، بَنَت عمران وآل رشي بأعمالهما حالة من الأصالة المسرحية، بمعنى أنه أصبح أي عرض لهما في أوروبا حدثاً اجتماعياً يخصُّ السوريين، وفي عودة المسرح لأصله كحدث اجتماعي تكمن الأصالة في تجربتهما، بعبارة أخرى وأبسط؛ هي أن تسمع أحدهم يهمس قُبيل العرض: «ما بعرف المخرج/ة ولا الكاتب/ة صراحة، بس إجيت مشان شوف أمل ومحمد».

        في التيه، الشتات، الغربة، المنفى، سَمِّه ما شئت، تختفي الأحداث الاجتماعية الجماعية، كالأعراس والأعياد ومجالس العزاء، التي إن تمت، فهي تتم بعيداً عن العائلة والأصدقاء والمجتمع الذي تفتت، لذلك يبقى الحدث المسرحي أحد الأنشطة القليلة الجامعة، على صغره. من هنا، كانت مسرحية كينونة، قبل فحواها وقولها، حدثاً اجتماعياً سورياً يجري (هنا)، في برلين، المدينة التي غيرت وجهها البشوش بعد السابع من أكتوبر، و(الآن) حيث ستصبح هذه المسرحية آخر عرض مسرحي سوري يُقام في برلين قبل السقوط الكبير للنظام الأسدي.

        كينونة، مسرحية سورية في مدينة ألمانية

        هناك تياران أساسيان في الفكر الألماني المعاصر لتوصيف العلاقة بين الكينونة واللغة. الأول ظاهراتي فينومينولوجي، ورائدهُ الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل الذي رأى أن الكينونة الأولى، الوجود الخام، هو وجود صامت لا لغة فيه، وبذلك فصل اللغة عن الكينونة. بينما التيار الفلسفي الآخر ظهر مع مارتن هايدغر، الذي كثّفَ هذه العلاقة بين اللغة والكينونة في كتابه الكينونة والزمان، وخرج بنتيجة فلسفية مَفادُها أنّ اللغة بيت الكينونة. في اللغة العربية أيضاً، هناك تفريق بين الكينونة والوجود، الأولى صفة/خاصية للكائن في الوجود «الكينونة»، والثاني هو المحيط الواسع الذي تتواجد فيها الكينونات «الوجود»، وفرّقت اللغة العربية بين الكائن والموجود، وبتعبير آخر: الكائن يكون والإنسان يُوجد، والكينونة هي انكشاف الموجود للعالم. لم تفرّق مسرحية كينونة بين المستويين؛ الألماني والعربي، الفلسفي واللغوي، فالشخصيات التي تُقدَّم بكينونتها الخام تتحدث العامية الشامية، والألمانية المحكية؛ الكينونة هنا ليست صامتة (خام كما يقول هوسرل)، وليست كينونة دون هوية تخضع لكل زمان ومكان (كما يقدمها العنوان المنكّر للعرض)، لأنها تتحدث لغة دلّلت على هويتها، أي عبّرت الكينونة عن نفسها (حسب هايدغر). وبعبارة أوضح: «أنا لغتي» كما يقولها محمود درويش. لذلك كانت محاولة تنكير الكينونة في العرض غير ممكنة لأن الشخصيات تحدثت، بلغة معينة، ولهجة بلد محدد، فكشفت عن كينونتها.

        النص، المكتوب بالفصحى في نسخته الأصلية (ورشة الرويال كورت 2014)، حاول تقديم عرض يعكس العبثَ الناتج عن الانفجار السوري بصيغة مسرح ما بعد الدراما، حيث لا صراع ولا دَيالوغ ولا شخصيات، السرد هو الأساس، والدفق اللغوي للمونولوجات غير المترابطة هو مبنى النص وبنيته. لا وجود لمَشاهد متسلسلة وحكاية واضحة بقدر ما كان النص مبنياً على الشذرات والصور والمشاهد المتشظية المتناثرة، وذلك ما اعتمدت عليه مخرجة العرض أيضاً، عبر مشاهد منفصلة متصلة جاءت على شكل لوحات أدائية وسينوغرافية. 

        من خلال شذرات بصرية وشخصيات شبحية، يرى المُشاهدُ حكاية جابر، أو كينونته. جابر ببساطة قاتل، قتل عدوه وضاجع الجثة. لا هوية لجابر، ولا لأمه وحبيبته وضحيته. لا نعرف إلى أي طرف ينتمي وخلف أي راية يقاتل. هو قاتل وحسب، يطلب سلاحه للقتل فيلبيه، نسمع همهمات أمه المودعة وذكريات حبيبته المُنتظِرة، وهسيس جثة ضحيته.

        على امتداد ساعتين، بإيقاع رتيب، ومقدمة سردية طويلة، يقدّم كينونة نفسه على اعتباره عرضاً مسرحياً لنصٍّ عبثي، إلا أنه وفي أماكن كثيرة، يبدو نصاً مُبهماً، يحتوي صوراً عنيفة لكنها غير متسقة، يحوم حول فكرته ولا يقولها، ولا يفهم المتلقي إن كان عليه أن يفهم جابر أو يتعاطف معه أو ربما يحكم عليه. الإبهام يعمُّ العرض، ويُعتِمُه، وربما كان مَخرَج الفَهم الوحيد هو الأداء ومستوياته المختلفة.

        دائماً ما يكون الأداء هو أحد الحوامل الرئيسية للعرض المسرحي، لكن في كينونة كان الأداء هو الحامل الوحيد. ضاع المعنى، وتاهت الصور المُتلاحقة، وبقي الأداء هو المسؤول الأول عن مخاطبة المُشاهد، وإخباره قصة جابر وهلاوسِه مع جثة من قتله.

        ضمن هارموني واضحة، تمكّنت ماري باور (Marie Bauer) من متابعة أداء أمل عمران والتفاعل معه، ومقاربة تحوّلاتها التمثيلية. أما أمل فأعادت تكوين المونولوجات المبهمة بلغة أدائية تبني تواصلاً مع المتلقي، من خلال أدائها نتعرّف على الأم، والحبيبة والعاهرة. من نبرتها ندرك التحول بين المشاهد والشخصيات، بين التمثيل والأداء، بين لعب الشخصية ولعب الدور. كذلك كان محمد آل رشي هو الآخر، إذ عملَ على ضبط التنقلات بين المشاهد المتناثرة، والتلوين والتنويع في الأداء، خاصة في المشاهد المعتَمِدة على الجانب الجسدي الحركي، تلك التي تَبادلَ فيها دورَي الجثة والقاتل مع الممثل الألماني ألويس راينهاردت (Alois Reinhardt)، الذي قَدَّمَ هو الآخر أداءاً جسدياً محترفاً. من جهة أخرى، عمل آل رشي على إيجاد لغة متعددة الخواص للعرض، بمعنى الخروج من اللغة الخشبية للنص وإيجاد اللغة الخاصة، اللغة اليومية المرنة التي تتنوع بين الخطابة والبوح والحديث اليومي، وحتى الكوميديا والسخرية في عرض مليء بالصور القاسية. وفي سياق الحديث عن اللغة، تجدر الإشارة إلى أن تجربة الترجمة الفورية، وسماعها بدلاً من مشاهدتها، خلق كماً هائلاً من التشويش والتكرار، فالمتلقي يسمع الحوار الواحد، لا بل الجملة الواحدة، مرتين بلغتين، ولذلك كان خياراً خاطئاً، رغم الجهد الهائل الذي قدّمته المترجمة ساندرا هتزل (Sandra Hetzl)، بحيث تمكّنت من نقل حساسية العامية المحكية في اللغتين.

        باختصار، الصورة والحركة والسرد والمسرح ما بعد الدرامي والمسرح مزدوج اللغة، كلها اصطلاحات نقدية يمكن من خلالها قراءة عرض كينونة، لكن قبل ذلك، ماذا يقول العرض عنا؟ أو هل هو عنا فعلاً؟

        كيف يرانا الآخر وكيف نرى أنفسنا؟

        «وكأننا مجرد صورة مشتتة لجثة وقاتل. أشلاء وأطراف ودماء في كل مكان، صورة ملونة بالأحمر والأسود، وصوت أنين يسمعه العالم في الأذن العملاقة في منتصف العرض. ذلك هو نحن في عيون مخرجة العرض الألمانية». توحي الكلمات السابقة بالاستشراق معكوساً إن أمكنني تسميته بذلك، أي أن نحصر رؤية الآخر لنا بالسردية الاستشراقية السعيدية، والانحصار باصطلاحات الأبيض والمستعمر والمستشرق. وكأن الآخر لا يرانا إلا من هذا المنظور. لكن مهلاً، مَن الآخر؟ ومَن نحن؟ لطالما فكرتُ بماذا أقصدُ حينما أقول نحن وأستخدمُ (نا) الدالة على الفاعلين. من نحن؟ السوريون، الفلسطينيون، الشوام، العرب. من أقصد بـ(نحن) فعلاً؟

        ربما كانت لحظة سقوط النظام في سوريا هي اللحظة الكاشفة لما يعنيه كلٌّ منا حينما يقول (نحن السوريون). تلك اللحظة المفصلية وضعتنا أمام السؤال الجذري. من نحن؟ ومن هي سوريا؟ وما هي الهوية السورية. وهل هناك سوريا واحدة أم لكلٍّ منا سوريته؟ من المفهوم أن يصيب التيه مجتمعاً ماجرّاء انفجار سياسي، أو حرب معينة، أو ثورة شعبية، إلا أن ما أصابنا مؤخراً انتقل من تيه المكان إلى تيه الهوية. عندما أقول نحن، ولا يمكنني تحديد نحن هذه، فهذا يعني أن هويتي تائهة، كينونتي تائهة.

        عاد سؤال الـ(نحن) هذا بإلحاح بعد السابع من أكتوبر، وبعد فورة الهويات المتشنجة التي تبعها، سواء على المستوى المحلي (سوري، فلسطيني، لبناني…) واختلاط الخطوط السياسية جرّاء الحرب (مقتل حسن نصر الله مثالاً)، أو على المستوى العالمي وإعادة مُساءلة حرية التعبير والقيم الليبرالية، وألمانيا، وبرلين تحديداً، هي خيرُ نموذج لهذا التشنّج الهوياتي. أما بعد سقوط النظام الأسدي، فأصبح سؤال «من نحن؟» شأناً يومياً وسياسياً للسوريين، وغدا هاجسهم اليوم، من نحن؟ وما هي سوريا التي نريد؟

        في كل ذلك، ومع إعادة القصة السورية إلى بدايتها، بمشاعرها وتناقضاتها، لم أستطع أن أُخرِجَ سؤال «من نحن؟» من رأسي وأنا أشاهد العرض، وأفكر في كينونتنا المعروضة على شكل أشلاء، ودماء، وديمومة قتل لا تنتهي. وأفكر في أنه يجب علينا، جدياً، وفي هذه اللحظة بالذات، الانتقال مِن سؤال مَن هو الآخر، وكيف يرانا، وكيف نراه، هذا السؤال الذي انشغلنا فيه قرنا كاملاً، إلى سؤال «من نحن»؟ ومن نقصد، كلٌ منا، بقوله نحن؟ والأجدر ربما، في مرحلتنا المجنونة هذه، النظر إلى كيف نرى أنفسنا، قبل أن نسأل كيف يرانا الآخر. وإعادة الحفر في كينونة كلٍّ منا، تلك الكينونة التي اختلفت جذرياً بعد سقوط النظام، فقد كنا، نحن السوريين، قبل الثامن من كانون الأول (ديسمبر) 2024، جيلاً مهزوماً فشل في ثورته، وظنَّ أن أحلامه ماتت دون رجعة، وأصبحنا، بعد السقوط، جيلاً يفكر في مستقبل حر وكريم لا دماء فيه ولا أشلاء.

موقع الجمهورية

———————————

فارس الخوريّ: رمز وطنيّ في أزمنة التَّحول السُّوري/ طالب الدغيم

2025.01.10

في صباح 8 ديسمبر 2024م، انبثق فجر جديد في سوريا مع سقوط نظام الأسد، إيذانًا بنهاية حقبة من الظلم والاستبداد وبداية عهد مليء بالأمل. ومع لحظة التحول هذه، عادت ذاكرة السوريين لتستحضر رموزًا وطنية ألهمت الأجيال بحكمتها ونضالها، وعلى رأسهم فارس الخوري، القائد الذي جمع بين الوطنية والحكمة، والاتزان السياسي، وكان بوصلة تُهتدى بها في أكثر المراحل تعقيداً في تاريخ سوريا المعاصر.

من هو فارس الخوري؟

فارس الخوري من مواليد 20 نوفمبر 1873م في قرية الكفير بقضاء حاصبيا في لبنان، لأسرة بروتستانتية، حيث كان والده يعقوب نجارًا يمتلك أراضي زراعية. وفارس تلقى تعليمه الابتدائي في مدرسة قريته، وأكمل دراسته الثانوية في المدرسة الأميركية بصيدا، قبل أن يبدأ مسيرته المهنية معلمًا في زحلة ثم مجدل شمس وصيدا. وفي عام 1894م، التحق بالكلية الإنجيلية السورية في بيروت، ونال درجة البكالوريوس في العلوم عام 1897م. ولاحقًا، عمل مديرًا للمدارس الأرثوذكسية في دمشق، ودرّس في مكتب عنبر. وبعدها عُين ترجمانًا للقنصلية البريطانية بين 1902 و1908م، وخلال تلك الفترة واصل دراسته الذاتية، فتعلّم الفرنسية والتركية، ودرس الحقوق، مما مكّنه من نيل شهادة معادلة الليسانس، ومزاولة مهنة المحاماة في دمشق.

الزعيم فارس الخوري: بوصلة السياسة الوطنية من العهد العثماني إلى الاستقلال السّوري

فارس الخوري هو أحد أعظم رموز الوطنية والسياسة في سوريا الحديثة، كانت مسيرته شاهدة على مراحل التحول الكبرى التي مرّ بها الوطن السوري. وقد بدأ نشاطه السياسي في عام 1908 بانضمامه إلى جمعية الاتحاد والترقي، ثم انتُخب نائبًا عن دمشق في مجلس المبعوثان العثماني عام 1914. لكن مع اشتداد القمع العثماني واتهامه بالتآمر، اعتُقل ونُفي إلى إسطنبول عام 1916، حيث عمل في التجارة. ومع انهيار الدولة العثمانية واحتلال فرنسا لسوريا، عاد فارس الخوري إلى دمشق ليبدأ مرحلة جديدة من النضال. وقد انتُخب نقيبًا للمحامين لخمس سنوات، وأسهم في تأسيس معهد الحقوق العربي والمجمع العلمي العربي، ليؤكد التزامه بالنهضة الفكرية والثقافية.

وفي أعقاب الثورة العربية الكبرى ووصول الأمير فيصل إلى دمشق عام 1918، انضم الخوري إلى الحكومة المؤقتة، وتولى منصب وزير المالية عام 1920. وكما عمل على تنظيم الاقتصاد السوري بإطلاق عملة الدينار، ووضع موازنة متكاملة، قبل أن تنتهي الحكومة مع دخول الفرنسيين إلى دمشق.

وخلال حقبة الانتداب الفرنسي، أسس فارس الخوري حزب الشعب مع الدكتور عبد الرحمن الشهبندر، إلا أن نشاطه السياسي أدى إلى اعتقاله، ونفيه إلى جزيرة أرواد عام 1925م. ورغم ذلك، لم تثنه السجون عن الاستمرار في النضال، فعاد ليقود الكتلة الوطنية مع هاشم الأتاسي.

الزعيم الخوري في القيادة السياسية السّورية

برز فارس الخوري كركيزة أساسية في الكتلة الوطنية التي تصدّت للفرنسيين، وأسهم في تحقيق التوازن بين المعارضة السياسية والعمل الحكومي. وشارك في الإضراب الستيني عام 1936، وكان نائبًا لرئيس الوفد السوري المفاوض مع فرنسا، حيث حقق مكاسب عظيمة مثل الاعتراف باستقلال سوريا وتشكيل جيش وطني. وفي تلك الفترة، رفض الخوري المشاريع القانونية الاستعمارية مثل المحاكم المختلطة التي حاول الفرنسيون فرضها، وعلى الصعيد المحلي، أسهم في تطوير البنية التحتية لدمشق، بما في ذلك مشروع مد مياه عين الفيجة بالتعاون مع لطفي الحفار عام 1932م.

فارس الخوري رئيساً للبرلمان السّوري 

انتُخب الخوري رئيسًا للبرلمان السوري عدة مرات، وكان أبرزها بين عامي 1936-1939 و1943-1949.  وكانت فترة رئاسته حافلة بالمواقف الوطنية، إذ مثّل سوريا في المحافل الدولية، ووقّع ميثاق جامعة الدول العربية عام 1945م. وكما أقنع السوريين بإعلان الحرب على دول المحور خلال الحرب العالمية الثانية، لتمكين سوريا من الانضمام إلى جمعية الأمم. وفي عام 1945م، قاد الخوري الوفد السوري إلى مؤتمر سان فرانسيسكو لتأسيس الأمم المتحدة، وأظهر براعة دبلوماسية استثنائية، ما دفع جامعة جنوب كاليفورنيا لمنحه الدكتوراه الفخرية.

وعندما قصفت القوات الفرنسية البرلمان السوري عام 1945، ترأس الخوري الوفد السوري إلى مجلس الأمن، حيث طالب بجلاء القوات الأجنبية “الفرنسية والإنكليزية” عن سوريا ولبنان. وكان موقفه الصلب بالتعاون مع حميد فرنجية ممثل لبنان حاسمًا في إنهاء الانتداب الفرنسي في إبريل عام 1946م.

رئاسة الوزراء والجهود الإصلاحية

في عام 1943م، فاز فارس الخوري بعضوية البرلمان ورئاسته، وفي 14 أكتوبر 1944م، تولى رئاسة الوزراء جامعًا بين وزارتي المعارف والداخلية. واعتُبر هذا الاختيار رمزًا للوحدة الوطنية والنضج السياسي في عهد شكري القوتلي. وكما تولى الخوري أيضًا إدارة الأوقاف الإسلامية، ما أثار جدلًا انتهى بتصريح النائب الأستاذ عبد الحميد طباع بأن “فارس الخوري أمين على أوقافنا أكثر مما نؤمن أنفسنا”.

وعلى الصعيد الداخلي، عمل الخوري على تحقيق العدالة الاجتماعية، وتطوير التعليم، وتحسين مستوى معيشة السوريين. كما شارك في صياغة دستور حديث، مؤكدًا أن القوانين أدوات لتحقيق المساواة وحماية الحريات. وكان له بصمات كبيرة في تحقيق الإجماع الوطني على دستور الجمعية التأسيسية لسورية عام 1950م، والذي يعتبر أبرز إنجاز قانوني للسوريين بعد الاستقلال الوطني.

فارس الخوري والدور الدبلوماسي  

وفي عام 1947، انتُخبت سوريا عضوًا في مجلس الأمن، وترأس فارس الخوري المجلس، ليكون أول عربي يشغل هذا المنصب. استغل منصبه للدفاع عن قضايا سوريا والعالم العربي، ما عزز مكانته الدولية.

ورغم سلسلة من الانقلابات العسكرية التي شهدتها سوريا، بقي فارس الخوري قريبًا من مواقع المسؤولية، وعاد إلى تمثيل بلاده في الأمم المتحدة. وفي عام 1954، مع بداية عهد جديد من الديمقراطية، كُلّف بتشكيل الوزارة في عهد الرئيس هاشم الأتاسي، لكنها لم تستمر سوى مئة يوم. ومثل الخوري في تجربته الوطنية نموذجًا للقيادة الحكيمة التي جمعت بين العمل السياسي والإصلاح الاجتماعي، والنضج والتبصر في إدارة الشأن العام، وظل اسمه رمزًا للوحدة الوطنية، والنضال من أجل الحرية والاستقلال الوطني.

فارس الخوري.. الحكيم والأديب

رغم انشغال فارس الخوري بالسياسة، إلا أن إبداعه الأدبي يظل وجهًا بارزًا من وجوه شخصيته المتعددة. فمنذ شبابه، كان الخوري مولعًا بالشعر، ونظم قصائد ذات قيمة أدبية عالية. ولعل من أبرز أعماله الشعرية “ملحمة الحرب اليابانية الروسية” التي نظّمها عام 1905م، وامتدت إلى مئات الأبيات وصف فيها وقائع الحرب بدقة وإنصاف، ما يُظهر اهتمامه بالقضايا العالمية وقدرته على تحويل الأحداث إلى أعمال أدبية خالدة. وطُبعت هذه الملحمة في كتيب صغير بتمويل من صديقه حسين حيدر، وأظهرت تفوقه في تطويع الشعر لخدمة التأريخ والأدب السياسي.

وترك فارس الخوري إرثًا أدبيًا غنيًا يضم أعمالًا عدة، من بينها “موجز في علم المالية” و”أصول المحاكمات الحقوقية”، بالإضافة إلى كتابه المفقود عن الحرب اليابانية الروسية وديوان مخطوط لم يُطبع. كما أسهم في الكتابة الصحفية بنشر مقالات في مجلات مرموقة في تلك الفترة مثل “الرسالة” و”المقتبس” و”المجمع العلمي العربي”.

وكان فارس من المؤسسين الأوائل للمجمع العلمي العربي بدمشق عام 1919م، حيث نشر دراسات ومحاضرات أكدت اهتمامه بالثقافة والعلم. ونُشرت له محاضرتان في المجمع، هما “ارتباط البلاد على أصول الاتحاد” و”ديون الدولة العامة”، كما نشر مقالات مثل “فجيعة العرب بشوقي” عام 1933م.

والشيخ علي الطنطاوي، في شهادته عن فارس الخوري، أشاد بموهبته الأدبية والشعرية، وذكر أنه خلال حفلة في المجمع العلمي ألقى فارس قصيدة أثرت في الحضور بصوته الجهوري، إذ وصفها الطنطاوي بأنها نموذجٌ للتأثير الأدبي الذي يجمع بين قوة الكلمة وهيبة الأداء. وأثنى الطنطاوي على فارس بصفته واحدًا من أعظم أعلام الشام، موضحًا أن ما ميزه ليس فقط موهبته الأدبية، بل أيضًا ثقافته الموسوعية، وشخصيته المهيبة. وحكى عنه الشيخ علي الطنطاوي:

“وهذا الشيخ (الخوري) الذي شهدت بعبقريته الدنيا، وأكبرته الأجيال على اختلاف ألوانها وألسنتها وبلدانها، ورأت فيه (شخصية) ضخمة .. والذي أعطاه الله هذا الذهن العجيب، فجعله لغوياً أديباً شاعراً حقوقياً مشاركاً في كل فروع الثقافة، وأمده بمنطلق سديد، وعقل نادر المثال، ورزقه ذكاء ما أعرف أحد منه ولا أمضى، وبديهة غريبة، وجعل له مع ذلك كله، هذا الرأس الكبير، وهذه الشيبة المهيبة. وهذا الصوت المدوي المليء بالعظمة والثقة بالنفس والتعالي، وهذا الصدر الواسع، وهذا الحلم مع القوة، وهذا الحزم بلا عنف، هذا الرجل لا يستكثر عليه أن يرتجل خطبة باللغة الإنكليزية، وأن يحول بها أفكار وكلام الدول في مجلس الأمن”.

فارس الخوري في محطات الوداع

مع تقدم العمر، قرر فارس الخوري الابتعاد عن الحياة السياسية في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، ليتيح المجال للأجيال الشابة. ولكنه ظل حاضراً في المشهد الوطني من خلال تقديم المشورة والدعم لمن يلجأ إليه. وظل منزله في دمشق مركزاً للنقاشات والندوات الثقافية والسياسية، إذ استمر في خدمة وطنه حتى آخر أيامه. كان فارس الخوري مستشارًا حكيمًا يلجأ إليه الجميع، وسندًا لكل من تطلع لخدمة الوطن بإخلاص، وظل يحمل هموم سوريا حتى آخر أيامه.

وفي 26 رجب 1381 ه، الموافق 2 كانون الثاني/يناير 1962، رحل فارس الخوري عن عالمنا، تاركاً إرثاً سياسياً وإنسانياً عظيماً، ونعته إذاعة دمشق وإذاعة لندن، وكانت جنازته حدثًا وطنيًا مهيبًا، جمع السوريين من مختلف الطوائف في مشهد مؤثر، يعكس محبته واحترامه في قلوب أبناء وطنه.

إن خطاباته السياسية المؤثرة في الأمم المتحدة والمحافل الدولية، وحرصه الدائم على تعزيز الوحدة الوطنية، وصلاته الرمزية في الجامع الأموي التي جسّدت روح التآخي بين أبناء الوطن، ستبقى محفورة في ذاكرة سوريا كرمز خالد للتسامح والقيم الإنسانية السامية. فارس الخوري، الذي أوصى بأن يُقرأ القرآن على روحه، لم يكن مجرد زعيم سياسي، بل منارة للوفاء والشراكة الوطنية التي جمعت كل السوريين على اختلاف انتماءاتهم.

وتجربة فارس الخوري تمثل درسًا خالدًا للشعوب الساعية لبناء أوطانها على أسس الحرية والكرامة. وفي سوريا الجديدة، بعد سقوط نظام الاستبداد، سيبقى إرث الخوري والزعماء الوطنيين السوريين أمثال هاشم الأتاسي وخالد العظم ومصطفى السباعي ورشدي الكيخيا وناظم القدسي وسعد الله الجابري وعبد الرحمن الشهبندر وصبري العسلي وجميل مردم بك وشكري القوتلي وغيرهم، نماذج يُحتذى بها في مسيرة العمل الوطني البنّاء، والرؤية الاستراتيجية المتوازنة التي تتطلع إلى مستقبل مشرق يجمع أبناء الشعب السوري في ظل دولة المواطنة والعدالة والحرية، والعيش المشترك.

——————-

خطة طارئة لحماية المقابر الجماعية ومرافق الاحتجاز/ منصور العمري

تحديث 10 كانون الثاني 2025

رسالة مفتوحة إلى السلطات السورية والمنظمات والجهات المعنية.

كما تعلمون، تشكل مرافق الاعتقال ومقرات أجهزة الأمن السورية والمقابر الجماعية مصادر أساسية لا بديل عنها للمحاسبة والعدالة بما فيه معرفة الحقيقة وتعويض الضحايا وتوثيق السردية التاريخية للأجيال القادمة.

لكن هذه الأهداف الكبيرة تتطلب جهودًا كبيرة وجهات تنفيذية عديدة، وسنوات وربما عقود لإنجازها. لذلك، ونظرًا للطبيعة العاجلة لبعض الخطوات التي يجب تنفيذها بأسرع وقت ممكن، ينبغي وضع وتنفيذ خطة طارئة لحماية مرافق الاحتجاز ومواقع المقابر الجماعية في سوريا وحفظها لحين بدء العمل عليها من قبل الجهات المعنية.

تشمل هذه الخطة:

I. المقابر الجماعية

رغم أن عملية تحلل الجثث تبدأ في غضون دقائق من الوفاة، ولكن قد يستغرق التحلل الكامل سنوات وربما أكثر، تبعاً لعديد من المتغيرات. تؤثر عدة عوامل في سرعة ومدى تحلل الجثث، ويختلف تأثيرها وفترة تحلل الجثث تبعًا لعدة عوامل من بينها الظروف الجوية، كالحرارة والرطوبة وتوافر الأكسجين، وأيضًا نوع التربة وتواجد الحشرات، وكيفية الدفن وعمق الدفن، وإن كان الجثث مرتدية ملابسًا أم لا، وإن كانت متلاصقة أم لا، وإن كان الجثة مصابة بجروح مفتوحة، وغيرها.

    يمكن للحد من تحلل الجثث – وكإجراء إسعافي عاجل وضروري- إنشاء سقوف فوق المقابر الجماعية للحد قدر الإمكان من المطر، ولاحقًا من حرارة الشمس.

    يجب تأمين المقابر ضد دخول الحيوانات التي قد تعبث بالجثث.

II. التأمين

تشمل خطوات التأمين تنفيذ تدابير أمنية لمنع الوصول غير المصرح به أو الحفر أو تدمير الموقع أو الإضرار به بأي شكل، وتشمل:

    وضع السياج واللافتات لتحديد حدود الموقع بوضوح.

    المراقبة المنتظمة للموقع للكشف عن أي اضطرابات أو خروق أمنية.

    تخصيص أفراد الأمن: للحراسة ومنع الوصول غير المصرح به، وتدريبهم على التعامل مع الزوار.

    عدم تحدث الحرس مع الصحافة أو غيرها، وترك أمر التصريحات وإعطاء المعلومات للمتحدثين الرسميين.

    وضع كاميرات مراقبة دائمة لمحيط الموقع وللمدخل من بين أماكن أخرى.

III. الزيارات

تعتمد إمكانية الزيارة على طبيعة الموقع عمومًا، ويجب أن تكون بعض المواقع المناسبة مفتوحة لمختلف الجهات، بشرط أن تكون هذه الزيارات منظمة وتراعي حساسية وهشاشة هذه المواقع:

    في بعض المواقع المختارة، يجب أن تكون الزيارة مفتوحة ومنظمة للصحافة المحترفة والمسؤولة، والمنظمات المحلية والدولية، والجهات القانونية المعنية، والسياسيين.

    يجب تخصيص ممشى واحد للزوار وتغطيته بأرضية مناسبة، وضمان عدم تأثير حركة الزوار على الموقع وموجوداته.

    يجب إجراء معالجة طارئة للوثائق المبعثرة والمبللة أو المحروقة أو العفنة أو الممزقة أو المشوهة أو المتسخة بما يتوافق مع معايير حفظ الأدلة القانونية، وجمع الوثائق القابلة للتلف من قِبل فريق قانوني لتنفيذ عملية الجمع بما يتوافق مع شروط حفظ الأدلة.

    تحسين ظروف التهوية في الأماكن المغلقة.

    زيارة دورية خبيرة لتفقد الظروف في المرفق.

    توعية الأهالي بضرورة حماية المواقع والوثائق لحماية حقوقهم.

IV. التوثيق العاجل

ينبغي إجراء توثيق مرئي كامل من قبل محترفين قانونيين، يتضمن فريق يصور كل سمات الموقع من المحيط إلى المدخل ثم الاسقف والأرضيات، والموجودات على حالها.

*منصور العمري، مدافع سوري عن حقوق الإنسان وباحث قانوني. حاصل على درجة الماجستير في العدالة الانتقالية والصراع من جامعة إيست لندن. يعمل العمري مع منظمات حقوقية دولية وسورية لمساءلة مرتكبي الجرائم الدولية في سوريا. في عام 2012، اعتُقِل العمري وتعرض للتعذيب من قِبل الحكومة السورية لمدة 356 يوما لتوثيقه فظائعها أثناء عمله مع المركز السوري للإعلام وحرية التعبير كمشرف على مكتب المعتقلين.

—————————-

الساحل السوري بعد سقوط النظام السوري/ كمال شاهين

“التصرفات الفردية” تطغى على الفرح بسقوط الأسد

09 كانون الثاني 2025

في الساحل السوري، سحب البعض صور أبنائه من الشارع بعد أن كانت تملأ الجدران تحت اسم “الشهيد في سبيل الوطن”، والذين باتوا اليوم إرهابيون وفطائس وقتلى حرب لدى النظام الجديد” كما تقول ليلى في هذا التقرير الذي يرصد أحوال الساحل السوري، والطائفة العلوية تحديدًا، بعد سقوط النظام، حيث يعيش الأهالي “في كابوس لا ينتهي… وأشعر أن مستقبلنا مظلم” كما تقول منى.

“بعد أكثر من عشر سنوات على الموت في سبيل سوريا تركنا بشار الأسد وغادر بطريقة مخزية. لم يقم سوى بتجميع أمواله والفرار من بلاد أعطته كلّ شيء. ما جدوى كل هؤلاء الشهداء الذين سقطوا؟ أولادنا الشباب وهم بالمئات ماتوا من أجل لا شيء”. هذا ما تقوله ليلى أحمد وهي موظفة سابقة في قطاع الصحة في ريف بانياس، ووالدة لشابين فُقدا خلال سنوات الحرب. وتضيف “اليوم بات أولادنا إرهابيون وفطائس وقتلى حرب لدى النظام الجديد. هي حالة قهر لا تتكرّر”.

يعكس هذا القول ما يشعر به اليوم أهل الساحل السوري من خيبة أمل وحنق يعتصر قلوبهم. “كل يوم أستيقظ على خوف جديد. أشعر بأنني أعيش في كابوس لا ينتهي. مع انهيار النظام، زادت مخاوفي من الانتقام. أسمع القصص عن جماعات معارضة تهدد العلويين، وأتساءل كيف سأحمي عائلتي. نحن بشر، لدينا أحلام وآمال، لكن الخوف يسيطر علينا. لا أعرف ماذا سيحدث غدًا، وأشعر أن مستقبلنا مظلم”، تقول منى ابراهيم،  امرأة من الطائفة العلوية في الساحل السوري، كانت موظّفة في قطاع التعليم.

مشاعر الأسى هذه، يرافقها إحساس عام بالخديعة في الجبل العلوي. هناك من سحب صور أبنائه من الشارع بعد أن كانت تملأ هذه الشوارع تحت اسم “الشهيد في سبيل الوطن”. المبرات الخيرية حيث كانت تُقام التعازي شهدت نزعًا لصور كثيرة تضم قوائم هؤلاء الضحايا في محاولة لتفادي غضب الهيئة وأتباعها من هؤلاء الضحايا الذين آمن قسم كبير منهم ربما للحظة بأنّ من يدافعون عنه هو وطن وليس فردًا.

هناك أيضًا مخاوف من الانتقام، حيث تعيش العديد من النساء حالة قلق مستمر وعدم يقين وخوف من ردود الفعل المحتملة في مجتمع مصدوم بكلّ معنى الكلمة، مجتمع يجد قسم كبير من أفراده أنفسهم، يدافعون عن فكر “الدولة” لا النظام، كردة فعل على النبذ والإقصاء.

هذا التحوّل في الهوية يؤثر على الأجيال الشابة التي نشأت خلال فترة النزاع، حيث يتساءل الكثير منهم عن مستقبلهم ومكانتهم في المجتمع وبخاصة مع انتشار شائعات كثيرة تتعلّق بالإقصاء من الوظائف الحكومية أو العسكرية منها.

تأتي المخاوف السابقة رغم أنّ الأسبوع الرابع على تغيير النظام المفاجئ في سوريا “انتهى بخير” نسبيًا. إذ لم تحدث مجازر كبيرة ولم تتدفق شلالات الدم التي طالما تحدّث عنها موالو النظام السابق وأكدوا أنّها ستكون حاضرة فيما لو سقط النظام الأسدي. إلّا أنّ هذا الإنجاز الذي يُحسب لقوى الأمر الواقع الجديدة في دمشق ومعها الترتيبات الدولية الملحوظة حتى الآن، لا ينفي أنّ الوقت مبكّر للحديث عن قطيعة مع المرحلة الأسدية السابقة، خاصة مع “تكرار عشرات الحوادث الفردية” كلّ يوم على جغرافيا الساحل السوري وحمص وريف حماة، والأخيرة تشهد النسبة الكبرى من هذه الحوادث بحكم وقوعها على حدود التماس الجغرافي الطائفي مع الإخوة “السوريين الأعداء” حتى السابع من كانون الثاني/ يناير ٢٠٢٥.

ورغم وجود مقدّمات مبشّرة في خطاب السلطة الجديدة تختلف درجاتها بين خطاب الشرع (الجولاني سابقًا) وأعضاء حكومته القادمين من إدلب لحكم سوريا، وممارسات أعضاء “الهيئة والأمن العام” في الشارع، تظلّ مخاوف العلويين مشروعة وسط حالة الاستقرار السوري الهش حالياً بغياب كلّ أشكال الدولة. كما أنّ سيطرة مشاعر “نحن من حقق الانتصار على النظام السابق وكتلته الاجتماعية والعسكرية” على فصائل الهيئة، قد يؤدي إلى تهديدات جديدة على حياة العلويين باعتبارهم “سند النظام الأساسي”. ويدعو العقلاء من كلّ الأطراف إلى حضور الدولة الجديدة في المحاسبة والمعاقبة، وإلا تحوّلنا إلى شرع الغابة من جديد.

أهل الساحل السوري والسلطة الجديدة

ينتشر هذا الخطاب الإقصائي في وقت تعيش الطائفة العلوية في الساحل السوري، وهي تشكل نحو 10-12% من السكان (كما يشير كتاب جان كلود فاندام الصراع على السلطة في سوريا، 2010)، حالة من التوتّر والقلق في ظلّ الظروف الراهنة. هذه الحالة ليست مجرّد صدى للأحداث السياسية، بل تعبير أيضًا عن إحباط عميق وقلق متزايد يعتمل في نفوس أبناء الطائفة.

ينتمي أغلب أهل الساحل السوري إلى طبقاتٍ اجتماعيّةٍ مسحوقة اقتصاديًا؛ فلاحون وموظفون وعسكر في الجيش السوري السابق وقوى الأمن أيضًا، ولطالما اعتبرهم السوريون الآخرون القاعدة الاجتماعية الداعمة للنظام الأسدي. وفي هذا نوع من التجني الجمعي، إذ أنّ النظام السابق كان نتاج نفسه وأدواته وعناصره المختلطة من كلّ السوريين. يقول المهندس “محمد الخيّر” (43 عاماً) خلال لقاء في تجمّع شبابي مدني جمع عددًا من الفاعلين الشباب والصبايا لمناقشة المرحلة الجديدة في سوريا أقيم في اللاذقية: “نحن أمام معضلة حقيقية تتمثّل في قراءة النظام الجديد للسوريين على أساس منطق مغلوط هو منطق النظام نفسه. منطق الأقلية والأكثرية. منطق المؤمنين والكفار. وهذا يعني استبعاد مفهوم المواطنة من العمل القادم لبناء سوريا متحرّرة من الاستبداد والطغمة الحاكمة. كلّ الخوف أن نعيد إنتاج دكتاتورية بطريقة جديدة تستمر خمسين عامًا آخراً”.

يتابع محمد: “ليس هناك معايير واضحة لمن يدخل في تركيبة السلطة الجديدة بحكم أنّ هذه السلطة طارئة بالأصل على مشهد إدارة دولة بكاملها بعد أن كانت تحكم منطقة صغيرة (إدلب) ذات لون واحد اجتماعيًا إلى حد كبير، شاهدنا عشرات الأشخاص ممن كانوا منتفعين من النظام السابق باتوا يتصدرون خطاب المرحلة الجديدة، ومنهم ليس رجال دين فقط بل موظفين في اتحادات نقابية وبعثيون سابقون، هذا التبدّل السريع يثير الشكوك حول نواياهم وقدرتهم على تمثيل مصالح المجتمع العلوي بشكل حقيقي”.

هناك أيضًا من يرفض التعاون مع النظام الجديد لأسباب تتعلّق بالذاكرة الجماعية للجماعة. يتابع المهندس محمد: “وصل النظام الجديد إلى الحكم بالصدفة لقيادة البلاد وبنفس الوقت كان مصنّفًا ولا زال على قائمة الإرهاب الدولية وأولهم (القائد) أحمد الشرع. وقد نال العلويون منهم عدداً من المجازر المعروفة. إن ذكرى أحداث عدرا العمالية وسجن التوبة لا تزال حاضرة في الأذهان، مما يرفع منسوب القلق من أن يتكرّر التاريخ مع وصول سيارات الهيئة بسهولة إلى كل المناطق العلوية”.

تظهر الوقائع اليومية حدوث عشرات الانتهاكات، جرائم القتل على امتداد المنطقة. وفيما يتهم الحكم الجديد “فلول النظام وأذناب إيران” وعصابات مسلّحة، وتشير إلى محاولات الهيئة والأمن العام ضبط هذه الحالات، فإنّ مخاوف الأهالي تتصاعد يومًا إثر آخر. وفي محاولة لضبط ما يمكن ضبطه عمدت قرى وحارات في المدن إلى تشكيل لجان شعبية لحماية قراها وحاراتها من هذه التعديات. ولكن هناك مشكلة كما يقول جعفر حلوم لسوريا ما انحكت، وهو طالب جامعي من حي “الرمل الشمالي” في اللاذقية تتمثل في أنّ “الدوريات التابعة للهيئة لا تتعاون معنا في إثبات أنها دوريات تابعة للهيئة. ما يحصل أنّ هناك من يرتدي الزي الرسمي للهيئة والأمن العام مع لبس لثام للوجوه، يحضر هؤلاء إلى الحارات بحجة التفتيش ليلًا دون وثيقة رسمية أو دون التعاون مع الفاعلين الاجتماعيين مثل المخاتير أو اللجان. حصلت عدّة إشكالات كان من الممكن تلافيها لو كان مع هؤلاء ثبوتيات رسمية بمهمتهم. يبدو أننا عدنا لزمن زوّار الفجر مرّة أخرى”.

لا ينس جعفر التأكيد على اختلاف تعاطي دوريات الهيئة مع الناس. “بعض هذه الدوريات مهذبة جدًا وعلى درجة عالية من التعاطي الحضاري، ولكن هناك دوريات أخرى تقوم باستفزاز الناس عبر سؤالهم عن طوائفهم وعملهم في الجيش وغير ذلك، هذا مفهوم في إطار أنّ الهيئة تضم أجناسًا متعدّدة ومنها أجنبية لا تعرف طبيعة المجتمع السوري”.

شبح الجوع

إلى ذلك، تعاني المناطق العلوية، مثل كثير من غيرها من المناطق السورية من نقص حاد في الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه والرواتب التي لم تُصرف حتى الآن للعسكريين السابقين والموظفين غير المتقاعدين، وهذا ما يسهم في تفاقم أزمات السوريين ككل والعلويين المنتشرين في الجبال بشكل خاص لغياب أيّ بدائل وما هو موجود منها تم استنزافه على مدار العقد الماضي. يقول علي ياسين لسوريا ما انحكت، وهو شاب تخرّج حديثاً من كلية الهندسة بجامعة اللاذقية (تشرين سابقاً): “هناك توتر اقتصادي ناتج عن ارتفاع أسعار المواد الأساسية مثل الخبز التي وصل سعر الربطة المكونة من 12 رغيف إلى خمسة آلاف ليرة سورية (ثلث دولار) في وقت لم يقبض الناس فيه رواتبهم البالغة عشرين دولاراً. تحتاج العائلة المتوسطة شهرياً إلى عشر دولارات خبز فقط. وغاز (تكلفة الجرة حالياً 250 ألف فأكثر) وهذا يعني أنّ تحرير الأسعار هذا سيقود إلى جوع أكيد لدى من ليس لديهم مصادر دخل غير رواتب الدولة وهم غالبية أهل الجبل”.

يضيف علي إنّ ارتفاع أجور النقل الكبير جعل من المستحيل على العائلات إرسال أولادها إلى المدارس والجامعات. “أجرة النقل بين قريتي ـ بستان الحمام ـ وبانياس بلغت 16 ألف ليرة (دولار واحد) (عشرة كيلومترات فقط) أي أنّ أي طالب يحتاج على الأقل خمسين ألف ليرة يومياً وهو أمر يستحيل لأي عائلة تدبره”.

إلى ذلك تسبّب انهيار النظام الأسدي في تعطل كلّ أنواع الحركة الاقتصادية في الجبال المرتبطة بالزراعة، ومنها التبغ الذي يشكّل مصدر دخل رئيسي للعائلات الجبلية. يقول قيس الابراهيم، ومزارع من ريف بانياس: “لم تستلم منا الريجي هذه السنة محصول التبغ بشكل كامل، ومن استلمت منه الريجي لم يدفع له كامل حقوقه. هذا تسبّب في زيادة عرض كميات التبغ العربي في السوق المحلي وانخفاض أسعاره بشكل كبير، إضافة إلى غياب التجار من المناطق الأخرى مثل حماة.. يسري هذا أيضًا على منتجي زيت الزيتون والحبوب”. هذه التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها المجتمعات العلوية تضيف طبقة جديدة من التعقيد إلى الوضع. فمع تدهور الأوضاع الاقتصادية، يجد الكثيرون أنفسهم في مواجهة صعوبات معيشية متزايدة، مما يزيد من مشاعر الإحباط واليأس ويزيد كذلك احتمال التدخل الخارجي ضمن هذه البيئات.

سلامة كيلة: العلوية السياسية خزعبلة وليس مصطلحاً سياسياً

يقول علي محمد (اسم مستعار) وهو طالب ضابط في الكلية الحربية بحمص أجرى تسوية في مركز تسوية مدينة جبلة: “مثل غيري نزلت منذ الرابعة صباحًا إلى المركز لأفاجئ أن هناك مئات غيري في الانتظار. في البداية أدخلونا وسألونا عدّة أسئلة فيما إذا كنا قد شاركنا في الأعمال القتالية. أخبرناهم أننا كنا طلابًا في الكليات العسكرية. صوّرونا بطريقة المساجين. ثم تركونا بعد أن أخذوا المعلومات التي يُفترض أنها موجودة لديهم في سجلات الكليات العسكرية”.

يضيف علي: “قضيت ثلاث سنوات وتخرجت من الكلية. عليّ الآن أن أعود لنقطة الصفر في حياتي وهناك المئات غيري. لماذا لا نضاف إلى قوى الجيش الجديدة؟ هل من المعقول أن يكون المحارب المنتمي إلى تنظيم مسلّح له الأولوية في الانتماء إلى جيش وطني، أو أن يتم تفضيل أجنبي علينا نحن أبناء الوطن؟ حتى الآن نعتقد أنه لن يتم التواصل معنا من جديد وسنُترك لمصيرنا”.

حالة علي هي حالة من مئات الحالات التي قام فيها أفراد ضباط وصف ضباط من الجيش السوري السابق بتسليم أنفسهم إلى عناصر الأمن العام أو الهيئة دون التعرّض لهم أو أذيتهم أو شتمهم. بالمقابل هناك حالات مختلفة يمكن اعتبارها فردية تتبع للمركز المعني بحدوث حالات شتم وتعنيف لفظي وطائفي.  إن التحولات الاجتماعية والسياسية التي شهدتها البلاد تثير تساؤلات حول كيفية إعادة بناء الثقة بين المجتمعات المختلفة وكيفية التعامل مع الماضي المؤلم.

وتشير الشائعات المحلية إلى أن الضباط الكبار الذين شاركوا في المعارك القتالية، قد هربوا إلى روسيا، عبر مطار حميميم. وكانت من الحوادث البارزة، تلك التي تسبّبت بمقتل أفراد من الهيئة ومن المدنيين، فقد أدى مقتل مدني في قرية “خربة المعزة” إلى الاصطدام مع الأهالي بعد محاولة دورية تابعة للهيئة اعتقال محمد حسن كنجو وهو النائب العام العسكري بالمحكمة الميدانية العسكرية والمسؤول عن مقتل مئات المعتقلين في سجن صيدنايا وغيره.

ظهور دور رجال الدين العلويين بوضوح

على مدار سنوات حكمه، لم يمنع النظام السابق العلويين من ممارسة شعائرهم أو طقوسهم الدينية، بل عمل على إعادة ترتيب الأولويات الاجتماعية والسياسية. حيث تحولت الفكرة القومية العربية ونظريات العروبة إلى مرجعيات أساسية في الحياة اليومية، مما جعل التدين يحتل مرتبة ثانوية في المجال التداولي للجماعة العلوية. وقد ساهمت هذه الديناميكية في تعزيز الهيكلية الحزبية لحزب البعث، مما أدى إلى تهميش دور المؤسسات الدينية والفاعلين الاجتماعيين العلويين.

يشرح سامر العلي، وهو ناشط مدني مقيم في دمشق ذلك قائلًا: “تحول دور رجال الدين في هذه الفترة إلى دور تابع وارتزاقي من السلطة، حيث أصبحوا يعتمدون على النظام في تأمين مصالحهم، وبهذا فقدوا استقلالهم. كما أن إنتاج رجل الدين بالمعنى الحقيقي في المجتمع العلوي قد توقف، ليحل محله شريحة من منتسبي الجيش المسرّحين الذين وجدوا أنفسهم في مواقع دينية دون أن يكون لديهم التأهيل أو المعرفة اللازمة. هذا التحول أدى إلى تفكيك البنية التقليدية للسلطة الدينية، مما أضعف من تأثير رجال الدين في المجتمع وأدى إلى تغييرات في الأدوار الاجتماعية والسياسية ضمن الجماعة العلوية”.

يقول أحمد محمد (23 عامًا) وهو ناشط مجتمعي من مدينة جبلة في حديث مع سوريا ما انحكت: “مع سقوط النظام انفتحت الأبواب المغلقة للمجتمعات المحلية وظهر رجال الدين العلويين كلاعبين رئيسيين متوقعين في هذه المجتمعات نظراً لدورهم القديم في تقديم الإيمان الديني لأبناء الطائفة الذكور. أدى هذا الظهور بالضرورة إلى إثارة مخاوف من اتساع التحكم الديني في بيئة منفتحة بالأصل على الحياة ومخاوف من استخدام التدين العلوي كأداة ضمن الصراع السوري المستمر بأشكال مختلفة”.

أصدرت الطائفة عدداً من البيانات غداة سقوط الأسد. كان واضحًا فيها التناقضات بين بيان وآخر. ولم تظهر أسماء الموقعين في قسم منها، وهو ما أوقع الناس في حيرة من أمرهم، عن ماهية تلك الجهات. عندما تواصل سوريا ما انحكت مع عدد من رجال الدين، تبين لها أنّ الأهداف كانت في الأساس نبيلة، وأن “إصدار عفو عام”، كانت من ضمن الأفكار المقترحة، التي لم يتم الاتفاق بشأنها.

يقول الدكتور محمد الخيّر، وهو من مجموعة واسعة تعمل على تأسيس مجلس إسلامي علوي أعلى (قيد الإنجاز) معلقًا على هذا الشأن: “إن الهدف من تأسيس هذا المجلس هو إعادة إحياء الهوية الدينية للعلويين وتعزيز دورهم في المجتمع، بعيداً عن الهيمنة السياسية التي فرضها النظام السابق. نحن نؤمن بأن الدين يجب أن يكون عاملًا موحدًا وليس مفرقًا، وأن يكون هناك مساحة للتعبير عن المعتقدات بشكل حر ومنفتح. نحن ندرك تماماً المخاوف التي قد تثار حول استخدام الدين كوسيلة للسيطرة أو كأداة في الصراع القائم، ولكننا نعمل على التأكيد على أن يكون الدين مصدرًا للسلام والتسامح، وليس أداة للصراع. لذا، نحن نسعى إلى تشكيل مجلس يمثل جميع الأطياف العلوية، ويكون قادرًا على الحوار مع باقي المكونات السورية”.

يضيف “الخيّر” الذي كان جده “محسن” قاضي قضاة العلوية في الخمسينيات: “نحن نعيش في مرحلة حساسة تتطلب منا جميعًا أن نكون حذرين ونبني على أسس من التفاهم والاحترام المتبادل. إن إعادة بناء الثقة بين أبناء الطائفة وبين المجتمع السوري ككل هو أمر بالغ الأهمية. نحن بحاجة إلى إيجاد قنوات للتواصل مع الآخرين، وإظهار أن لدينا رؤية لمستقبل مشترك يمكن أن يتسع للجميع. ونتمنى أن نتمكن من تجاوز التحديات التي تواجهنا وأن نكون جزءاً من الحل في سوريا الجديدة.”

خوف التدخلات الدولية

وسط ما سبق من أوضاع، فإنّ هناك تخوّفات أخرى بحدوث تدخل دولي في مناطق الساحل السوري، فيما لو ذهبت العلاقة مع قوى الأمر الواقع الجديدة في دمشق باتجاه سيء، ناتج بشكل أساسي من عدم شفافية الهيئة في العديد من المواضيع المرتبطة بالطائفة العلوية وأولها ما يتعلّق بمصير عناصر الجيش السوري المنحل أو إذا نجحت بقايا النظام السابق في اجتذاب مؤيدين لها، بسبب تقاعس الهيئة بالتحرك سريعًا نحو مختلف السوريين، وليس فقط الجماعة العلوية.

يشير ضابط سابق في الجيش السوري (فضّل عدم ذكر الاسم) في حديث مع سوريا ما انحكت إلى أنّه ” كان هناك ما يقرب من نصف مليون عسكري من مختلف الطوائف السورية في الجيش، من ضباط وأفراد وقادة، بعضهم شارك في المعارك التي جرت في السنوات الماضية وعملوا كجيش وطني، حارب الإرهاب الذي لم ينزل عن كتف من هم اليوم بالصدفة في قيادة البلاد. وفي حال لم يتم إجراء إعادة لهؤلاء للجيش ـ على الأقل من لم تتلطخ أيديهم بدماء السوريين وفق معايير محددة وشفافة وعالية الدقة ـ فإنّ هذا قد يفتح الباب نحو الاستثمار في هذه الخبرات من قبل الخارج التركي أو الإيراني أو غيرهم، لسبب بسيط هو الجوع الي سيضربهم مع توقف رواتبهم المتواضعة أصلًا”.

يضيف الضابط، وهو من سلاح المدفعية البحرية: “إن سكوت النظام الجديد عن تصرفات العدو الصهيوني بهذا الشكل المذل يجعل الكثيرين مشككين في الموقف الوطني للنظام الجديد، الذي هو أصلًا ترتيبة دولية تهدف لمسح الفاعلية السورية في المنطقة وتحويل البلاد إلى مسخ يتوافق مع تطلعات العدو، لذلك فإنّ الذهاب باتجاه تشاركية وطنية تعددية سيكون مخرجًا مناسبًا للعهد الجديد من تبعية الارتهان للخارج”.

عدا عن هذا فإنّ هناك محاولات تركية جادة باتجاه جذب الطائفة العلوية إلى مدارها. في الأسبوع الثالث من سقوط النظام حضر وفد تركي من ولاية أنطاكيا إلى اللاذقية والتقى عددًا من رجال الطائفة ممن ينتمون إلى تيارات دينية وغير دينية بهدف جسّ النبض العلوي تجاه تصوّرات تركية تتعلّق بالساحل السوري وربما بنيّة ضمه إلى تركيا أو العمل ضمن السياسة التركية الناعمة لدفع العلويين لطلب الحماية التركية.

بالمثل، هناك كذلك تيارات علوية تميل نحو مثل هذه التوجهات الدولية، وسط قلق كبير من قضية “التصرفات الفردية” التي تستمر وتكون حصيلتها مقتل أفراد من الطائفة لا ذنب لهم ولا علاقة لهم بالنظام السابق. ورغم اتهام الهيئة لفلول النظام وعصابات مسلحة بهذه التصرفات، فإن مسؤولية الأمن والأمان تقع على عاتق الهيئة، التي عليها بذات الوقت العمل مع المجتمع المحلي على ضبط هذه الحالات.

عودة أجهزة الدولة من شرطة وقضاء هي المهمة العاجلة التي يجب إيلائها الأهمية القصوى، بدل إشغال الناس بتعديلات المناهج الدراسية السابقة مثلًا، يرى من التقاهم سوريا ما انحكت.

جكاية ما انحكت

—————————

كم خالة تملك اليوم أيها السوري الحزين؟/ علي م. العجيل

09-يناير-2025

عاش السوريون طوال حكم آل الأسد، بسبب قسوة ووحشية هذه العائلة، في رعب وخوف دائمين. وكان مجرد الكلام عن أي شيء بسيط من الممكن أن يؤدي بقائله إلى التهلكة فصار السوريون يخترعون الكثير من المصطلحات والكلمات اللطيفة التي تشير إلى معان مختلفة عن معناها، حتى إلى الأماكن والشخصيات والأسماء التي تعني الموت حرفيًا.

على سبيل المثال، تجد أن مواطنًا ما قد شاهد فعلًا مهينًا أو مشينًا من شرطي مرور، فقرر الكتابة على مواقع التواصل الاجتماعي عما شاهده بالطريقة التالية: “شاهدت وأنا أمشي في شوارع الموزمبيق، شرطي مرور من الموزمبيق يقوم بكذا وكذا..”.

إنها أسماء ومصطلحات كثيرة للدلالة على الكثير من الأمور الحياتية البسيطة جداً، في أي مكان آخر خارج “سوريا الأسد”.

الشوئسمو والنعنع أو البقدونس

من الأشياء المضحكة من زاوية ما، والقمعية جدًا في أيام حكم الأسد، أن تداول العملات الأجنبية أو مجرد لفظ اسمها كان ممنوعًا على السوريين، وكان التداول بهذه العملات يعرض صاحبه للسجن لسنوات، وحتى للتعذيب.

وبما أن النظام نفسه كان يتعامل ويحاسب السوريين بالدولار وكي لا يقعون في المشاكل والمتاعب، اخترع السوريون أسماء كثيرة للإشارة إلى هذه العملة دون أن ينطقوها بشكل رسمي، فصار اسمها “النعنع” أحيانًا، وأحيانًا “الشوئسمو أو البقدونس”، وكان السوري إذا ما استغرب ارتفاع سعر منتج ما، يسأل البائع “ليش بقديش النعنع اليوم؟”، ويقصد ما سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار!

وهكذا تسبب هذا الفعل بخسارة الكثير من السوريين لجهلهم بسبب خوفهم بسعر صرفه مقابل الليرة السورية، وتحكم “أصحاب الواسطات والمحسوبيات” بهم، إذا ما قرروا شراء سيارة أو بيت مثلًا أو بيعهما.

بيت الخالة

كانت كلمات مثل “السجن” أو “المعتقل” قليلة الاستخدام بين السوريين، فقد أبدلوها تجنبًا لذكرها أمام الناس وخوفًا من عناصر أجهزة الأمن والمخبرين، وتخفيفًا لقسوة كلمات أخرى مثل “وراء الشمس” أو “تحت سابع أرض” التي أثبتت صور المعتقلات التي انتشرت بعد السقوط وقصص وتجارب معتقليها في وسائل الإعلام صحتها، بمصطلح “بيت الخالة”.

وكان السوريون حينما يعتقل أحد الأشخاص يقولون عند سؤال قريب أو صديق ما عنه، ذهب إلى بيت خالته أو “صار ببيت خالتو”، وكانوا أيضًا إذا ما حاول أحد ما الكلام عن أي شيء أو انتقاد أي شيء بسيط يخص الحكومة يسارعون إلى إسكاته والتلفت يمينًا ويسارًا أو النظر عبر النافذة، إن كان هناك نافذة، والقول “أسكت فالحيطان إلها آذان”، ويقصدون بها المخابرات، وسؤال “هل اشتقت لخالتك يعني؟” أو “بدك تزور بيت خالتك؟”، وصار الأمر شائعًا جدًا، ومحل تندر أحيانًا، وفي أحيان كثيرة فعل قمع.

أما بيت الخالة السوري فقد كان، وعلى عكس كل بيوت الخالات الأخريات، المعروفة بالحب والحنية والدفء والألفة والاستقبال اللطيف، مسلخًا بشريًا بكل ما تحمله الكلمة من قسوة ورعب ورائحة دماء، خصوصًا إذا ما كان المعتقل سياسيًا، والاستقبال أبعد مما يكون عن اللطف.

خطو حلو

لا يعرف السوريون لون الباص الذي يقلهم وأصدقائهم وأقاربهم إلى “بيت الخالة” أو شكله أو اسم سائقه، لكنهم يعرفون تقريبًا قاطع التذاكر، أو يعرفون على الأقل أن هناك قاطع تذاكر ما.

مثله مثل أي دكتاتور يخاف أن تخرج أية كلمة بسيطة أو صرخة أو وقفة من فم ما وتؤثر على حكمه، ويحاول دائمًا قمع مصدرها، ومعرفة موقع وساعة حدوثها، قبل حدوثها، عيّن الأسد الأب، ومن بعده الابن، عناصر عسكريين أحيانًا، وفي أحيان أخرى مدنيين، لملاحقة ومراقبة الناس وكتابة ما يعرف بالتقارير الأمنية، ولأن السوريين اعتادوا أن يسموا الأشياء بغير مسمياتها، كانوا يشيرون إلى كاتبي التقارير هذه أو قاطعي التذاكر  بـ”أصحاب الخط الحلو”.

وقام أصحاب الخط الحلو، الذين قتلوا عشرات وربما مئات الآلاف من أبناء الشعب، وإن لم يقتلوهم بيديهم، بإرسال الكثير من الأبرياء إلى السجون بتهم واهية لا تستند إلى دليل قانوني. تهم كان الكثير منها “كيدية”، أي أنها تعود لخلافات شخصية لا علاقة لها بالسياسة ولا بغيرها.

ولكثرتهم، وخطورة الكلام أمامهم، عاش السوريون ولمدة طويلة جدًا في خوف وشك دائمين، ووصل الحال بهم، أن الأخ صار يشك بأخيه، والجار بجاره، والصديق بصديق عمره، ويخاف أن يكون خط أي أحد، أي أحد حرفيًا “حلو”.

الباص الأخضر

أصبحت الباصات الخضراء التي كانت مثلها مثل أي باصات أخرى تقل المواطنين في سوريا، ومنذ بدايات الثورة السورية، وعلى عكس ما يرمز إليه أي باص، رمزًا للتهجير القسري لعشرات الآلاف من السوريين من مناطقهم، وأيضًا التغيير الديموغرافي في البلد.

استخدم النظام الساقط الباصات الخضراء للمرة الأولى عام 2014 في تهجير السكان والمقاتلين المحاصرين من أحياء حمص القديمة إلى ريف حمص الشمالي، ثم استُخدمت مرة ثانية عام 2015 لتهجير السكان والمقاتلين من حي الوعر في حمص إلى ريف إدلب، ثم بعد ذلك داريا والمعضمية والتل وقدسيا والهامة وخان الشيح في ريف دمشق في عام 2016. وصارت منذ ذلك الوقت، رمزًا حرفيًا للتهجير، وصار النظام الساقط وأعوانه وإعلاميّيه يشيرون إليها كمحاولة للترهيب.

وفي نهاية العام 2016، قام النظام بإخراج الأهالي والمقاتلين من أحياء حلب الشرقية إلى ريف حلب الغربي ومحافظة إدلب بالباصات الخضراء أيضًا، المقاتلين أنفسهم الذين، ولسخرية القدر أو عدله، عادوا قبل شهر وأسقطوه.

الترا صوت

————————————

“المظلومية” أزمة الأقلية والأكثرية في سوريا/ رحيم حيدر

09-يناير-2025

كثيرًا ما تثير الدعوات الخارجية والداخلية إلى حماية الأقليات في سوريا حفيظة طيف واسع من السوريين، ويبرر هؤلاء اعتراضهم، بأن الأقليات العرقية والدينية تتلقى الاهتمام الخارجي بينما الأكثرية السنية، لم تحظَ بهذا الاهتمام عندما تعرضت مناطق الأكثرية للقصف والدمار والتهجير والاعتقالات خلال سنوات الثورة السورية، وما تبعها من حرب طاحنة. فيما يعتبر آخرون أن التأكيد على حماية الأقليات، ما هو إلا توظيف سياسي يهدف إلى شرعنة التدخلات السياسية، وسط وجود أطراف إقليمية ودولية تريد استغلال هذا الملف لتجد لها موطئ قدم في سوريا الجديدة، أو تريد إشاعة الفوضى وإفشال التجربة السياسية الوليدة مثل إيران وروسيا وغيرها.

وتعود فكرة حماية الأقليات في منطقتنا إلى منتصف القرن التاسع عشر خلال فترات ضعف الإمبراطورية العثمانية، وكان الاهتمام الأول للأوروبيين يتمثّل في “حماية” الطوائف غير المسلمة في الشرق، حماية الكاثوليك بالنسبة إلى الفرنسيين، وحماية الأرثوذوكس بالنسبة إلى الروس. وما زالت محاولات التدخل بهدف حماية الأقليات.

لكن ما ذكر سابقًا، لا يعفِي من واجب التساؤل، ما إذا كانت الأقليات تحتاج فعلًا إلى حماية وتطمينات من نوع ما؟ إن الإجابة على هذا السؤال والتعامل معه بجدية تُمثل أحد المفاتيح المهمة لاستقرار البلاد في المستقبل، لأن مسألة الأقليات في سوريا، ذات التنوع العرقي والطائفي والطبقي، تمثل عاملًا مؤثرًا على تشكيل النظام السياسي وطبيعة الدولة.

على سبيل المثال تشير العديد من المعطيات إلى أن القلق التركي من تزايد قوة الأقلية الكردية في سوريا كانت دافعًا رئيسيًا وراء انخراط أنقرة في الشأن السوري، وصولًا إلى دعم هيئة تحرير الشام، الذي أدى في النهاية، وبمساعدة عوامل أخرى، إلى إسقاط النظام السوري، الذي اعتمد هو الآخر على استغلال مظلومية الطائفة العلوية، وارتكز على دعمها لمحاربة “الأعداء الداخليين”، وهذا ما خلق نوع من المظلومية السنية، لكن هذه المظلومية ليست وليدة الثورة السورية، فقد كان يتم الحديث عنها في الأوساط السُنية، منذ أن بدأ نظام الأسد الأب في عام 1970 مشروعه في “عَلوَنة” الدولة والسيطرة على المفاصل الأساسية فيها.

بالمقابل فإن الشعور بالظلم لدى الأقليات السورية قد تراكم على مدى سنوات طويلة. علمًا أن هناك فرقًا بين التعرض الحقيقي للاضطهاد وبين الإحساس بالاضطهاد، أحيانًا قد تكون القلة العددية وحدها كافية لتنمية شعور بالتهديد الدائم وانعدام الثقة بالمحيط المختلف، وليس من الحكمة اليوم أن نتجاهل التاريخ الذي يؤكد وقوع الكثير من حالات الاضطهاد الاجتماعي والطبقي والديني والقومي بين أبناء الطوائف والتجمعات المختلفة، وهذا ما يفسر حقيقة أن أغلب الأقليات السورية، وخاصة المسلمة منها، تتركز في المناطق الجبلية الوعرة لما يوفر ذلك من حماية طبيعية، بعكس الحياة في المدن أو المناطق السهلية المكشوفة.

هذا الإحساس بالمظلومية لدى الطوائف والأقليات الدينية والعرقية، يحمل أيضًا بعدًا وظيفيًا يتمثل بالحفاظ على التماسك بين مكونات الطائفة الواحدة، والمساهمة أيضًا في استمرار وجودها، وخلق نوع من وحدة المصير بين أبنائها، ويتزايد هذا الشعور بشكل عكسي مع تناقص إحساس المواطنة والمساواة.

تكمن خطورة الحالة السورية اليوم في أن أغلب الطوائف تشعر بأنها ظلمت، إن كان في التاريخ الحديث أو عبر موروث عززته آليات دفاعية للحفاظ على التماسك والاستمرارية. وبالمحصلة فإن الشعور بالمظلومية أصبح وكأنه العامل الرئيسي المشترك بين جميع مكونات الشعب بغض النظر عن الأقلية والأكثرية والفترة الزمنية التي وقعت فيها هذه المظلوميات.

هذا الشعور العام لدى المكونات السورية، يجعل أبناء الطوائف المختلفة، يقعون ضحية آلية نفسية معروفة باسم “التحيّز التوكيدي”، والتي تتمثل في رؤية وتفضيل الأدلة التي تؤكد صحة اعتقاد أصحابها وعدم القدرة على إدراك المعلومات التي لا تتوافق معها، فمثلًا لا يرون أو لا يريدون أن يروا عشرات الآلاف من المعارضين وآلاف المعتقلين وعشرات الشهداء تحت التعذيب من أبناء الأقليات، بالمقابل فإن العديد من أبناء الأقليات قد تبنوا وجهة نظر النظام السوري البائد، حول سردية شيطنة الثورة وأجندة التخويف من الإسلاميين.

مع سقوط النظام، أبدت جميع الأقليات رغبتها في التعاون مع الإدارة السورية الجديدة، التي بثت بدورها تطمينات إلى الحرص على التعايش المشترك واحترام التنوع، وركز بيان صادر عن الطائفة العلوية على أن النظام السابق: “لم يكن أبدًا نظام (الطائفة العلوية)، إنما كان نظامًا يضم بين أركانه من كل مكونات الشعب السوري، و قد وزع ظلمه و بطشه على الجميع، و قد عانت الطائفة العلوية منه أكثر من غيرها إقصاءً و ظلمًا و إفقارًا، و نحن كملتقى يمثل عموم هذه الطائفة نبرأ من إجرام هذا النظام بحق كل مكونات الشعب السوري”.

على الرغم من ذلك، فإن بعض الممارسات على الأرض أدت إلى إثارة المخاوف لدى الأقليات، مثل إحراق شجرة عيد الميلاد في ساحة مدينة السقيلبية، ذات الأغلبية المسيحية في ريف حماة.. وغيرها.

بعض هذه التصرفات جاء نتيجة طبيعية للفوضى، لكن بعضها جاء نتيجة قرارات سياسية، ففي الحالة العلوية لم تراع الإدارة الجديدة خطورة الأوضاع عند الاحتكاك بين مقاتلي الفصائل والأهالي، حينما أرسلت عناصرها إلى القرى العلوية بهدف جلب المطلوبين، الأمر الذي أدى إلى حدوث العديد من التجاوزات والأعمال الانتقامية، التي كان من الممكن تجاوزها من خلال إشراك أبناء المنطقة أنفسهم في تنفيذ الاعتقالات.

وتبدو الأوضاع أكثر قتامة بما يخص خلافات الإدارة الذاتية الكردية والإدارة الجديدة في دمشق، وذلك بسبب تعدد الأطراف الفاعلة كالولايات المتحدة وتركيا وروسيا وإيران والنزعة القومية الكردية الواضحة.

ولا يبدو أن مخاوف الأقليات بمختلف تنوعاتها، تأتي من كون الإدارة الحالية تمثل طائفة الأكثرية، لكنها  تتولد بشكل أساسي من طبيعة الإدارة الجديدة، التي تملك سجلًا حافلًا بالعنف والأفكار الجهادية المتطرفة، والتي لا يمكن نسيانها أو تجاهلها بسهولة، وينطبق ذلك حتى على أبناء الطائفة السنية، وخاصة في المدن الكبرى وبعض الأرياف القريبة منها، والذين يجدون أنفسهم أمام نوع مختلف من الممارسات الدينية والإجتماعية عن تلك التي تعودوا عليها لسنوات.

لكن على الرغم مما سبق، يمثل سقوط النظام السوري تغييرًا كبيرًا على المستوى السياسي والاجتماعي السوري، ويشكل فرصة نادرة لحل مشكلة الأقلية والأكثرية وكسر حلقة المظلوميات المتراكمة، وقطع الطريق على التدخلات الخارجية بحجة حماية الأقليات، عبر جملة من الممارسات و التطمينات المتبادلة، أي أن هذه التطمينات لا تقتصر على الأكثرية وحدها، وإنما على الأقليات أيضًا، من خلال التواصل مع الإدارة الجديدة والتنسيق معها في إدارة مناطقهم.

 بحسب نظرية جوردون ويلارد، وهو عالم نفس أمريكي، يساهم التواصل والاحتكاك الفعّال بين مختلف الجماعات، العرقية والقومية والدينية، في تخفيف حدة القوالب النمطية والاعتقادات الخاطئة ويساعد على تغييرها، ويزيد التقارب والتفاعل من المشاعر الإيجابية، ويقللان بوضوح من مقدار الكراهية والنفور والتمييز بينها، بشرط أن يكون الاتصال وثيقًا، وليس شكليًا أو يقتصر على التواجد في حيز مكاني واحد، بل يجب أن يدخل فيه أفراد الجماعات المختلفة في تفاعل اجتماعي وثيق.

كما يجب أن  يتصف هذا الاتصال بالتعاون المتبادل، أي العمل معًا من أجل تحقيق أهداف مشتركة، بحيث تكمل جهودهم بعضهم البعض في المساهمة لتحقيق هذه الأهداف. وأخيرًا  يجب أن يكون الاتصال بين أشخاص ذوي مكانة اجتماعية متساوية، وإلا فقد تنشأ مشاعر سلبية إذا ما كانت المكانة التقليدية بين الأشخاص غير متوازنة.

يلعب التعليم دورًا مهمًا وفعالًا في تكوين وعي جمعي رافض للتمييز الديني والعرقي، من خلال الابتعاد عن تلقين الشعارات والأيديولوجيات الجاهزة، واستبعاد الأفكار الإقصائية المتطرفة من المناهج الدراسية بما يحترم عقول الطلاب ومراحلهم العمرية، واستخدام المناهج التعليمية للتعريف بالآخر وبتاريخه ومعتقداته التي يؤمن بها حقيقة، ونفي ما يتم تداوله من شائعات ومعلومات مغلوطة.

إن إعلاء الانتماء الوطني والمساواة في الحقوق والواجبات واحترام كرامة الإنسان ومعتقداته.. هو الحل النهائي للمشكلة الطائفية في سوريا، من أجل الوصول لهذه النتائج المرغوبة، يمكن للشخصيات العابرة للطوائف والانتماءات من سياسيين وخبراء وعلماء وفنانين وكتاب وغيرهم، لعب دور محوري وأساسي في صياغة ملامح مشرقة للمرحلة القادمة في سوريا، لذلك فإن نية السلطات الحالية والمستقبلية في سوريا قد تبدو أكثر وضوحًا وفعالية، عند سماحها لتلك الشخصيات بالمشاركة السياسية والظهور في الفضاء العام.

بالمحصلة فإن النظر إلى المكونات الأقلوية في سوريا ككيانات منفصلة عن الأكثرية  تحتاج إلى حماية خارجية وضمانات، ليس هو الشعور المفضل بالنسبة لأبناء الأقليات، لأنه يبتعد بهم عن الحالة المثالية القائمة على المشاركة الفعالة في مختلف مجالات الحياة، ويجرف بهم إلى الغربة داخل الوطن، ويجعلهم ضحية للتنميط والتعميم والأحكام المسبقة والاتهامات بالخيانة والعمالة. أما الشيء المطلوب على المدى الطويل هو حماية الإنسان السوري كمواطن بغض النظر عن انتمائه وتوجهه الفكري.

———————–

العلويون كجمهور “ذي روح مشتركة” بناه الأسد الأب… ثم دمّره الابن وهرب/ أحمد حمزة أحمد

الجمعة 10 يناير 2025

من يدرس بدقة تاريخ العلويين في سوريا خلال القرن الأخير، يجد أنهم نادراً ما شكّلوا جمهوراً ذا “روح مشتركة”، كما يصف غوستاف لوبون، المجتمعات ذات الهوية المشتركة في كتابه “سيكولوجيا الجماهير”.

فمنذ أزيد من قرن مضى، حين دخلت فرنسا أرض الساحل السوري، انقسم العلويون بين من دعا إلى حمل السلاح، ومن هادن، ومن سعى بقوة إلى الدخول إلى الجهاز البيروقراطي الذي شكلته فرنسا المنتدبة. هذا الانقسام بدا جلياً مرةً أخرى عام 1936، بين من نادى بالوحدة السورية، ومن طالب بالاستقلال عن سوريا.

الأمر تكرر بُعيد الاستقلال عام 1946، ثم خلال فترة الانقلابات والحكم الديمقراطي. علويون كثر انتسبوا إلى الأحزاب التقليدية (الوطنية)، كبدوي الجبل، ومثلهم شارك أيضاً ضبّاط في الانقلابات العسكرية، بدءاً من انقلاب حسني الزعيم، كالعقيد علم الدين قواص. وحتى حين بدأت موجة الأحزاب الأيديولوجية تظهر في سوريا، وفي الساحل خاصةً، انقسموا مجدداً بين قومي سوري، وشيوعي، بما يحمله هذان الحزبان من تفريعات جانبية.

حزب البعث لم يدخل كحالة شعبية إلا متأخراً، وليس من باب قيادته التاريخية ذات البعد القومي العربي التقليدي التي وصلت فقط إلى المدن الكبرى كاللاذقية، بل من خلال الزعيم الكاريزمي أكرم حوراني، الذي أعطى اندماجه مع البعث، روحاً اشتراكيةً شعبيةً كانت محبّبةً إلى الفقراء من الفلاحين، ولا أدلّ على ذلك من انتشار اسم أكرم بين أبناء الفلاحين في ذاك الوقت.

بالمختصر، كان العلويون متفاعلين مع الحياة السياسية السورية دون أن يكونوا كتلةً صماء أو شبه صماء، تصبّ أصواتها لصالح هذا التوجه أو ذاك، برغم أن الحكم المركزي لطالما عاملهم من خلال الحصص والتعيينات كمجموعة واحدة، وهذا قد يكون مفهوماً في بلد وليد يحبو بصعوبة نحو الديمقراطية.

حتى مع الزعيم العربي الأكثر شعبيةً، جمال عبد الناصر، نظر البعض منهم إليه بعين الشك، ورآه البعض الأمل المرتجى. وكذلك خلال فترة الانفصال، فقد علا نجم اللواء عزيز عبد الكريم، وكاد يُرفع إلى رتبة فريق قائداً عاماً للجيش ووزيراً للدفاع، ثم تمّت مراضاته بوزارة الداخلية.

البعث

من المؤكد أن حزب البعث حين وصل إلى السلطة عام 1963، كان عدد منتسبيه بالمئات فقط، وحتماً شارك عدد من الضباط العلويين الشباب في ذلك الانقلاب، ثم عادوا وانقسموا مع غيرهم ضمن الحزب إلى اشتراكي وبراغماتي، ثم تهاوشوا على السلطة إلى أن ظفر بها الأقلّ كاريزما وحضوراً؛ حافظ الأسد.

دُعم حافظ الأسد بعيد وصوله إلى السلطة من أغلب الضباط السنّة الحانقين على تيار صلاح جديد، والذين وجدوا أنه اتخذ التوجهات التقليدية (المعادية للثورة والحزب)، لأبناء المدن الكبرى، خاصةً دمشق (الضبّاط الشوام)، ذريعةً لتسريحهم من الجيش، لصالح أبناء الريف عامةً، لا سيما أبناء الطوائف الصغيرة، خاصةً العلويين.

كذلك فعلت النخب الاقتصادية في الحواضر الكبرى، والتي أنهكتها القوانين والتشريعات الاشتراكية المتشددة، فضلاً عن رجال الدين السنّة الذين سرعان ما رحّب بعضهم بالأسد، كالمفتي كفتارو، وعبد الستار السيد، أول وزير للأوقاف، بصفته الرجل المعتدل البعيد عن صبيانية اليسار.

الأسد الأب

لم يكن وصول حافظ الأسد إلى الحكم طائفياً، بل على العكس، كان كرهاً للمنافس الذي فاحت منه روائح وبهلوانيات لم ترُق للطائفة الأم الكبرى في سوريا. وحتى هذه اللحظة، ومنذ بداية سبعينيات القرن الماضي، لا يمكن وصف العلويين بالجمهور ذي الهوية المميزة، بل تسبح فيه كل التيارات السياسية السورية؛ طبعاً باستثناء الإخوان المسلمين بطبيعة الحال.

غالباً لم يطّلع الأسد الأب، على كتاب “سيكولوجيا الجماهير” المترجم عام 1991. ربما سمع ملخصاً عنه من أحد مستشاريه أو مترجميه. فقد كان محاطاً بفريق من المستشارين الحاذقين، كمترجمه الخاص أسعد كامل الياس، صاحب ترجمة كتاب “سلام ما بعده سلام”، والدكتور جورج جبور وجبران كورية، عكس وريثه صاحب المستشارتين المشهود لهما بقلّة الحيلة والثقافة. وطبعاً ليس من الضروري أن يكون الأسد قد سمع به، فأستاذ علم نفس الجماهير، برأي الكاتب، كان شخصاً وُلد ومات قبل نشر الكتاب -يقصد نابليون- والذي فهم سيكولوجيا الجماهير في لا وعيه. هذا الكتاب جعلت منه النازية والفاشية نبراساً يهتدى به، ما أساء إلى سمعة الكاتب والكتاب معاً.

تشكيل جمهور “ذي روح مشتركة”

من المؤكد أنّ الأسد الأب، حاول جرّ العلويين إلى صفّه، مستعملاً العصا والجزرة؛ الجزرة هي الحاجة إلى الوظائف والمال للعيش، فقد حرص على جرّ أعداد كبيرة منهم إلى الجيش وإسكان أغلبية المتطوعين قريباً منه في العاصمة لحمايته، مع كل ما سيجرّه ذلك عليهم من حلاوة السلطة والفساد في نظام يعتمد الولاء مقياساً رئيساً للترقي.

لذلك، وعلى طول مدة حكمه الطويلة، حرص على منع أي استغناء حقيقي لأبناء الساحل عن الدولة، خاصةً الجيش، مستغلّاً فقرهم وعدم وجود نخب اقتصادية حقيقية في الساحل قادرة على ابتلاع طلبات العمل المتزايدة. حتى في الزراعة، عومل فلاح الساحل بإهمال شديد فلم تُبنَ معامل صناعات_ غذائية تستفيد من زراعات الساحل، كالتبغ والحمضيات والزيتون.

أما العصا، فقد كانت عصوَين لا عصا واحدة؛ الأولى عصاه المباشرة، أي أجهزة الأمن والقمع المسلطة على جميع السوريين، والثانية، وهي خاصة بالعلويين وربما تمتد إلى الطوائف الصغيرة الأخرى وصولاً إلى علمانيي المدن، عصا التخويف من الإسلام السياسي، مستخدماً الموروث الشعبي، ونشر الشائعات الاستخباراتية، وطبعاً أخطاءً بل خطايا أعدائه في بعض الجرائم ذات البعد الطائفي كأحداث الثمانينيات.

يمكن القول إنه ومنذ أواخر السبعينيات، ومع تصاعد حركة الإخوان المسلمين، استطاع الأسد فعلاً، تشكيل مجتمع علوي يدور في فلكه، بكل مواصفات المجتمع ذي الروح الجماعية الذي تذوب فيه قدرة الفرد على التحليل المنطقي لصالح رؤية الجماعة محدودة التفكير، لكن القادرة دوماً على تقديم التضحيات بكرم لصالح المحرّك القائد لخيالها.

طبعاً مجتمع ذو روح مشتركة لا يعني عدم وجود أفراد كثر خارجه، بل على العكس دخل مثقفون علويون كثر سجون الأسد وبعضهم لم يخرج منها، والأمثلة أكثر من العدّ. لكن كما جميع البلدان القمعية لا يوجد رأي عام يصعد ويهبط بسرعة، بل مزاج عام ينزاح ببطء شديد وصعوبة، والأسباب واضحة؛ إلغاء الحياة السياسية والسيطرة على وسائل الإعلام، وطبعاً العصا لمن عصى.

حاول الأسد الأب، أن يقول: “أنا أبوكم… ربما أكون قاسياً وبخيلاً وأحياناً متوحشاً معكم، لكن عليكم تحمّلي؛ فإما أنا أو الفناء… فالطوفان من بعدي”. حتماً نجح في ذلك كنجاحه في حكم سوريا ديكتاتوراً يسعى إلى توريث ابنه. فقد بدت سوريا منذ التسعينيات مملكةً متوحشةً غير دستورية واضحة المعالم، فصوره وأصنامه وكذلك أسرته تملأ البلد، خاصةً بعد مقتل نجله الأكبر في حادث مريب.

لم يمتلك الأسد كاريزميات الخطابة كهتلر وناصر، ولا أيديولوجيا محببة شعبية، فالبعث كحركة شعبية حيوية مات يوم وصل هو –أي الأسد- إلى الحكم، بل ربما منذ أعلن الحزب حلّ نفسه عام 1958. الملايين الكثيرة التي دخلت الحزب في العقود الأخيرة، كانت بين باحث عن وظيفة أو متسلّق يعرف هدفه وفي أحسن الأحوال شخص يتحاشى السلطة. حاول الأسد ترقيع النقص في شخصيته وفي الأيديولوجيا البعثية مستخدماً القضية الفلسطينية، فهو الرئيس الذي لم يوقّع، ثم أخيراً مات مورثاً حكماً عضوضاً لنجله الثاني.

بشار الأسد

ورث الابن حكماً قوي الأركان في بلد مهترئ. عملياً خشي من أي تغيير حقيقي، فحافظ على أدوات الحكم القديمة. حاول أحياناً وضع مكياج -غالباً قبيح- دون أي مساس بجذور النظام الأمني. طبعاً إذا كان الأسد الأب تنقصه كاريزما القائد، فإن الوريث قدّم بإصرار نموذجاً رقيعاً للمتفلسف الذي يعرف كل شيء، من دون أن يكون بالضرورة يعرف أي شيء.

لكن للأمانة، عاشت الطائفة العلوية في السنوات العشر الأولى من حكم بشار فترةً ذهبيةً، فقد بدأت السيارات الرخيصة، خاصةً الكورية والصينية بالظهور في مناطقهم، وانتشر شراء وبناء البيوت والشقق، وتطور الوضع المعيشي بشكل واضح، وكل هذا يعود للتحسن المطّرد في الرواتب مع ثبات سعر الليرة مقابل الدولار. ازداد الفساد بحدّة مقارنةً بأيام الأب، لكن الوفرة المادية -لم تكن وفرةً بمعنى الغنى بل اليسر فقط- غطّت وكظمت الغيظ. كذلك تحسنت الكهرباء والخدمات في سوريا عموماً.

الأحاديث عن موجات الجفاف، وأحزمة الفقر المستجدة، كانت بعيدةً عنه. وهذا ما يفسر الحنين الدائم للعودة إلى ما قبل 2011، وكذلك الالتفاف الذي حظي به النظام عند بدء الثورة.

الثورة السورية

لحظة انطلاق الثورة السورية، وربما قبيل ذلك، ظهرت سمات “الروح المشتركة” بأشدّ درجاتها: نكران احتمالية انتقال التظاهرات إلى سورية، فالنظام قويّ جداً وغير عميل كما أُريد أن يُشاع.

بدأت حفلة الجنون حين انطلقت الثورة التي صاحبتها رواية السلطة، والقناعة بأن الأمر زوبعة في فنجان (نحن مو متل غيرنا). حالة الجنون الجماهرية ليست بالضرورة فعلاً سلبياً. فعل الثورة ضد نظام مجرم متمكّن هو أيضاً حالة جنون. الاتّساق مع رواية النظام في الساحل امتد أحياناً إلى معارضين حقيقيين بعضهم قضى زهرة شبابه في سجون الأسد الأب! حتى الرجال الذين ظهروا في الأعوام الفائتة يعلنون معارضتهم للأسد في خطوة شجاعة شبه انتحارية، كان بعضهم عام 2011 موالياً.

ماضينا كما يُقدَّم لنا ليس أحداثاً وَقَعَت في زمنٍ انقضى، بل هو مجموعة عناصر تجمّعت من أزمنة فائتة ولا تزال حيّةًً وتتحكم بحاضرنا وتعيقنا أحياناً عن التطلّع إلى مستقبل مختلف. نسعى باستمرار، كأكبر مؤسسة إعلامية مستقلة في المنطقة، إلى كسر حلقة هيمنة الأسلاف وتقديم تاريخنا وتراثنا بعين لا تخاف من نقد ما اختُلِق من روايات و”وقائع”. لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. ساعدونا. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

ادعمونا

بقي هذا الرابط مع السلطة قوياً حتى أواسط 2012. وقتها، بدأ المجتمع يسمع للمعارضون المنبوذين. فعلاً المعركة طويلة؛ السلطات فعلاً ترسل الجنود كالخرفان إلى الموت، وربما أرخص؛ الفساد زاد بشكل مروع خاصةً في الجيش، والوضع الاقتصادي، أي العملة والخدمات، في انهيار بل في حالة سقوط حرّ.

تدريجياً، بدأت الأسوار التي تحمي صورة الرئيس بالتآكل. ففي سوريا الأسد، لم يكن فقط الأسد وعائلته فوق النقد، بل كامل الجهاز البيروقراطي والحزبي والعسكري. تخلى النظام أولاً عن حماية المسّ بسمعة الجهاز البيروقراطي من النقد، كمجلسَي الوزراء والشعب المحافظَين، وكبار المسؤولين المدنيين، كنوع من التنفيس، وكمحاولة للتأكيد على أنّ “الرئيس كويس بس الي حواليه فاسدين”. أسلوب التنفيس كان ممكناً لو توقف تدهور الأمور عند نقطة معينة.

تدمير المجتمع ذي الروح الجماعية

إحساس الأسد بأنه لم يعد بحاجة إلى الشعب، وتالياً الجيش، بدأ مع دخول ميليشيا حزب الله والحرس الثوري عام 2013، ثم تكرس مع الدخول الروسي 2015. وقتها، شعر بأنه في حلّ من أي تعاقد مع الشعب، وبأنّ كرسيه بات آمناً بفضل حلفائه، ولعب “البيضة والحجر” مع أشباه الخصوم وأشباه الحلفاء. كل ما كان يشبه النصر من لقاءات خارجية وفتح سفارات للنظام وعودة إلى الجامعة العربية، يُترجَم فوراً مزيداً من القهر والتجويع.

بات جلياً أن الأسد لم يعد يعامل البلد كمزرعة، كأبيه، بل كمقلع أو منجم يُخرج ما يستطيع منه ثم يتركه، بل ربما كمكبّ للنفايات عليه استخراج ما قد ينفعه منه ثم يحرقه. النفايات كانت برأيه الشعب بما فيه الجيش! الشعب الذي نزل إلى الساحات يهتف باسمه، وجَدَه الأسد عبئاً.

فساد زوجة الرئيس الهارب وشقيقه، فاق التصور. شراهتهما وجرأتهما تجاوزت أي حد، من حواجز الرابعة إلى أسعار الهواتف المجنونة. إلى ذلك، الأحاديث عن تجارة الكبتاغون بات علنياً.

احتقار الجيش لم يكن جديداً على آل الأسد: أخبرني مرةً صديق خدم كمجند في ثلاثة قصور رئاسية في العاصمة دمشق واللاذقية، مطلع الألفية، أي خلال فترة “العزّ والأمان”، أنه كان محرّماً على الجنود التزوّد بماء “الفيجة”، أي ماء الدولة من الصنابير، بل كان عليهم أن يأخذوا حاجتهم من صهاريج الدفاع المدني القذرة، والتي قد تصل إلى مرحلة الغليان في فصل الصيف. لا يمكن تفسير الأمر إلا باحتقار الأسد للجيش حتى حرسه، فمن المؤكد أنه لا يشرب ماء الصنبور بل مياهاً معدنيةً مستوردةً.

فرص مهدورة

حظي الأسد بعدد قياسي من الفرص، سواء من الداخل والخارج، لإصلاح الأمور، لكنه رفضها كلها. شعبياً، آخر “انتخابات رئاسية”، وبغضّ النظر عن أنها عملية شكلية، ظهرت فعلاً كآخر محاولة بائسة من مؤيدي الأسد ليقولوا: “نحن معك انظر إلى حالنا، أصلح البلد”. نزلت أعداد كبيرة من المغسولة أدمغتهم تقول: علّ وعسى يشعر بحالنا.

النظام التقط الفكرة وبدأ بحملة التسويف؛ ستتحسن الأمور بعد خطاب القسم، عفواً بعد تشكيل الحكومة، أو انتظروا شهرين لتبدأ القرارات. القرارات كانت لكائن يعيش في كوكب آخر، والأفعال كانت مستفزّةً، كالصور العائلية الأشبه بصور عائلة ملكية تعيش في الجزيرة الإسكندنافية.

بالتدريج، وعلى مدى أكثر من عقد على انطلاق الثورة، تهاوى هذا المجتمع ذو الروح الجماعية. لم يبقَ سوى الأسديين المستفيدين فعلاً من النظام، وقلة نادرة ما أن تفتح فاها حتى تسمع الشتائم والسخرية في تبادل أدوار مدهش مع القلة المعارضة بداية الأحداث.

المعركة الأخيرة

آخر مرة ظهر فيها “الهبل العام”، كانت بُعيد تحرير حلب، وقبل معركة حماة الفاصلة. وقتها سرت شائعة مفادها أن الأمر خدعة ليس من النظام فقط بل من العالم أجمع، لإخراج المسلّحين (الإرهابيين) من إدلب والقضاء عليهم بسهولة، بل قد يشارك حلف الناتو في المعركة.

أخبرني عسكري شارك في معركة حماة: “كنت في ثكنة عسكرية قرب قرية خطاب. جاءنا الهجوم عكس المتوقع من الجنوب لا من الشمال. غالباً الأهالي فتحوا الطريق للمسلحين، وبعد اشتباكات عنيفة فوجئنا بحالات فرار كثيرة”. توقف ثم تابع: “الجيش مهزوم من الداخل، كل من بقي يقاتل قُتل أو أُسر. هربت والنار من كل صوب باتجاه قرية سوبين وهي قرية سنّية. لم يتعرّض لي أحد، ومنها إلى قرية كفر الطون العلوية، فتلّ السكين”.

معركة حماة كانت كسكب صهريج ماء بارد على الرؤوس الحامية. بدأ الفرار من حمص إلى الساحل؛ وصل سعر المقعد في أي سيارة من حمص إلى طرطوس -أقل من تسعين كم- إلى مليون ونصف، أي نحو 100 دولار، وهو راتب خمسة أشهر لموظف في سوريا الأسد.

الميزة الوحيدة في شخص الأسد الابن، أنّه جبان. جبنه وفراره منعا بركة دم أخيرة في جوار القصر، كان يمكن أن تكبر كثيراً. كذلك منعا ظهور مريدين ولو قلة له، حال صدام حسين والقذافي. ظهر هو وآل الأسد كم هم جبناء؛ وقت السلم يصلون العلويين نار العذاب، ووقت الحرب يختبئون خلفهم، ثم يهربون، وهم يحلمون بمجزرة عظيمة تؤكد سرديتهم. بغض النظر عن قرار كبير ما، أو اختراق استخباراتي عسكري للجيش، فإن ما قامت به الهيئة لحظة سقوط النظام لم يكن متوقعاً خاصة من ناحية القدرة على الحد من النزعة الانتقامية ولو مرحلياً.

بعيداً عن الخاتمات الكلاسيكية. هذه شهادة لصديق عاش الأحداث لحظةً لحظة:

“لا تخافوا ولا تكذبوا فالخائفون لا يبنون وطناً، والكذبة لا تكتب تاريخاً. أنا مواطن سوري عشت في هذا البلد منذ عشرات السنين، ولي فيه منزل وأرض وأب وأم وزوجة وأولاد وأخوات وأصدقاء، وعليّ واجبات ولي حقوق. لم أظلم أحداً في حياتي، ولم آكل قرشاً من حرام، ولم أخن بلدي أو شعبي، وأتحلى بالجرأة الكافية والمسؤولية الأخلاقية والشجاعة لأعترف بملء فمي بما يلي:

أعترف بأنني كنت أقف في الجانب الخطأ من التاريخ، وبأنني كنت ساكتاً عما فعله النظام المأفون الظالم المجرم الذي دمّر بلدي وقتل شعبي، وبأنني كنت ساذجاً إلى درجة أنني تأملت منه أن يصلح أخطاءه أو يصحح مساره أو يقدّم ما فيه الخير لبلدي وشعبي، ولا أجد لنفسي عذراً في أنني لم أشارك ولم أؤيد ولم أرضَ بأي عمل قام به، وبناءً على ذلك فأنا مستعد لقبول العواقب:

– أعترف بكل جرأة بأن إخوتي الثوار ممثلين بعناصر هيئة تحرير الشام، قد حموا أرضنا وحقنوا دماءنا وعاملونا بمنتهي الود والمحبة، وبرغم تصنيفهم على لوائح الإرهاب وتصويرهم بأنهم قادمون من القرون الوسطى، إلا أنهم أكثر رقياً ومدنيةً وحضارةً من جيوش أوروبا وأمريكا.

– أعترف بكل سعادة بأن إخوتي من أنصار الثورة كانوا على أعلى درجة من النبل والمحبة، وسعوا إلى تطميني ومدّوا لي أذرعهم وفتحوا لي قلوبهم وكانوا لي نعم العزوة ونعم الأهل”.

الحسنة الوحيدة لبشار، أنه بصلفه وتعنته، دمّر المجتمع ذا الروح المشتركة الذي صنعه والده. فأكثر ما قد يدمّر الدول إنشاء بنى مجتمعية ما قبل الدولة، أو حتى النظر والتعامل مع مجموعة دينية أو إثنية كقطعة واحدة.

رصيف 22

——————————–

لماذا تتوجس مصر من صعود أحمد الشرع وترتيبات الشرق الأوسط الجديد؟/ أحمد البرديني

الخميس 9 يناير 2025

برغم الحراك الدبلوماسي النشط الذي تشهده سوريا منذ إسقاط نظام بشار الأسد، إلا أن مصر تبدي قدراً كبيراً من الحذر في التعامل مع الإدارة السورية الجديدة بقيادة أحمد الشرع، الشهير سابقاً بـ”أبي محمد الجولاني”، ولا تتخطَّ العلاقات بعد مرحلة “جسّ النبض”، حتّى مع مبادرة وزير الخارجية المصرية بدر عبد العاطي، إلى الاتصال بنظيره السوري أسعد الشيباني، بعد نحو ثلاثة أسابيع من تصدّر الإدارة الجديدة المشهد السياسي في سوريا.

وفي وقت يجول فيه الشيباني، في الخليج زائراً كلاً من السعودية وقطر والإمارات، لطمأنتها وحثّها على بناء علاقات مع الإدارة الجديدة لسوريا، تبدو القاهرة بعيدةً حتّى الآن عن روزنامة الزيارات الرسمية السورية، وهو أمر يفسّره مراقبون بـ”توجّس” الحكومة المصرية من سيطرة الإسلاميين على الحكم في دمشق، لا سيّما بعد ظهور مصريين مطلوبين لدى نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي، في المشهد بالقرب من قادة الإدارة الجديدة في سوريا.

يتجلّى هذا الحذر المصري في القرار الذي أصدرته السلطات المصرية مؤخراً، بـ”تقنين” دخول السوريين إلى أراضيها، وربط ذلك باستيفاء الشروط الأمنية، وهو ما عزاه إعلاميون مقربون من النظام المصري إلى القلق الأمني من منح الجنسية السورية لمقاتلين أجانب، ودمج بعضهم في قيادات وزارة الدفاع والجيش السوريين. في موازاة ذلك القرار، اعتقلت قوات الأمن المصرية عدداً من السوريين المقيمين في مصر، من الذين احتفلوا بإسقاط الأسد في أماكن عامة، ويواجه بعضهم خطر الترحيل.

تثير هذه الوقائع التساؤلات بشأن مستقبل العلاقة بين مصر و”سوريا الجديدة” -كما يحلو للكثيرين تسميتها- في ضوء الخصومة السياسية مع جماعات الإسلام السياسي، وطريقة تعاطي القاهرة مع التغيرات الجيو-سياسية في المنطقة، والمترتبة عن حرب الإبادة الإسرائيلية على غزّة.

هل الموقف المصري من الشرع استثنائيّ؟

يرى الباحث في مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، أحمد كامل البحيري، أنّ الموقف المصري من هيئة تحرير الشام ليس استثنائياً حتّى الآن، لأن القاهرة تتّخذ الخطوات التي يتخذها محيطها الخليجي والعربي، ولم تتطوّر برأيه العلاقات عن مجرد اتصالات وزيارات “استكشافية”، مبيّناً أن الخليج لم يتقرّب من الإدارة الجديدة في سوريا، وإنما يحاول التّعرف على شخوصها.

“الجولاني يحاول طمأنة الدول المجاورة والغرب بزيارات وزير خارجيته إلى الدول العربية، والجميع يراقب بحذر كيف سيتعامل مع حكومة لا يزال بعض قادتها مدرجين ضمن قوائم الإرهاب، ولم تُرفع أسماؤهم من قوائم المطلوبين حتّى الآن، بما في ذلك أهم حلفائه، أي تركيا التي ترهن العلاقة بالموقف من أكراد سوريا”، يضيف البحيري، في حديثه إلى رصيف22.

مع ذلك، الحذر من هيئة تحرير الشام يختلف من دولة إلى أخرى، ويسير وفق درجات حتّى الآن، حسب البحيري، الذي يشرح أن الدول العربية والغربية وجدت أنها ليست أمام حكومة محسوبة على جماعات أصولية سنّية فحسب، بل أمام تنظيم راديكالي أعضاؤه مدرجون على قوائم الإرهاب لتورطهم في جرائم، وهو ما ترجمه الاتحاد الأوروبي بتعبيره عن استعداده للتعاون مع الإدارة الجديدة دون تقديم دعم مالي لما وصفته وزيرة الخارجية الألمانية أناليا بيربوك، بـ”الهياكل الإسلامية”.

وطالب الشرع، غير مرة، برفع هيئة تحرير الشام من قوائم الجماعات الإرهابية، ورفع العقوبات الاقتصادية عن بلاده، لتهيئة الطريق أمام السوريين للانتقال السياسي وبناء دولتهم الجديدة والتعافي من سنوات القمع والانهيار الاقتصادي بفعل العقوبات تلك.

ولا يستبعد الباحث في “مركز الأهرام”، أن يزور مسؤولون في الإدارة السورية الجديدة القاهرة قريباً، وأن يزور مسؤولون دبلوماسيون وأمنيون مصريون دمشق في وقت قريب، بهدف “استكشاف” الموقف المصري، ولكن يظلّ الشرع برأي البحيري، محط توجّس الأنظمة العربية خاصةً أنّ خطابه يوحي بأنه لم يغيّر معتقداته الفكرية، وكذلك اختياراته لأعضاء الحكومة الانتقالية، وقراراته تعكس التمييز السلبي ضد الأقليات والمرأة، كما لم يتبرّأ من جرائمه السابقة حينما كان عضواً في تنظيمَي القاعدة وداعش، وسجله الحقوقي حافل بالانتهاكات، على حد قوله.

أسباب “عديدة” للقلق المصري من حكومة الشرع

بالنسبة للدبلوماسي المصري حازم خيرت، سفير مصر الأسبق لدى سوريا وإسرائيل، “ما يقلق الحكومة المصرية هو أن الجهة التي أسقطت نظام بشار الأسد ليست جهةً مدنيةً عاديةً تخطّط لتنظيم عملية انتقال سياسي في سوريا، بل تنظيم جهادي متطرف له سوابق في تهديد أمن الدول. وما تفعله مصر الآن هو أنها تتريّث حتّى تشاهد ماذا ستقدّم هيئة تحرير الشام، وهل ستصدّر خطابها إلى دول مجاورة أو لا”.

“حتّى الآن، غالبية الدول لم تعترف بالحكومة الجديدة باستثناء تركيا وقطر، والدول الكبرى لا تزال تدرج جبهة النصرة وهيئة تحرير الشام ضمن قوائم الإرهاب حتّى وإن اتخذ البعض خطوات بالتواصل معها، فالجميع يترقّب: هل ستكون سوريا دولةً مدنيةً؟ أو عاصمةً للتنظيمات الراديكالية تُقصي الأقليات وتجور على حقوق النساء؟ وهو ما يفسّر التباطؤ والحذر المصريين في التعامل مع هذا التنظيم”، يقول خيرت، لرصيف22.

ويتوقّع السفير المصري الأسبق، أن تشرع بلاده في بناء علاقات أوسع مع الإدارة الجديدة في سوريا مع وضوح الرؤية وإثبات الإدارة الجديدة في سوريا حُسن نواياها، لافتاً إلى أن الاتصال الهاتفي الذي أجراه وزير الخارجية المصري بنظيره السوري، ما هو إلا خطوة بروتوكولية استكشافية فرضتها أهمية سوريا للأمن القومي المصري.

عبر تاريخها، مرّت العلاقة بين مصر وسوريا بمنعطفات تاريخية توّجتها الوحدة بين البلدين في عام 1958، في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، وتحالف الدولتين في حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، إلا أن سوريا حافظ الأسد، دخلت في حالة قطيعة طويلة مع مصر استمرت 12 عاماً بسبب توقيع الرئيس المصري الراحل أنور السادات، اتفاقية كامب ديفيد. استُئنفت العلاقات مجدداً في عهد الرئيس الراحل محمد حسني مبارك، الذي جمعته علاقة جيدة بالأسد الأب، ومن بعده الأسد الابن.

وخلال سنوات ما بعد الثورة السورية عام 2011، والتي استحالت حرباً أهليةً حتّى إسقاط نظام الأسد، الشهر الفائت، تباينت مواقف مصر أيضاً وإن أظهرت بانتظام دعمها للانتقال السلمي للسلطة من أجل ضمان استقرار سوريا وإنهاء التدخّلات الأجنبية فيها. ومنذ بداية حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي، تبنّت القاهرة ما تصفه الهيئة العامة المصرية للاستعلامات بـ”سياسة متوازنة” تجاه الأزمة السورية. وتشدد الهيئة على أن مصر “لعبت دوراً محورياً في عودة سوريا إلى مقعدها في جامعة الدول العربية”.

بالعودة إلى خيرت، فهو يشدّد على أن صانع القرار في مصر ليس بعيداً عمّا يحدث من تغيّرات في أساس الحكم في الدولة السورية، بما فيها إعادة دمج الفصائل المسلحة في تشكيل الجيش العربي السوري، وضمّ إسرائيل أراضي سوريةً منذ انهيار نظام الأسد، موضّحاً أن مصر لا تريد التدّخل في تشكيل سوريا الجديدة وإنما ضمان وحدة التراب السوري وخروج القوات الأجنبية منها وعدم تحويلها إلى مناطق تنازع نفوذ.

“خطر الإسلام الراديكالي”

في غضون ذلك، يعرّج الباحث في شؤون الأمن القومي الإقليمي والإرهاب أحمد سلطان، على التشكك المصري في التعامل مع جماعات الإسلام السياسي على اختلاف أدبياتها، في ظل الخصومة السياسية مع جماعة الإخوان المسلمين منذ إزاحة السيسي، الرئيس المحسوب عليها محمد مرسي، من السلطة في عام 2013. لذا، وعلى ما يبدو، تفضّل الحكومة المصرية التعامل مع الأنظمة والحكومات لا مع الجماعات وخصوصاً الراديكالية على غرار “هيئة تحرير الشام”.

يشير سلطان، إلى أن “الأجهزة الأمنية المصرية ترصد العلاقات والتقاطعات بين الكيانات الجهادية الإقليمية مثل القاعدة وداعش وجبهة النصرة والحركات المسلحة التي تزايد حضورها على الساحة المصرية عقب الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين، ومن بينها حركة ‘حسم’ التي خططت لاغتيال شخصيات مهمة في النظام الحالي، وهو ما يجعل القاهرة أبطأ من غيرها في التعامل مع الإدارة الجديدة في سوريا”.

بيد أنّ هناك تبايناً في مواقف مصر والسعودية والإمارات في التعامل مع التطورات الأخيرة في سوريا، برغم تحالف الدول الثلاثة في مناهضة مشروعات الإسلام السياسي في المنطقة، ما يبدو معه أن القاهرة لم تكن مستعدّةً لانهيار نظام الأسد الذي مالت في الآونة الأخيرة إلى إظهار الدعم له على المستويين الإقليمي والدولي في سياق ما عُرف بـ”إعادة سوريا إلى الحضن العربي”.

في غضون ذلك، بادرت السعودية إلى التواصل مع الإدارة الجديدة، وعقدت لقاءات واتصالات معها، ما يعكس أنها ربما كانت تُدرك أنّ نظام الأسد ساقط لا محالة، وهو ما تكرّر مع الإمارات، حسب ما يوضح سلطان.

هذه المخاوف الأمنية المصرية تنبع من ملفات عديدة، ولا تقتصر على تصدّر قادة حركة جهادية المشهد السياسي في سوريا الآن.

في هذا الصدد، يشير الباحث سلطان، إلى أن القاهرة تُدير علاقاتها الخارجية راهناً بـ”الحدس الأمني” لا الدبلوماسي، ضمن التغيّرات التي طرأت على النخب الحاكمة في البلاد منذ سقوط نظام الرئيس مبارك، عام 2011.

الدبلوماسية المصرية… بين التردد والتراجع

وتكشف طريقة تعامل الإدارة المصرية مع الأحداث المتلاحقة على الساحة السورية والساحة الإقليمية، وخروجها من دائرة التفاعلات، حالة التراجع التي تشهدها الدبلوماسية المصرية في الملفات الحاسمة والحساسة في المنطقة، حيث باتت المواقف المصرية تتسم بالتردّد والحذر وعدم الإيجابية، وفق تقديرات دبلوماسيين وسياسيين مصريين.

“الدبلوماسية المصرية تواجه اتهامات بعدم الفاعلية والتردّد في اتخاذ مواقف حاسمة إزاء أحداث وتطورات المنطقة خلال العامين الماضيين. هناك من يرى أن مصر تعاملت بحذر في بعض القضايا، ولم تعمد إلى تسخين جبهات، حتّى لا تزجّ بنفسها في حرب واسعة مع إسرائيل تحديداً. وهناك من يرى أن مصر يجب بقيمتها الكبيرة أن تكون حاضرةً وفاعلةً بقوّة”، يقول الدبلوماسي والسياسي المصري السفير معصوم مرزوق، لرصيف22.

ويعتقد مرزوق، أنّ غياب الدور المصري الواضح في قضايا سوريا وليبيا والسودان والقرن الإفريقي عموماً، سمح لجهات أخرى من بينها تركيا بـ”التغلغل وملء هذا الفراغ”، مشيراً إلى أنّ “سياسة إمساك العصا من المنتصف لم تعد تجدي نفعاً، بل يجب على صانع القرار أن يتخذ قراراً شفافاً لحشد المجتمع الدولي خلفه”.

كما يوضّح أن الإدارة المصرية كان لا بد أن تتعامل من موقع الشريك في قضية حرب الإبادة الإسرائيلية على غزّة تحديداً، وألا ترتضي أن تلعب دور المنسّق، خصوصاً أن إسرائيل تجاوزت الخطوط الحمراء باحتلالها محور فيلادلفيا الذي يشكّل إحدى النقاط الخلافية في ملف مفاوضات وقف إطلاق النار، إذ لا تنوي الحكومة الإسرائيلية التخلّي بسهولة عن تواجدها العسكري في معبر رفح ومحور صلاح الدين.

وشهدت العلاقات المصرية الإسرائيلية توترات شديدةً في ظل الحرب المستمرة على غزّة لأكثر من عام. وبلغت هذه التوترات ذروتها مع احتلال الجيش الإسرائيلي معبر رفح من الجانب الفلسطيني ونشر قواته على طول الشريط الحدودي الفاصل بين سيناء وغزّة. كما تكرّرت الاتهامات الإسرائيلية لمصر بتسليح حركة حماس من خلال مدّها بالأسلحة عبر الأنفاق بين مصر وغزّة، ما دفع مصر إلى التلويح بتجميد اتفاقية كامب ديفيد الموقّعة بين البلدين منذ 1979، وفق ما نشرت صحيفة معاريف الإسرائيلية.

لا يميل مرزوق، إلى تبنّي السرديات الإسرائيلية التي تروّج لتغيير شكل الشرق الأوسط بعد التطوّرات التي شهدتها ولا تزال الساحات السورية واللبنانية والفلسطينية، إذ يرى أن إسرائيل لم تتوقّف أطماعها يوماً، وهي تخطّط باستمرار لـ’قضم الأراضي العربية’، لكن هذه الخطط غالباً ما تهاوت أمام التمسّك العربي بالأرض، منبّهاً إلى أنّ “الخطاب الإسرائيلي تمادى في غطرسته بسبب ضعف الجسد العربي المتمثل في الحكومات الراهنة، وسيتخذ أشكالاً أخرى إذا استمر استسلام الحكومات العربية للقوالب الإسرائيلية والغربية”.

إلى ذلك، يعرّج مرزوق على ملف السودان، منتقداً عدم إعلان مصر موقفها الداعم للجيش السوداني في حربه ضد قوات الدعم السريع بشكل واضح، وعدم اتخاذها خطوات قويةً في هذا الصدد، مطالباً الحكومة المصرية بحشد المجتمع الدولي لإنهاء الحرب بدعم مسار محدد، لأنّ السودان يشكّل أهميةً كبرى لمصر وأمنها القومي.

مثال آخر عن مواقف مصر المترددة يضربه مرزوق، هو موقفها تجاه ما يحدث في جارتها الغربية ليبيا، وإن كان من المعروف أنّ القاهرة تدعم “الجيش الوطني الليبي” بقيادة خليفة حفتر، لكنها لم تحشد المجتمع الدولي خلف موقفها، ويحذّر من خطورة التردّد في حسم العديد من القضايا العالقة.

في المقابل، هناك من يرى أن مصر لم تتخلَّ عن دورها الريادي على المستوى الإقليمي، إذ يقول الدبلوماسي المصري حازم خيرت: “كثرٌ يزايدون على الدور المصري، لكنّ مصر لا تزال اللاعب الرئيس في قضية غزّة، وهي تقود مع دول أخرى مفاوضات وقف إطلاق النار وتتصدّى لمخططات التهجير وتدافع عن حدودها وتساعد الفلسطينيين على حل خلافاتهم ووقف الحرب، فماذا تقدّم مصر أكثر من ذلك أمام الأطماع الإسرائيلية المتزايدة”.

ابتعاد مصر عن الدور المحوري في سوريا، يعزوه خيرت، إلى وجود أجندات خارجية وجغرافية متاخمة، ومصر ليست جزءاً من هذه أو تلك، فتركيا على سبيل المثال تتحرّك وفق أجندتها الخاصة لمنع إقامة دولة للأكراد والتحكّم في مستقبل السوريين عبر الجماعات المسلحة، وإسرائيل تسعى إلى فصل الجبهات بين سوريا وإيران ولبنان وتتوسع جغرافيّاً على حساب الأراضي السورية.

كذلك، يشير سفير مصر الأسبق لدى سوريا، إلى أنّ السياسة الخارجية المصرية لا تتبع نهج النفوذ أو التوسع بل حماية الأرض وأمنها القومي، والدليل على ذلك الحضور المصري في الملف الليبي الذي يُعدّ عمقاً إستراتيجياً للحدود الجنوبية، ما استدعى التدخّل لعدم تهديد حدود مصر، على حد قوله، مردفاً: “مصر جزء من المجتمع الدولي الذي يعاني خللاً واضحاً والدبلوماسية الدولية حتّى الآن عاجزة عن التصدّي لإسرائيل ووقف أطماعها وانتهاكها للقانون الدولي”.

إلى ذلك، يختم السفير معصوم مرزوق، حديثه بقوله إنّ “خروج مصر من المعادلة في بعض القضايا يهدّد أمنها القومي، ويقوض دورها السياسي والاقتصادي. الوزن والدور جزء من حسابات الأمن القومي، وإذا لم يكن لك دور أو وزن، تنقص عوامل الأمن القومي بك، وتتكبّد خسائر سياسيةً واقتصاديةً أيضاً في المفاوضات والعلاقات مع الشركاء المانحين، بخلاف البعد الأخلاقي والتاريخي في المواقف”.

رصيف 22

———————————-

ملاحظات

Raafat Alghanem

قرأت لبعض الأكراد أن سلاح قسد هو ضمان لمدنية الدولة وضمان للتوزيع العادل لثروات الجزيرة وأن يحصل أهلها على نصيبهم منها.

هذا الكلام غير صحيح وهو يشبه أن يقال داعش هي ضمانة للتواجد الأمني الأميركي بالتالي بقاء سوريا في المعسكر الغربي.

سلاح قسد هو بندقية مأجورة بيد فرنسا وغيرها من الدول، وهو سلاح يهدد أمن الجزيرة بسبب المعركة الدنكوشوتية مع تركيا العضو في حلف الناتو وصاحبة أقوى جيش في المنطقة.

سلاح قسد يعمل على بقاء الاحتلال القنديلي وبقاء صور التركي أوجلان معلقة في دوائر الرقة الحكومية.

القول أن قسد هي أمر واقع، هي عبارة تشبيحية مستترة معناها” الأسد أو نحرق البلد”.

” روج افا” هو مصطلح كردي تم اختراعه ويعني” غرب كردستان” وهو يوازي المصطلح العربي” شمال شرق سوريا” الذي لا يعترف بالجزيرة الفراتية ولا سكانها، وينعكس على الأوربيين وإعلامهم بأنها منطقة تعيش بها غالبية كردية.

كردستان تقع مساحتها الأوسع في تركيا ثم إيران ثم العراق ثم سوريا التي بات القنديليون الأتراك يسيطرون على أراضي شاسعة منها أطلقوا عليها” روج افا” تمهيدا لجعلها كردستان في مرحلة لاحقة.

موقف ناشطي الأكراد من عملية ردع العدوان في البداية كان سيء جدا وتحريضي وأنهم دواعش، ولم يفرحوا مع السوريين.

موقف ناشطي الأكراد اليوم من الإدارة السياسية في دمشق هو أسوء موقف من بين كافة” الأقليات.”

الطريقة التي أدار بها القنديليون الجزيرة الفراتية، أفضل من طريقة النظام السوري ما جعلها أفضل السيئين، لكنها طريقة ليست ديمقراطية تخللها فرض أفكار ومناهج تعليمية وأوليات سياسية حزبية ضيقية ولا ننسى الرؤية الاقتصادية البائسة وتسعيرات المحاصيل الزراعية.

القنديليون الذين يسيطرون على قسد، لديهم إعجاب بالنظام السوري الفاشل، وهذا دفعهم لمطالبته بالاعتراف بهم مرارا وتكرارا، وهو أساسا نظام فاقد للشرعية محاصر متصدع يقوم اقتصاده على صناعة وتهريب الكبتاجون.

هل انتهت قسد؟

ما تزال هناك فرصة لدى قوات سوريا الديمقراطية بالإعلان عن تراجعها عن قتال تركيا، وطرد أي من منسوبي PKK، وعدم استخدام الأراضي السورية لهذا الغرض اولا وقبل كل شيء. وثانيا تبييض سجونها بالكامل باستثناء المتورطين في عمليات إرهابية أو التحريض عليها. وثالثا إقامة مؤتمر وطني شامل يجمع كافة أطياف أبناء الجزيرة من عرب وأكراد وتركمان وسريان وآشوريين وأرمن وغيرهم وتشكيل جسم سياسي جديد يطالب بحفظ مكتسبات الإدارة الذاتية، عبر دمج قوات قسد مع الجيش السوري أسوة بالفصائل الأخرى، وأن يبقى كافة الموظفين في وظائفهم، واستكمال المشاريع التنموية، والإعلان عن التعاون الوطني مع الإدارة المؤقتة والاستعداد التام للتنسيق، وإرسال وفد لهذا الغرض، ورفض أي تدخل خارجي وعلى رأسه التدخل الفرنسي، واعتماد علم الثورة بدلا من علمهم الأصفر.

الفيس بوك

———————————-

الإسلام السياسي- الأصولي والنسوية: بديهياتٌ مختلفٌ عليها/ حسام الدين درويش

08 يناير 2025

تبدو علاقة النسوية بالدين عموماً، ولا سيما الإسلام، ملتبسةً وإشكاليةً ومشكلةً أيضاً. وعلى هذا الأساس، يمكن فهم قول المختصّ بعلم الاجتماع الديني، الإسباني الشهير، خوسيه كازانوفا: “يبدو أن النسوية قد حلت محل الشيوعية بوصفها “الشبح” الذي يلاحق جميع التقاليد الدينية”. وقد يجادل بعض المتدينين في أنّ الالتباس المذكور مختلقٌ، والصراع المُشار إليه زائفٌ، والشبح النسوي المزعوم مجرّد اتجاهٍ موهومٍ وواهمٍ، في الوقت نفسه. ما لا يمكن نفيه، أو ما ينبغي عدم إنكاره، أنّ النسوية قد أصبحت فعلًا هدفًا تقليديًّا ودائمًا لهجمات أو تهجّمات معظم المشايخ والكثير من المحافظين (وأمناء الفروع) الذين لا يرون تنظيمًا مناسبًا للنساء غير “الاتحاد العام النسائي” و”رابطة الأم الحنون والبنت/ الزوجة/ الأخت الحبابة والمطيعة”.

يرى الإسلام السياسي (الأصولي) أنّ مسألة المرأة والأسرة هي عموماً (إحدى) أكبر وأهم المسائل/ المشاكل التي تواجهها المجتمعات الإسلامية. ومن هنا نفهم استماتة متبني ذلك الإسلام في الدفاع عن الثقافة الذكورية باسم الدين والأخلاق والعادات الأصيلة… إلخ. وبغضّ النظر عن ماهيّة الدين الفعلية أو المزعومة، المُنصفة أو المعادية للمرأة، فمّما لا شكّ فيه وتثبته دراسات كثيرةٌ، أنه، في كلّ الأصوليات الدينية، المسيحية منها (البروتستانتية والكاثوليكية والأرثوذكسية) والإسلامية (السنية والشيعية)، وغيرها، توجد رؤيةٌ ذكوريةٌ أبويةٌ دونيةٌ إلى المرأة، في خصوص دورها أو مكانتها في مجالاتِ السياسة والاقتصاد والاجتماع، ومن ضمن ذلك الأسرة والعلاقات بين الجنسين. ولا يمكن فصل تلك النظرة الذكورية عن الأوضاع السيئة التي تعيشها المرأة عمومًا في كثير من المجتمعات الإسلامية. ومن منظور منظومة حقوق الإنسان والتقييمات المؤسساتية الحقوقية والأممية الرسمية، بلغ سوء تلك الأوضاع ذروته في أفغانستان الطالبانية حيث صُنِّفت الأوضاع فيها بأنها الأسوأ على الإطلاق عالميًّا. فالتقييد واسع النطاق لحريات الفتيات والنساء طاول كلّ جوانب حياتهن، وشمل حرية التنقل والملبس والسلوك والوصول إلى التعليم والعمل والصحة والعدالة… إلخ. وأصبح الجحيم متجسّدًا في تلك البقعة، وليس مجرّد مكانٍ في عالمٍ آخر يتم التهديد أو الوعيد به.

ومع وصول ما يمكن تسميته ﺑ “الإسلام السياسي (الأصولي)” إلى السلطة في سورية، ثارت مخاوف كثيرة وكبيرة في خصوص الحريّات الاجتماعية عمومًا، ولا سيما حريّات النساء وحقوقهن. وعلى الرغم من وجود بعض الإشارات الإيجابية في هذا الخصوص، فثمّة الكثير من الإشارات السلبية، ومنها تصريحاتٌ لبعض ممثلي السلطة وتصرفاتها تعزّز المخاوف المذكورة. ومن تلك الإشارات الماضي الأسود لوزير العدل في الحكومة الانتقالية في سورية، شادي محمد الويسي (ظهر فيديو له وهو يشارك في تنفيذ عملية إعدام بسيّدتين سوريتين، بدعوى الدعارة)، والهيمنة (شبه) الكاملة للرجال على كلّ المناصب الوزارية الرسمية المهمة وفي الوفود الرسمية … إلخ. وظهرت تلك الإشارات السلبية، أيضًا، في تصريحات بعض ممثلي السلطة أيضًا، حيث ظهر فيها، على سبيل المثال، تشكيك في أهلية المرأة للمساواة الحقوقية الكاملة في تولي بعض الوظائف (كما في تصريحات عبيدة الأرناؤوط، المتحدّث الرسمي باسم المكتب السياسي للحكومة الانتقالية السورية)، وتبنٍ لرؤية أحادية دوغمائيةٍ منغلقة ترفض فتح المجال لمن يختلف معها (كما في تصريحات عائشة الدبس، رئيسة مكتب شؤون المرأة في الحكومة الانتقالية في سورية)، أو تسويفٍ ومغمغة وغمغمة عند السؤال عن حقوق المرأة ومكانتها وحرياتها، والقول بثانوية هذه المسائل (كما في حديث أحمد الشرع نفسه، مع قناة بي بي سي البريطانية). كان يمكن فهم هذه المواقف والتصريحات بطريقةٍ مختلفةٍ أقل توترًا وتوجّسًا، لولا التقليد الذي ينتمي إليه أصحاب هذه التصريحات ويستندون إليه: تقليد حسن البنا وأبو الأعلى المودودي وسيد قطب. ويرى هؤلاء وأمثالهم أنّ “خلقة المرأة تقتضي أن تلزم البيت”، ﻓ “مهمتها التي هيأها الله لها هي القيام على شؤون الزوج المنزلية ورعاية الطفل”. وأنّه ثمة فوارق طبيعية بين المرأة والرجل تستلزم التفريق في الحقوق الممنوحة لكلّ منهما: “فالمرأة للبيت أولًا وأخيرًا”، و”للرجل الرياسة: رياسة البيت، ورياسة الحرب والجيش وقام بها على المرأة، فذلك توجيه الفطرة وضرورات الواقع”. و”الرجل قوام على المرأة ورئيس لها وطاعتها له واجب عليها”؛ والمرأة ليست بحاجةٍ إلى تعلم القانون واللغات والفنون، وينبغي رفض الكتاب “محاولة إخراج النساء من بيوتهن ليشاركن الرجال في ميادين الأعمال العامة” والمطالبات النسائية/ النسوية المضللة ﺑ “مساواة المرأة بالرجل”.

إنّ شيوع الرؤية الذكورية أو الأبوية (المذكورة)، في جميع الأصوليات، يعطي أساسًا للمحاجَّة بأن “جميع الأديان الرئيسية هي في الأساس أبويةٌ، لأنها ظهرت إلى الوجود في فتراتٍ تاريخيةٍ بعيدةٍ عن عصرنا، عندما كان بقاء الإنسان يعتمد على تقسيمٍ صارمٍ بين عالم الذكور وعالم الإناث”؛ لكننا نعتقد بأهمية تجنّب الخلط أو التوحيد بين الأصولية الدينية والدين، في فهمنا، للأصولية فحسب. ففي مقابل الأصوليات الدينية، ثمّة، دائمًا، وفي كلّ الأديان، والدين الإسلامي من ضمنها بالتأكيد، تأويلاتٌ مضادةٌ للأصولية تحاجج بأنّ تلك الأديان تقول بالمساواة الأخلاقية والحقوقية بين الرجل والمرأة. وفي هذا الإطار، يمكن التذكير بتيارٍ حقوقيٍّ إسلاميٍّ يتبنى تأويلاتٍ للنصوص الدينية الإسلامية (القرآن خصوصًا أو تحديدًا) تقف على الطرف النقيض من تأويلاتٍ الأصولية. ولهذا التيار تسمياتٌ مختلفةٌ، منها: نسويةٌ إسلاميةٌ، إسلامٌ نسويٌّ، أنثويةٌ إسلاميةٌ، الحركة النسائية الإسلامية. 

ثمّة بديهياتٌ أو مسلماتٌ أخلاقيةٌ (كثيرةٌ) يبدو أنّ الإسلام الأصولي (والاتجاه النسوي) يختلف مع بعضها ويخالفها، أحيانًا. ومن بين هذه البديهيات أو المسلمات أنّ وضع المرأة في العالم العربي عمومًا استثنائي في سوئه، غالبًا، سواء تمّت مقارنته بالعالم الغربي أو الشرقي، الشمالي أو الجنوبي. ومن دون تغيير مؤسساتي وجذري مدعوم من السلطات السياسية في الأوضاع القانونية والتربوية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية سيكون السعي إلى إنصاف المرأة أشبه جزئيًّا بمنايا زهير بن أبي سلمى. وإنّ تحرّر المرأة من الوصاية والاستبداد الذكوري، ومساواتها المبدئية الأخلاقية الإنسانية الكاملة بالرجل أمرٌ ضروريٌّ وأساسيٌّ في تغيير الوضع المذكور، وفي تحرّر المجتمع عمومًا من كلّ أشكال الوصاية والاستبداد والتفاوت غير العادل. والعمل على إنجاز ذلك التحرّر فرض عين على كلّ من استطاع إلى ذلك سبيلا. وليس ثمّة علاقة بين تلك المساواة الأخلاقية الحقوقية المبدئية بين المرأة والرجل وأيّ مساواة أو تفاوتٍ بينهما، في السمات والقدرات الجسدية العضوية أو النفسية. فالمساواة المبدئية في المواطنة وحقوقها وواجباتها مؤسَّسةٌ على المساواة الأخلاقية الإنسانية ومؤسِّسةٌ لها، في الوقت نفسه.

المشكلة (الأساسية) في أفكار الإسلام السياسي/الأصولي وقيمه ومواقفه، في خصوص النساء، لا تكمن في تبنيه لهذه الرؤية/ القيمة أو تلك، ولا في اتخاذه هذا الموقف أو ذاك من المسائل التي تخصّ المرأة عمومًا. فمن حيث المبدأ، من حقّ كلّ طرف تبني ما يشاء من الأفكار والقيم في هذه المسألة أو في غيرها من المسائل. تلك المشكلة تكمن وتظهر في محاولة هذا الطرف أو غيره من الأطراف أن يفرض رؤيته على الآخرين، أو الأخريات خصوصًا، ويُجبرهن على تبني مضامينها وتنفيذه رغمًا عنهن. فمن حق المرأة أن تتحجّب وتتنقب، لكن ليس من حقّها، ولا من حقّ مبتني الحجاب والنقاب فرضه على الآخرين ومنع الأخريات من عدم التحجّب. ومن حق المرأة أن تختار أن تكون ربّة منزل وألا تعمل خارجه، لكن ليس من حقّها، ولا من حقّ من يرون أفضلية هذا الخيار، فرضه على الأخريات ومنع المرأة من الخروج من المنزل وتولي أيّ وظيفةٍ خارجه. ومن حقّ الشخص أن يعتقد بقدرة أو عدم قدرة المرأة على أن تقوم بهذا العمل أو ذاك، لكن ليس من حقّه ولا من حقّ غيره فرض هذه الرؤية على الأخريات والآخرين. فالمشكلة (الأساسية) ليست في مضمون الاعتقادات بحدّ ذاتها، إلا بقدر ما تكون تلك المضامين مفروضة قسرًا وقهرًا.

النسوية ليست اتجاهًا معاديًّا للرجال (بالضرورة)، ومن حيث المبدأ، ينبغي لها ألا تكون كذلك بالتأكيد. هذا ما ينبغي أن يفهمه الأصوليون المنتقصون من النساء، والمعادون للنسوية، من جهةٍ، وأنصار النسوية، من جهةٍ أخرى. والقضية النسوية ليست قضية نسائية، ولا يوجد امتياز حصري للنساء في هذا الخصوص. ومن حيث المبدأ، مسؤولية الرجل عن هذا الأمر مساوية لمسؤولية المرأة، وقد تكون أكبر بحكم موازين القوى الاجتماعية التاريخية. والعقلية أو الذهنية الذكورية ليست عقلية أو ذهنية حصرية بالرجال، بل هي عقلية اجتماعية قد تظهر عند الرجال والنساء، بنسب ودرجات متفاوتة ومختلفة تبعًا للسياق. والمرأة ليست نسويةً، بالضرورة، ولا أكثر ميلًا من الرجل، بالضرورة، لتبني قضيّة تحرّر المرأة وإنصافها. والنسوية ليست اتجاهًا (يحقُّ له أن) يقرّر ما الذي ينبغي للمرأة أن تعتقده أو تلبسه أو تفعله في علاقاتها مع ذاتها أو مع مجتمعها والآخرين، وإنما هي سعيٌ إلى أن تنال المرأة حريتها في اتخاذ القرارات التي ترى أنها مناسبة لها.

بسبب اختلاف الخبرات الاجتماعية والنفسية، قد يصعب على الرجل الإدراك الكامل أو “الكافي” لطبيعة معاناة النساء في مجتمعاتنا، ولهذا من المفيد، بل والضروري، الاستماع إلى أصوات النساء، والإنصات إليهن، ومعرفة وجهات نظرهن. لكن ذلك لا يعني بالضرورة أنّ المرأة وحدها قادرة على التعبير (الأفضل والأنسب والأدق) عن وضعها. والشخص “الضحية” يستحق التعاطف دائمًا، بوصفه ضحية، لكن الضحية ليست ضحيةً فقط، وليست على حقّ دائمًا بالضرورة. ولا يعني هذا التعاطف الموافقة على كلّ ما يقوله الشخص “الضحية”، حتى حين يقوله بوصفه ضحية. فالتمييز بين الاتهام والإدانة أكثر من ضروري. والتوحيد بينهما أمر غير مناسب عمومًا ومن زاوية الأخلاق والعدالة ومصداقية القضايا النسوية خصوصًا. ولا يمكن، وينبغي عدم، الفصل بين السعي إلى العدالة الجندرية وإنصاف النساء من جهة، والسعي إلى العدالة في المجالات الأخرى، من جهة أخرى. وبعض عمليات الفصل ظالمة ومسيئة بأكثر من معنى. فالقيمة الأخلاقية الموجّهة للفكر والفعل، في هذا الخصوص، يجب أن تكون العدالة عمومًا وليس إنصاف المرأة فقط تحديدًا.

المواضيع التي تتمحور حول الضحايا والعدالة والأخلاق بالغة الحساسية عمومًا، ويسهل، في مثل هذه السياقات، تجريم الخطأ في الرأي، وتحريم الاختلاف، والنظر إلى كلّ خطأ على أنّه خطيئة أو ذنبٌ لا يغتفر. والوضع المثالي لحلّ الحوادث المتصلة بمثل هذه القضايا هو الحل القانوني، عندما يكون هناك نظام قانوني معقول ومناسب ومنصف من حيث المبدأ. لكن غياب هذا الإنصاف القانوني في الكثير من الأحيان، يجعل اللجوء إلى وسائل أخرى أمرًا مشروعًا وضروريًّا. من حقّ أيّ إنسان أن يطرح أيّ قضية شخصية أو غير شخصية في المجال العام، لكن هذا لا يعني أنه على حقٍّ في طرحه أو مُنصفٌ فيه وفي مضامينه، بالضرورة. ومن حقّ الآخرين أن يختلفوا معه في طرحه، حتى لو أقروا حقه المبدئي في القيام بهذا الطرح.

من الضروري مراعاة الحساسيات، في هذا السياق، لكن الحساسيات هنا ليست من لون واحد فقط. ولا تعني مراعاة الحساسيات الخضوع لها وتقبّلها أو حتى قبولها بالضرورة. وفي ظلّ كثرة الخطوط الحمر والحساسيات والتابوات، يصعب العثور على نقاشاتٍ صريحة وودية، صحية وبناءة، في هذه الخصوص، حيث يُقتصر غالبًا على شيطنة طرف وملأكة طرفٍ آخر. ومن دون مثل هذه النقاشات، ستظلّ قضية تحرّر المرأة وإنصافها قضية أيديولوجية فقيرة وضعيفة معرفيًّا.

—————–

ملاحظات/ السفير بسام العمادي

رفع عقوبات أم رفع عتب

 بعد حشد الدعم والجهد والمطالبات، وبدعم من دول شقيقة وصديقة، قررت الولايات المتحدة تجميد بعض العقوبات على سورية:

– لمدة ستة أشهر فقط، قد تمدد أو لا.

– فقط ما يمس الأفراد لدعم ومصروفهم اليومي الأساسي.

– ما يتعلق بالمساعدات بشأن كالكهرباء والماء والصرف الصحي وما شابه.

بالخلاصة فإن كل ما رفع من عقوبات لا يمس ما تحتاجه سورية للخروج من الهوة السحيقة التي أوصلها إليها بشار الأسد وعصابته. وليس من المتوقع ان يتجاوز الاتحاد الأوربي العتبة التي وضعتها الولايات المتحدة بهذا الشأن.

لكن ما تحتاجه سورية للدخول في مسيرة اصلاح وإعادة بناء من تحت الصفر هو رفع أو تعليق للعقوبات التي تمنع تدفق الاستثمارات والتعاملات المالية والاقتصادية، لكن الإدارة في الولايات المتحدة الحالية والمستقبلية لا تبدو راغبة بذلك. لأن تحرير سورية فاجأهم ولم يحسبوا حسابه ولم يتوقعوه وربما لم يكونوا يريدوه. 

ولإيجاد حل حاسم لهذا الوضع الصعب يتعين تشخيص الوضع بدقة، ثم إيجاد الحل المطلوب.

معلوم للكثيرين أنه من غير المقبول للدول المهيمنة على العالم نجاح أية حكومة ذات توجه إسلامي، حتى ولو أظهرت الاعتدال ورغبت بالدخول في المجتمع الدولي كدولة معتدلة ولكن مستقلة، وهذا واضح منذ سقوط الاتحاد السوفياتي ويؤكده ما حدث في دول الربيع العربي بعد سقوط أنظمته الدكتاتورية، ولولا أن تركيا استطاعت بحكمة وذكاء الالتفاف على الضغوط والمؤامرات الكثيرة ضدها لما استمر حكم القيادة الحالية فقط لأن توجهاتها إسلامية بالرغم من عدم مسها بكثير من الرموز والمظاهر العلمانية السائدة في تركيا.

ومع أن المهمة أصعب مما تبدو ولكن يمكن للقيادة الجديدة الاستفادة من التجربة التركية وتصعيد العمل الدبلوماسي المهني مع الدول الفاعلة أوربياً وأمريكياً وداخلياً، فالخارج والداخل عاملان أساسيان في الوصول إلى هدف إقناع الدول برفع تلك العقوبات الظالمة.

الفيس بوك

———————-

ملاحظات

Sami Alkayial

وعلى سيرة “الحدّية”، التي يلومني عليها بعض الأصدقاء، على اعتبار أنها قد لا تقنع “الناس”، فأنا أبدا لا أريد أن أقنع أحدا بشيء، لست مبشّرا أو داعية، أريد بكل بساطة أن أكون موجودا، وأعبّر عن موقفي وموقعي الاجتماعي ورؤيتي بالطريقة التي تناسبني، وأن أقول “الحقيقة”، أي ما أعتقده وما يعبّر عن ضميري. تلك هي “حرية الضمير”.

أهمية هذا أن يدرك “الناس” (مفردة هرائية لا معنى لها في سياقنا) أنهم لا يعيشون وحدهم،  هنالك آخرون، مختلفون، متعددون، يتساوون معهم تماما بحق الوجود والتعبير، وليسوا مضطرين لخفض صوتهم، أو النفاق، أو المجاملة. لأن كل هذا سيكرّس أحادية وسيادة “الناس”، ويدعم تصورهم بأنهم أمة واحدة،  من حقهم، وبإمكانهم إلغاء الآخرين.

المنطق التبشيري والدعوي، الذي يستلزم في حالتنا خطابا جبانا ومنافقا، يطبّع مع كل الانتهاكات والقمع، وذلك عبر لغة لا تتسق مع دلالتها، أي تعبر ب”لطف” عن شيء فظ ومؤلم، أو ب”عقلانية” عن أمر لا عقلاني.. لا،  يجب أن يكون الخطاب مؤلما لمن يتلقاه، تماما كالوقائع التي يعبّر عنها. لذلك فأنا أتعمّد إيلام قارئي، كي لا يتعود التخدير.

أرى أن هذا أكثر فعالية وإقناعا من أي تبشير منافق، مجرد عدم خوف المختلفين من التعبير عن أنفسهم بقوة، وعدم الخضوع، يصنع تغييرا، ويشجّع كثيرين (ليسوا أقلية) على عدم الخضوع لنظام القوة والتعبير السائد، الهرائي والخرائي. وهذا أهم بكثير من “الإقناع”. لا أريد أن يصبح كل البشر مثلي، ولا يجب أصلا أن يكون الجميع على فكرة وروح واحدة، ولكن يجب أن يستطيع الجميع التعبير، بشكل متساوٍ، وبلا شعور بالدونية تجاه السائد.

أنا أفعل ما أفعله، وأكتب بهذه الطريقة عن عمد، ولأداء وظيفة ودور أراهما ضروريين، وأدعو الآخرين أن يفعلوا مثلي. إذا كان التبشير ضروري يعني.

الفيس بوك

—————–

كلام في المسألة الطائفية/ نادر جبلي

نعم، لنعترف، نحن طائفيون.. إنما ليس معظمنا بالتأكيد..

الذهنية الطائفية متجذرة في البنية الثقافية للكثيرين، وطارئة وظرفية لدى الكثيرين.. لكن غالبيتنا العظمى مصابين.

والانقسام الطائفي هو الأعمق والأخطر الآن، وهو الذي يهدد باحتراب أهلي لا يبقي ولا يذر..

لكن الأمر طبيعي كما أراه، فنحن شعب متعدد الطوائف والمذاهب، ونحن شعب متدين وعاطفي عمومًا، ومن السهل استغلال وتحفيز عاطفته الدينية، وقد فعل نظام الأسد ذلك بخبث وخسة، كأداة لتثبيت حكمه، ثم جاءت فترة الثورة بفصولها الدامية لترفع مستوى الاحتقان الطائفي إلى المستوى الخطر الذي نراه اليوم..

والطائفية، عند مستوى متقدم، تصبح كالثقب الأسود، تجذب الجميع، ويصبح النأي عنها صعبًا حتى على أعتى العلمانيين.. فالعلوي المثقف العلماني الديمقراطي، الذي دفع شبابه ثمنًا لمعارضته للنظام، والذي لا يرى أمامه طوائف ومكونات.. يصبح طائفيًا عندما يصر الآخرون على التعامل معه كعلوي طائفي مؤيد لنظام قاتل، وعندما يرى أبناء طائفته في بؤس وظلم وتحت التهديد.. والعلوي مثال، وهو ينطبق على الجميع..

لكن رغم خطورة الأزمة أراها قابلة للمعالجة، ويمكن نزع فتيلها على المدى القصير، ويمكن السيطرة عليها وتحجيمها على المدى المتوسط والبعيد، والأمر منوط بالسلطة الحاكمة قبل أي جهة أخرى، لأنها مصدر الخوف أولًا، ولأنها القادرة على المبادرة والتأثير ثانيًا..

في الأجواء المخيفة التي نعيشها، لا ينفع أن نقول للبطريرك الفلاني لا تستقوي بالأجنبي لحماية طائفتك، ولا ينفع أن نقول للعلوي لا تطلب التدخل الخارجي لحماية طائفتك.. حتى لو استدعينا كل المفردات الوطنية للتشجيع، وكل مفردات الطعن والتخوين.. ما ينفع حصرًا هو ثقة المسيحي والعلوي والدرزي والكردي والسني المعتدل بالجماعة الممسكة بالسلطة، وبنواياها وأجندتها تجاه سورية والسوريين. والثقة تأتي من خلال الممارسة والشفافية والمشاركة.. 

نزع الفتيل الآن يتطلب تصرفات عاجلة من السلطة (الهيئة) تُطمئن جميع المكونات، وأقول تصرفات وليس أقوال، لأن الممارسات هي التي تكوِّن القناعات، وهي التي توصل الرسائل وتحدد المواقف. وخطاب الشرع المطمئن انتهى مفعوله بسبب ممارسات بعض العناصر على الأرض، وبسبب بعض التصريحات والقرارات الغريبة والخاطئة من بعض المسؤولين، وبسبب حالة الغموض المريب الذي تنتهجه السلطة، وبسبب ظاهرة الاستئثار بالسلطة بهذا الشكل الفاقع الاستفزازي، حتى للسواد الأعظم من المسلمين السنة.

نزع فتيل الانفجار الطائفي يتطلب من السلطة القيام بما يلي:

– التعامل الحكيم والحصيف مع مناطق العلويين ومناطق الدروز، وأيضًا مع شرق الفرات رغم أن المسألة ذات بعد عرقي هنا وليس طائفي.

– إبعاد العناصر المتشددة عن المشهد، ومنعها من الاحتكاك بالناس وفرض نموذج تدينها القروسطي عليهم.

– إعلان رؤية رسمية واضحة وخارطة طريق للمرحلة الانتقالية، واعتماد جهة إعلامية رسمية، وناطق رسمي باسم الهيئة يتحدث إلى الناس يوميًا، وإنهاء حالة الغموض الهدام الذي تعتمده الهيئة، والذي يساعد ويحفز أجواء الشك والتوجس لدى الجميع، والذي يعطي فرصة من ذهب لكل المتربصين.

– إنهاء ظاهرة الاستئثار بالسلطة والمناصب، كبيرها وصغيرها، والبحث عن أشخاص أكفاء ومخلصين من خارج صندوق الهيئة، وهم بالآلاف، وجاهزون ومتحمسون لخدمة وطنهم… فلا يُعقل مثلًا أن نضع على رأس وزارة العدل رجلًا يحمل إجازة في الشريعة، وكان حتى الأمس القريب ينفذ أحكام الإعدام بالنساء في شوارع إدلب وعلى مرأى من الناس، بينما تزخر بلادنا بمئات الشخصيات القانونية المرموقة؟؟

أما على المدى المتوسط والبعيد فيكفي النهوض بعملية سياسية ديمقراطية سليمة يشارك بها الجمع، وينتج عنها دستور ديمقراطي يرسخ القيم والمبادئ التي تجعل الجميع يرى في سورية وطنًا نهائيًا له، وفي كل السوريين طائفته.. يرى ويفتخر..

إذن تتحمل الهيئة مسؤولية صعود الاحتقان الطائفي إلى هذا المستوى الخطر، وعليها مسؤولية تخفيضه عبر رؤية واضحة وقرارات وممارسات سريعة حكيمة ومدروسة بعناية.

أما نحن والآخرين، فدورنا هام وضروري ومساعد ومكمل، لكن كل جهودنا لا تفيد في التأثير على المزاج الطائفي إذا لم تباشر السلطة بما عليها.. فما تتركه آلاف المحاضرات والمقالات والدراسات من أثر، يتبخر فورًا مع قرار واحد أو تصرف واحد غير مسؤول يحصل هنا أو هناك..

معظم السوريين فرحون بزوال نظام الطغمة، وممتنون لدور الهيئة الحاسم في ذلك، ومنفتحون بإيجابية ومحبة على التعاون معها لبناء الوطن ورسم المستقبل، فهل تَفتح لهم الأبواب؟؟

الفيس بوك

—————————

=====================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى