حوار مع فداء الحوراني: هل وكيف يجتمع السوريون المناهضون للأسد؟
رحاب منى شاكر
11-01-2025
فداء الحوراني (1956) سياسية سورية من مواليد حماة. تخرّجت من كلية الطب وتخصّصت في الطب النسائي والتوليد في بغداد عام 1982. أسَّست مشفى الحوراني في حماة. وهي ابنة السياسي السوري أكرم الحوراني مُؤسس الحزب الاشتراكي العربي. انتُخبت عضوةً في الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي، وكانت من المشارِكات في إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي، وقد انتُخبت رئيسة للمجلس الوطني لإعلان دمشق في 1 كانون الأول (ديسمبر) 2007. فقام النظام السوري باعتقالها على خلفية ذلك، وحكم عليها بالسجن لمدة سنتين ونصف.
من المهم التنويه إلى أن الحوار جرى في صيف 2023، ولم تتم صياغته الكتابية إلا مؤخرًا، لكن كثيرًا من مضامينه راهنةٌ جدًا مع التحوّل الكبير الذي تشهده سوريا بعد سقوط نظام الأسد.
* * * * *
أين كنتِ في آذار (مارس) 2011 يا فداء، وأين أودت بكِ دروب الثورة والحرب؟
كنتُ في حماة، وكانت قد مضت شهور قليلة على خروجي من السجن. لم تكن تجربة السجن سهلة أبدًاـ ولكنها مع ذلك لا تُقارَن مع ما عانته النفوس السورية في سجون نهاية السبعينيات والثمانينيات أو بعد الثورة على وجه الخصوص. الأمور كانت غير معقولة، وصارت غير معقولة، إلا أنها الآن أفظع بكثير.
اسمحي لي قبل أن أُجيب على سؤالكِ أن أقول كيف أرى الثورة. أعتقد أن الثورة عبارة عن لحظة انفجار لتراكمات طويلة جدًا، تراكمات من الظلم والاستبداد والإفقار والإفساد. الأمور لا تنفصل عن بعضها، فبالإضافة للإفساد والإفقار ثمة منعٌ لحرية الإنسان عن الكلام والانتقاد. ويجب ألا يسود القانون، حتى يتمكّن الناهبون أن ينهبوا كيفما شاؤوا. طبعًا هذه التراكمات ليست جديدة، فقد كانت موجودة أيضًا ابتداء من نهاية الحقبة التي نعتبرها ديمقراطية في 1963، واستمرّت إلى لحظة انفجار الثورة. طيلة تلك المدة لم يتوقف نضال الشعب السوري ضد الاستبداد. صحيح أن النضال صارت له تعرجات هنا وهناك، ودخلت أحيانًا أولويات إيديولوجية، كالماركسية والإيديولوجيا السياسة الدينية، مما جعل الحريات والديمقراطية في الظل، ولكن مسار النضال ظل متصاعدًا، وبقيت مطالب الحرية موجودة، إلى أن جاءت لحظة الثورة التي كانت ثورة حرية وكرامة بامتياز.
لم تتميز ثورتنا عن بقية الثورات العربية بالعنف الذي جوبهت به فقط، ولكن بالتمييز الطائفي الذي بدأ منذ 1963، وتصاعد مع الأيام، مما سمح للنظام أن يُفتت المجتمع، ويصنع جدارًا من المخاوف استغلّه لحماية نظامه. وهذا ما جعل الثورة تصطدم بسدٍ يصعب اختراقه. فضلًا عن موقع سوريا الجغرافي المهم، والتنافس المستمر منذ العهد الوطني بين المحاور الدولية المختلفة. وقد استطاع انقلاب 1963 أن يتلقى الدعم من الشرق والغرب، وهذا ما تكرر ورأيناه مؤخرًا، ورأينا كيف تنافست المحاور فيما بينها، وكان دورها سلبيًا تجاه الثورة السورية بانقساماتها التي لم يتمكن السوريون بوعيهم أن يستفيدوا منها.
أَنظرُ إلى الثورة كتراكُم لنضال السوريين منذ عصر الانتداب والاستقلال، حيث لم ينفصل النضال الديمقراطي عن النضال الوطني أبدًا. نَعرفُ كيف أوقفوا الدستور الأول عام 1928 الذي كان تتويجًا لثورة 1925، وكيف احتجَّ الناس على التزوير في 1932، وكيف انقلب ذلك إلى ثورة، فكسّروا صناديق الاقتراع، وطالبوا بانتخابات حقيقية. كما نرى النضال ضد حالات الطوارئ المتعاقبة في فترة الاستقلال. وكذلك المرسوم التشريعي رقم 50 الذي صدر في 1946 مباشرة بعد الاستقلال، حيث كانت بعض مواده بمثابة البديل عن قانون الانتداب الفرنسي للطوارئ، وإلى آخره. لم يتوقف النضال أبدًا، بل زاد بعد الانقلاب في 1963. ولن يتوقف حتى بعد سقوط النظام، بل ستكون هناك حاجة دائمة إلى أن يبقى الناس متحفزين لحقوقهم السياسية التي تشكل أساسًا لحقوقهم الاقتصادية. هكذا أَنظرُ إلى الثورة السورية: لا أعزلها عن مجمل التاريخ السوري.
في آذار 2011 كنت قد خرجتُ لتوي من السجن، وتفاجأتُ بمدى تعاطف الناس معنا كسجناء. هذا الأمر ما كنتُ أعرفه (دعيني أغتنم الفرصة هنا لكي أشكر كل من تعاطف معي). كانت عائلتي قد مرت بظروف صعبة في غيابي، حيث قام النظام بترحيل زوجي الفلسطيني عن سوريا، وبإغلاق المشفى. حاولتُ النظر في وضع المشفى، الذي كان في فوضى كبيرة بعد افتتاحه مجددًا، رغم المجهود الذي بذله الموجودون.
بدأت إرهاصات الثورة السورية، وتمنيتُ لو أُشارك علنًا، ولكني نزلتُ عند رغبة عائلتي وحاولتُ التعامل مع الموضوع بهدوء أكبر. وفي أثناء اعتصام وزارة الداخلية كنتُ في حماة، فأخذت السيارة دون أن أخبر أحدًا. ولا أعلم هل كان لسوء الحظ أم لحسن الحظ أني وجدت الناس تطلُّ من الشبابيك كما لو أن التظاهرة قد فُضَّت في لحظتها. وبعدها ذهبتُ أيضًا لزيارة الأستاذ هيثم المالح بعد إطلاق سراحه. أذكر أن ابني اتصل بهاتفي، فَرُحتُ أكذب عليه، ولكن أقوالي كانت متناقضة في كل مرة يتصل بي فيها. قلتُ له إني على طريق حمص، فقال لي إنه سيأتي ليلتقي بي عند التمثال في حمص. والتقينا هناك فعلًا، وتناولنا طعامنا في شارع الملاعب. كانت المقاهي مكتظة، فسألني: «هل ستحدث ثورة في سوريا يا ترى؟». فأجبته: «مشاعرنا تقول نعم، حتى ابن العم (رياض الترك) يقول إن الأمر لن يستغرق طويلًا، شغلة عشرة أيام!». فقال لي: «منظر الناس لا يوحي بذلك!». وفعلًا لم يستغرق الأمر طويلًا، وانطلقت الثورة. كنا بعد كل دعوة للتظاهر، لا نقدر على النوم ونبقى مستنفرين، لأننا نحب أن تتخذ سوريا خطوات حقيقية نحو المطالبة بالحريات والخلاص من النظام.
كان الناس في حماة يقولون: «لا نريد أن نكون أول من يخرج للتظاهر، لا نريد أكل الضرب وحيدين، سوف نشارك في الأخير». وانطلقت الثورة في درعا ودمشق، ويبدو أن حماة لم تصبر رغم كل مآسيها وجراحها. ففي 25 آذار… اسمحي لي أن أتوقف قليلًا! فأنا لا أحب المقابلات، لأن موضوع الحزن على سوريا صار مزعجًا بالنسبة لي، دموعي ليست علامة ضعف، بقدر ما هي حزن على هذا البلد الذي لا يستحق ما يحصل به.
المهم، كانت المظاهرة الأولى في حماة في 25 آذار. جاءت صديقتي لتوقظني من نومي: «فداء، فداء، قومي، لقد بدأت الثورة!». نهضتُ مباشرة ونزلنا. على ما يبدو كانت المظاهرة متجهة من جامع عمر بن الخطاب إلى ساحة العاصي. طبعًا لم نتمكن من اللحاق بها، ولكني رأيتُ بعض الشباب الذين كان واضحًا من لباسهم أنهم من طبقة رقيقة الحال. كانوا فقراء. أنتِ تعرفين كم كان هناك عشوائيات في سوريا، وكم كنا نعاني من موضوع الإفقار، على الرغم من أن السوريين قادرون دائمًا على أن يُخبّئوا فقرهم ليظهروا بمظهر يليق بهم إلى حدٍ ما. كان الفقر متخفيًا، ولكنه موجود بشكل كبير جدًا. كان الشباب الذين لمحتهم على الموتورات يحملون علم الوحدة، أي العلم الأحمر، لأن الثورة لم تكن قد اتخذت بعد منحى الانفصال بشكل تام، وكان لديها أمل أن الجيش أو النظام أو جزء منه سيتجاوب معها. حَيّيتُ الشباب من الشباك وقلتُ لهم «معكم!». ولكني اكتشفتُ لاحقًا أن النظام يستغل هؤلاء الشباب بإعطائهم مبلغاً من المال حتى يقمعوا المظاهرة. ولكن لاحقًا كان هؤلاء الشباب الفقراء أنفسهم على الموتورات يدلّون المظاهرة إلى أين يجب أن تتجه تجنبًا للأمن، وكثير منهم استُشهد.
ربما لستُ راضية عن الدور الذي لعبتُه في الثورة لأسباب خاصة بي وبوضعي العائلي. ولكن مشفى الحوراني لعبَتْ دورًا جيدًا. لا أدري كيف سأتكلم عن الموضوع. ولكن جاءت أعداد كبيرة من جرحى المظاهرات إلى المشفى، مثلًا أثناء مظاهرة أطفال الحرية خرج من المشفى أربعةٌ وعشرون شهيدًا مباشرة. وصار الأطباء يختارون الأشخاص الذين لديهم حظوظ أكبر في الشفاء ليجروا لهم عمليات. لدينا خمس غرف للعمليات فقط في المشفى. ملأ الدم دهاليز المشفى ومقابض الأبواب. وقد كان تعاطف الناس كبيرًا جدًا، حيث صاروا يتبرعون بما يستطيعون مهما كان بسيطًا من مناشف وقطن وشاش. وتناوبَت أعداد كبيرة منهم لحماية المشفى خوفًا من خطف الجرحى. قابلتُ لاحقًا شابًا في فرنسا، فقال لي إنه تم اختطافه من المشفى بعد مغادرتنا حماة، وتمّ تخليصه في الطريق من قبل رفاقه. كانوا يدخلون المشافي ويأخذون الجرحى، ولكن الذي قام بحماية المشفى هم أهل حماة. ربما كان مشفانا الوحيد الذي يستقبل الجرحى، وربما كان هناك مشفى واحد آخر. ولم يتجرأ الأمن أن يدخل من المدخل الرئيسي، فدخلوا من المدخل الخلفي، ليطلبوا تسليم الجرحى للمشفى الحكومي، وقد كان جوابنا أننا نمارس واجبنا المهني، وإذا أرادوا أخذ المرضى فليفعلوا بأنفسهم، بمعنى أننا لن نسلّم أحدًا. وقد اضطر رجل الأمن أن يتمالك نفسه ويخرج مجددًا من الباب الخلفي، لأن المدينة كانت في حالة غليان فظيعة.
كانت المظاهرات تخرج يوم الجمعة، ولكننا نستنفر من الخوف منذ يوم الخميس. نخاف من أن الناس سوف تُحجِم عن التعبير والتظاهر. لذلك لم أكن قادرة على النوم في سريري، بل في غرفة الجلوس، إلى أن أطمئن أن المظاهرة خرجت. كذلك خفتُ أن تغلق المشفى كما حصل أثناء سجني، لذلك كان محيطي ينبهني ألا أشارك بشكل واضح، فصرت أخرج مساءً. وفي إحدى المرات، سمعتُ المتظاهرين يحيّون مي سكاف في ساحة العاصي في حماة، تلك المدينة التي طالما قالوا عنها إنها متأخرة ومتطرفة. ولكن جميعنا يعلم القَسَمَ الذي أقسمته حماة بخصوص وحدة الشعب السوري. وقد عاشت المدينة أشهرًا غابت فيها السلطة، وكانت من أجمل الفترات التي عشتُها منذ دخولي إلى سوريا في عام 1990، لأننا شعرنا بالاطمئنان لغياب «قوى الأمن». لم يكن هناك ضغط، ولا سرقات، ولا مشاكل. حتى أذكر أن إحدى الصديقات علّقت على ذلك: «يا جماعة، كأن الأمن هو الذي كان يسبب المشاكل بيننا».
متى خرجتِ من حماة؟
خرجتُ بعد دخول الجيش. كان ذلك في بداية آب (أغسطس) 2011. في البداية تخفّيتُ في بيت قريب من المشفى لبضعة أيام. وحين صار دخول الجيش مؤكدًا، حاولتُ الذهاب إلى بيت أصدقائنا ولم أنجح في ذلك، لأن النظام بدأ حينها بإطلاق الرصاص، ووجهوه إلى السيارة. فاضطررتُ أن أغير خطتي وأذهب إلى بيت أحد معارفي المُقرَّبين. حضرتُ هناك دخول الجيش تحت وابل من القذائف. أذكر أننا كنا جالسين حول طاولة الطعام ونشمّ رائحة القذائف الآتية من الدرج. كانت الأم ما زالت تعيش ذكريات مذبحة 1982، لذلك راحت تنبّه بناتها بأن يتحجّبنَ وينتبهنَ على أنفسهنّ. من المعروف أن الناس في حماة، كما في سائر سوريا، أقبلوا بشدة على الحجاب حتى صارت بمثابة ظاهرة. وإن رغبت النساء بالتخلص من الحجاب فيما مضى، فهن الآن يستخدمنه كنوع من النضال العفوي ضد النظام (الذي سبق أن نزع الحجاب عن رأس النساء، حتى كبيرات السن، بالإضافة إلى تصرفات أخرى). كُنَّ يعتبرن أنهنّ يمارسن بهذه الطريقة حريتهنّ، ويخترن شيئًا أردنه لأنفسهن. المهم، عندما خبطوا على الباب، سقطت الأم على الأرض، لأنها تحمل ذكرى أحداث حماة حين أخذتها دورية الأمن العسكري مع أختها من الشارع بسبب طريقة الحجاب واللباس التي تنم عن تديّن كما فهمت. خبطوا على الباب، ولكنهم لم ينجحوا باقتحام المنزل فتجاوزوه، وهدأت الأمور. عرفتُ بعدها أنهم ضربوا المشفى. تحطم زجاج المشفى، وتضررت العناية المشددة وغُرَف الواجهة، ولكن الحمد لله لم يُقتَل أحد.
حالما هدأ الوضع، خرجتُ إلى البلكون. ورأيتُ أن الدمار ليس بحجم إطلاق الرصاص، لأنه لم تكن هناك مقاومة تُذكر. الحق أن الثورة كانت سلمية بامتياز. وقد ساعد ذلك على انتشارها، ولم تُقمَع بسرعة كما حصل في مذبحة حماة في ثمانينات القرن الماضي. ساعدتْها سِلميتُها على أن تعمّ جميع أرجاء سوريا. وكان السوريون، وخاصة الحمويون، مصرّين على السلمية. أذكر رجلًا بسيطاً يعمل كحمّال، وكنتُ على تواصل معه من خلال زوجته التي كنتُ أعالجها. قلتُ له ذات مرة: «انتبهوا، خلوها سلمية، ما تعطوا النظام مجال حتى يستعمل العنف»، رغم كل العنف الهمجي الذي يستخدمه طبعًا. وكان يجيبني بما معناه: «دكتورة، ما تقلقي، كلما خرج الشباب من الحارة، أقول لهم لا تزعجوا أحدًا، حتى الأرصفة لا توسخوها، لا تخربوا شيئًا، لا ترموا بالحجارة على أي شيء، لا تكسروا البلور، لأن كل هذه الأشياء ستكون لنا غدًا، حتى بناء الأمن العسكري نفسه لنا، وإن شاء الله سيكون مدرسة لنا و….!». أنقل الآن كلامه، ولكني أعجز عن نقل تعبيره ولهجته التي كانت ألطف بكثير. كانت الأمور تسير بهذا الاتجاه.
بعد دخول النظام، قعدتُ فترة في حماة. توقفت المظاهرات، عدا عن مظاهرات طيارة في الليل ولمدة دقيقتين أو ثلاثة وتنتهي. غادرتُ حماة بعدها، لأنه لم يعد ثمة مجال للبقاء. غادرتُ في اليوم الذي زار فيه السفير التركي سوريا، خرجت وقتها لأنهم خففوا التدقيق عند الحواجز. ومع ذلك اضطررتُ للتخفي، ولبستُ الحجاب والبالطو الأسود. أوقفونا على الحاجز قبل وصولنا إلى دمشق، فخفتُ على الشاب الذي كان معي، لأنه من الذين فقدوا أحد أفراد العائلة في الثمانينات. ولكن الأمور مرّت على سلام. وتأكدتُ بعدها أن ابني هرب أيضًا، وبقي زوجي. كلاهما كانا متهمين بتمويل الثورة. التقينا لاحقًا في دمشق، وبدأنا حياتنا هناك.
هناك نقطة نسيتُ ذكرها، وهي أني لم أكن في حماة حين خرجت مظاهرتها الكبيرة جدًا في تموز 2011. وقتها زار كلٌ من السفير الأمريكي والسفير الفرنسي المشفى. كنتُ في دمشق، لأن أختي قدِمت من إنكلترا لزيارة سوريا، واضطررت أن أكون معها لبضعة أيام. خَرجتْ وقتها مظاهرة كبيرة في حماة، فقلتُ: «هذه حماة تُري العالم بأسره أن المدينة، التي ذُبِحت بحجة التسلح، تتظاهر سلميًا. إذن أرِنا أيها العالم كيف ستساعد السوريين؟ قل لنا كيف سنزيح هذا النظام؟ تريدونها سلمية؟ هذه سلمية!». ومع ذلك حصل ضرب رصاص وقتل واعتقالات وأمور غير معقولة. حماة بالذات تعرف كيف يُجرم النظام، ليس لديه أي قيم ولا حدود ولا أي إنسانية. ها هي حماة تقاوم لمدة خمسة إلى ستة أشهر بشكل سلمي، وماذا كانت النتيجة؟ ها هي حماة المذبوحة تقول للناس إننا سلميون، حماة المذبوحة بحجة الإرهاب والمقاومة المسلحة، ولكن النتيجة كانت كما تعرفون.
بعد دخول النظام حماة وهروبنا إلى دمشق، اضطررنا أن ننتقل من بيت إلى بيت، ولكننا استطعنا أن نستأجر من دون ذكر اسمنا في عقد الإيجار. ومع الوقت، بدأت الحواجز تتكاثر، وبدأوا بتفتيش البيوت بيتًا بيتًا، عمارة عمارة، لكي يعرفوا من هم السكان. لذلك غادرنا في آب (أغسطس) 2013 إلى عمّان ، قبل مذبحة الكيماوي بقليل. في الحقيقة لم أتوقع أن الأمور ستطول هكذا. أتذكر أنه كان لدي صديق لم تسمح له الظروف بالتعلّم، وكان يمر علَيّ لنشرب قهوة الصباح معًا. قلت له إن النظام لم يظهر بعد على حقيقته، لذلك لا تتوقعوا أن الموضوع سهل. فسألني: «كم ستطول يا دكتورة؟ سنة أم سنتان؟ نحن مستعدون!». فأجبته: «ماذا تقول؟ سنتان فترة طويلة جدًا!». الحقيقة كنا قاصرين أن نستوعب أننا سنُفجع بهذا الشكل، ونصل إلى خراب كل سوريا، وتصبح حماة المذبوحة نموذجًا مرعبًا للشعوب الراغبة في التغيير في المنطقة بأسرها.
يتحمل العالم مسؤولية هذه المأساة الكبيرة، لأنه لم يقعد يتفرج فقط، بل راح يُعيق الثورة كيلا تحقق إسقاط النظام. لو تُرِكنا، ورغم إمكانياتنا البسيطة، لما انقلبت الأمور إلى هذا السوء. توقعتُ أنها ستطول، وأدركتُ باكرًا أهمية الصندوق الوطني لدعم الثورة. ولكن مع الوقت لم تَعُد الناس تحتمل، وصارت حماة تتظاهر فقط بحماية السلاح. استهدف النظام عدة مناطق، داهموا البيوت وحرقوها، وهدموا منطقة الأربعين وجرفوها بالجرافات. لم يعد من مجال أمام السوريين سوى اللجوء إلى حمل السلاح. وطبعًا السلاح يستدعي تطورًا على مستوى الاتصال والوعي السياسي، غير أن المعارضة المقموعة على مدار عشرات السنين لم تكن قادرة على القيام بهذا الدور. كانت ثورة عارمة، انفجار بعد قمع طويل، وهذا يتطلب قوة منظمة جيدًا قادرة على التوجيه، وتَفهمُ التناقضات الدولية والاستفادة منها. كان العالم خائفًا من التغيير في سوريا، لأنه سوف يجرّ إلى تغييرات في المنطقة كلها. كان ثمة خوف، وخصوصًا على إسرائيل التي كانت متعايشة مع النظام لعقود. حتى أنه حين قامت المظاهرة الأولى في مخيم اليرموك تأييدًا للسوريين، وردَ أن متظاهِرَين تمكنا من الدخول إلى وسط إسرائيل. يبدو أنه لم تكن ثمة ألغام، الاطمئنان وصل بينهما إلى هذه الدرجة.
يذكرني هذا بحادثة حصلت معي في المعتقل. يبدو أنه كان هناك عدد من الشباب ممن حاولوا الذهاب إلى العراق. لا أعرف ما هي جنسيتهم، ولا من أين هم. كان هؤلاء الشباب يُعذَّبون في الممر، وكنا نسمع أصواتهم من غرفتنا. سأل الجلاد أحد الشباب عفويًا: «ما عرفت تروح إلى إسرائيل!؟». ولكن حالما انتبه إلى نفسه، استدرك: «قصدي عن طريق الأردن!». قصدي أن أقول إن وضع سوريا وتاريخها وموقعها الجغرافي جعل ثمن الحرية باهظًا جدًا. وليس أمامنا سوى أن نكمل الطريق، هذا هو قدرنا في وطننا سوريا.
كم بقيتِ في عمّان؟
بقيتُ سنة واحدة. لم يكن لدى ابني وزوجته مجال للعمل في الأردن، ولا إمكانية للاستقرار هناك. فطلبنا اللجوء في فرنسا.
تربيتِ في بيت سياسي بامتياز، ذلك أن والدكِ هو أكرم الحوراني المعروف سوريًا. لا بد أنه كان لذلك تأثير كبير على مسارك السياسي وخياراتك. كيف تنظرين الآن إلى الإرث الذي تركه والدكِ لكِ؟ وإلى أي مدى كان والدك حاضرًا في مراحل حياتك الشخصية والسياسية، سلبًا وإيجابًا؟
كان والدي حاضرًا بشكل إيجابي بالعموم. ولكننا عانينا مما نسميه «الكبسات» التي كانت تأتي إلى بيتنا منذ الطفولة، أي هجوم الأمن على المنزل دون سابق إنذار وما يخلفه ذلك من خوف. عانينا من خوفنا عليه وهو مختبئ أو هارب في طريقه إلى لبنان، ومن أننا لم نَعِش معه فترات كافية. ومع ذلك أتذكر بيت الطفولة ملآنًا بالناس، والأحاديث تدور دائمًا عن السياسة والتاريخ إذا كان موجودًا. ولكننا كنا مع الوالدة أكثر، لأنه كان في أغلب الأحيان مشغولًا أو منفيًا. عشنا بشكل شبه منفصل عنه، فيما عدا فترات قصيرة. ورغم ذلك، استطاع أن يترك أثرًا على تكويننا النفسي والوطني وحساسيتنا تجاه الظلم وموضوع الحرية. هذا كان إيجابيًا جدًا.
أما السلبي فهو أننا لم نسكن في بلد واحد. كلما ذهبنا إلى بلد، وبدأنا نضرب جذورًا فيه، غادرناه مجددًا. آخر عودة لنا إلى سوريا كانت في 1990 بعد اجتياح الكويت. وقد قال لي ذات مرة: «يا ابنتي، لن أعود حتى يعود الفلسطينيون». كان لديه شعور أن الموضوع الفلسطيني ليس مقتصرًا على فلسطين، بل المنطقة كلها. وقد قلت لنفسي بعد عودتنا إلى سوريا إن كلامه لم يكن دقيقًا. ولكن بعد قيام الثورة، أدركتُ أن البلد فعلًا لم يكن في أيدينا. كنا نحاول التمسّك به والبقاء فيه، ولكنه لم يكن الوطن الذي يُمكننا الاطمئنان أنه لنا. هذا الوطن ليس لنا، هذا الوطن للمخابرات، وللقمع والاستبداد والحرامية. أعتقد الآن أن نظرته كانت سليمة، لأنه ليس الوحيد، بل كل الشعب السوري لا يمكن أن يكون له وطن من دون حلٍ حقيقي.
كان الربيع العربي فرصة لفتح صفحة جديدة مع العالم والغرب والدول الفاعلة، وقد قامت به أجيال شابة ليس لديها إرث سلبي مثل الذي عندنا، بخصوص الاستعمار أو الانتداب أو قيام دولة إسرائيل وما رافقها من نكبات وآلام. جاء الربيع العربي ليدعم الديمقراطية في المنطقة، وقدّمَ فرصة تاريخية للدول الفاعلة لإيجاد حلّ بالتوازي في فلسطين، حلّ يقوم على أساس المساواة في الحقوق وإنهاء نظام الفصل العنصري. ولو نجح ذلك، لاستطاعت المنطقة أن تفتح صفحة جديدة من الاستقرار وحرية الشعوب والانفتاح على العالم. بالنتيجة نحن لا نقدر على فصل سوريا الصغيرة، التي تفتتت الآن، عمّا يحدث في محيطها، ولا أقصد فقط محيطها الجنوبي، إذ أننا رأينا إيران والعراق أيضًا. هذه الأمور مترابطة ببعضها إلى حدٍ كبير.
أعود إلى سؤالك. بعد فترة الاستقلال جاءت فترة الدفاع عن الحريات وترسيخها والنضال الاجتماعي، فلقد كان هناك جزء كبير من الشعب السوري يعيش في ظروف اقتصادية صعبة جدًا. وقد خلق النهج الذي انتهجه أكرم الحوراني بخصوص الفروق الاقتصادية والعدالة الاجتماعية استقطابًا كبيرًا بين العائلات الإقطاعية (أو المتنفذين أو الوجهاء أو الذوات كما يقول المؤرخون) وبين بقية العائلات البسيطة في حماة وريفها. بعد عودتي إلى حماة، لاحظتُ أن هذا الاستقطاب ما زالت بقاياه موجودة. وقد حاول النظام ألا تنتهي تلك الاستقطابات، رغم أنه من المفروض أن تكون مؤقتة، وأن يقف الجميع ضمن اتجاه واحد عنوانه الخلاص من الاستبداد. حاول النظام أن يُعمّق تلك الاستقاطابات بين الريف والمدينة وبين العائلات المختلفة. أذكر مثلًا أنه جاء أحد الأشخاص المنتمين إلى الأسر الإقطاعية في نواحي حماة إلى المشفى. والطريف أنه كان يشكي من حالة قلبية، ولكنه حين عرف أثناء الطريق أنهم يتوجهون به إلى مشفى الحوراني، هبّ قائلًا: «نزلوني، ما بدي روح إلى مشفى الحوراني». تحدثنا لاحقًا معه وعالجناه، وبدأ الشعور بهذه الفروق ينتهي سريعًا. لو استمر الوضع الديمقراطي لَمَشتْ هذه الأمور في حال سبيلها. كان هناك استقطاب وخوف إذن. كان البعض خائفًا من التقرب مني بعد عودتي إلى حماة، فشعرتُ في البداية ببعض الوحدة. غير أن فتح المشفى أشعرني كم كان النضال الذي شارك به أكرم الحوراني مغروسًا في ضمير المنطقة. ففي يوم افتتاح المشفى جاءت مئات من الناس لتبارك لنا. وقد قدّمَ ذلك نوعًا من الحماية لنا، أي أن النظام لم يستطع أن يقطع الإنسان السوري تمامًا عن ذاكرته، وربما لذلك تَحمَّلنا النظامُ أكثر مما يفعل مع الناس الآخرين، إلى أن تمّ اعتقالي في فترة إعلان دمشق.
كتبت والدتك نزيهة الحمصي مُذكّراتها كما كتب والدكِ مُذكّراته. ولكن معظم السوريين لا يعرفون شيئًا عنها وعن مذكراتها. أُرجّح أن السبب هو عدم التقدير الفعلي لدور النساء في المجال الخاص، والمبالغة بتقدير ما يقوم به الرجل عادة في المجال العام. هل تُوافقينني الرأي؟ وكيف تنظرين إلى تجربة والدتكِ، ليس كزوجة سياسي مرموق فحسب، بل كإنسانة لديها أفراحها وخيباتها وطموحها الخاص؟
بالنسبة للمذكرات، فكلامك ينطبق على مذكرات الطرفين. ذلك أن مذكرات والدي مُنِعَت فترة من سوريا. ولكن الفرق يكمن ربما في بعض ما تكلمتِ عنه بخصوص المرأة. بالعموم تجربة الطرفين مختلفة، ومذكرات والدي كانت إطلالة على تاريخ المنطقة، وليس فقط تاريخ سوريا في الفترة التي عايشها. كان لوالدتي دورٌ في إخراج مذكرات والدي. في البداية كان هناك شخص يساعده بالكتابة، ولكن بعد ذلك استلمت والدتي الكتابة. والدي يحكي ووالدتي تُسجّل، ويعودان إلى المراجع، وبعدها تكتب وتعرض عليه من جديد ليقوم بتصحيح ما يراه.
بالنسبة لوضع المرأة، فهي إنسان لها مشاعرها الوطنية ومواقفها السياسية مثلها مثل الرجل. وينبغي ألا يكون هناك منع حين تختار الحيز السياسي. ولكن ما يحصل عادة هو أن العائلة تأخذ لديها أهمية أكبر من الرجل. الأساس هو حرية الاختيار، وعدم المنع، ولكن ماذا تختار بعدئذ، فهذا موضوع آخر. بالنسبة لوالدتي، فأعتقد أنها هي التي اختارت حياتها ضمن وضعها وبيئتها. لأنها ناضلت حتى تعلمت، وناضلت حتى اشتغلت، وناضلت حتى رمت الحجاب من على رأسها.
هلّا توسعتِ قليلًا حول موضوع نضالها؟
والدتي حمصية الأصل، وتنتمي إلى عائلة تجارية تقليدية. كان جدي يلبس طربوشًا أحمر، وكنا نُقبّل يده حين نراه. هو من أوائل من فتح تجارة بالصينيات مع الشرق الأقصى. أما من ناحية جدتي، فلم تكن عائلتها نمطية. كان أبوها يعمل في الجيش التركي على حدود فيينا، وقد لاحظ أن ابنته ذكية، وأراد لها أن تدرس في اسطنبول، ولكن والدتها رفضت وزَوَّجتها من ابن خالتها في اليمن. علّمت جدتي نفسها في اليمن، وحفظت الشعر. أذكر ما حكته أمي عنها، وكيف أنها كانت تقول الشعر أثناء غسلها الغسيل. وقد حفظت أمي شعرًا عن جدتي. وحين سألتْ معلمةُ الابتدائي من يحفظ الشعر، رفعت أمي يدها وألقت بيتًا من قصيدة لبشارة بن البرد. ضحكت المعلمة، فحسبت أمي أن أمها قامت بعمل سيئ وراحت تبكي.
كانت جدتي، رحمها الله، من النساء اللواتي تغلّبنَ في حياتهن في سبيل تعليم أمي وخالتي. كانت دائمًا تقول لجدي التقليدي: «طالما أختك تتعلم، فبناتي سيتعلمن أيضًا». طبعًا جدتي تزوجت جدي بعد طلاقها من ابن خالتها الذي أخفى عنها زواجه من امرأة أخرى قبلها في اليمن. ويُقال إن أحد الأصدقاء جاء إلى جدي قائلًا: «بناتك سيكتبنَ غدًا مراسيل غرام!»، مما دفعه إلى موقفه السابق. غير أن التطور الاجتماعي والفكري كان في تلك الفترة سريعًا، إلى درجة أن جدي هو الذي نصح أمي أن تتعلم سياقة السيارة حين غاب والدي. وقد كانت فعلًا من أوائل من تعلّم السياقة، رغم بعض التعابير التي كنا نسمعها من الناس حين تسوق، والتي تضطرنا – أنا وأختي – أن نختفي أسفل مقاعد السيارة. وعندما قَدَّمتْ أمي على شهادة البكالوريا، كانت واحدة من ست عشرة طالبة فقط على مستوى سوريا. كان العدد قليلاً جدًا، وهناك امتحان يجري شفويًا أمام العموم.
كان وضعها صعبًا إذن مع جدي التقليدي، ولكن جدتي ساعدت كثيرًا، وأمي وخالتي كانتا على قدر المسؤولية. خالتي لديها أيضًا كتابة حلوة، وأمي لديها اهتماماتها السياسية، وكانت تحضر جلسات المجلس النيابي حتى قبل زواجها من أبي. كان ذلك الجيل يتقدم بخطى واسعة، وقد انعكس ذلك على كل شيء في سوريا تقريبًا، على موضوع الانتخاب والعلاقات والأحزاب والحياة النشيطة وكل شيء.
أُحسّ أن الحديث عن جدتك ووالدتك يُسعدكِ، هذه أول مرة أرى إشراقة وجهك منذ بداية الحوار.
طبعًا. أنا لا أتذكر جدتي للأسف، لأنها توفيت باكرًا. وما زلت أذكر كيف كنت أجلس عند قدميها بعد إصابتها بالشلل. كانت تحكي لنا الحكايات. هذا ما أذكره عنها، ولا أذكر شيئًا آخر. ولكن حديث أمي ومذكراتها ما زالا في الذهن. وما زالت أمي مُحتفِظة ببعض تطريزاتها. كانت جدتي سيدة على مستوى عال، ونقلت هذا إلى ابنتيها، فكانت لهما مواقفهما وإسهاماتهما.
هل كانت والدتك راضية عمّا أنجزته في نهاية حياتها، أم أنها كانت تشعر بأن هناك إمكانيات لم تحصل عليها؟ وهل كانت راضية عن دورها ضمن الأسرة؟
لا أعرف تمامًا. ولكننا كنا نشعر أنها كانت راضية ومنسجمة فكريًا وسياسيًا مع الوالد. لم نكن نشعر أن ثمة مشكلة من هذه الناحية. لذلك تحملت أعباء كبيرة من دون أن تشتكي. هي التي رتبت حياتنا كلها، وكانت موجودة في كل شيء يخصُّنا. كانت لفترات طويلة وحيدة مع أربعة أطفال، وكنا نرى كل شيء جاهزًا حين نستيقظ صباحًا. الطبخة على النار، والبيت مُرتَّب، وحديقة البيت مشطوفة. مع أنها عملت طيلة حياتها في مديرية التربية في الصف الخاص، ومرّت فترةٌ كانت فيها مديرة مدرسة. لم تكن الأمور سهلة بالنسبة لها، فلطالما مُنِعت من السفر، فاضطرت أن تذهب إلى والدي في لبنان تهريبًا. أعتقد أنها كانت تؤدي دورها في شبه قناعة تامة. لو كانت على قيد الحياة، لسألناها.
بعد الكلام عن والديك، ننتقل إليكِ. لم يسطع اسمكِ حقًا على مستوى سوريا إلا بعد نشاطكِ ضمن إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي في عام 2007، هل كانت لديكِ قبل ذلك نشاطات سياسية معينة؟ وما هي؟
بالفعل، إعلان دمشق قرّبَ شخصيات كثيرة من أسماع الناس، وأنا واحدة منهم. لكن حين كنتُ في سجن دوما، لاحظتُ أن هناك انقطاعًا كبيرًا بين النخبة السياسية والمجتمع بشكل عام، وخاصة الطبقات الأدنى اقتصاديًا إن صحّ التعبير. ولكن دعيني أردُّ السؤال إليك. أنا من الموقعين على بيان الإعلان، في رأيكِ لماذا تمّ اختياري للتوقيع؟
أكيد لأنه كان لديك نشاط معين وموثوقية عند الناس. ولكني سألتُ عنكِ قبل إجراء هذا الحوار، وجميع من سألتهم كانوا يبدؤون الحديث عنك اعتبارًا من إعلان دمشق.
لقد عُدنا إلى سوريا في عام 1990، وكان الاستقبال سيئًا، مثلما يُستقبَل جميع السوريين بعد فترة انقطاع طويلة عن البلد. كانت ثمة إزعاجات واستدعاءات إلى الأمن العسكري وما إلى ذلك. لم تكن العودة إلى حماة على وجه التحديد أمرًا بسيطًا أو سهلًا أبدًا.
بدأ نشاطي في عدة مجالات، حيث تمت دعوتي إلى المؤتمر القومي العربي. وعلى الأغلب جاءت الدعوة على أساس والدي وارتباط اسمه بالقومية العربية. ولقد قبلتُ الترشح، وبكل موضوعية أقول إني كنتُ أمينة جدًا على القضية السورية، وعلى مسألة الحريات وشرح قضية الفساد وإفقار الشعب السوري وتهميشه. كنت جريئة في استثماري الهامش الذي منحه لي وضعي مع النظام، نظرًا لتوجُّسه من المساس بابنة أكرم الحوراني وافتعال الإشكالات حولها. وخاصة لأن والدي كانت له سمعة طيبة في الريف عمومًا، وبخاصة ريف حماة بمختلف أطيافه. لقد عملتُ على أن أستفيد من هذا الهامش إلى أقصى الدرجات. حكيتُ في كلِّ مؤتمر كلَّ ما عندي، مع أن الكلام الذي يفضلونه كان تكرارًا متواصلًا لجمل عمومية، كأن نقول مثلًا «النظام العربي كذا أو كذا، ويحتاج إلى كذا»، ليصدّروا بعدها قرارات ذات طابع عام أيضًا. اكتشفتُ أن هذا لا يزعج الأنظمة العربية، لأن النقاط لا توضع على الحروف فعليًا. ولكني كنتُ دائمًا أتكلم عن خصوصية سوريا وأهميتها وما يجري فيها من قمع مميز حتى على مستوى الأنظمة العربية، وأطالب بالتحديد وعدم الغرق بالعموميات. لم أكن لوحدي، ولكني أتصور أني قدرتُ أن أتجاوز المُتعارَف عليه بكامل الجرأة والموضوعية.
ربما لا تعرفينني، ولكن لقاءنا اليوم من اللقاءات النادرة معي. أتكلم معك، ولكني أخجل من الكلام على العام، ولستُ مُتمرِّسة فيه. المهم، انتُخِبتُ للهيئة العامة في مؤتمر اليمن، وهذا أزعج الكثيرين من الأمانة العامة، وأزعج النظام بشكل كبير. لم تكن لدي نية الترشح، ولكن كان ثمة ضغط ما من الأصدقاء السوريين. قيل لي إن الترشُّح أفضل، وبخاصة أني أتمتعُ بقبول عام. بقيتُ في الأمانة لفترة قصيرة، لأن النظام منعني في 2004 من مغادرة سوريا. وفي اجتماعها في لبنان ذات مرة، أذكر أن الأمانة ذهبت بمجموعها لتقابل الهراوي، ولكني لم أرضَ الذهاب معهم، لأني أعتبره تكملة للنظام السوري ضمن وضع لبناني رافض، بل مفروض من قبل النظام السوري. كذلك حين قررت الأمانةُ أن تجتمع في دمشق، في فندق أمية، وحان وقت التقاط الصور، رفضتُ أن أكون معهم، وغادرتُ تاركة مقعدي خاليًا. وكذلك حين ذهبوا لمقابلة بشار الأسد، رفضتُ ولم أذهب معهم. يومها كان الموسوي – مندوب حزب الله – موجودًا، فقلتُ بما معناه: «إنكم لا تعرفون الشعب السوري ولا تاريخه. ولا تعرفون النظام السوري. عيب على سوريا أن تختبىء وراء حزب الله في ’المقاومة‘. إن الإفقار وكمّ الأفواه هو الذي أوصل سوريا إلى هذا الدرك… وإلى آخره». فحرد الموسوي وخرج من الاجتماع. ودار بعدها حديث لي مع الرئيس البشور، قال فيه تلافيًا للأمر إن حسن نصر الله يعرف النظام السوري ويُقدّر المعارضة في سوريا. فقلت له: «إذن بلّغوه أن اسمها الجمهورية العربية السورية، وليست سوريا الأسد!».
كانت الأمور مُحتدمة جدًا في المؤتمر القومي بسبب الخط الذي اتخذناه أنا وبقية السوريين غير المُبتعَثين من قبل النظام أو الموالين له من جنسيات عربية أخرى، وقد تمكنّا من تجاوز الكثير من الخطوط في شرح الوضع الذي يعيشه الشعب السوري للحضور. في يوم من الأيام، توجهتُ بسؤال أحد الداعمين لسوريا عمّا يعتقده بخصوص السبب وراء دعم النظام السوري لحزب الله في المقاومة. فأجابني ساخرًا: «لأننا شيعة وهم علويون!». فقلت: «الموضوع ليس كذلك، حين تكون المقاومة ذات صبغة طائفية فحافظ الأسد، ومن بعده بشار الأسد، لن يخافا من أن تمتد المقاومة لتصبح قضية وطنية عامة تهدد النظام. ما يهددهم فعليًا هو أن يتحول الأمر إلى مقاومة وطنية حقيقية غير طائفية!».
وبالنسبة للديمقراطية على سبيل المثال، فأذكر أني قدّمتُ ورقة للمؤتمر القومي الذي عُقِد في البحرين، وتزامنَ مع حصار جنين في 2002 والقمة العربية في بيروت. كانت العراق حينها مهددة بالغزو الأميركي. تحدثتُ في ورقتي عن الوضعين السوري والعراقي، وطالبتُ فيها النظام العراقي مباشرة بفتح الحوار مع المعارضة العراقية، وتغيير بنيته وفتح الأفق الديمقراطي. أما بالنسبة للقضية الكردية، فقد طالبتُ بالعودة إلى الحكم الذاتي بشكل حقيقي. كما توجهتُ إلى النظام السوري بخصوص إلغاء حالة الطوارئ والأحكام العرفية ووضع قانون يؤكد حرية تشكيل الأحزاب وإلى آخره. كانت النتيجة أني تلقيت هجومًا لم أتوقعه من أكثر الحاضرين. حتى القلة ممن وافقوني على كلامي، لم يعبّروا عن دعمهم إلا بيني وبينهم وتجنبوا مساندتي علنًا. كان هذا مؤلمًا جدًا بالنسبة لي.
كان ذلك في الحضور الوجاهي قبل الأخير على ما أذكر. ولكني شاركتُ في المؤتمر القومي الذي عُقِد في المغرب عبر الرسالة. كتبتُ بما معناه أنه لا يعوّل على الكلام بالموضوع القومي من دون ربطه بالديمقراطية. نحتاج إلى تزاوج بين الطرح القومي والديمقراطي. لا يمكن أن نتكلم بالقومية العربية تحت نير الاستبداد، لأن هذا يُفرّغ القومية العربية من مضمونها. والحق أني لا أعرف إن كانوا استلموا الرسالة أم لا، وما إذا كانت في الأرشيف كما بقية المشاركات. بالنسبة لي، القوميةُ العربية فضاء كبير يمكن للدول أن تشترك فيه بإرادة شعوبها، ولكنها ليست مُنزَلة من السماء ولا يمكن فَرضُها فرضًا. نحتاج إلى أن يشعر الفرد في هذه الأمة (عربي وغير عربي) أن لديه مصلحة بالانتماء إلى ذلك الفضاء الواسع. أجد أننا نُسخِّف القومية العربية إن لم نشدد على أهمية ربطها بالديمقراطية.
انتهى تواصلي معهم هنا، ولم يتصلوا بي وارتاحوا مني. ولمّا اعتُقلت، كان موقف بعض الأعضاء سيئًا جدًا بما يخص إعلان دمشق. ولكني راضية عمومًا عن أدائي في المؤتمر القومي العربي، وخاصة أنه لم يكن لدي نشاط سياسي من هذا النوع قبل ذلك. في المراهقة كانت لدي بعض المغامرات الصغيرة مع صديقاتي: توزيع منشورات بخط اليد، وتطبيق درس الفلسفة على حائط المدرسة (كل إنسان فانٍ، حافظ الأسد إنسان، حافظ الأسد فانٍ). أذكر أنه أُجري على إثرها تحقيق في المدرسة، ولكنهم لم يتوصلوا للفاعلات. وقد مُنِعَت مجلة الحائط بعد عددين، وطُولبنا بإحضار أمر من مجلس الوزراء!!! وقبل ذلك رفضنا المشاركة بمظاهرات المؤيدة لحافظ الأسد، ومَنعنا الصفوف من المشاركة، فطردتُ على إثرها لمدة ثلاثة أيام على ما أذكر. كنتُ أحتفظ في ذاكرتي بما قاله الشهيد كمال ناصر لوالدي عن آمرية الطيران (معقل الأسد)، التي ضمت سجنًا في أقبيتها حيث يُعذَّب الفلسطينيون بشكل فظيع. ربما كانت مغامراتي القديمة طفولية، وتواقة للحرية، ومتعاطفة مع العمل الفدائي إلى حدٍ كبير.
نسيتُ أن أذكر أني في فترة انتمائي للمؤتمر القومي، قدّمتُ بعض الدراسات الصغيرة. قارنتُ مثلًا بين دستور 1950 ودستور حافظ الأسد الذي صدر في 1973، وتناولتُ بنظرة عامة دستور 1950. خرج عملي ضمن كُتيّب مهم في تقديري. كتبتُ كذلك عن تطور القانون الانتخابي إبّان الفترة الديمقراطية. كما قدمت دراسة عن خليج العقبة، وتطرقتُ في نص آخر إلى ملابسات تحويل نهر الأردن، لأن الموضوع كان له علاقة بالوضع السياسي بعد الاستقلال. وكذلك أصدرتُ بيانًا حول الانتخابات التي يجريها النظام السوري، وشرحتُ موقفي فيها. ربما تكون محاولاتي بدائية، ولكنها مهمة في وقتها على ما أعتقد.
وبالتوازي وقبل انتمائي للمؤتمر القومي، كانت لي عدة نشاطات في حماة. من بينها أني عملتُ على تنظيم اجتماعات مع الصديقات وأولادهن في المناسبات الوطنية كعيد الجلاء، ونشاطات مدنية أخرى ذات طابع وطني، بهدف إعادة السياسة إلى الناس شيئًا فشيئًا. والحقُّ أني تفاجأت بمدى انقطاع الناس عن تاريخهم. أتذكر مرة في عيد الجلاء أني سألت عدة مريضات عن سبب العطلة. المريضة الأولى لم تعرف سبب العطلة، والمريضة الثانية تلقت مساعدة من زوجها الذي نادى من خلف القاطع الخشبي بأنها ذكرى جلاء الانتداب الفرنسي، أما المريضة الثالثة فقالت إننا أخرجنا الفرنسيين في هذا اليوم، وأن حافظ الأسد هو الذي أخرجهم!!! صارت لدي قناعة أن جيلًا شابًا بأكمله لديه انقطاع كامل عن تاريخه. بعض الشباب لديهم فكرة عن معاناة أهاليهم في السجون، أو خلال مذبحة 1982، ولكن حتى تلك التجربة لم تنتقل بحرية، إذ كان الأهل يخافون من تبعات ذلك. وقد تكرست وتوسعت لدي تلك القناعة أثناء الفترة التي قضيتها في المعتقل: ثمة طبقات مهمّشة ليس فقط اقتصاديًا، بل هي منقطعة تمامًا عن تاريخها.
ونهايةً، بودي الإشارة إلى عُمق القضية الفلسطينية في الوجدان السوري. ففي أثناء حصار جنين، لعبتُ دورًا في التأكيد على أهمية أن تكون هناك مظاهرة منفصلة عن النظام…. وهكذا كان. ثم تبعتها مظاهرة شموع نسائية مع الأطفال، وكانت المظاهرتان مُلفتتَين بتجاوب الحمويين. وأذكر أني مررت على البيوت بيتًا بيتًا للدعوة إليهما. صحيحٌ أن مظاهرة الشموع ضمت النساء والأطفال فقط، ولكنها كانت أول مظاهرة بحجمها في حماة منذ السبعينيات. وهكذا بدأ الناس يرجعون شيئًا فشيئًا إلى الشأن العام. كنا ننزل في كل مناسبة لنتظاهر، حتى لو كنا عشرة أو عشرين شخصًا فقط، وتتم الاستدعاءات لاحقًا، لكن بالعموم، يمكنني القول إن الماء بدأ يتحرك.
كيف كنتِ تُعرِّفين نفسكِ فكريًا خلال شبابكِ؟ وهل حصلت تحولات فكرية وإيديولوجية في مرحلة معينة؟ وأين أنتِ الآن؟
أنا هنا [تضحك].
طبعًا طرأت، وما زالت تطرأ، التغييرات على المفاهيم والرؤى لديّ. بالنسبة للعروبة، صار تفكيري أرحب. وبالنسبة للدين الإسلامي، صارت معرفتي أعمق. اطّلاعي الأكبر منحني نوعًا من الفهم لتراث هذه المنطقة، وكيف أن على الإنسان أن يُخرِجَ الشيء الإيجابي من التراث، ليضعه في خدمة التطور، وخدمة الانتقال نحو الأمام. أيضًا بالنسبة للقضية الفلسطينية التي كان لها تأثير كبير على جيلنا. أذكر أني رأيت هزيمة الـ67 مرتين في كابوس، مع أني كنتُ في الصف السادس حينها. تَوسَّعت رؤيتي إلى جذور الصهيونية، وصارت نظرتي أكثر وعيًا ومتوجهة نحو حلول مختلفة عن الماضي.
وحتى الآن أشعر أن مفاهيمي تتغير، بشكل لا يتوقف. ربما بشكل يومي. لدينا مثلًا الصراع الدولي وموقع سوريا فيه، ولدينا كذلك موضوع العولمة، كيف كنا ننظر إليهما، وكيف صرنا ننظر. أخاف حين أشعر أني تمترست في أمر معين، لأن هذا مَوَات. أنا الآن في فرنسا التي جعلت نظرتي أرحب وأكثر معرفة، وأكثر فهمًا وتقبلًا للاختلاف. ولكن هذا لا ينفي أن حياة الإنسان عبارة عن خط بياني يظل حاكمًا لكل تطوراته، يكبر معه، ويٍغير منحاه قليلًا، ولكن الاتجاه العام يبقى واضحًا عبر الأيام.
إذا حاولنا أن نُمسك بهذا الخط البياني، فماذا سنرى؟
مسألة الحرية، عدم انفصال الحريات عن القضية الوطنية والاستقلال. وكذلك التعاطف الإنساني عمومًا، ومع القضية الفلسطينية على وجه الخصوص. هذا أمر لا يتعلق بالجولان فقط. فالقضية الفلسطينية هي قضية إنسانية بامتياز. هي أولًا قضية إنسانية، وفي المرتبة الثانية هي قضية عربية، وبعد ذلك هي قضية سورية. هذا هو الخيط الذي َينظُمُ جميع التغيُّرات.
شاركتِ في الدورة الأولى من المجلس الوطني الموسَّع في 2007، حيث تمّ الإجماع على اختيارك كرئيسة لإعلان دمشق. ولكنكِ اعتُقلتِ، مع من اعتُقِلوا، بعد أسبوعين فقط من ترأسكِ للإعلان. هناك من تقول إن إعلان دمشق انتهى منذ تلك اللحظة، هل توافقين على تلك الرؤية؟ وكيف تُقيّمين تجربتك ضمن الإعلان؟ وهل ما زال للإعلان حضور إيجابي على الساحة السورية في رأيك؟
شاركتُ في إعلان دمشق بعد دعوتي للتوقيع من قبل القائمين عليه. ربما دعوني جرّاء نشاطاتي، ولكن لا شك أن اسم «الحوراني» لعب دورًا بالموضوع. حين تلقيت الدعوة، كانوا قد انتهوا من التهيئة لنص الإعلان. قرأتُ النص، وشعرتُ أن جوهره القَطعُ مع الاستبداد والتفكير الشمولي والتغيير نحو نظام وطني ديمقراطي. ولكني استفسرتُ عن الفقرة التي تقول بما معناه إن الإسلام هو دين الأكثرية، على الرغم من أنها كانت تقاربه من منظور حضاري متفاعل مع الديانات والثقافات الوطنية الأخرى. استغربتُ البند، فسألوني: أليس توصيفًا للواقع؟ قلت لهم: نعم.
أما البند الذي توقفت عنده كثيرًا، فهو حول تعبير «المُتحد السوري»، وهو لحزب العمل إن لم أكن مخطئة. لا أعرف لماذا اختاروا هذا التعبير، ولكني أدركتُ أن الإعلان، عدا عن جوهره الواعد بالدولة المدنية الديمقراطية عبر النضال السلمي التدريجي، فهو عبارة عن توافق رؤى سياسية مختلفة. ولكن بما أن جوهر النص بالتغيير الديمقراطي كان واضحًا، فقد قبلتُ التوقيع عليه.
ومع ذلك، سُئلتُ مِرارًا لماذا وقعتِ وأنتِ تعرفين أن الفقرة الفلانية أو الفلانية ترِد فيه. كان دفاعي دائمًا أن تلك البنود لا تمسّ الجوهر الأساسي للإعلان كائتلاف لاتجاهات متعددة. شخصيًا تمنيتُ لاحقًا لو تمّ الحديث عن ممارسات النظام الطائفية بشكل واضح والتحذير منها، أي مواجهة النظام بشكل مباشر، بما لا يعطي المبرر لاتهام الإعلان بالطائفية والأخونة كما حصل فعلًا. على كلٍ، بدأنا العمل، وتشكَّلَ ما يشبه اللجان في المدن.
والحق أن وجود بعض القوى السياسية الموثوقة بالنسبة لي في الإعلان، جعلني أطمئن. لأني أشعر دائمًا بأني لا أحمل مسؤولية تجاه نفسي فقط، ولكني أحمل عبء تاريخ والدي أيضًا. حين أتصّرف لا أفكر بالضرر الذي يلحق بي إن أخطأت، ولكن أيضًا بالضرر الذي قد يلحق به. وخاصة أن لا علاقة له بما أفعل، ويكفيه ما تَعرَّضَ له. دائمًا أخاف، لذلك أمشي كمن يمشي على الصراط المستقيم، لأنه بشكل أو بآخر سيحصل هذا الربط بيني وبينه، وينعكس على تاريخه وسمعته.
أعتقد أن الإعلان كان خطوة مهمة. ذلك أن السوريين ظلّوا أثناء ربيع دمشق يُراهنون على أهمية تغييرٍ ما يتبلور من داخل النظام، وخاصة بعد خطاب القسَم. وعلى ما يبدو، فإن مجموعة وازنة من النخب اعتقدت أنه يمكن الاستفادة من مرحلة الانتقال بين الرئيس الأب إلى الرئيس الابن التي شهدت شيئًا من الانفراج. فبدأ حراك ربيع دمشق ضمن ذلك الجو، وانتشرت المنتديات. لم يكن لدينا منتدى الأتاسي فقط، على أهميته، بل كان هناك عدد من منتديات أخرى مهمة. كما تم تفريخ شبه منتديات في المدن الأخرى والبلدات الصغيرة. لقد كانت فترة في غاية الأهمية. وبعد قمع ربيع دمشق، جاء الإعلان الذي قَطَعَ مع الشمولية والاستبداد، وطرح كلمة «التغيير الجذري» التي أزعجتهم. ميزةُ الإعلان أنه قال إن هذا النظام لن يستطيع أن يغير نفسه بنفسه، ونحتاج إلى نضال سلمي وتدريجي وحقيقي من أجل الوصول إلى التغيير المنشود.
وقد تعرّضَ كثيرون ممن شاركوا في الإعلان، وليس فقط الوجوه البارزة، إلى مضايقات واستدعاءات، وإلى فصل تعسفي من العمل واعتقالات بحق البعض. وباسم الإعلان، خرجنا بعدة وقفات في وجه النظام. إحداها كان اعتصامًا أمام القصر العدلي طالبنا فيه بإنهاء حالة الطوارئ. ولكن للأسف واجهونا بطلاب يحملون العصي التي موّهوها بأن وضعوا الإعلام السورية على نهاياتها!!! فظهرت صورهم في الجزيرة كما لو أنهم يحملون أعلامًا.(اليوم أَستعيدُ احتقارَ النظام السوري لذلك العلم رغم كل ما يدعيه الآن من تبجيل له). قال الذين ضربونا بالأعلام إننا من جماعة إسرائيل، فتكشّفَ لنا لحظتها كم الجيل الجديد يجهل معنى حالة الطوارئ والأحكام العرفية، وما هو الدستور، رغم أن المشكلة أكبر من الطوارئ والأحكام العرفية، بل هي حالة ظُلم خارج كل الأطر، تَحمَّلها السوريون لعقود منفلتة عن أي قانون.
لا أعرف ماذا أقول عن دوري ضمن إعلان دمشق، ولكني استطعتُ أن أكون عاملًا إيجابيًا بما يخص الوصول إلى نقاط التوافق والتخفيف من الاختلافات والاستمرار نحو الأمام. تم انتخابي بالإجماع، أو ربما من الأفضل القول بالتوافق، وصرت رئيسة المجلس الوطني لإعلان دمشق، وليس رئيسة إعلان دمشق كما تفضلتِ في سؤالكِ. كان قد طُلِب مني خلال الأشهر التي سبقت المؤتمر أن أُرشّح نفسي، وكانت لدي موانع حتى آخر لحظة. كان الاتفاق أن يختاروا أحد الاشتراكيين العرب، وتوافقوا على عبد الغني عياش رحمه الله (استشهد ابنه لاحقًا تحت التعذيب في الثورة). ولكن بما أنه لم يحضر الاجتماع إلّا وقد انتهى أمر التوافق حولي (أو تأخر)، فقد طُرِح الموضوع علَيَّ مع بعض الضغوط التي فرضتها مصلحة الإعلان، فوافقتُ. كانت أول انتخابات أحضرها في حياتي، وما كنتُ مصدقة، وكان قلبي يملأه أمل كبير. تمنيتُ أن «تكمل» على خير، ولكن حصلت بعدها أمور تفصيلية سلبية ذات طابع إجرائي، ربما يكون الحديث عنها مناسبًا في موضع آخر.
بعد الانتخابات وانتهاء المؤتمر، نصحني البعض بالتخفّي، ولكني رفضت. وما مضى قرابة أسبوعين حتى دُعيت إلى أمن الدولة في حماة. أنزلوني إلى القبو، وأغلقوا الزنازين في حركة شبه استعراضية. وأدخلوني بعدها إلى غرفة المحقق الذي سألني: «ماذا تريدون في إعلان دمشق؟». أجبته: «نريد ألا يحصل ما يحصل الآن، نريدكم أمنًا لنا، تحمون حريتنا، وليس أمنًا علينا!» فقال: «ما دام هيك، طيب!!». وأرسلني بالسيارة إلى فرع آخر. كان المكان بعيدًا، والكآبة متصلة بين السماء السوداء والأراضي الموحلة على طرفي الطريق، ومُسلح يجلس في مقدمة السيارة، ووجوه غريبة، وجهة غير معلومة لي. حين وصلنا إلى كفر سوسة، قال لي أحدهم إن هذا الفرع سيء جدًا، فطلبت منه أن يبلّغ أهلي، فاعتذر. بقيتُ قرابة الشهرين والنصف عند أمن الدولة. وقد كانت المعاملة هناك ليست مثل معاملة السجينات الأخريات اللواتي حدَّثنني عمّا واجهنه. هل السبب هو أن الإعلان أحدث وقتئذ ضجة كبيرة؟ أو جراء الظروف المحيطة بالنظام آنذاك؟ ولكن رغم ذلك، كان كل شيء خارج الحد الإنساني الأدنى المقبول.
في لغة أهل السياسة، يقال إن هناك دائمًا العاملُ الذاتي والعاملُ الموضوعي. يبدو أن العاملَين لم يلتقيا ببعضهما في تلك الفترة. لو كانت ثمة ظروف ذاتية كتلك التي تواجدت، وتجاوبت مع ما حدث في تونس ولاحقًا في مصر، ودفعت بالسوريين إلى النزول إلى الشارع بمئات الآلاف، لاختلف أمر الإعلان وسوريا حينها. أما الظرف الموضوعي فقد كان مُهيَّئًا حسبما أرى: ثورة لبنان (الأرز) وانسحاب الجيش السوري منه، والمحكمة الدولية، وعُزلة النظام… لكن كل ذلك لم يدفع السوريين للتجاوب للأسف. أما في 2011، فقد كانت لدينا ثورة الاتصالات التي كشفت للناس كم كانوا في عُزلة عن العالم. فالعالم ينتخب رؤساءه، ويتكلم ويحتج ويُسقِط الحكومات. وحين ينظرون إلى أنفسهم: أين هم من كل ذلك؟ في 2011 شعرتُ بمئات الآلاف من السوريين كما لو أنهم شخصٌ واحد استيقظ لتوه من تخدير طويل. وكنتُ أقف أمام هذا الاستيقاظ بخشوع ودهشة. لقد ولى صمتُ القبور إلى الأبد!
لكن مع ذلك أعتبر الإعلان نقطة راكمت بما يخص الحريات والديمقراطية، حتى لو اعتبر البعض أنها انتهت. ولكن لا شيء ينتهي، لأني أؤمن بأن هناك خطوات تحتاج أن تفكمّل بعضها بعضًا، وسوف يتم الاعتماد عليها، وتتراكم الأمور حتى نصل إلى التغيير. طبعًا، تلقّى الإعلان ضربة كبيرة، لأن الاعتقالات وقطع المعاشات والتخويف، حتى لو لم تكن تلك الأمور جديدة على النظام، إلا أنها شكلت ضربة قوية.
أعتبر أن الإعلان نقطة راكمت وعيًا، بما يخص الحريات والديمقراطية. وكانت من أهم المحاولات التي نجحت في تشكيل جبهة عريضة مُعارِضة لم يسبق أن شهدها التاريخ السوري، ربما مرة واحدة في عهد الشيشكلي. حتى لو اعتَبرَ البعضُ أن الإعلان مات، ولكن لا شيء يموت في قناعتي. هناك آية قرآنية تقول: «فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض». طبعًا تلقى الإعلان ضربة قوية، ولم يكن ما قام به النظام غريبًا عليه.
ربما من مشاكل الإعلان أنه لم يستطع الموازنة بين الخارج والداخل. صحيحٌ أنه ضُرِبَ في الداخل، إلا أنه انتشر انتشارًا واسعًا في الخارج، وذلك لأن السوريين في الخارج لديهم هامش أكبر للعمل. لكن لم يحصل الوصل ولا الترتيب المطلوبان بين الداخل السوري وبين القدرة على وجود إعلان في الخارج يستوعب تنظيميًا ذلك التعاطف الكبير الذي حصل عليه، ويُؤطِّره، وتُترَك له هوامش من الحرية. أتصور أن هذا الموضوع شكَّلَ وسيُشكل عقبة بالنسبة للسوريين في تجارب عدة.
أجل، عرفني الناس أكثر بعد الإعلان. هذا أمر لمسته بالفعل، وشعرتُ بالخجل بعد خروجي من المعتقل، ولاحظتُ ذلك التعاطف الكبير الذي لم أَكُن أدركه حين كنت داخله. والحق أني ما قدرت أتشكّر الناس، فإذا وصلتُ عبر هذا الحوار إلى كل إنسان وقف معنا، فبودي أن أُكرر شكري له.
كذلك أريد أن أضيف شيئًا، لأن بعضهم راح يقول حرصًا ومحبة: «يا فداء، أنتِ لستِ مجبرة! ألا ترين أن الناس غير مهتمة؟». بمعنى ما الفائدة؟ ولكن لا، الإنسان الذي يمارس العمل الوطني يكون غالبًا مقتنعًا بما يعمله من دون تَمنُّن على أحد. هذا واجب بالدرجة الأولى تجاه نفسه، لكي يعيش ضمن قناعاته التي يمارسها بإرادته دون نفاق.
تطرحين نفسك كمُستقلة، أي بعيدة تنظيميًا عن جميع الأحزاب السياسية. لماذا أنتِ مستقلة؟ ألا يوجد حتى الآن حزب سياسي واحد يمكنكِ النشاط ضمنه؟ وما أثر استقلاليتك على مساركِ السياسي، سلبًا وإيجابًا؟
سأبدأ من الآخر. أنا مع الأحزاب، لأن الأحزاب لا تترك الفرد لوحده، وتعطي استمرارية للخط الذي يؤمن به، وتمنحه قوة مهما كانت لديه مقدرات عظيمة، إلا أنه أقوى ضمن مجموعة تشاطره الرؤية. هذا هو الشيء الذي افتقدته. تمنيتُ أن يكون لدينا حزب أطمئن للعمل معه، فأكون نقطة ضمن تيار كبير! ولكن لم يكن ذلك متوفرًا للأسف. طبعًا توجد أحزاب قدّمت الكثير. وكل الأحزاب الموجودة، بغض النظر عن تقييمها، ضحّت بشكل أو بآخر. حتى لو شعرنا في وقت من الأوقات أن الديمقراطية لم تكن دومًا ضمن أولوياتها.
حين عدتُ إلى سوريا في 1990، كان حزب الاشتراكيين العرب منقسمًا كما بقية الأحزاب. كان حافظ الأسد قد عرض عليها مشاركته الشكلية في الحكم ضمن ما سمي بالجبهة الوطنية التقدمية، والتي كانت منزوعة الصلاحيات، مما أدى إلى انشقاقات داخل جميع الأحزاب تقريبًا. كانت مجرد لعبة سياسية نتج عنها تفتيت القوى المُعارِضة، واستتباعُ أجزاء وازنة فيها بحفنة من الامتيازات. وما تبقى منها، احتاجت إلى سنوات حتى لملمت أشلاءها، وشكلت التجمع الوطني الديمقراطي، كإطار لها خلال سنوات الربيع السوري الأول القصيرة (كما أسميه) في 1979. غير أن ذلك التجمع بقي يتحرك، بعد وصول القمع إلى ذروته الأولى في الثمانينات، ضمن سقوف محسوبة وخطوط وضعها لنفسه رغم أوراقه المهمة.
لذلك من الصعب، أو حتى من المستحيل، أن تعيش الأحزاب وتزدهر وتُطوّر برامجها وأساليبها ورؤاها مع القمع الحاصل في سوريا، وفي ظل الأنظمة العاتية عمومًا. ومع ذلك ربما شعرتُ أن حزب الشعب هو الأقدر أن يعطي ثمارًا ما. ولكن هذا الذي حصل: لم أنتمِ إلى أي حزب! أتمنى أن أكون ضمن حزب. لا أدري ماذا ستجلب الأيام، إذا وُجِد حزب يمكنني الانتماء له، فليس لدي مشكلة، بل على العكس.
تشتغلين حاليًا [منتصف 2023] ضمن اللجنة التحضيرية لما يُسمى بمؤتمر القوى الوطنية. هدف المؤتمر هو العمل على تقديم بديل وطني للأجسام الرسمية، كالإئتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية واللجنة الدستورية. استغرقت المرحلة التحضيرية عدة سنوات، وحسبما فهمت أن المؤتمر سيُعقَد قريبًا. تطمحون إلى أن تجمعوا من خلال هذا المؤتمر الأطياف المعارضة والثورية قدر الإمكان. هل تستبشرين خيرًا؟ وهل يمكن تجميع صفوف السوريين المناهضين للأسد ضمن تشكيل واحد بعد كل هذا التنافر الحاصل والتشتت والعنف؟ ما هي أهم العقبات التي تواجهكم؟ وكيف تحاولون تجاوزها؟
في بداية 2020 تسرّبَ بيانٌ ملتبس، أصدره الائتلاف الوطني، بهدف إنشاء مفوضية عليا للانتحابات، لتهيئة السوريين للاستفتاء على الدستور، وللاستحقاقات القادمة الأخرى!! مع نية تحقيق أكبر مشاركة للسوريين حتى في مناطق النظام!! وادّعى البيان في مقدمته أن هذا ترجمة وتطبيق للقرارات الدولية ذات الصلة، وآخرها قرار 2254. وصدفَ أن حصل ذلك قبل فترة قصيرة من الانتخابات الرئاسية لبشار الأسد. فأثار البيان موجةً كبيرةً من الغضب والخوف ممّا يُدبَّر من وراء ذلك. خصوصًا أنه جاء بعد سلسلة من الخطوات التي اتخذها الائتلاف في مسار العملية السياسية، والتي أفرغتها من مضمونها، ومنها ما أنتجه مسار سوتشي من لجنة دستورية، والموافقة على تقسيم التفاوض إلى سلال أربعة، ومن ثمّ الاقتصار على سلة العملية الدستورية، ليتم اختصار العملية السياسية بها!!! هذا المسار من التنازلات جعل فكرة البديل الوطني تطفو على السطح بقوة.
على هذه الخلفية، عُقِد اجتماع ضمّ عددًا كبيرًا من المكونات والشخصيات السياسية، نتجَ عنه بيانٌ ضد ما قام به الائتلاف. كما تمّ تكليف لجنة تحضيرية مُصغَّرة لتعمل على إيجاد جسم سياسي بديل. وقد أدى ذلك إلى تَراجُع الإئتلاف عن بيانه بخصوص مفوضية الانتخابات. كنتُ من بين أعضاء تلك اللجنة المُصغَّرة، وهكذا بدأت قصتي مع مؤتمر القوى الوطنية. وعدا عن المهمة التنظيمية للجنة المُصغَّرة، والتي كانت في غاية الصعوبة، لأننا خليط من الأفراد والتجمعات متفاوتة الحجم والمتباعدة فكريًا ومكانيًا، كان علينا أن نحدد رؤيتنا إلى سوريا بشكل عام (العهد الذي توافقنا عليه) وإلى العملية السياسية الجارية، وأن نحدد موقفنا السياسي العام ضمن «الورقة السياسية».
إذن كانت المهمة الأساسية لمؤتمر القوى الوطنية هي تشكيل ما يشبه جبهة أو تياراً كبيراً على أرضية الرؤية التي تم التوافق عليها. في رأيي، حتى لو لم يؤدِّ ذلك إلى البديل الذي نتمناه، فلا أقل من إيجاد تيار يؤثر على الواقع الحالي ويُعرقل التدهور الحاصل في المسار السياسي الجاري. لأن ما يجري حاليًا لا يُسمَّى عملية سياسية، بل هو إدارة شكلية للمأساة السورية. فأي عملية سياسية عليها أن تشمل وتعتمد كل القرارات السياسية أساسًا لها، من جنيف 1 إلى قرار 2118 وصولًا إلى قرار 2254 الذي يدعو في بنده الثاني الأمينَ العام إلى الدخول السريع، ودون تأخير، في مفاوضات على المرحلة الانتقالية. ومن ثم يتحدث في بنده الثالث عن حكم ذي صدقية، وبعدها تأتي العملية الدستورية. إذن كل القرارات حددت أن المدخل الوحيد لأي عملية سياسية إنما هو التفاوض على المرحلة الانتقالية بهدف تشكيل جسم انتقالي كامل الصلاحيات التنفيذية. أما الدخول من باب اللجنة الدستورية وكتابة الدستور بالاتفاق مع النظام والاستفتاء عليه!!!!، فهذا يعني أننا اعترفنا بنظام الأسد وألغينا المرحلة الانتقالية، هذه مهزلة!
ندرك أن الوضع صعب، فحتى الآن لا توجد إرادة حقيقية لدى العالم لإيجاد حل. لا توجد سوى التطمينات تجاه النظام. كما أن بوادر التطبيع الأخيرة معه جاءت وهو في أسوأ أوضاعه وأوضاع إيران وروسيا. وإلى الآن لم تُتَّخذ خطوات بحقه مثل الخطوات التي اتُّخِذت تجاه روسيا عندما تم عزلها عن مجلس حقوق الإنسان، ولم يُجبَر على مفاوضات حقيقية وجدية رغم تَعدُّد الفرص.
ومع ذلك نؤمن بأهمية تَمسُّك الشعب السوري بقرار 2254 ضمن قراءة صحيحة. هذا لا يعني أن لا يناضل، فمن دون نضال لن نصل حتى إلى الحل السياسي. ولكن هذا القرار ضَمِنَ لنا الحد الأدنى من الحقوق. لذلك من واجبنا عدم النزول أبدًا عن السقف الذي حدده. إن وجود تلك القائمة الطويلة التي تُوثِّق جرائم النظام، تدعم تفسير قرار 2254 بطريقة تأخذ مصلحة السوريين بعين الاعتبار. ولا تنسيَ أن جزءًا كبيرًا من رجال النظام صار على لوائح الإجرام العالمي. حتى في موضوع المفاوضات، صارت لدى السوريين القدرة أن يفسّروا القرار ونتائجه لصالحهم. ما نحتاجه الآن هو التوحد ضمن هذه الرؤية، وإنهاء فوضى النقاشات حول «فوق الدستورية» و«تحت الدستورية». ها هو الشعب السوري يُذبَح منذ أربع سنوات بحجة الاتفاق على الدستور. لذلك قلنا: «كفى، انتهينا!». هذا ما دفعنا إلى الاعتقاد بأن مصلحتنا في المرحلة الانتقالية هي أن نتفق على أن يحكمها مؤقتًا دستور الـ50 مع إعلان دستوري لتغطية فجوة الزمن. فالشعب السوري وحده هو من يضع دستوره الدائم عبر انتخابه لمجلس تأسيسي في المرحلة الانتقالية. أرجو ألا يُفهَم دفاعنا عن دستور الـ50 على أننا نريده أن يستمر بشكل دائم. كل ما هنالك أننا وجدناه أقرب إلى أن يكون نقطة توازن عامة في مرحلة يحتاج فيها السوريون إلى شيء من الاستقرار والنقاش فيما بينهم. والذين يطّلعون على بنوده، سيُلاحظون أنه يرضي طيفًا واسعًا من السوريين على اختلاف انتماءاتهم، وهذا ما قد يفضي إلى الحد الأدنى المقبول من الاستقرار لأي عملية دستورية دائمة وانتخابية قادمة.
أدركُ أنه توجد بعض الملاحظات على دستور الـ 50، كأن يتساءل البعض لماذا دين رئيس الدولة هو الإسلام؟ ألا يُكذِّبُ ذلك الادعاء بالمساواة بين المواطنين؟ أولًا: نؤكد أنه دستور مؤقت، وثانيًا: حين حدد دستور الـ50 أن الإسلام دين رئيس الدولة، لم يكن النظام في سوريا رئاسيًا، وإنما جمهوريًا، بحيث تكون سلطة رئيس الدولة شبه رمزية، بينما يمسك رئيس الوزراء بمعظم السلطة التنفيذية. وعلينا ألا ننسى أن المرحوم فارس الخوري أصبح رئيسًا للوزراء في ظل هذا الدستور. كما أنه لم يحدد دين الدولة. لذلك يمكننا القول إن الأمر أقرب للرمزية. أعتقد أن سوريا ولبنان كانتا الاستثنائين الوحيدين اللذين لم يُحددا دين الدولة بالإسلام من بين كافة الدساتير العربية، لأن الدولة مؤسسة إدارية للمجتمع بأكمله، ولا يمكن أن تكون لجزء من أبنائه مهما كانت نسبته.
وطبعًا ثمة ملاحظة أخرى تصبُّ تقريبًا في الموضوع نفسه، وهي أن دستور الـ50 يقر بأن الفقه الإسلامي هو المصدر الأساسي للتشريع. والحق أنه أشار إلى الفقه الإسلامي، وليس إلى القوانين الإسلامية، في دولة لم تلحق بها صفة دينية. هذا يعني أنه من الضروري على أي قانون صادر أن يعبّر عن مصلحة أطياف المجتمع السوري. فحين وُضَع القانون الشرعي الإسلامي، سُئلت كل مراجع الأديان والمذاهب وكان لها الخيار فيما تراه ملائمًا لها منه. على كل حال، لم يكن إقرار بنود الدستور أمرًا سهلًا في عام 1949، لا بما يخص دين الدولة، ولا بالنسبة للبنود الأخرى. احتاجَ الأمر إلى كثير من الصدّ والرد في صفوف النخب والجمهور السوري عمومًا حتى تمت الموافقة عليه. وإذ كُتِبَ هذا الدستور تحت عنوان الجمهورية السورية (كما كان اسمها)، فقد تم تحديد انتمائها العربي في بنوده الأولى.
لسنا متمترسين عند دستور الـ50. وما يهمنا من أي عملية سياسية هي النقاط الأربعة التالية: المرحلة الانتقالية هي الفاتحة لأي تفاوض مع النظام، والعملية الدستورية تتم في ظلها، وعلى هذه العملية أن تتم ضمن الأصول المتعارف عليها، وكذلك ينبغي مراعاة أي دستور سوري قادم لـ«الكل المجتمعي للسوريين» كما حددت أوراق المؤتمر ضمن وثيقة العهد.
وبالنسبة لوثيقة العهد، فأهمُّ ما ورد فيها هو المحددات السياسية التي ترسم أسلوب العمل السياسي، من بينها استقلالية القرار، وتَجنُّبُ أن يكون المؤتمر حاملًا لأي مشروع دولي أو إقليمي لا يلبي المصلحة السورية، والعمل على جلاء جميع القوات الأجنبية عن الأراضي السورية. وما يتطلبه ذلك من ترتيب الأولويات، وألا ندخل في تجاذبات المَحاور، بحيث تُشكل المصلحة الوطنية لا الخلفيات الإيديولوجية أساسًا للقرارات والمواقف.
يمكننا القول إن المهمة الأساسية المرحلية لمؤتمر القوى الوطنية هي فتح الحوار مع الجميع. بيننا كلّ ما تتصورينه من إيديولوجيات، إلا أننا استطعنا أن نتقدم بخطى بطيئة ونتفاهم فيما بيننا بشكل أفضل. فهذه المرحلة هي مرحلة تحرر وطني وديمقراطي ضد الاستبداد في آن، وتُحتم على الجميع التَوحُّدَ قدر الإمكان حول المُشترَكات. ومن أهم ما ورد في وثيقة العهد هو رؤيتنا إلى الدولة السورية القادمة كدولة ديمقراطية تداولية تُساوي بين مواطنيها بشكل كامل، وتقوم على مبدأ فصل السلطات والقضاء السيد المستقل عن أي سلطة تنفيذية، وتضمن للأفراد حقوقهم المدنية والسياسية وإلى آخره. نحن نؤمن بوحدة سوريا كلًا لا يتجزأ.
أما بالنسبة لشكل سوريا، وهل هي مركزية أم لا مركزية، هل هي فيدرالية، هل هي إدارة ذاتية كما يطرح البعض، فقد ارتأينا أن سوريا تحتاج أن تكون لا مركزية إدراية منتخبة على مستوى المحافظات، ومع ذلك، الأمر متروكٌ للسوريين وهم الذين يقررونه مستقبلًا بشكل ديمقراطي، في ظل فترة من الاستقرار تتيح لهم النقاش الحر فيما بينهم. ولكننا نرفض الطروحات التقسيمية التي يُراد تمريرها من فيدرالية وإدارة ذاتية وما إلى ذلك، لأننا لسنا مؤهلين من السوريين للبتّ بها ضمن غياب وضع مستقر ديمقراطي يضمن التعبير الحر حول هذا الموضوع المصيري. وفي حال فُرِضت هذه الطروحات اليوم عن طريق قوة الأمر الواقع، أو من خلال تقييد السوريين بها عبر فرض دستور لا يستوفي الشروط المُتعارَف عليها، بما يؤدي إلى شرعنة التقسيم الحاصل على الأرض، فإن ذلك سوف يؤدي إلى مخاطر وارتدادات سلبية على الأجيال القادمة، وعلى سوريا بالعموم، وسوف تُفتَح صفحات جديدة من العنف والدم لن تنتهي.
أما بالنسبة للأخوان المسلمين، فلقد توقفنا عندهم مطولًا، ولم يتم الحوار مع أشخاص منهم للانضمام رغم وجود من يتفق مع المؤتمر في مواقفه. السبب هو مواقف قياداتهم السياسية الحالية المشارِكة بقوة عبر الائتلاف في المسار السياسي الحالي، وليس لأنهم أخوان مسلمين. أي أن الاختلاف سياسي بالدرجة الأولى. وهنا أُوضِحُ أن ما يهمنا من الإسلاميين بالعموم هو أن يقتنعوا فعليًا بالديمقراطية بأسسها المعروفة، من دون مجلس تشخيص النظام أو مجلس صيانة الدستور أو تلك الأمور التي يتكلمون عنها.
حاليًا انتهى شُغل اللجنة التحضيرية الذي كنتُ جزءًا منه. ولقد عُقِد المؤتمر التأسيسي مؤخرًا، ولا يمكننا الجزم بأننا نجحنا أم فشلنا إذا جاز التعبير، هذا ما سنكتشفه مع الأيام.
كنتِ في كثير من الأحيان إحدى النساء القليلات اللواتي اشتغلنَ على مستوى سياسي عال. في رأيي، لن تتمكن النساء من التغلغل في العمل السياسي إن لم نمدَّ يد العون لبعضنا بعضًا. لذلك اسمحي لي أن أسألكِ كيف انعكس وجودك كامرأة في اللجنة التحضيرية لمؤتمر القوى الوطنية على تواجد النساء في المؤتمر الذي تنوون عقده قريبًا، وعلى تضمين تطلعاتهنّ ضمن أهدافه واستراتيجياته وخطة عمله؟
بالنسبة للنساء، فأرى بشكل عام أن مشاركتهنّ بالعمل الوطني تنعكس بشكل إيجابي على قضية المرأة، ووصولها إلى العدالة، وإلى حقوقها التي يجب أن تحصل عليها. على سبيل المثال لا الحصر، لدينا سيدات مثل رزان زيتونة ومي سكاف ورانية العباسي وسميرة الخليل. صحيح أنهن لم يشتغلنَ على مواضيع تخص النسوية بشكل مباشر، غير أن انعكاس عملهنّ على قضية المرأة مهم، لأنه يعبد الطريق للأخريات. هكذا يرى المجتمع أن لديه أمثلة عن نساء يتقبلنه ويحببنه ويعتبرهنّ قدوة له وأيقونة، بصرف النظر عمّا إذا كُنّ محجبات أو غير محجبات، ممثلات أو محاميات أو ربات بيوت.
النساء قليلات في المؤتمر، حيث تمرّ جميع المناطق السورية بمراحل عصيبة انعكست بشكل سلبي على مشاركة المرأة. لذلك ما زلنا نحتاج إلى كثير من العمل حتى تصبح لدينا مشاركة حقيقية. ما زال لدينا نقصٌ من هذه الناحية.
هل حاولتِ أن تعملي شيئًا بهذا الخصوص، كأن تؤكدي على أهمية هذه النقطة أو تستقطبي نساء معينات؟
أُقدّر كثيراً النساء الموجودات، وليس لأنهن نساء، ولكن لأنهن يستحققنَ التقدير، ولأني شعرتُ أن لديهنّ وعيًا تجاه الحريات والديمقراطية والقضايا التي يعاني منها السوريون والسوريات. توجد أرضية لكي نتقدم خطوات في قضية المرأة.
أحزنُ لعدم موافقة بعض النساء على الانضمام إلينا، ربما ليأسهنَّ من المؤتمرات. وكذلك انسحبَ عدد قليل ممّن فقدنَ الصبر سريعًا ضمن تجربة جديدة تضم مزيجًا من أرضيات سورية شديدة التمايز، فضلًا عن أن بعضهنّ كان لديهنّ نشاط في كيانات أخرى وجدنها أجدر من المواصلة ضمن هذا الجو غير المتجانس، والذي أجده مهمًا رغم الصعوبات التي واجهناها ونواجهها جراء ذلك. وربما للأسف من جهة، ولحسن الحظ من جهة أخرى، أن النسوة ذوات النَفَس الطويل اللواتي استمررنَ معنا، كانت غالبيتهنّ من الأرضية التقليدية المتدينة كما هي طبيعة مجتمعنا. ولقد تفاجأتُ بالوعي المتقدم الذي تراكم لدى هذه الشريحة خلال عمر الثورة السورية القصير مقارنة مع تاريخ القمع والتغييب الطويل. بتنَ متمرسات بالحوار والإنصات إلى الرأي الآخر وتقبله، وهذا ما يبشر بالخير. كما توجد معنا قلّة من النساء ممّن لهنَّ نضال سياسي قبل الثورة. بودي أن أنتهز الفرصة، فأُوجِّهَ تحية إلى اللواتي استمررنَ معنا، وإلى اللواتي غادرننا.
منذ قليل ذكرتِ مثال رزان زيتونة وغيرها، وقلتِ ربما يشكلن مثالًا حول كيف يمكن أن تكون المرأة، وأنا أوافقك تمامًا، ولكن يحصل أحيانًا أنه بعد أن تخرج المرأة وتشارك في الثورة والتغيير، وتأتي مرحلة الاستقرار، التي ما زلنا بعيدين عنها سوريًا، أن يُسحَب منها هذا الدور، ويتم إرجاعها إلى مكانها في المنزل. هل مجرد إعطاء المثال الحَسَنْ ضمن حركة التغيير العام كافٍ؟ ألا نحتاج أن نشتغل على قضايا النساء وهمومهن بشكل مباشر، كي نضمن على الأقل ألّا تُزاح النساء جانبًا في وقت لاحق؟
أرى أن هناك أولويات لكل الأمور. طبعًا هذه المعارك قادمة، وهي لا تخصُّ النساء فقط، إذ يمكن أن يكون هناك قسم كبير من الرجال مع الحقوق التي تطالب بها المرأة. رأينا هذا في التاريخ السوري الحديث، وهذه المعارك من أجل الحريات لن تتوقف، وسيبقى الفرد السوري متمسكًا بحقوقه ولن يتنازل عنها أبدًا.
أرى أنه حين نصل إلى نوع من الاستقرار، سيتم طرح قضية المرأة بشكل أقوى وأجدر. لدي ملاحظة صغيرة هنا، ولا أدري إن كانت ستؤخذ بعين الاعتبار. تطرح المنظمات النسوية أحيانًا أهدافًا غاية في البُعد، متأثرة بالحركات النسوية في الغرب، دون الالتفات إلى الواقع الاجتماعي الراهن. أتساءل هل يمكن طرح هكذا مواضيع نسائية في هذا الوضع المأساوي؟ لا بل وتُطرح بكلمات غريبة أحيانًا عن الناس (التمكين والجندرة وما إلى ذلك). توجد أشياء صغيرة جدًا إذا لم ننتبه إليها، فستكون النتيجة أن نتراجع إلى الخلف، وخاصة في هذه المرحلة المحتدمة التي ينشغل فيها الناس بمسألة إرجاعهم إلى قفص الاستبداد. يشعرون أنهم مُستهدَفون في كثير من الأمور، من بينها أُسس علاقاتهم الاجتماعية، وما تمّ من تمزيق لها، وإرثهم الاجتماعي، ومنظورهم العام للحياة كما للدين. ينبغي أخذ هذه الأمور بعين الاعتبار، فلا نصوّر الأمر على أنه معركة مع الدين، أو معركة مع قيم المجتمع، فالموروث فيه من السلبيات الكثير وفيه من الإيجابيات ما يمكن الانطلاق منه والبناء عليه. نكون أقرب بكثير إلى قلوب الناس حين نفكر بالتعابير التي نستخدمها، وأولويات المواضيع التي نطرحها. وما عدا ذلك، فإني أجد العمل النسائي في غاية الأهمية. المعارك في هذا الخصوص قادمة لا محال.
أوافقك على أننا نحتاج إلى أسلوب تَخاطُب مع الناس بلغتهم، ولكن الناس متنوعون فيما بينهم. فإلى جانب الشريحة التقليدية، لدينا كذلك السوريات المُطّلِعات على الأدبيات العالمية، ويشعرنَ بامتداد مع مشاكل النساء في جميع أرجاء العالم. لا أعتبر استخدام المصطلحات النسوية اغترابًا كاملًا. ربما من الأفضل ألا نضع خطابًا مقابل خطاب آخر، بل أن نضعهما إلى جانب بعضهما بعضًا. ما رأيكِ؟
لا أختلف معكِ، فأنا أخاطب النخبة النسائية التي تعي تلك الأمور. كإنسانة وامرأة لدي بعض الخبرة، أرى أنه ينبغي أن ننتبه إلى الجوانب التراثية والنفسية والإنسانية بشكل عام، وأن نكون بغاية الحساسية تجاهها. هذه هي مهمة النُخبة بالذات، أي أن يبحثن في أساليب مخاطبة مجتمعاتهن، أين يبدأنَ وكيف، أن يوسّعن الخطوات شيئًا فشيئًا، ويفهمنَ ماذا يريد الناس، ويُدركنَ أن المرحلة التي نمر بها ليست مرحلة طبيعية، نحن في مرحلة ردود أفعال وضغوطات على الناس. وما عدا ذلك، لا يوجد أي مانع من طرح قضية المرأة، بل إنها تحمل من الفائدة الكثير.
قبل أن أنتقل إلى الأسئلة الختامية، أذكر أنكِ قلتِ لي أثناء التحضير لهذا الحوار إنك تريدين الحديث عن نقطة الاستقطاب الحاصل سوريًا بين الإسلاميين والعَلمانيين. الساحة لكِ، تفضلي.
جيد أنكِ ذَكَّرتِني. ملاحظتي أن أسلوب طرح بعض الأمور يتسبب بانقسام سيئ في الساحة السورية بين علمانيين وإسلاميين. رغم أن لـ«العَلمانية» تفسيرات كثيرة، لكن إذا حاولنا أن نجد التفسير الأقرب لنا، فسنرى أنها تعني مطالبة الدولة بالوقوف على مسافة واحدة من جميع الأديان، وطبعًا من دون منع أي شخص من ممارسة دينه كما يشاء وبكامل الحرية. لا أرى ذلك يتعارض مع الإسلام. يوجد إسلاميون لا ينظرون إلى الأمور بهذه الطريقة، هذا صحيح، ولكن يوجد أيضًا علمانيون متزمتون جدًا. في رأيي، هذا التقسيم مُختلَق ومُبالَغ به، والذي زاده تصعيدًا هو الكلام حول الدستور قبل أوانه بطريقة تحمل شيئًا من الفرض والفوقية.
لدينا نظام طائفي استغلَّ العلمانية في خطابه على مدى عقود، وحاول أن يبتز الغرب بها، لذلك أسمي عَلمانية النظام بالعلمانية الكاذبة والمتوحشة. وفوق ذلك تزاود اليوم قوات سوريا الديمقراطية (قَسَد) في هذا المضمار بشكل أكثر تطرفًا، مما جعل وقع الكلمة مكروهًا عند جزء كبير من السوريين. إذا أردنا أن نتكلم مع الإنسان السوري بلغة مقبولة، فلا بد أن نقول إننا نطمح إلى دولة يكون فيها الجميع متساوين، وأن تلك الدولة هي مؤسسة إدارية لكل السوريين، ولا يمكن أن تُعرَّف بأي دين، وخصوصًا أن سوريا فيها أطياف متنوعة تعيش بين ظهرانيها، مهما بلغت نسبتها من عموم السوريين. أوَلم ترفع الثورةُ صوتها قائلة بأن الشعب السوري واحد؟ «واحد» تعني هنا من غير تمييز، لأن جزءًا كبيرًا من الشعب السوري عانى من سياسات التمييز تحت نير النظام الذي وظّفَ التنوعَ الطائفي لمصلحته. طبعًا التمييز كان بدرجات مختلفة، ولكن النظام استطاع أن يكتّل كتلة معينة حتى تخدم مصالحه وتحميه. وهكذا حاول قلب الصراع الجاري من صراع ديمقراطي حقيقي في سبيل الحرية والمساواة والمواطنة إلى موضوع حرب دينية وحرب أهلية، كما يحلو له ولجهات عديدة أن يصوّروا الثورة السورية.
مهم جدًا أن يشعر السوريون بخطورة الوضع الحالي، فيحاولوا الاتفاق حوله. نتفق على دولة مدنية تداولية! «مدنية» بمعنى أن الناس هم الذين يصوغون دستورهم، وبمعنى لا عسكرية، وأن مساواة تحكم بين مواطنيها، بغض النظر عن كل الصفات كاللون والجنس والقومية والطائفة والدين وما إلى ذلك. أرى أن ننتبه، فلا نبقى عالقين بمقولات من قبيل «فوق دستورية»، حتى لو كانت جيدة بنظر البعض. المشكلة هي أنه ضمن القمع الذي مُورِسَ على السوريين، والسجون التي وُضِعوا فيها، وصلت بهم الأمور إلى درجة أننا حتى لو أحضرنا القرآن وقلنا لهم إن هذا مفروض عليكم وفوق دستوري، فلن يقبلوه. طبعًا أُبالغ قليلًا لإيصال الفكرة.
يجب أن تأتي الأمور بالاقتناع. إن لم تأت من خلال حوار صبور بين النُخَب والناس، فما فائدة النُخَب؟ ستكون النتيجة ردودًا سلبية فقط. ينبغي في رأيي أن نفهم هذا، وننتبه كيف نتحدث، وكيف نعبّر عن رأينا، ونبقى ضمن منظور آلام الناس وأوضاعهم، وألا نغادرهم إلى أماكن بعيدة. ذلك أن التماسك الاجتماعي لا تكفيه دساتير الدنيا كلها، على أهميتها. وإذا لم يحصل الدستور على نوع من الحماية الاجتماعية له، فلا فائدة منه. نحتاج إلى الناس، وإلى الحواضن كافة، وخاصة تلك التي يسمونها بالأكثرية، نحتاجها أن تكون بالمستوى اللازم كي تضمن بإرادتها الدستور وتحاوطه وتدافع عنه. هي التي ستعمل على الدفع به إلى الأمام إذا كانت مطمئنة إلى حقوقها.
يهمني موضوع التوتر بين العلمانية والإسلامية الذي تتكلمين عنه، وأَشتغلُ عليه من زاوية أخرى، من زاوية المرأة في الإسلام.
حتى في موضوع المرأة نحتاج أن ننتبه وسط الاحتدام الحاصل. الناس في المخيمات بما تفرضه من أمور حياتية مستجدة، والنساء هن أكثر المتضررات منها ومن وحشية النظام وما خلّف من عقابيل، عدا عن اللواتي تمّ الاعتداء على أجسادهن أو التحرش بهن. في رأيي، لا يمكننا أن نتكلم في الجندرة، لا كلفظ غريب ولا هكذا من دون مقدمات وأُسس اجتماعية. بالعموم أؤمن بواجب التدرُّج في الطرح. شوي شوي على الناس! يمكننا أن نستشهد ونهتدي مثلًا بالقرآن الكريم: «ومن آياته أن خلقَ لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة»، و«يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها…. ». و«إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم». هل يوجد أوضح مساواة وأجمل لغة من هذه الآيات المُحكَمات؟ وتاء التأنيث التي يتم التأكيد عليها اليوم كما لو أنها فتح من الفتوح، ألم تكن أسلوبًا للتأكيد في القرآن الكريم: «إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانطين والقانطات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات…… ». ص.ل.ع.
إن الفقه الإسلامي واسع. وسوف يُساعدنا أنَّ لدينا إرثًا حضاريًا يمكن أن نستفيد مما ينفعنا منه، ونهمل ما لا ينفع. أعتقد أنه إذ أحسنّا الفهم، سنرى أن تراثنا الديني والاجتماعي يستطيع التجاوب مع ما يفرضه التطور والعصر والعولمة والحضارة الغربية من تحديات، مما يجعلنا قادرين على فتح نوافذنا على العالم من شرقه لغربه بشجاعة وثقة، دون التقوقع بين جدران الخوف. هذه قناعتي.
قمتِ وتقومين بمشاريع صغيرة وكبيرة ذات طابع عام، ولكن يبدو أنكِ متوجسة من احتمال فشل معظمها. من أين ذلك الخوف؟ وهل تعتقدين فعلًا أن كثيرًا من مشاريعنا العامة (سوف) تفشل؟ ما السبب يا ترى؟ وكيف نخرج يومًا من هذه الحلقة المفرغة؟
لا، ليست حلقة مفرغة، وليس فشلًا بالمطلق. في رأيي. إذا كان العمل مخلصًا، فلا بدّ أن يترك صدى إيجابيًا. ولكن التحديات لن تُحَلَّ بخطوة في هذا الاتجاه أو ذاك، فالأمر يحتاج إلى عمل وإعطاء هذا العمل حقه من الزمن، فتتراكم خطواته الصغيرة، لتحدث نقلة كبيرة في لحظة معينة. وقد نشعر بالفشل حين نُعوّل على شغلنا إلى الحد الأقصى، ينبغي أن نعلم أننا لن ننجح تمامًا، لأنه لا يوجد شيء واحد سيحل لنا إشكالياتنا تمامًا. كل القضايا الإنسانية تتطلب عملًا على مدى أجيال. والسوريون يريدون أحيانًا أن تُحَلَّ الأمور مباشرة. سوف يستمر النضال من أجل الحرية والعدالة حتى لو صار التغيير.
كتب والداكِ مُذكّراتهما، وسمعتُ أنك أنتِ أيضًا تكتبين مُذكّراتك. لو حاولتِ تلخيص ذاكرتكِ التي تنوين تركها في متناول السوريين والسوريات، فماذا ستقولين لنا؟ أُدرك أنه سؤال صعب، ولكن ماذا استخلصتِ شخصيًا من تجربتك الإنسانية الغنية بتناقضات الأمل والألم؟
لا، أنا لا أكتب مذكرات، ربما سأفعل ذلك إذا كان ثمة شيء مفيد يمكنني تركه. ولكن إذا أردتُ تلخيص رؤيتي إلى كل ما مضى، فسأقول: إذا استمرَّ العمل، فلا بد أن وقتًا سيأتي ليطرح بعض الثمار. الأجيال السابقة اشتغلت، وقدمت تضحيات كبيرة، وسوف يستمر ذلك. نحتاج أن يشتغل كل إنسان بكامل الصبر، كما يشتغل النمل، بطريقة فيها إصرار وثبات وهدوء، وليس كلحظة عابرة. نحتاج أن يترك الإنسان ذاتيته جانبًا لأجل قضية يؤمن بها. فكيف إذا كانت قضيتنا ومأساتنا بهذا الحجم؟
أن يترك ذاتيته جانبًا؟ ولكن لماذا لا يحقق ذاته في طريقه أيضًا؟
هذا سؤال محق ومهم! فلولا الطموح إلى تحقيق الذات في القضايا على أنواعها لما تقدمت الحياة. تحقيق الذات سُنّة كونية للبشر. يمكن للإنسان أن يحقق ذاته من خلال عمله وإيمانه بالهدف والحلم أو القضية، لا أن يحققها على حسابها. هذا ما قصدته!
بالنسبة لي، هوايتي هي الرسم والتطريز. وجاءت فترة زمنية عاصفة، لتأخذنا وتأخذ الكثير منا في دوّامتها، ولتسرقَ منا أشياء جميلة نحبها وقريبة من نفوسنا. ألم يكن لغياث مطر حلمٌ غير الموت وهو يوزع الورد لمن سيقتله؟
شكرًا لكِ يا رحاب على هذا الحوار، الذي ساعدني كثيرًا على إعادة النقاش بيني وبين نفسي حول كل ما أراه في هذه اللحظة الراهنة.
موقع الجمهورية