سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسة

سوريا حرة إلى الأبد: أحداث ووقائع 11 كانون الثاني

كل المقالات والتحليلات والحوارات التي تناولت انتصار الثورة السورية اعتبارا من 08 كانون الأول، ملاحقة يومية دون توقف تجدها في الرابط التالي:

سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

————————————-

حاشية على هامش مؤتمر الحوار الوطني السوري/ مروان قبلان

11 يناير 2025

من دون مقدمات طويلة، وبعد 11 يوماً فقط من إطلاق فصائل المعارضة عملية ردع العدوان، سقط نظام الأسد، ووجد السوريون أنفسهم أمام واقع جديد لا يشبه أيّاً من السيناريوهات التي عكفوا (والعالم) على وضعها خلال 13 عاماً من التفكير والعمل لتأمين انتقال سلس في سورية، وسادت في أثنائها مقولة أن “الحلّ في سورية لا يمكن أن يكون إلا سياسياً” وعبر التفاوض، وأن الصراع لن يحسم بالقوة. واقعية هذا الكلام لم تنتج حينها فرضية أن الصراع لم يكن قابلاً للحسم، بل بسبب أن الإرادات الإقليمية والدولية اجتمعت على منع ذلك، خوفاً من البديل، أو رغبةً في إضعاف سورية، أو غير ذلك من أسباب. هكذا، وفي غفلة من العالم وتدخّلاته، تمكّن السوريون خلال 11 يوما من حسم صراع استمرّ (بقرار إقليمي ودولي) 14 عاماً، دمّر سورية وشرّد أهلها.

أمام مفاجأة سقوط النظام المهترئ كان طبيعياً أن تجد إدارة العمليات العسكرية نفسها في حالة من الحيرة إزاء ما يمكن عمله، فهذا واقع لم نواجه مثله في أيٍّ من تجارب ثورات الربيع العربي. في مصر، مثلاً تولّى الجيش حكم البلد، وتأمين انتقال سلس للسلطة، مباشرة بعد سقوط حسني مبارك. في تونس هرب الرئيس زين العابدين بن علي، لكنّ الدولةَ بمؤسّساتها، وفي رأسها الجيش، ظلّت قائمةً، وجرى الاحتكام إلى الدستور في تأمين الانتقال. في العراق وليبيا تولّى الخارج ترتيب أمور الانتقال، كما تولّى مهمّة تغيير النظام، وإن شابت العملية حالةٌ من الفوضى في الأرض في المناسبتَين. أمّا في اليمن، فقد حظيت سلطة عبد ربّه منصور هادي بشرعية دستورية انبثقت من مُخرَجات مؤتمر الحوار الوطني، واستند إليها الخارج في التعامل مع الشأن اليمني عندما استولى الحوثيون على صنعاء.

جاءت التجربة في سورية مختلفةً تماماً، ليس لأن السوريين تمكّنوا، من دون دعم خارجي يذكر، من إسقاط أحد أعتى الأنظمة وأكثرها فساداً وإجراماً وتسلّطاً عبر التاريخ، بل تمكّنوا أيضاً، ومن دون مساعدة خارجية تذكر، من ضبط الفوضى التي حاول النظام الساقط إغراق البلاد فيها، في ترجمة لمقولة “أنا أو الفوضى”، “الأسد أو نحرق البلد”.

في ساعات سقوطه الأخيرة، صدرت الأوامر إلى الجيش والأجهزة الشرطية التابعة لوزارة الداخلية بترك مواقعهم، وخلع بزاتهم الرسمية، والذهاب إلى بيوتهم. كان هذا قراراً من النظام بحلّ الجيش والشرطة والأمن وإدخال البلاد في المجهول. مع ذلك استطاعت إدارة العمليات العسكرية، مدعومةً بوعي شعبي كبير، ملء الفراغ سريعاً وضبط الأمن ومنع وقوع تجاوزات في نطاق واسع. بمُجرَّد السيطرة على الوضع أمنياً في المدن الكُبرى، برز السؤال عن كيفيات انتقال السلطة. ولأن أحداً لم يكن يملك إجابةً، كان القرار (لمنع الفراغ)، هو تكليف حكومة إدلب بإدارة شؤون البلد في محاولة لكسب بعض الوقت (ثلاثة أشهر) حتى يُفكَّر في المرحلة التالية.

كان واضحاً إذاً أن الإدارة الجديدة لم تكن تملك أيَّ تصوّر حول مرحلة ما بعد سقوط النظام، لكنّها كانت منفتحةً، في الوقت نفسه، على مختلف الآراء والمقترحات، خاصّة أن السوريين اشتغلوا للمرحلة الانتقالية كثيراً خلال السنوات الماضية، وخرجوا بخطط تلتقي معظمها في الخطوط العامّة. بعد أسبوعين تقريباً من سقوط النظام بدأت الإدارة الجديدة تتحدّث من خلال مقرَّبين منها، ثمّ من خلال رئيسها أحمد الشرع، عن رغبتها في عقد مؤتمر للحوار الوطني، لكن أحداً لم يُقدّم تصوّراً واضحاً عن كيفية عقده، وخطوات التحضير له، والأهداف المرجوة منه. بدا الأمر في أوّله ارتجالياً، اعتباطياً، لكنّ الأمور بدأت تتغيّر بمرور الوقت، وأخذت ترشح تفاصيل، وإن لم تساعد كثيراً في جلاء الصورة، إلا أنها دلّت على تطوّر في التفكير. ما نعرفه الآن مثلاً أن ما بين 1200- 1500 شخصية ستُدعى إلى المؤتمر، وأن الدعوات ستصدر بالصفة الشخصية للمدعوين، وأنه لن تُدعَى قوىً سياسية… إلخ. كما جرى الحديث عن مواعيد مختلفة لعقد المؤتمر، كان آخرها تصريح وزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال من عمّان عن التريث في عقد المؤتمر، وتشكيل لجنة تحضيرية لضمان الإعداد الجيّد، وهو ما كان مطلباً لكثيرين منذ طرح الفكرة.

ومثل كلّ شيء آخر، انقسم السوريون حول فكرة المؤتمر، والغاية من عقده. ففي حين ترى الإدارة الجديدة أن المؤتمر يفيد في إعطاء الشرعية للقرارات والخطوات التي تعتزم القيام بها خلال المرحلة المقبلة، وفي الاستجابة لشرط داخلي ودولي بشأن اشراك أوسع طيف ممكن من السوريين في المرحلة الانتقالية، يرفض آخرون أن يكون المؤتمر مُجرَّد تجمّع مهرجاني، ويُصرّون على أن الغاية من عقده يجب أن تتجاوز ذلك إلى إنتاج خطّة متكاملة للمرحلة الانتقالية، يشكّل المؤتمر مصدر شرعيتها، في حين يرى طرف ثالث أن المؤتمر سيضيف في طنبور الانقسام السوري نغماً، وأن الأفضل من ثمّ، صرف النظر عن فكرة عقده. ويجادل أنصار هذا التيّار بأن تجارب السنوات الماضية لم تكن مشجّعة بهذا الشأن، فالمؤتمرات تعمّق الانقسامات بدلاً من حلّها، وأن جمع 1200 شخص في مكان واحد يُعدُّ أمراً غير مُجدٍ عملياً، ولا يؤمّن أيّ نقاش حقيقي. وإذا فشل المؤتمر في الاتفاق على تصوّرات المرحلة الانتقالية، فإن ضرر عقده يصبح أكبر من نفعه، ونحن لا نحتمل أيَّ فشل في هذه المرحلة الحسّاسة والخطيرة التي تمرّ بها البلاد.

بغض النظر عن اختلاف الرأي بشأن عقد مؤتمر الحوار الوطني، والغاية منه، على أهميتها، لا يمكن أن تبقى البلاد في حالةٍ من الفراغ السياسي إلى ما بعد فترة الشهور الثلاثة التي حدّدتها إدارة العمليات العسكرية (في الأول من مارس/ آذار المقبل)، خاصّة أننا لا يمكن أن نمضي بعيداً في تحقيق الأولويات الأمنية والمعيشية من دون إطلاق مسار سياسي يساعد في تأمينها. لذلك، تغدو الحاجة ملحّةً لاتفاق السوريين سريعاً على الخطوة السياسية التالية، مستفيدين من فترة سماح، أو فرصة إقليمية ودولية مواتية، تميل حالياً إلى دعم الاستقرار ومنع الفوضى في سورية، لكنّ هذا ليس معطىً دائماً، فقد تحصل تغيرات في سياسات الدول، وتبدأ التدخّلات الإقليمية والدولية لتقلب المشهد الهشّ.

أمنياً، تحاول الإدارة الجديدة نزع السلاح، وحلّ الفصائل وإدماجها في الجيش الجديد، وهي خطوة يجب أن تحظى بدعم جميع السوريين، لأنها تقطع الطريق على أيّ محاولات انفصالية، أو اقتتال أهلي، وتكبح جماح التدخّلات الخارجية وإمكانية تكرار النموذج الليبي. لكن هذه العملية تواجه صعوبات تنفيذية في مناطق مختلفة، وقد بدأت بعض الأطراف تطالب بتوضيح رؤية دمشق للمرحلة الانتقالية قبل النزول عند مقترح تسليم سلاحها وحلّ نفسها، ما يعني أن ضبط الأمن بات مرتبطاً بإطلاق مسار سياسي واضح، وخطّة انتقالية تبيّن لمختلف الأطراف دورها ومكانها في سورية المستقبل. من دون هذا، لن تقبل بعض الأطراف طوعاً التعاون، ولا تسليم سلاحها، ولا حلّ نفسها والاندماج في الإدارة العسكرية الجديدة. فوق ذلك، يجب توضيح مصير فئات واسعة من السوريين ممّن عملوا مع النظام السابق، والعمل على إعادة دمجهم في المجتمع حتى لا يتحولوا أداةً بيد قوىً خارجيةٍ تستغلّ حاجتهم، وتستثمر في تهميشهم، لضرب الاستقرار وللتدخّل في شؤون البلاد تحت مسمّى حماية الأقليات.

بالقدر نفسه، يرتبط تحسين الأوضاع المعيشية وإنعاش الاقتصاد بإطلاق مسار سياسي واضح. ولا يمكن للسلطة الجديدة، بحسب المعطيات المتوفّرة، أن تنجح في رفع العقوبات الأميركية والأوروبية والعربية من دون عملية سياسية جامعة وشاملة تضمن مكان ودور القوى والمكوّنات السياسية السورية كلّها. ولا يمكن بالدرجة نفسها للحكومة الجديدة أن تضمن اعترافاً دولياً بها من دون توفّر مثل هذه الرؤية السياسية.

هذا يعني أن ثنائية الأمن والعيش الكريم، وهما في صدارة أولويات المرحلة الحالية، ترتبط ارتباطا وثيقاً بوجود خطّة واضحة للانتقال السياسي. ورغم اشتغال السوريين في خطط مختلفة، كما بيّنا سابقاً، فإن الخطة التي وضعها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ونشرها أخيراً تحت عنوان: “سورية الجديدة: خارطة طريق للمرحلة الانتقالية” (“العربي الجديد”، 23/12/2024) تُعدُّ من أكثرها وضوحاً وشموليةً وقابليةً للتنفيذ. اعتمدت الخطّة على الطروحات والفِكَر التي أراق السوريون حبراً كثيراً في كتابتها في مدى 13 عاماً، وهي ترسم مساراً تفصيلياً واضحاً للانتقال السياسي في سورية، وتكفل في حال تنفيذها، أو الاسترشاد بها، تحقيق انتقال سلس، سلمي وشامل، يضمن قيام دولةٍ سوريةٍ تقوم على مبدأ المواطنة وسيادة القانون وقيم الحرية والعدالة، التي ضحّى السوريون كثيراً من أجل الوصول إليها.

العربي الجديد

——————————–

في هجاء الأخطاء (والمبادرات) الفرديّة… ومديح الارتياب من “كلّ شيء” في سوريا!/ عمّار المأمون

11.01.2025

أسئلة كثيرة لا إجابات عنها حالياً في سوريا، لكن يبقى الارتياب والشك في كلّ شيء، وكل ما نراه ونسمعه من حقنا، فلا دستور للبلاد ولا قوانين واضحة للمحاسبة والعدالة، إلا عدالة الشارع، عدالة كرنفالية كأن يجرّ رجال الهيئة أحدهم وهو يصرخ “أنا لطشت بنت” أو إذلال مجموعة تصرخ من أعلى شاحنة “نحن حراميّة”.

لا يكفي شهر واحد لتحرير سوريا من متلازمة الأسد، تلك التي لخّصها مرّة وزير الدفاع السابق مصطفى طلاس بعبارة “كلّ السوريين هم حافظ الأسد”، فتحطيم “كلّ” تماثيل الأسدين لا يعني أن الطاغية رحل من رؤوسنا، هو الذي زرع في الكثيرين فينا “القدرة على قول ما لا نعنيه” وإنكار الواقع ولو كان أمام أعيننا واقعاً، والارتياب والشكّ في كلّ الكلام والخطابات الرسمية وغير الرسمية، والأهم، الارتياب والشك في بعضنا البعض،  لا شيء بريء في أعين السوريين، وربما هذه “اللعنة” بالضبط، ما يجب أن نحافظ عليه الآن أمام حكومة الأمر الواقع.

شكّل انهيار نظام الأسد لحظة ولادة الفضاء العام في سوريا بمعناه التقليدي، واستعاد السوريون المساحات العامة واحتلوها بأجسادهم، لم يعد الحديث السياسي أسير المنتديات التي لم تكن سوى بيوت معارضين للنظام قبل الثورة وبعدها،  امتلك السوريون الساحات والأنفاق والزنازين وسماء سوريا وما تحت ترابها.

 لا فضاء ممنوع على السوريين اليوم، أو حتى هذه اللحظة، وهنا أهمية الارتياب، أمام سلطة تعمل وفق منطق “المسايرة” وتعيين شخصيات من “البطانة” أو “فريق عمل منسجم” حسب تعبير أحمد الشرع، “قائد” السلطة الجديدة التي تخاطب عموم السوريين عبر تلغرام (شركة روسية) أو ميتا (شركة أميركيّة) أو وسائل إعلام عربية (قطرية، سعوديّة، إماراتيّة).

هذه المنصات التي تختار وتقدّم “الواقع”، تنقل لنا  الجموع التي تهلل وترقص في الساحات، في تجاهل للريبة السوريّة من الجموع والأعلام التي ترفرف لأيام، لكنها في الوقت ذاته تتجاهل واقعاً آخر، كالاحتجاجات ضد “الجولاني” التي تطالب بإطلاق سراح الجهاديين المساجين في سجن المعصرة، أو احتجاجات عائلات الجنود والضباط المعتقلين لدى الإدارة الجديدة، الذين ما زال مصيرهم مجهولاً.

 أخبار متفرقة ومتناثرة تواجه بماكينات تكذيب أو نفي، وحين لا يمكن الإنكار، كما في حال وزير العدل شادي الويسي الذي أشرف على إعدام امرأتين، يأتينا الرد على لسان مجهول أن الفيديو”وثّق عملية إنفاذ القانون في فترة زمنية ومكان محددين… وأن هذه العملية تعكس مرحلة تجاوزناها في ظل التحولات القانونية والإجرائية الراهنة”، أي علينا أن نصدّق أن الزمن مضى والبشر تغيروا بكل حسن نيّة، متجاهلين كل الدلائل الأخرى! ونراهن على طيبة القلب، نحن السوريين الذين تعلّمنا ألا نثق بأيّ أحد، حليقاً كان أو ذا ذقن!

إعلاء قيمة الارتياب

الريبة الآن محطّ المديح، خصوصاً أن السلطات الجديدة تراهن على غياب المؤسسات الرسمية، فاسحة المجال أمام الاجتهاد الفرديّ، إن أردنا تبني حسن النيّة، مرة تعدل المناهج المدرسية ثم تتراجع، مستفيدة من فوضى المعلومات وجدلية الخبر الصحيح والخبر المنفيّ، للتهرب من إجابات بسيطة لا تحتاج الى جدل، بل ابتداع مفاهيم متحذلقة كـ”دولة مدنية شرعيّة”!.

 وعوضاً عن تطمين السواد الأعظم من السوريين الذين لا تمثلهم الهيئة، يظهر علينا رجالات الهيئة بعبارات الطمأنة والتربيت وحقوق الأقليات و”الطوائف الكريمة” ووعود بمستقبل أجمل وأفضل وأغنى، في إصرار واضح على تجنّب ما يجب قوله.

المريب والخطير هو قناعة  الكثيرين من الفرحين بـ”التحرير”، بـ”رسائل الطمأنة”وتقنيات التربيت على الكتف، والقدرة على الإنكار،  التي يبدو أنها لم تتلاشَ مع انهيار نظام الأسد، القدرة التي تمرّس بها السوريون لعشرات السنين، قدرة يحركها الخوف إلى حد إنكار الانتهاكات ومحاولات الهيمنة على الفضاء العام، وإنكار الأثر السياسي لكل الأطراف التي تلعب في سوريا، بل يصل الأمر حتى تخوين من يطرح أسئلة مثل “ما مصير الذين تعتقلهم الهيئة؟”، أو “هل نحاسب كل الشبيحة على أنهم قتلة؟”.

أسئلة كثيرة لا إجابات عنها حالياً، لكن يبقى الارتياب هو حقنا كسوريين، حقنا بأن نشكّ في كلّ شيء، وكل ما نراه ونسمعه، فلا دستور للبلاد ولا قوانين واضحة للمحاسبة والعدالة، إلا عدالة الشارع، عدالة كرنفالية كأن يجرّ رجال الهيئة أحدهم وهو يصرخ “أنا لطشت بنت” أو إذلال مجموعة تصرخ من أعلى شاحنة “نحن حراميّة”، مسيرات العار هذه ليست إلا ترسيخاً للانتقام الفرديّ والتأديب العلنيّ، أسلوب ينسحب على الكثير من التهم والشبهات، وهذا ما رأيناه بإذلال أحدهم وهو يمشي شبه عار صارخاً “أنا شبيح”، السؤال إذاً، وبكل حسن نيّة، كيف لا نرتاب من كل ماسبق؟

أزمة “الأخطاء الفرديّة”

ترددت عبارة “أخطاء فردية” لوصف كل انتهاك يقوم به أفراد وعناصر من هيئة تحرير الشام، من إحراق شجرة الميلاد حتى “دعوسة” المتهمين بأنهم من “مجرمي النظام”، من دون أي آلية واضحة للاتهام، عمليات نعرف بعضها وبعضها لا نعرفه بهدف الحفاظ على الأمن وملاحقة “فلول النظام”، التهمة الغامضة حتى الآن، والتي تتجلى نهايةً بتسجيلات لإعدامات وإذلال علنيّ للجثث كما في تسجيل مختار حيّ دمر في دمشق، الذي يظهر فيها أطفال يضربون الجثة المقيدة إلى جذع شجرة !.

“أخطاء فردية” تتراكم لتتحول إلى سرديّة لاحقاً تنفيها مراراً وسائل الإعلام المقربة من الهيئة والهيئة نفسها، لكن وصف ممارسات كهذه بـأنها “فرديّة” يعني أننا أمام إدارة عاجزة عن ضبط العناصر، أو سعي عشوائي الى الانتقام أو تطبيق المعتقدات الشخصيّة، لكن في اللحظة التي يوجه فيها الانتقاد، يفقد المُنتقد، وللمفارقة، فرديته، ليتحول إلى “المُحرر من عبودية الأسد”،  وجزء من جماعات هي “شبيحة سابقين” و”فلول النظام”.

 المُخطئون إذاً أفراد والمنتقدون أيضاً أفراد، ينفون من الجماعات رمزياً لتهديدهم “التحرير” ومكارم الأخلاق التي للغرابة من المفترض أن يتمتع بها كلّ السوريين، وكأن لا سفلة بيننا من الطرفين!

مع أخبار عن تأنيب “القيادة” وتوبيخها مرتكبي “الأخطاء الفرديّة” التي تسوّى ضمن منطق “تبويس الشوارب” لا الصلح الأهلي مثلاً، أي بعد كل خطأ بحق الأقليات على الخصوص، يسارع عناصر من الهيئة الى الاعتذار، وتقديم حجج مثل “ازرعوها بدقنا” و “حقكم على راسنا”، ضمن ريلات وفيديوهات المؤثرين المنتشرين في كلّ سوريا، بل والحجة الأكثر إثارة للريبة (والخوف) هي: “هؤلاء ليسوا سوريين”!

تعطل عبارة “الأخطاء الفردية” مجال النقاش و الاتهام، خصوصاً بعدما تليها استراتيجيّة تبويس الشوارب، فـ”خطأ فردي” أي أن المؤسسة بريئة ولا دور لها، كلّ يتصرّف حسب قناعاته، تلك التي يكفي الاطلاع على تواريخ الفصائل وأفرادها لنكتشفها، هذه الكلمة “خطأ فردي” تنزع السياسة عن مرتكب الانتهاك، وتعطل المحاسبة في رهان خاسر حكماً على حسنّ النيّة و “أخلاق الشعب السوريّ”!

خطورة “المبادرات الفرديّة”

ترافق “التحرير” مع سلسلة من المبادرات الفرديّة، تقف وراءها مؤسسات وأحياناً تجمعات لا علاقة لها بأحد، ففيما نشاهد مجموعة تنظف مقر شرطة دمشق، تظهر مبادرات فرديّة، كمحاضرات في الشريعة في أحد مقاهي اللاذقية، و لصاقات عن فصل النساء عن الرجال في الباصات، والأخطر، بناء “مصلى” في منتصف ساحة جامعة دمشق، مبادرة تقضي ببساطة على حياد الجامعة العلمي، الجامعة التي تحوي أماكن عدة للصلاة، لكن إن سارع أحدهم الى جمع التبرعات وبناء جامع، هل ستقام كنيسة؟

الكثير ما يمكن قوله عن خطورة بناء مسجد في منتصف الجامعة، لا بلاغة وحجة قادرة على جعلنا نتفادى الغضب الشعبي من الاعتراض على موضوع كهذا، خصوصاً أمام أسئلة من نوع، هل هو متاح للطلاب فقط أم للجميع؟ هل هو مصلى أم مسجد؟ هل يمكن بناء كنيسة أيضاً؟.

 الجامعة مساحة اللعب والتجريب والاكتشف، هي مسوّرة لحماية الطلاب، الطلاب أنفسهم الذين تظاهر الكثير منهم في 2011 والذين صلّوا فيها 2025، تتصارع الأيديولوجيات داخل أسوارها كمساحة محميّة، فردوس للشباب وطيشه وأفكاره، ووجود مصلى في المنتصف علامة لا ريب فيها، مع ذلك، كما قلنا في البداية القدرة على الإنكار و حسن النية تحكم الآن، فهل يوجد من يجرأ على الوقوف بوجه مضخّة الإسمنت التي تصبّ الدعامات؟

لحظة استقلال الفضاء العام والدخول إلى السياسة، تحاول المبادرات الفردية والمجتمعية استغلالها لصالح خطاب إسلاموي واضح، تحت حجة ألا قيود ولا رقابة، لتظهر المبادرة هنا والترويج الذي يتم لها كحامل أيديولوجي على رغم ادّعائه البراءة وتبني سردية بناء سوريا، ما يحرر “القيادة” من المسؤولية، بوصف ما يحصل تصرفات من أفراد ولا شيء رسميّ وراءها، بصورة ما، المبادرة الفردية تشبه الخطأ الفردي في مفهومها، تعبر عن معتقدات من ينفذّها وتفتح الباب أمام التهرب من المسؤولية.

أسلوب غسل اليد هذا معروف عن هيئة تحرير الشام، التي “تسمح” بمبادرات إنسانية ومدنية ثم تستولي عليها كما يحصل في إدلب، أو تحاصص على جزء منها، بصورة ما المبادرات تكرس انسحاب “الدولة” على حساب مكارم أخلاق المبادرين والتحويل الأجنبي، والجهود المدنيّة، ما يحرر الدولة من مسؤولية “العمل”، إذ لا يعود مصدر الخدمات هو الدولة المشغلة، بل المتبرع / المبادر، لتعمل السلطة القائمة كميسر لتدفق الأموال، لا ضامن للتشغيل والخدمات.

ربما أكثر العلامات وضوحاً على خطورة المبادرات الفرديّة هي الدعوى التي قام بها المؤثر “الشيف أبو عمر الدمشقي” وذبح عشرات الخواريف أمام المسجد الأموي في وليمة عارمة، انتهت بوفاة عدد من النساء وإصابة عدد من الأطفال بسبب “التدافع”، نحن أمام استعراض للمال والشفقة يشابه بورنوغرافيا الفقراء، لحم مسلوخ معلق على جدران المسجد الأموي بينما يتدافع الجياع من دون تنظيم من أحد، لحم عار وآخر جائع أمام تحديقة الكاميرا التي تحشد الإعجابات.

أعلن محافظ دمشق “تحمل كامل المسؤولية عما حدث في الجامع الأموي، ونعمل على اتخاذ تدابير عاجلة لضمان عدم تكرار مثل هذه الحوادث في الأماكن العامة مستقبلاً”، لكن عادة مبادرات كهذه لا بد من تنظيمها وضبطها قبل أن يدهس الأطفال تحت أرجل الجياع، لكن وبعد “الجريمة” والأوساخ التي تركت على أسوار المسجد، قام البعض بعد ساعات بـ”مبادرة فرديّة” لتنظيف المكان ليعود لامعاً.

نعم الفضاء العام ملك للجميع، لكن يضبط هذا “الملكية” الدستور، المعلق حالياً، لتتحول المساحات العامة إلى خشبة لاستعراض العدالة الشعبية، مكارم الأخلاق الفرديّة، الجوع بعد سنين طويلة من الحرب، والأهم  المبادرات الفردية والمجتمعية كهذه تكسب”القيادة” شرعية أنها تفتح الفضاء العام لـ”جميع” الفضاء العام ذاته الذي  تنتشر فيه دعوات الفصل بين الجنسين!

درج

———————————

سورية الجديدة بين تركيا والعرب/ بشير البكر

11 يناير 2025

علاقات تركيا بسورية الجديدة متميّزة، لأسباب كثيرة في رأسها أن أنقرة وقفت ضدّ النظام السوري منذ بداية الثورة السورية، وساندت الشعب السوري، ولم تتخلَّ عنه في أصعب الظروف، ولا يعني ذلك أن العرب لم يتحمّلوا مسؤولياتهم تجاه الشعب الشقيق، بل قدّموا مساعدات كثيرة، وساندت أغلب الدول العربية الثورة في بدايتها، ويحكم سلوكَ أغلبها اليوم حرصٌ على عدم تكرار التجارب العربية السابقة في ترك مصير بلد عربي بين أيدي أطراف أجنبية، وأن الفرصة سانحة أمام العرب من أجل مساعدة سورية، التي تعاني من انهيار شبه كامل للدولة، فهي بلا اقتصاد ولا جيش ولا أمن، وتحتاج إلى من يقف في جانبها من أجل إعادة بناء المؤسّسات من الصفر.

حتى اليوم، يبدو أن العديد من الدول العربية تجاوزت التحفّظات تجاه التحوّل في سورية، وباتت تتعامل على أساس أن ما حصل هو شأن داخلي يحظى بالتفاف الغالبية السورية، ولذلك يجب احترام خيارات الشعب السوري. وقد تردّد في إعلام بعض الدول العربية أن من أكثر إيجابيات إسقاط نظام بشّار الأسد أهميةً هو أنه أطاح النفوذ الإيراني، لكن لا أحد يؤيّد أن تنتقل سورية إلى النفوذ التركي، مع الفارق الكبير بين ما يمثّله حضور البلدَين من مخاطر على المنطقة ككل. وتبدو المرحلة أمام سؤالَي التنافس والتعاون بين تركيا والدول العربية في سورية. وحسب ما هو واضح من خطوات، فإن الاتجاه العام يسير نحو التعاون، وهذا ما بدا ملموساً من زيارات بعض المسؤولين العرب إلى أنقرة، كما هو حال وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي، وزيارات بعض المسؤولين الاتراك بعض الدول العربية، ومن ذلك زيارة وزير الخارجية التركي هاكان فيدان أبوظبي.

وممّا يساعد على تقارب العرب مع تركيا أن العلاقات بين أنقرة والرياض وأبوظبي والقاهرة تحسّنت بشكل كبير في الأعوام الأخيرة، واتجهت من التصادم إلى التفاهم، وهناك مؤشّرات إلى تشكّل محور تركي قطري سعودي أردني منفتح على سورية، من أجل دعمها اقتصادياً وسياسياً وأمنياً، الأمر الذي شجّع أوروبا على إيفاد وزيرَي خارجية فرنسا وألمانيا للقاء قائد الإدارة السياسية الجديدة أحمد الشرع، وتجري اتصالات عربية تركية دولية من أجل رفع العقوبات، ووضع تفاهمات تستهدف التعافي السريع، وإطلاق عمليات (وخدمات) إسعافية لحلّ مشكلة التيّار الكهربائي التي تعانيها سورية. وحسب التصريحات ستباشر كلّ من تركيا والأردن ذلك في القريب العاجل، بفضل عاملَي الجوار الجغرافي والبنية التحتية، المتمثّلة بسهولة ربط الشبكات بعضها ببعض.

ما يتردّد في التصريحات العربية (وغير العربية) أن هناك عقلانية سياسية ملحوظة في توجّه الحكم الجديد في دمشق، وما هو منشود منه يتمثّل في أمرَين. الأول البعد عن سياسات النظام البائد، التي قامت على ابتزاز الدول العربية والدخول في المحور الإيراني، الذي سيطر على القرار في أربع دولة عربية، وبات يُهدّد أمن الخليج العربي، وإلحاق ضرر من خلال تهريب الكبتاغون إلى دول الجوار وأوروبا. والأمر الثاني هو أن تثبت هيئة تحرير الشام أنها غادرت كلّياً ماضيها الأيديولوجي، وانسلخت عن تنظيم القاعدة، وأن ما تتّجه إليه هو علاقات مبنية على قواعد جديدة، تقوم على التعاون في المجالات السياسية والأمنية، لا تتدخّل في شؤون الدول الأخرى.

وما يبعث على طمأنينة الأطراف العربية والدولية، هو الإشارات إلى نموذج سوري جديد سوف يجري العمل له، قريب من النموذج التركي، القائم على الفصل بين الدولة والدين، وكسر الاستقطاب بين الإسلام والعلمانية، وهو نموذج مقبول، لأنه لا يفرض دولةً إسلاميةً، ومتصالح مع بقيّة الأديان.

العربي الجديد

———————————

وانتصر عمّار ديّوب…/ معن البياري

11 يناير 2025

لم يستخرِج عمّار ديّوب طوال حياته جواز سفر، لا لشيءٍ إلا لأنه لا يريد أن يغادر بلدَه سورية. يُكمل بعد شهور الرابعة والخمسين من عمره، ولم يستقل طائرةً بعد. حدث أن زار لبنان مرّتيْن، برّاً وببطاقة هويته. يقيم في بيتٍ صغيرٍ في ضاحية جرمانا في دمشق التي قدم إليها من مدينته حمص لدراسة الفلسفة في الجامعة السورية (بحسب تسميةٍ قديمةٍ لجامعة دمشق) التي تخرّج منها قبل 28 عاماً، ثم لتدريس الفلسفة في ثانويةٍ لوزارة التربية والتعليم، قبل أن يستقيل في 2016، ليكتفي بعُزلته (النسبية)، في منزله وحيداً، فلا زوجة معه بعد تجربة زواج عشر سنوات انتهت بطلاقٍ، ومن دون أولاد. والعزلة هذه حَذراً من عسس السلطة، وهو الذي كان قد نشط في تنسيقيّات الثورة السورية في أحياء دمشق، واعتُقل أياماً، كما أصدقاءُ وزملاءُ له، ثم أصبح تحت مراقبةٍ طويلةٍ ومزعجة، في المدرسة التي كان يعمل فيها، وفي حركته الخاصة، الأمر الذي جعله، مرّاتٍ، يختبئ ويختفي في منازل أصدقاء ومعارف له. وفي الأثناء، لم يُزاول عملاً سوى كتابة مقالات رأي، بدايةً في صحيفةٍ عربيةٍ أوقفت نشر مقالاته ما إن صادفت اسمَه في “العربي الجديد” التي حافظ على حضوره فيها وحدَها، وارتباطه بها منذ نحو تسع سنوات. وهنا أفتح قوساً، أن السقف العالي الذي اتّصفت به مقالات عمّار في السخط على نظام الأسد، وهي التي تصل إلينا من دمشق، كان مدهشاً، ففيما كان يبعثُ على الإعجاب، سيّما وأن لغة الكتابة عالية، واحترافيّة، كان ثمّة خوفٌ فينا على الكاتب، فهو بين ظهراني نظامٍ سافل. ولمّا كنتُ أدردش معه، بين وقتٍ وآخر، في “فيسبوك” وغيره، كان اثنانا نتحدّث عن لقاءٍ بيننا نتطلّع إليه، في الدوحة، لكنه ظلّ يصرّ على أن اللقاء سيكون في دمشق، فقد كانت ثقتُه بسقوط نظام الأسد مطلقة.

انتصر عمّار ديّوب. ربح رهاناً صعباً ومكلفاً. كان شديد الغضب من المعارضة السورية، كلها، في الخارج، كنتُ أحدِّثُ نفسي بشأن مقالاته عنها، في منبرنا، إنه محقٌّ في بعض المواضع ويبالغ في أخرى. لا يرى ميزةً لشخصه لأنه بقي في سورية، إذ يتفهّم ظروف كثيرين ممن خرجوا حمايةً لأنفسهم أو بحثاً عن أرزاقهم، غير أنه يُحدّثني، هنا في دمشق، حيث التقينا أخيراً، أن كثيرين ليسوا محقّين تماماً في خروجهم. لم ألحظ في شخصه أنه أصيبً يوماً باليأس. ربما تسرّب إليه بعض الإحباط، غير أنه، وهو يكابد ظروف عيشٍ غير مريحة، مثل الدخل المحدود، وانقطاعات الكهرباء، والكآبة العامة في البلاد، ظِلّ بشّار الأسد ومليشياته وأسرته وناسه في الفضاء العام. غير أنه، على ما يقول ويكرّر، ليس وحدًه يعيش هذا الحال، فملايين السوريين في مختلف أنحاء بلدهم يُغالبون هذا كله وأكثر.

حرصتُ الحرص كله على أن أجالس طويلا عمّار ديوب، هنا في دمشق حيث أكتبُ هذه السطور. فرحُه بزوال نظام الأسد لا يوصَف. سخاؤه وبشاشتُه ومزحيّاته في تجوالنا في سوق الحميدية، وبرفقة الكاتبة رانيا مصطفى، ثم في باب توما وأحياء أخرى، وفي أسواق وشوارع في دمشق العتيقة، في بوظة بكداش ومقهى النوفرة و… يشرحُ عن كل زاويةٍ وركنٍ ومعلَم، لا بمنطق موظّفي شركات السياحة، بل بعيْن المثقف الذي يعرف التاريخ والحاضر… يا لفرحته في فجر يوم الأحد، الثامن من ديسمبر/ كانون الأول. كان، كما ملايين في سورية وخارجها، يطارد الخبر تلو الخبر في الأحد عشر يوماً قبل أن ينجلي غبشُ تلك الليلة بدويّ النبأ المُشتهى منذ عقود، فرار بشّار الأسد مع انتهاء حكمه، بعد العملية العسكرية التي فاجأت العالم، وأبهجت عمّار الذي أمهله أصدقاءُ له ثلاث دقائق فقط في ذلك الفجر ليهبط إليهم من منزله ليفرحوا في السيارة في شوارع دمشق وصولاً إلى ساحة الأمويين. وهكذا كان، مع شقشقة ذلك الصباح كانوا هناك، وكان رصاصُ الفرحة الكبرى، وكانت سياراتٌ وحافلاتٌ قد جاءت بمئات السوريين من القنيطرة والسويداء وأطراف دمشق وغيرها.

كنتُ أخاف على عمّار من بطش الأسد. والآن أخاف عليه من بعض خيبةٍ قد تتسلّل إليه، وهو الذي يُسعِده أن تنجح هيئة تحرير الشام في نقل سورية إلى مسارٍ ديمقراطيٍّ وإسعافيٍّ إنقاذيٍّ وأفقٍ إنسانيٍّ وحرّ، لكنه، بنزوعه النقدي العتيد، لا يُعجبه كثيرٌ من قراراتٍ تتّخذها قيادة الإدارة الجديدة، وتعييناتٍ تعلنها. صحيحٌ أنه يرى أن المرحلة الراهنة مفتوحةٌ على خياراتٍ عديدة، لكنه يُجيب عن سؤالي إن كان متشائماً أو متفائلا بأنه حذر… أما أنا فأراني متفائلاً، لأن سورية محظوظةٌ بناسٍ من أهلها بلا عددٍ من قماشة عمّار ديّوب، الرزين الشجاع، النقي الصادق، الوديع كما نحلة، القويّ كما صخرة.

العربي الجديد

———————————

سورية على صفيح ساخن… الصوت أم السوط؟/ عبير نصر

11 يناير 2025

تشكّل دورةُ الأخبار السورية المتواترة أكثر من مُجرَّد مُخرَجات فراغ سياسي خلّفه سقوط نظام الأسد المفاجئ، لأنها ببساطة تطرح إشارات مبدئية عن الكامن في ما وراء الأفق، لا تكتمل ملامحه برؤيته الأولى في خضمّ فوضى عارمة، سرعان ما ستفسح المجال أمام السوريين لتلمّس القاع العميق الذي يتخبّطون فيه، والذي قد يشكّل بيئةً خصبةً لاندلاع حرب أهلية بإصدار جديد أو ربّما لتقسيم البلاد وفق خطوط عرقية وطائفية ممنهجة، إن لم يتمّ النهوض منه سريعاً.

ومنطق هذه الرؤية، على سوداويتها، أنّ سورية عاشت في دائرة شرسة عمل فيها نظام الأسد لحرمان الناس من المشاركة في القرار الوطني ولمس ثماره، فخرجت بعد عقود من حكم الفرد المطلق بقايا دولة فقيرةٍ سياسياً ومنهارة اجتماعياً، وعليه فإنّ سقوط المركز الصلب لا بدّ سيعيد إنتاج أزمات الأطراف بأشكال أكثر فجاجة وقسوة، وقد يفتح باباً موارباً للسيناريو الأسوأ: سورية تسير نحو مصيرٍ شبيه بليبيا والعراق، خاصّة أنّ إيقاع الأحداث السريع، بينما تُهشّم تماثيل الأسدَين (الأب والابن)، لن يقتلع من الذاكرة بسهولة مشاهد إسقاط العراقيين، وتالياً الليبيين، تماثيل طاغيتيهما، وكأنه سيناريو مكرور إلى حدّ التطابق، بينما تتزايد تساؤلات متوازية وملحّة: هل ستتمكّن سورية من تجاوز إرث الأسد المجرم بخفّةٍ، أم أنّ الضبابية المُربكة ستبقى سمة المرحلة المقبلة؟… الجواب يقتضي مساءلةَ مرحلة “الأسد أو نحرق البلد” بكاملها، والتي ذرّت البلاد إلى كانتونات طائفية متحاربة اختلّ معها ميزان السوريين لصالح الأعداء، بالتالي تجب إدارة الرؤى بشكل حذر، وإرساء توقّعات أكثر منطقية وقابلية للتحقيق، مع تصاعد الضغط الشعبي، الذي يحشد التأييد ما أمكن، بهدف ترجمته مكاسبَ سياسيةً راسخةً في بيئة معقّدة وسريعة التغيّرات.

لنتّفق بداية أنّ البلد خرج للتوّ من حكم الأسد الاستعماري الشمولي، الذي لا شبيه له، لذا قد يقول قائلٌ إنه أورث شعبه أسوأ النزعات المصلحية والفئوية، ناهيك بدمامل الأحقاد وسكاكين الجروح الغائرة التي يُتخوّف أن تتحوّل غيلاناً جائعةً تنهش الجسد السوري، ما سيجعل السوريين أنفسهم فاقدي البوصلة والخيارات، ولا يملكون شيئاً أصيلاً يدافعون عنه. لكن ما يدعو للتفاؤل حقيقةً، أنّ السوريين لم يتباكوا كثيراً على ما جرى محاولين الرجوع إلى ماضٍ مفتقد تظلّله نوستالجيا باهتة، بل إنّ صوتهم بات يرتفع عالياً ما إن يستشعروا خطراً يطيح دولة الحرّيات والديمقراطية المُشتهاة. خطر يُنتظر أن يبلغ مداه المُجدي وتتّضح مشكلاته وتتبلور مسائله، وهذا ما يُعوَّل عليه للنجاة؛ الإيمان بأنّ المعركة الحقيقية ليست مع نظام الأسد فقط، بل مع كلّ من تُسوِّل له نفسه فرض أجندات داخلية أو خارجية مسمومة تُفرّغ الوطن من معناه.

أثبت حكم الأسد القمعي أنّ الطغيان الراسخ لا ينكسر إلا بقوة طرد مركزية هائلة، وهي بطبيعة الحال ثورة السوريين التي اتّخذت شكلَ تراجيديا دمويةٍ هزّت العالم بأسره، وأنّ سقوطه ترافق مع أسئلةٍ ثقيلةٍ باعتباره طوفاناً سياسياً هادراً سينتقل تأثيره إلى المنطقة بأسرها، أمّا الجدير بوقفة متساءلة فهو الاعتقاد الغبي بأنّ خلع بشّار الأسد هو نهاية القصّة، بالتوازي مع الامتداد الخبيث لسيناريوهات تُكتَب بحنكة في خرائط المصالح الدولية، لذا لتُؤجَّل الأسطوانات المشروخة من قبيل: كيف نضمن أنّ العهد الجديد سيكون خيراً من سلفه؟، فهذه مغالطات غير منطقية تُستخدَم من أجل الجدال العقيم في مرحلةٍ بالغة الحساسية والحَرَج، من المفترض أن تنقل البلد إلى ضفّة الأمان، لذا تظهر ضرورة ملحّة لتأسيس جيش وطني وأجهزة أمنية احترافية مستقلّة تحرس مخاوف شريحةٍ كبيرة من السوريين تتوجّس من تعزيز الفريق المُسيطر مواقعَه وفرض سطوته، فلا يُطلِق عمليةً انتخابيةً ما لم يضمن فوزه الساحق مسبقاً.

في السياق، تبدو المخارج السياسية الممكنة لتفريغ الاحتقان العام بين السوريين من مهمّات حكومة تصريف الأعمال المؤقّتة، التي تملك فرصةً تاريخيةً لا تتكرّر لتبنّي مقاربات سياسية قائمة على الحوار وتعزيز الثقة، أمّا التحدّي الأبرز أمامها فعنوانه الرئيس ألا تكرّر أخطاء النظام البائد، الذي سجن السوريين في كانتونات الفقر والخوف والعزلة، والأكثر أهميةً قدرتها على امتصاص الغضب الشعبي وتفهّمه، مثلما حصل بعد إعلان إجراء تعديلات على المناهج الدراسية، تضمّنت حذف نصوص علمية ورسوم تاريخية وإعادة صياغة عبارات، لتتراجع عنها الحكومة بعدما أثارت جدلاً واسعاً بين أوساط السوريين، الذين أكّدوا أنّ التعليم المبني على أيديولوجيات متطرّفة يؤدّي حكماً إلى إنتاج أجيال شاذّة متخمة بأفكارٍ عدوانية تهدّد الأمن الإقليمي والدولي.

على أيّ حال، يمكن التشكيك في جدوى الفرحة الكبيرة بزوال نظام الأسد، التي سرعان ما ستنقلب حنقاً على سلطة الأمر الواقع إذا ما تحولت حكومةً مضادّةً، مقدّسةً ولا يجوز المساس بها، بينما يجب أن تكون الأولوية اليوم لتكريم التراجيديا السورية، التي تشاركها السوريون بمشهديات رهيبة ودامية، وعبر رباط المواطنة، بعيداً عن بارانويا الإقصاء والتخوين، التي تجعل من كلّ صوتٍ معارض متآمراً محتملاً. والحصيلة مجدّداً مجتمع خائف مهووس بنظرية المؤامرة، محكوم بقوة السوط وعقلية الجلّاد، أمّا الانزلاق إلى الأحادية والاهتمام بالصغائر والشكليات فسيدخلان البلاد، الهشّة أساساً، برازخ عدمية مظلمة لا نهاية لها.

ما يمكن بناؤه على ما تقدَّم أنّ هيئة تحرير الشام هي الأكثر حظّاً في نيل المكاسب الكُبرى، لكن ثمّة عقبات في مواجهتها، أكثرها أهميةً وجودها في لوائح الإرهاب، التي ستكون عائقاً كبيراً في ملفّات رفع العقوبات وإعادة الإعمار، حتى وإن أظهرت بعض الاعتدال الشكلي والاندماج، لكنّها تبقى أسيرة تاريخها، ما يؤكّده وصول وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك مرتدية سترةً واقيةً من الرصاص وبطائرة عسكرية، إضافة إلى تحدّياتِ كسْبها ثقة السوريين بأطيافهم كافّة، في ظلّ حكومةٍ بلون واحد، هناك اختبار القدرة على كسر دائرة العنف ومنع إعادة إنتاج الهُويَّات الضيّقة القائمة على المظلوميات، وهناك بالطبع الملفّ الاقتصادي المنهار. أمّا في ما يخصّ الوضع الأمني المشتعل، فتتزايد المخاوف من استمرار العمليات الانتقامية ضرباً من جنون التطرّف لبعض الفصائل، فحلّ الجيش والتعامل العشوائي مع المؤسّسات الأمنية سيؤدّيان إلى دمار داخلي يصل إلى حدّ التغول على ما تدلِّل حوادث الصراع السوري بما يزيد على الكفاية. لذا يبدو التشكّك المنهجي أقرب إلى الصواب، بينما تبرز مؤشّرات مقلقة، فعلى الرغم من السجل الجيّد للهيئة في ضبط الأمن في إدلب فإنّ تكرار التجربة في كامل الجغرافية السورية المتنوّعة سيكون تحدّياً كبيراً، وسط الضغط من قبل مجموعات عنفية راديكالية أقرب إلى ذهنية إقامة الخلافة الإسلامية المتشدّدة، التي لا تزدهر بوجودها ثقافة أو تقوم حياة، وهذا قد يضرم الميدان بين هذه الفصائل ويفتح باب الانقلابات الداخلية فيها، بينما لا تجمعها أعرافٌ عسكرية متناغمة أو لغةٌ سياسية مشتركة، ممّا قد يجرّ البلاد إلى سيناريو تقسيم المُفتَّت وتجزيء المُجزَّأ، وهذا ألعن.

نافل القول، سورية بعد الأسد تواجه مجموعةً ضخمةً من التحدّيات المترابطة والمُعقَّدة، أمّا قطف ثمار السقوط فيتوقّف على قدرة الشعب السوري وقيادته المستقبلية في ربط تحالفات صحيحة مبنية على مبادئَ وطنيةٍ جامعةٍ بعيداً من ديناميكيات التجذّر والتطرّف والتطييف، لا على فراغٍ أيديولوجي يملأه النموذج “السلفي الجهادي”، وبالقوة.

العربي الجديد

———————————

سقوط نظام الأسد واضطراب النظام المصري/ يحيى مصطفى كامل

تحديث 11 كانون الثاني 2025

تراجعت «حداثة» الحدث السوري، أو لنقل إن تلك الفرقعة، المنطقية تماماً والمستحقة، التي صاحبت قرابة العشرة أيام، التي أذهلت العالم بتحلل ذلك النظام البشع وسقوطه قد تباعد صداها؛ لا يعني ذلك أن الناس لم يعودوا يتابعون المستجدات، لكن لعل الأقرب للتقرير الواقعي وطبائع الأمور في بلادنا، أن السواد الأعظم صار يستهلك الأخبار الوافدة من سوريا، يفسرها وفق انحيازه المسبق، مع أو ضد نظرية المؤامرة، أو محور الممانعة، إلخ، مستقراً في خندقه وفي الحالة العامة الطاغية التي تشمل الجميع من التسليم بالهزيمة واللاجدوى.

هو واقعٌ بائسٌ بلا شك، إذ حتى اللحظات المشرقة المبهرة، التي كان من شأنها أو على الأقل يتوقع منها أن تحفز وتدشن تغييراً عميقاً طال انتظاره، لم تنجح في ذلك، ولن أدرج الحدث السوري في ذلك، بل سأكتفي بالسابع من أكتوبر الفلسطيني، الذي ما زلت أرى أن قيمته الحقيقية رمزية أكثر من أي شيءٍ آخر، بإمكانية تحدي جُدران المستحيل، الذي كان سيحقق إمكانياته، بتحريك حاضنته الطبيعية في محيطه العربي، الأمر الذي لم يحدث.

ربما كان الأدق أن نقرر أن شيئاً لم يحدث، لأن مصر في حالة انهيار.. سقطة حرة.. بعيداً عن أي مشاعر وطنية متقدة، أو انحيازٍ شوفيني، فالواقع المحض البحت يؤكد أن مصر هي البلد العربي الأوفر سكاناً، وبذا يشكل قرابة نصف ربع الكتلة البشرية العربية، ناهيك عن كونها البلد الأكبر والأثقل من حيث اعتباراتٍ ومقاييس عديدة، ولئن كان الحل قد آل بها إلى أن تكون «حاجة كده» أُعطيت للسيسي دون أن يحدد من هم أولئك الذين أعطوها له، وكأنه لم يأت نتيجة انقلاب، فإنه والنظام الذي ورثه هما اللذان أوصلاها إلى هذه الحالة البائسة: جثة ضخمة مترهلة فاقدة القدرة على الحراك والتأثير. أياً تكن، طبيعة هذا الدور المحوري الحبيس في خانة الإمكان والاحتمال والمأمول في يومٍ ما، ولما كانت كل الأنظمة الجمهورية المحيطة، قد مرت بفترة انصهارٍ وسقوط، فلم يبق غير نظام السيسي، المسخ والمتوحش تماماً والمستحق للسقوط لكل الأسباب الممكنة، فمن الطبيعي أن تتركز الأنظار عليه، وأن يعيد هو، أي النظام، النظر إلى نفسه مراراً وتكراراً. الشاهد أن مجمل هيئة أو «سحنة» النظام المصري وتحركاته، من عينة الاجتماع مع رجال الأعمال، الذين كاد بعضهم فيه أن يسب الحكومة، وذلك الحزب العجيب، الذي يجمع مستفيدي ومتسلقي كل العصور مع قاطعي طرق، ودفاع السيسي عن نفسه بأن يده لم تتخضب بالدم (لم تكن مزحة بالمناسبة)، كل ذلك يشي باضطرابٍ وتوترٍ لا تخطئه العين، وهو الانطباع الواصل لقطاعاتٍ عديدة. يطرح ذلك جملةً من الأسئلة الملحة على رأسها: ما السبب في هذا التوتر؟ ومن ثم ما هو المطروح في الأفق ومن الفاعلون؟ ذهب البعض إلى كون سقوط النظام السوري بهذه السرعة رغم بطشه أرعب النظام المصري، باعتبار أوجه الشبه في الإجرام والطبيعة الأمنية المحضة، بالإضافة إلى المغزى المخيف في كيفية سقوط ذلك النظام الذي بدا مخيفاً منيعاً عصياً على السقوط في فتراتٍ ممتدةٍ من تاريخه بمجرد تبدل ميزان القوى الإقليمي والدولي. لعل في ذلك شيئاً من الصحة، من الطبيعي والمنطقي أن يتأثر النظام المصري بحدثٍ جلل ومحوري كهذا، إلا أنني أرى الأمر أبعد من ذلك، فكثيراً ما يقنع هذا النظام نفسه بأن وضعه مختلف، ولعل له بعض الحق في ذلك فطبيعته، وإن تشابه القمع، مختلفة. الأقرب إلى تفكيري هو الإدراك الأكيد بعمق الأزمة الاقتصادية، من قبل الأجهزة الأمنية والمشفوع بتصميم على المضي في الطريق نفسه في الإنفاق على العاصمة الإدارية إلخ.

الضغط الحقيقي على النظام المصري ينبع من الإدراك جيداً، وهو إدراكٌ يتعاظم يوماً بعد يوم، بأن الأزمة طاحنة، تمس الناس في كل مناحي حياتهم، وأن الغضب عميقٌ وأن تلك العوامل من شأنها أن تجعل الانفجار ممكناً إن لم يكن وشيكاً، وأنه لولا القبضة الأمنية التي لا مثيل لها، والتي لم يُعرف مثلها من قبل في مصر لكان الناس ربما انفجروا بالفعل، ولعل ذلك يفسر استمرار القمع بوتيرةٍ متصاعدة، فالمعهود في الحقب السابقة أن القبضة الأمنية تُرخى بعد حينٍ لا محالة، حيث يكون الدرس قد وصل ويلتزم الناس، لكن ذلك لم يحدث مع السيسي، ليس لعنفه المقترن بالبلادة فحسب، بل لأن الأوضاع من السوء بمكان، ولأن قناعةً بأن مساحة الحرية النسبية في عهد مبارك، هي ما سمح بالحراك النسبي، فثمة تصور إذن بأنه لا مفر من العنف لمنع الانفجار.

لكن ما حدث في سوريا يخيف أيضاً إذ يشير إلى تخلي غلمان النظام ومستفيديه عنه.. فماذا لو حدث أمرٌ مماثل في مصر؟ ماذا لو تخلى بعض كبار الضباط عن السيسي ليحملوه المسؤولية عن الخراب الاقتصادي، ووعدوا بفتح صفحةٍ جديدة؟ ماذا لو دفعتهم أطرافٌ إقليمية (هي نفسها التي عملت على إسقاط نظام الأسد)؟

إن الخوف لدى السيسي والنظام من نوعٍ عجيب، فهو خوفٌ من واقعٍ صلدٍ متجذر، الأوضاع الصعبة، وهو خوفٌ غامضٌ في الوقت نفسه من انفجارات الغضب على الرغم من إدراكهم جيداً بأنهم أخصوا تماماً كل التنظيمات السياسية، وكسحوا المجتمع أو ما تبقى منه. هو خوفٌ من «خيانة»، أو انقلاب ضباط حين تقرر بعض القوى الإقليمية أن الوقت قد حان لرحيل السيسي.. وإنه صار عبئاً. من هنا يلجأ النظام إلى ما يشبه الحوار المدني وإنشاء حزبٍ عبيط ليصبغ الحياة العامة البليدة أو «يحقنها» بما يشبه السياسة، لعل ذلك يبعد الأنظار عنه ويجعل المجتمع شريكاً في العبء، وقبل ذلك المسؤولية لإيجاد حلول للأزمة، لعله يخلق بطانةً تمتص بعضاً من الغضب وشيئاً من صدمات وصدامات المستقبل الوشيكة، وريثما ينتظر النظام معجزةً ما (من عينة غزو صدام للكويت ) تصرف الأنظار عنه من ناحية، لكن الأهم تجعل الأموال تتدفق عليه كما حدث حينها، إما في صورة نقد أو إعفاءات من الديون أو الاثنين معاً، يبدو للناس أن هناك «شغلا» دؤوبا للخروج من الأزمة فها هم «الخبراء ورجال الأعمال» يجتمعون ويتباحثون.

على الرغم من نفورٍ عام لدى الناس في مصر الآن من فكرة الثورة، نظراً للحصاد المرير الذي جنوه من يناير، وما بعدها، وعلى رأسها وصول السيسي إلى السلطة، إلا أن الانفجار حين يأتي لن يكون نتيجة فعلٍ مدبّر، بل سيكون، كما تعني الكلمة تماماً: انفجارا.. أمرا مباغتا يتخطى سيطرة وإرادة حتى القائمين به.. كفيضانٍ كسر السدود، وسيقتلع هذه المرة أشياء كثيرة في طريقه وعلى الأغلب سيصحبه قدرٌ لا بأس به من العنف. لكن يظل السؤال: ما هي الاحتمالات المطروحة حينذاك أو للحيلولة دون ذلك؟ هذا ما سأتناوله في مقالٍ مقبل إن شاء الله.

كاتب مصري

القدس العربي

———————–

هذا ما يريده السوريون قبل كل شيء/ د. فيصل القاسم

تحديث 11 كانون الثاني 2025

لا يسعك أحياناً إلا أن تضحك وأنت تقرأ مئات المنشورات والتغريدات والردود والتعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي، وهي تطالب القيادة السورية في سوريا بتطبيق الديمقراطية والعلمانية والدولة المدنية والحفاظ على حقوق كل المكونات. طبعاً ليس الهدف هنا الإساءة للديمقراطية ولا للعلمانية، أو الدولة المدنية، أو حقوق كل المكونات، لا أبداً، فكلنا يطمح لتحقيق الديمقراطية في سوريا وتطبيق كل ما يتفرع عنها من حقوق في أقرب وقت ممكن، لكن بالله عليكم، هل هذا وقت الاهتمام بهذه الأمور التي تبدو اليوم لعشرات الملايين من السوريين بمثابة رفاهيات ثانوية جداً؟

معاذ الله أن ندعو إلى التقليل من أهمية الدولة المدنية وبناء دولة لكل مواطنيها في سوريا الجديدة، فكلنا يريد الأفضل لبلدنا الخارج من تحت ركام الحرب والتاريخ معاً ولا بأس حتى أن نباشر بتطبيقها تدريجياً، لكن لدينا اليوم عشرات الأولويات التي يجب أن نوفرها لملايين المنكوبين السوريين، فكلنا يعلم أن هناك أكثر من خمسة عشر مليوناً بين لاجئ في الخارج ونازح في الداخل بلا مساكن ولا رواتب ولا أبسط أسس الحياة ومستلزماتها من ماء وكهرباء ودواء وخبز، وقد اعترفت الأمم المتحدة نفسها بأن أكثر من تسعين بالمائة من السوريين في حاجة لمساعدات أولية عاجلة، لأنهم يقبعون تحت خط الفقر. تصوروا أن الشعوب في أفقر البلدان في العالم تعيش على دولار واحد في اليوم، وهو مبلغ زهيد للغاية، لكن لو جمعت هذا المبلغ على مدى شهر سيكون لديك ثلاثون دولاراً، بينما لا يتجاوز رواتب معظم السوريين منذ سنوات عشرة دولارات أو أكثر قليلاً، وهذا يعني أن السوريين في منزلة متدنية جداً تحت خط الفقر حسب التقديرات الدولية، وحتى السوريون الذين يعيشون في منازلهم يعانون فقدان الكهرباء والماء وأساسيات أخرى، فما بالك بالنازحين الذين يعيشون في الخيام. وبالتأكيد لو سألت أي نازح سوري يعيش اليوم في خيمة: هل تريد الديمقراطية، سيقول لك: أريد بطانية. ولا ننسى أن النظام الساقط أفرغ خزينة سوريا قبل أن يهرب، وكان على الدوام يهرّب المليارات إلى حسابات خاصة خارجية، وهذا يعني أن الخزينة شبه فارغة وليس هناك أي موارد يمكن اللجوء إليها لتحسين الوضع الخدمي والمعيشي سوى النبش في جيوب المنكوبين والمسحوقين السوريين لتحصيل الأتاوات والضرائب كما كان يفعل النظام الهارب، لكن العهد الجديد يحاول اليوم تأمين الميزانية لزيادة الرواتب بدل فرض الضرائب على الفقراء و«المعترين».

دعونا نعترف أننا في سوريا الجديدة بقدر ما نحن سعداء جداً بانتهاء أقذر نظام عرفه التاريخ الحديث، فإننا نشعر في الآن ذاته بحزن شديد على الوضع البائس الذي يعانيه غالبية السوريين، فالكل يحتاج إلى رواتب وخدمات أساسية وتعليم وصحة وبنية تحتية، وكل ذلك مدمر أو شبه مدمر، فكيف إذاً نتجاوز هذا الوضع الكارثي ونبدأ بالحديث عن الرفاهيات السياسية؟ دعونا أولاً نؤمن أبسط مستلزمات الحياة للسوريين الذين كان يتفنن النظام الساقط بتجويعهم، وإفقارهم، وإذلالهم، وتهجيرهم. والمضحك في الأمر أن البعض يريد انتخابات في سوريا بأسرع وقت ممكن. لا أحد أبداً ضد إجراء انتخابات حرة ونزيهة لبناء نظام حضاري جديد، لكن كيف نجري انتخابات ونصف الشعب بين مهجر ومشرد داخلياً وخارجياً ولا عناوين بعد أن دمر بشار مدنهم وقراهم؟ كيف نجري انتخابات إذا كانت مخابرات الأسد الهارب قد أحرقت السجلات المدنية والعقارية في أكثر من محافظة؟ ألا نحتاج إلى وقت طويل لإحصاء السوريين أولاً كي تكون المشاركة في الانتخابات حقيقية وليست مزورة، أم تريدونها على الطريقة الأسدية البائدة حيث كان يشارك حتى الأموات في التصويت للقائد الهالك وابنه الهارب ليفوز بأكثر من مائة وعشرين بالمائة؟ وقبل أن نفكر بانتخابات مستعجلة، لماذا لا ننظر إلى التجارب الكارثية في المنطقة؟

ويقول وزير الاعلام الكويتي السابق سامي النصف في هذا السياق: «مع انتهاء الحرب الكونية الثانية عام 1945، احتاجت عملية هزيمة النازية وتطهير آثارها من النفوس لأربع سنوات تُبنى خلالها وتعزز المؤسسات الديمقراطية، وهي: سيادة القانون، وحرية الرأي والمعتقد، وحرمة الأملاك الخاصة، وحق التقاضي، وضمان المساواة والعدالة، وفصل الدين عن الدولة، وهي أمور تتطلب سلطة مطلقة عادلة تفرض وتنمِّي وترعى هذه القيم الخيِّرة التي لا تقوم الديمقراطية من دونها، ثم تأتي بعد ذلك انتخابات لمجلس تأسيسي يضع دستوراً دائماً تجرى الانتخابات العامة طبقاً لنصوصه». وإذا كانت أوروبا صاحبة التجارب الديمقراطية العتيدة قد انتظرت كل هذا الوقت لتفكر بإعادة إحياء العملية الديمقراطية، فكيف تريدون منا في سوريا أن نجري انتخابات في بلد مدمر ونصف شعبه مهجر ويفتقر حتى إلى أبسط أساسيات الديمقراطية؟ هل تريدون تكرار تجربة العراق بعد سقوط نظام الرئيس الراحل صدام حسين عام ألفين وثلاثة؟

لقد أجرى العراقيون انتخابات بعد أقل من عام على سقوط النظام، فانتهى الأمر بالكارثة التي لا تصح تسميتها بالديمقراطية، كما تذكر الدكتورة الباحثة في معهد ويلسون للدراسات مارينا أتاوي، بل كانت عملية محاصصة طائفية جعلت من العراق اليوم واحداً من أفشل الدول في العالم. ولا ننسى أن وضع العراق المالي أفضل من السوري بعشرات المرات، فالعراق بلد نفطي غني جداً، ولديه ميزانيات سنوية بمئات المليارات من الدولارات، بينما لا تزيد الميزانية السورية على مدى السنوات القليلة الماضية عن مليارين أو أكثر قليلاً. كلنا نريد دولة حضارية لكل أبنائها البارحة قبل اليوم، ونريد أن نضع أسسها في أسرع وقت ممكن، لكن كما يقول المثل الإنكليزي: لا يمكن أن نعبر النهر قبل أن نصل إليه. دعونا نوفر البنية التحتية ككل الدول الخارجة من حروب وكوارث ثم ندخل العصر الديمقراطي من أوسع أبوابه. لنبدأ بالأولويات والباقي لا شك أنه مهم جداً أيضاً لكنه يأتي تباعاً. ولا أعتقد أن السوريين سيسمحون بتأجيله إلى ما لا نهاية.

كاتب واعلامي سوري

——————–

مثقّفو سورية/ جعفر العلوني

11 يناير 2025

شأنه كشأن المجتمعات العربية كافّةً، لطالما كان في المجتمع السوري صراعٌ بين ثقافة السطح وثقافة العمق. ثقافة المتن وثقافة الهامش. ثقافة الصوت وثقافة الصمت. ثقافة القبول وثقافة الرفض. ثقافة الداخل وثقافة الخارج.

الأولى، هي ثقافة استهلاك وتكديس. ثقافة مُتاجرة. ثقافة مدح ومواربة ومزايدة. ثقافة نعم نعم، لا لا. الثانية، هي ثقافة إبداع ومغامرة. ثقافة تفجّر وتخطّ وانفتاح. ثقافة اختلاف. ثقافة استبصار.

ارتبطت الثقافة الأولى، تاريخياً، بالسلطة الحاكمة والمؤسّسات التابعة لها. في حين كانت الثانية مرتبطة بالطبقات الفقيرة والمحرومة والمهمّشة التي حاولت اقتلاع ثقافة القشور السائدة.

بعد أكثر من خمسين عاماً حكم فيها حزب البعث العربي الاشتراكي سورية بقبضة نظام أمني وعنفي وعسكري، رسّخ فيها نموذج الثقافة الأولى، ثقافة “القائد” الواحد والأوحد، أباً وابناً. فإن سقوط رئيس نظام البعث فراراً يقتضي تأمّلاً عميقاً لا في طريقة الهروب وحدها، ولا في هذه السنوات التي احتكرت فيها عائلة واحدة ثروات البلاد وموارده لأكثر من نصف قرن، ولا في سقوط نظام وحشي وتهاويه. يقتضي، أوّلاً، وقبل كل شيء، التأمّل العميق في البنى التاريخية والسياسية والدينية والثقافية والاجتماعية والفكرية التي أدّت إلى هذه الظاهرة الديكتاتورية واستمرارها، ثم سقوطها بهذا الشكل.

    ما هذه البلاد التي تتيح نشوء نظام وحشي واستبدادي كنظام الأسد؟

لم يهبط بشار الأسد من السماء. وهو ليس من أنشأ سورية، كما لم ينشئ أي ديكتاتور بلده، بل سورية هي التي أنشأت حافظ وبعده بشار، وكما أنشأت البلدان العربية كلّها “قادتها”. هل نستطيع أن نقول، تبعاً لذلك، ما تكون هذه البلاد، التي تتيح نشوء نظام وحشي واستبدادي كنظام الأسد؟

ما هذه الأرض العربية، وما دور التاريخ فيها، والثقافة، والدين، والفكر، والمذاهب، وما دور الاستعمار؟ وهل نستطيع أن نسأل، تبعاً لذلك، باسم فجر جديد: هل ستتمكن سورية من إقامة نظام ديمقراطي حقّا يتساوى فيه السوريون حقوقاً وواجبات إذا لم نتأمل هذا الدور واستمررنا في تأجيل الحديث عنه ومناقشته بحجة الظرف والوضع واللحظة أو أية حجة أخرى؟

صار من نافلة القول إنّه يتعذّر التأسيس لمشروعٍ سياسي حديث إلّا استناداً إلى مشروع فكري حديث ومعرفة جديدة. ويتعذّر كذلك تحقيق هذين المشروعين إلّا في إطار ثقافة قائمة بشكل أساسي على قاعدة الحرية، والمواطنة، والمساواة، والقانون.

تحتاج سورية اليوم إلى ابتكار أبجدية سياسية وثقافية جديدة تنبذ ثقافة التبشير والإعلام والدعاية السائدة التي كرسّها نظام البعث، أباً وابناً. تحتاج سورية اليوم الانتقال من ثقافة الظلام إلى ثقافة الضوء، من ثقافة السجون إلى ثقافة الحرية.

مثقفو سورية أمام مسؤوليات عدّة. من جهة عليهم أن يُحِدثوا قطيعة مع الثقافة السائدة التي رسّخها النظام، ثقافة المواربة والتربّص والتخوين والاتهام والتصيّد. ومن جهة ثانية عليهم أن يقدّموا ما يمكن أن يحلَّ محل ما يريدون هدمه وأن يكونوا خلّاقين وبنّائين كي يتمكنوا من إقامة مشروع ثقافي حرّ قوي ومتين. وفي هذا كله، على المثقف السوري اليوم أن يعي، أكثر من أي وقتٍ مضى، دوره في إقامة مسافة بينه وبين السياسة، سلطة ومؤسسات، مؤكداً على استقلالية الكتّاب والكتابة عنها. وإلا ستبقى الثقافة السورية تنويعات على الثقافة السائدة في معظم البلدان العربية، شكلاً ومضموناً.

* كاتب وشاعر سوري مقيم في إسبانيا

العربي الجديد

———————

حيازات عائلية ونسوة متسلّطات/ زياد بركات

09 يناير 2025

لم يكن نيكولاي تشاوشيسكو مُجرَّد ديكتاتور متوحّش وحسب، بل زعيم بالغ الحيوية، منخرط في أكثر القضايا الدولية تعقيداً، من قضية الشرق الأوسط الكُبرى (القضية الفلسطينية) إلى العلاقات السوفييتية الأميركية. وقبل ذلك (وبعده) كان رجلاً أنيقاً، مُترفاً، على مزاج رفيع، إضافةً إلى عائليّته، إذ كانت “الرفيقة الركن” إيلينا تظهر دائماً في جواره، بشعره الفضّي الأشيب، كأنما وقعا في الحُبّ قبل دقائق ليس أكثر.

أطاحت الثورة تشاوشيسكو، وأُعدِم بعد محاكمة سريعة في عيد الميلاد عام 1989، ويقال إنه أعدم بالقرب من جدار أحد الحمّامات في ثكنةٍ للجيش الروماني. وصحيحُ أن كثيرين استحضروا الرجل بعد إطاحة بشّار الأسد السريعة والمفاجئة، على سبيل العظة بأن لا بقاء للديكتاتورية في العالم، إلا أن هؤلاء أغفلوا ما هو أكثر أهميةً، أن إعدام نيكولاي كان ختاماً غير رحيم للاتحاد السوفييتي، وأن ثمّة نظاماً في الشرق الأوسط كان يُفترض أن يلقى المصير نفسه، وهو نظام حافظ الأسد، الذي كانت تربطه علاقات دافئة بتشاوشيسكو، لكنّه تأخّر، ربّما لأسبابٍ لها علاقة بتعقيدات الوضع في المنطقة، ووجود إسرائيل فيها، ما جعل بعض الأنظمة “حاجةً” إسرائيليةً، وحصّنها بالتالي من عوامل التعرية والانهيار، لقيامها بدور حاسم في سياق آخر غير داخلي، يُديم بقاءها، حتى لو كانت ديناميات التغيير تتصاعد، ويُفترَض أن تنتهي بخلع هذا النظام.

سقط نظام بشّار الأسد (18 ديسمبر/ كانون الأول 2024) في 11 يوماً، وكانت الرحلة ما بين أول مظاهرات غاضبة على نظام تشاوشيسكو وإعدامه 11 يوماً، وفي ديسمبر أيضاً؛ وبينما كان إعدام الديكتاتور الروماني في ليلة عيد الميلاد، كانت ليلة سوداء وموحشة لبشّار، الذي وجد نفسه في موسكو، بينما كانت الكنائس في بلاده تحتفل للمرّة الأولى منذ نحو خمسة عقود في غياب أيّ حاكم من آل الأسد.

ثمّة نساء دائماً في مركز فساد هذا النوع من الحكّام، الذكاء في حالة الرئيس الروماني والبلاهة في حالة بشّار، والغرام بالخُطَب الطويلة، وشرح ما لا يحتاج إلى مُجرَّد الحديث عنه، وفي الجوار امرأة بشعر أشقر، متنفذّة ومهيمنة. يشبه الأمر عائلةً صغيرةً تحرص على صورتها، ويقال إنّهم عثروا على مجموعة ضخمة من الصور الخاصّة بالديكتاتور الروماني المخلوع، يبدو في أغلبها سعيداً، رجل بيت، أليفاً، ويكاد يكون أقرب إلى المفكّرين المتحدّرين من أرستقراطية آفلة. كانت إيلينا في جواره دائماً، وفي الصور التي بُثّت لمحاكمتهما، كان واضحاً أن إيلينا غاضبةً وتكاد لا تُصدّق، فمن هم هؤلاء الذين تجرّأوا على الثورة على أب رومانيا المعاصرة، بل على الأب والأمّ معاً؟

لم تُتَح لمتابعي فرار الديكتاتور السوري الصغير مشاهدةُ صورٍ حديثةٍ له ولعقيلته بينما هو يصعد الطائرة متوجّهاً إلى موسكو، ولا لها وهي تنتظره في باب الشقّة، لتبدأ بتقريعه، وربّما بكيل سيل من الشتائم للشعب الخائن الذي لا يعرف قيمة رئيسه المحبوب، ولكنّ الصورة في غياب “الفوتوغراف” تظلّ واضحةً، فثمّة رجل تقف إلى جواره امرأة بشعر أشقر، متسلّطة، وغاضبة، لأن شعباً من الرعاع خذل توقّعاتها في أن تحكمه من خلال الرفيقين نيكولاي أو بشّار، وأن عليه أن يشكر ويسجد (كي لا تقول ينحني) أمام هذه النعمة الإلهية.

في تصريحاتٍ لعبد الحليم خدّام، تعود إلى عام 2006، والرجل ليس مرجعيةً في الحرّيات العامّة، ولا عضواً في إحدى جمعيات مكافحة الفساد، تحدّث عن تحويل بشّار الحُكمَ في سورية نظاماً عائلياً، حيازةً أُسرية، وأن مصلحة هذه الأُسرة هي التي تقود النظام. وفي هذه أخطأ وأصاب، فحتى حافظ الأسد كان يُعلِي من شأن الأُسرة، وعينه كانت على توريث الحكم لنجله باسل، وليس لخدّام، لكنّه كان أكثر ذكاءً، وربّما أكثر قوة في دائرة الأُسرة من نجله بشّار، كما كان أكثر ذكاءً من نجله في إدارة علاقات الدولة الخارجية ما بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، وما بين إيران ودول الخليج، لاعباً على التناقضات دائماً لصالحه.

كان بشّار فاشلاً، حتى أنه لم يكن ديكتاتورياً حقيقياً، كان جزّاراً وحسب، ودميةً في يد امرأة شقراء أقلّ اعتداداً بنفسها من إيلينا عقيلة الرفيق نيكولاي.

العربي الجديد

———————–

علمانيو سورية خارج زمنهم/ دلال البزري

09 يناير 2025

عادَ المعارض المخضرم من منفاه الألماني بُعيد سقوط الأسد، ومن دون تردّد، ذهب إلى صلاة الجمعة، حيث احتشد المؤمنون. وبعد نهاية الصلاة، صعد إلى المنبر ليلقي خطاباً، لكنّ شبّاناً لحقوا به وأنزلوه، وقالوا إنه لا يحقّ له ذلك. وفي اليوم التالي، في مقابلة متلفزة، سأله المذيع عن الحادثة، فأجابه بأن الشبان لم يكونوا أبداً مُحقّين بإنزاله من على المنبر، فسورية أصبحت حرّةً، والمنبر لجميع المؤمنين، يقولون منه ما يجول في عقولهم، مكرّراً “حرّية التعبير” مرّات عدّة، ثمّ استفاض بشرح الوضع السوري، فهجا ديانة الإيرانيين، وقال إن “ديانتهم ليست من الإسلام”، إنما هي مزيج “ماجوسي نصراني” (انتبه، “نصراني” هذه معتمدة لدى الإسلاميين الأصوليين للإشارة إلى المسيحيين)، ثمّ أثنى على السُنّة، معبّراً عن ارتياحه لأنهم يشكّلون 80% من سكّان سورية. اعترض عليه المذيع بلطف، قال له: “أنت علماني. السُنّة ليسوا أكثر من 71%”، لكنّه تابع وقارن نفسه بالخليفة الثالث عثمان بن عفّان، الذي قُتِل ظلماً ولم يدافع عنه أحد.

المهم أنّ هذا المعارض، الذي زاد عمره عن التسعين، بدا وكأنّه لم يكن ذاك الشخص الذي وقّع “إعلان دمشق” عام 2005، الوثيقة التي انطلقت منها المعارضة السورية العلمانية، التقدّمية، اليسارية، وكانت شرارة الثورة الأولى. كان، مع رفاقه من الراحلين ميشيل كيلو ورياض سيف، من أصحاب الفضل الكبير في احتضان الثورة خلال السنوات اللاحقة، من انطلاقتها وحتى التهجير الجماعي القسري. قصّة هذا المناضل الحقوقي العلماني الكبير تلخّص قصصَ نسبةٍ غير مُحدَّدة من أشباهه. ولكن أيضاً، سوف تجد نسبةً أخرى منهم تنقد إسلامية العهد الجديد بدرجات متفاوتة من المسايرة، وبعضها يصبّ في رفضها، أو الحَرَد منها. ومن الاثنين تتسلّل رائحة الغيرة السياسية.

في العموم، يتصرّف العلمانيون وكأنّ الحدث تجاوزهم. أين هم هؤلاء المعارضون العلمانيون الآن، بعد أن أبقوا القضية السورية حيّةً طوال عقد؟ أين كانوا عشيّةَ الحدث؟ من هم قادتهم؟ من هو قائدهم؟ ما هي مقترحاتهم؟ ما هي الحركة الميدانية أو التجربة الميدانية التي كان يمكنهم الانطلاق منها لبناء قوة (ليست عسكرية بالضرورة كما هي حال تجربة أحمد الشرع الإدلبية) توصلهم إلى السلطة مثلاً؟… الأرجح أنهم خارج زمنهم، وهذا عكس اعتقادهم بأنهم في مقدّمة الأزمان. هم يعيشون اليوم في عصر عربي أو إسلامي يحتلّ الدين فيه الواجهة والمضمون، كلّ بتعبيرات وأشكال تناسبه. الغالبية من السوريين، سواء من صمدوا في الداخل أو الذين هُجِّروا إلى الخارج، مثلهم مثل بقية من حولهم، صاروا من المتديّنين، والإسلام السياسي على نمط هيئة تحرير الشام (في تجاربها البعيدة والقريبة) يناسبهم. وقبل كل شيء، هو الذي حقّق الإنجاز التاريخي بإسقاط الأسد، وهم على خصومة مع العقيدة العلمانية التي كان يتبنّاها العهد الساقط في أقواله وبعض ممارساته، على الرغم من تناقضها مع أفعاله العصبية المذهبية الصرفة، خصوصاً بعد ثمانينيّات القرن الماضي، إثر المقتلة التي خاضها ضدّ أهل حماة، على أساس أنه يحارب التعصّب والجهل والرجعية، وممثّليها من الإخوان المسلمين، فتحوّل الإسلام السياسي إلى عقيدة مواجهة الأسد. وهذا الاستثمار الأسدي بالعلمانية، سبقه استثمار في الاشتراكية، ولحقه استثمار آخر في حقلَي الحداثة والنسوية، فكان خير من يحيي إسلاماً سياسياً معادياً للعلمانية والحداثة والنسوية والاشتراكية.

تلك هي أولى نقاط ضعف المعارضة العلمانية، أنها لم تتمكّن من أن تتحوّل لما تصبو إليه الحركات الشعبية (العضوية) كلّها، على تماس مع معتقدات بيئتها؛ أي مثقّفين عضويين، تصنعهم ويصنعونها، ومن منطلقات واحدة أو مُوحَّدة. أضف إلى ذلك أن الإسلام السياسي ليس معزولاً عن العالم. العرب من حول سورية ينشدون له، والغرب عائد إلى مسيحية يمينية متطرّفة، وكذلك يهود إسرائيل، التي تتحكّم بحاضرها اليهودية السياسية الأشدّ صراحة وقوة. يعني للمقارنة البسيطة، لو حصلت هذه الأحداث كلّها في ثلاثينيات القرن الماضي، مثل تلك الحرب الأهلية الإسبانية، التي تقاتل فيها الجمهوريون والملكيون المتديّنون (1936- 1939)، وكان كلّ القادة والأفراد من الصفّ الجمهوري ينتمون إلى أحد الأحزاب اليسارية، الاشتراكية أو الشيوعية أو الفوضوية، بل في ستينيّات القرن الماضي وسبعينياته، لو كنتَ في بوليفيا، أو في أيّ بقعة مشتعلة من أميركا اللاتينية، تخوض حرباً ضدّ سلطة بلادك وداعميها الأميركيين، لكنت خرجتَ منها بأبطال لا يختلفون عن تشي غيفارا بشيء، بعلمانيّته ويساريّته، ما يحيلنا على عمر هؤلاء العلمانيين، وإلى نسبة الشباب الذين يصعدون في صفوفه الأمامية. والحال أنه حتى اللحظة، لم يبرز ولا شابّ في قيادة العلمانيين، ولا تصدّر على الأقلّ أحد مشاهدها، فيما معظمهم تجاوز الستّين من العمر، وغيرهم على أبواب التسعين، وقد توفّي منهم اثنان، الراحل ميشال كيلو (2021)، عن 81 عاماً، ورياض الترك أيضاً (2024)، بعدما أصبح في 94 من العمر. ويعكس المشهد الذي يقدّمه أحمد الشرع ورجاله في الوزارات (الشرع نفسه في الأربعين ونيّف، ومن معه من جيله)، كيف استطاع شبان الإسلام السياسي أن يصعدوا إلى السلطة.

كان العلمانيون في البداية يساريين، حذفوا معتقدهم الأول، ثمّ أصبحوا ديمقراطيين، فيما نظراؤهم الإسلاميين ظلّوا إسلاميين، مع تفاوت بالدرجات، بعدما انفصلوا عن “القاعدة” و”داعش”. وقد تكون سيرة أحمد الشرع واحدةً من تجلّيات التحوّل ضمن الاستمرار، من إرهابي إلى سلفي متشدّد إلى “براغماتيكي”، ولكن يبقى إسلامياً، إنقاذاً لقيادته المرحلة. أيّ أن خيوطاً بين ماضيه وحاضره هي حلقات متقطّعة، ولكنّها موصولة. العلمانيون الذين يلبّون الآن إغراء لعب دور ما في الحدث الجديد، ويكون الصعود إلى منبر الجامع وجهتهم، بأيّ قياس يفصّلون علمانيتهم؟ بأيّ ميزة يتميّزون؟ أم سيلعبون دور “الحلقات الحصينة”، التي اعتمدها عدد من علمانيي لبنان تجاه حزب الله، فيصيبهم ذاك المزيج المحلّي من التناقض والعبثية بأن يموتوا من أجل إسلام سياسي لبناني (حزب الله) من جهة، وأن ينقضّوا، من جهة أخرى، على أولى تجارب إسلام سياسي سوري، أي هيئة تحرير الشام، فتكون أولويتهم اليوم حملةً إعلامية مركّزة لـ”حماية” الحرّيات والديمقراطية والمواطنة في سورية بعد سقوط حليفهم الأسد، وفتح أبواب سجونه ونبش مقابره الجماعية؟

العربي الجديد

————————————

شاهدٌ على الأرض”.. فوتوغرافيا المكان والذاكرة السورية

العربي الجديد

11 يناير 2025

“شاهدٌ على الأرض” عنوان معرض فوتوغرافي تُنظّمه مجموعة “العيون” السورية في فضاء “دارك روم” بعمّان منذ الرابع من كانون الثاني/ يناير الجاري وحتى الحادي والثلاثين منه، في محاولة للإضاءة على ملامح الحياة السورية في ظلّ السنوات الأخيرة لحُكم الرئيس المخلوع بشار الأسد، الذي أسقط السوريّون نظامه في الثامن من الشهر الماضي.

يُشارك في المعرض عشر مُصوِّرات ومصوّرين سوريّين من الجيل الشابّ، هُم: أمين أبو قاسم، وحسن الحمود، ولين مهايني، ومحمد نور الدرا، ومحمد نمور، ونصوح طيّارة، ورواء زلخة، وريى أبو محمود، وتالا شمس الدين، وياسين شيخ الصاغة.

شاهد على الأرض – القسم الثقافي

“شاهد عيان” لـ حسن الحمود

خطّطت المجموعة للمعرض قبل إسقاط النظام، ولكن الحدث الذي فاجأ الجميع أضفى ميزةً جديدة على الفعالية، لذلك نجد أن الصور في غالبيتها تتناول مرحلة كان لا يزال يُسيطر فيها النظام البائد على مقدّرات الحياة، باستثناء صورتين التُقطتا بعد الثامن كانون الأول/ ديسمبر 2024، أُضيفتا إلى المعرض لاحقاً.

يستمدّ المعرض عنوانه من رؤية المنظِّمين للصورة بوصفها “شاهدة على الارتباط الدائم بين الناس والمكان والذاكرة” للسوريين. وهنا نلاحظ التركيز الكبير في الصور على توثيق الأرض والمنازل والمُدن والمناظر الطبيعية المبنيّة عليها، فضلاً عن الملامح العاطفية التي ترتبط بهذه الأماكن والتي لا تقلّ أهمية عنها.

تنطلق الصور من التجارب الذاتية لملتقطيها مع محيطهم الاجتماعي، لكنها لا تقف عند هذا الحدّ، بل تشكّل في مجموعها نسيجاً من الشهادات البصرية التي تقود إلى فهمٍ جماعي عن سورية. وضمن هذا السياق، تُطالعنا توليفة معقّدة من الأمل والحزن والعزلة. ورُغم أن جميع المصوّرين المشاركين تقريباً يقيمون في سورية، إلّا أن هناك شعوراً واضحاً بالغربة، وأن هؤلاء أصبحوا غرباء في وطنهم حتى مع بقائهم فيه.

شاهد على الأرض – القسم الثقافي

“تحت الشمس” لـ محمد نمّور

ولا تقتصر تحدّيات المصوّرين في “شاهد على الأرض” على الجانب العاطفي، بل هي في جوهرها نابعة من الصعوبات الاقتصادية التي واجهها السوريون منذ عام 2011، الأمر الذي انعكس في أدوات المعرض، حيث استخدم بعضهم الكاميرات القديمة واعتمد آخرون على شرائط فيلمية منتهية الصلاحية.

الجدير بالذكر أنّ مجموعة “العيون” تأسّست عام 2021 على يد المُصوِّرة وصانعة الأفلام السورية المُقيمة في باريس، سارة قنطار، مع التركيز بشكل خاص على التصوير الفوتوغرافي، ولاحقاً بدأت مبادرة الأفلام من قبل المخرجة ديالا الهنداوي، ومن بين الأعضاء الرئيسيين في المجموعة لور ديسبريه الخطيب وأمين أبو قاسم.

———————–

أما من سوري يعتذر سوى ميساء؟!/ عمر قدور

السبت 2025/01/11

قبل ثلاثة أيام نشرت سيدة تدعى ميساء اعتذاراً على صفحتها في فيسبوك، نصُّ المنشور موجَّه إلى السوريين في المناطق المحرَّرة، بموجب التقسيم الذي كان قبل إسقاط الأسد. أعاد عشرات من المتابعين نشر ما كتبته السيدة التي تقيم في مناطق سيطرة الأسد، أيضاً بموجب التقسيم السابق، وفيه تعتذر عن عجزها وأمثالها عن تقديم المساعدة للمنكوبين في الطرف الآخر.

وكالعادة، على وسائل التواصل، كاد الاعتذار أن يتحول إلى تريند، إلا أن محاولات التقليد القليلة افتقرت إلى الأصالة، ولم تكن ذات صلة بما هو مطلوب أو مُنتظَر. إذ ليس من حاجة لأن يقدّم القاصي والداني اعتذارات شخصية، هي أشبه بالاعتذارات التقليدية العمومية التي يلقيها أشخاص يطلبون المسامحة ضمن محيطهم الاجتماعي الضيّق، والأشهر من بينها ما تنقله الدراما التلفزيونية لأشخاص يفعلون ذلك وهم على فراش الاحتضار.

نعم، هناك حاجة إلى الاعتذار، بشرط ألا يُبتَذل الأمر برمّته بتحويله إلى فقاعة على السوشيال ميديا، إما أنها لا تصل إلى مستحقّي الاعتذار، أو أنها تصلهم على نحو يميّع القضية ويبدو كأنه يسخر من معاناتهم بتحويل الاعتذار إلى استعراض. الآن، كل يوم قبل الغد، يكون الاعتذار مفيداً لأنه يأتي في مناخ عام لا يخلو من الإيجابية القائمة أساساً على الابتهاج بسقوط الأسد، وهو ما قد ينقضي لاحقاً بفعل الأزمات والاستحقاقات الباهظة.

ما حصل على صعيد السلم الأهلي ربما أعلى من أفضل التوقعات الخاصة بسقوط الأسد، وما كان متوقَّعاً أن يليه من أعمال ثأر وثأر مضاد. وهناك اليوم الملايين من الضحايا وأوليائهم الذين يستحقون الإنصاف، إلا أن طريق العدالة (أو العدالة الانتقالية) في أفضل الأحوال طريق طويل، وقد يستغرق ما لا يقلّ عن عشر سنوات. لذا، الاعتذار المطلوب أولاً هو ذاك الذي يصل إلى أولياء الضحايا، ويقدّمه المسؤولون فعلياً أو معنوياً عن ارتكاب جرائم القتل والتعذيب والتهجير.. إلخ.

الاعتذار خطوة معاكسة للميل السوري الجارف إلى تبرئة النفس، وقد رأيناه سابقاً عندما تبرّأ مسؤولون بدرجة وزير مثلاً، أو ضباطٌ كبار، منشقون من دون أن يجدوا أنفسهم مسؤولين معنوياً عن أفعال السلطة التي كانوا من ضمنها. وأخيراً، مع سقوط الأسد، ظهر لدى البعض ذلك الميل إلى اعتبار كل ما حدث جريمة يتحمّل الأسد مسؤوليتها الحصرية، ربما مع قلّة من بطانته. وكأن عشرات آلاف المشاركين في المجازر، وفي التحريض على ارتكابها، هم مجرد ماكينات لا أهلية لها.

حسب الأخبار، هناك ضباط كبار عقدوا تسويات مع الحكم الجديد، ولم يخرج أحد منهم ليعبّر عن ندمه واعتذاره إلى الضحايا. لا يجب بالضرورة أن يكون المعتذر مسؤولاً مباشراً عن أية جريمة؛ إبداء الندم قد يكون مرتبطاً فقط بخدمة المنظومة المجرمة، وهي لفتة تدلّ على احترام معاناة الضحايا وأهاليهم. أيضاً، فيما يخص أولئك الذين أصدروا بيانات، ونصّبوا أنفسهم ممثّلين لجماعة، وطلبوا العفو من موقعهم المزعوم، يُفترض بمن يطلب العفو، وهو إقرار ضمني بارتكاب الجريمة وبالمشاركة فيها، أن يعتذر أولاً انطلاقاً من الموقع المزعوم نفسه.

في كل الأحوال، ليس الاعتذار المأمول اعتذار طوائف لطوائف، ولا حتى من نوع الاعتذار الذي قد يقدّمه كثر بعد مثولهم أمام المحاكم. الحديث هو عن مبادرات يمكن القول أنها فرض كفاية لا فرض عين، باستعارة التعبير من الأدبيات الإسلامية، ولها بُعْد معنوي هو الأهم حالياً للسلم الأهلي بالمعنى المباشر. لكن هدفها لا يتوقف عند مطلب السلم الأهلي على أهميته وحساسيته، بل يتعدّاه إلى مساعدة ملايين الضحايا وأهاليهم على عبور هذه المرحلة الانتقالية وقد استردوا شيئاً من كراماتهم المهدورة، وصاروا قادرين على الصفح لا مُكرهين عليه لأي سبب كان.

وأثر الاعتذار يتعدّى الضحايا المباشرين إلى الجميع، لأن إبداء الندم مطلوب في الحالة السورية كمؤشّر على أن الجريمة باتت مرفوضة، ولا يجب أن تتكرر إطلاقاً. ولأن تحمّل المسؤولية، ولو كانت معنوية، يتضمن أن عهد التبرّؤ منها قد انتهى. والتبرؤ كما حدث طوال عقود كان مرادفاً للإفلات من العقاب، ومرادفاً لتجريد السوريين من أهليتهم في السياسة والفضاء العام. قد لا يكون ثمة مبالغة في القول إن الذين يعتذرون، مدفوعين بإحساسهم بالمسؤولية، يستردّون أيضاً كراماتهم وآدميتهم المهدورتين في زمن التحلل من المسؤولية والإفلات من العقاب.

قبل سنتين ونصف دُعيت إلى لقاء افتراضي من قبل مجموعة من المعارضين الإيرانيين، البعض منهم في الداخل والبعض في الخارج. أثناء الحوار كانت كلّ امرأة منهم أو كان كل رجل عندما يتكلم يبدأ بالاعتذار مني، لأن مواطنيهم الإيرانيين يرتكبون جرائم في حق أبناء بلدي. لم يقلْ أحد منهم على الإطلاق أنه معارض، وألا علاقة له بالأفعال المشينة لنظام الملالي.

المثال السابق هو على النقيض تماماً من ظاهرة التبرّؤ السورية، فالسوري لا يرى نفسه مسؤولاً عن جرائم ارتكبها الأسد خارج سوريا، أو ضد الذين ليسوا سوريين. وهذا يبدو منطقياً جداً إذ يصدر عن الضحايا، ومنسجماً مع التحلل العام من المسؤولية إذا صدر عن أزلام الأسد. إلا أن الظاهرة ستبدو منطقية أكثر إذا ربطناها بغياب الإحساس بالمواطنة لدى السوريين، فغياب هذه الرابطة يغيِّب الإحساس بالتضامن فيما بينهم، والإحساس بالمسؤولية الجماعية تجاه الغير.

ربطاً بذلك، لا مبالغة في القول أن الاعتذار يساهم في تعزيز فكرة الوطن والمواطنة، على أمل أن تتكرس بالدستور والقوانين. وإذا كان للأسد ورجالاته الحصة الأكبر من الجرائم المرتكبة في سوريا طوال عقود، فإن الحرب متعددة الأطراف منذ إثني عشر عاماً حتى نهايته أسقطت احتكاره المطلق، وصار هناك متورّطون في الدم السوري من خارج دائرته، والحديث هو عن انتهاكات خارج ساحات المعارك، أو عن جرائم حرب. يُتوقّع مثلاً على هذا الصعيد أن يسهم تبادل رمزي للاعتذار بين أكراد وعرب في تمهيد الأجواء أمام مصالحة ضرورية بقدر ما هي حتمية، خصوصاً إذا أتت الاعتذارات من متّهمين أو من أصحاب الخطابات العنصرية المواكبة للانتهاكات.

هناك ميزة إيجابية لوسائل التواصل، ربما بين ميزات قليلة من هذا النوع، هي سهولة النشر والوصول بسرعة إلى الجمهور المستهدَف. إنها ميزة تسهّل الوصول لمَن يريد الاعتذار، وتشجّع آخرين على فعل المثل، مع إعادة التأكيد على أنه إجراء مؤقت، وليس بديلاً عن إحقاق منسوب لائق من العدالة. أيضاً، لا بأس في التأكيد ثانية على أن المرجو ليس اعتذاراً أخلاقياً-عاطفياً، يعبّر عن أفراد ذوي نوازع طيبة، لكن لا حيثية اجتماعية أو سياسية لهم. المرجو هو الاعتذار كفاعلية سياسية-أخلاقية، مع إعادة التأكيد على ضرورة عدم ابتذاله بتحويله إلى مجرد تريند على وسائل التواصل.

المدن

————————-

لبنان بعد سوريا ينزع العباءة الإيرانية/ بسام مقداد

السبت 2025/01/11

لو كان الراحل يحيى السنوار يعلم أن محور إيران الذي كان يعول على مساندته، هو على هذه الهشاشة في مواجهة العدوانية الإسرائيلية، لكان على الأغلب فكر ملياً فيما أقدم عليه. لكن الرجل، وكما الكثيرين سواه، يبدو أنه أخذ على محمل الجد التصريحات التي كانت تطلقها إيران ومحورها، عن القدرة على محو إسرائيل من الوجود بدقائق معدودة. لكن بعد هجومين جويين على إيران، ومشاغلة حزب الله حوالى السنة، ومن ثم شن هجوم دموي مدمر عليه في لبنان، تبين أن إسرائيل ليست “أوهن من بيت العنكبوت”، بل تُسقط المحور الإيراني حلقة تلو الأخرى. بعد اقتلاع سوريا للنظام الأسدي وانعتاقها من المحور الإيراني، جاء انتخاب رئيس جمهورية في لبنان، الذي كان يعطله المحور الإيراني لأكثر من سنتين، ليعلن انعتاق لبنان أيضاً من هذا المحور.

التوقعات لا تقتصر على الحلقة التالية من المحور المرشحة للسقوط -العراق أو اليمن- بل تتوسع للحديث عن سقوط رأس المحور نفسه في طهران. سيما أن ترامب لا يخفي منذ حملته الانتخابية دعمه نتنياهو في عزمه على توجيه ضربة قاصمة لنظام الملالي، بل ومشاركته في هذه الضربة.

بنى البلاشفة امبراطورية واسعة الأطراف، ضمت إلى اتحادهم السوفياتي 15 جمهورية، لتصدير “الثورة” إلى العالم. لكنهم فشلوا في ذلك، وسقطت امبراطوريتهم بعد أقل من سبعين سنة على قيامها، بعد أن عجزوا على إطعام الناس. ودولة الملالي الدينية التي قامت على عقيدة “تصدير الثورة” أيضاً، والتي تعجز الآن عن توفير شروط الحياة الطبيعية للإيرانيين، مضى حوالى خمسين سنة على قيامها. ويكاد يكون من المستحيل في القرن الواحد والعشرين وزمن الذكاء الاصطناعي أن تبلغ دولة توسع دينية عمر إمبراطورية البلاشفة. وكما أن الترهيب والقمع الذي سجله البلاشفة باسم ستالين، لم يسعفهم في الاحتفاظ بإمبراطوريتهم، لن يسعف الملالي أيضاً في إطالة عمر نظامهم الديني.

بعض وسائل الإعلام الناطقة بالروسية اعتبرت أن انتخاب جنرال رئيساً للجمهورية في لبنان، هو تحد لإيران. والبعض الآخر رأى أن انتخاب رئيس جمهورية في لبنان أفقد إيران سلطتها على لبنان. فقد نشر موقع Kasparov الروسي المعارض نص مدونتين بمناسبة انتخاب الرئيس اللبناني. رأى صاحب إحدى المدونتين أن البنية التحتية “للتوسع الخميني” التي استغرق بناؤها عقوداً من الزمن، سقطت في أشهر.

قال المدون Victor Frolinsky في مدونته التي نشرها في  أكثر من موقع، أن الفراغ الرئاسي في لبنان الذي دام أكثر من سنتين في ظل انهيار شامل، تم ملؤه الآن في ظروف مختلفة مبدئياً توحي بالتفاؤل. في إشارته إلى مارونية الرئيس جوزيف عون، ينسب المدون إلى غالبية الموارنة وأحزابهم، ما عدا المردة، توجههم اليميني الغربي وميلهم لـ”التحالف السياسي- العسكري مع إسرائيل”. ويقول أن ترشيح عون للرئاسة كان أول من طرحه “الماروني الجبلي” سمير جعجع “الكتائبي الإسطوري، القائد اليميني المسيحي زمن الحرب الأهلية”.

يبدو أن تصور المدون عن خريطة القوى السياسية التي انتخبت عون توقف عند زمن الحرب الأهلية، ويقول إن توافق هذه القوى على انتخاب عون يبدو أكثر من مستهجن. لكن ما يفسر برأيه هذا التوافق، هو وضع الجيش اللبناني بوصفه المؤسسة الرسمية الوحيدة التي احتفظت بهيبتها في المجتمع اللبناني.

بين التوجهات الكثيرة الواعدة التي رسمها الرئيس عون لعهده، توقف المدون عند تعهده باحتكار الدولة حق حيازة السلاح. ويرى في هذا تعهد أن “الرئيس الجنرال” يأخذ على عاتقه نزع سلاح حزب الله، و”اقتلاع جذور المأساة اللبنانية”.

يقول المدون إن لبنان عرف خلال الخمسين سنة الماضية حرباً أهلية دموية، احتلالاً سورياً، ثورة الأرز، والاستيلاء الإيراني الفعلي على البلاد من خلال جيش الخميني بالوكالة. ويرى أن الرئيس ميشال عون كان يحكم تحت إملاءات حزب الله وإيران. وأصبح لبنان سريعاً بلداً مقيد الإرادة، ولم يتبق إلا استحضار صورة “الشهيد الذي لا يقهر بشير الجميل، رئيس الكتائب إلى الأبد”، الذي كان ليدعو الآن: “أطردوا الجحافل الفارسية!”

يرى المدون أن السنة الماضية غيرت الوضع، إذ هزمت إسرائيل حزب الله وقضت على قياداته، ومنحت لبنان فرصة للتعافي. ويقتبس من كلمة وزير الخارجية الإسرائيلي بمناسبة انتخاب جوزيف عون، والتي قال فيها “آمل أن يساهم هذا الاختيار في تعزيز الاستقرار ومستقبل أفضل للبنان وشعبه وعلاقات حسن الجوار”.

وبعد أن يشير المدون إلى ترحيب “حلفاء اليمينيين المسيحيين” الولايات المتحدة، فرنسا والسعودية بانتخاب جوزيف عون، يقول إن الإطاحة ببشار الأسد هو هزيمة واضحة لسلطة الملالي الدينية (وكذلك لكرملين بوتين)، وتعني خسارة سوريا بلا رجعة، ويليها ما هو حتمي: نظام الملالي يفقد سلطته على لبنان. والبنية التحتية للتوسع الخميني التي أقيمت على مدى عقود، تنهار في أشهر معدودة.

ويرى Frolinsky أن تلك هي عواقب هجوم حماس، والتي لم تبلغ نهايتها بعد، ولم يقدر لهم في المجموعة أن يتوقعوها.

النص الثاني الذي نشره الموقع، تعليقاً على انتخاب عون، لا يحمل إسم كاتبه، ونسب إلى خبراء لم يذكر أحداً منهم، قولهم إن “انتخاب رئيس جديد للبنان يعني نهاية النفوذ الإيراني في البلاد”.

موقع الخدمة الروسية في BBC عنون نصه بمناسبة انتخاب عون بالقول “وأخيراً انتخب لبنان رئيساً، وفي تحد لإيران كان جنرالاً”. قال الموقع إن كرسي الرئاسة في لبنان بقي خالياً لأكثر من سنتين، ولبلد أنهكته أزمة اقتصادية لعدة سنوات وحرب قريبة مع إسرائيل، يتمتع ملء الفراغ في السلطة بأهمية لم تكن ملحة كما هي اليوم. ويرى أن سليمان فرنجية تخلى عن طموحه الرئاسي، وتنازل لصالح عسكري.

توقف الموقع في خطاب عون، وكما سواه، عند تعهده بحصر حمل السلاح بيد الدولة دون سواها. وقال إن الكثيرين رأوا في هذا التعهد تلميحاً لترسانة حزب الله التي لا تمت للدولة بصلة. وينقل عن خبراء لم يذكرهم قولهم إنهم ينظرون إلى انتخاب جوزيف عون بأنه التجربة السياسية الأشد صعوبة للبنان في السنوات الأخيرة. فانتخاب قائد الجيش رئيساً، هو بمثابة إشارة إلى أن نفوذ إيران في لبنان قد تراجع بشكل ملحوظ.. والجيش هو المؤسسة الأشد احتراماً على كافة المستويات في لبنان، وجلوس عسكري على كرسي الرئاسة، يعني أن لبنان عازم على خدمة مصالحه بالدرجة الأولى.

ويرى أن مثل هذا التطور في الأحداث كان تتمة طبيعية لسلسة الإخفاقات التي لحقت بإيران في الشرق الأوسط خلال الفترة الأخيرة. فبعد الصراع المسلح مع إسرائيل، تكبد حزب الله التابع لإيران في لبنان خسائر فادحة في قياداته وقدراته العسكرية. وضعف موقعه في لبنان، وإن كان جناحه السياسي لا يزال جزءاً من المشهد السياسي في البلاد. والضربة الأخرى التي تلقتها إيران تمثلت بالإطاحة بنظام بشار الأسد الموالي لها في سوريا، والذي فقدت إيران بنتيجته موطئ قدم مهماً في الخارج.

المدن

———————-

الإسلام السياسي: هل جاء وقت سوريا؟/ الياس طعمه

السبت 2025/01/11

إبان ضعف الإمبراطورية العثمانية ثم انهيارها وانحلالها تماماً في العام 1934، ساد شعور من الاحباط والضياع في العالم الإسلامي، وتنامى هذا الشعور وتعاظم في النفوس مع سيطرة دول الغرب، بعد الحربين العالميتَين، على الكثير من الدول الإسلامية، وقد لجأ العديد من المفكرين الإسلاميين إلى تبرير ضياع مجد الإمبراطورية العثمانية المسلمة بأن المسلمين “هجروا شرع الله”. من هنا بالضبط ولدت فكرة إعادة إحياء المجد الضائع وقد سُمي هذا المشروع لاحقاً “الإسلام السياسي”.

البدايات

مما لا شك فيه أن من يقرأ الأدبيات الأولى لمؤسس تيار الاخوان المسلمين، حسن البنا(1906- 1949)، يرى كيف أنها قامت في البداية على سردية رثاء المجد الضائع التي نجد ما يحاكيها في أدبيات بيزنطية مسيحية بعد سقوط الإمبراطورية البيزنطية الكبيرة. إنّ حسن البنا المصري، على الأقل في بدايته، هو تماماً نيكتاس البيزنطي (886)، في تبريره اللاهوتي حول ظهور الإسلام.

المشروع

الفرضية الأساسية التي يقوم عليها مشروع الاسلام السياسي هو إحياء شريعة الله التي يعتبر أن تركها كان سبباً رئيساً في تراجع المسلمين وتقهقر حضارتهم. أما السبيل إلى ذلك فهو قيام الدولة الإسلامية مكتملة الأركان، فيعود بذلك الإسلام إلى الوجهة العالمية كما كان سابقاً.

ويرى الإسلام السياسي أن الإسلام ليس مجرد دين وعبادة، بل “هو نظام حكم سياسي يشمل كل جوانب الحياة”. وقد اشتهرت جماعة الإخوان المسلمين من بين كل الحركات الإسلامية الاخرى لأنها، ربما كانت الأكثر تنظيماً وقدرة على الاستمرار.

الرد على الإسلام السياسي

لا بد من القول هنا، أن هذا المشروع لا تُجمع عليه كل التيارات الفكرية الإسلامية. وقد كتب علي عبد الرازق، شيخ الأزهر السابق، كتاباً فريداً بعنوان “الإسلام وأصول الحكم” (1925)، رأى فيه أن “لا نظرية حكم في الإسلام” وأن انهيار الإمبراطورية العثمانية علامة إلهية، وأن الاسلام لا يفرض نظاماً سياسياً على المجتمع، وينتقد التجربة العثمانية ويدعو إلى نظام دولة مدنية. 

وقد تعرّض الكتاب والكاتب إلى النقد الشديد في مصر، الا أن المدافعين عنه لم يكونوا قلّة، أشهرهم الدكتور محمد حسنين هيكل وعباس محمود العقاد. لا ننسى طبعاً التيارات الصوفية التي ترى أن استعادة الاسلام للمجد تكون من خلال الجهاد الأكبر أي “جهاد النفس”، وليس من خلال “الجهاد الأصغر” المسلح.

الإسلام السياسي في سوريا

لقد ارتبط اسم جماعة الإخوان المسلمين بالعمل المسلح في سوريا. وقد أجرم النظام السابق وارتكب أفظع الجرائم بحق قيادات الجماعة وأفرادها، وزرع في عقول السوريين أن جماعة الإخوان المسلمين هي سلة من القتلة والخونه والعملاء. وصار التدين في حد ذاته، في ظلّ نظام الأسد، تهمة تستحق العقاب. واتخذ مما سبق حجة ليقصف مدينة حماه ويدمرها ويقتل آلاف الأبرياء لأنهم من الاخوان المسلمين.

خلاصة القول، إنّ الإسلام السياسي في سوريا، كما كل التيارات السياسية الأخرى، كالشيوعية والقومية، كان عرضة الاعتقال والتعذيب والتنكيل، وسجن صيدنايا شاهد حي على ذلك. لكن الأمر الملاحظ في هذا السياق أنّ الأسد، الأب خاصة، أعطى هوامش ضيقة جداً للتحرّك السياسي للشيوعيين والقوميين، على سبيل المثال ترخيص حزب وجريدة سياسية (ممنوع توزيعها!!). لكنه لم يسمح للإخوان المسلمين بأي هامش من الحرية حتى الوهمية. يُعزى هذا إلى خوفه الشديد من الشارع السنّي المتديّن، وهو العلوي الممسك بالسلطة. في المقابل، كان خيار الجماعة العنف والاغتيالات، الأمر الذي لم تلجأ إليه القوى السياسية الأخرى المقموعة أيضاً.

الثورة السورية

غاب الاسلام السياسي عن الساحة السياسية السورية لعقود طويلة، بعدما صارت الجماعة محظورة في سوريا في ظل حكم “البعث” الديكتاتوري. لذلك، شكل سقوط الأسد فسحة لعودة الاسلام السياسي من بوابة الثورة. ويعرف السوريون الذين واكبوا الثورة منذ 2011 أن التيار الإسلامي ظهر في ساحات الثورة باكراً إلى حين احتلالها تماماً مع بداية العام 2014، وقد استخدم النظام السابق “أسلمة الثورة” لتشويه صورتها. وتشكّلت المحاكم الشرعية في الجزء المحرّر من استبداد الديكتاتور، إلى أن وصلنا إلى ظهور داعش وجبهة النصرة، وتقاتُل الفصائل الإسلامية المسلحة في ما بينها، ما أدى إلى وضعها في لوائح الإرهاب العالمي.

المرحلة الانتقالية

“مَن يحرر…يقرر”، يشكل هذا الشعار خلاصة الزهوة الاسلامية للانتصار على الأسد بعد سنوات من المظلومة السنيّة. ويشعر الكثير من الإسلاميين أن بشائر استعادة “المجد الضائع” تلوح في الأفق، وإذا “هبت رياحك فاغتنمها”. فسلطة الأمر الواقع الانتقالية في سوريا تسعى، وهذا مَشروعٌ بالطبع، بكل جهدها أن تتحول الى سلطة حكم رسمي بقوة القانون والدستور والانتخابات. وهي لا تخفي نواياها ولا تمارس في هذا تقية معهودة في تيار الإسلام السياسي. 

وإذا اخدنا الأمور بالقياس لما جرى في تونس ومصر، على سبيل المثال، حيث حاولت حركة النهضة والإخوان المسلمين على التوالي، الاستئثار بالحكم، فإن التجربة في البلدين كانت مخيبة لآمال الإسلاميين، رغم أن التنوع الديني والإثني في البلدين لا يقارن بالتنوع في سوريا. لم تنجح المحاولة في مصر وتونس، رغم أنها اتبعت سياسية الإسلام البراغماتي ولم تستطع النهوض بالبلاد والعباد بسبب الوضع الاقتصادي المتهاوي للبلاد، وبسبب رفض فئة واسعة من الشعب تطبيق أحكام الشريعة. ولا أريد هنا أن أسرد أمثلة أخرى لا تقل أهمية، مثل السودان. فإذا كانت نسبة المسلمين في سوريا تتجاوز 80%، إلا أن بينهم علمانيون وليبراليون وشيوعيون وقوميون وملحدون، الخ. وهؤلاء لا يريدون طبعاً دولة دينية في سوريا.

الأرجح إن مشروع الدولة الدينية، لا يملك مستقبلاً في سوريا، بسبب تنوع المجتمع وتعدّد مشاربه. لكن الإسلام السياسي لا بد أن يعبّر عن نفسه من خلال مشاركته، إلى جانب كل الأحزاب والقوى السياسية الأخرى، في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية.

للإسلام في بلاد الشام، صبغة خاصة فريدة، لأنه مرصّع بالمحبة المسيحية والشهامة الدرزية والأصالة الكردية والكرم العربي. انه الثوب السوري الجميل الذي يشكل الإسلام قماشته، وهو مطرّز بخيوط كل المكونات الدينية والثقافية والإثنية الأخرى.

المدن

————————-

شهر على سقوط طاغية الشام…ذكريات من يوم هروب الأسد/ مرام فليحان

11.01.2025

كنت شاهدةً على التظاهرة التاريخية لأهالي مدينة جرمانا وسط ساحة الكرامة (الرئيس سابقاً)؛ حيث أسقط المتظاهرون التمثال الرأسي لحافظ الأسد قبل 13 ساعة تقريباً من إعلان المعارضة المسلّحة عن سقوط النظام وفرار الأسد من البلاد.

لا تزال رهبة الساعات الأولى تلك تلاحقني في صحوتي ومنامي، فمن مثلي، (وربما كل السوريين)، لا يتقنُ اعتياد أحداثٍ نظيرة لسقوط نظام عمَّر على قلوب السوريين دهراً؛ فأن تصحو على فجر دمشقي حرّ ونقيّ من آخر آثار آل الأسد وإجرامهم، كانت أمنية ظننت تحقيقها ضرباً من ضروب الخيال.

فرارُ الساقط لم يكن نهاية للحقبة الأكثر ظلماً وظلاماً في سوريا فحسب، بل هو انهيار لرمز البطش الأشد تأثيراً وصخباً في تاريخ المنطقة الحديث، ولربّما في تاريخ العالم الحديث برمّته، وهو الطغيان الذي -لشدّة شططه- ظننّاه ماكثاً “إلى الأبد”، وكأنه كابوس متجدّد لا ينتهي. اثنا عشر يوماً كانت كفيلة بانتهاء الأبد ودخول التاريخ، نهاية تركت إرثاً ثقيلاً من الدماء والدمار والفساد.

والآن بعد شهر من “السقوط”، تبدو ذكريات وأحداث تلك الليلة من أكثر ما يستعيده السوريون في محاولة لاستيعاب ما جرى، أو ربّما ليؤكّدوا لأنفسهم أنَّ ما حصل كان حقيقة لا تقبل الشكّ، وهو ما أنا بصدده أيضاً .  

سقوط قبل السقوط

كانت الساعات الـ24 السابقة على سقوط النظام البائد شاهدةً على تغيّر جذري بالمشهد العام في مختلف محافظات البلاد ولا سيما دمشق وريفها، إذ أماطت هذه الساعات اللثام عن التماسك والسيطرة الوهميين اللذين حاول الأسد تصديرهما عبر أبواقه الإعلامية منذ انطلاق عملية “ردع العدوان” في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر من ريف إدلب.

ساعات كانت كفيلة بفضح الانهيار المعنوي لجنود النظام والسذاجة العسكرية لقياداته، لتنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع مصوّرة لجنود الجيش السوري وهم يخلعون ملابسهم العسكرية ويرمون سلاحهم وعتادهم في الطرقات متخلّين عن قائد لطالما خذلهم وحرمهم العيش الهانئ تحت ذريعة “حماية الوطن”.

مهَّد انطلاق عمليات عسكرية من الجنوب بالتوازي مع عملية “ردع العدوان”، الطريق لأهالي ريف دمشق ليلحقوا بركب التحرير، فخرج أهالي المعضميّة وداريا وجرمانا وغيرهم لإسقاط النظام في ساحاتهم العامة، وأطاحوا بتماثيل رموزه ومزّقوا صور “القائد” الفار.

ولحسن الحظّ، كنت شاهدةً على التظاهرة التاريخية لأهالي مدينة جرمانا وسط ساحة الكرامة (الرئيس سابقاً)؛ حيث أسقط المتظاهرون التمثال الرأسي لحافظ الأسد قبل 13 ساعة تقريباً من إعلان المعارضة المسلّحة عن سقوط النظام وفرار الأسد من البلاد.

كان المشهد هناك مهولاً بكل ما تحمله الكلمة من معنى، سرت القشعريرة في جسدي من رأسي حتى أخمص قدميّ، أطلتُ الشرود بالمتظاهرين وهم ينزعون رأس طاغية قضّت أفاعيله مضجعهم لسنوات وسنوات، تدافع الكبار والصغار لإسقاط التمثال وجرّه إلى مركز الساحة، سمعت أحدهم يصيح: “جرّوه.. اشحطوه عالساحة” وآخر يقول وهو يدوس صلعته: “هي من حازم يا واطي…”.

في هذه الأثناء كانت قدمي تحاول أن تطاوله، إلّا أنّ المسافة بيننا لم تكن فقط عشرات الشبّان، بل في ما يبدو كانت روح “حازم” وآلاف من رفاقه بين مختفٍ ومقتول ومشرّد قسرياً.

يوم لن أنساه ما حييت، يوم أعطى لحياتي في بلاد الأشياء الأخيرة معناها الحقيقيّ.

بعد 53 عاماً من “الله يفرّج” إلى “فرّج الله” حقاً!

عند الخامسة فجراً، رنَّ هاتفي، فتحت الخطّ ليصدر صوت صديقي باكياً: “سقط النظام.. لك سقطط.. جهزي حالك”، لطالما حلمت بهذه اللحظة، لحظة رسمت ورفاقي تفاصيلها بكلّ دقّة وخطّطنا لكلّ تحرّك في حال حدوثها، ولكن هول الحدث وجلاله قد لاشى كلّ تلك المخطّطات وانفتحَ على عشوائية محبّبة لن ننساها.

نزلت إلى الشارع في غضون دقائق، جميع من حولي كانوا مثلي في ثياب نومهم؛ اختلطت دموعهم بالتكبيرات، واتجهنا على الفور إلى ساحة الأمويين، وعلى جانبي الطرقات كان جنود النظام السابق يخلعون بدلاتهم ويستجدون السيّارات أن تقلّهم من مقرّاتهم العسكرية والأمنية، وصلنا إلى ساحة الأمويين عند السادسة صباحاً؛ فصمَّ آذاننا أزيز الرصاص المتدفّق. في هذه اللحظة، وفي هذه اللحظة فقط، تيقّنت بأنّ الأبد قد سقط “كلّه”.

أمعنَ السوريون حينها في إذلال تماثيل “الخالد” التي نصبها النظام في كلّ ساحة ومبنى حكومي تأبيداً للقهر، رأيت الشباب والشيب يتزاحمون لإسقاطه، وكلّما عاندهم الحجر الأصم زاد إصرارهم فعاجلوه بأداة جديدة.

بعضهم أسقطه ضرباً بالعصي على مؤخّرته، وبعضهم الآخر جلده بحزام بنطاله مع وابل من الأحذية المنهمرة على وجهه مقطَّب الحاجبين؛ وهو ما يفسّر مشهد المتظاهرين الذين يسيرون حفاةً في الأمويين صباح ذلك اليوم، فيما تبوّل بعضهم على بقايا حجارته.

تفنّنٌ في التحقير من رموز جعلت من كلّ مظهر للحرّية في البلاد خطيئة كبرى؛ صور وأصنام سُحقت تحت الأرجل معلنةً النهاية؛ نهاية رجال جعلوا من أنفسهم أنصاف آلهة تحيي وتميت بسلطة مغتصبة، فحوّل الناس رؤوس أصنامهم إلى “زحليقة” لأطفالهم، أو حتى قاذورات تُرمى في النفايات. 

فوضى “الإنسان المقهور”

بعد ساعات من سقوط الطاغية، انتشرت مظاهر الفوضى في أرجاء العاصمة؛ سيارات تحترق، وآليات متروكة مشرّعة الأبواب لعناصر فرّوا يلوذون بحياتهم وأسلحة مرمية على الطرقات، ممتلكات أقرباء الأسد وحاشيته في دمشق تُخرَّب وتُنهب في وضح النهار، وقصر الشعب -الذي لم يعرف الشعب له طريقاً طيلة 5 عقود- قد اقتحمه الأهالي إلى جانب قصور الأسد الأخرى، التي سرعان ما أصبحت بازاراً للتبضّع، وموقعاً لتسويق المنتجات، ومنتزهاً ترفيهياً.

مشاهد مألوفة لمن واكب ثورات الشعوب عبر التاريخ واطّلع على سيروراتها، وربّما المثال الأقرب إلى الذاكرة هو اقتحام الشعب السيرلانكي القصور والمقار الرسمية للحكام في عام 2022، وتحويلها إلى منتزهات، ومسابح عمومية، وأسواق مجّانية للمتسوّقين.

ولربّما هو مثال من مئات الأمثلة لفوضى أحدثتها الشعوب عقب تحرّرها من أنظمة شمولية واستبدادية لم تفهم الإنسان، فظنّته خائفاً أبداً، ليفاجئها بعد حين بفطرة لا تقبل الذلّ والهوان.

وهي طبيعة “الإنسان المقهور” حسب مصطلح مصطفى حجازي، الإنسان الذي وإن لم يثر فوراً على قاهريه إلّا أنه لا يلبث أن يستغلّ اللحظة المناسبة ليفجّر غضبه فيهم، وينتقل من حالة الاستكانة إلى حالة الثورة الحتمية كما يشير حجازي.

فالإنسان المقهور “يستطيع أن يعيش من دون خبز، ولكنه يفقد كيانه الإنساني إذا فقد كرامته وظلَّ عارياً أمام عاره. تلك هي النقطة التي تنهار معها الطاقة على احتمال مأساة القهر والبؤس”، وهو ما حلّ بالسوريين عام 2011 عندما خرجوا من كلّ محافظات البلاد يهتفون للحرّية بصوت واحد، وواجهتهم واحدة من أقسى آلات القمع التي عرفها التاريخ.

وبالعودة إلى أحداث اقتحام القصر، فإن مبالغة السوريين في التعامل مع مقتنياته ليست من باب المصادفة، وقد لا يكون الهدف من أخذ الصحون والمأكولات وصور الأسد الكلسونية هو قيمتها المادية، وإنما السخرية المعادلة للغضب من هذا الفارّ، ومحاولة جادّة لتفكيك صورته الرمزية، وتحويله إلى مهرّج أبله في الذاكرة الجمعيّة للسوريين.

وبتعبير حجازي، “الإنسان المقهور متربّص دائماً للمتسلّط كي ينال منه كلما استطاع، وبالأسلوب الذي تسمح به الظروف”.

درج

—————————–

سقوط النظام في سوريا ولبنان: فرصة الخروج من المستنقع ومسار النهوض/ رائد بو حمدان

10.01.2025

لا شك في أن التطورات الإقليمية والدولية منذ 7 تشرين الأول، وصولاً الى سقوط النظام في سوريا وتحجيم الدور الإيراني في المنطقة، خلقت فرصة تاريخية أمام لبنان للخروج من مستنقع المزارع الطائفية الفاشلة باتجاه الدولة المدنية التعددية العادلة.

لم يحكم نظام الأسد سوريا فقط، بل كان حاكماً في لبنان أيضاً، من الأدوار المحورية ما قبل الحرب الأهلية اللبنانية في ستينات القرن الماضي مروراً بمحطات الحرب الأساسية ومسارها ومعاركها ونهايتها دخولاً بمرحلة وصايا كاملة بعد الطائف ووصولاً الى مرحلة الحكم بالوكالة عبر الحليف حزب الله منذ الخروج العسكري و”شكراً سوريا” في 2005 حتى السقوط.

شهدت تلك العقود الخمسة تغلغل البعث في السياسة اللبنانية، فكراً وممارسة، إذ تخطت العلاقات النظام السوري بالسياسة اللبنانية مستويات التعاون والتنسيق والتحالف وحتى شعار “وحدة المسار والمصير”، فكان آل الأسد (الأب ثم الإبن) الحكام الفعليين للبنان عسكرياً وأمنياً ومخابراتياً وإعلامياً وسياسياً، وكان البعث يشكل نهجاً وعقلية مكرسة في الأحزاب كافة حتى تلك التي اصطدمت معه في بعض المحطات، بالإضافة الى دوره في تثبيت منظومة العائلات والكارتيلات المتحكمة بالسلطة في لبنان وفي ضبط علاقاتها في ما بين مكوناتها ومع الخارج، إذ أوجدت سطوة البعث حضورَ ودورَ عدد كبير جداً من الأحزاب والزعامات والشخصيات التي استمدت قوتها من دعم الأسد ومحيطه، ومكّنتها علاقتها بضباط النظام السوري من دخول السلطة واحتكارها وتوريثها، فصممت “قبضة الأسد-الحزب” خلال 50 سنة قوانين انتخابية، وشكلت وزارات وعينت رئاسات ووزعت وحددت مقاعد نيابية ووزارات وحصصاً في المراكز الأمنية الأساسية والإدارية والقضائية والمصرفية وحتى الاحتكارات والمنافع الاقتصادية.

هذا الارتباط والتأثير العميق وهذه البنية المتشابكة لمنظومة المصالح التي رعاها نظام الأسد في لبنان وحماها، لا يمكن إلا أن تسقط بسقوطه. وإذا كان ممكناً أن تعزل المنظومة الحاكمة في لبنان نفسها عن تأثيرات سقوط النظام في سوريا لو حدث ذلك في 2011 أو 2012، لكن اليوم، سقوط بشار ترافق مع سقوط إيران ومعها حزب الله في سوريا، بعد أيام من اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان الذي أعلن نهاية متوازية لسطوة الحزب على القرار اللبناني بفعل نتائج الحرب الإسرائيلية، وليس لأن إسرائيل تريد ذلك، بل لأن نظريات الحزب عن الردع والقوة والمقاومة سقطت ولم تعد تقنع أياً من اللبنانيين، في البيئة وكل البيئات… تداعيات ذلك كله بعد 5 سنوات من الأزمات والانفجارات والانهيارات المالية والسياسية والاجتماعية وتصدّؤ الانتظام السياسي وتحلل الدولة، لا يمكن أن تُشخَّص على أنها أقل من سقوط للنظام.

بناءً عليه، يحاول بعض السياسيين اللبنانيين “من المتحاذقين”، تدارك ارتدادات السقوط الثلاثي (الأسد وإيران والحزب) في لبنان وتحويله الى انتصار داخلي – لم يشاركوا في صناعته – لفريق على فريق آخر وإعادة تدوير أركان النظام والحد من تداعياته على المشهد في لبنان من خلال بعض التقلبات والبهلوانيات الساذجة التي تعكس حالة إنكار حجم السقوط وتأثيراته على المستقبل، كأننا ما زلنا في 6 تشرين الأول/ أكتوبر 2023.

الفرصة للخروج من المستقنع

مع هذا السقوط، يقف لبنان اليوم على أبواب 1990، وللمفارقة التاريخية يقف، في لحظة مشابهة مع سوريا هذه المرة، أمام فرصة لإنهاء حربه الأهلية التي لم تلتئم جراحها حتى الآن “عن قصد”، وبتواطؤ أحزابه الحاكمة والمتحكمة التي تحولت من كونها ميليشيات طائفية وزعامات حرب وقادة محاور بالزي العسكري ولبست بدلات السياسة وتقاسمت الحكم في الوزارات والبرلمانات والإدارات الرسمية، بإدارة الحاكم الفعلي يومها نظام الأسد، ومباركة الرعاة الإقليميين والدوليين.

الفرصة أمام اللبنانيين لبناء الدولة التي لطالما حلموا بها. لكن شرط العبور إليها بنجاح هو أولاً فهم المعطيات والتعقيدات الإقليمية والدولية التي لا يمكن تجاوزها، بل يجب تثميرها لصالح مشروع بناء الدولة، وثانياً عدم تكرار تجربة تسوية الطائف بالقفز فوق المعالجات الضرورية للبنية الاجتماعية والسياسية ومقاربة جذور المسألة اللبنانية وهواجس اللبنانيين الحقيقية، أفراداً وجماعات، بما فيها الهواجس الهوياتية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وتفكيك الألغام التي إن لم نفككها اليوم، ستنفجر بالمجتمع اللبناني لاحقاً.

لا شك في أن التطورات الإقليمية والدولية منذ 7 تشرين الأول، وصولاً الى سقوط النظام في سوريا وتحجيم الدور الإيراني في المنطقة، خلقت فرصة تاريخية أمام لبنان للخروج من مستنقع المزارع الطائفية الفاشلة باتجاه الدولة المدنية التعددية العادلة.

هذه الفرصة موجودة بقوة، وهناك قناعة واسعة لدى غالبية اللبنانيين بالتقاطها لبناء الدولة المنشودة العادلة السيدة والقوية القادرة على حماية جميع أبنائها وثرواتها وأرضها وجوّها وبحرها، دولة الشرعية الكاملة من الناس، بعد ثبوت فشل كل أنواع الشرعيات الأخرى، من شرعية الأنظمة الشقيقة الى شرعية المقاومة والسلاح وشرعية المحاور الإقليمية والدولية الى شرعية المحاصصة الطائفية.

فالمطلوب اليوم هو توقّف اللبنانيين عن الإنكار والمكابرة وتواضع الجميع والاعتراف بسقوط الهيكل اللبناني، حيث تتشكّل الحاجة الملحّة الى مسار انتقال سياسي، لا ترقيع الوضع بما تيسر ولا تكرار تجارب الفشل التي وقع فيها اتفاق الطائف.

قد يكون اليوم هو الوقت الأمثل لتقييم اتفاق الطائف واستخلاص الدروس والعبر لتفادي تكرار الأخطاء، فوثيقة الوفاق الوطني كنص حاز إجماعاً عريضاً من القوى السياسية اللبنانية المتنازعة شكلت أرضية مقبولة لوقف الاقتتال ووقف الحرب الأهلية. لكن المشكلة كانت في الالتفاف على النص الذي مارسه نظام الوصاية السوري بتفويض دولي وبالشراكة مع القوى اللبنانية المتحكمة، ما سبب بإبقاء الحرب الأهلية مفتوحة ومنع عبور لبنان الى الدولة.

فعلى الرغم من أن شعار الطائف كان “لا غالب ولا مغلوب”، إنما الواقع السياسي كرّس غلبة الفريق الإسلامي (بري وجنبلاط والحريري) وباسم الطوائف، على الفريق المسيحي الذي نُفيت قياداته (عون والجميل) أو سجنت (جعجع)، فينا كرست قاعدة “عفا الله عما مضى” وما رافقها من تسلط مرتكبي الحرب على السياسة وتعميم الفساد في إعادة الإعمار وإعادة المهجرين والتعويض عن المتضررين ولاحقاً الكهرباء والاتصالات والكازينو والمصارف وغيرها من صناديق سوداء موّلت استمرار زعماء الحرب وأزلامهم في قيادة السلم، ما خلق اختلالات عميقة منعت تشكل مسار صحي للعبور الى الدولة. وكرت مسبحة التهرب من تطبيق بنود الاتفاق بالكامل وبخاصةً البنود الأساسية مثل حل الميليشيات الذي استثنى “المقاومة” واللامركزية وإلغاء الطائفية السياسية، وكلها خروقات حصلت برعاية الأسد وإجماع الأحزاب اللبنانية، فبقيت وثيقة الوفاق الوطني كاتفاق سلام حبراً على ورق ولم تتحول الى عقد اجتماعي فعلي يحكم علاقة اللبنانيين بعضهم ببعض وعلاقتهم بدولتهم.

خارطة طريق نحو عقد اجتماعي جديد

الحاجة الى إنتاج عقد اجتماعي جديد بين اللبنانيين ليست مهمة مستحيلة ولا شعاراً فضفاضاً. ببساطة، نحن بحاجة الى تطوير الاتفاق المكتوب الذي أنتجه اللبنانيون ودفعوا ثمنه مئات آلاف الضحايا، أي اتفاق الطائف، وتعديله حيث يلزم وتطبيقه عبر سلة من الإصلاحات في النظام السياسي تهدف إلى تمكين شرعية الدولة وتعزيز دورها كمرجعية للمواطنين بدل مرجعية الطوائف من ضمن برنامج انتقالي يتضمن ما يلي:

التطبيق الكامل والمفصل لاتفاق وقف إطلاق النار

الالتزام الجاد بتطبيق 1701 بشكل كامل وتفكيك البنية العسكرية لحزب الله حسب ما نص الاتفاق وتسليمها للجيش اللبناني، وكذلك النقاط المتعلقة بتصنيع الأسلحة وشرائها، وبالتوازي متابعة الخروقات الإسرائيلية وتكثيف العمل الدبلوماسي والسياسي مع لجنة المتابعة التي اتفق عليها الموقعون على الاتفاق لوضع حد لأي تجاوزات وأطماع للعدو في الأراضي والأجواء اللبنانية، وتأمين انسحابه الكامل من لبنان.

تعويض المتضررين من الحرب الأخيرة وإعادة الإعمار

على الحكومة اللبنانية القيام بمهامها لتعويض المتضررين من الحرب الإسرائيلية الأخيرة وإدارة ملف إعادة إعمار الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية، وأن تؤمن الأموال اللازمة لذلك ولتعويض الأضرار البشرية لعائلات الشهداء والضحايا والجرحى، والمادية في المنازل والممتلكات وجبر الضرر لدى جميع المتضررين في المناطق اللبنانية كافة.

تعزيز سلطة الجيش على كامل الأراضي اللبنانية

استكمال اتفاق وقف إطلاق النار بوضع كل السلاح الموجود لدى حزب الله تحديداً والفصائل الفلسطينية داخل وخارج المخيمات بيد الجيش اللبناني وضبط الحدود مع إسرائيل وسوريا، بالإضافة الى اتخاذ القرار السياسي بتعزيز قدرات الجيش من أسلحة وعديد وعتاد وفتح باب التطوع لضم القدرات البشرية التي يمتلكها الحزب وتمكين أفراده اقتصادياً ومعيشياً بما يعزز الثقة بالمؤسسة العسكرية.

اكتساب شرعية الدولة وتثبيتها

إعادة الانتظام الى المؤسسات الدستورية، انتخاب رئيس جمهورية يحمل مهمة تنفيذ البرنامج الانتقالي وتشكيل حكومة بصلاحيات ودور محدد، وهو الانتقال السياسي بلبنان من دولة الشرعية الطائفية المرتبطة برهانات على الخارج الى دولة الشرعية من الناس ومصالحهم، والدعوة الى الانتخابات البلدية المؤجلة ووصولاً الى انتخابات نيابية تجدّد الشرعية.

سياسة خارجية تقوم على تصفير المشاكل مع المحاور

نسج علاقات خارجية إيجابية مع القوى الإقليمية والدولية كافة، بخاصة مع الدول العربية من سوريا الحرة الى دول الخليج ومصر والأردن والعراق الى تركيا وإيران وصولاً الى الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين والولايات المتحدة الأميركية، مع الالتزام بمناصرة قضايا الشعوب وحقها بتقرير المصير، وعلى رأسها قضية الشعب الفلسطيني وحقه بالتحرر من الاحتلال الإسرائيلي، وبدولة كاملة السيادة ومواطنة كاملة الحقوق، والتمسك باتفاقية الهدنة 1974 مع العدو الإسرائيلي.

التحول إلى نظام مدني تعددي لا مركزي

الانتقال ببنية النظام من السلطة المركزية نحو لا مركزية إدارية موسعة تقوم على مجالس محلية منتخبة ذات صلاحيات واسعة على مستوى الإدارة المحلية وشؤون الناس اليومية والاقتصادية والاجتماعية والصحية والتربوية والأمنية والإدارية، مع الحفاظ على قانون مدني للأحوال الشخصية على مستوى الوطن، وتطبيق اتفاق الطائف لجهة إنشاء مجلس للشيوخ يمثل المكونات الطائفية كمقدمة لانتخاب مجلس نواب خارج القيد الطائفي وإلغاء الفيتوهات الطائفية كالثلث المعطل وإنهاء المحاصصة الطائفية في الوظائف العامة.

العدالة الاجتماعية للتعافي الاقتصادي

تنفيذ خطة للتعافي الاقتصادي مبنية على مبادئ خطة التعافي المالي لسنة 2020 (المسماة خطة لازارد) بعد تحديثها وتعديل أرقامها لتكون المخرج لحل أزمة الودائع بشكل عادل وتحميل المصارف مسؤولياتها وإعادة هيكليتها من دون المس بأصول الدولة وأملاكها، والقيام بتصحيح عادل الأجور، إذ يجب أن تضع هذه الخطة المداميك الأولى لاقتصاد منحاز الى الناس منتج وعادل ومحفز للإبداع وجاذب للاستثمارات.

الحفاظ على الحريات وتعزيز حكم القانون والمؤسسات واستقلال القضاء

إعادة هيكلة القطاع العام والأجهزة الأمنية وتفعيل الأجهزة الرقابية وتحديد صلاحيات بعض الأجهزة الأمنية، ومنها إلغاء المحكمة العسكرية وإقرار وتطبيق قانون استقلالية القضاء والقوانين المرتبطة به، واستكمال التعيينات والشواغر في الإدارات العامة.

درج

—————————-

المجتمعات المعنفة!/ محمد الرميحي

11 يناير 2025 م

ظاهرة اجتماعية سياسية في معظم فضائنا العربي، تتمثل في الانقلاب السريع من التأييد الكامل وولاء التزلف للأشخاص أو الأنظمة، إلى النقد اللاذع المحمل بكراهية مريرة، بمجرد أن يسقط النظام.

سعد بيومي في روايته «يوميات سعد عباس: 1952-1958»، أي الست سنوات بعد قيام الثورة المصرية، يسرد للقارئ كيف تحولت صحف وأشخاص وأحزاب، من اعتبار الملك فاروق وكأنه من سلالة القديسين، إلى رجل فاسد ومغامر وشرير، نفس الصحف ونفس الأشخاص، كما نذكر بيتاً لشاعر عراقي يخاطب فيه صدام حسين حيث يقول له: «لولاك ما ظهر القمر»!! غير مجموعة الألقاب والكرامات التي وصفت صدام بأوصاف كادت أن توصله إلى سلالة القديسين، ثم انقلب الجميع بعد ذلك، فبانت حفلات القتل والشر والجهل في شخصيته وأقربائه بعد سقوطه.

ويكاد المرء أن يجد نفس الظاهرة فيما بعد بشار الأسد، لقد انقلب مباشرة رجال قريبون جداً منه ونظامه وكانوا يدافعون عن نظامه بأحط الكلمات ضد الآخرين معارضين أو دولاً عربية، وما إن سقط حتى رفعت راية التجريح والسخط، على نظام كانوا فيه من عظام الرقبة.

كيف نفسر هذه الظاهرة؛ الولاء الأعمى والدفاع عن الشر، ثم الانقلاب عليه بعد ذلك انقلاباً وكأنه يرى تلك المساوئ لأول مرة؟

إنها ظاهرة «المجتمعات المعنفة» التي تقوم فيها السلطة بإخضاع الجميع إلى نمط من التفكير الشمولي، ينتشر في المجتمع، ومن يزايد يقترب من السلطة أكثر، التي ديدنها التعنيف، ولقد شهدنا وزراء وسفراء وفنانين يكيلون المديح لكل شاردة وواردة من تلك الأنظمة الاستبدادية، ثم ينقلبون عليها.

في الثمانينات من القرن الماضي، كان هناك اجتماع لوزراء الخارجية العرب في الكويت، وكان الخلاف على أشده حول بعض الملفات؛ حيث حمل الثوريون العرب، إن صح التعبير، كل جهلهم إلى المنصات العامة والمنابر السياسية، وحاول العقلاء تبصيرهم بالمخاطر، فإذا بالمرحوم وزير الخارجية السوري وقتها عبد الحليم خدام يستشيط غضباً في النقاش، فيوجه كلاماً خارجاً عن السياق؛ ليجد رداً مناسباً من سعود الفيصل رحمه الله. تلك هي الثرثرة الآيديولوجية التي يتبناها العاملون في الأنظمة الاستبدادية؛ حيث تخرج عن التفكير العقلاني.

ويمكن تسمية مثل هؤلاء بحملة المباخر، فقد أصبح خدام في وقت لاحق أكثر شراسة ضد النظام الذي خدمه.

في رواية «يوميات سعد عباس»، يقول قريبه الذي يعمل في البوليس السياسي، محذراً إياه من العمل بالسياسة، ورداً على سؤال كيف تخدم النظام الجديد وأنت كنت جزءاً من النظام القديم، قال لقد غيروا الرئاسات لا السياسات!

الخوف يظهر أبشع ما في الإنسان، معظم السجانين الصغار في سجن صيدنايا الرهيب في الغالب قاموا بعملهم خوفاً من العقاب، وكان تصورهم أنهم كلما قسوا على السجناء وأذلوهم، رضي عنهم الذين أوكلوا لهم تلك المهمة، وما ظهر من فظائع في سجون ومعتقلات الأسد الأخرى تنفر منه البشرية، ويسأل الإنسان نفسه، أي بشر يبرر لنفسه ما تم فعله من فظائع.

من بقي على قيد الحياة من الذين عملوا مع صدام حسين يرون أيضاً الهوائل من الأحداث، ومتوفر اليوم على الشبكة الدولية أو في المقابلات التي سجلت للبعض منهم ما يكفي أن يعرف الناس كم من احتقار للإنسان، قامت به تلك الأنظمة، وما زال بعضها في المنطقة تحت شعارات «تصدير الثورة» تقوم بنفس الممارسات، ويكذب متحدثوها «كذب الإبل» على مستمعيهم ومشاهديهم في التسويق لتلك الأنظمة، وهم أول من يعرف أن ما يقولونه دافعه الخوف، فهم يعيشون في مجتمع معنف لا صوت يعلو إلا المزايد.

المجتمعات المعنفة لا تستطيع أن تبني تنمية، ولا تستطيع أن تحارب وتنتصر، ولا تستطيع أن تُشيد أوطاناً، هي تأكل نفسها بنفسها، وأمامنا اليوم تجارب سودان البشير، وسوريا الأسد، وعراق صدام، وليبيا القذافي وما قبلهم ومن سوف يأتي بعدهم بنفس صراخ الشعارات وسيوف القمع.

لقد فشل «حزب الله» في الدفاع عن بعض بيئته في الجنوب اللبناني، كما فشل النظام السوري في البقاء، رغم استنجاده بقوى كبيرة، وانقسمت ليبيا على نفسها، وما زالت تجربة التعافي في العراق معوقة، تحمل الكثير من إرث الماضي، لقد تركت كل تلك الأنظمة مجتمعاً معنفاً، يحمل جرثومة عدم التعايش مع غيره، وحتى مع نفسه.

الخروج من ذلك المأزق صعب ومكلف، ويحتاج إلى رجال تُحسن قراءة الأحداث، وتقدم ترياقاً يرمم ما قد قام به العسكر أو شبه العسكر من تمزيق لنفسية الإنسان.

آخر الكلام: رغم كل ذلك العنت فإن رجلاً ونساء قد قاوموا الاستبداد، بعضهم بأرواحهم وآخرون بمستقبلهم، كما فعل، كمثال، قيصر، الذي هرّب الصور المرعبة لبشاعة النظام السوري.

الشرق الأوسط

—————————-

4 دول ترسم مستقبل سوريا/ د. يوسف القرشي

11/1/2025

اجتماع مجموعة الاتصال العربية بشأن سوريا، الذي عُقد في مدينة العقبة الساحلية على البحر الأحمر جنوب الأردن، في 14 ديسمبر 2024 (الفرنسية)

لم يكن سقوط نظام الأسد في سوريا في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول أمرًا متوقعًا لدى أي من دول المنطقة أو العالم، بل حتى لدى إدارة العمليات العسكرية التي قادت العملية، رغم إصرار بعض المحللين على أنه أمر مخطط له.

فتصريحات القيادة العسكرية، وتصريحات دول المنطقة حتى بعد انطلاق الحملة العسكرية كانت تتحدث عن عمليات عسكرية ضيقة في حلب وريف إدلب؛ بهدف إسكات قصف النظام على المعارضة وقتها، و”ردع العدوان” الذي استمرّ به النظام السوري رغم الاتفاقيات المتتالية في جنيف وأستانا، وغيرها.

بيدَ أن انهيار الجيش السريع والمفاجئ أمام تقدم مقاتلي قيادة العمليات العسكرية أدى إلى ارتجال خطط جديدة والإسراع نحو دمشق من الشمال والجنوب بتقنيات “الحرب الخاطفة” والتي لم تستطع قوات النظام الصمود أمامها، وأصدرت الأوامر بتخلي الجنود عن مواقعهم، وانتهت بوصول قوات المعارضة إلى دمشق، وهروب بشار الأسد إلى روسيا في مشهد لم يكن مطروحًا على الساحة إطلاقًا قبل عشرة أيام فقط من بداية العمليات.

هذا الانتصار السريع أثار قلق دول المنطقة ومنها الأردن تجاه أمرين أساسيين:

    أولًا: احتمالية الفوضى التي تقع بعد سقوط الأنظمة عادة، والانفلات الأمني الذي قد يؤدي إلى تشكيل خطر على المملكة من حدودها الشمالية.

    ثانيًا: هوية الفصائل التي قادت المعركة والتي تنتمي لتنظيمات كان لديها عداء تاريخي مع الأنظمة العربية، وخاصة الأردن.

هذه المخاوف المبررة التي تشاركتها المملكة الأردنية مع عدد من الدول، دفعتها في خطوة شديدة الأهمية إلى الدعوة إلى مؤتمر العقبة في الرابع عشر من ذات الشهر (ديسمبر/كانون الأول)، والذي شارك فيه أعضاء لجنة الاتصال الوزارية العربية التي تضم الأردن، والسعودية، والعراق، ولبنان، ومصر، وأمين عام جامعة الدول العربية، بحضور وزراء خارجية قطر، والإمارات، والبحرين، وتركيا. بالإضافة إلى ممثلين عن الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، والأمم المتحدة.

قوبل هذا الاجتماع ببرود في البداية من قبل السوريين؛ لأنه أكد على الرعاية الأممية وتطبيق القرار 2254 الذي يدعو لتحول سلمي سياسي في سوريا، وهو قرار يعتبره السوريون مرتبطًا بحقبة قد انطوت صفحتها، فقد سقط النظام وسقطت الأطراف المتفاوضة، ولم يبقَ إلا الشعب السوري والدولة السورية الجديدة، والتي كانت القيادة الجديدة وقتها قد بدأت باستلامها، وتعيين وزراء للوزارات السيادية.

لكنني أعتقد أن قيمة هذا المؤتمر لم تكن تكمن في البيان الصادر عنه، والذي أكد إضافة إلى ما سبق، على ضرورة انسحاب قوات الاحتلال من المنطقة العازلة في الجولان والقنيطرة. فقيمته الحقيقية هي في شبكة التحالفات الجديدة التي استطاعت المملكة الأردنية أن تبنيها بشكل سريع وديناميكي مع الأطراف التي تملك مصلحة إستراتيجية في استقرار سوريا وأمنها على المديَين؛ المتوسط، والبعيد.

أتحدث هنا، بالإضافة إلى الجمهورية العربية السورية نفسها، عن المملكة العربية السعودية (الحليف التاريخي للأردن)، وتركيا، وقطر، وهي الدول التي يبدو أنها اتفقت بعد مؤتمر العقبة على المشاركة الفعالة في بناء وإعمار سوريا الجديدة والحرص على أمنها واستقرارها وانتقال السلطة فيها إلى الحكومة الجديدة بطريقة سلسة، أو على الأقل معقولة.

في أعقاب المؤتمر، كان وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي صاحب أول زيارة رسمية لدولة عربية للقاء أحمد الشرع ووزرائه، تلته الوفود العربية من قطر، والسعودية. تبع ذلك في خطوات – واضح أنها مخطط لها – الزيارة الرسمية الأولى للفريق (السياسي- الأمني- العسكري) السوري إلى المملكة العربية السعودية، حيث قابلوا أيضًا نظراءهم هناك.

وأعلن الأردن بعدها عن زيارة فريقه (السياسي- الأمني- العسكري) إلى تركيا، ثم إلى سوريا ممثلًا بوزير الخارجية ومدير المخابرات ورئيس هيئة الأركان، لتعقبها زيارة بنفس المستوى من الطرف السوري إلى الأردن.

المنطقة إذن، تتنفس ولأول مرة من رئتها التي كانت مغلقة من زمن طويل. فعلاقة الأردن بالأخت الكبرى لبلاد الشام لم تكن مثالية حتى قبل الثورة، بل منذ تولي حزب البعث مقاليد الحكم في سوريا؛ فقد هدد حدودها أكثر من مرة، واعتقل الأردنيين وخطفهم وعذبهم، وخرّب مشاريع إستراتيجية أردنية اقتصادية، وكان سببًا في تصدير متكرر لعناصر حاولت زعزعة أمن الأردن.

كما أنه حول سوريا بالكامل إلى مصنع مخدرات واستخدم عصابات منظمة عبر الأردن ليوصل إنتاجه إلى دول الخليج. وذلك كله فضلًا عن خريطة تحالفاته البائسة مع إيران والتي كانت وبشكل فعال تهدد أمن المنطقة بالكامل.

يشعر الأردن أنه أمام شريك “محتمل” يمكن العمل معه على الملفات الأساسية، فقد أبدت الحكومة السورية المؤقتة مرونة شديدة، كما أعطت ضمانات للمملكة الأردنية حول إيقاف تصدير الكبتاغون والمخدرات، وأمن الحدود الشمالية، وعودة اللاجئين. وأعطت ضمانات أخرى لتركيا والخليج والمجتمع الدولي، مما أثار شعورًا بالارتياح أمام معظم دول المنطقة واعتقادًا بأن اللاعب السوري الجديد عاقل وليس كسابقه.

أدى هذا -بنظري – إلى تشكل حلف مرن (أو تنسيق على الأقل) بين الدول صاحبة المصلحة الإستراتيجية في استقرار سوريا وأمنها، وهي الدول التي أحب أن أسميها تيمنًا بدول حلف العقبة؛ سوريا، والأردن، والسعودية وقطر، وتركيا، والتي يبدو أنها ستعمل معًا في المرحلة القادمة بشكل فعال، وفي ملفات لا تقتصر على الملف السوري.

وما نأمله هو أن تشكل دول حلف العقبة قوة احتواء للعدو الصهيوني على المدى البعيد، ورمانة الميزان في هذا ستكون دون منازع الأردن، فهو خط المواجهة الأول مع العدو الصهيوني الذي يهدد الضفة الغربية والأردن بشكل مستمر.

ومع أن المملكة استطاعت حتى الآن -دبلوماسيًا – منع توسع الصراع باتجاه صراع إقليمي، إلا أنه من الواضح أننا لا نعمل مع طرف عاقل يريد إنهاء الصراع، بل يريد إشعال حرب إقليمية شاملة سيكون الأردن فيها في خط النار الأول. ولذلك فإن الجهود الدبلوماسية التي يقوم بها الأردن الآن وتشكيل خريطة التحالفات الجديدة والجمع بين السعودية، وتركيا، وقطر، وسوريا في مجال حيوي تنسيقي واحد، هي أفضل طريقة ممكنة لمواجهة التحديات القادمة.

الجزيرة

———————-

7 أولويات للسوريين بعد سقوط النظام/ رفاعة عكرمة

11/1/2025

سوريا ما بعد سقوط نظام الأسد أمام تركة ثقيلة لأنّ ما جرى يوم 8 ديسمبر/كانون الأول كان سقوطًا مدويًا بكل المقاييس.

وهو سقوط لأنه اختار ألا يواجه حتى النهاية، حيث غادر رأسه الأسد الابن تحت جنح الظلام تاركًا كل شيء حتى أخاه.

وهو مدوٍ لأنه انكشاف مذهل للمعلوم المستور من بنيته كنظامٍ تمركز حول قضية جعلها كقميص عثمان يستبيح بذريعتها شعبه وبلده لحدٍ أذهل العالم مما شاهده على الشاشات من معالم للقمع والتنكيل الذي مورس على أوسع مدى، فطال السوريين بمختلف انتماءاتهم وطوائفهم ومعهم عرب وأجانب، ولأن حقيقته المفجعة هي أنه ليس إلا نظامًا دعيًّا في قضيته المركزية، إذ سارعت إسرائيل لتدميرٍ نوعي ومكثف لمفاصل ما تبقى من قوة عسكرية سورية؛ لأنها لا تثق بالقادم، وفي طيات ذلك دلالات لا تخفى عن حقيقة المقاومة والممانعة، وعن حقيقة (الاندساس المفبرك)، والذي أفرز كل هذا التدمير المتوحش والاستئصال الدموي منذ مارس/آذار 2011.

وهي تركة؛ لأن الفرار الذليل، والسقوط المهين قد تركا سوريا في الفراغ وسط انقسام مفاهيمي، وفرز مجتمعي حاد وجارح، وواقع ميداني دامٍ، وهي ثقيلة؛ لأن شعب الدولة ذات العاصمة الأقدم في التاريخ سيواجه معضلته الداهمة بإرث “اللاكيان” بالمعنى المُضني للكلمة، إذ هناك بنى ومؤسسات دولة لكنها تفتقد للمأسسة المعتبرة، وتعشعش فيها مفرزات المحسوبية، وتسيّر بمعظمها وفق مقتضيات الفساد بتوظيف البنى والمؤسسات لصالح إبقاء النظام بدعاواه قائمًا على رؤوس مواطنيه وحالبًا لهم عند كل احتياج للتعامل مع مناحي الدولة.

ولابد لشعب الأبجدية الأقدم في التاريخ من المسارعة إلى لعق جراحه، وترميم فجواته المجتمعية، وزج الطاقات لإخراج بلدهم من التشظي الذي حشروا فيه لعقود طويلة، وعليه الوقوف بشجاعة ووعي تاريخي باستحقاقات الخروج من أعباء التركة الثقيلة، وتحديات طي صفحة عهود أنهكته وأصمّت أسماع أبنائه بدعاوى جعلت واقعهم من الأسوأ عالميًا في مختلف الميادين.

الاستحقاقات السبعة

ومن أبرز الاستحقاقات التي ينبغي للسوريين بكليتهم المسارعة للتعامل الناضج معها:

1- ثنائية الدولة والمواطن:

“سوريا الأسد” هو شعار أشهر من نار على علم. وفي طياته اختزال الدولة في شخص، وتحويلها إلى مزرعة تسير بالاتجاه المرسوم بدقة متناهية وإلا. ولا بدّ من العمل لإعادة رسم مفهوم الدولة في أذهان حامليها أولًا، وفي سلوك منتسبي مؤسساتها، وفي وعي مواطنيها.

ومن الضروري أن تخرج سوريا بأداء قادتها الجدد ووعي طبقتها السياسية القادمة من كل ما يمت لسادية الدولة بصلة، وألا تغرق – بسبب ردة الفعل على ما كان –  في وُحول خلق نرجسية للمواطن، وأن تمتلك الدولة خطابها المتوازن والواقعي، وشراكتها الحقيقية مع المجتمع بدفعه لتشكيل قواه المجتمعية وفقًا لروح تُعلي مفهوم المواطنة وتكرّس شأنها، وتؤسس على حسّ المسؤولية والشراكة من مختلف الأدوار.

وينبغي أن يتعزّز في الوعي العام مفهوم الدولة الناظمة والميسّرة لا الدولة الآسرة ولا المحتكرة، دولة تفصل بين مؤسساتها بشكل واضح، وتنسج العلاقات البينية للمؤسسات بشكل متوازن يضمن سلامة أدوارها وانخراطها في آليات اتخاذ القرار وتحسينه.

2- الوطنية والمواطنة:

كانت الوطنية تختزل في الرضوخ للحاكم الفرد، والدندنة حول أطروحاته وتوجهاته، والدوران في فلك شخوص السلطة والبناء على تشابكاتٍ معهم.

ولا بدّ لسوريا المستقبل من حاضرٍ يجتهد لإعادة الاعتبار إلى وطنية السوريين، وخلق روح الانتماء والإحساس بالشراكة الإيجابية فيما للوطن من شؤون وشجون، والانتقال بمفهوم المسؤول الحكومي من مصدر ومركز إلى موظف له صلاحيات محددة، ودور مرسوم. وذلك لردم الهوة بين المواطن والمسؤول التي اتسعت – في زمن الأسد – الذي طالما عامل مواطنيه كمتهمين حتى يثبت العكس.

وهذا يحتاج إلى إشراق روح المواطنة عبر مبادرات جماعية وجهدٍ مدني متناغم، وانطلاق جهود فردية ملهمة كتلك الجهود الفردية والجماعية لتنظيف شوارع المدينة فرحًا بيومها المجيد وأملًا بغدها المأمول.

كما يحتاج إلى خطاب إعلامي مدروس ومنظم، وإلى رجالات دولة، وإلى كفاءات إدارية، وإلى طبقة سياسية، يسهم أداء الكل في الانتقال بالوعي العام إلى صياغة المواطن الحريص على الحقوق والقائم على الواجبات، وإلى تعزيز شعب المبادرة عبر الإحساس الغامر بالمسؤولية الفردية والمجتمعية الرافدة لدور الدولة، لا المتربصة بها، ولا المنفضّة عنها، ولا المناكفة لها.

3- طمأنة الهويات:

يكثر الحديث عن حماية الأقليات وهو حديث يثير في نفوس السوريين الكثير من الدهشة والاستغراب؛ لأنهم لا يرون في تاريخهم ولا حاضرهم ما يستدعي هذا الإصرار.

وإن كانت عقود الاستبداد واستباحة الوطن والمواطن قد بنت جبروتها على سردية انتهكت الشعب باللعب على هوياته، واستعداء بعضها على بعض آخر، ومما يعيد للسوريين التئامهم في وطنيةٍ يحرصون عليها، هو العمل على طمأنة الهويات، والتي تحرص بطبيعتها على استمرارية نمطها الحياتي والسلوكي والاجتماعي الخاص، وعلى تقاليد بينية لا تتقبل أي ضغوط عليها، وهو أمر مفهوم من ناحية الحرية الشخصية، وينبغي أن يصان في إطار الحريات العامة التي تراعي القواسم المشتركة للشعب السوري بمجتمعاته المحلية، وفئاته، ومكوناته، ويصونها بما لا ينتهك أي خصوصية لأي هوية من الهويات.

ورغم ما هو معروف عن السوريين من براعتهم في التعايش البشوش، وقدرتهم على تماسك علاقاتهم البينية الطيبة والعابرة للفروق الإثنية والعرقية، إلا أنه أمر ينبغي تعزيزه من خلال عقد اجتماعي ثقافي إعلامي لا يقبل أي خدش للمشتركات أو مساس بها.

4- الوئام المجتمعي:

لا تكتمل الغاية من مساعي طمأنة الهويات إلا بجهد جمعي لا ينتظر السلطة ولا يعلّق على شماعتها كل المأمول والمطلوب. سوريا ليست بَدْعًا من الدول، فهي كغيرها في الموزاييك الإثني والقومي والديني والطائفي والعقائدي والأيديولوجي، وكل هذه التباينات ظاهرة ملموسة في معظم المجتمعات.

ينبغي على مجتمعات الهويات أن تؤكد وعيها وقبولها لهذه الحقيقة، وأن تعي كل المكونات أنها جزء من كل، وأن الكل يأخذ أمنه واستقراره باحترام نسيجه، وأن كل مكونات الموزاييك السوري تأخذ اعتبارها من وجودها لا من كثرتها، وأنها تستحق الاحترام بقدر ما تقدم من الاعتبار لغيرها من المكونات.

وهنا ينبغي على رجالات الدين والطوائف أن يتحدثوا وبإسهاب عن (الطمأنة العقائدية) لمن سواهم في العقيدة والمذهب والطائفة، وأن يقرروا بوضوح أنه لا مجال للاستهداف بناء على الهوية أو الاعتقاد، فكما تقرر القاعدة القرآنية الشهيرة أنه “لا إكراه في الدين” فإن من مقتضياتها ألا إكراه بالدين، ولا على الدين، ولا بسبب الدين.

ومن جانب ثانٍ، فلا شك أن إعلاء شأن العدالة وكفران مظالم الماضي أساس لوئام اجتماعي لا يُزدرى فيه أحد. ومن هنا، يتوجب على قادة الرأي المحليين في كل المجتمعات والأطياف السعي لتكريس مناخ السلم الأهلي والوئام المجتمعي من خلال تفكيك الشحن، وتبريد مناخات القلق والاصطفاف ضمن الهويات، والعمل على إدارة انزياحها الواعي نحو مقتضيات المواطنة الجامعة التي تعطي الحقوق دون تهميش أو تمييز، وتفرض المسؤوليات دون محاباة أو تفريق.

ومن الأهمية بمكان امتلاك أولئك الرواد الشجاعة الأدبية والبصيرة النافذة بتحميل الجرائم لمرتكبيها والمسؤولين عنها، وألا يتحمل أي طرف سواهم وزرها، وألا يتورط أي طرفٍ في تسويغها والقفز فوقها وكأن شيئًا لم يكن، وهذا مدخل لا بد منه للوصول إلى مناخ مجتمعي يتقبل حدًا من العدالة الانتقالية التي قد لا تطال كل من أجرم وأساء، ولكنها لا تعطي لكل ما جرى صك غفران يمنحه طرف للبعض من المحسوبين عليه، لمجرد أنه من المحسوبين.

ولاشك بأن جانب الحقوق والحريات جانب عظيم الشأن عند السوريين بعد الثمن الباهظ الذي تكبّدوه، ومن المتوقع أن يرتفع سقف حرية التعبير وأن يتسع نطاقه، وينبغي ألا ينزلق المجتمع من حرية  التعبير عن الرأي إلى انفلات السخرية والانتقاص والتهييج وإثارة الغرائز والنعرات، وألا يُترك المجال للاتهامات المجانية، والتشهير، وتراشق التهم بلا دليل، إذ إن كل ذلك مما يطاله القانون في الدول المستقرة، ولكنها في الحالة السورية مادة سهلة لتفجير الأوضاع وخلق البلبلة.

لذلك، فمما يحتاجه السوريون هو الوعي بحدود الحرية ونطاقاتها، وأنه لا مجال لحرية تنتقص حرية أخرى، ولا حق على حساب حق، والكل سواء في الحريات العامة التي تعلو على الحرية الشخصية، والكل سواء في الحرية المسؤولة، والحقوق المعتبرة التي تتضافر لتقيم مجتمعًا متعايشًا متناغمًا في صيانة الحاضر، وبناء المستقبل.

5- العدالة الانتقالية:

تدرج الحديث خلال سنوات الثورة عن العدالة، فالعدالة الانتقالية، فالتسامح، فالصفح المطلق.

والواجب على السلطات وقيادات المجتمعات والمكونات أن يبادروا للتوافق على محددات واضحة، تستأصل من الجسد السوري المسؤولين عن المظالم وعن تهييج المكونات على بعضها، بما يُشعر المجتمع أنه قد نال ما يستحقه من عدالة مع مراعاة مقتضيات التسامح بالقدر الكافي للانتقال إلى الاستقرار والسلم الأهلي.

يبدأ هذا بتجريم الممارسات السابقة واستئصال مسوغاتها، وهو ما يمهد لانخراط كامل المكونات في عجلة البناء وإعادة إعمار سوريا بما يحقق الازدهار والرخاء لكل السوريين.

6- جبر الأضرار:

عانى الكثير من مناطق سوريا وفئات شعبها من مظالم عامة وخاصة نتيجةً للجغرافيا الطبيعية والسكانية، ومنها مظالم مقننة، ومنها ما هو إجراءات ممنهجة، وهي مما أطلق شرارة ثورة 2011، وأضيف إليها الأضرار الفادحة التي خلّفتها سنوات القمع والعقاب الجماعي.

ولا بد لتسريع رفع تلك المظالم وجبر الأضرار من إجراء مسح ميداني شامل لا يقف عند إحصاء تدمير الحجر، ولا يركز على ما يعرف بإعادة الإعمار، وأن ينبني هذا الإحصاء على ما يحدده أبناء الجغرافيا السورية بمناطقها ومحافظاتها وفئاتها للوصول إلى ما يلزم من إجراءات قانونية، وتدابير تصحيحية، وإجراءات شافية.

7- التموضع والتموقع:

بعد سقوط سردية النظام ودعاواه التي قصمت ظهر سوريا والسوريين لا بدَّ من إعادة تموضع سوريا كخطاب وتوجهات وأولويات، وأن يكون الاهتمام العام ورائد السياسات هو الإنسان السوري أينما كان، وأن يكون حاضره ومستقبله ودوره الوطني والحضاري هو محور الوطنية السورية الجديدة.

ولا بدّ لسوريا من صياغة تموقعها العام في المنطقة والعالم بما يتناسب مع شخصيتها التاريخية وعمقها الحضاري، وقضيتها الوطنية الأهم وهي بناء الإنسان الفاعل والإيجابي أينما كان وحيثما حل، وأن يلمس العالم أن سوريا رافد مهم لمجمل الجهود الإيجابية التي تركز على التنمية الشاملة جغرافيًا وديمغرافيًا.

التركة الثقيلة على السوريين هي قدرهم الذي لا بد لهم أن يعالجوه بأقصى ما يمكنهم. ولن يكفيهم الاتكاء على السلطة، ولا التعلّل بما يرونه لازمًا عليها وحدها، فما ينبغي على المجتمعات السورية إعطاء السلطة فسحة من الوقت لبناء السلم الأهلي، وترسيخ الأمن والاستقرار، وتفكيك مرتكزات الفساد.

كما أن استحقاقاتها تتطلب من الطامحين لخوض غمار السياسة وصولًا للسلطة التركيز أولًا على ترسيخ المشتركات وإرساء قواعد اللعبة السياسية التعددية التي تحمي المواطنة وتتنافس في خدمة الوطن، وتكريس ذلك كتقاليد سياسية صلبة، وألا يكون جلُّ اهتمامهم في المخاض الحالي هو التصّيد السياسي؛ بغية الوصول السياسي، فمن يستحق تقدير السوريين الخارجين من قعر المعاناة، هو من يسهم في تحسين صناعة القرار وتحويله إلى منجزات من أي موقع كان، لأن رهانهم الحالي ليس على صنّاع القرار بل على مضامينه ومفاعيله، فالهدف هو الوصول بسوريتهم إلى تألق يليق بإرثهم الحضاري العريق، ويعوضهم عن عقود الحرمان والتنكيل والاضطهاد.

————————————

ما بين الجولاني الراديكالي وأحمد الشرع “السياسي”/ اسماعيل درويش

يرصد محللون 3 سياقات أساسية يتحرك خلالها زعيم “هيئة تحرير الشام” لإحراز قبول إقليمي ودولي

الجمعة 6 ديسمبر 2024

ينظر البعض إلى أبو محمد الجولاني على أنه راديكالي متطرف منسلخ عن “القاعدة” لكنه لا يزال يحمل أفكارها، وكل ما يجري من “لطف” هو عبارة عن أمر مرحلي ريثما يستتب له الأمر.

انتقل أبو محمد الجولاني الذي أعلنت قواته اليوم الأحد “هرب” الرئيس السوري بشار الأسد مع دخولها دمشق، بعد سيطرتها بسرعة مذهلة على مناطق عدة في سوريا، من خطاب إسلامي متطرف إلى نوع من الاعتدال في مسعى واضح إلى تغيير صورته.

وكان زعيم هيئة تحرير الشام “جبهة النصرة سابقاً” التي كانت تشكل فرع تنظيم “القاعدة” في سوريا، أكد أن الهدف “يبقى” بالنسبة إليه والفصائل المعارضة “إسقاط نظام” بشار الأسد الذي يتولى السلطة منذ عام 2000.

ودعا الجولاني اليوم الأحد مقاتليه إلى عدم الاقتراب من المؤسسات العامة، مؤكداً أنها ستبقى تحت إشراف رئيس الوزراء السوري حتى “تسليمها رسمياً”، بعد إعلان المعارضة إسقاط الأسد.

وتخلى الجولاني الطويل القامة ذو البنية القوية واللحية السوداء والعينين الثاقبتين تدريجاً عن العمامة البيضاء التي كان يضعها في بداية الحرب، ليرتدي زياً عسكرياً وأحياناً الزي المدني.

وجال الأربعاء الماضي قلعة حلب التاريخية، ثاني أكبر مدن سوريا، بعدما سيطر مقاتلوه عليها، وأرسل “تطمينات” إلى المسيحيين بأنهم لن يتعرضوا للأذى.

ثم أعلن السيطرة على حماة في وسط البلاد، وقال إنه لن يكون هناك “ثأر” للمجزرة التي ارتكبت في المحافظة على أيدي قوات الرئيس السابق ووالد الرئيس الحالي حافظ الأسد قبل عقود، بعد انتفاضة للإخوان المسلمين.

وتسارع تقدم الفصائل المعارضة وصولاً إلى دمشق فجر الأحد.

منذ انفصال تنظيمه عن “القاعدة” في عام 2016، يحاول الجولاني تغيير صورته وتقديم نفسه في مظهر أكثر اعتدالاً، من دون أن يتمكن فعلاً من إقناع المحللين أو حتى الحكومات الغربية التي تصنف “هيئة تحرير الشام” مجموعة إرهابية.

ويقول المتخصص في المجموعات الإسلامية في سوريا توما بييريه لوكالة الصحافة الفرنسية “إنه متطرف براغماتي”، ويوضح الباحث في المركز الوطني للبحث العلمي في فرنسا أنه “في عام 2014 كان في ذروة تطرفه من أجل أن يفرض نفسه في مواجهة تطرف تنظيم ’داعش‘ (الذي كان في ذروة سيطرته وقوته في سوريا آنذاك)، قبل أن يعمد لاحقاً إلى التخفيف من حدة تصريحاته”.

وفي مؤشر جديد على رغبته في تغيير صورته، بدأ بعد بدء هجوم الهيئة والفصائل ضد القوات الحكومية في الـ27 من نوفمبر (تشرين الثاني)، بتقديم نفسه باسمه الحقيقي أحمد الشرع، بدل اسمه الحركي.

ولد الشرع في عام 1982، ونشأ في حي المزة بدمشق، في كنف عائلة ميسورة وبدأ دراسة الطب.

في عام 2021، قال في مقابلة مع محطة “بي بي أس” (PBS) الأميركية العامة إن اسمه الحركي – أبو محمد الجولاني – مستوحى من أصول عائلته المتحدرة من مرتفعات الجولان، وقال إن جده نزح من الجولان بعد احتلال إسرائيل جزءاً كبيراً من هذه الهضبة السورية عام 1967.

وبحسب موقع “ميدل إيست آي” الإلكتروني “بدأت أولى علامات الجهاد تظهر في حياة الجولاني” بعد اعتداءات الـ11 من سبتمبر (أيلول) 2001 في الولايات المتحدة، و”بدأ بحضور خطب دينية واجتماعات سرية في ضواحي دمشق”.

بعد الاجتياح الأميركي للعراق في عام 2003، توجه للقتال في البلد المجاور لسوريا حيث انضم إلى تنظيم “القاعدة” بقيادة أبي مصعب الزرقاوي، قبل أن يسجن لمدة خمس سنوات.

بعد بدء الحراك الاحتجاجي ضد الأسد في عام 2011 عاد إلى وطنه ليؤسس “جبهة النصرة”، التي أصبحت في ما بعد “هيئة تحرير الشام”. في 2013 رفض التقرب من أبي بكر البغدادي زعيم “داعش” وفضل زعيم تنظيم “القاعدة” أيمن الظواهري.

يرى أنصاره أنه “واقعي”، ويقول خصومه إنه “انتهازي”، وقد صرح في عام 2015 أنه لا ينوي شن هجمات ضد الغرب، كما يفعل تنظيم “داعش”، أو كما فعلت “القاعدة”. وأوضح عندما انفصل عن تنظيم “القاعدة” أنه فعل ذلك “لإزالة ذرائع المجتمع الدولي” لمهاجمة تنظيمه.

أيام حلب

بعيداً من أيام ولت عاشتها ثلاثية حلب وإدلب وحماة وتنذر بشلالات قريبة من الدم السوري، يقف البعض على الضفتين في البلد الجريح بـ”عين الإعجاب” و”التخوف” من زعيم “هيئة تحرير الشام” أبو محمد الجولاني. بين آلاف من العائدين إلى بيوتهم في تلك المحافظات بعد سنوات من التشرد واللجوء والتعرض للعنصرية في إحدى دول الجوار وآخرين يخشون تبعات عودة المتطرفين.

“بين أناس عانوا في المخيمات وعادوا إلى حلب بات الجولاني “بطلاً” استطاع تخليصهم من سنوات وجع وذل”، كلمات تحمل مفارقة نطق بها الشاب أحمد الحلبي (31 سنة)، وذلك بعد يومين من عودته إلى مدينته وتمكنه للمرة الأولى من دخول منزله بعد ثمانية أعوام على التهجير.

وفي المقابل، هناك من ينظر إلى زعيم “هيئة تحرير الشام” على أنه راديكالي متطرف منسلخ عن “القاعدة” لكنه لا يزال  يحمل أفكارها، وكل ما يجري من “لطف” هو عبارة عن أمر مرحلي ريثما يستتب له الأمر… إذاً أين يقف الجولاني بين الفريقين وتاريخه وأهدافه من النسخة المحدثة من شخصيته التي أثارت جدلاً واسعاً خلال الفترة الماضية.

رسائل دبلوماسية

وهو يشاهد فيديو على جوال بيده لتصريحات رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني بخصوص محادثة هاتفية أجراها مع رئيس النظام السوري بشار الأسد، ظهر أحمد الشرع (الاسم الأصلي للجولاني) موجهاً رسالة بلغة دبلوماسية للسوداني يدعوه فيها إلى عدم التدخل في الشؤون السورية، “فهذه ثورة ضد نظام الأسد، وما نقوم به هو استرداد للحقوق، ونريد علاقات جيدة مع العراق وشعبه”.

كلمة الجولاني هذه تزامنت مع سيطرة “هيئة تحرير الشام” والفصائل التي تقاتل معها على مدينة حماة الاستراتيجية، ليظهر بعدها بيان مقتضب للجولاني يقول فيه “مبروك النصر لحماة”. بيان موقع باسم “القائد أحمد الشرع” ليكون هو الأول من نوعه الذي يحمل الاسم الحقيقي للجولاني، وسبق ذلك بدقائق قليلة أن قال الشرع “دخول حماة فتح لا ثأر فيه”.

على أرض الميدان، يقول “المرصد السوري لحقوق الإنسان” ومنظمات حقوقية أخرى، إنه لم يسجل أي انتهاكات في حلب أو حماة أو أي من المناطق الأخرى التي سيطرت عليها الهيئة أخيراً، إلا أن اللافت هو طريقة دخول الفصائل لمدينة السلمية بريف حماة مساء أمس الخميس، فالمدينة ذات غالبية من الأقلية الإسماعيلية (إحدى الطوائف الشيعية) تحدث أهلها مع المعارضة المسلحة واتفقوا على أن يرحبوا بهم من دون قتال، وبالفعل لم تطلق رصاصة واحدة فيها سوى رصاص الاحتفال الذي أطلقه الأهالي أنفسهم.

ثلاثة سياقات

الصحافي السوري خالد جرعتلي تحدث لـ”اندبندنت عربية” عن أنه في “عام 2016 عندما خرجت فصائل المعارضة من حلب، وقف أبو محمد الجولاني أو أحمد الشرع كما صار يفضل أن يطلق على نفسه أخيراً على أطلال المدن المدمرة التي خرجت عن سيطرة فصائل المعارضة المتشرذمة حينذاك. كان أول ما فعله تغيير اسم “جبهة فتح الشام” لـ”هيئة تحرير الشام”، بسبب ارتباط الاسم الأول بـ”جيش الفتح” الذي خسر مناطق واسعة في حلب وإدلب وريف حماة”.

وقال جرعتلي “بدأ الجولاني بإصلاحات داخلية مكنته لاحقاً من الحكم بمركزية شديدة أقصيت خلالها الفصائل التي من الممكن أن تشاركه في الحكم بمناطق سيطرة قواته، وجعلته متفرداً بالقرار لتكوين تسلسل أحداث قاد إلى ما نشاهده الآن”.

وأوضح جرعتلي أن “استراتيجية الجولاني بنيت على ثلاثة سياقات أساسية، تسير كلها نحو المصب نفسه، وهو البحث عن قبول إقليمي ودولي، ولا يمكن حتى الآن الجزم فيما إذا كانت استراتيجيته نجحت أم لا. وهذه السياقات تتمثل في (أولاً) أنه في الوقت الذي بقي فيه بشار الأسد متعنتاً بالحفاظ على نظامه بشكله التقليدي واستمراره في انتهاك حقوق السوريين، وخصوصاً من اللاجئين العائدين، كان الجولاني يبني استراتيجيته، عسكرية للهجوم واجتماعية تهدف لطمأنة المدنيين على خلاف ما اعتمده الأسد، لبسط الاستقرار الذي ستتطلبه الظروف بعد العمليات العسكرية”.

أما ثانياً، أن الجولاني كان يسعى باتجاه محو اسم جبهتي “النصرة” و”فتح الشام” من تاريخه، حتى إن هذه المحاذير كانت تظهر واضحة عند محاولات الصحافيين والإعلاميين ربط اسم “تحرير الشام” بالأسماء السابقة. وربما لم ينجح الجولاني بمحو هذه الأسماء قولاً لكنه نجح فعلاً، إذ تطورت أيديولوجيته سريعاً منذ ظهوره في أول مقابلة إعلامية عام 2013، وكان وجهه ملفوفاً بغطاء رأس داكن اللون، مروراً بأول بيان مصوّر له عندما غيّر لون غطاء رأسه للأبيض حتى ارتدائه للبدلة الرسمية في مقابلته مع الصحافي الأميركي مارتن سميث عام 2021. آنذاك قال “إن تصنيف الإرهابيين غير عادل… أعارض قتل الأبرياء”.

ووفق الصحافي السوري خالد جرعتلي فإن السياق الثالث الذي سعى إليه الجولاني هو تكراره ومسؤولين في حكومة الإنقاذ التي شكلت مظلته السياسية والخدمية مصطلح “الكيان السني” في إشارة إلى المناطق التي يسيطر عليها.

ويرى أنه لا يمكن الجزم بأن “تحرير الشام كانت تقرأ سياق الأحداث وصولاً إلى حرب غزة ثم معارك لبنان، وأخيراً النقمة الغربية على إيران، لكن يمكن اعتبار هذا المصطلح (الكيان السني) طرح ليشكل حجر التوازن أمام التمدد الشيعي الذي تنامى مع مرور الأعوام، فلا يوجد أفضل من كيان سني معتدل لا يتبع سياسة (طالبان) في أفغانستان كانتهاء حقوق النساء والأقليات الدينية، وفي الوقت نفسه يشكل سداً يعزل إيران عن سوريا ولبنان”.

ومضى في تحليله، “أعتقد أن الغرب يمكنه التفكير بالمعادلة من هذه الزاوية، هذا إن استمر الجولاني باتباع المنهجية نفسها. اعتدال في التعامل مع المكونات السورية وتشدد في محاربة الكيانات التي تدعمها إيران في سوريا. هذه الزاوية، يمكن من خلالها أن يلقى الجولاني قبولاً ليكون فاعلاً على الساحة السورية في المستقبل، ولا أقصد هنا بكلمة فاعل أن يكون بديلاً لبشار الأسد فهذا الطرح بعيد بعض الشيء، لكني أقصد فاعلاً بأن يترك ليتحكم بمسار الأحداث ولو موقتاً”.

ديكتاتور براغماتي

أما من حيث احتمال قبوله على الصعيد الاجتماعي، يرى جرعتلي أن الجولاني “كان يواجه نقمة من حاضنته الشعبية بعد الهزائم التي تلقتها المعارضة بين عامي 2019 و2020، وأبرزها خسارة مدينتي سراقب ومعرة النعمان، ثم الوقوف من دون فعل شيء لأربعة أعوام، لكن المكاسب التي حققتها المعارضة اليوم مسحت هذه النقمة، إذ وعد باستعادة هذه المناطق وما بعدها، وصدق وعده. وعلى صعيد آخر كان ينظر له كشخص متطرف ترفضه المكونات التي تراه راديكالياً جاء ليقتص منها، لكن تعامله أخيراً مع أقليات حلب وحماة، وقبلها التطمينات التي قدمها لدروز إدلب، جعلت من حالة الرفض تخضع لتفكير كثيرين”.

الدكتور عرابي عبدالحي عرابي الأكاديمي والباحث في الشأن السوري، يقول بدوره إن “أبو محمد ‏الجولاني يظهر بخطاب جديد ‏ويغير اسمه ‏ولكن كانت هناك حالة اجتماعية ‏ظهرت فيها هيئة تحرير الشام ‏وطبعاً هناك تحولات كثيرة مر بها نفسه، سواء من ناحية مكانته ‏أو تربيته بين عائلة (ناصرية) ‏وأفراد يساريين من أسرته القومية في الأساس، وهي أجواء عاش خلالها حالة انتكاس بعد احتلال العراق ومثل الكثير من الشباب توجهوا إلى بلاد الرافدين للقتال، وهنا ‏ساقته الأقدار واعتقل ووضع في السجن، وفي ذلك التقى بالعديد من القياديين المسلحين، وبعد خروجه من السجن بقي في العراق، وأصبح قريباً من قيادة تنظيم (داعش) الإرهابي وبعد ذلك أرسلوا إلى سوريا”.

“تنظيم إسلامي” بنكهة سورية

يمضي الأكاديمي السوري عرابي في تحليله لشخصية الجولاني بقوله، “نعرف الحكاية عندما حاول تنظيم (داعش) أن يفرض مساراً معيناً على الثورة السورية فحصل انشقاق، والظروف جعلت (جبهة النصرة) تنقسم وبعد ذلك بايع الجولاني (القاعدة). ومن ثم انفك عنها وأسس تنظيماً مسلحاً بنكهة سورية إسلامية وهو هيئة تحرير الشام، وما أراه اليوم أن تلك الجماعة تعرضت للعديد من الانكسارات منذ مارس (آذار) 2020، ما جعلها تغير الكثير من أفكارها وسلوكيتها وأركانها”.

ويقول، “الوجوه التي كانت متطرفة ومتشددة في هيئة تحرير الشام أقصيت عن المشهد وأبعدت من الوصول إلى العسكرة، وحرموا من وظائفهم سواء كان في القضاء أو في الدعوة وحتى في (الحسبة)، وألغيت الكثير من الوظائف التي كانت تعبر عن ‏أيديولوجية معينة. ‏ثم بعد ذلك حاول الجولاني أن يقدم نفسه ‏كبديل محتمل أو شريك ممكن سواء ‏كان في محاربة ‏التنظيمات المتطرفة أو إقصائها ‏أو تصفيتها. وفي النهاية الوصول إلى صيغة تعاون مشترك مع المجتمع الدولي للتوازن بداخل سوريا”.

أما بخصوص احتمالية أن يتعامل معه المجتمع الدولي، فيقول عرابي “نعم أظن ذلك، لأن الجولاني الآن ليس أبو محمد وإنما هو أحمد الشرع، وهذه كناية أنه وضع الألقاب وراءه ويذهب باتجاه دولة المواطنة، ‏وهذا ما أكدته بيانات ‏الهيئة في الفترة الأخيرة، لتكون الهيئة ليست فصيلة ‏وإنما ‏مؤسسة حاولت جمع السوريين ‏في جناحها ‏وتبني وطناً بمشاركة الفصائل الأخرى ‏ومشاركة جميع المكونات السورية”.

ويختم عرابي حديثه بالقول، “لا أظن أن أحمد الشرع سيكون الزعيم المقبل لسوريا. من الممكن أن يكون مقبولاً في المجتمع الدولي، لكن لا أظن أنه سيكون رئيساً لسوريا ‏في الأقل خلال الفترة المقبلة إذا حصل أي حل سياسي. ‏الجولاني رجل دفاع ‏وتخطيط ‏وحنكة وإدراك ‏ولذلك لم يقدم نفسه رئيساً للسوريين، ‏وإنما سيقدم نفسه كجزء في آلة النظام المقبل إذا صح التعبير”.

———————–

المقاتلون الأجانب في سوريا الجديدة… معضلة الوجود والمصير/ مصطفى رستم و اسماعيل درويش

تتوزع خياراتهم بين الاندماج والتجنيس والمغادرة باتجاه أماكن توتر أخرى حول العالم

السبت 11 يناير 2025

يرى مراقبون أن التحدي الكبير أمام الإدارة السورية الجديدة سيكون التوفيق بين ضرورة إقامة علاقات ودية مع المجتمع الدولي والدول التي تنحدر منها كتل المهاجرين، والوفاء بتعهداتها بألا تتحول سوريا إلى مصدر تهديد لدول العالم، وبين إقناع هؤلاء المهاجرين بتعديل أجندتهم والتخلي عن فكرة القتال في أوطانهم.

منذ إسقاط نظام الأسد اعتاد السوريون تنظيم احتفالاتهم في مختلف المدن السورية بعد صلاة الجمعة، أما دمشق فالاحتفال فيها له نكهته الخاصة حيث يقام في ساحة الأمويين الشهيرة وسط العاصمة ويشهد تجمع آلاف وربما عشرات آلاف الأشخاص الذين يحملون العلم السوري الجديد مرددين أهازيج الثورة وأغانيها.

وعلى هامش مسيرات الاحتفال يتجمع عشرات الأشخاص يهتف بهم أحد عناصر “هيئة تحرير الشام” مرددين شعارات دينية، وهذا ما يعزز فكرة المخاوف من قيام حكم متشدد قد لا يتفق عليه جميع السوريين، لكن الحكم المتشدد هو رغبة لدى تيار داخل الهيئة وفق مراقبين، فالخطوات البراغماتية التي تصرف بها قائد الإدارة الجديدة أحمد الشرع ليس بالضرورة أن تلقى موافقة غالبية مجموعات الهيئة، إذ يوجد تيار لا يُخفي تشدده.

المقاتلون الأجانب

والتقت “اندبندنت عربية” عدداً من عناصر “هيئة تحرير الشام” من الجنسيات الأجنبية رفضوا التحدث للإعلام لأنه غير مصرح لهم بذلك وغير مخولين للتحدث للصحافة، فيما أوضح أحدهم بأن لديه رغبة بالبقاء في سوريا والاندماج مع السوريين، وقال إنه “درس الحقوق وينوي فتح مكتب محاماة في دمشق”.

من جانب آخر تحدث آخرون بأنهم لن يتعايشوا مع الوضع الراهن وينتظرون تطورات الأمور في الساحة السورية، فإما أن تقام دولة تحمل طابعاً متشدداً أو أن الرحيل إلى بلد آخر هو مصيرهم.

وعند التحدث مع هؤلاء كان أغلبهم يتحدثون اللغة العربية الفصحى، فيما تحدث أحدهم باللهجة العامية السورية دون ركاكة.

والوجود الأجنبي، ولو على مستوى الأفراد، في سوريا يسبب حرجاً كبيراً للحكومة السورية الجديدة، ومن جهة فإن وجود عناصر تختلف ثقافتهم عن ثقافة الشعب السوري سيخلق مشكلات اجتماعية على غرار ما حصل بين السوريين والأتراك في تركيا، وهناك مخاوف من عدم ذوبان هؤلاء الأشخاص في المجتمع.

أجانب في مناصب قيادية

وارتفعت مخاوف الشارع السوري حيال ما أعلنته الإدارة الجديدة عن تعيينات عسكرية وضعت مقاتلين أجانب في مناصب قيادية ومنحهم رتباً عسكرية ضمن الجيش السوري الجديد الذي يجري تشكيله في خطوة لدمج الجماعات المسلحة في هيكله الرسمي، وأبرزهم الأردني عبدالرحمن حسين الخطيب الذي مُنح رتبة عميد.

وبدأت هذه المخاوف تتزايد ولا سيما لدى الأقليات بعدما أقدم مقاتلون أجانب ظهروا في مقطع مصور يضرمون النار بشجرة عيد الميلاد في مدينة السقيلبية ذات الغالبية المسيحية، إذ تعهدت “هيئة تحرير الشام” بإصلاح الشجرة، بينما تصف إدارة العمليات العسكرية هذه الأحداث وما يرافقها من انتهاكات من قبل هذه الفصائل المتشددة والمقاتلين الأجانب بكونها “تصرفات فردية”.

وتلتزم “الهيئة” بحماية الأقليات في كل اللقاءات الديبلوماسية التي أجراها الشرع مع الوفد العربية والغربية، إذ انضم آلاف المقاتلين الأجانب إلى صفوف المتمردين في سوريا منذ بداية الحرب الأهلية في مواجهة نظام حكم بشار الأسد ومعه ميليشيات مدعومة إيرانياً، بينما انقسمت قوات المعارضة المسلحة إلى فصائل أبرزها “الجيش الحر” وعماده ضباط وجنود انشقوا عن جيش النظام، وفصائل متشددة في مقدمها “جبهة النصرة” وهي فرع من تنظيم “القاعدة”، علاوة على تنظيم “داعش”.

وخسر النظام خلال الأعوام الأولى للصراع ما يقارب 70 في المئة من مساحة البلاد، لتعيد طهران وموسكو السيطرة على تلك الأراضي وينحسر نشاط قوات المعارضة في الشمال السوري بإدلب وأريافها مع حلب منذ عام 2017 وحتى سقوط النظام في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024.

مقبولية التجنيس

وحول مصير المقاتلين الأجانب قال السياسي السوري عمر رحمون، وهو أحد رموز النظام السابق، في حديثه إلى “اندبندنت عربية”، إن “هذا السؤال أجاب عنه أحمد الشرع نفسه عندما قال سنعطي الجنسية للمقاتلين الأجانب الذين ساعدونا في القتال ضد النظام السابق وبعضهم تجاوز السبعة أعوام ويمكنهم الانسجام مع المجتمع، ولكن هل يقبل السوريون وهم من كانوا ضد تجنيس الإيرانيين وغيرهم من باكستانيين وأفغان؟”.

ويرى مراقبون أن مصير العناصر الأجانب في “هيئة تحرير الشام” بعد سقوط النظام السوري مرهون بخيارات محدودة، تتمثل في بقاء الوضع الراهن، وهذا الخيار سيكون هو الأمر الواقع في حال لم تشهد سوريا استقراراً، فإذا تجدد النزاع فسيكون لتلك العناصر دور في القتال، ويبقى وضعهم القانوني كما هو.

أما الخيار الثاني فهو التفريق بينهم، أي فصل العناصر الأجانب الذين يندمجون مع السوريين ويجري تجنيس هؤلاء بعد استيفاء الشروط القانونية، وينضم من يرغب منهم إلى الجيش الرسمي بينما يتابع الآخرون حياتهم المدنية، أما القسم الثاني فهم المتطرفون غير الراضين عن سياسات أحمد الشرع الجديدة، وهؤلاء سيكون مصيرهم التصفية أو الاعتقال أو الترحيل خارج البلاد.

والخيار الثالث هو المغادرة الطوعية، فربما تقرر فئة من العناصر الأجانب في “هيئة تحرير الشام” اختيار الخروج من سوريا لعدم بقاء سبب يتطلب وجودهم، فمنهم من يعود لبلده الأصلي ومنهم من ينتقل إلى مناطق نزاع أخرى.

ويعد تجنيس المؤهلين منهم خياراً رابعاً، وهو ما تحدث عنه الشرع بصورة غير مباشرة وتحدثت عنه مصادر مقربة منه بصورة مباشرة، ويشمل إجراء درس قانوني لتجنيس كل من يستوفي شروط الحصول على الجنسية، وخصوصاً المتزوجين من مواطنات سوريات، بينما يجري منح الإقامة لمن لا يستوفي شروط الجنسية، والبحث عن خيار ثالث لرافضي الاندماج في المجتمع السوري.

وهناك خيار خامس يتضمن ترك مصيرهم للحكومة السورية المعترف بها دولياً، فقرار التجنيس وغيره في ما يتعلق بالأمن القومي ليس من صلاحيات حكومة تصريف الأعمال اتخاذه، ولذلك فمن المرجح جداً ترحيل هذا الملف إلى انتهاء المرحلة الانتقالية لتبت فيه الحكومة السورية المقبلة التي من المقرر أن تحصل على اعتراف دولي في حال كانت حكومة شاملة.

تسليم “دواعش”

وفي السياق صرح مصدر مقرب من “هيئة تحرير الشام” لـ “اندبندنت عربية”، رفض الكشف عن هويته، أنه “في عام 2023 جرى تسليم 17 شخصاً يحملون الجنسية الأذربيجانية من المتهمين بالانتماء لتنظيم ‘داعش’ إلى بلدهم الأصلي”، مضيفاً أنه “في عام 2020 كان عدد الأجانب مع عائلاتهم نحو 10 آلاف شخص، وبعد سقوط أفغانستان بيد حركة طالبان غادر كثير من الأفغان، وخلال الأعوام الماضية جرى إبعاد عدد كبير من المتشددين أو المتهمين بالانتماء لتنظيم ‘داعش’ وبقي اليوم نحو 4 آلاف أجنبي، وهذا العدد يشمل المقاتلين مع عائلاتهم”.

وقال الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية عباس شريفة إنه “من يقبل منهم بالاندماج والمواطنة السورية وفق القانون، إذا كان مؤهلاً للحصول على الجنسية السورية، فسيجري في الغالب منحه الجنسية، أما من ليس له رغبة في الاندماج داخل الدولة السورية وفق قانونها الجديد فأعتقد أنه سيجري التعامل معه بطريقة أو بأخرى”.

ويستبعد شريفة أن يجري تسليم هؤلاء العناصر إلى دولهم من دون تسوية أوضاعهم لأن عدداً كبيراً منهم لديه قضايا أمنية في دولهم الأصلية.

“أصبحت من الشعب السوري”

واستطاع عدد من المقاتلين الأجانب في صفوف “هيئة تحرير الشام” خلال فترة بقائه الطويلة من الاندماج مع السوريين، ومنهم من تزوج من مواطنة سورية، ويقول مقاتل من طاجيكستان خلال حديثه لـ “اندبندنت عربية” إنه تزوج من فتاة سورية وأسس عائلة، مضيفاً “أنا أعيش هنا منذ أعوام وأصبحت من هذا الشعب ومندمجاً للغاية، وأشعر أني ولدت في سوريا، فهي وطني وأدافع عنها وزوجتي وأولادي سوريون”.

ويتوقع الباحث في شؤون الصراعات العربية والإسلامية عبدالغني مزوز أن “شريحة عريضة من المقاتلين الأجانب سيجري دمجها في أسلاك الجيش السوري الجديد، ولا مشكلة لديها في هذا التوجه، وقد ظهر هذا في منح رتب عسكرية رفيعة لقادة المهاجرين، فمنح رتبة عميد قائد ‘الحزب الإسلامي التركستاني’ وقائد ‘جيش المهاجرين والأنصار’ أما كتل المهاجرين الأخرى مثل المغاربة والتونسيين والمصريين فقد دمجت نفسها قبل أعوام في البنية التنظيمية للهيئة”.

وأضاف مزوز أن “هذا الخيار ستسبقه بالضرورة خطوات إجرائية أخرى مثل التجنيس والحل الكامل للمجموعات العسكرية الوافدة من خارج سوريا وتسوية الأوضاع القانونية للعناصر المطلوبة في بلدانها”، معتقداً أن “قيادة الهيئة تراهن على خيار الدمج في الجيش السوري الجديد لمعالجة مسألة المهاجرين، لكن ثمة إشكالات عدة مرتبطة بهذا الخيار مثل هل سيوافق كل المقاتلين الأجانب على هذا الإجراء؟ وماذا عن أولئك الذين اعتبروا سوريا مجرد محطة عبور موقتة يعودون بعدها للقتال في بلدانهم الأصلية، وقد حافظوا طوال أعوام الثورة على هويتهم المميزة ولم يخفوا أجندتهم القائمة على العودة للقتال في أوطانهم بعد إعداد العدة في سوريا وصقل مهاراتهم الحربية مثل مجموعات التركستان والقوقاز والطاجيك والأوزبك والإيرانيين من جماعة مهاجري أهل السنّة”.

لا احصاءات دقيقة

في غضون ذلك لا توجد احصاءات دقيقة عن أعداد المقاتلين الأجانب العاملين مع “هيئة تحرير الشام” منذ حضورهم للقتال عام 2013، لكن التقارير تشير إلى 3800 مقاتل من جنسيات عدة أبرزهم الإيغور والألبان والقوقاز والتركستان والأوزبك والشيشان، في وقت اعتبر أحمد الشرع أن “المقاتلين الأجانب الذين يقاتلون في صفوف المعارضة المسلحة يستحقون المكافأة، إذ ساعدوا هيئة تحرير الشام في الإطاحة بنظام بشار الأسد”. وأضاف خلال اجتماع بمقر مجلس الوزراء أنه “إذا أخذنا في الاعتبار أن الأشخاص الذين كانوا في بلد آخر مدة سبعة أعوام يحصلون على الجنسية، فيجب أن يكون ذلك خارج نطاق المستحيلات، ويمكن دمجهم في المجتمع السوري إذا كانوا يحملون أيديولوجية وقيم السوريين نفسها”.

“سوريا للسوريين فقط”

ومع هذا يجزم الباحث والكاتب السياسي أحمد سعدو في حديث خاص بأنه “لن يكون في سوريا الجديدة أي مكان للمقاتلين الأجانب”، سواء الذين أتوا من جبال قنديل أو من أمكنة أخرى، “سوريا للسوريين وفقط، وعلى كل من أتى لأسباب عسكرية أو قومية أو أيديولوجية أن يعود من حيث أتى”.

ولم يخف الكاتب سعدو تخوف السوريين حيال تلك المسألة واعتبر أن “ذلك من حقهم، فاستمرار وجود مقاتلين غير سوريين على الأرض السورية من الممكن أن يشكل عامل جذب لإشكالات ليست مريحة لمن يبني بلده بعد 54 عاماً من حكم الطغاة”. وتابع، “لذلك لا شك أنهم سيعودون ولا مكان لهم في سوريا، ويكفي ما حصل للبلاد خلال 14 عاماً من القمع والعنف الأسدي”، مردفاً “بحسب تصوري فإن منح الرتب موضوع شكلي وفخري ولن يترتب عليه أي شيء آخر، لا جنسية ولا امتيازات، إذ لا يمكن فعل ذلك في ظل إدارة جديدة تبني الوطن السوري وتتجنب أية مشكلات مع الدول الأخرى، وهو ما قاله السيد أحمد الشرع في أكثر من تصريح”.

الوجهة الجديدة أوكرانيا

وفي المقابل يتوقع مراقبون أن يتجه المقاتلون الأجانب في سوريا إلى أوكرانيا للقتال إلى جانب كييف خلال الحرب الروسية المندلعة منذ فبراير (شباط) 2022، وتشير تقارير روسية إعلامية بوصول ضباط أوكرانيين إلى الشمال السوري في مايو (أيار) الماضي حيث أجروا اجتماعات مع قيادة “الحزب الإسلامي التركستاني” و”أجناد القوقاز”، وهما فصيلان مدرجان على لوائح الإرهاب الدولية، وأعلنت كييف منح هؤلاء الجنسية الأوكرانية في حال مشاركتهم بالحرب ضد روسيا.

وفي الأثناء لا يقتصر انتشار ميليشيات أجنبية في سوريا على المعارضة، إذ انسحبت فصائل كانت تساند النظام من جنسيات عربية وأجنبية إلى طهران، ومنهم عبر الحدود اللبنانية بينما يوجد مقاتلون أجانب يساندون “وحدات حماية الشعب” الكردية في حربها ضد الجيش التركي والفصائل المحلية السورية، ومنها “الجيش الوطني السوري” خلال تصاعد العمليات الميدانية بعد الإطاحة بالأسد وفراره إلى موسكو، وتمكنت تركيا والفصائل السورية المدعومة من قبلها من السيطرة على مدينة منبج.

وكشف القائد العام لـ “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) والتي تعد “وحدات الحماية الكردية” عمودها الفقري، مظلوم عبدي، عن عودة المقاتلين الأجانب الذين قدموا الدعم للقوات الكردية لسوريا، ومن المرجح مغادرتهم في حال التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق نار مع أنقرة، وهذا مطلب تركي إذ تعتبر أنقرة أن هذه الوحدات المقاتلة تهدد أمنها القومي.

ومع كل ذلك يعتبر الباحث في شؤون الصراعات العربية والإسلامية عبدالغني مزوز أن “التحدي الكبير أمام الإدارة السورية الجديدة سيكون التوفيق بين ضرورة إقامة علاقات ودية مع المجتمع الدولي والدول التي تنحدر منها كتل المهاجرين، والوفاء بتعهداتها بألا تتحول سوريا إلى مصدر تهديد لدول العالم، وبين إقناع هؤلاء المهاجرين بتعديل أجندتهم والتخلي عن فكرة القتال في أوطانهم”، مضيفاً أن “انصياع المقاتلين الأجانب لقرارات الإدارة السورية الجديدة رهن بمدى استجابة النظام السياسي المزمع تأسيسه لتوقعاتهم في شأن شكل الدولة ومطالبهم بتطبيق الشريعة وإلا فإنهم سيكونون أمام خيارات ثلاثة، إما التمرد على النظام السياسي الجديد أو التسرب نحو مناطق سيطرة ‘داعش’ أو مغادرة سوريا إلى بؤر توتر جديدة في أفريقيا أو اليمن أو حتى أفغانستان”.

—————————————–

هل تتخلى أميركا عن “قسد” لمصلحة تركيا والشرع؟

مسؤول كبير في واشنطن قال في حوار حضرته “اندبندنت عربية” إن بلاده متفطنة إلى عدم استغلال وجودها في سوريا، مؤكداً أهمية “إعادة دمج سوريا في النظامين الإقليمي والدولي”

السبت 11 يناير 2025

ملخص

أوضح المسؤول الأميركي في تصريحاته التي أدلى بها “أون لاين” إلى الصحافيين أن الوجود الأميركي في سوريا يهدف إلى “منع عودة تنظيم ’داعش‘ وضمان استقرار الأوضاع الأمنية في المنطقة”

في إطار السعي الدولي إلى حل الأزمة السورية المستمرة منذ أكثر من عقد، زار القائم بأعمال وكيل وزارة الخارجية الأميركية جون باس أنقرة لإجراء محادثات مكثفة حول مستقبل سوريا والانتقال السياسي فيها. ناقشت الاجتماعات قضايا أمنية واستراتيجية عدة، بما في ذلك ضمان استقرار المنطقة ومنع عودة تنظيم “داعش”.

أوضح باس في تصريحاته التي أدلى بها “أون لاين” إلى الصحافيين أن الوجود الأميركي في سوريا يهدف إلى “منع عودة تنظيم ’داعش‘ وضمان استقرار الأوضاع الأمنية في المنطقة”. وأكد أن القوات الأميركية تعمل بالتنسيق مع حلفائها لضمان عدم استغلال هذا الوجود من قبل جماعات مسلحة لتقويض أمن دول الجوار، في إشارة إلى “قسد” والميليشيات الكردية مختلفة الانتماءات.

وأضاف “نحن ندرك أهمية تحقيق توازن دقيق بين طمأنة الشركاء الإقليميين وضمان عدم تحول وجودنا إلى ذريعة لأي أنشطة عدائية أو تصعيدية.”

كما أشار باس إلى أن إدارة واشنطن تعمل بصورة مستمرة على تقييم استراتيجياتها لضمان أن يظل وجودها في سوريا داعماً للانتقال السياسي من دون أن يفاقم التوترات الإقليمية.

وكشفت تسريبات إعلامية عن رعاية واشنطن حواراً عصياً بين الإدارة الانتقالية في دمشق بقيادة أحمد الشرع و”سوريا الديمقراطية” بقيادة مظلوم عبدي، في وقت تضغط أنقرة لرفع أميركا يدها عن الأكراد السوريين، للدفع نحو دمجهم في التسوية السورية الشاملة، من دون منحهم امتيازات استثنائية مثل إدارة ذاتية.

ورداً على ضغط بلاده على “سوريا الديمقراطية” في شأن المقاتلين الأجانب لديها من مثل أعضاء حزب العمل الكردستاني، أجاب “نحن نتفق مع الحكومة التركية على ضرورة ألا تكون سوريا ملاذاً آمناً للمنظمات الإرهابية الأجنبية أو المقاتلين الإرهابيين الأجانب سواء كان ذلك اليوم أو في المستقبل”.

تخفيف العقوبات يتوسع

في ما يتعلق بالدعم الخليجي للحكومة الموقتة في سوريا، قال باس “أجرينا نقاشات بناءة مع شركائنا في دول الخليج حول كيفية تقديم المساعدة للحكومة الموقتة في دمشق لضمان قدرتها على تقديم الخدمات الأساسية للسكان.”

وأوضح أن المساعدات تشمل دعم دفع رواتب الموظفين المدنيين وتوفير الكهرباء والطاقة، مشدداً على أن “هذا الدعم لا يهدف فقط إلى تخفيف معاناة الشعب السوري، بل أيضاً إلى تعزيز استقرار الحكومة الموقتة كجزء من عملية الانتقال السياسي.”

وأكد أن الولايات المتحدة تسعى إلى تكييف أنظمة العقوبات بصورة تدعم الجهود الإنسانية من دون الإضرار بالمسار السياسي.

مع اقتراب دخول إدارة أميركية جديدة إلى البيت الأبيض تسود حال من الترقب في شأن سياساتها تجاه الملف السوري، فيما أشار باس إلى أن الإدارة المقبلة ستواجه قرارات حاسمة تتعلق بمستقبل الوجود الأميركي في سوريا ودور واشنطن في دعم الاستقرار الإقليمي.

وقال “إن أي إدارة أميركية ستجد نفسها أمام تحدي تحقيق توازن بين المصالح الاستراتيجية في المنطقة ودعم الجهود الإنسانية. سوريا تمثل اختباراً حقيقياً لمدى الالتزام الدولي حل النزاعات المستعصية.”

وأوضح باس أن فريق ترمب سيحتاج إلى إعادة تقييم سياسات العقوبات وتوسيع الحوار مع دول الجوار لضمان توافق الجهود الدولية والإقليمية.

إعادة دمج سوريا في الإقليم

وفي ما يتعلق بدعم بعض دول الإقليم الحكومة الحالية في دمشق، قال باس “أوضحنا لشركائنا الإقليميين أهمية توجيه أي دعم نحو تحقيق الاستقرار وليس تعزيز الانقسامات”، وأكد أن واشنطن تحث على خطوات تسهم في الانتقال السياسي وتخفيف معاناة الشعب السوري. وأضاف “نحن نرى أن أي دعم موجه للحكومة الحالية يجب أن يرافقه التزام إجراءات عملية تساعد على تحقيق التوازن في الداخل السوري”. وأكد أن الإدارة المقبلة ستواصل الضغط لضمان توجيه الجهود نحو تحقيق حل سياسي مستدام.

وأشار باس إلى أن “إعادة دمج سوريا في النظامين الإقليمي والدولي تتطلب تعاوناً واسعاً لضمان استقرار طويل الأمد”. وأكد أن واشنطن تعمل مع دول الجوار لتقديم حلول تحقق التوازن بين تعزيز الأمن ودعم الانتقال السياسي.

وأضاف “إن التحديات في سوريا لا يمكن أن تحل بمعزل عن التعاون الإقليمي والدولي. نحن ملتزمون العمل مع شركائنا لضمان نجاح المرحلة المقبلة.”

مخيم الهول وسجناء “داعش” وإسرائيل

أحد التحديات الأمنية البارزة التي تواجه سوريا والمنطقة هو التعامل مع مخيم الهول وسجناء تنظيم “داعش”. أكد باس أن “هذا الملف يمثل أولوية قصوى، إذ إن المخيم يضم عشرات الآلاف من النساء والأطفال الذين يعيشون في ظروف كارثية، إضافة إلى خطر استغلاله كمصدر لتجنيد العناصر الإرهابية.” وأضاف “يجب على المجتمع الدولي العمل معاً لتقديم حلول طويلة الأمد، تشمل إعادة تأهيل السجناء وإعادة دمج العائلات المؤهلة في مجتمعاتهم، بالتوازي مع اتخاذ خطوات أمنية صارمة لمنع أي تهديدات مستقبلية.”

وشدد على “ضرورة أن يغادر أي إرهابي أجنبي موجود داخل سوريا البلاد. وينبغي أن يعود عدد كبير من هؤلاء الأشخاص إلى بلدانهم الأصلية والبلدان التي يحملون جنسيتها في الحالات المثالية، وذلك من خلال عملية مسؤولة تشارك فيها تلك الحكومات حتى يمثلوا أمام القانون بسبب أفعالهم”، وهو في هذا السياق لا يتحدث عن سجناء “داعش” فحسب، ولكن كذلك عن الأجانب المقاتلين في صفوف “قسد”.

لكن الإشكالية مع “قسد” تتجاوز هذه الشريحة من المقاتلين، إلى طبيعة الامتيازات التي تدافع للحصول عليها، وسط احتماء كيانها السياسي بالأميركيين والتذرع بسجناء “داعش”، بافتراض أن قيادة دمشق الجديدة قد لا تكون قادرة أو مأمونة على إدارة الملف المعقد.

حول العلاقة بين سوريا وإسرائيل، قال باس “إننا ندرك أهمية معالجة التوترات المستمرة بين الجانبين، ونؤمن بأن تخفيف التصعيد هو خطوة أساس نحو تحقيق استقرار شامل في المنطقة.”

وأكد أن واشنطن تدعم الجهود الرامية إلى منع تحول سوريا إلى ساحة للصراعات بالوكالة، قائلاً “نحن ملتزمون العمل مع شركائنا الإقليميين لضمان تحقيق توازن يضمن أمن المنطقة من دون تعريضها إلى مزيد من الأخطار”.

وخلص إلى أن “تحقيق الاستقرار في سوريا يتطلب إرادة دولية وجهوداً منسقة. علينا أن نعمل جميعاً لضمان ألا تعود الفوضى أو تستغلها الجماعات المتطرفة لتحقيق أهدافها.”

————————

تركيا وأكراد سوريا: حرب أم صدام؟/ وليد فارس

المواجهة العسكرية المباشرة تمثل أحد الخيارات المطروحة، ولن يحقق فيها أحد نصراً حقيقياً في ظل الظروف الحالية

السبت 11 يناير 2025

يواصل الجيش الوطني السوري، بأوامر مباشرة من أنقرة، الاشتباك عسكرياً مع قوات سوريا الديمقراطية، ولكن من دون دعم جوي ستجد الميليشيات المحلية المتطرفة صعوبة في هزيمة قوات سوريا الديمقراطية.

يركز المراقبون في الغرب على الصراع بين الحكومة التركية وأكراد سوريا في شمال شرقي البلاد، في منطقة يصفها الأكراد بـ”روجافا”. والصراع التركي – الكردي في سوريا هو أعمق من “غزوة هيئة تحرير الشام” للمدن السورية والعاصمة دمشق، فالصدام يعود لقيام حركة قومية كردية ماركسية ثورية خلال الحرب الباردة بدأت داخل تركيا العلمانية الجمهورية، وباتت صراعاً بين أكراد اليسار والتيار الكمالي على عقود، وتخلله أعمال عنف، بخاصة في شرق البلاد بين “الثوريين الأكراد” والدولة التركية. وطرح القوميون – الماركسيون بقيادة تنظيم “حزب العمال الكردستاني” الذي كان يترأسه عبدالله أوجلان انفصالاً كردياً عن تركيا وانفصال أكراد سوريا والعراق، وربما إيران، عن دولهم.

انتقلت الحركة إلى سوريا ووجدت داعمين في شمال البلاد بين أفراد المجتمع، ففي البداية قدم لها نظام البعث بقيادة حافظ الأسد الدعم في سياق الحرب الباردة. كانت المعادلة طبيعية، إذ كانت تركيا عضواً في الناتو، بينما كان نظام الأسد حليفاً للاتحاد السوفياتي. ومع ذلك حذرت الحكومة التركية العلمانية نظام الأسد في عام 1999 من أن هجوماً شاملاً على سوريا كان وشيكاً إذا بقي حزب العمال الكردستاني وأوجلان في سوريا ولبنان. انسحب التنظيم من البلدين، وقبض على زعيمه في أفريقيا ونقل إلى تركيا، لكن تأثير الحزب ظل موجوداً داخل المجتمعات الكردية حتى اندلاع الحرب الأهلية السورية في عام 2011.

بصورة طبيعية، نظم السكان الأكراد في شمال شرقي سوريا قوات محلية لحماية أراضيهم وسكانهم من الجماعات المتطرفة ونظام الأسد، وفي عام 2011 شكلوا وحدات حماية الشعب. في جميع أنحاء سوريا تشكلت جيوب محلية حول النظام، بمن في ذلك المتطرفون العرب والمعارضون للبعث، والقبائل في الجنوب، ووحدات محلية درزية.

وفي عام 2012 أطلق فصيل من القاعدة جماعة إرهابية باسم “جبهة النصرة”، التي أصبحت بعد أعوام تعرف بحركة تحرير الشام (أتش تي أس). اتهمت السلطات التركية وحدات حماية الشعب بأنها تمويه لعودة حزب العمال الكردستاني، لكن أيديولوجية وحدات حماية الشعب على رغم اشتراكها في الفكر القومي مع حزب العمال الكردستاني الماركسي القديم، ركزت على حماية منطقة حرة تدعى “روجافا” داخل سوريا من دون ادعاءات تتجاوز حدود هذا البلد.

منذ ذلك الحين دعمت حكومة حزب العدالة والتنمية ميليشيات عربية سنية ذات أيديولوجية متطرفة لدفع وحدات حماية الشعب إلى التراجع، وفي عام 2014 سيطر تنظيم “داعش” على أجزاء كبيرة من العراق، بخاصة المناطق السنية، وشن هجمات على منطقة إقليم كردستان العراق في شمال البلاد، وسيطر على جزء كبير من سوريا دافعاً القوات الكردية شمالاً. وفي العراق تعرضت مجتمعات الأيزيديين والمسيحيين لمجازر على أطراف كردستان العراق وقتل عدد من الأكراد، كما تعرض الأكراد والأقليات الأخرى في شمال شرقي سوريا لهجمات شديدة.

اعتباراً من عام 2015 جرى تشكيل تحالف بقيادة الولايات المتحدة لتدمير “داعش”، شمل حينها البشمركة في شمال العراق ووحدات حماية الشعب (واي بي جي) في سوريا، لكن الأخيرة تضمنت مسلحين عرباً سنة وسرياناً مسيحيين، إذ شكلوا تحالفاً محلياً جديداً يدعى قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وجرى تدريب وحماية هذه القوات من التحالف الأميركي وأصبحت قوة رئيسة على الأرض لمواجهة المتطرفين.

رفض حزب العدالة والتنمية الحاكم في أنقرة إدراج قوات سوريا الديمقراطية في التحالف، متهماً بأن هذه القوات بقيادة حزب العمال الكردستاني. في عام 2018 ضغط الرئيس رجب طيب أردوغان على الرئيس دونالد ترمب لسحب قوات سوريا الديمقراطية والسكان من المنطقة الحدودية بين سوريا وتركيا، ووافق ترمب على الصفقة لكنه سمح في المقابل للقوات الأميركية بتعزيز “قسد”.

في عهد إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، بقي الوضع كما هو حتى السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، إذ أدى اندلاع الحروب الإسرائيلية مع “حزب الله” و”حماس” والميليشيات الإيرانية إلى تغيير ميزان القوى داخل سوريا.

وفي ديسمبر (كانون الأول) 2024، بعد أن دمرت إسرائيل البنية التحتية لـ”حزب الله” وقضت على قيادته وأضعفت الحرس الثوري الإيراني (الباسدران) داخل سوريا و”حماس” في غزة، شن مسلحو هيئة تحرير الشام المتمركزين في إدلب والمدعومين من تركيا هجوماً خاطفاً على حلب، واستولوا على المدينة بسرعة، ثم تقدموا إلى حماة ثم حمص، وبسرعة خاطفة وصلوا إلى دمشق وسيطروا عليها. غادر الأسد البلاد، وانهار الجيش السوري.

أعلنت هيئة تحرير الشام نفسها نظاماً مسيطراً، وسرعان ما وجدت نفسها في مواجهة مع قوتين في الأقل داخل سوريا. في الجنوب رفضت القوات الدرزية في السويداء أن تحل نفسها وتنضم إلى النظام الجديد، لكن الأهم من ذلك في الشمال الشرقي أخبرت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) هيئة تحرير الشام بأنها لن تحل نفسها، وستظل مستقلة.

في الوقت نفسه تقدمت الميليشيات المتطرفة الثانية في الشمال، الجيش الوطني السوري (أس أن أيه)، بأوامر من أنقرة نحو منبج وقوات سوريا الديمقراطية، لكن الأخيرة أوقفتها. بينما تنشغل هيئة تحرير الشام بتعزيز سيطرتها في العاصمة ومحاولة تشكيل حكومة فعالة، فإنها ستتعامل مع قوات سوريا الديمقراطية لاحقاً، إضافة إلى ذلك، لا يمكنها الاشتباك مع القوات الأميركية في الشمال الشرقي.

يواصل الجيش الوطني السوري، بأوامر مباشرة من أنقرة، الاشتباك عسكرياً مع قوات سوريا الديمقراطية. ولكن من دون دعم جوي ستجد الميليشيات المحلية المتطرفة صعوبة في هزيمة قوات سوريا الديمقراطية، كما تخاطر بالتعرض لضربات من القوات الجوية الأميركية. ومن هنا يبقى السؤال الرئيس، هو ما إذا كانت حكومة حزب العدالة والتنمية ستأمر الجيش التركي والقوات الجوية بالتدخل بصورة كاملة ضد قوات سوريا الديمقراطية.

تركيا وقوات سوريا الديمقراطية تتصادمان عبر ميليشيات مثل الجيش الوطني السوري، ولكن إذا صدرت أوامر للقوات التركية بغزو “روجافا” بصورة مباشرة، فمن المؤكد أنها ستتمكن من السيطرة على أراض، ولكن هناك عواقب محتملة. أحد هذه العواقب هو رد فعل القوات الأميركية، بخاصة في ظل إدارة الرئيس المنتخب دونالد ترمب، إذ لا يمكن تقديم تنازلات إقليمية كبيرة في شمال سوريا. إضافة إلى ذلك، فإن المجال الجوي فوق “روجافا” يخضع لسيطرة أميركية، بصورة رئيسة ضد “داعش”. فكيف ستعمل الطائرات الحربية الأميركية والتركية في تلك المنطقة، واحدة تهاجم والأخرى تدافع عن المجموعة نفسها على الأرض؟

وإذا شن الجيش التركي وميليشياته المتطرفة هجوما ضد الأكراد والمسيحيين والقبائل العربية، هل ستقف القوات الأميركية مع شركائها على الأرض أم لا؟ كل هذا يعتمد على الرأي العام داخل الولايات المتحدة وداخل تركيا.

في أميركا، اسم الأكراد يلهم عدداً من أعضاء الكونغرس وشريحة كبيرة من الجمهور على اليمين واليسار. غالبية من الحزبين ستضغط على الإدارة لوقف مثل هذا الصراع، وعلى مستوى آخر فإن حرباً عسكرية مباشرة بين قوات سوريا الديمقراطية والقوات التركية قد يكون لها بعض التأثيرات داخل تركيا التي ستؤدي إلى عواقب مالية واقتصادية على الاقتصاد التركي، أضف إلى ذلك الهشاشة الإقليمية مع التوترات مع اليونان وقبرص، وفي النهاية مع الاتحاد الأوروبي.

يمكن وصف الوضع الحالي بين تركيا وقوات سوريا الديمقراطية بالمواجهة، لكن هل يمكن أن يتطور إلى حرب شاملة؟ سيحتاج ذلك إلى قرار حرب في أنقرة وتشجيع أميركي، وقد ينتهي بجراح مفتوحة، لكن الخيارات الأخرى ليست مستحيلة.

وفقاً لمصدر، فإن التزام قوات سوريا الديمقراطية الابتعاد من حزب العمال الكردستاني قد يكون حجر الأساس لحل ممكن. خيار آخر هو إجراء مفاوضات مشتركة تشمل جميع الأكراد في المنطقة، بما في ذلك إقليم كردستان العراق و”روجافا”، في مؤتمر يعقد في أربيل وقد يحظى بدعم أميركي.

والخيار الأخير المقبول هو الحرب المباشرة، التي لن يحقق فيها أحد نصراً حقيقياً في ظل الظروف الحالية.

———————————-

سؤال يقلق الداخل والخارج: سوريا إلى أين؟/ محمد بدر الدين زايد

يتحسب الجميع لاحتمالات صدام بين الفصائل المسلحة المختلفة وهي مسألة واردة

السبت 11 يناير 2025

نحن أمام قوى مسلحة سورية ومعها عناصر أجنبية تأتمر بالقرار التركي الذي لا يتطابق كلياً مع المصالح السورية، ويكفي هنا تذكر الأطماع الجغرافية التركية في أراضي سوريا، ومشكلة المياه كذلك.

التساؤلات في شأن مستقبل سوريا أكثر من الإجابات، والأسئلة تشغل جميع المعنيين في الحكومات في المنطقة وخارجها ولدى دوائر البحث والإعلام ولدى المواطنين في سوريا وخارجها، والأسئلة الكبرى من عينة هل سيستقر النظام الجديد؟ أو هل سيتمتع بقدر من الاستمرارية؟ وهل ستنجح التجربة في إنتاج نموذج حكم رشيد؟ وهل ستمتد آثارها للتأثير في نظم سياسية أخرى في المنطقة أم لا؟ ومن الواضح أن هذه الأسئلة تحديداً، وجدت من البعض إجابات سريعة ومن البعض الآخر إدراكاً عميقاً بالمعضلة.

من الواضح أيضاً أن التساؤل الأول هو الذي يشغل معظم الناس، وأن التعاطي مع هذا البعد تباين بحسب التوجهات والمصالح، ما بين تيارين حددا مواقفهما بناءً على التوقعات في شأن سؤال النجاح، وفي الواقع أن هذا النجاح له دلالتان، أولاهما مجرد الاستقرار في الحكم لفترة من الوقت، بينما الدلالة الثانية مما نقصده بالنجاح هو تقديم نموذج سوري للحكم قابل للاستمرارية وتحقيق مصالح الشعب السوري، ويكون ملهماً لشعوب المنطقة، وهو ما يقودنا إلى البعد أو التساؤل الثالث المتعلق بالتداعيات على بقية المنطقة.

معضلة النموذج الإسلامي

ولأن الأسئلة متداخلة ويقفز في قلبها أصعبها، وهو هذا السؤال: هل يمكن لقادة الميليشيات وعلى رأسهم أحمد الشرع، الذي تحيط به توقعات وكثير من التفاؤل واحتفاء ضمني غربي واضح، وإلى حد ما من قطاعات ودوائر عربية عديدة، أن يقدم هذا النموذج الناجح للحكم الذي يطوي صفحة الماضي ويعطي دفعة جديدة لمفاهيم الإسلام السياسي.

والقضية مطروحة على العقل العربي والإسلامي منذ عقود، ولها زوايا عدة، وعرفت أول بلورة محددة منذ طرح حركة “الإخوان المسلمين” في مصر، التي عاشت كحركة معارضة عقوداً، وتمكنت من الوصول إلى الحكم فترة عام واحد وأُطيحت بحركة شعبية واسعة، ووصلت إلى الحكم في تونس حيث أخفقت أيضاً، وأزيلت بالانتخابات لاحقاً.

وفى حال السودان وصلت إلى الحكم متحالفة مع انقلاب عسكري للرئيس السابق عمر البشير، وحكمت أعواماً طويلة، وأخفقت، ولم تستطع تقديم نموذج سياسي مستقر، بل تركت إرثاً مؤلماً للشعب السوداني.

ويراهن البعض بطرح النموذج التركي لحزب الرئيس رجب طيب أردوغان “الحرية والعدالة”، ولكونه خلف القيادة المسيطرة في سوريا سيعني ذلك إمكانية استنساخه في دمشق.

من ناحية أخرى أسفر توظيف الدين في السياسة أو الرؤية السياسية للإسلام أيضاً نموذج الولي الفقيه أو النموذج الشيعي الإيراني.

هنا يجب مناقشة ثلاثة أبعاد في الأقل، وهي فكرة الحاكمية وكل من نموذج تركيا ونموذج إيران. أما الحاكمية فلا أظن أن أحداً يجادل في أنها قلب فكرة الحكم السياسي في العصر الحديث، التي جاء بها تنظيم “الإخوان المسلمين” بجذوره الفكرية منذ كتابات أبو الأعلى المودودي، والتي انتقلت منها إلى كل التنظيمات المتشددة وعلى رأسها “القاعدة” وتنظيم “داعش”، فقبل طرح مسألة الخلافة ومكانتها في هذا الفكر الإسلامي السنى يجب الانطلاق من أن الفكرة المحورية هي فكرة أن الحاكمية لله وليس لبشر ولا دستور، لذا فالفكرة تؤسس لحكم سياسي الأساس فيه لم يكن الفكرة النيابية، وعندما عدل تنظيم “الإخوان” من رفضه فكرة التمثيل الديمقراطي النيابي فقد كان الهدف أن هذه مرحلة انتقالية وليس بعدها إلا ترسيخ الحكم، أما من لم يقبل هذه المرحلة الانتقالية فهم الذين تبنوا الأفكار الأكثر تشدداً مثل “القاعدة” وتنظيم “داعش” و”طالبان” وغيرها.

النموذج التركي مغاير لهذه الخلفية، فقد بدأ من إطار آخر لحكم علماني يرفض توظيف الدين كان يعايش صراعاً تاريخياً من المكون العسكري المؤسس لكل من الدولة والعلمانية وما بين الممارسة الديمقراطية، وجاءت التيارات السياسية والاجتماعية التي أرادت أن تنهى حالة الاغتراب السياسي والفكري التي رسختها التجربة الأتاتوركية، من هنا كان حرص أردوغان على إبراز مفهوم العلمانية وأن حكمه لا يستند إلى ثيوقراطية دينية. إذاً، فالتجربة بالأساس حتى الآن تأخذ المكون الثقافي المتعلق بالهوية والمحتوى الأيديولوجي لفكرة الإمبراطورية التي يجد فيها الحكم صدى وجاذبية شديدة لدى شعب يميل لهذا المكون.

ويشكل النموذج الشيعي السياسي الإسلامي طريقاً آخر له سماته الخاصة وتشابهات، فهو أيضاً يقبل الفكرة البرلمانية، ولكنها شكلية لا تزيد على تحسين شكل النظام، ويستبدل بفكرة الخلافة فكرة أعمق في التراث الفكري والسياسي الشيعي وهي فكرة الولي الفقيه، وهنا تصدر الفتوى من المرشد العام للثورة الخميني ثم خامئني حالياً لتكتسب قوة ووزناً سياسياً في حقيقة الأمر تفوق الوزن النظري لقرار الخليفة، وكلاهما يمارس سلطة مطلقة باسم الدين.

ومعنى ما سبق ببساطة أن فكرة الحكم في مختلف التطبيقات السنية والشيعية السياسية لا تتطابق مع الحال التركية، التي ما زالت تحافظ على سمة الحداثة على رغم كثير من قرارات القيادة التركية الحالية، والتي تتوافق أيضاً مع اجتهادات لمفكرين إسلاميين كثر حاولوا عمل المواءمات بين التصور الإسلامي ومشروع الدولة الحديثة العلمانية، ولكن ما قد ينساه البعض هنا أن كل التنظيمات المتشددة التي تستخدم الرؤية الإسلامية لم تعلن تراجعها عن رؤية الحاكمية، ولم يثبت أنها تستخدم الآليات المختلفة حتى لو ديمقراطية للوصول إلى الحكم ثم تطبيق رؤيتها.

وهنا نجد الحال السورية الراهنة مزيجاً من استخدام القوة العسكرية والدعم الخارجي التركي، في وقت لم تعلن أي من هذه التنظيمات التي تشارك الشرع حالياً، ولا حتى جماعته نفسها، مراجعة منطلقاتها الفكرية على رغم اللغة المعتدلة نسبياً الصادرة عن الشرع وحده حتى الآن.

طريق الاستقرار الصعب

وفي وقت تزيد فيه المراهنات المتباينة حول مسار التجربة السورية الوليدة، يدرك الجميع أن الصعوبات لا حصر لها، وربما فقط تطغى بعضها على الجوانب الأخرى لبعض الوقت، وأبرزها طبعاً المسألة الكردية والاشتباكات المتكررة بين الفصائل التي تحكم الآن و”قوات سوريا الديمقراطية” “قسد”، والحساسيات الممكنة بين تركيا من جانب والولايات المتحدة وإسرائيل من جانب آخر.

ويتحسب الجميع لاحتمالات صدام بين الفصائل المسلحة المختلفة وهي مسألة واردة، حتى لو كانت كلها تابعة وتحت السيطرة التركية، ويدور التساؤل كذلك عن فكرة دمج الفصائل المتعددة في الجيش السوري، وما إذا كان مثل هذا الأمر قد نجح سابقاً وما شروط ذلك.

كما أن هناك عناصر أجنبية مسلحة من خارج سوريا وتغلب عليها اتجاهات في معظمها ربما أكثر تشدداً وتطرفاً من الشخصية السورية، وهل سيتم احتواؤها في الجيش وتجنيسها؟ علماً أن هذا سيتسق مع المحتوى الأيديولوجي لفكرة المواطنة الإسلامية.

وإذا كان من المرجح خروج القوات الروسية والإيرانية تدريجاً ومعها “حزب الله” من سوريا، فإن الصورة أكثر تعقيداً بالنسبة إلى الميليشيات الشيعية السورية والعلوية، وكذلك للعناصر المسلحة السنية المنضمة إلى صفوف المنتصرين وما يترتب على كل ذلك في ما يتعلق بصورة التفاعلات المستقبلية.

فهل يمكن لقوى سياسية مدعومة من الخارج أن تبني مجتمعاً سوياً؟

لا تقتصر التحديات التي تواجه الحكم السوري الجديد على الأبعاد السابقة التي عرضنا لها باختصار من دون تفاصيل، وإنما ثمة قضية محورية أخرى، وهي مسألة أدوار القوى السياسية المحلية المرتبطة بقوة خارجية ومدى قدرتها على إخراج نماذج سياسية ناجحة حتى على شاكلة القوة الخارجية.

وفى الحقيقة أننا أمام نموذج شديد الوضوح في هذا الصدد، نحن أمام قوى مسلحة سورية ومعها عناصر أجنبية تأتمر بالقرار التركي الذي لا يتطابق كلياً مع المصالح السورية، ويكفي هنا تذكر الأطماع الجغرافية التركية في أراضي سوريا، ومشكلة المياه كذلك، وتشكل – أي تركيا – نموذجاً سياسياً مغايراً لكل العالم الإسلامي في ما يتعلق بحركة سياسية ترفع الشعارات الإسلامية، لكنها تمارس السياسة في بلادها على نسق النموذج الديمقراطي الغربي، وتوظف هذه الشعارات لخدمة نفوذها السياسي والاقتصادي الخارجي، وتستخدم قوى سياسية تحمل مضموناً فكرياً يخالف المضمون التركي، ليبقى السؤال من سيستطيع تغيير من؟

إذا نجحت تركيا في تطويع هذه الفصائل باتجاه نموذج سياسي آخر معتدل وأكثر حداثية، فإن هذا سيعني تياراً سياسياً آخر مختلفاً تماماً عن نماذج الإسلام السياسي العربية، إلا أن المؤشرات التي تخرج من وزراء النظام الجديد لا توحى بهذا حتى الآن، بل تشير الشواهد إلى أننا أمام تجربة غير واضحة المعالم ولا يمكنها استنساخ التجربة التركية بما لها وما عليها. والتفاصيل كثيرة وأبرزها حديث أحمد الشرع عن فترة انتقالية مدتها أربعة أعوام، وهي فترة طويلة وقد تؤدى إلى تفاعلات معقدة كثيرة.

ثم تبقى الأسئلة العديدة المرتبطة، هل يمكن أن تؤدى خدمة مصالح طرف خارجي إلى بروز نظام سياسي متماسك وقابل للحياة، التجارب التاريخية لا تقدم أي دليل على صحة هذا.

ومع كل هذه الاعتبارات وغيرها وعلى رأسها معضلة إعادة الإعمار تظل التساؤلات أكثر من الأجوبة.

 مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق

——————————-

شرعيةُ أحمد الشرع!/ وحيد عبد المجيد

نشر في: 10 يناير ,2025

يعتمد أى نظام حكم على شرعية معينة تختلف من حالة إلى أخرى. وفضلاً عن أنوع الشرعية الثلاثة التى كتب عنها الألمانى ماكس فيبر قبل أكثر من قرن، وهى التقليدية والعقلانية القانونية والكاريزماتية، هناك أيضًا شرعية ثورية تستند عليها نظم حكم وصلت إلى السلطة عن طريق ثورة سلمية أو مسلحة. كما أن ما سماَّها شرعية عقلانية قانونية كانت تعبر عن معنى الشرعية الديمقراطية التى لم تكن قد تطورت ورسخت فى زمنه.

وعندما نفكر فى طبيعة شرعية سلطة الأمر الواقع فى سوريا، يتبادر إلى الذهن أنها شرعية ثورية على أساس أن «هيئة تحرير الشام» وصلت إلى السلطة التى يتولاها قائدها أحمد الشرع من خلال ثورة يتغنى بها كُثُر فى سوريا. ولا يتعارض ذلك مع حديث الشرع عن أن الثورة انتهت وأن عملية بناء الدولة بدأت. فليس لدى السلطة الجديدة مصدر آخر للشرعية إلى أن تفرز عملية الانتقال السياسى نظامًا مستقرًا سواء كان ديمقراطيًا كما هو مرجو، أو كاريزماتيًا فى حالة انفراده بالسلطة ورسم صورة لقائده تُظهره بمثابة «المُنقٍذ» الذى خلصَّ سوريا من نظام عائلة الأسد. وأيًا يكن الأمر لا تستقيم الشرعية دون قدر كبير أو على الأقل معقول من الرضا الشعبى. وهذا ما يفترض أن يُعنى به من يريد بناء شرعية حقيقية تستند على قبول الشعب بوصفه مصدر السيادة والسلطة، وليس على رضا حكومات أجنبية يُكَّرس نظام الأمر الواقع الكثير من الجهد سعيًا إليها. صحيح أن الحصول على اعتراف دولى ضرورى جدًا، ولكنه ليس مُقدمًا على القبول الشعبى. فالشرعية مسألة داخلية فى المقام الأول. وليس واضحًا كيف سيتعامل معها الشرع بعد أن تنتهى الأفراح أو تذهب السكرة وتأتى الفكرة. ويبدو أنه يُعوِل كثيرًا على المؤتمر الوطنى الذى لم يُحَدد موعده بعد. ولكن لكى يكون هذا المؤتمر مصدرًا للشرعية لمدة أربع سنوات يريد الشرع أن يحكم خلالها لابد أن تكون هناك معايير واضحة للتمثيل فيه واختيار أعضائه. ولهذا يحسن أن تسبقه مجموعة حوارات حقيقية وليست شكلية بين الجماعات السياسية والاجتماعية فى كل محافظة.

* نقلا عن ” الأهرام”

—————————

تركيا ومستقبل أكراد سوريا… حافة الهاوية/ رستم محمود

تطالب تركيا بأن يتم الفصل تماما بين “قوات سوريا الديمقراطية” و”حزب العمال الكردستاني”

آخر تحديث 11 يناير 2025

سمحت التحولات الأخيرة لتركيا بأن تُصبح فاعلا سياسيا أول في سوريا، إن عبر نفوذها وهيمنتها السياسية على السلطة المركزية الحاكمة “الشرعية” في العاصمة دمشق، أو تبعا لهيمنتها على الفصائل المسلحة المُسيطِرة على سوريا.

ويشكل ذلك تحديا سياسيا وأمنيا أمام أكراد سوريا الذين تعتبرهم تركيا- تحديدا قوتهم العسكرية الرئيسة “قوات سوريا الديمقراطية”- خطرا على أمنها القومي. وتسعى جاهدة لمنع ظهور أية تجربة سياسية/جغرافية/سيادية كردية الطابع، وإن ضمن السيادة الكلية لسوريا، شبيهة بإقليم كردستان في العراق، كما تعبر السياسة الخارجية التركية عن ذلك صراحة.

مقابل ذلك، تطمئن “قوات سوريا الديمقراطية” ذات النواة “الكردية”، و”وحدات حماية الشعب” (YPG)، والقوى السياسية الكردية المقربة منها، إلى ثلاثة عوامل فاعلة، مرتبطة بالملف السوري، يُمكن أن تخلق مظلة حماية سياسية/أمنية، تؤمن استمراراها في المعادلة السورية.

فالقوى الغربية، تحديدا الولايات المتحدة، تعتبر مكافحة الإرهاب ومنع عودة تنظيم “داعش” الإرهابي مجددا على رأس أولوياتها الراهنة والمستقبلية في سوريا؛ ولأجل ذلك ترى ضرورة في استمرار “قوات سوريا الديمقراطية” وتعزيز دورها، وتجد نفسها مُجبرة على البقاء العسكري في سوريا، حسبما صرح ساسة وأعضاء في الفريق الرئاسي للرئيس المُنتخب دونالد ترمب، وعملية إعادة الانتشار التي نفذتها القوات الأميركية في شمال شرقي سوريا، وصارت تشمل كل المناطق التي انسحبت منها سابقا عام 2020، تؤشر إلى ذلك بوضوح.

وعلى المنوال نفسه، تسعى القوى السياسية الكردية، نحو إيجاد مساحة سياسية مشتركة مع السلطة الجديدة في دمشق، بغية التوصل إلى توافقات سياسية بأسرع وقت، تُبعد أية إمكانية لصدام عسكري مفتوح مع الميليشيات المحسوبة والمُدارة من قِبل تركيا “الجيش الوطني”، وأن تشكل تلك التوافقات غطاء سياسيا وأمنيا لمستقبل الأكراد في سوريا.

وقد وصلت إشارات أولية بشأن ذلك، لكن السؤال الصعب يتعلق بمدى قُدرة السلطة الجديدة على التصرف سياسيا وأمنيا دون إملاءات تركية، هذا في حال توفر غطاء عربي أو دولي أو أممي “بديل” لها عن الغطاء التركي، أو في حال حاجتها إلى حلفاء سوريين محليين، في كل المناطق، إذا ما دخلت سوريا مرحلة نظام الحُكم الديمقراطي/الانتخابي.

إلى جانب الأمرين، يتطلع أكراد سوريا، بما فيهم “قوات سوريا الديمقراطية”، إلى “عملية السلام” بين الدولة التركية و”حزب العمال الكردستاني” في الداخل التركي، والتي يبدو وكأنها تسير بخطى ثابتة، لأن تغدو رافعة للتواصل والتوافق بينهم وبين تركيا، وأن لا تتعامل هذه الأخيرة معهم على أساس المعادلة الصفرية.

تبدو الأمور وكأنها في سباق مع الزمن، فتركيا تعرف راهنا أنها لا تستطيع أن تشن هجوما بريا واضحا على شرق نهر الفرات، فالولايات المتحدة لن تمنح غطاء سياسيا أو أمنيا لذلك، لأجل ذلك تضغط عبر وكلائها السوريين، وتعرض على الولايات المتحدة مجموعة من المطالب السياسية والأمنية، على القوى الكردية أن تنفذها على أرض الواقع، لتتشكل ضمانة لمخاوفها من تطور الحالة الكردية في سوريا، وإمكانية أخذها لطابع شرعي/دستوري.

تطالب تركيا بأن يتم الفصل تماما بين “قوات سوريا الديمقراطية” و”حزب العمال الكردستاني”، على أن ينسحب عناصر هذا الأخير من سوريا، مع فك كل أشكال الارتباط السياسي والأيديولوجي والتنظيمي بين الطرفين. وأن لا تكون المطالب السياسية الكردية ذات طابع جغرافي/سيادي، ولا تتجاوز حدود الحقوق الطبيعية، كالمواطنة المتساوية وبعض الحقوق الثقافية.

لا ترفض “قوات سوريا الديمقراطية” مثل تلك المتطلبات، وتعلن عن استعدادها لإغلاق كل ما تعتبره تركيا مسّاً بأمنها القومي، شريطة أن تتعهد تركيا بحماية الأكراد السوريين سياسيا في سوريا المستقبل، وأن لا تشن أو تحرض فصائل سورية مسلحة أخرى على الهجوم العسكري على مناطقها.

————————–

الاتفاقات “الأسدية” بين لبنان وسوريا… الى مهب الريح/ سلوى بعلبكي

معظمها مجحف للبنان وبعضها لم يبرم وينفذ أو لم ير النور

آخر تحديث 07 يناير 2025

بعد سقوط النظام السوري، وأفول حكم آل الأسد عن سوريا، برزت التساؤلات حيال مصير الاتفاقات المعقودة بين الدولتين اللبنانية والسورية وعددها 42 اتفاقا، فيما اقترح العديد من المعنيين، ومنهم “الهيئات الاقتصادية اللبنانية”، التي تضم غرف التجارة والصناعة وجمعيات الصناعيين والتجار والمصارف والتأمين وغيرها، الى “مراجعة كل الاتفاقات، بما في ذلك البروتوكولات والمذكرات والبرامج والعقود الموقعة بين البلدين، وذلك بما يحقق مصلحة لبنان بشكل متوازن وسليم على كل الصعد ولا سيما الاقتصادية والتجارية”.

بعدما استكمل آل الأسد إطباق سيطرتهم على لبنان عام 1990، وتحكمهم، عبر أدواتهم اللبنانية في السلطة حينذاك، بجميع مفاصل الدولة اللبنانية السياسية والأمنية والاقتصادية، بدأت محاولاتهم الحثيثة لتثبيت مصالحهم، وتكبيل الحياة السياسية والاقتصادية في لبنان بمجموعة اتفاقات ومعاهدات، “تؤبد” وصايتهم عليه، ومرجعيتهم لقراراته الداخلية ومواقفه في السياسة الخارجية وفي شتى المجالات.

فتحت مسمى “معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق” الشهيرة، وقع الرئيسان الراحلان اللبناني الياس الهراوي والسوري حافظ الأسد، في 22 مايو/أيار 1991 معاهدة جعلت القرار اللبناني السياسي والأمني في حالة استتباع شبه كلي للحكم السوري ومصالحه. حتى بات فوز مختار أو انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وما بينهما من تشكيل حكومات ومجالس نيابية، وإقرار قوانين وترقيات، لا يحتاج أكثر من كلمة “أمر” تأتي بعباءة “تمنّ” من الشام، لتسير الأمور وفق المشتهى.

“المجلس الأعلى” لزوم ما لا يلزم

وقد انبثق عن المعاهدة اطار تنسيقي سمي “المجلس الأعلى اللبناني السوري”، عين له أمينا عاما لمتابعة مجمل شؤون العلاقات اللبنانية السورية. بيد أن دور المجلس ووظيفته سقطا، وأصبح وجوده “لزوم ما لا يلزم” بعد تبادل التمثيل الديبلوماسي بين البلدين وفتح السفارات.

كذلك، شملت المعاهدة كل المجالات الاقتصادية والأمنية والدفاعية وغيرها، لم يأتِ أي منها بالفائدة والنفع على اللبنانيين، لا بل تضاربت مضامين الاتفاقات والبروتوكولات الجانبية، والمراسيم التنفيذية، مع الدستور اللبناني، والقوانين المرعية في لبنان، وخصوصا في مجالات القضاء والأمن والإعلام. ناهيك عن قطاع العمالة التي مالت الدفة فيه لصالح السوريين بقوة، فتدفق مئات الآلاف للعمل في مختلف الميادين والوظائف، دون الحصول على أي إجازات عمل، أو التراخيص القانونية المطلوبة لمزاولة الأعمال التجارية والصناعية، متكئين على الدعم الأمني الذي وفره وجود 50 ألف جندي سوري على الأراضي اللبنانية.

بعدما سقطت “جمهورية الخوف” وسقطت معها الفوقية التي مارسها النظام السوري تجاه الشقيق الأصغر لبنان، طالب خبراء واقتصاديون ورجال أعمال لبنانيون بتصويب الإجحاف الذي أصاب لبنان، واقترح بعضهم إلغاء كل المعاهدات والاتفاقات الموقعة مع النظام السابق. وطالبوا بإعادة صياغة معاهدة جديدة متوازنة المصالح والمنافع للبلدين، توقع بعد استقرار الحكم الجديد في سوريا، وتضمن مراعاة المصالح المشتركة للجارين التاريخيين، واحترام الخصوصيات الاجتماعية والإقتصادية، والتقاليد والأعراف السياسية للبنانيين والسوريين في ممارسة الشأن العام.

السؤال اليوم عن السبل القانونية والدستورية لإلغاء الاتفاقات المذكورة، أو تعديل نصوصها وتطويرها؟

تؤكد الأستاذة المحاضرة في القانون الدولي الدكتورة جوديت التيني لـ”المجلة” أن “الاتفاقات المعقودة بين الدولتين لم تسقط حكما بفعل سقوط نظام الأسد، إنما هي لا تزال قائمة وسارية وفقا لنصوصها ومحتواها، والسند القانوني لذلك يكمن في مبدأ استمرارية الدولة. لكن هذا لا يعني أنه لا يمكن تعديل النصوص أو إلغاؤها مستقبلا. ولأجل ذلك، لا بد من التمييز بين الاتفاقات التي تم عقدها، وارتقت الى مرتبة المعاهدة الدولية، والاتفاقات التي لا تشكل معاهدة دولية، انما هي بمثابة اتفاقات معقودة على صعيد وزاري أو إداري. لذا يمكن لأي من الدولتين تعديل المعاهدة الدولية، في حال ارتأت ذلك، بالعودة أولا إلى مضمونها لتبيان ما تسمح به نصوصها، والبحث مع الطرف الآخر إن كان راغبا في تعديلها أو إنهاء العمل بها. أما تعديل وإلغاء الاتفاقات التي ليست بمعاهدات دولية، فهو بالطبع أقل تعقيدا ويحتاج إلى قرار ورغبة سياسية”.

أبعاد اقتصادية واجتماعية وضريبية

وعن مدى استفادة لبنان من هذه المعاهدات والاتفاقات، تؤكد التيني أنه “لا بد من مراجعتها كلها، والتمحيص بمضامينها، للتيقن من عدالة نصوصها وتوازنها للطرفين. ولا بد للبنان من أن يمارس سيادته، وأن لا يتنازل عن مصلحة الشعب اللبناني والدولة اللبنانية في الاتفاقات والمعاهدات التي يعقدها”. لذا تبدو الفرصة في رأيها، مؤاتية اليوم لإعادة النظر في النصوص وتكريس المصلحة الوطنية اللبنانية فيها. وتقول “ناهيك عن الجانب السياسي، فإن للعديد من الاتفاقات جوانب اقتصادية وتجارية واجتماعية وضريبية أثرت على الاقتصاد اللبناني، وشكلت أرباحا فائتة عليه. لذا فإن التعويل اليوم هو على قدرة اللبنانيين على التخلي عن النهج النمطي الخاطئ في ترسيخ مفهوم ارتباط مستقبل البلدين واقتصادهما وسواها من شعارات الأخوة والصداقة التي أضرت بلبنان أكثر مما أفادته”.

ولكن هل في استطاعة لبنان الانسحاب من الاتفاقات منفردا؟ تؤكد التيني أنه “يجب العودة إلى نص كل منها للتيقن من إمكان الانسحاب الاحادي، وما تنص عليه في حال انتهاك نصوصها والموجبات الدولية المترتبة في شأنها، مثل إمكان المطالبة القضائية بتعويضات”.

وفي انتظار بلورة موقف الحكومة اللبنانية والحكومة السورية الجديدة من هذه المعاهدات، تشير التيني إلى أن إلغاء “المجلس الأعلى اللبناني السوري” بات أمرا ممكنا، لا سيما أن نطاق عمله مبهم وغير واضح، ولم يكن ذا فاعلية إبان العلاقات الودية بين البلدين، فكم بالحري اليوم بعد سقوط النظام في سوريا”.

    سوريا أفادت بشكل كبير من هذه الاتفاقات، سواء من خلال فرض رسوم على الشاحنات اللبنانية العابرة لأراضيها أو من خلال تدفق منتجاتها الزراعية والصناعية إلى السوق اللبنانية بأسعار تنافسية بسبب التهرب الجمركي الواسع

    بيار الخوري، أستاذ جامعي وخبير الاقتصادي

العلاقات بين لبنان وسوريا كانت ولا تزال محكومة باتفاقات ثنائية وواقع جغرافي يجعل من سوريا شريانا حيويا للاقتصاد اللبناني، خصوصا في مجالي الترانزيت والتجارة.

سوريا فرضت مصالحها من موقع الأقوى!

ولا ينكر الأكاديمي والخبير الاقتصادي الدكتور بيار الخوري أن “سوريا أفادت بشكل كبير من هذه الاتفاقات، سواء من خلال فرض رسوم على الشاحنات اللبنانية العابرة لأراضيها أو من خلال تدفق منتجاتها الزراعية والصناعية إلى السوق اللبنانية بأسعار تنافسية بسبب التهرب الجمركي الواسع”. في المقابل، عانى لبنان من خلل في الميزان التجاري مع سوريا، إضافة إلى التأثير السلبي على قطاعات إنتاجية محلية لم تستطع الصمود أمام السلع السورية المنخفضة التكلفة. وفي رأيه أن  “أبرز التأثيرات السلبية، كانت واضحة في قطاعي الزراعة والصناعة اللبنانية، حيث واجهت المنتجات المحلية منافسة شديدة نتيجة تدني الرسوم الجمركية المفروضة على الواردات السورية”.

ووفق بيار الخوري، يمكن للبنان الانسحاب من هذه الاتفاقات، إذا تبين أنها تضر بمصالحه. ولكن الانسحاب من طرف واحد قد يواجه تعقيدات قانونية وسياسية، تعيد التوتر إلى العلاقات مع سوريا، لا سيما في ظل اعتماده الجغرافي على الأراضي السورية.

وفيما يجمع البعض أن من ضمن الاتفاقات “الخطيرة” بالنسبة للبنان، أو أقله المجحفة، هي اتفاقية نقل الأشخاص والبضائع وتلك المتعلقة بتوزيع مياه نهر العاصي. يوضح الخوري أن سوريا فرضت رسوما مرتفعة على شاحنات الترانزيت بما أثقل كاهل المصدرين اللبنانيين. وعلى الرغم من التحديات، يعتبر أنه لا يزال في إمكان لبنان إعادة التفاوض على هذه الاتفاقات لتأمين توازن أفضل يحمي مصالحه الاقتصادية، خصوصا في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية التي تجعل من إعادة صياغة العلاقات الاقتصادية ضرورة ملحة.

    انعدام التوازن بين البلدين وقدرة النظام السوري البائد على فرض مصالحه من موقع الأقوى، جعل هذه الاتفاقات تخسر طابع العدالة والاستدامة. كما أن اختلاف الأنظمة الاقتصادية بين البلدين لعب في مصلحة النظام

ويؤكد أن “انعدام التوازن بين البلدين وقدرة سوريا طوال هذه الأعوام على فرض مصالحها من موقع الأقوى،  جعل هذه الاتفاقات تخسر طابع الاستدامة. كما أن اختلاف الأنظمة الاقتصادية بين البلدين لعب في مصلحة النظام الأكثر ‘جبرية’ على حساب النظام الذي يتمتع بدرجة أقل من التخطيط المركزي”.

يتوقف مصير هذه الاتفاقات اليوم على مدى قدرة لبنان وجديته في ضبط حدوده، والتفاوض على مصالحه من جهة، وعلى مستقبل النظام الاقتصادي في سوريا من جهة أخرى. أما “معاهدة” التعاون والتنسيق فهي تحتاج إلى تصفية العناصر التي تعطي تفوقا، بغير وجه حق، لأي طرف على حساب الآخر.

رويترز رويترز

غالونات البنزين والمازوت، كما تباع في السوق السوداء في سوريا بسب الأنظمة الاقتصادية “الأسدية”، 28 ديسمبر 2024

هنا لائحة بأبرز الاتفاقات بين لبنان وسوريا:

1-معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق

2- اتفاقية الدفاع والأمن

3- اتفاق التعاون والتنسيق الاقتصادي والاجتماعي

4- الاتفاق الصحي

5- اتفاق تنظيم انتقال الأشخاص ونقل البضائع

6- اتفاق بشأن أوجه التنسيق والتعاون في المجال الزراعي

7- اتفاق خاص بالتعليم العالي والبحث العلمي

8- اتفاق ثقافي

9- اتفاق يتعلق بتوزيع مياه نهر العاصي النابعة في الأراضي اللبنانية

10- ملحق لاتفاق توزيع مياه نهر العاصي النابعة في الأراضي اللبنانية

11- اتفاقية ثنائية في مجال العمل

12- اتفاقية ملحقة بالاتفاق القضائي المعقود

13- اتفاق نقل الأشخاص المحكوم عليهم بعقوبات سالبة للحرية ملحق بالاتفاق القضائي الموقع بتاريخ 25/2/1951 (لم يبرم بعد)

14- اتفاقية من أجل تجنب ازدواج التكليف الضريبي ومنع التهرب الضريبي في ما يتعلق بالضرائب على الدخل

15- بروتوكول ملحق باتفاقية تجنب ازدواج التكليف الضريبي ومنع التهرب الضريبي في ما يتعلق بالضرائب على الدخل (لم يبرم بعد)

16- اتفاقية إنشاء مكاتب حدودية مشتركة

17- محضر اجتماع حول إطلاق حرية تبادل المنتجات الصناعية الوطنية المنشأ

18- محضر اجتماع حول آلية تنفيذ إطلاق حرية تبادل المنتجات الصناعية الوطنية المنشأ

19- اتفاق حول الملاحة البحرية التجارية

20- اتفاقية ثنائية في مجال الشؤون الاجتماعية

21- اتفاقية المبادئ التنفيذية لمشروع نقل وبيع الغاز الجاف بين سوريا ولبنان

22- اتفاق لإقامة خدمات جوية بين إقليميهما وما وراءهما

23- الاتفاق القضائي لعام 1951

24- اتفاقيةمن أجل اقتسام مياه حوض النهر الكبير الجنوبي وبناء سد مشترك على المجرى الرئيسي للنهر

25- اتفاق تعاون بين وزارتي العدل

26- اتفاق حول التعاون الإداري المتبادل في القضايا الجمركية

27- اتفاق ثنائي حول تبادل الحوالات البريدية الفورية

28- اتفاق لتبادل بعائث البريد العاجل الدولي (EMS)

29- النظام التنفيذي لاتفاقية البريد العاجل الدولي (EMS)

30- اتفاقية تعاون في المجال الزراعي (لم تبرم بعد)

31- اتفاقية تعاون في مجال وقاية النبات والحجر الصحي النباتي والمبيدات الزراعية (لم تبرم بعد)

32- اتفاقية تعاون في مجال الصحة الحيوانية والحجر الصحي البيطري

33- اتفاقية حول توحيد قواعد ترخيص واستيراد الأدوية واللقاحات البيطرية (لم تبرم بعد)

34- اتفاق خاص بالتعليم العالي والبحث العلمي (لم يبرم بعد)

35- اتفاق تعاون وتنسيق في مجال التربية (لم يبرم بعد)

36- اتفاقية للتشجيع والحماية المتبادلة للاستثمارات

37- اتفاق حول الملاحة البحرية التجارية (لم يبرم بعد)

38- اتفاق تعاون لمكافحة المخدرات بين وزارتي الداخلية

39- اتفاق تعاون في مجال السياحة

40-اتفاق تعاون وتنسيق في مجالات التربية والرياضة والشباب

41- اتفاق التعاون في مجال التعليم الفني والمهني والتقني

42- اتفاقية بيع الغاز مع محضر اجتماع اللجنة المشتركة للنفط والغاز تاريخ 27/11/2002

—————————-

 ثلاثة مسارات كلها شرّ.. كيف تخطط إسرائيل للتعامل مع سوريا الجديدة؟

عربي بوست

تم التحديث: 2025/01/11

أطلقت المعارضة السورية عملية “ردع العدوان” ضد مناطق خاضعة لسيطرة النظام السوري شمال شرق سوريا/ الجبهة الوطنية للتحرير على تويتر

لم تكن إسرائيل بمعزل عن الأحداث التي جرت في سوريا منذ سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، بل وحاولت فرض واقع مختلف عبر احتلال مناطق جديدة من بينها منطقة جبل الشيخ، وشنَّ هجمات جوية استهدفت مواقع عسكرية بأنحاء متفرقة من البلاد، في انتهاك صارخ لسيادتها، كان آخرها غارات استهدفت منطقة السفيرة جنوب شرقي محافظة حلب قبل عدة أيام.

كما أعلنت إسرائيل انهيار اتفاقية فض الاشتباك مع سوريا لعام 1974، وانتشار جيشها في المنطقة العازلة منزوعة السلاح بهضبة الجولان السورية التي تحتل معظم مساحتها منذ عام 1967، في خطوة نددت بها الأمم المتحدة ودول عربية.

ويبدو أن الاحتلال لم يكتفِ بخطواته الاستفزازية التي اتخذها تجاه سوريا “الجديدة”، حيث أشارت تقارير نشرتها صحف عبرية وغربية إلى أن تل أبيب تدرس خططاً عدة تتعلق بالشأن السوري في محاولة لتعزيز نفوذها ومواجهة حتى النفوذ التركي الذي برز بشكل أكبر بعد إطاحة الفصائل السورية المسلحة، وفي مقدمتها هيئة تحرير الشام بقيادة أحمد الشرع، بالنظام السابق.

وشملت هذه الخطط إقامة مناطق “سيطرة ونفوذ”، والاستعدادات لمواجهة محتملة مع أنقرة، فضلاً عن خطة سرية تهدف إلى تعزيز تقسيم سوريا إلى مناطق إقليمية.

أعضاء كنيست من الليكود – كيف تستنزف الحرب على غزة خزينة الاحتلال؟ ضباط إسرائيليون في غزة ينتقدون نتنياهو

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو/ رويترز

اقرأ أيضاً

“بين رئيس تحدي” أم “توافق”.. ما الذي احتاجه الأمر للجلوس على كرسي الرئاسة الفارغ في لبنان منذ عامين؟

“بين رئيس تحدي” أم “توافق”.. ما الذي احتاجه الأمر للجلوس على كرسي الرئاسة الفارغ في لبنان منذ عامين؟

أولاً: مناطق “سيطرة ونفوذ”

أفادت صحيفة يديعوت أحرونوت، الجمعة، أن إسرائيل تخطط لإقامة ما سمتها “منطقة سيطرة” بطول 15 كيلومتراً داخل سوريا و”مجال نفوذ” استخباري يمتد لنحو 60 كيلومتراً.ونقلت الصحيفة عن مسؤولين إسرائيليين لم تسمهم، أن تل أبيب “ستحتاج إلى الحفاظ على محيط عملياتي يبلغ طوله 15 كيلومتراً داخل الأراضي السورية”.

وتابعت: “سيحافظ الجيش الإسرائيلي على وجود لضمان عدم تمكن حلفاء النظام الجديد في سوريا من إطلاق الصواريخ باتجاه مرتفعات الجولان”.

وأردفت أن المسؤولين ذكروا “ضرورة وجود مجال نفوذ يمتد 60 كيلومتراً داخل سوريا ويكون تحت سيطرة المخابرات الإسرائيلية، لمراقبة ومنع التهديدات المحتملة من التطور”.

وتبرر تل أبيب أطماعها هذه بعدم اطمئنانها للإدارة الجديدة في سوريا وسط مواصلة مهاجمتها من مسؤولين إسرائيليين.

وذكرت يديعوت أحرونوت أن المسؤولين عبروا عن “اندهاشهم” مما وصفوه بـ”عمى الغرب” تجاه نظام أحمد الشرع قائد الإدارة السورية الجديدة.

وأكملت نقلاً عن مسؤول إسرائيلي لم تسمه، قوله “إن الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا تتدافع نحو الجزار الشرع”، وفق تعبيره.

من الحدود بين الجولان السوري والجولان المحتل – رويترز

وأشارت الصحيفة إلى أن الولايات المتحدة ألغت بالفعل “مكافأة قدرها 10 ملايين دولار كانت قد وضعت على رأسه (الشرع) قبل عقد من الزمان، وخففت مؤخراً بعض العقوبات المفروضة على سوريا”.

ونقلت عن مسؤول إسرائيلي “كبير” لم تسمه، أن “الغرب يختار عمداً أن يكون أعمى، ويتعامل مع أخطر الناس في العالم، والعالم العربي المحيط بنا يفهم التهديد ويحذر الغرب لكنه يرفض الاستماع”.

وتابع المسؤول الإسرائيلي بشأن الإدارة السورية الجديدة: “لا أحد يستطيع أن يضمن أنهم في النهاية لن ينقلبوا ضدنا، وهؤلاء أشخاص خطيرون للغاية”.

وأكد أهمية أن “تحافظ إسرائيل في الأمد البعيد على منطقة سيطرة ومجال نفوذ في سوريا”، معرباً عن أمله تلقي بلاده “الدعم الكامل ضد التهديدات من سوريا ولبنان بعد تنصيب الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب في 20 يناير/كانون الثاني الجاري”.

واستطرد: “في غضون ذلك، سيتعين علينا البقاء هناك، وضمان منطقة خالية من الصواريخ على بعد 15 كيلومتراً تحت سيطرتنا، بالإضافة إلى مجال نفوذ يبلغ 60 كيلومتراً، لمنع التهديدات من التطور، نحن نبني مفهوماً عملياً لهذا الواقع الجديد”.

بزعم وجود “طموحات لدى تركيا لاستعادة نفوذها وخطر تحالف الفصائل السورية معها”، قالت لجنة حكومية إسرائيلية إن على تل أبيب “أن تستعد لمواجهة محتملة مع تركيا”.

جاء ذلك في تقرير قدمته “لجنة فحص ميزانية الأمن وبناء القوة” المعروفة إسرائيلياً بـ”لجنة ناجل” على اسم رئيسها يعكوف ناجل في تقرير لها قدمته إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، قبل عدة أيام، حول ميزانية الدفاع واستراتيجية الأمن وفق صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية.

وذكرت الصحيفة أن “اللجنة أفادت في تقريرها بأنه يجب على إسرائيل أن تستعد لمواجهة مباشرة مع تركيا”.

وزعمت اللجنة أن “طموحات تركيا لاستعادة نفوذها العثماني قد تؤدي إلى تصاعد التوترات مع إسرائيل، وربما تتصاعد إلى صراع”، وفق ما نقلته الصحيفة.

وتابعت جيروزاليم بوست أن “تقرير اللجنة الحكومية يسلط الضوء على خطر تحالف الفصائل السورية مع تركيا، مما يخلق تهديداً جديداً وقوياً لأمن إسرائيل”.

وأردفت أن “التهديد من سوريا قد يتطور إلى شيء أكثر خطورة من التهديد الإيراني”، وفق ادعاء اللجنة.

ونقلت الصحيفة عن تقرير اللجنة “اقتراحه زيادة ميزانية الدفاع بما يصل إلى 15 مليار شيكل سنوياً (4.1 مليار دولار) على مدى السنوات الخمس المقبلة لضمان تجهيز قوات الدفاع الإسرائيلية للتعامل مع التحديات التي تفرضها تركيا، إلى جانب التهديدات الإقليمية الأخرى”.

الصناعات الدفاعية في تركيا

طائرة قآن الحربية التركية التي نجحت في تجربة تحليقها / ويكيبيديا

وأشارت الصحيفة، إلى أنه “للتحضير لمواجهة محتملة مع تركيا، أوصت اللجنة بالتدابير التالية:

    فيما يتعلق بالأسلحة المتقدمة: الحصول على طائرات مقاتلة إضافية من طراز إف-15، وطائرات التزود بالوقود، والطائرات بدون طيار، والأقمار الصناعية لتعزيز قدرات إسرائيل على الضربات بعيدة المدى”.

    فيما يتعلق بأنظمة الدفاع الجوي، أوصت اللجنة بتعزيز قدرات الدفاع الجوي متعددة الطبقات، بما في ذلك القبة الحديدية، ومقلاع داود، وأنظمة سهم، ونظام الدفاع بالليزر الذي دخل حيز التشغيل حديثًا”.

    فيما يتعلق بأمن الحدود أوصى التقرير ببناء حاجز أمني محصن على طول وادي الأردن، وهو ما من شأنه أن يمثل تحولًا كبيرًا في الاستراتيجية الدفاعية لإسرائيل على الرغم من التداعيات الدبلوماسية المحتملة مع الأردن”.

وكان مكتب نتنياهو قال في بيان، الاثنين، أن نتنياهو ووزيري الدفاع يسرائيل كاتس والمالية بتسلئيل سموتريتش، استلما توصيات “لجنة ناجل”.

وقال نتنياهو، وفق تصريح مكتبه: “نحن في خضم تغيير في الوضع الأساسي في الشرق الأوسط”.

وأضاف: “لقد عرفنا منذ سنوات أن إيران تشكل التهديد الأعظم لنا، سواء بشكل مباشر أو من خلال وكلائها. بالطبع، حرصنا على ضرب هذا المحور بقوة”.

وتابع نتنياهو: ” لكننا شهدنا حقيقة مفادها أنه أولاً، إيران لا تزال موجودة وثانياً أن قوى إضافية دخلت الميدان، ونحن بحاجة دائماً إلى الاستعداد لما قد يأتي”.​​​​​​​

ثالثاً: خطط إسرائيل لتقسيم سوريا

ذكرت تقارير أن وزراء إسرائيليين اجتمعوا هذا الأسبوع لمناقشة خطط سرية تهدف إلى تعزيز تقسيم سوريا إلى مناطق إقليمية.

وذكرت صحيفة إسرائيل هيوم العبرية أن وزير الدفاع كاتس ترأس اجتماعاً وزارياً صغيراً، الثلاثاء، ركز على التدخل التركي في سوريا والمخاوف بشأن نوايا الشرع.

 وخلال الاجتماع، الذي عقد قبل مناقشة مرتقبة مع نتنياهو، ورد أن الوزراء ناقشوا أيضاً خطة إسرائيلية كشف عنها موقع ميدل إيست آي البريطاني لأول مرة في ديسمبر/كانون الأول.

وبموجب هذه الخطة، سيتم تقسيم سوريا إلى مناطق إقليمية، أو كانتونات، وهو ما وصفته صحيفة إسرائيل هيوم بأنه وسيلة “لحماية أمن وحقوق جميع المجموعات العرقية السورية”، بما في ذلك السكان الدروز والأكراد.

ويقال إن إيلي كوهين، وزير الطاقة والبنية التحتية الإسرائيلي، اقترح دراسة هذا الاقتراح في مؤتمر دولي تدعو إليه إسرائيل، على الرغم من أن السياسيين الإسرائيليين يدركون أن أي مبادرة مرتبطة ببلادهم من المرجح أن تواجه مقاومة كبيرة داخل سوريا.

وفي ديسمبر/كانون الأول، نقل ميدل إيست آي عن مصادر أمنية إقليمية مطلعة على الخطة أن الإطاحة بحكومة الأسد أحبطت خطة إسرائيلية قائمة بالفعل لتقسيم سوريا إلى ثلاث كتل من أجل قطع علاقاتها مع إيران وحزب الله، اللذين كانا يدعمان الأسد.

غرفة عمليات الجنوب سوريا

فصائل المعارضة تتقدم نحو العاصمة السورية دمشق من الشمال والجنوب/ رويترز

وكانت إسرائيل تخطط لإقامة علاقات عسكرية واستراتيجية مع الأكراد في شمال شرق سوريا والدروز في الجنوب، وترك الأسد في السلطة في دمشق تحت التمويل والسيطرة الإماراتية.

وكان من شأن هذا أيضاً أن يساعد في الحد من نفوذ تركيا في سوريا في الشمال الغربي، الذي كان معقل هيئة تحرير الشام والفصائل المدعومة من تركيا، والتي أدى هجومها الخاطف إلى سقوط الأسد.

الخطة، التي تبدو مماثلة لتلك التي ناقشها كاتس ووزراء إسرائيليون آخرون الثلاثاء، تم الإشارة إليها في خطاب ألقاه وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.

وقال ساعر إن إسرائيل بحاجة إلى التواصل مع الأكراد والدروز في سوريا ولبنان، مضيفاً أن هناك “جوانب سياسية وأمنية” تحتاج إلى النظر فيها.

وأضاف ساعر: “يتعين علينا أن ننظر إلى التطورات في هذا السياق ونفهم أنه في منطقة سنكون فيها دائماً أقلية، يمكننا أن نقيم تحالفات طبيعية مع أقليات أخرى”.

———————————-

منظمات المجتمع المدني السورية في الشتات ودورها في المرحلة الراهنة/ عمر الفاروق

2025.01.11

مع سقوط نظام الأسد، تفتح مرحلة جديدة أمام سوريا تفرض تحديات وفرصا تتطلب تعاونا وثيقا بين الداخل والشتات لإعادة بناء البلاد على أسس جديدة. في هذا السياق، تلعب منظمات المجتمع المدني السورية في الشتات دورا محوريا في تحقيق رؤى مشتركة للسوريين وتعزيز الهوية الوطنية الجامعة.

وتتعدد أسباب أهمية مؤسسات المجتمع المدني السورية في الشتات كمنظمات وشبكات ومنصات، حيث يمكن أن تشكل صلة وصل بين الداخل والخارج من خلال موقعها الفريد والذي يجعلها قادرة على نقل تطلعات ومطالب السوريين في الداخل إلى المجتمع الدولي، وتوفير الدعم المادي والمعنوي للجهود المحلية في سوريا، بالإضافة إلى نقل الخبرات والتجارب المكتسبة من الدول المضيفة لدعم مشاريع التنمية وإعادة الإعمار.

كما يمكنها أيضا تعزيز الهوية الوطنية في مواجهة الانقسامات التي ترسخت خلال سنوات الحرب، وتعزيز فكرة أن السوريين في الداخل والخارج يشكلون وحدة وطنية متكاملة، وطبعا لها دور في إحياء الروابط الثقافية والتاريخية التي تجمعنا كسوريين.

إن وجود عدد كبير من السوريات والسوريين في الخارج يمكنه أيضاً الإسهام في دعم التحول الديمقراطي في البلاد، من خلال الترويج لمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان والقيم التي تؤمن بها الثورة السورية، وتقديم رؤى مشتركة لإنشاء مؤسسات حكم رشيدة في البلاد، ومحاولة إشراك السوريين في الخارج في رسم السياسات الوطنية المستقبلية.

دور منظمات المجتمع المدني السورية في الشتات

على منظمات المجتمع المدني السورية في دول الاغتراب أن تبادر في إقامة فعاليات مختلفة، محلية في أماكن تواجدها وأيضاً السعي لإقامة مؤتمرات حضورية وعن بعد، من أجل رسم خطوط تلاقي بين السوريين في الشتات نفسه وبينهم وبين الداخل السوري الذي يحتاج لكل الطاقات والقدرات في الوقت الحالي.

وتنظيم فعاليات فنية وثقافية مثل المهرجانات والفعاليات التي تحتفي بالتراث المشترك أو تروي السردية المشتركة للسوريين على سبيل المثال مثل مهرجان أيام الوثائقيات السورية أو مقهى فنجان الثقافي في كوبنهاغن، حيث على مدار سبع سنوات استمر مهرجان الأفلام الوثائقية في كوبنهاغن بخلق مساحة للحوار وطرح السرديات وتلاقي السوريين بين بعضهم وأيضاً مع المجتمع المضيف مما ساعد في تبادل الخبرات والتقاليد الثقافية والتراثية.  بالإضافة إلى مقهى فنجان والذي يقوم بنشر أعمال أدبية وفنية تسلط الضوء على الهوية السورية وتعكس تجارب الحرب واللجوء، وطرحها للنقاش والحوار مع الحضور وتعريفا بالنتاج الفكري والأدبي للسوريين.

فهذا ما يعزز الهوية الوطنية لا سيما سنوات من الحرب والانقسام، أصبحت الهوية الوطنية السورية بحاجة إلى إعادة تعريف وترميم. الحرب لم تؤثر فقط على البنية التحتية، بل مزقت الروابط بين السوريين في الداخل والخارج، وبين مختلف الفئات الاجتماعية والسياسية. في هذا السياق، يمكن للحملات الإعلامية أن تلعب دورا رئيسيا في إعادة بناء الهوية الوطنية، مع التركيز على توحيد الجهود ورؤية مستقبل مشترك للسوريين، سواء كانوا في الداخل أو الشتات.

ومع أهمية دور هذه المؤسسات في الشتات إلا أنها يجب أن تبني جسورا مع الداخل في سوريا الجديدة لبناء رؤية مشتركة من خلال تنظيم فعاليات تجمع بين ممثلي الداخل والشتات لمناقشة التحديات الوطنية، إطلاق منصات مشتركة لتبادل الأفكار والتجارب، مما يسهم في تطوير أجندة وطنية مشتركة ووضع خارطة طريق لإعادة الاعمار تشمل كافة فئات المجتمع والتركيز على القضايا الكبرى مثل العدالة الانتقالية، المصالحة الوطنية، وإعادة بناء المؤسسات.

بالإضافة إلى دعم المبادرات المحلية مثل تقديم التمويل والخبرات للمبادرات المحلية التي تعزز التماسك المجتمعي والتنمية الاقتصادية، وبناء شراكات مع منظمات الداخل لتحقيق أهداف مشتركة.

دور منظمات المجتمع المدني السوري في الشتات مهم جدا في إعادة إعمار سوريا، إذ تشير التقديرات أن ستين بالمئة من البنى التحتية والحاضرات البشرية مدمرة في سوريا، لذلك من المهم أن يقوم كلا بدوره وأن تطلع المنظمات بمسؤولياتها بتعبئة الموارد المادية والبشرية لإعادة بناء البنية التحتية والخدمات الاساسية، بالإضافة إلى إنشاء صندوق استثماري لدعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة في سوريا.

كما يتوجب عليها نقل المعرفة من خلال تسخير خبرات المهنيين السوريين في الشتات لدعم التعليم، الصحة، والتكنولوجيا في الداخل، وتنظيم برامج تدريبية تركز على بناء القدرات المحلية.

وآخر هذه الأدوار من وجهة نظرية وربما يكون أهمها في الوقت الحالي هو دعم المصالحة الوطنية، والمساهمة في جهود العدالة الانتقالية من خلال جمع الشهادات والعمل مع المنظمات الدولية، ودعم المبادرات التي تعزز التعايش السلمي وتجاوز الانقسامات السياسية والاجتماعية، والأهم من ذلك دعم التأهيل النفسي والصحي للمعتقلين السابقين في سجون النظام، وغيرهم ممن أضر الحصار والقتال بصحته الجسدية والنفسية، ولربما يمكن التشارك مع المنظمات الدولية والمحلية في دول الشتات.

تحديات ومصاعب

تشكل سنوات الحرب والانقسامات السياسية والاجتماعية حاجزا من عدم الثقة بين السوريين في الداخل والخارج. يشعر كثيرون في الداخل بأن الشتات قد ابتعد عن معاناتهم اليومية أو لم يسهم بشكل كاف في دعمهم خلال الأوقات الحرجة، في حين يرى بعض المغتربين أن الداخل قد فقد الحافز للتغيير أو أصبح أكثر تأثرا بالإملاءات الخارجية. هذا التباعد يغذيه ضعف التواصل المباشر، والانقسامات السياسية، واختلاف التجارب والظروف المعيشية بين الطرفين.

وفي سبيل التغلب على انعدام الثقة يجب تعزيز الشفافية من خلال توضيح دور المغتربين ومساهماتهم بشكل ملموس، وإطلاق حوارات مفتوحة بين الداخل والخارج لبناء تفاهمات مشتركة، بالإضافة إلى تركيز الجهود على القضايا الوطنية المشتركة مثل العدالة الانتقالية، إعادة الإعمار وتعزيز الهوية الوطنية.

لكن تعاني العديد من منظمات المجتمع المدني السورية، سواء في الداخل أو الشتات، من نقص التمويل اللازم لتنفيذ مشاريعها بشكل مستدام. يعود ذلك إلى الاعتماد المفرط على التبرعات الفردية والمساعدات المؤقتة، إضافة إلى التنافس الكبير على الموارد بين المنظمات العاملة في مجال الإغاثة وإعادة الإعمار. كما أن تراجع اهتمام المانحين الدوليين مع تغيّر الأولويات السياسية يفاقم من حدة المشكلة.

ولتخطي ذلك يجب تنويع مصادر التمويل مثل بناء شراكات مع منظمات دولية، واستقطاب استثمارات مجتمعية، وإطلاق حملات تمويل جماعي تستهدف السوريين في الشتات والمؤسسات الداعمة، ومن المهم أيضا تعزيز الشفافية والاحترافية لكسب ثقة الممولين والداعمين.

توطين عمل المنظمات: خطوة نحو الاستدامة والفاعلية

يشكل توطين عمل منظمات المجتمع المدني، ضرورة استراتيجية في مرحلة إعادة البناء. يعني ذلك نقل العمل والعمليات الأساسية إلى الداخل السوري، مع تمكين الكوادر المحلية لتولي القيادة والتنفيذ. هذا النهج يضمن استدامة الجهود وتعزيز مصداقية المنظمات بين المجتمعات المحلية. فتوطين عمل منظمات المجتمع المدني السورية في الشتات، أو دمج جهودها مع الداخل، يحمل العديد من الفوائد, مثل تعزيز التأثير المحلي من خلال القرب من المجتمعات المتضررة وفهم احتياجاتها بشكل مباشر, وبناء قدرات محلية عبر تدريب الكوادر المحلية لتولي القيادة والتنفيذ، مما يعزز الاستدامة, بالإضافة الى زيادة الثقة والمصداقية, عندما تكون الجهود بقيادة محلية، يكون المجتمع أكثر استعدادا للتعاون والمشاركة, وأيضا هذا التوجه يعني تخفيض التكاليف ويقلل الاعتماد على الموارد الخارجية ويعيد توزيع التمويل لدعم المشاريع مباشرة في الداخل.

في النهاية أريد أن أقول إن منظمات المجتمع المدني السورية في الشتات تلعب دورا حاسما في إعادة بناء سوريا بعد سقوط نظام الأسد. من خلال تعزيز الروابط بين الداخل والخارج، وتنظيم حملات لتعزيز الهوية الوطنية، وتقديم الدعم في مجالات التنمية والمصالحة، تسهم هذه المنظمات في وضع أسس متينة لسوريا المستقبل. ومع تعزيز التعاون والتنسيق، يمكن لهذه المنظمات أن تكون جسرا قويًا نحو تحقيق رؤية وطنية شاملة تتجاوز جراح الماضي وتوحد جميع السوريين في بناء وطن جديد.

تلفزيون سوريا

————————–

من تحديات الانتقال السياسي في سوريا/ حسان الأسود

2025.01.11

لعل الناظر إلى الساحة السورية من خارجها يكون أوفر حظا في رؤية تشابكات المصالح الإقليمية والدولية المعقدة، لكن الفهم الأعمق يستدعي بالضرورة قراءة الخارطة الداخلية المكتظة بالفواعل العسكرية والسياسية والمجتمعية المختلفة. عنونت قناة دبي التلفزيونية أحد برامجها الحوارية بـ “تحالف أعداء في هيئة أصدقاء يُخرج سوريا من عرين الأسد”، وهذا هو الذي حصل فعلا للانتقال من حالة السبات الطويلة التي مرت بها سوريا خلال الأعوام الماضية، إلى حالة أقل ما يمكن أن توصف به أنها دراماتيكية متسارعة تحبس الأنفاس. وجدت روسيا نفسها مضطرة إلى مقايضة حليف جلف غبي لا يفقه إلا لغة التعنت والانتقام بشيء من التساهل في ملف حربها على أوكرانيا، فدونالد ترمب قادم خلال أسابيع إلى البيت الأبيض وعلى بوتين أن يقدم عربون صداقة أولا، خاصّة وأنه واجه صعوبات في الحفاظ على نظام الأسد بعد أن غيرت إسرائيل ومن خلفها الغرب كله معادلات الشرق الأوسط جذريا. الفراغ الكبير الميداني في سوريا والذي أحدثه سحق حزب الله الإرهابي في لبنان، كان له أكبر الأثر في القرار الروسي رفع الغطاء عن الأسد، الذي جلبه بوتين إلى موسكو ليقايض به ربما لاحقا على بعض النفوذ في مياه المتوسط. تركيا التي تمهّلت كثيرا وترددت أكثر في فترات سابقة، أقدمت اليوم على الخطوة الحاسمة التي جسدت نقطة تلاقي المصالح المختلفة. لقاء العرب والأتراك في عمان سيكون عنوان تقاسم الأدوار وتثبيت المصالح والحدود.

في لحظات كثيرة من تاريخ الصراع في سوريا كان تضارب المصالح الخارجية هو العامل الحاسم في تأجيل الحل السوري، واليوم بعد أن اندحر النظام الاستبدادي مع انكسار شوكة محوره الداعم في إيران تحديدا وضعف الحليف الأكبر في روسيا، بات تجاذب المصالح الداخلية هو المشكلة التي يجب النظر إليها بجدية أكبر.

ثمّة ثلاثة قوى عسكرية رئيسية في سوريا اليوم، تتمثل الأولى بما أصبح يعرف باسم “إدارة العمليات العسكرية” والتي تقودها فعليا أكبر قوّة منظمة ضمن مجموعة القوى المشكلة لها، ونعني بها هيئة تحرير الشام. تتمثل هذه القوّة سياسيا عبر ما بات يعرف باسم “الإدارة السياسية” وإداريا بحكومة تسيير الأعمال التي أتت كليّا من حكومة الإنقاذ التي كانت تدير إدلب خلال السنوات الماضية. غني عن القول إن الرجل الأقوى في كل هذه التركيبة هو أحمد حسين الشرع المعروف سابقا بلقب الجولاني.

القوة الثانية المنظمة بشكل جيد، حتى الآن على الأقل، هي قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، والتي تتمثل سياسيا عبر مجلس سوريا الديمقراطية (مسد)، وهو المجلس الذي يضم عددا من الأحزاب الكردية أكبرها وأهمها حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) وعددا من القوى السياسية العربية والسريانية وعددا من ممثلي العشائر. تتمثل هذه القوّة إداريا عبر ما بات مشهورا باسم “الإدارة الذاتية لشمال شرقي سوريا”.

أما القوة الثالثة فهي الجيش الوطني المشكل من مجموعة كبيرة من الفصائل المسلحة، المحلية والتي أتى بعضها من المدن السورية المختلفة في فترات متلاحقة من تاريخ الصراع والتهجير، وهي تشمل جميع محافظات القطر باستثناء اللاذقية وطرطوس والسويداء، وبعضها الآخر تشكل خلال هذه الأعوام من أبناء المنطقة الشمالية الغربية، أي إدلب وحلب. تتمثل هذه القوى سياسيًا من حيث الشكل بالائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، وإداريًا بالحكومة السورية المؤقتة.

إضافة لكل ما سبق، ثمة قوى محلية مختلفة تجمع بين الفواعل العسكرية والمدنية والمجتمعية، كما هو الحال في درعا والسويداء، وكما هو الحال في الكيانات السياسية والمدنية المختلفة التي تشكلت على مدار السنوات الماضية داخل سوريا وخارجها وبالتزاوج بين الداخل والخارج في كثير من الأحيان. لا يمكن بكل الأحوال إغفال دور هذه الفواعل في التأثير العام بالمشهد السوري. فمجموعات الضغط السورية في الولايات المتحدة على سبيل المثال، والتي من بينها منظمات سياسية ومدنية وإغاثية عديدة، لعبت أدوارا مهمّة في مجالات عدة، خاصة منها مجال العقوبات المفروضة على النظام البائد. كذلك هناك التحالف السوري الديمقراطي الذي يضم بين جنباته 25 كيانًا سياسيا و25 منظمة مدنية ومئات الأفراد المستقلين، وهو الكيان الذي أنشئ في العاصمة الألمانية برلين في تشرين الأول / أكتوبر عام 2023، وقد أصبح لاعبا سياسيا ملحوظا في الساحة السورية بحكم وجوده في بلدٍ تعد جاليته السورية مليونا أو أكثر قليلا وله علاقات مميزة مع الخارجية الألمانية خاصة والاتحاد الأوروبي عموما، وبحكم انتشار أعضائه على كامل الجغرافيا السورية.

ليس بالضرورة أن تكون كثرة الفواعل المؤثرة في المشهد السوري سلبية الأثر على مستقبل البلاد، كما إنها بالمقابل قد لا تكون إيجابية. مناط البحث في هذه المسألة هو توافق هذه الفواعل على مبادئ وطنية لا يمكن تجاوزها من جهة، وابتداع آليات لتشارك الحلول ومنع تعقيد المشكلات الكثيرة والزائدة عن الحد أساسا من جهة ثانية، والقدرة على التفاوض والمساومة ضمن أطر الوطنية السورية لا على أساس المصالح الحزبية أو الفئوية أو الجهوية من جهة ثالثة. فإذا ما اتفق “الأخوة الأعداء” على مبدأ رئيس لا يمكن التنازل عنه من قبيل “سوريا أولا”، ثم وضعوا معيار المصلحة السورية مقياسا وميزانا لخلافاتهم، واتفقوا على أن يحكم بينهم ليس الضمير فحسب، بل ومؤسسات دستورية توافقية وشاملة الجميع وغير طائفية ولا مناطقية، مثل جمعية تأسيسية مؤقتة، أو مجلس خبراء تكنوقراط، أو هيئة قضائية دستورية، أو مجلس حكم انتقالي مؤقت.. فإنهم سيكونون على الطريق الصحيح.

هنا لا بد من الإشارة إلا أن السياسة تقوم أساسا على مبدأ التفاوض والمساومات، وهذه تستند بالدرجة الأولى لموازين القوى والجهات الداعمة. فإذا نظرنا إلى خارطة تحرك القوى العسكرية التي نفذت عملية ردع العدوان، لوجدنا أنها ما كانت تهدف إلا الضغط على النظام لتغيير سلوكه الرافض للتفاوض، لكن انهياره السريع بحكم الفراغ الكبير الذي سببه غياب حلفائه، جعل التفاوض أمرا غير ذي جدوى، فانتقلت العملية للسيطرة الكاملة وإنهاء النظام كله واقتلاعه من جذوره. إذا ما أصاب الغرور هذه القوة الرئيسة في عملية الإسقاط، وإذا ما ابتعدت عن الواجب الذي يقضي التفاهم مع بقية القوى السورية التي دفعت أبهظ الأثمان على مذبح الحرية خلال سنوات الثورة الثلاث عشرة، فإنها ستقع في المطب الذي نرجو أن تراه وتتجنبه. هذه بعض التحديات التي يمكن أن تواجه التغيير المنشود في سوريا، وثمة كثير منها مما سيكون محور الكتابة عنه في مقالات لاحقة.

تلفزيون سوريا

————————–

سوريا تولد من جديد: الانتصار الذي أعاد الأمل للسوريين/ فاطمة عبود

2025.01.11

عيون السوريين التي طالما شخصت نحو السماء، مترقبة بخوف وجزع طائرات السوخوي والميغ بأشكالها وأنواعها وهي تحوم في سماء سوريا، منتهكة حرمتها، ومستهدفة المدنيين العزل الذي لا حول لهم أو قوة، بمشهد لا يمكن أن يمحى من ذاكرة أي سوري، العيون التي كانت تترقب صواريخ الطائرات القاتلة، وبراميل الموت الهابطة من مروحيات الهيلوكوبتر في السماء، هي نفسها اليوم تتحول إلى عيون أخرى في مشهد آخر، هذه العيون تترقَّب بكل ما أوتيت من شغف سقوط النظام السوري الغاصب شيئاً فشيئاً، وتراقب انسحاب أذنابه من مدن سوريا بدءاً من حلب ومروراً، بحماة وحمص ودرعا والسويداء وانتهاءً بدمشق، حينها سيسطر التاريخ في صفحاته الخالدة حدثاً مهماً من تاريخ سوريا عنوانه الأبرز انتهاء حكم الطغاة من عائلة الأسد والذي استمر لأكثر من خمسين عاماً، سيصف التاريخ، وسنكون شاهدين على ذلك، كيف انهزم هذا النظام على يدي أحرار سوريا ملطخاً بالخزي والعار.

 الأخبار العاجلة التي تتصدَّر محطات الإعلام التلفزيونية الفضائية وتغطي الأحداث التي تجري على أرض الواقع في سوريتنا، وتبثها إلى جميع أنحاء العالم، تتسابق مع فرحة السوريين الأحرار، لذلك يمكن أن نقول إن السوريين منذ 27/11/ 2024 يعيشون حالة من الدهشة والفرح والحبور التي لا يمكن وصفها بالكلام أو التعبير عنها بالكتابة، مشاعرهم مختلطة ولا يمكن تحديدها، فقد اصطدم عندهم الواقع بالأحلام، والماضي بالحاضر، والألم بالأمل، إذ يتناقل السوريون الأخبار فيما بينهم غير مصدقين ما يجري على أرض الواقع، وسط حالة من الفرحة الجماعية العارمة، وعدم التصديق لما يحدث على الرغم من أنَّهم يرون تقدُّم جيوش الأحرار ضمن عملية (ردع العدوان) رأي العين.

يحاول السوريون الأحرار عبر مواقع التواصل الاجتماعي توصيف ذهولهم بعد حدوث المعجزة التي طال انتظارها، فتراهم يضحكون تارة من فرط سعادتهم، ويبكون تارة من فرط سعادتهم أيضاً، وقد يختلط البكاء بالضحكات، فبعد أن قنط معظمهم من النصر على الطغمة الظالمة، وأصبحت لديهم حالة شبيهة باليقين من أنَّ الظلم الذي خيم بظلامه على سماء سوريا، وفرد جناحيه على مساحة واسعة منها، لن ينقشع، فتخلَّى بعضهم عن حلم العودة إلى الوطن، مستسلمين للعجز عن الفعل أمام جبروت الطغيان وبطشه، الآن، ومن جديد، يعود الأمل لكثير من السوريين الذين أضنتهم الغربة بعذاباتها، وأوجعهم الاغتراب عن أرض لا ينتمون إليها، ووجوه لا يعرفونها، وأتعبهم الاشتياق، واجترار الذكريات، الآن، قرار العودة إلى وطنهم وبيوتهم التي هجروها رغماً عنهم بين ليلة وضحاها، هرباً من الموت والذل، أوشك قاب قوسين أو أدنى من التحقُّق.

من جهة أخرى، امتزجت مشاعر الفرح بتحقيق السوريين لحلمهم بالقضاء على الظلم والظالم وتحقيق الحرية المنشودة بمشاعر الحزن والألم عند بعض السوريين، فبعضهم خرجوا من سوريا نازحين بعد أن هدمت بيوتهم، وما بقي لهم بعد العودة مكان يعودون إليه، بل أضحت بيوتهم أطلالاً تخبئ تحت ركامها كثيراً من الذكريات التي لا تفارقهم، ومنهم من فقدوا أحبابهم في بلاد الغربة، فأصبحت العودة إلى الوطن عودة ترافقها غصة مرة، وغدت فرحتهم فرحة مشوبة بالأسى والفقد، وبعضهم لم يبق لهم من أحبابهم سوى قبور دفن أصحابها على عجل، في حين كان أولادهم وذويهم بعيدين عنهم، وبعضهم لم يكن لأحبابهم قبور يزورونها، بل تناثرت أجسادهم واحتضنتها الأنقاض المتراكمة حتى امتزجت بها.

المهم أنَّه من بين كل هذه المشاعر التي تحدثنا عنها اختفت مشاعر الخوف التي طالما أنهكت قلوب السوريين الأحرار، وحلَّت مكانها مشاعر عودة الثقة بالنفس التي عمل النظام السوري لفترة طويلة على زعزعتها والتشكيك بها، هذه الثقة المتجددة تعكس إيمان السوريين بقدرتهم على صنع التغيير، وإعادة بناء وطنهم رغم كل التحديات التي لم تكسر إرادتهم، عودة الثقة بالنفس هي الخطوة الأولى نحو استعادة الكرامة والعمل المشترك لبناء مجتمع يسوده العدل والمساواة، وهي رسالة للعالم بأن إرادة الشعوب لا يمكن أن تُقهر.

إنّ ما يميز السوريين اليوم هو أنهم ليسوا متفرجين منفعلين بما يحدث على أرض سوريا، بل هم أنفسهم أصحاب الفعل والقرار؛ ذلك لأنهم دفعوا ثمن هذه اللحظات التاريخية من دمائهم وأرواحهم، وهم يدركون بوعي تام أن عليهم إتمام معركتهم حتى تستعيد سوريا عافيتها، فما على السوريين في هذه الفترة العظيمة سوى أن يرفقوا المشاعر بالعمل الإيجابي، وذلك حين يتحول الفرح بالعودة إلى الوطن إلى تصميم على إعادة بناء الوطن الذي استعادوه بيوتاً وقرى ومدناً، وبناء الوطن لا يقتصر على بناء الحجر فقط، وإنما يشتمل على إعادة بناء الإنسان السوري الذي أصيب رغماً عنه بإصابات نفسية واجتماعية يصعب تجاوزها بسهولة، فلا بدَّ من ترميم الجراح حتى تشفى وتتعافى؛ لأنَّ سوريا التي تصرخ اليوم بأعلى صوتها، تعلن مخاضها الجديد، في مرحلة تاريخية مفصلية، وهي بحاجة إلى أبنائها الأحرار الذين سيصنعون مجدها رغم أنف الطغاة المستبدين، بغض النظر عن اختلافاتهم وطبقاتهم وانتماءاتهم.

———————————–

المرأة السورية ودورها النهضوي قبل مئة عام: انخراط مبكر في السياسة سعيا إلى الإصلاح والمواطنة/ سوسن جميل حسن

آخر تحديث 10 يناير 2025

تشكلت الحركة النسائية في سوريا في ظل الانتداب الفرنسي (1920-1946) كقوة سياسية مستقلة وأصلية، وساهمت النساء في إعادة تعريف الثقافة السياسية في سوريا، وكانت لهن الريادة في التعبئة الاجتماعية والشعبية من أجل المطالبة بالإصلاحات على مستويات عدة. صارت مطالبهن الاجتماعية مركزية في الساحة السياسية. حتى عام 1946، ساهمن في تحسين الحالة المعيشية والاجتماعية والحقوقية إلى حد ما، وتقول الكاتبة إليزابيث طومسون في بحثها المعنون “الحركة النسائية وصعود دولة الرفاهية الاستعمارية في سوريا (1920-1946)” إن مطالبات النساء كانت تدور حول تحقيق “دولة الرفاهية” في سوريا أسوة بما يتمتع به المواطنون الأوروبيون في دولهم، وتضمن الحقوق القانونية الأساسية للعمال والنساء والأسر.

في 24 يوليو/ تموز 1920 قادت امرأة شابة بلباس عسكري كتيبة من ممرضات “الجيش العربي” في ساحة المعركة في ميسلون غرب دمشق، وكانت هزيمة العرب في ذلك اليوم بمثابة نهاية للمملكة العربية السورية التي أسسها الملك فيصل بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية في أكتوبر/ تشرين الأول 1918. هذه الشابة هي نازك العابد (1887 – 1959) التي يمكن تعريفها بأنها رائدة في النضال من أجل الاستقلال وحقوق المرأة، بشكل خاص، وحقوق المواطنة بشكل عام.

لكن عابد التي دعمت جهود فيصل لتحديث المجتمع العربي، تعهدت بمواصلة النضال من أجل المساواة في الحقوق لجميع المواطنين، رجالا ونساء. واستمر نضالها مع نساء عديدات، خلال الانتداب السوري الذي عهدت به عصبة الأمم إلى فرنسا (1920-1946)، واستطعن بناء حركة نسائية ذات دور سياسي ملحوظ، وساهمت هذه الحركة في تغيير الثقافة السياسية السورية.

كانت السياسة قبل الانتداب الفرنسي في 1920 في أيدي نخبة ذكورية، وكانت الإصلاحات الاجتماعية مسؤولية الدولة العثمانية ثم الفيصلية بشكل أساسي. وخلال الحرب العالمية الأولى وبعدها، مارست الحركات الشعبية ضغوطا على الدولة الانتدابية ثم المستقلة للحصول على الإصلاحات. فكيف تمكنت الحركة النسائية من لعب مثل هذا الدور في الحياة السياسية السورية؟

مدارس وجمعيات

ولدت الجمعيات الخيرية السورية في نهاية القرن التاسع عشر أسوة بالحركة التبشيرية المسيحية التي رعتها بعض الدول الغربية، أنشأت الجمعيات النسائية مدارس للفتيات في دمشق ومدن سورية أخرى. كان هدفها تحسين أوضاع الفقراء وتعزيز التقدم الاجتماعي بروح إصلاحات الدولة العثمانية.

اتسع مجال عمل هذه الجمعيات وازداد في أثناء الحرب العالمية الأولى، مع نمو الفقر والجوع والأوبئة وفي غياب المدارس والمستوصفات التبشيرية بعدما طرد معظمها الحكم العثماني، بدأ العثمانيون بدعم الجمعيات الخيرية النسائية، بدوافع اجتماعية وسياسية. لكن جمال باشا، والي سوريا، خشي من حدوث ثورة ضد السلطان، خاصة أنه في عام 1916، خرجت تظاهرات ضد الدولة العثمانية بسبب نقص الخبز، قمعها بإعدام مجموعة من القادة العرب القوميين، هذا ما أوردته الكاتبة إليزابيث طومسون في البحث نفسه، لكن هناك أسبابا أخرى بالطبع، وليست تظاهرات الخبز هي السبب الوحيد، فقد كانت الإمبراطورية العثمانية في مرحلة سقوطها في الحرب العالمية الأولى، وكانت الحركة القومية السورية تسعى إلى التخلص من الحكم العثماني.

وبفضل هذه الإعانات الحكومية، جمعت بعض النساء من النخبة الحضرية، الأطفال الجياع في الشوارع وأمنت لهم الحمامات والفحوص الطبية ودروس القراءة والعمل اليدوي. إحدى هؤلاء النساء كانت عادلة بيهم الجزائري (1900-1975)، مؤسسة الحركة النسائية في دمشق، كما جاء في كتاب غادة هاشم تلحمي، “المعجم التاريخي للمرأة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا”.

بصعود فيصل إلى السلطة وإنشاء الدولة الوطنية العربية، تقدمت نازك عابد، بطلب للحصول على إعانات حكومية لتأسيس جمعيتين: إحداهما مستوحاة من الصليب الأحمر، “النجمة الحمراء”، والأخرى “نور الفيحاء” التي شجعت على نشر الثقافة العربية في مدرسة البنات، وكذلك في الصحيفة التي أسستها. في الوقت نفسه، أنشأت ماري عجمي (1888-1965)، صاحبة صحيفة “العروس” وتعدّ رائدة الصحافيات السوريات، “نادي النساء المسيحيات” بتمويل من الدولة الفيصلية. وفي عهد فيصل، القصير (1918-1920)، دمجت الجمعيات الخيرية النسائية قضية التقدم الاجتماعي مع الهدف السياسي المتمثل في بناء دولة عربية مستقلة، رغبة في إثبات قدرة العرب على بناء دولة حديثة. فطالبت نازك عابد ومجموعة من النساء، بحق التصويت في المؤتمر السوري، وبنين حجتهن على دورهن خلال الحرب، باتباع النموذجين الأميركي والبريطاني. بعد المداولات، صوّت العديد من النواب لصالح حق المرأة في التصويت. ومع ذلك، أُجّل الإجراء بسبب الاحتجاجات الشعبية. لكن بعدما أعلن المؤتمر العربي السيادة على سوريا الكبرى في يوليو/تموز 1919 وأصبح فيصل ملكا في مارس/ آذار 1920، ألغى الجيش الفرنسي المملكة والبرلمان والآمال القومية في يوليو/تموز 1920. ذهب فيصل إلى المنفى في روما واختفى كل دعم الدولة للمجموعات النسائية، وصارت الأموال تحوّل إلى الجمعيات الخيرية الفرنسية – مثل الصليب الأحمر و”غوت دو لي” (قطرة الحليب)- وأضعفت السلطة الانتدابية الحركة النسائية السورية إلى حد كبير. كما أغلق الفرنسيون مدرسة عابد وكذلك جمعيتها “النجمة الحمراء”، وأجبر العديد من النساء السوريات الناشطات على الانضمام إلى الجمعيات الفرنسية.

الثورة ضد الانتداب

وفي الثورة السورية ضد الانتداب الفرنسي التي انطلقت في 1925، نظمت النساء أنفسهن في حركة نسائية مستقلة عن الدولة، واجتمعت نحو ثلاثين امرأة لكتابة الاحتجاجات التي وجهنها إلى عصبة الأمم، كذلك دعمن الثوار المتوارين في الغوطة، وبدأت الجزائري وعابد ومعهما ثريا حافظ (1911-2000)، ينشطن في مجموعة سياسية صريحة، هي الاتحاد النسائي في سوريا ولبنان.

جمعت هذه الحركة لجانا نسائية من مدن عدة ونظمت مؤتمرها الأول في بيروت عام 1928. وقد جذب هذا التجمع الذي ضم أكثر من ألف امرأة يمثلن نحو أربعين جمعية سورية ولبنانية انتباه الصحافة. إذ ركز برنامجهن على القضايا الاجتماعية، وليس السياسية للوهلة الأولى. طالبت المندوبات الدولة بمزيد من المدارس للفتيات، مع تعليم اللغة العربية والتاريخ. كما طالبن بزيادة عمليات المراقبة الصحية على المخابز لأن الخبز، وهو الغذاء الأساسي للسكان، يشتبه في أنه يحمل أمراضا بسبب انعدام النظافة في المخابز. كما طالبن بإعانات للمرضى وكبار السن والسجناء.

وأخيرا، دعا المؤتمر إلى إصلاح قانون الأحوال الشخصية للمرأة المستند إلى الشريعة الإسلامية كرفع سن الزواج إلى 17 عاما، ووضع تدابير لتقييد تعدد الزوجات، وقانون ميراث يساوي بين النساء والرجال، وحقوق إضافية للنساء تسمح لهن بطلب الطلاق، خاصة بعد اطلاع المندوبات في المؤتمر على الإصلاحات المهمة في ما يتعلق بوضع المرأة التي قامت بها الدولة التركية الناشئة بعد سقوط الإمبراطورية، في الوقت الذي كانت فيه سلطات الانتداب الفرنسي تمنع اتخاذ قرارات مماثلة في سوريا، لأسباب ليس أقلها أن الفرنسيين يعتمدون على دعم السياسيين السوريين المحافظين.

وهكذا ساهمت مطالب النساء في ولادة ثقافة سياسية جديدة في دمشق، وفرضت النساء أنفسهن كمواطنات نشطات وطالبن بالمزيد من الإصلاحات: إذا تزوجن في وقت لاحق، ففي إمكانهن البقاء في المدرسة لفترة أطول. إذا ورثن، فسيكن قادرات على دعم المزيد من المبادرات السياسية. وإذا لم يعانين من طغيان أزواجهن، أو إذا لم يخشين أن يطلب أزواجهن الطلاق، فسيكنّ حرّات في ممارسة حياة نشطة كمواطنات. ووفقا لهذا المنطق، كان الهدف النهائي للبرنامج الإصلاحي هو الحصول على الحقوق السياسية الكاملة للمرأة، ولا سيما الحق في التصويت.

تحالف الانتداب والمحافظين

لم يكن نضال أولئك الرائدات يسير بشكل سلس أو من دون عوائق، فقد فشلت الحركة النسائية في الحصول على حقوق سياسية تحت الانتداب. ولن تنجح النساء في إجراء إصلاحات قانونية من سلطة فرنسية لا تريد استفزاز حلفائها من السوريين المحافظين، وبدلا من ذلك تعزّز دعمها لهؤلاء الحلفاء بعد الثورة.

في عام 1928، أذن المفوض السامي هنري بونسو الذي شغل هذا المنصب بين عامي 1926 و1933 بانتخاب جمعية تأسيسية، لكنه عارض بعد ذلك اعتماد هذه الجمعية دستورا قوميا يمنح السلطة العليا للممثلين الرسميين المحليين. في عام 1930، قرر بونسو إصدار دستور يمنح هذه السلطة للمفوض السامي الفرنسي ويضمن انتخاب العديد من زعماء القبائل وكبار ملاك الأراضي، حلفاء المستعمرين، للبرلمان (نشر القرار في الجريدة الرسمية العدد 12 ملحق تاريخ 30/2/1932 الصفحة 1). ردا على ذلك، شكل القادة القوميون، وكانوا في غالبيتهم أزواج النساء المشاركات في الحركة، الكتلة الوطنية، التي فازت بغالبية المقاعد في البرلمان في عام 1936. لهذا، تعرضوا لانتقادات القوميين الأكثر راديكالية. ثم تعهدت الكتلة الوطنية بتجنيد الناخبين في المدينة، من خلال الاقتراب من الجماعات الإسلامية. منع هذا التحالف مؤسسة الزواج المدني وإصلاح الأحوال الشخصية في عام 1938. وقد ساهم هذا المزيج من المصالح بين الحركة القومية والإسلاميين في إضعاف الحركة النسائية وتهميشها. ومع ذلك، كان لهذه الحركة تأثير ملحوظ على الثقافة السياسية في دمشق، فقد ساعدن في إدخال القضايا الاجتماعية في المناقشات السياسية.

كانت غالبية قائدات الحركة النسائية متعلمات ومعلمات، قمن من خلال مهنهن بالتعبئة الاجتماعية، فثريا الحافظ على سبيل المثل، أسست في عام 1930، جمعية “دار كفالة الفتاة” مع زميلتها سنية القباني، كما جاء في “الموسوعة الدمشقية”، التي ابتدأت أعمالها برعاية عشرين فتاة، واستمرت حتى عام 1965، وبلغ عدد طالباتها عند إغلاقها 400 طالبة، تهدف إلى توفير التعليم للفتيات الفقيرات واليتيمات، واستطاعت جذب نساء الطبقة الوسطى لدعم مشروعها، وكانت تشارك مع طالباتها بانتظام في التظاهرات والاحتجاجات القومية من أجل تحسين أجور المرأة وظروف عملها. كذلك عادلة بيهم الجزائري التي أنشأت جمعيتُها المؤسسة عام 1928، مدرسةً للبنات في العام 1931 تُدرّس القضايا القومية باللغة العربية. أدارت الجزائري المؤسسة لعدة عقود، وعرف عنها إنتاج أجيال من المتخرجات الناشطات سياسيا.

الصالونات الأدبية

ولا بد من الإشارة إلى أنه منذ عشرينات القرن العشرين، أصبحت الصالونات الأدبية التي تديرها النساء مكانا للتواصل واللقاء الاجتماعي. ماري العجمي، على سبيل المثل، أنشأت صالونا أدبيا في بيتها جذب إليه أشهر القوميين في البلاد، مثل فخري البارودي وفارس الخوري، متحدية الأعراف الاجتماعية باستقبالها الرجال والنساء معا. في نهاية الثلاثينات نظم النادي الثقافي النسائي سلسلة من المحاضرات النسائية في الأكاديمية العربية في دمشق التي كانت حتى ذلك الحين مخصصة للرجال.

وإذا كانت النتائج المرجوة في طلب الإصلاحات أو تغيير ظروف المرأة، والمواطنين بشكل عام، محدودة في بدايات الحركة، كما في دعوة نازك العابد وماري عجمي من أجل حق التصويت، فإن إصرار أولئك النساء ومثابرتهن أدّتا إلى نتائج ملموسة، والى تأسيس حركة نسائية تطورت وتنظمت بشكل أنضج بعد الاستقلال، خاصة بعدما انضم في الأربعينات من القرن العشرين، عدد من الشابات إلى الحزب الشيوعي. أصبحت قيادات القسم النسائي في الحزب – مثل مقبولة شلق وفلك ترزي – مشهورة. وفي 14 يوليو/تموز 1942، دعت ترزي النساء إلى أن يصبحن “مهندسات اجتماعيات” لمجتمع جديد بعد الحرب مع عدم إهمال أسرهن، مما أدى إلى انتقادهن من قبل المحافظين والمتدينين. ونجم عن هذا التعاون مع الحزب الشيوعي، تأسيس رابطة النساء السوريات لحماية الأمومة والطفولة في محافظات سورية عدة عام 1948.

هذه بعض المحطات عن دور المرأة النهضوي في سوريا قبل قرن من الزمن، عسى الاستعادة والتذكير يساهمان في تصويب الاعوجاج، أو يساعدان في النهوض بالمرأة من جديد، وحمايتها من النكوص في مكانتها ودورها الاجتماعي نحو فترات على تضاد مع حركة التاريخ.

المجلة

——————————-

تهديدات داخلية وخارجية تضع سوريا تحت مقصلة التقسيم/ عبدالله سليمان

يناير 11, 2025

بدأت تتنامى في أوساط المثقفين السوريين والنشطاء السياسيين مخاوف حقيقية من أن يكون تدهور الوضع الأمني في بعض المناطق ذات الحساسية الخاصة نتيجة وقوعها على خط صدع طائفي، مؤشر من بين مؤشرات أخرى، إلى وجود جهات محلية وخارجية تعمل ليل نهار لإفشال تجربة الانتقال السياسي في سوريا، وجرّ البلاد إلى مستنقع حرب أهلية دموية تمهيداً لفرض خيار تقسيم البلاد إلى كانتونات طائفية أو عرقية.

وقد أحصى المرصد السوري لحقوق الإنسان وقوع أكثر من 73 جريمة قتل أفضت إلى مقتل ما يقارب 148 شخصاً، وقعت كلها في مناطق الساحل السوري وحمص وحماة.

وثمة من يعتقد أن وقوع العديد من الانتهاكات والجرائم بالتزامن مع الحملات الأمنية التي تقوم بها إدارة العمليات العسكرية في بعض المناطق ذات الغالبية العلوية، قد يكون هدفه تحميل “هيئة تحرير الشام” تبعاتها لتبرير القيام برد فعل ضدها قد يكون منطلقاً لمواجهة أوسع، تسمح لذوي المصالح وأصحاب الأجندات بالمطالبة بكانتون خاص بالطائفة العلوية.

وتتخوف قيادة “هيئة تحرير الشام” التي تسلمت زمام السلطة مما تسميها “فلول النظام”، وفق ما ذكر لـ”النهار” مصدر عسكري فيها. ويقول إنّ “هذه الفلول التي لها مصلحة وجودية في إفشال عملية الانتقال السياسي في سوريا، لأن مصيرها سوف يكون المحاسبة على الجرائم التي ارتكبتها في حق الشعب السوري”.

وأضاف المصدر أن “لهذه الفلول ارتباطات خارجية مع حزب الله وإيران وربما مع بعض التنظيمات الفلسطينية القريبة من النظام المخلوع، وقد تكون لديها خطة وشيكة لزعزعة الأمن في البلاد للتشويش على انتصار الثورة وخدمة أجندة تلك الجهات التي تريد أن تعوض خسارتها في سوريا بأي ثمن”. وأشار المصدر إلى التصريحات التي صدرت عن مسؤولين إيرانيين متضمنة تهديداً مباشراً للأمن السوري، بحسب وصفه.

ولكن قد تكون “هيئة تحرير الشام” لسبب أو لآخر تقتصر على التصويب على فلول النظام ومن ورائها إيران إخفاءً لأخطار أخرى تهدد الأمن السوري ووحدة الأراضي السورية، لكن ليس بمقدورها الحديث عنها علانية بسبب ارتباطها بجهات خارجية تعمل الإدارة الجديدة على كسب ودّها أو تحييد خطرها.

وفي هذا السياق، كان لافتاً أن وزارة الخارجية السورية لم تكترث لوصف وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر الحكام الجدد في سوريا بأنهم “عصابة إرهابية”، وذلك في اتصال له بنظيره اليوناني قبل أسبوع.

ويدل المشهد السوري بعد شهر من سقوط النظام على وجود مناطق نفوذ، بعضها معلن وبعضها الآخر مستتر، ما زالت عصية على تمدّد سيطرة إدارة العمليات العسكرية إليها مثل السويداء ودرعا والقنيطرة، إذ تحافظ هذه المناطق على خصوصية ما تجعلها تحظى بمعاملة مختلفة عن باقي المحافظات. وهذا التميّز المناطقي، هو ما يستدل به المراقبون إلى احتمال وجود مخطط للتقسيم.

وتتعزز الشكوك أكثر مع رصد ما يجري في المناطق ذات الغالبية العلوية، حيث بدأ البعض يتخوف من أن يكون الهدف من جرائم القتل المتنقلة والتي تسجل ضد مجهولين، ومن تصاعد الانتهاكات ضد بعض الأفراد، هو دفع هؤلاء إلى المطالبة بأن يكون لهم كانتون خاص بهم. والحال أن القدوة جاهزة وهي محافظة السويداء التي تقطنها غالبية من طائفة الموحدين الدروز.

وصدرت عن وجهاء العلويين بيانات كثيرة ترفض فكرة التقسيم وتؤكد على العيش تحت راية الحكم الجديد، على أن تسود العدالة وسيادة القانون ودولة المواطنة. ولكن يظل هناك من يتخوف من أن صبر العلويين، إذا تمادت الانتهاكات، قد ينفد أو قد ينكسر الإجماع بينهم على رفض التقسيم ، وخصوصاً إذا جرى تجميله بمسميات برّاقة كالفيديرالية أو الكونفيديرالية. وهو ما قد تستغله جهات خارجية من أجل تفعيل خيار التقسيم.

وتعمل إسرائيل على إنشاء منطقة آمنة في الجنوب السوري بعمق 15كيلومتراً وطول 60 كيلو متراً، وفق ما نشرته صحيفة “يديعوت أحرونوت”، الأمر الذي يمنحها إمكان تأثير كبير على ترتيب المشهد في تلك المنطقة الحيوية، بخاصة مع موقفها المتشدد من الإدارة الجديدة، إذ اتهمت تل أبيب الغرب بأنه يتعامى عن خطر وصول أحمد الشرع إلى الحكم في سوريا.

ولعل الأخطر من ذلك ما كشفته صحيفة “يسرائيل هيوم” عن عقد المسؤولين الإسرائيليين اجتماعاً سرياً داخل مجلس الوزراء الإسرائيلي، خصص لمناقشة الوضع المستقبلي في سوريا، إذ طرح اقتراح لعقد مؤتمر دولي يهدف إلى تقسيم سوريا إلى كانتونات (مناطق إدارية).

وأوضحت الصحيفة أن بنياهو نتنياهو يعتزم عقد اجتماع خاص في الأيام المقبلة لدرس الموضوع بشكل أوسع، مع التركيز بشكل خاص على التهديد الذي يشكله الوجود التركي في سوريا بالنسبة إلى إسرائيل.

النهار العربي

————————–

بناء سوريا الحديثة… دروس التجربة العراقية/ د. سـليم زخّـور

يناير 10, 2025

بعد أسابيع من سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، يتزايد النقاش بشأن مستقبل البلاد وصياغة المرحلة الانتقالية التي تمهد للوصول إلى دستور دائم يحدد شكل الدولة ونظامها السياسي. في هذا السياق، صرّح القائد العام للإدارة السورية، أحمد الشرع، بأن عملية صياغة الدستور قد تستغرق حوالي ثلاث سنوات، مع توقع إجراء أول انتخابات بعد نحو أربع سنوات. في المقابل، أعربت مجموعة من النخب الفكرية والدستورية السورية، عن تقديرات تشير إلى أن الوصول إلى صيغة حكم نهائية استناداً إلى دستور دائم قد يتطلب فترة تراوح بين أربع سنوات وخمس سنوات.

في هذا السياق، يمكن استعراض التجربة العراقية كمثال لدراسة مسارها واستخلاص الدروس من إيجابياتها وسلبياتها، بما يمكن أن يفيد في الحالة السورية. جدير بالذكر أن التجربة العراقية استغرقت عامين منذ سقوط نظام صدام حسين عام 2003 حتى تشكيل حكومة تستند إلى دستور دائم.

تُعد التجربة العراقية في بناء نظام سياسي ودستوري جديد بعد سقوط النظام تجربة معقدة ومليئة بالتحديات، إذ مرت بمراحل متعددة تأثرت بالظروف السياسية الداخلية والتدخلات الخارجية.

جاءت خطط قيام النظام وليدة الظروف الناشئة وبتأثير دور القوى السياسية والدينية المستجد. فكانت مرحلتان: المرحلة الموقتة منذ انهيار النظام حتى 28 حزيران/يونيو 2004، لتبدأ في هذا التاريخ المرحلة الانتقالية حتى قيام أول حكومة على أساس الدستور الدائم في 20 أيار/مايو 2006، وبدء العراق مسيرة الدولة التعددية، بنظام اتحادي.

شكل قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية الإطار القانوني الذي رعى قيام السلطات العراقية وآلية عملها من الفترة الممتدة من 28 حزيران 2004 (بدء المرحلة الانتقالية مع تسلم السلطة العراقية من سلطة الائتلاف الموقتة) حتى 20 أيار 2005 (بدء أول حكومة عراقية مشكلة على أساس الدستور الدائم عملها).

وقد جاء هذا القانون كنتيجة طبيعية للتسوية التي أفضت إلى قيام مرحلة انتقالية تحضر لكتابة الدستور الدائم، خصوصاً في ظل الخلافات بشأن الآلية التي يجب اعتمادها لوضع الدستور، وتحديداً الهيئة المفترض أن توكل إليها هذه المهمة، مع إصرار المرجع الشيعي آية الله علي السيستاني على أن تكون هيئة منتخبة ديموقراطياً، واصطدام هذا المطلب بموقف أميركي يشدد على عدم القدرة على تحقيق ذلك خلال المهل المطلوبة.

كان للفتوى التي أصدرها آية الله علي السيستاني في حزيران 2003 الأثر البالغ على تحديد مسار الأمور في بناء العراق الجديد. السيستاني شدد على ضرورة حصول انتخابات عامة لاختيار مجلس تأسيسي يعنى بكتابة الدستور، على أن يطرح بعدها على تصويت عام.

فتوى السيستاني تعارضت مع توجهات سلطة الائتلاف الموقتة، التي شددت على ضرورة الإسراع في تسليم السيادة إلى العراقيين بناء على دستور جديد، يتم إقراره من هيئة عراقية لا تلبي آلية اختيار أعضائها شروط السيستاني. هذا التعارض تزامن مع تباين في الرؤى داخل الإدارة الأميركية وبين القادة العراقيين أنفسهم بشأن كيفية نقل السيادة ومتى.

للتوفيق بين كل هذه التناقضات عمدت سلطة الائتلاف الموقتة إلى إعادة تنسيق خطتها لتشمل مرحلة انتقالية تؤمن انتقال السيادة إلى العراقيين وتعمل على التحضير لكتابة الدستور الدائم من قبل هيئة وطنية مختارة بانتخابات عامة. وبالفعل تم تطوير هذه الخطة لتصبح اتفاقية بين مجلس الحكم وسلطة الائتلاف الموقتة وقد عرفت باتفاقية 15 تشرين الثاني/نوفمبر.

أبرز ما جاء في هذه الاتفاقية أنها حددت المهل الزمنية لقيام المرحلة الانتقالية والانتقال بعدها إلى مرحلة ما بعد الدستور الدائم. وقد نصت على وضع مجلس الحكم لقانون انتقالي يجري اعتماده من قبل سلطة الائتلاف الموقتة، على أن يحدد هذا القانون الإطار القانوني لحكومة العراق، ويتضمن ضمانة لحقوق الشعب العراقي الأساسية، والالتزام بالفيدرالية.

بالفعل تشكلت لجنة صياغة القانون الانتقالي من المجلس الرئاسي لمجلس الحكم (الأعضاء التسعة المفترض أن يتداولوا رئاسة المجلس)، برئاسة عدنان الباجه جي. وتولت الصياغة لجنة خبراء مصغرة مؤلفة من حقوقيين وقضاة وخبراء في القانون. وقد درست هذه اللجنة ستة نصوص مختلفة تقدم بها الفرقاء. انحصر الدور الأساسي في صياغة القانون بخمسة أشخاص، سالم الجلبي وفيصل الاستربادي وهما محاميان أميركيان من أصل عراقي وقد ساهما بشكل كبير في مشروع “مستقبل العراق” من خلال وضع تقرير”الانتقال إلى الديموقراطية في العراق”، بالاضافة إلى ثلاثة مسؤولين من سلطة الائتلاف الموقتة، لاري دايموند، عرفان صديق، ورومان مارتينز.

شكل قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية المكان الرسمي لصياغة التسويات وتكريسها في وثيقة دستورية ولو بصفة انتقالية. وستتبين أهمية هذه التسويات مع استمرارها في تنظيم وإدارة الحياة السياسية العراقية حتى بعد إقرار الدستور الدائم، لتكريسه الجزء الأكبر منها.

كذلك تبرز أهمية قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية على مستويات عدة، لجهة المبادئ التي أقرها ويمكن تبيانها على مستويات عامة ثلاثة: شكل الدولة، قيام السلطات وتنظيم عملها، والحقوق الأساسية للشعب العراقي. وهو ما دفع بعض الخبراء الدستوريين إلى اعتبار هذا القانون بمثابة دستور.

إلا أن شمول هذا القانون العديد من التسويات والتنظيمات المهمة لا يعني عدم استمرار الخلاف بشأن بعض القضايا العالقة والتي تم ترحيلها إلى الدستور الدائم، خصوصاً بالنسبة لمستقبل كركوك مع استمرار التباين بين القوى الكردية والعربية بشأن كيفية حل الإشكالات القائمة فيها.

لعل الصيغ الأبرز التي تمت مناقشتها: صيغة تقدمت بها القوى الكردية تبين المصالح والمطالب الكردية، صيغة “الكتلة الليبرالية” المرتبطة بعدنان الباجه جي، وصيغة الوفاق الوطني العراقي برئاسة إياد علاوي، فيما لم تقدم الكتلة الشيعية أي صيغة محددة، بل اعتمدت على مناقشة الصيغ المقدمة. وقد تمت الاستعانة بالقانون الأساسي للعراق الصادر عام 1925، وبالدستور الأميركي عندما تعلق الأمر بموضوع فصل السلطات.

استلمت الحكومة الانتقالية في العراق السلطة من سلطة الائتلاف الموقتة في 28 حزيران 2004، وعملت هذه الحكومة بموجب قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية على إجراء انتخابات الجمعية الوطنية في 30 كانون الثاني/يناير 2005. وقد أناط هذا القانون بالجمعية الوطنية كتابة مسودة الدستور الدائم، على أن يجري عرض المسودة على الشعب العراقي للموافقة عليه باستفتاء عام.

بشكل عملي تشكلت لجنة صياغة الدستور في 10 أيار 2005، وقد أنهت عملها في 28 آب/أغسطس بعد تمديد الفترة المحددة لها والتي كان من المفترض أن تنتهي في 15 آب. أقرت الجمعية الوطنية مسودة الدستور في 18 أيلول/سبتمبر وعرضتها على بعثة الأمم المتحدة للمساعدة في نشرها في أنحاء العراق قبل الاستفتاء الذي جرى في 15 تشرين الأول/أكتوبر 2005. وبنتيجة الاستفتاء أكدت مفوضية الانتخابات المستقلة أن الشعب العراقي وافق على الدستور طبقاً للمادة 61 من قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية.

حدد الدستور العراقي إطار النظام السياسي الجديد في العراق، وهو نظام يفترض أن يرعى التعددية العراقية وينظمها. وقد جاء هذا النظام ضمن تسوية بين المجموعات العراقية، على أنه يشكل الحد الأدنى المقبول لها من أجل رعاية مصالحها. لكن في الواقع طرح وجود أكثرية شيعية في عراق تعددي أزمة بشأن كيفية صياغة نظام يرعى العلاقة بين أكثرية وأقليات في إطار المحافظة على التعددية.

إن سعي الشيعة لحكم الأغلبية في العراق لم يكن سهلاً، نظرا لأن تصنيف الأغلبية والأقليات قائم على أساس هويات طائفية – إثنية، وليس على اعتبارات سياسية. وهذا ما يشكل عملياً معضلة بالنسبة للشيعة، لجهة الحصول على امتيازات الحكم بالأغلبية من خلال نظام يقوم على مراعاة التعددية.

التسوية تمت بشكل فريد بين حكم الأغلبية، الذي طالب به الشيعة، وضمانات الأقلية التي سعى إليها الأكراد، والتوازن يبقى دقيقاً بين المجموعات العراقية، والذي يترجم توازناً بين مفهومي حكم الأغلبية، والحكم بالتوافق. وعلى الرغم من القواعد الدستورية التي حددت موقع السلطات العامة، وعلاقتها مع بعضها البعض، إلا أن عمل هذه السلطات تأثر حكماً بقواعد النظام السياسي الجديد في العراق، وأوصل إلى حكم يرجح الأغلبية للشيعة، رغم استمرار قواعد التوافقية بصورة مشوّهة.

أهمية استعراض التجربة العراقية، تعود إلى تشابه كبير بين العراق وسوريا، لجهة بنية المجتمع التعددية، وانهيار النظام السابق والحاجة لنظام جديد، ووجود العديد من التدخلات الإقليمية والدولية، وغيرها من الأسباب.

يبقى على المسؤولين في سوريا، على مختلف مواقعهم، أن ينطلقوا في عملية بناء النظام الجديد من دون المبالغة في المهل الزمنية، فحركة المجتمع وسلطات الأمر الواقع قد تفرض واقعاً وتغيرات سيكون من الصعب الرجوع عنها.

النهار العربي

—————————

تحالفات نظام الأسد.. جذور الصراع بين الريف والمدينة/ حيان الغربي

11-يناير-2025

شهدت سوريا منتصف القرن الماضي، وتحديدًا عشية الاستقلال وخلال الفترة التي تلته مباشرة، حراكًا سياسيًا بدا واعدًا حينها، إلا أن الظروف التي نشأت لاحقًا أدت إلى وصوله إلى طريق مسدود.

تميز هذا الحراك بتمثله لكثير من قيم الحرية والحقوق المدنية، لكن العنصر الأبرز فيه كان اقتصاره على فئات نخبوية مدينية حافظت على امتيازاتها الفئوية منذ العهد العثماني، مرورًا بالحقبة الكولونيالية الأوروبية، وحتى عهد الاستقلال.

احتفظت هذه الفئات بجوهرها الإقطاعي العائد إلى العهد العثماني، رغم اكتسابها سمات برجوازية خلال الحقبة الكولونيالية، حيث ظلت تلك السمات سطحية ولم تتغلغل إلى المضمون. فبنيتها الإقطاعية الأساسية جعلت وعيها قاصرًا عن إدراك حاجات مجتمعها، مما حال دون قدرتها على تجذير الحقوق المدنية وتعميقها وتعميمها عبر إقامة بنى اجتماعية واقتصادية وسياسية حديثة ومواكبة. وكان ذلك بالرغم من وجود فرصة تاريخية تمثلت في انتعاش الروح الوطنية لدى مجتمع تحرر حديثًا من نير الاستعمار.

ولا شك أننا نجانب الصواب إذا توقعنا من فئات تفتقر إلى انتماء طبقي برجوازي أصيل (أي لم تخض ثورة طبقية حتمية بعد وصول مصالحها إلى تناقض جذري مع البنى الإقطاعية، بل نشأت من رحم هذا الإقطاع نفسه) أن تنهض بمهمات الثورة البرجوازية وفقًا لما تُعرف به أكاديميًا وبحسب التجارب التاريخية. وبينما نشأت هذه الفئات في كنف الاستعمار ورعايته، كان من الطبيعي أن تتسم بالتبعية الاقتصادية والسياسية له. ولعل هذه التبعية تجلّت بشكل أكثر وضوحًا في لبنان، حيث استمرت الفئات الحاكمة في وصف الدولة المستعمِرة سابقًا بأنها “الأم الحنون”.

إذًا، لم تعمل تلك الفئات على توسيع الحراك ليشمل الريف وأبناءه، الذين كانوا ولا يزالون يشكلون الكتلة الأكبر في سوريا. لم تكن هذه الفئات راغبة في ذلك، كما أنها لم تمتلك القدرة اللازمة. أدى هذا إلى اتساع الهوة بين المدينة والريف، ففي حين فضّل أبناء المدن امتهان السياسة والتجارة والحرف الأخرى، لجأ أبناء الريف إلى التطوع في المؤسسة العسكرية، مدفوعين بالفقر المدقع أكثر من أي شيء آخر. ومع استمرار المشكلات وغياب النخب المبدعة القادرة على إدراك هذه الأزمات وإيجاد الحلول لها، بدأ أبناء الريف يواجهون النزعة الفوقية التي عاملهم بها المدينيون بنزعة انتقامية. تنامت هذه النزعة تدريجيًا إلى أن أصبحت ذات طابع تدميري، بعد أن أضفت السلطة عليها عمدًا لبوسًا طائفيًا مع نهاية سبعينيات القرن الماضي.

ومن المهم التنويه هنا إلى أن النظام الذي استولى على الحكم إثر انقلاب عام 1963 لم يكن تعبيرًا عن تحالف للأقليات الطائفية ضد الأغلبية، بل كان انعكاسًا لتحالف أبناء الريف الناقمين على المدينيين بصفة عامة. ويمكننا أن نستدل على ذلك من خلال نقطتين رئيسيتين. الأولى، استثناء الفئات المسيحية من هذا التحالف، رغم مشاركتها الفعالة في الطبقة السياسية التي حكمت مباشرة بعد الاستقلال، ويعود هذا الاستثناء إلى أن أغلب أبنائها يتمركزون في المدن الكبرى. أما النقطة الثانية، فهي العدائية التي أظهرها هذا التحالف تجاه فئات التجار المنحدرين من المدن، مقابل المكاسب التي مُنحت لأبناء الريف على اختلاف طوائفهم.

لكن كما كان الفشل مصير الحكم الذي غلّب مصالح الفئات المدينية من المجتمع على ما عداها، فشلت أيضًا السلطة التي عمدت إلى عكس مجريات الأمور. فعندما دخل شخوصها في صراعات داخلية مدفوعة بالرغبة في الاستئثار بالسلطة والسيطرة المطلقة، تمكن الجزء الأقوى منهم (المقصود هنا حافظ الأسد) من حسم الصراع لصالحه. اعتمد الأسد على بناء تحالف جديد مع بعض فئات التجار، دون المساس فعليًا بالمكاسب التي حققها أبناء الريف. وبدا، لوهلة، أن السلطة آنذاك قد ظفرت بما عجز عنه كل من سبقها، إذ حققت إجماعًا شعبيًا واسعًا تكلّل بـ”النصر” الذي تحقق على العدو التاريخي في حرب تشرين. غير أن زهو الانتصار وشعور الحكام الجدد بالغلبة (إضافةً إلى الرغبة في الانتقام التي أشرنا إليها سابقًا) دفعهم إلى انتهاج سلوك اتسم بالاستعلاء والفساد، ما أسهم في تأجيج التناقضات القديمة وتعزيزها.

إذًا، بدل أن تستفيد السلطة مما بدا التفافًا جماهيريًا حولها، اتجه شخوصها إلى انتهاج سلوك قائم على الاستعلاء واحتقار المجتمع والاستخفاف بقدراته. أدى ذلك، مع الفساد المنهجي والسلوك التدميري، إلى انكشاف السلطة أمام شرائح واسعة من السوريين آنذاك. كما أن الصفقات التي عقدتها السلطة مع بعض فئات التجار (وخاصة الدمشقيين) لم تكن مرضية للشرائح الأوسع من المدينيين، فضلًا عن النخب المثقفة. وبناءً على ذلك، انطلق الحراك الذي شهدته أواسط السبعينيات من القرن المنصرم، متسمًا بانتشاره بين النخب المختلفة وفي المدن “المغبونة” مثل حمص وحماة وإدلب وحلب. على العكس، تجاوبت العاصمة والريف بشكل ضعيف مع هذا الحراك، باستثناءات قليلة.

وفي حين أن السلطة في سوريا كانت تسعى فقط إلى إدامة سيطرتها على المجتمع، لجأت إلى استخدام جميع الأسلحة المتاحة للقضاء على الحراك، إن لم يكن لتدمير المجتمع ذاته. استغلت السلطة وجود بعض الفئات الطائفية ضمن الحراك لتسلّط الضوء عليها وتضيّق عليها بشتى السبل، مما دفعها إلى حمل السلاح في وجهها. يبدو أيضًا أن السلطة أمرت محازبيها بالتصرف مع تلك الفئات بطريقة تُظهر البعد الطائفي للصراع، بهدف تحقيق غاياتها. وبعد أن نجحت في ذلك، لجأت إلى تدمير مدينة حماة (التي روّجت لها على أنها المعقل الرئيس لتلك الفئات) لتكون عبرة لبقية المدن المنتفضة. ويبدو أن اختيار حماة، كمدينة صغيرة نسبيًا، كان هدفه تقليل الكلفة وتجنب الرفض الدولي (أو بالأحرى ضمان الحصول على موافقة ضمنية دولية).

استغلت السلطة “انتصارها” في حماة وبدأت بملاحقة وقمع من وصفتهم بـ”فلول عصابة الإخوان المسلمين”، إلى جانب منتسبي ومؤيدي بقية الأحزاب والحركات السياسية غير الموالية لها. عملت على تصحير المجتمع سياسيًا، فحظرت جميع الأحزاب، ومنعت أي نشاط سياسي مستقل، وفرضت رقابة صارمة على المجتمع بذريعة مواجهة “مؤامرة خارجية بأدوات داخلية”. وفي هذا السياق، واظبت على وصف الإخوان المسلمين بأنهم “عصابة عميلة للخارج”.

وهكذا، تمكنت السلطة من سحق المجتمع وترويعه، كما فرضت سيطرة مطلقة على جميع المؤسسات، بما فيها المؤسسة الدينية، التي أُعيد تشكيلها لتتناسب مع أهدافها. ألغت أي فضاء عام قد يجمع السوريين، باستثناء الفضاء الديني الذي كان تحت سيطرة المؤسسة الدينية الرسمية، والتي جرت قولبتها بطريقة لا تجمع بقدر ما تفرّق. أجرت السلطة أيضًا “إصلاحات” اقتصادية متعاقبة هدفت من خلالها إلى استمالة المزيد من فئات التجار والصناعيين المؤثرين، خاصةً في حلب ودمشق، بغية توسيع قاعدتها الشعبية.

علاوةً على ذلك، بدأت بعض شرائح الأقليات الدينية (بما في ذلك المدينيون) بتقديم انتمائها الطائفي على انتمائها الوطني. استمالتهم السلطة بخطاب مخاتل تحت شعار “السلطة الحامية للأقليات”، وهو خطاب زائف كفيل بتحريض الأقليات ضد الأغلبية، واستجلاب عداء الأخيرة ضدهم، مما جعل فكرة “الحماية” بعيدة المنال. وفي النهاية، وكما شبّه إريك فروم مهنة السياسي بقيادة السيارة، أصبحت سوريا كالسيارة القديمة التي تحتاج إلى إصلاح جذري، إلا أن السائق خشي أن ينتزعها الركّاب بحجة الإصلاح، فعمد إلى إجراء تعديلات جوهرية عليها، بحيث بات من المتعذر على أي شخص غيره قيادتها أو إصلاحها. وأي محاولة للإصلاح كانت تتسبب بتعطيلها بالكامل.

وجرت “الإصلاحات” الاقتصادية التي تحدثنا عنها خلال أواخر ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي في ظل خمول تام للمجتمع، الذي لم يكن قد أفاق بعد من هول الكارثة. واستمر هذا الوضع حتى مطلع القرن الحالي، وبالتحديد خلال ما عُرف بـ”ربيع دمشق”، الذي اقتصر على بعض دوائر النخب الضيقة إلى درجة أن أسماء مثل رياض الترك وميشيل كيلو لم تكن تعني شيئًا لعموم الناس آنذاك.

وهكذا ظنت السلطة أنه بإمكانها تمرير ما تريده دون أن يحرّك المجتمع ساكنًا. فاندفعت نحو الإمعان في سياسة الاستحواذ العائلي على مقدرات البلاد، وتوجت سياستها تلك بممارسات وحشية تجاه المعارضة والمجتمع عمومًا، إلى جانب إطلاق عملية اللبرلة الاقتصادية والخصخصة في منتصف العقد الماضي. كما خفّضت الإنفاق الحكومي إلى أدنى مستوى وعوّضت ذلك بإثقال كاهل المواطنين بالضرائب المختلفة لتمويل مشاريعها.

وبالتالي، بدأت مكتسبات العديد من الفئات الوسطى تتآكل تدريجيًا، إلى جانب الفئات الشعبية التي كانت تعاني أصلًا في أسفل السلم الاجتماعي والاقتصادي. وكان المتضررون الرئيسيون هم أبناء الريف والمدن الوسطى والصغيرة وسكان الضواحي. بهذا، أخذت الحياة تصبح مستحيلة بالنسبة لمعظم هؤلاء، وهو ما فصّله وشرحه المفكر سلامة كيلة مرارًا. هذا الوضع دفعهم إلى تلقف شرارة الثورة القادمة بسرعة من الجوار العربي. ومن هنا، نؤكد أن هؤلاء لم يخرجوا دفاعًا عن دين (وهل يحتاج الدين إلى دفاع أساسًا؟) ولا نصرة لطائفة (وهي تشكل الأغلبية في الشعب السوري)، بل خرجوا بصفتهم الكتلة الرئيسية من هذا الشعب، كتلة تسعى إلى تحصيل حقوقها المهدورة.

وفي حين أننا لسنا بصدد الاستفاضة في هذا الموضوع الآن، فإنه لا بد من الإشارة إلى أنه لا ينبغي أن يختلط على أحد فهم الدوافع التي أدت إلى انطلاق القسم الأوسع من الشرائح المنتفضة من خلفية إسلامية اجتماعية. وإن كانت هذه الشرائح تضم بعض الفئات الطائفية المتشددة، فلا يمكننا توقع حراك يخلو تمامًا من هؤلاء، خصوصًا بعد العقود الطويلة من الوحشية والقمع. لا شك أن أي حراك تنهض به جماعة معينة يستند إلى الوعي والخلفية الثقافية السائدين في المجتمع الذي تنتمي إليه. فمن البديهي القول إن هذا الحراك يهدف إلى تغيير البنى التي أنتجت ذلك الوعي وتلك الخلفية. وبالتالي، فإن هذا التغيير لن يتحقق ما لم ينجز الحراك أهدافه أولًا.

كما لا شك أن التعرّض للقتل والإبادة والتهجير القسري يدفع الناس إلى البحث في مخزونهم الثقافي عما يحثهم على الصمود ومقاومة الظلم، وليس عن ما يدعو إلى التسامح والمحبة. والمفارقة هنا أن أعمال الصمود هذه تُعد بطولية وجديرة بالثناء إذا قام بها أي طرف آخر، لكنها تُعتبر “إرهابية” إذا صدرت عن شخص مسلم. فعلى سبيل المثال، صيحة “الله أكبر”، التي كانت تثير الحماسة والشجاعة، أصبحت تثير الذعر وربما الكراهية لدى البعض نتيجة الفكر المعلّب والمستورد الذي يستهلكه البعض بشراهة.

معالجة الطائفية والصراعات:

في نهاية المطاف، وكما جرى تفعيل الطائفية من خلال إثارة المشكلات القائمة بين الريف والمدينة والتلاعب بها (وقد دفعت الطائفية فئات من الريف إلى الاصطفاف مع سلطة لم تعد تمثل مصالحها، كما دفعت فئات مدينية مضللة إلى دعمها دون أن تخدم مصالحها يومًا)، ينبغي علينا الآن العمل على تجفيف المنبع الرئيسي للطائفية. ويتطلب ذلك إنهاء الصراع الأزلي بين الريف والمدينة، وبين الحضر والبدو، وغيرها من الصراعات ما قبل الحداثية.

مع ذلك، لا يعني هذا التخلي عن الهويات الجزئية، بل يتطلب من الطبقة السياسية المقبلة العمل على إعادة توزيع الأدوار والثروات. ونقول “الأدوار” قبل “الثروات”، لأن التهميش والاستعلاء يؤديان إلى عواقب قد تكون أكثر كارثية من الإفقار والتجويع. فلا شك أن دولة المواطنة الديمقراطية يجب أن تعزز الحقوق المدنية لكل من أبناء المدينة والريف. كما أن ذلك لا يتحقق إلا بدعم قطاعي الزراعة والصناعة (المتوسطة وغيرها) اقتصاديًا، إلى جانب تفعيل مشاركة جميع أطياف الشعب السوري في أي عملية سياسية قادمة.

رؤية للمستقبل:

إلى جانب ذلك، ينبغي ترسيخ مبدأ التراتبية ضمن المساواة. وهنا يمكننا استحضار الشرح الذي قدمه الراحل إلياس مرقص لمقولتي “الله أكبر” و”الله أعلم”. أمام الله، نحن جميعًا متساوون لأنه أكبر وأعلم منا جميعًا (ويجب أن يكون القانون كذلك). أما فيما بيننا، فهناك من هو أكبر علمًا أو خبرة أو إنتاجًا، ويجب أن تُقدّر تلك الفروقات وفقًا للعمل والإنتاج.

قد يبدو الحديث عن هذا الآن مبكرًا جدًا، إذ أن الأولوية يجب أن تكون لإيجاد حلول فورية للكوارث المجتمعية الحالية. لكن لا بد أيضًا من النظر بعيدًا إلى المستقبل، كي تكون سوريا الجديدة “سوريا الله أكبر”، التي تمنح أبناءها من الأجيال الشابة والقادمة المساواة، والحياة الكريمة، والاستقرار، والانسجام.

الترا صوت

————————-

عائد إلى دمشق/ رامي العاشق

11-يناير-2025

“خرجنا إذن من دمشقَ كما يخرجُ الظفر”. كان هذا مطلع قصيدة كتبتُها حين فقدتُ الأمل من رؤية دمشق بعد اقتلاعنا منها اقتلاعًا خاطفًا ومؤلمًا ونهائيًا. لم يكن أيّ فعلٍ حقيقيّ ممكنًا بالنسبة إليّ. حتّى الأمل كان مؤلمًا وعبثيًّا. كان إعلانُ الهزيمة هو الفعل الوحيد الذي يمكن أن يقارب انسدادًا سياسيًّا وانكسارًا عسكريًّا وانحسارًا مدنيًّا. وانتقلت دمشقُ من مدينة عشقٍ ثوريّ وأمل بالتغيير إلى ذكرى أليمة عن اعتقالات لأصدقائي في شوارعها، وعن قبور لأحبّائي، وبدأت أنقم عليها وعلى ذاتي، ثم بدأت أشطب صورها من ذاكرتي، وأطمس بالسواد خيالات شوارعها وأسماء أحيائها.

مع نهاية شهر تشرين الثاني/نوفمبر، وانطلاق عمليّة “ردع العدوان” العسكرية من إدلب إلى حلب بدأتُ أستعيد أملي، ولكنني لم أثق بصدقه وحقيقيّته، فصرتُ أختبره. لم أنم إلا ساعات محدودة طوال أيام التحرير. كنت أريد أن أرى لحظة السقوط. لم أرد أن يسقط وأنا نائم. ومع كلّ يوم صرتُ أحيا من جديدٍ مع كل قرية ومدينة تتحرّر، وقبل دخول الثوار إلى حماة، صرتُ أرسل رسائل إلى أصدقائي لأقول لهم: “راس السنة بالشام”. لم يصدّقني أحد يومها، ولم أصدّق نفسي أيضًا، ولكنّني فعلتُها، وفعلها السوريّون الذين صمدوا داخل سوريا تحت سطوة التوحّش الأسديّ وخارجها في الخيام ودول اللجوء والبرد والنفي والعنصريّة والفقد والحزن.

بعد قرابة الثلاثة عشر عامًا دخلتُ دمشق، وأصرّيتُ على الذهاب إليها من الطريق ذاته، مرورًا بإسطنبول، فعمّان ثم درعا. حجزت تذكرة طيران باتجاه واحد، تركتُ برلين على وجه السرعة، خرجتُ منها دون أن أرتّب سريري، تركتُ كلّ شيء وانطلقت في رحلة الثلاثين ساعة إلى دمشق.

لم تختلف دمشقُ كثيرًا، إلّا أنها أكثر بردًا وظلمة. يحصل أهلها على الكهرباء لساعة واحدة كل اثنتي عشر ساعة. وهذا بالضرورة لا يكفي لشحن الهواتف والبطاريّات وتسخين الماء. الاستحمام ترفٌ، وغلاء الأسعار فاحش، والفقر عميق. يحتاج الفرد لأربعمئة دولار في الشهر بينما مرتب الموظف الشهري ٢٠ دولارًا!

كانت الأيام الأولى بعد سقوط الأسد مربكة للغاية، إذ تبخّرت قوات النظام بطريقة غريبة. مشيت في الشوارع دون حواجز ونقاط تفتيش. الطريق من درعا إلى دمشق سالك وهادئ. سيارات ومدرعات عسكرية معطلة أو متفحمّة على جانبي الطريق، رايات النظام وصور الأسد ممزقة أينما كانت. في دمشق، حدثنا شرطي مرور عن ليلة السقوط إذ اتصل به العميد قبل ساعات من إعلان سقوط النظام: “ارمِ سلاحك في الشارع واذهب إلى بيتك”، فترك دراجته النارية وعصا المرور، ورمى سلاحه وذهب. صار سائق تكسي.

كمية السلاح المسروق من مراكز الشرطة والأمن كبيرة. أعرف شخصًا سرق بزة ماهر الأسد العسكرية من قصره، تلك التي كان يهددنا بها أنصاره: “ماهر شلح البيجاما ولبس البدلة العسكرية”. كثيرون سرقوا الوقود من سيارات القصر، أو لنقل استردّوه بطريقة غير مشروعة. أما أنا فتوجّهت إلى مخيم اليرموك لأرى ما كان فلسطين الصغرى ولأرى بيتي وغرفتي وذكرياتي، ولكنني لم أرَ إلّا خرابًا ودمارًا لن يتعافى منه المخيم قريبًا.

بعد شهر على هروب الأسد نعيش في سوريا مشاعر مختلطة. ما زلت أستمع أكثر مما أتحدث، وما زلت أحاول استيعاب كل ما يجري حولي. ثمة همّ ثقيل زال عن أكتافنا، وثمّة خوف على مستقبل بلدٍ أنهكه الظلم والقهر. أسئلة المواطنة والحريات العامة والفردية والسياسية والصحافية وحقوق الإنسان والعدالة الانتقالية ومحاسبة المجرمين ما زالت مفتوحة، وسلطة الأمر الواقع تطمئن الجميع إلا المواطن السوري، والقصر الرئاسي استقبل القاصي والداني إلا السياسيين السوريين، وحكومة تسيير الأعمال تتخبّط لعدم كفاءتها، فلا هي تريد إشراك الآخرين ليتعاون الجميع على البناء، ولا تتوقف عن لعبة جس النبض لفرض توجهات أصحابها، ثم تحتمي من النقد بمقولة “نحتاج وقتًا، والأولوية للأمن والأمان، ضرورات ومقتضيات المرحلة”. يتجلى هذا في التعيينات التي شملت وزير العدل، ومسؤولة المرأة، ووزير الصحة، ووزير التربية والناطق الرسمي باسم الحكومة ومحافظ دمشق وآخرين. صارت مقولة “طاسة باردة طاسة سخنة” عنوان المرحلة في أحاديث كثير من الدمشقيين في المقاهي، وهي مقاربة طريفة لحالنا وتلقينا مع قرارات الحكومة المؤقتة.

لا يحتاج الأمر إلى جهابذة في الرياضيات والفيزياء لمعرفة أن يدًا واحدة لا تستطيع حمل أكثر من بطيخة، لكنّ أيادي السوريين ممدودة، فإن كانت سلطة الأمر الواقع لا تثق بالسوريين لإشراكهم في مصير البلد، فكيف نثق بها؟ تمثّل السلطة أن أصحابها تغيّروا وأصبحوا أكثر اعتدالاً، ونمثّل أننا نصدقهم، لأننا نريد أن نصدقهم، ونتمنى لو أنهم فعلاً قد خرجوا من فكر فصيل مسلّح إلى مشروع دولة تليق بحلم السوريين الذين دفعوا فاتورة كاملة ولن يقبلوا أن يفطروا على بصلة.

ثمّة تلاعب لغوي تمارسه السلطة “المؤقتة” بخطابها وكأنّ عُجمة ما قد أصابته، أو كأن شيئًا ما منه قد ضاع في الترجمة، كمقولة الدولة المدنية الشرعية، والحكومة الشاملة، ولجنة الخبراء… إلخ قد تطمئن البعض إن تُرجِمت إلى لغات أخرى، ولكنها بالعربيّة ضبابية ولا يمكن أخذها كضمانة، خاصة مع إصرار الإدارة المؤقتة على التعامل مع أفراد لا تكتلات وأحزاب وتيارات، وبالتالي قد تكون هذه بداية شمولية جديدة. كذلك الحديث عن تمثيل كافة مكونات الشعب السوري، وهذا، باعتقادي، بشكله الحالي فخّ لغوي، فالقضية لم تكن يومًا قضية تمثيل “مكونات” وإلا لرضينا بمجلس الشعب السوري أيام النظام الذي كان يمثل جميع مكونات الشعب السوري وطوائفه ومناطقه وفنانيه وتجاره وعماله وصناعييه ومطبليه ومزمريه، ولكنّه كان مؤلّفًا من مصفّقين للسلطة.

لذلك، قد ينسى البعض أن التعددية والتنوع لا يعنيان فقط توجهات دينية وخلفيات مناطقية، إنما أيضًا أحزابًا سياسيّة وتيارات فكرية. من جهة أخرى، يرى الشرع أن المعارضة السياسية قد انتهى دورها بسقوط النظام، وهذا مؤشر شمولي خطير كذلك، فوجود المعارضة السياسية هو جزء من وجود وهوية الدولة، والمعارضة تصبح سلطة والسلطة تصبح معارضة عبر التداول السلمي، وهي جزء من حيويّة الشعب وفعله السياسي والرقابي والثقافي والوطني.

يستحق السوريون اليوم خطابًا واضحًا وإعلانًا شفّافًا لخارطة طريق توضّح فيها السلطة الجدول الزمني للمرحلة القادمة، تبدأ مثلًا بهيئة حكم انتقالية في بداية آذار/مارس، وهيئة تمثيليّة توافقيّة لوضع دستور خلال فترة محددة، بالتزامن مع ورشات عمل ولقاءات وحوارات على المستوى الوطني. إذ يبدو أن هناك استخفافًا بما نحن عليه اليوم وهو تأسيس الدولة السورية مجددًا بعد أكثر من قرن على تأسيسها الأول. يحتاج السوريون لتصور واضح للمساءلة والمحاسبة ومصير المفقودين والمعتقلين. يحتاج السوريون إلى وعود واضحة بحرية الأحزاب والصحافة وضمان الحريات العامة والفردية، وبالضرورة يجب أن تكون في جميع أنحاء سوريا، لا في فقاعة دمشق وحسب. عند لقائي بأحد عناصر الأمن العام القادم من إدلب، والذي ينتمي إلى فصيل “أحرار الشام”: “أنتم محظوظون في دمشق، فقد وصلكم أحمد الشرع بينما بقي الجولاني لدينا في إدلب”.

قد تبدو نظرة شخص مثلي غاب عن سوريا قرابة الثلاثة عشر عامًا غير شائعة إلا بين فئة معينة. لامستُ هذا في حديثي مع والدي والناس في الشوارع، فالناس أكثر تفاؤلاً وبحاجة لأن يرتاحوا قليلاً، ولكننا في الوقت ذاته ورغم التعب والإرهاق والتفقير والتجهيل أمام شعب نسي الصمت والخنوع، وبات يتحدّث في كل شيء دون ترهيب الأفرع الأمنية، ولن يرضى بأقل مما حلم به، إلا بوطن يليق بنا ونليق به لا تقتلع فيه أظفار أطفالنا ولا نقتلع منه كما اقتُلعنا ذات مرّة.

الترا صوت

—————————

أحمد الشرع: ما بعد الـ rebranding/ ربيع بركات

مصلحة سوريا وقرارها المستقل يستوجبان التخفّف من عبء ماضي الإدارة الجديدة، متمثلًا بـ”جبهة النصرة” وما تبعها من هيئات. هذا سبب، وجيه جدًا، للحاجة إلى أوسع تمثيل ممكن للسوريين.

في أرشيف الـrebranding السوري – أو إنتاج صورة مغايرة في الأذهان لما كانت عليه – يظهر بشار الأسد بعد تولّيه الرئاسة بوصفه وريثًا “إصلاحيًا مستنيرًا”. صحيح أن الدستور عُدّل ليصبح على مقاسه ويتيح له تولّي المنصب في سنّ الرابعة والثلاثين، كما لو كان وثيقة كُتبت من أجله، إلا أن الصورة التي أُريد تصديرها آنذاك كانت تشي برغبة بـ”تبييض الصفحة”… و”تجاوز الماضي”.

وبشار الأسد، بالمناسبة، كان يعطي وعودًا برّاقة على الدوام. وكان يُقال إن حوله جماعة “لا تسمح له بالعمل” (التعبير الشائع، في الحقيقة، كان أكثر وضوحًا وصراحة)، وعلى الدوام كانت تُدبَّج له المبررات. لكنه، في الحقيقة، كان مجرّد انعكاس لطبيعة “النظام”، ببنيته العصبويّة أولًا، وأدواته الأمنية الموروثة ثانيًا.

بعد أربعة وعشرين عامًا، يتحوّل الأسد إلى رئيس فار. نجد أنفسنا أمام محاولات جنينية، متدرّجة، لإعادة تأسيس الدولة. يُعيَّن جهاديون عرب وأجانب في الجيش، يُغفَل ملف العدالة الانتقالية، يُعاد النظر بالمناهج الدراسية، وهكذا دواليك.

هكذا، وجدنا أنفسنا أمام تعديلين – من جملة تعديلات – يكمّل الواحد منهما الآخر:

إعادة كتابة التاريخ البعيد في المناهج التربوية عن طريق حذف أحداث وشخصيات وأفكار، كما لو أنها لم تكن، وإعادة كتابة التاريخ القريب عن طريق حذف أرشيف “جبهة النصرة” من الوعي، كما لو أنه لم يكن.

وهكذا، رحنا نشهد انتقال سوريا، تدريجيًا، من عهد “الأبد” حيث احتلال المستقبل، إلى عهد الـ “لم يكن”، حيث الهيمنة على الماضي… تمهيدًا لاحتواء المستقبل. وبدا أن ما يحدث في سوريا يتجاوز الـrebranding بأشواط. فـ”الشرعية الثورية” في عهد ما بعد “النصرة” تنتج سورياها الخاصة. لكنّ عملية الإنتاج هذه ما زالت قيد التجريب، تراعي عوامل خارجية (بالدرجة الأساس) وداخلية (بدرجة أقل) لا حصر لها. 

تحاول الإدارة السورية الجديدة الإمساك بمفاصل الدولة كلّها، في ما يشبه السباق مع الزمن لمنع وقوع انقلاب أو فوضى ولتأكيد أهليتها لمفاوضة الخارج. تستفيد من أخطاء تجربتي “الإخوان” المصرية والليبية وثغرات كل منهما، وتعتمد على دعم تركي كبير يُتيحه الاتصال الجغرافي، وتزيد من مركزيّّته في الحسابات التركية أبعادٌ استراتيجية واستثمار سياسي ومالي وعسكري مديد. هذا في حسابات الحد الأدنى.

أما في الحد الأقصى، فيبدو عمل هذه الإدارة منصبًا على هندسة توازنات وصياغة وعي يمكّنها من تثبيت غلبتها واستدامة وجودها في السلطة. بهذا تكون سلطةً تأسيسيةً للجمهورية السورية الثالثة. تجربة أتاتوركية بالمقلوب؛ تأخذ الدولة من علمانية مشوّهة ونظام الأسد العليل و”ترتقي” بها إلى دولة إسلامية “نيو-أمويّة”.

يمكن القول إن هاجس الانقلاب على السلطة السورية الناشئة (أو الفوضى) وجيه، خصوصًا إذا ما أدركنا أن أحمد الشرع، البارع في تسويق نفسه وإعادة إنتاج صورته بشكل مبهر، غير قادر على الإمساك بالأرض السورية بالكامل كما يفترض كثر. فالتباين في أداء الفصائل على الأرض بين منضبط ومتفلّت، وتكرار الحديث عن “تصرفات فردية” خلال المداهمات والاعتقالات، يشيان بذلك، علمًا أننا لا ندرك، حتى اللحظة، ما المقصود من هذه التجاوزات وما هو غير مقصود منها. ما يشي أيضًا بالتعقيدات على الأرض وجود إدارة كردية في الشمال وأخرى أقلّ تشكلًا في المناطق الدرزية في الجنوب.

عدد اللاعبين المحليين على الرقعة السورية كبير. كذلك عدد اللاعبين الإقليميين والدوليين. وكل يوم يمرّ، يُبرز تنوّع أرخبيل تنظيمات المعارضة المسلحة التي يصعب أن يرضى الأقوياءُ فيها بأن تَطوي الحربُ صفحتَهم، من دون أن يُتاح لهم الحصول على بعض غنائم الدولة.

ما يلعب لصالح الشرع اليوم أن أحدًا من القوى الدولية لا يمتلك شهية مفتوحة للانخراط في نزاع سوري جديد. لكنّ الاحتمال هذا ستزداد فرصه إن مثّل حاجة قصوى للاعب خارجي (أو أكثر)، وكان استثمار هذا اللاعب (أو أكثر) فيه ذا مردود استراتيجي عالٍ وكلفة مادية محدودة.

يشرح هذا سبب توزيع الشرع رسائل التطمين في كل اتجاه، بدرجات متفاوتة طبعًا، وبغموض أحيانًا خصوصًا حين يتعلّق الأمر بإيران. يبدو، بوضوح، مصممًا على تعميم انطباع مفاده أنه يرغب بـ”تصفير المشكلات”، قبل أن يباشر بعملية بناء الدولة من الصفر. شيء من قبيل استعادة سياسة “العدالة والتنمية” التركي الحاكم، التي رعاها وزير الخارجية ثم رئيس الحكومة الأسبق والقيادي المستقيل من الحزب، أحمد داود أوغلو، قبل عشرين عامًا، يوم كان الانفتاح بين أنقرة ودمشق جاريًا على قدم وساق. 

لكن برغم وجاهة هاجسي الانقلاب والفوضى، فإن استفراد “الهيئة ” بالسلطة (مع إضافات بسيطة أو شكلية من فصائل أخرى)، في ظل عدم امتلاكها كادرًا بشريًا قادرًا على إدارة الدولة، من شأنه إما أن يعطّل إدارة الشرع بسبب كثرة طلبات الخارج، أو أن يُفقدها الاستقلالية والقدرة على خلق هوامش للحركة، ويُلحقها بالتالي بسياسات الأطراف الدولية الأقوى.

ما يتغافل عنه أنصار الإدارة الجديدة في دمشق هو أن أي انزياح عن الخط المرسوم لها (والخط هذا نتاج توازنات متغيّرة باستمرار) يستتبع استعادة صورتها السابقة على الـ rebranding، أي أرشيفها الزاخر بأعمال عنف وخطاب كراهية صريحين.

من هنا يمكن القول إن مصلحة سوريا وقرارها المستقل يستوجبان التخفّف من عبء ماضي الإدارة الجديدة، متمثلًا بـ”جبهة النصرة” وما تبعها من هيئاتٍ، لها ممارسات عنف ممنهجة داخل إدلب وخارجها.

هذا سبب إضافي، وجيه جدًا، للحاجة إلى أوسع تمثيل ممكن للسوريين بدلًا من فرض منطق الغلبة، حتى لا يظل سيف هذا الماضي مصلتًا، وتنسحب تبعات ذلك على السوريين أجمعين.

——————————-

========================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى