سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسة

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 13 كانون الثاني 2025

كل المقالات والتحليلات والحوارات التي تناولت انتصار الثورة السورية اعتبارا من 08 كانون الأول، ملاحقة يومية دون توقف تجدها في الرابط التالي:

سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

—————————-

الطريق إلى دولة المواطنة في سورية/ لؤي صافي

13 يناير 2025

أخيراً سقط نظام الأسد، الذي حوّل سورية من دولة ناهضة في خمسينيّات القرن الماضي وستينياته دولةً محطّمةً ومساحةً جغرافيةً مفتوحة على صراعات دولية وإقليمية خلال النصف الأول من القرن الحالي. وطوى السوريون مع دخول عام جديد صفحةً مظلمةً من تاريخهم خطّها نظام الاستبداد الذي حوّل سورية نصف قرن مزرعةً لبيت الأسد، ولكلّ من سبّح بحمدهم ودعا إلى خلودهم على عرش الاستبداد. فقد واجه السوريون الذين خرجوا في مظاهرات سلمية مطالبين بالمشاركة في الحياة السياسية، وداعين إلى طيّ صفحة الفساد الإداري والمالي وإنهاء دولة المحسوبيات، ردوداً عنيفة وخيارات صعبة اختصرها أنصار نظام الطغيان بشعار عبّر عن عذاباتهم خلال العقد الماضي “الأسد أو نحرق البلد”. وبالفعل، أدرك الشعب السوري الأبي منذ البداية أن التحرّر من نظام مارق مجرم لن يكون سهلاً، وأن عليه الصبر والصمود في المواجهة غير المتكافئة مع نظام لم يدّخر أيّ سلاح فتّاك في جعبته إلا استخدمه لإشعال البلاد في نار جبروته واستعلائه، ولم يوفّر أيّ عدو طامع إلا استعان به. وعندما بلغ الألم أشدّه، وظنّ كثير من أبناء سورية أن وعد الحقّ قد أخطأهم، وأنهم كُذِّبوا، جاءهم النصر من حيث لم يحتسبوا. نعم، جاء النصر ليمنح أهل الشام فرصةً جديدة لبناء مجتمعهم ودولتهم من دون الحاجة إلى الدخول في مساومات مع منظومة الطغيان التي حكمت سورية في امتداد عقود خمسة، بل جاء النصر على أيدي أبناء سورية الأبرار، من دون الحاجة إلى تدخّل عسكري خارجي يصادر قراراتهم وخياراتهم، ويخضعهم لاستعمار داخلي من جديد.

ومنذ اللحظة الأولى لسقوط النظام انطلقت الأصوات التي صمتت على امتداد عقود طويلة عن استبداد النظام، وانفراده بالسلطة وتجاوزاته التي لا تعدّ ولا تحصى، تطالب بدولة علمانية، وانتخابات سريعة، ولمّا يستقرّ بعد الوضع الأمني في البلاد، وبدأت الأصوات المشكّكة تصدح بمخاوفها الكثيرة رغم تطمينات قيادة إدارة العمليات بأن الحكومة التي شكّلها هي حكومة تصريف أعمال ينتهي عملها خلال أشهر ثلاثة، لتفسح بعد ذلك لتشكيل حكومة مؤقّتة تشرف على العملية الانتقالية، وتعمل على إعادة الحياة الطبيعية إلى بلاد أنهكها الفقر والحرمان من كلّ شيء، حتى من أساسيات الحياة اليومية. يمكن، بطبيعة الحال، فهم جذور الشكّ لشعب تعوّد سماع الوعود الكاذبة من نخبه السياسية من أعلى المستويات، ولكن يصعب تبرير الشكوك عندما تأتي من نُخَب اجتماعية وسياسية تدرك أن إعادة بناء الحياة السياسية يحتاج إلى خطوات متتابعة، وفق أولويات تبدأ بتحقيق الأمن وإعادة تشغيل البنى التحتية الخدمية الضرورية لاستئناف الحياة الاجتماعية، وعودة اللاجئين الذين يُعدّون بالملايين، ثمّ الانتقال إلى بناء البنى التحتية الاجتماعية التي تسمح للسوريين على اختلاف انتماءاتهم وتوجهاتهم ببدء الحوار وتنظيم مؤسّساتهم الاجتماعية والمدنية وتحديد ممثليهم، قبل الشروع في خوض العمليات الانتخابية والولوج في التنافس على إدارة البلاد وتداول السلطة السياسية.

وبعيداً عن تشكيكات المشكّكين، ثمّة مخاوف مشروعة بشأن مآلات التطوّرات الماضية في سورية، خاصّة أنها جاءت بقيادة فصيل عسكري اشتهر كثيرون من أفراده بالتشدّد الديني، والميل إلى قراءة النصوص الشرعية قراءةً ظاهريةً. لعلّ ما يخفّف من التصور النمطي الذي يحمله كثيرون عن المواقف العقدية لهيئة تحرير الشام وحلفائها من الفصائل المقاتلة هو تناقض هذا التصوّر مع الروح الودّية المنفتحة، التي أبدتها القيادة الجديدة في تعاملها مع التنوّع السوري الكبير، بل حتى مع خصوم الأمس من عناصر وضبّاط الجيش السوري الراغبين في إلقاء السلاح وتسوية أوضاعهم. التطمينات التي حرص القائد العام لإدارة العمليات العسكرية، أحمد الشرع، على تأكيدها، من خلال التصوّر التقدّمي الذي عرضه لرؤيته لمستقبل سورية السياسي، القائم على تأسيس دولةِ مواطنةٍ يتساوى تحت مظلّتها أبناء سورية على اختلاف مكوّناتهم الدينية والقومية، وعلى الاحتكام إلى مجلس نيابي منتخب. وعلى أهمية هذه الطروحات فإنها بالتأكيد ليست كافيةً، لأنها أخذت صيغاً عموميةً خاليةً من التفاصيل الضرورية لتحديد الرؤية السياسية للإدارة الجديدة، كما أنها لا تكفي لطمأنة الجميع في ظلّ تناقضها الواضح مع الصورة النمطية التي نسجها العديد من السوريين حول قيادات هيئة تحرير الشام خلال السنوات الماضية عندما كانوا جزءاً من السلفية الجهادية، التي ولّدت تنظيمات متطرّفة كـ”القاعدة” و”داعش”.

ولعلّ التوجّسات والهواجس التي صبغت بشكل خاص أحاديث وتساؤلات أصحاب التوجهات اللائكية (الداعين إلى حصر الدين في الحياة الخاصة)، كما صبغت تصريحات بعض القيادات الدينية المسيحية، مثل المطران يوحنا جهاد بطاح والراهبة أغنس مريم الصليب، تتعلّق بحديث الشرع عن تطبيق الشريعة الإسلامية، إذ ترتبط الشريعة في أذهان هؤلاء وغيرهم بالنموذج الذي ساد فترة قريبة في المجتمع السعودي، ويسود اليوم أعلى الهرم السياسي في إيران، والذي يفرض على المواطنين رؤية دينية ضيقة، ويطالبهم بممارسات دينية محددة. وتعود هذه المخاوف في جذورها إلى الخلط بين ممارسات تبنت أعرافاً محلّيةً قدّمها أصحابها على أنها النموذج العام لبناء الحياة العامّة على مبادئ الشريعة، وهذا يعكس قراءة خاصّة تقوم على القراءة الحرفية لنصوص الشريعة وتجاهل معانيها الكلّية والأساسية، وفي هذا تشويه لحقيقة الشريعة التي كانت سباقة تاريخياً لتأسيس مبدأ الحرية الدينية، الذي مكنّ أصحاب الديانات المختلفة في العالم الإسلامي، خاصّة مسيحيي سورية، من المحافظة على شعائرهم وقوانينهم الدينية الخاصة، يوم كانت روما تصرّ على فرض تفسير ديني محدّد، وكان الغرب المسيحي عموماً يفرض الديانة المسيحية على الجميع، ويعقد محاكم التفتيش للتنكيل بمن يتنكّر للدين المهيمن في بيته وبين أهله. كذلك مكّنت مبادئ الشريعة في امتداد تاريخ المنطقة العربية المجتمع المدني من الاحتفاظ باستقلاليته عن السلطة المركزية، وحصرت الممارسات السلطوية في دائرة السلطة التنفيذية، وحافظت على استقلال التشريع والقضاء في زمن كان حكام الشرق والغرب هم مصدر القانون في الممالك التي أخضعوها لسلطانهم.

ويبقى السؤال الأكثر أهمية: هل سيدفع أحمد الشرع برؤية ضيّقة للشريعة، تخلط بين الشريعة بمعناها الديني الخاصّ المتمثّل اليوم بالمدارس الفقهية الإسلامية، وبين الشريعة بمعناها الإنساني العام المتعلّق بالحياة العامّة (الوطنية)، والداعي إلى بناء مجتمعات تقوم على العدل والرحمة والمساواة، وحفظ الحقوق والحرّيات العامة، والتصدّي للظلم والعدوان، والشريعة المطالبة بإخضاع أصحاب السلطة والنفوذ إلى المساءلة الأخلاقية والسياسية. الإجابة عن هذا السؤال، وأسئلة أخرى مشابهة، ضروري لتحديد وجهة حكومة الإدارة الجديدة في سورية، والموقف الصحيح يتطلّب التحلّي بالصبر وانتظار الخطوات القادمة، بدءاً بالمؤتمر الوطني المتوقّع عقده قريباً لتحديد معالم المرحلة المقبلة. وأيّاً كانت الإجابات عن هذه الأسئلة من قيادات الإدارة الجديدة، فإن السياق السوري، الاجتماعي والديني، سيؤثّر بعمق في تحديد التفاصيل المسكوت عنها في خطاب السلطة الجديدة في دمشق. وممّا يدعو إلى التفاؤل في مستقبل الحياة السياسية في سورية هو صدقية لهجة وجوه الإدارة الجديدة، وتطابق الرؤية التي طرحوها مع أهداف ثورة الحرّية والكرامة في تحقيق دولة المواطنة والقانون. صدقية أحمد الشرع تنبع من مصارحته للسوريين وعدم إنكاره لانتمائه السابق إلى الحركة السلفية الجهادية، التي شكّلت مراحل مهمة من تاريخه، بل تحدّث عن تطوّر خبرته العملية، وارتقائها باتجاه الانفتاح على التعددية الاجتماعية والالتزام بدولة المواطنة، كما تنبع من امتناع الحكام الجدد عن التدخّل في شؤون المكونات الدينية المختلفة، أو التحكّم في حرّية الصحافة والتعبير.

وبطبيعة الحال ليست الدعوة إلى انتظار الخطوات القادمة دعوةً إلى الجلوس خلف الشاشات وترقّب الإعلانات القادمة، بل يجب هنا تأكيد ضرورة أن يبادر السوريون الأحرار بمختلف أطيافهم وتوجهاتهم إلى تشكيل الأطر الضرورية لتعزيز الخطوات المرتقبة، بدءاً بتأسيس منتديات ومنظّمات مدنية تساهم في إنجاح المساعي الرامية إلى بناء دولة المواطنة والقانون، وتطوير الأطر المجتمعية التي تسمح بقيام حياة سياسية حيوية وفاعلة خطوات أساسية في الطريق إلى بناء دولة المواطنة. والبدء بتأسيس المنتديات الاجتماعية والحوارية يجب أن يسبق أيّ عمل سياسي لأهميتها في نشر الوعي وتطوير خطاب سياسي ينبع من الوعي العام، وفي تحديد الأولويات التي تتطلّبها هذه المرحلة من بناء مؤسّسات المجتمع والدولة، وتحقيق إجماع سوريّ على مبادئ الحياة السياسية في مجتمع أقفلت فيه دولة الخوف والصمت الأسدية أقنية الحوار الوطني في نصف قرن.

من المهم إذاً الانتباه إلى أن دولة المواطنة ليست أمنية يتمناها السوريون، أو مُجرَّد عملية انتخابية تسمح له بالإدلاء بأصواتهم، بل تتطلّب مشاركةً سياسيةً واسعةً تشمل الرقابة المجتمعية على المؤسّسات الحكومية وعمل المسؤولين الرسميين. وهذا يقتضي تطوير المؤسّسات المجتمعية الضرورية للحيلولة دون تغوّل الدولة على المجتمع، كالمؤسّسات الصحافية، والمنظّمات الحقوقية، ومراكز الأبحاث والدراسات السياسية والاستراتيجية، ومنصّات الرصد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ومؤسّسات التوعية الاجتماعية والسياسية. هذه المؤسّسات المجتمعة ضرورية لتوفير الأجواء الضرورية لتحويل الموطن السوري قوةً حقيقيةً تحول دون تغوّل مؤسّسات الدولة وتسلّطها التدريجي على المجتمع، كما هي ضرورية لتوفير الخدمات ورفع الوعي الاجتماعي العام.

هذا يعني أن سقوط نظام الاستبداد ليس نهاية الكفاح للوصول إلى الحرّية والكرامة، بل يشكّل في حقيقة الأمر بداية مرحلة جديدة في تاريخ المنطقة، تبدأ بالانخراط في عملية البناء وإعادة الإعمار. فالإعمار المرجو والمطلوب ليس في البنى التحتية فحسب، بل كذلك في البنى الفوقية المتمثّلة في منظّمات المجتمع المدني والمنظّمات الحكومية الضرورية، وفي البنى الاجتماعية والسياسية اللازمة للوصول إلى الوحدة الوطنية، والتعاون في بناء دولة القانون والمؤسّسات والحفاظ على الحرّيات التي وصل إليها السوريون من خلال تضحيات عزيزة وكبيرة، والتي لا يمكن الحفاظ عليها إلا باليقظة والتعاون لمنع أيّ تجاوزات ستحصل عند غياب الرقابة المجتمعية عن مؤسّسات الدولة وسلوكات مسؤوليها.

العربي الجديد

——————

أولويات المرحلة الانتقالية في سورية/ عمر كوش

12 يناير 2025

كثيرة أولويات المرحلة الانتقالية التي تستدعي اتخاذ خطوات سريعة ومدروسة تساعد في الخروج من الوضع الكارثي في سورية، والتخلص من الخراب والدمار الكبيريْن اللذين أحدثهما نظام الأسد الاستبدادي، وطاول مختلف المستويات، الأمر يفرض على الإدارة الجديدة في سورية ترتيب الأولويات والعمل على إنجاز استحقاقات كثيرة، حيث ينتظر السوريون خطوات سياسية واقتصادية واجتماعية، تقطع من نهج الاستبعاد والإقصاء، وأن يكونوا شركاء في بناء مستقبلهم ومستقبل بلادهم. ولعل الخروج من الوضع الجحيمي الذي خلفه نظام الأسد يستدعي مساعدة دول الإقليم والعالم لتحقيق ذلك. وفي هذا السياق، أبدت دول عربية، منها قطر والسعودية والأردن، استعدادها للتعاون مع الإدارة السورية الجديدة من أجل تعافي البلاد، ومساعدتها في تأمين حاجيات السوريين المعيشية، وإعادة إعمار ما دمره نظام الأسد، ودعم مشاريع التنمية، وكذلك فعلت تركيا، فيما ما تزال دول عربية أخرى تنظر بعين الريبة وتتوجس حيال ما جرى في سورية، ويسكنها الشك حيال نيات الإدارة الجديدة، على خلفية خشيتها من التأثر بالنموذج السوري في التغيير، ومن ممكنات نجاحه وانتقاله إليها.

الأرجح أن الدول العربية التي أبدت استعدادها لدعم الإدارة الجديدة تريد، ليس فقط أن تكون حاضرة في سورية، بل مساعدتها كي تعود إلى المنظومة العربية وإلى الحضن العربي كما يقال، وربما أعطتها تجربة العراق درساً أن إهمال الوضع في سورية سيقودها إلى الابتعاد عن حاضنتها العربية. لكن اللافت هو أن الإدارة الجديدة تعي أهمية انخراط سورية في محيطها العربي، بالنظر إلى إدراكها الحاجة إلى دور الدول العربية في الإسهام لتذليل تحديات وعقبات المرحلة الانتقالية، لكن هذا الإسهام لا يمكن لها أن يختصر في الدعم الاقتصادي، بل يتجاوزه إلى الدعم السياسي، والعمل من أجل رفع العقوبات الأميركية والأوروبية. وهذا يتطلب من الإدارة الجديدة تقديم خطط للوصول إلى حكم تمثيلي جامع، لذلك أرسلت وفداً رفيع المستوى، تمثل في وزيري الخارجية والدفاع ورئيس الاستخبارات إلى عدد من الدول العربية من أجل توضيح توجهات الإدارة على المستوى الداخلي، وتطمين الجميع بأن مرحلة الثورة قد انتهت بسقوط نظام الأسد، وبدأت بعدها مرحلة بناء الدولة، التي تريد العيش في سلام ووئام مع جوارها والعالم، وأنها ليست في وارد تصدير الصورة مثلما بدأت إيران بفعله منذ عام 1979. لذلك من الأهمية ألا تضيع الدول العربية الفرصة في تقديم المساعدة المطلوبة، لكي تكون سورية عامل استقرار في المنطقة، ولا تنتج نظاماً يفتعل الأزمات مثلما كان نظام الأسد مع جواره.

أما دول الغرب، ممثلة بالولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا، فقد رحبت بسقوط الأسد، وتعاملت مع الإدارة الجديدة بوصفها سلطة أمر واقع، وطالبتها بتشكيل حكم تمثيلي شامل، لكنها ركزت على ضمان حقوق الأقليات، والانخراط في محاربة الإرهاب، ولم تخفِ تدخلاتها واشتراطاتها التي وصلت إلى حدّ مطالبتها بألا يكون هنالك أي تواجد لإيران وروسيا في سورية المستقبل. ولم تقم بأفعال سوى إرسال وفود إلى دمشق، ومنحت سلطتها الجديدة اعترافاً دولياً مشروطاً، فيما أعلنت وضعها تحت المراقبة، ولعل الخطوة الفعلية الوحيدة التي اتخذتها تمثلت في أن رفعت الولايات مؤقتاً وجزئياً العقوبات الاقتصادية الأميركية، وخصت به الطاقة والكهرباء والمياه والتحويلات المالية الشخصية.

على مستوى الداخل، تبرز أولوية بناء مؤسسات الدولة السورية، بوصفها ركيزة للأمن والاستقرار، إلى جانب أولوية إعمار ما قام بتخريبه النظام السابق في حربه التي دامت أكثر من ثلاث عشرة سنة على الشعب السوري، وتشمل إعادة بناء البنى التحتية، وتأمين الخدمات الأساسية، وتسهيل سبل العيش ومتطلباته، وتوفير البيئة الملائمة التي تسمح لأكثر من نصف أبناء الشعب السوري بالعودة إلى أماكن عيشهم التي هجروا قسراً منها.

غير أن أولوية بناء المؤسسات وإعادة الأعمار وتأمين حاجيات السوريين المعيشية لا تعني صرف النظر عن الجانب السياسي، وبما يعكس التغيير السياسي الشامل الذي بدأ في 8 ديسمبر/ كانون الأول، عبر النظر في أولوية تشييد حكم تمثيلي وشامل لمختلف مكونات المجتمع السوري وقواه الحية السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وهنا تبرز أهمية المؤتمر الوطني المزمع عقدها في المدى القريب، حيث شكلت الإدارة الجديدة لجنة تحضيرية لعقد مؤتمر وطني جامع لكل مكونات المجتمع السوري، الذي سيعلن فيه حلّ هيئة تحرير الشام والفصائل المسلحة الأخرى التي ستنخرط في مؤسسة الجيش، وسيتم فيه تشكيل حكومة كفاءات، وحل البرلمان، وإيقاف العمل بدستور عام 2012. إضافة إلى تشكيل لجان قانونية وحقوقية من أجل كتابة دستور جديد، تمهيداً لإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية.

لعل من بين الأولويات أيضاً هو أن تعمل الإدارة الجديدة على معالجة آثار الاستبداد، وتسيير أمور المجتمع المرحلة الانتقالية لما بعد سقوط بشار الأسد، بما يعني القيام بتحقيق العدالة الانتقالية، وإجراء مصالحة وطنية، وفق آليات قانونية مدروسة، بعيداً عن لغة الإقصاء والاستئصال، وتوفير التشريعات والإجراءات الكفيلة بإعادة بناء سورية جديدة على أسس المواطنة والتعددية. إضافة إلى تحقيق تطلعات السوريين ومراعاة مصالحهم، من خلال اعتماد طرق تمثيل متنوعة في كل هيئات الحكم ومؤسسات الدولة، وبما يضمن تمثيل مختلف مكونات المجتمع، السياسية والاجتماعية، والاستماع إلى وجهات النظر السياسية لكل القوى السياسية، تمثيل كل القوى الحية والاستفادة من الآراء المعبرة عنها، وسد الثغرات التي يمكن أن تفضي إلى زعزعة الاستقرار أو الانزلاق إلى توترات مجتمعية.

تقتضي حساسية المرحلة الانتقالية ضرورة وضع معايير واضحة لإعادة تشكيل هياكل السلطة، وإنتاج مؤسّسات يقودها سوريون يتمتعون بأوسع صفة تمثيلية ممكنة، بغية تحقيق معادلة استعادة السوريين بلادهم، والسير نحو الاستقرار السياسي، وبما يشكل عامل جذب للمستثمرين ورؤوس الأموال. وإن كان ثمة أولويات مستعجلة تتلخص في توفير الحاجيات المعيشية، إلا أن ذلك لا يعني تغييب ضرورة المزامنة بين الأولويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وألا يغلب الجانب الاقتصادي والمعيشي على السياسي.

العربي الجديد

—————————-

قسد”… ورقة مخيّمات الهول/ فاطمة ياسين

12 يناير 2025

قبل تحرك القوات المهاجمة من شمال سورية متجهة نحو دمشق بشهر تقريباً، كانت الولايات المتحدة قد دعت، في مؤتمر في واشنطن، إلى مواصلة الضغط على متطرّفي “داعش”، وأعلنت الدول المجتمعة تقديم 148 مليون دولار لتمويل أمن الحدود وعمليات مكافحة الإرهاب في أفريقيا جنوب الصحراء وآسيا الوسطى، وقال وزير الخارجية بلينكن، في مستهل الاجتماع، إن بلاده ستقدم أيضاً 168 مليون دولار لصندوق الاستقرار في العراق وسورية. رغم أن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، كان قد أعلن، قبل أربع سنوات من هذا الاجتماع، أن التحالف قد قضى على تنظيم الدولة الإسلامية في سورية والعراق بنسبة 100%! ولكن وجود التحالف، من الناحية التقنية، استمرّ، بجسده العسكري المخفّف جدّاً في المنطقة. ففي إطاره، نفذ الطيران الفرنسي قبل أسبوع ضربة جوية على هدف في البادية السورية، قال إنه تابع لتنظيم الدولة الإسلامية. وكانت رقعة التنظيم قد انحسرت فعلاً، ولكنها أنتجت مخيّمات وسجوناً تحوي حوالى مائة ألف شخص، موزّعين ما بين مقاتل وامرأة وطفل، وهم حتى اللحظة موجودون ما بين مخيمات الهول وعين عيسى والروج، وفي سجون قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي تشرف، مباشرةً، على هؤلاء الأسرى وعائلاتهم. وكانت “قسد” منذ انتهاء المعركة، وحشر كل هؤلاء في مكان واحد، قد أبدت تبرّمها من وجودهم، وحارت الدول المنضوية تحت راية التحالف ضد “داعش” بهم، وظلّ هؤلاء بوضعهم الإنساني المزري حتى سقوط النظام في دمشق.

هروب الأسد قبل شهر، وبدء الحوار العسكري والدبلوماسي بين إدارة العمليات المنتصرة وقوات “قسد”، جعلا موضوع عائلات “داعش” يطفو بقوة على السطح من جديد. وجاء ذكرهم ضمن البنود التي نوقشت على طاولة البحث بين إدارة أحمد الشرع الجديدة وقائد “قسد”، مظلوم عبدي، وأظهر كل طرفٍ حرصه على التمسّك بهذا الملف الذي بدا، في هذه اللحظة، أثمن مما كان متوقّعاً، فلطالما أبدت “قسد” قلقاً من هؤلاء، وناشدت، بطرق عدّة، تخليصها من هذا الملف بترحيل المعتقلين، كلٌّ إلى بلده الأصلي، أو محاكمتهم والتعامل معهم بشكل قانوني، وإغلاق الملف، ولكنها في محادثاتها مع الشرع تمسّكت لنفسها بإدارة السجون والمخيّمات، ووضعت هذه القضية ضمن أولوياتها.

الصراع الحالي والسجال السياسي والعسكري بين “قسد” ومكونات السلطة الجديدة يمكن أن ينعكس على وضع هذه المخيّمات، خصوصاً أن ظروف الاعتقال والحجز والإقامة الجبري، حوَّلت المخيمات إلى ما يشبه “غيتو” تُرسَّخ فيه الأفكار التقليدية للتطرّف وتُقدَّم إلى الأطفال الذين يبلغ عددهم أكثر من نصف التعداد الكلي للمعتقلين. ويمكن لهذا الأمر أن يُنشئ، من دون قصد، جيشاً آخر من القادرين على حمل السلاح، ولديهم فكر متطرّف يشكل خطراً على الجميع. وقد أشار عبدي في تصريح له إلى أن خطر “الدولة الإسلامية” قائم، وهذه المعسكرات ما هي إلا من أوجه الخطورة، وأن تصعيد الصراع ضد قواته قد يؤدي بهؤلاء إلى أن يصبحوا خارج سجنوهم ومعسكراتهم.

من الصعب أن يعيد التحالف الدولي اليوم تجهيز قوته الفائقة وحشد الحلف العسكري ضد سكان المخيم المؤمنين بفكر “داعش”، مع محدودية الوجود الأميركي في الميدان الذي لا يتجاوز الألفي جندي في شمال شرق سورية، وقد أوجد التغير الحاد الذي حدث في دمشق مع سقوط نظام الأسد وضعاً جديداً، يحتاج، بالضرورة، إلى اتفاق بين سلطات دمشق و”قسد” بسرعة، ويمكن أن تتعقد الأمور قليلاً مع إصرار تركيا على أولوية طرد عناصر حزب العمال الكردستاني من سورية، ونزع السلاح من الجانب الكردي وحصره بالجانب السوري الرسمي. أما في حال قبول تركيا وجود “قسد” باعتبارها كياناً عسكرياً مستقلاً ضمن الجيش السوري الجديد، فقد يحلّ المسألة مؤقتاً، ولكنه يبقي على الوضع البائس للسجون والمخيمات، وهو عبء آخر على حكومة دمشق، وربما على الدول أن تجد له حلاً.

العربي الجديد

————————–

سورية أمام جدلية الديمقراطية والاستبداد/ لميس أندوني

12 يناير 2025

منذ تبوّأ أحمد الشرع موقع حاكم “الأمر الواقع” لسورية، انبرت أصوات، كنتُ منها، تُطالب بوضع أسس نظام تعدّدي سياسي ودستور يضمن الحريات وحقوق المواطنة، فهذه فرصة لتأسيس نظام جديد، مع الأخذ بالاعتبار أن خلفية هيئة تحرير الشام تُثير تساؤلات مشروعة، وبخاصة في ما يتعلق بالتمييز المذهبي ووضع حقوق المرأة والديمقراطية. ولكن، يجب أن نعترف أنه ليس هناك نموذج تعدّدي تقتدي به القيادة غير المختبَرة والمفتقرة إلى التجربة في دمشق، بل يجب الاعتراف أن جزءاً مما يحدث أن جلَّ اهتمام معظم الدول العربية، وحتى الأصوات الإعلامية العربية، يتركز على الذعر من قيادة “إسلامية” في دمشق، تقوّي التيارات الإسلامية وتهدّد الحكّام العرب.

للشفافية؛ أعارض حكم الإسلام السياسي. لكن؛ يوجد فرق بين المعارضة والانصياع لدول قمعية دكتاتورية تتباهى بالتطبيع مع إسرائيل وتدعس على حقوق مواطنيها بلا تردّد. لذا؛ يصبح ضرورياً وضع نقدنا والمحاذير من توجّهٍ يبدو دينياً ضيقاً في سورية، وتمييزه عن الأصوات المعادية للشعوب والمبرِّرة للفساد والقتل والتعذيب وفقاً لتبعية الكاتب والسياسي ومصالحه.

عليه، ضروريٌّ التذكير بأن ملاحظتنا ونقدنا مبنيّان على مطالبات “الشارع العربي” خلال الانتفاضات العربية، التي تلخّصت في شعار “حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية”، وأحبطتها الثورات المضادة، إضافة إلى التدخلات الخارجية والافتقار إلى قيادة موحدة وواعية ولديها برامج سياسية والوعي بأهمية وخطورة، ولنكن أكثر صراحة، دخول تنظيمات أفرزها “داعش” على خط الانتفاضات العربية.

ليس ما تقدّم من قبيل التركيز على تاريخ الأطراف المنضوية تحت قيادة هيئة تحرير الشام، وإن كانت هناك ضرورة لأن تُراجع في دمشق، وإنما للاعتراف بعدم وجود نموذج تعدّدي بين الأنظمة العربية، وإن كان يمكن أخذ أمثلة من إنجازات حقوقية في بعض الدول العربية، تحت ضغط شعبي وهيئات مدنية. لكن الأساس تقبُّل القيادة في دمشق فكرة تأسيس نظام تعدّدي ديمقراطي، مع وعينا بأن أغلب الأنظمة العربية ستحارب نشوء نظام جديد يختلف عنها في سورية.

معضلة النظام العربي الكبرى ليس ما يحدُث في سورية تحديداً، وإنما محاربة ومنع دعم أي توجه ديمقراطي في أي دولة عربية كانت. ومخاوف الدول العربية هي من نشوء دولة إسلامية في سورية، ليست حرصاً على حريات الشعب السوري، بل كان دور بعضها الوظيفي القضاء، وما يزال، على التيارات الإسلامية، أو تطويعها لمصالحها، إضافة الى خوف أنظمة معيّنة، كل من منظوره، من تمرّد تنظيم الإخوان المسلمين عليها، كما نرى في الأردن وتونس، وبدرجة أكثر عدائية في مصر، وأكثر تطرّفاً في موقف الإمارات. فبدل أن تنشغل الدول العربية بحماية سورية، ولو بالذهاب إلى مجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية، ضد التوغل الإسرائيلي في الأراضي السورية، باستثناء اعتراضات الأردن على محاولة ضم أجزاء من هذه الأراضي، نجدها جميعاً محكومة بمخاوف تضعضع سلطتها. وهي مسألة تستطيع هذه الأنظمة، إن أرادت، حلها بالبدء بالتعامل مع تململ الشعوب بالتخلي عن القمع وكبت الحريات والحلول الأمنية. لكنها أسطوانة نكرّرها ولا من سميع أو مستجيب، ما يعيدنا إلى مسألة غياب النموذج التعددي الديمقراطي.

حتى لو تفهّمنا مخاوف أنظمة، وفئات واسعة، من تأسيس حكم “إسلامي” وفقاً لمفاهيم ضيقة إقصائية في دمشق، فإن معظم الدول العربية ستحارب فكرة عقد اجتماع لجامعة الدول العربية (المضمحلة) لإعلان ميثاق التزام عربي بمواثيق حقوق الإنسان، يشكل رسالة إلى دمشق. لكن هذا سيناريو يحلق في كوكب المريخ، فهي نفسها بحاجة إلى الالتزام بأدنى درجات حقوق الإنسان، وهذا آخر ما يهمها. والقصد هنا أن معارضة دول عربية حكماً إسلامياً في دمشق لا يتعلّق بحقوق الإنسان، وإنما بالخشية أن تنتزع التيارات الإسلامية منها السلطة، ولتثبت لواشنطن أنها قادرة على منع ذلك.

طبعاً هناك لاعب في غاية التطرف نرى تعبيراته في بعض القنوات العربية المموّلة من دولة عربية، تفضّل التعامل مع إسرائيل.. بل ويفصح مدير قناة “سكاي نيوز” العربية الكاتب اللبناني نديم قطيش، ويكرّر أنه ليست لديه مشكلة مع إسرائيل، لكنه “لن يسمح بظهور محمد مرسي”. يشاركه في حملته، كما دائماً، الكاتب المصري إبراهيم عيسى، بمواعظه التحريضية، وإن كان لا يروّج إسرائيل أو العلاقة معها. أي أن النظام العربي المهترئ وقنوات إعلامية تابعة جل اهتمامها ترويج التطبيع مع إسرائيل والتحريض ضد التيارات الإسلامية والمقاومة، وتتجاهل جرائم الحرب والقتل أو الاعتقال والتعذيب؛ أي منع أي حوار حقيقي، أو حتى نقد موضوعي، حتى لو كان قاسياً، للتيارات الإسلامية، فالهدف خدمة مصالح الأنظمة وإرضاء أميركا، ولا مكان لطموحات الشعوب ورأيها.

الأهم والأنكى أنه لا توجد حال نهوض شعبي عربي، فحرب الإبادة الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني لم تُنتج انطلاق حركة شعبية واسعة، لأسبابٍ، منها القمع والإحباط، والذهول من مشاركة الغرب (المتحضّر) في المجازر ضد الشعبين الفلسطيني واللبناني، وصمته عن غزو أراضٍ سورية وسعي إسرائيل إلى ضمّها واعتراف الرئيس المنتخب ترامب باعتبار هضبة الجولان المحتلة جزءاً من إسرائيل، في ظل تواطؤ وصمت رسميين عربيين؟

كلها، وعوامل أخرى، يجب دراستها ونقد الوعي المشوه والمستسلم الذي نخر تفكير الشعوب وعطّل التفاعل الموضوعي مع الأحداث التاريخية في سورية. ومن يقود معارضة قيادة “الأمر الواقع” في سورية دول ليست لديها معايير لحقوق الإنسان ولا للقضايا التحرّرية، فيما يسعى الغرب إلى التعامل الفوقي استعماري الثقافة، والقيادة الجديدة تحاول كسب الدعم بتصريحات تؤكد أنها ليست خطراً على أحد، فيما تُعربد إسرائيل بحرية وتنتهك أرض سورية والدول المحيطة بها.

المسألة معقدة؛ وعلى المنظمات الشعبية والمدنية والنقابات المهنية التحرّك تجاه سورية، وأن تبدأ بنقاش وحوار علني وإعلان موقف موضوعي واضح.. ما يزيد المسألة تعقيداً أن بعض الهيئات العربية الشعبية مسكونة بالإسلاموفوبيا، وليس بالموقف المبدئي المعارض وغير الإقصائي للتيارات الإسلامية، وبعضها كان قد انغمس بتأييد النظام السابق في سورية، تحت شعار العداء للإمبريالية، لكن لا بد من التحرّك وتحمّل مسؤولية دراسة الرد وكيفية التعامل، فالأمر يخص كل الشعوب العربية.

لا يعني ذلك أن تغتنم التيارات الإسلامية الفرصة للاستقواء، فأيديولوجيّتها هي الأخرى لا تؤسّس لحكم تعدّدي ديمقراطي، بل آن الأوان لانفتاح الشعوب العربية بعضها على بعض. قد يكون هذا الكلام ضرباً في الخيال، لكن على القيادة الجديد في دمشق تقبُّل النقد، وتفهُّم المخاوف، فهي لم تأت من تقليد تعدّدي أو ديمقراطي، وعليها أن تدرك أننا جميعاً في القارب نفسه على مرمى من الترسانة العسكرية الصهيونية والأجندة الاستبدادية للرئيس الأميركي القادم، والأمل في النهاية معقودٌ على الشعب السوري، لتحديد المسار، ولنتحمّل مسؤولية دعمه بدون حسابات ضيقة وأنانية.

العربي الجديد

———————————

ديمقراطية سوريا واستقلال لبنان/ عالية منصور

آخر تحديث 12 يناير 2025

منذ حصول البلدين على استقلالهما في أربعينات القرن الماضي، لم تكن العلاقات بين سوريا ولبنان علاقات ندية كأي دولتين مستقلتين، ولطالما شابت هذه العلاقات شوائب كثيرة وإن كان أبرزها وأهمها هو ما تم في ظل حكم الأسدين الأب والولد.

دخل الجيش السوري إبان حكم حافظ الأسد لسوريا إلى لبنان في عام 1976 ليغتال الشهيد كمال جنبلاط في عام 1977، وشارك في الحرب الأهلية اللبنانية، وشارك بعدها في مرحلة ما بعد الحرب ومرحلة ما بعد حافظ الأسد، أي مرحلة استلام ابنه بشار الحكم في دمشق، وبقي في لبنان يعيث إجراما وفسادا كما كان يفعل في سوريا إلى أن اغتال رئيس الحكومة اللبنانية رفيق الحريري، فأخرج وجيشه ومخابراته من لبنان في أبريل/نيسان 2005.

جرت ضغوطات عربية ودولية على نظام الأسد بعد خروجه من لبنان، ليرضخ لإقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين ولكن العلاقات الدبلوماسية أخذت طابعا شكليا وبقيت علاقة الدولتين تشوبها الكثير من الشوائب، وبعدما كان نظام الأسد يعتبر لبنان ملحقا، صار البلدان ملحقين بالتبعية لإيران والتي صارت أكثر وضوحا بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011، وبداية التدخل العسكري الايراني في الحرب التي شنها بشار على السوريين من خلال ميليشيا “حزب الله” اللبناني.

اليوم تأتي زيارة رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي إلى دمشق ولقاؤه والوفد المرافق بالإدارة السورية الجديدة بقيادة أحمد الشرع، بعد زلزال سقوط نظام الأسد، وانهيار محور إيران في المنطقة، لتعيد فتح ملفات عالقة بين البلدين والشعبين منذ عشرات السنين.

ولكن في البداية يجب التذكير بأنه، ورغم الأهمية الشكلية لهذه الزيارة والتي قد تتمكن من وضع أسس لعلاقات طبيعية بين الدولتين، فإن الطرفين لا يملكان اليوم صلاحية دستورية وقانونية للبت في كثير من الملفات.

يجب التذكير بأنه، ورغم الأهمية الشكلية لهذه الزيارة والتي قد تتمكن من وضع أسس لعلاقات طبيعية بين الدولتين، فإن الطرفين لا يملكان اليوم صلاحية دستورية وقانونية للبت في كثير من الملفات

وفي سوريا لم يحصل السيد الشرع بعد على الشرعية الدستورية أو التمثيلية لعقد أي اتفاقات دولية، وفي لبنان فإن حكومة ميقاتي هي حكومة تصريف أعمال لا تملك أيضا صلاحيات إبرام اتفاقات، رغم أن الكثير من الملفات ليس بحاجة إلا لقرارات سياسية ليبدأ حلها، ولتكن كإشارة إيجابية من الطرفين على جدية النية بإقامة علاقات ندية.

وقبل أيام انتخب العماد جوزيف عون رئيسا للجمهورية اللبنانية بعد فراغ استمر أكثر من عامين وأربعة أشهر، والمهلة التي أعطاها الشرع نفسه للحكومة المؤقتة في سوريا يتبقى عليها شهران قبل الشروع ببدء المرحلة الانتقالية وتشكيل حكومة تمثل جميع السوريين، وتبدأ بإعداد دستور للبلاد، وانتخابات لممثلي الشعب.

إن ترسيم الحدود بين البلدين بدءا من مزارع شبعا، مع كل ما ألحقه هذا الملف من ضرر على لبنان وسيادته، حيث كان الذريعة التي استخدمت لإبقاء سلاح “حزب الله” بعد التحرير عام 2000، سيكون من الملفات المؤجلة إلى أن يكون الطرفان قادرين دستوريا على إتمام الاتفاق، كذلك الأمر بالنسبة إلى الاتفاقيات الموقعة بين البلدين، وحل المجلس الأعلى اللبناني-السوري، فهذه تحتاج إلى برلمان للمصادقة عليها.

لكن من الملفات التي بُحثت ويجب أن تأخذ طريقها للتنفيذ ملف ضبط الحدود بين البلدين، هذه الحدود بمعابرها الشرعية وغير الشرعية التي كانت ممرا لدخول المقاتلين والإرهاب والمخدرات وحتى تهريب البضائع، والتي كان نظام الأسد و”حزب الله” يصران على بقائها غير مضبوطة، كيف لا وهما الشريكان في كل عمليات التهريب.

اليوم سيكون ضبطها لصالح البلدين وسيادتهما، وخصوصا بعد اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم بين لبنان وإسرائيل قبل أسابيع، فقد أصبح لبنان الرسمي ملزما بضبط حدوده، ولم تعد ذريعة أن الدولة أضعف من “حزب الله” تسري هنا.

من الملفات العالقة أيضا ملف المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية، والذي طالما تخلت السلطات اللبنانية عن البحث فيه مع نظام الأسد، بسبب طبيعة العلاقة بين البلدين، فقد آن الأوان لكشف ما حل بهم، بعد أن كادت تنعدم إمكانية وجود أحياء منهم بعد اليوم.

من الملفات التي بُحثت ويجب أن تأخذ طريقها للتنفيذ ملف ضبط الحدود بين البلدين، هذه الحدود بمعابرها الشرعية وغير الشرعية التي كانت ممرا لدخول المقاتلين والإرهاب والمخدرات وحتى تهريب البضائع

أما ملف الموقوفين السوريين في السجون اللبنانية، ولا نتحدث عن المدانين جنائيا، بل عمن تم سجنهم ومحاكمة بعضهم بتهم كلها تدور في فلك دعم الثورة السورية، وتمت فبركة ملفات لهم في ظل سيطرة “حزب الله” وحليفه بشار على الكثير من القضاء وأجهزة الأمن اللبنانية، فهذا من الملفات التي تحتاج إلى معالجة فورية بعد أن قضى بعضهم أكثر من 13 عاما في السجن دون ارتكابه أي جرم في الأراضي اللبنانية.

ملف اللاجئين السوريين وتنظيم عودتهم إلى سوريا بما يحفظ كرامتهم بعد كل ما تعرضوا له على يد نظام الأسد ومن ثم حلفاء الأسد وحتى مناوئيه في لبنان.

كذلك ملف وثائق الاتصال وبلاغات الإخضاع بحق السوريين في لبنان يجب البحث في إلغائها فورا، بعد أن كانت قد صدرت بقرار من رؤساء أجهزة أمنية ينتمون لمحور الأسد-“حزب الله”، لملاحقة كل معارض لبشار الأسد أينما كان، والشيء بالشيء يذكر، فقد تم إيقاف أحد السوريين قبل أيام في مطار رفيق الحريري الدولي لساعات بسبب إحدى هذه “الوثائق” التي تقول إنه مرتبط عقائديا وتمويلا بـ”داعش” مع أن الموقوف مسيحي.

من المفترض أن يكون اللقاء قد وضع آلية تواصل وشكّل لجانا لحل الملفات التي يمكن حلها والتي لا تحتاج إلى انتظار تشكيل حكومات شرعية في البلدين. ولكن يبقى أهم ما في هذه الزيارة أنها أتت بعد انهيار محور إيران في المنطقة وخصوصا في لبنان وسوريا، ومع جدية سوريا على إقامة علاقات ندية بين البلدين. ويبقى التخوف من المتضررين من هذه الندية أو ممن اعتادوا على التبعية. مع إصرار على أن يصبح حلم سمير قصير بديمقراطية سوريا واستقلال لبنان واقعا.

المجلة

—————————

سورية الجديدة كما تريدها إسرائيل/ محمد أبو رمان

12 يناير 2025

منذ سقوط نظام بشار الأسد (قبل أكثر من شهرٍ) تبعثرت المخاوف العربية والإقليمية بين من يثير القلق من الأجندة الإيرانية التي لن تهدأ وتقبل بمرارة الهزيمة في سورية، وستعمل على محاولة دعم الفوضى الداخلية واستخدام الورقة الطائفية من جهة، والأجندة التركية التي ما تزال دول عربية عديدة تراها بمثابة دعم للإسلام السياسي وحركاته في المنطقة، وليس فقط في سورية، بالرغم من التحولات الكبيرة، بل التقلبات، التركية في السياسات الإقليمية، لكننا لا نجد توجّساً حقيقياً وكبيراً عربياً مشابهاً من أجندة اليمين الإسرائيلي الحاكم، ولتصوّراته الحقيقية لسورية الجديدة، أو بعبارة أدقّ التحوّل الجيوبوليتيكي المطلوب إسرائيلياً Geopolitics Shifting على صعيد المنطقة بأسرها.

ما يفترض أن يقلق منه العرب جميعاً، ومعهم إيران وتركيا أيضاً، هو التصور اليميني الصهيوني لسورية وللمنطقة، بخاصة مع عودة ترامب وفريقه اليميني الذي سيكون متواطئاً مع هذه الأجندة؛ فعلى صعيد إيران، لم تبق لها أوراق حقيقية في سورية، وهي حالياً في مرحلة تمزّق للنفوذ الإقليمي، وفي حالة دفاع وقلق من وجود أجندة أميركية – إسرائيلية للهجوم المباشر وغير المباشر على طهران. وفي ما يخص تركيا فلديها أجندة ومصالح استراتيجية مع سورية الجديدة، لكنها مصالح مشتركة، وستكون تركيا دولة راعية وداعمة للنظام الجديد، ولا يوجد قلق حقيقي من النفوذ التركي، بل قد يكون إيجابياً إلى درجة كبيرة في الظروف الاقتصادية والبنية التحتية المدمّرة وغياب الجيش والأمن في سورية.

في المقابل؛ لماذا نقلق من الأجندة الإسرائيلية؟… لأنّها، باختصار، تقوم على نظرية رئيسية في أنّ أمن إسرائيل على المدى البعيد يقوم على تجزئة سورية وتقسيمها والتلاعب بورقة الأقليات، وربما إيجاد دويلاتٍ تمثل العلويين والدروز والأكراد. هذا في الحدّ الأعلى، وفي الحدّ الأدنى، الأجندة هي قيد التطبيق منذ اللحظة الأولى لسقوط نظام الأسد، عبر مسارعة إسرائيل إلى تدمير كامل البنية العسكرية للجيش السوري السابق، وتدمير مخازن الأسلحة، والتمدّد في الجنوب السوري، في المنطقة المحرّمة، وإعلان بطلان وقف إطلاق النار في العام 1974، بما في ذلك السيطرة على جبل الشيخ، الذي يمثّل خط دفاع استراتيجياً عن سورية ولبنان في الوقت نفسه، ومع سيطرة إسرائيل عليه بات الجنوب السوري، بل حتى دمشق، في حالة انكشاف استراتيجي.

لم تنتظر إسرائيل موافقة العالم أو القرارات الدولية، بل تحرّكت سريعاً خلال ساعات قليلة للسيطرة على هذه المنطقة، بل ذهب نتنياهو إلى زيارتها متبجّحاً. وأخيراً كشفت صحيفة يديعوت أحرونوت نقلاً عن مسؤولين إسرائيليين، نيات إسرائيل إبقاء السيطرة على ما يقارب 15 كيلو متراً، وعمق استخباري يصل إلى 60 كيلو متراً في سورية، بمعنى احتلال استراتيجي وأمني وسيطرة شبه مطلقة على المنطقة الجنوبية، بدايةً، وتمهيداً لتوسيع نطاق العمليات الاستراتيجية لجيش الاحتلال، في حالة الفوضى أو المشكلات في الجنوب، لتوسيع المناطق العازلة، وربما دعم إقامة كيانات للأقليات بذريعة الخشية من الإسلاميين وخلفياتهم الأيديولوجية.

هل كان بإمكان هيئة تحرير الشام وقف المشروع الإسرائيلي؟ بالتأكيد لا، بخاصة أنّ للمصالح الأميركية في سورية عنواناً واحداً، إسرائيل، ولا يوجد تكافؤ بين الهيئة والاحتلال، فضلاً عن أن أولويات “الهيئة” اليوم أخطر بكثير في التعامل مع الوحدة والأمن والاستقرار وعديدٍ من التحدّيات، لكن ما حدث يكشف الفرق الحقيقي بين الدول (والأنظمة) التي لديها تصوّرات استراتيجية حقيقية والمحيط العربي الذي ما يزال يتخبط ويختلف ويحتار في كيفية التعامل مع الواقع السوري الجديد!.

محزن جداً أن تسيطر إسرائيل على مصادر المياه الحيوية التي تخص الأردن وسورية في حوض اليرموك، وكان يمكن أن تحل مشكلة كبيرة للأردن، وأن ينطلق جيش الإسرائيليين إلى تهديد الأهالي والقرى في سورية ونزع سلاحهم، في اقتناصٍ مدهشٍ للحظة خاطفة، وتسجيل خريطة جديدة لصالح الأمن الإسرائيلي، لأنّ لديهم تصوّرات واضحة لأمنهم ومصالحهم وطريقة عملهم ويفرضونها على العالم بأسره.

العربي الجديد

————————

دبلوماسية الهدهدة”.. كيف يتحرك أحمد الشرع في حقل الألغام السوري؟/ أحمد مولانا

13/1/2025

عندما فر بشار الأسد من سوريا على متن طائرة روسية إلى موسكو في 8 ديسمبر/كانون الأول الماضي، ترك لمن دخلوا قصر الشعب في دمشق بعده ألغاما متفاوتة الأحجام، بداية من بنية تحتية مدمرة أو متهالكة في جميع أنحاء سوريا، ما جعل توافر أساسيات الحياة المعاصرة من كهرباء وغاز ووقود بشكل دائم أقرب للحلم لعموم المواطنين، مرورا بسعر متردٍّ للعملة السورية، ورواتب متدنية للموظفين تتراوح قيمتها بين 10 دولارات إلى 25 دولارا في الشهر، وجروح اجتماعية عميقة تتعلق بملف ضحايا الثورة والمختفين قسريا الذين جاوزت أعدادهم 100 ألف شخص بحسب بعض التقديرات، وصولا إلى الحضور العسكري لقوى دولية وإقليمية على الأراضي السورية على رأسها أميركا وروسيا، هذا فضلا عن نظام عقوبات غربي وأميركي صارم يعوق الاستثمارات الأجنبية في سوريا.

بجوار كل ما سبق، برزت ألغام أخرى جديدة ترتبط بهوية المنتصر في القتال، فهيئة تحرير الشام مصنفة على قوائم الإرهاب في الولايات المتحدة وفي العديد من الدول، فضلا عن المخاوف الدولية والإقليمية من صعود أشخاص إلى مقاعد الحكم في دمشق بعد أن كانوا قبل بضعة سنوات كوادر في التنظيمات “الجهادية” قبل أن ينفصلوا عنها، وقادة لفرع تنظيم القاعدة بسوريا قبل أن يفكوا ارتباطهم به، فضلا عما شاب مسيرتهم من احتكاكات وصراعات مع فصائل سورية أخرى، كما يبرز توجس من حقيقة توجهاتهم الأيديولوجية والفكرية، وانعكاساتها على تصورهم لشكل الدولة الجديدة ونظام الحكم بها، وكيفية التعامل مع الأقليات العرقية والطائفية التي تزخر بها سوريا.

مرهف أبو قصرة (يمين) مع أحمد الشرع في أثناء اجتماع الفصائل العسكرية حول شكل المؤسسة العسكرية في سوريا بعد خلع الأسد (إدارة العمليات العسكرية -تلغرام)

لقاء جمع القائد أحمد الشرع مع الفصائل العسكرية نوقش فيه شكل المؤسسة العسكرية في سوريا الجديدة (مواقع التواصل)

تفكيك حقل الألغام خطابيا

كان على الإدارة السورية الجديدة أن تتعامل مع هذه الألغام منذ الساعة الأولى لسقوط الأسد، وربما حتى قبل ذلك حتى تبين للجميع أن سقوطه كان قاب قوسين أو أدنى، وكانت وسيلتها الرئيسية في ذلك هي “خطابها” المصمم بدقة وعناية. ويتضمن “الخطاب” مجموعة من الأفكار والمفاهيم التي يرددها القائل، لكنه في الوقت ذاته يعكس مدى إدراك المتحدث لعلاقات القوة والهيمنة ومدى التفاعل بينه وبين المخاطبين.

للمزيد من التوضيح، نأخذ مثالا، وهو خطاب المتحدث السابق باسم تنظيم الدولة الإسلامية أبو محمد العدناني والذي تميز بأنه كان خطابا هجوميا، بل وعدائيا صريحا، تجاه الدول الإقليمية المنخرطة في الملف السوري، وتجاه الدول الكبرى، وحتى تجاه الفصائل السورية الأخرى إلى درجة أنه تعهد بتحرير المناطق المحررة (من سيطرة الفصائل المنافسة)، وهو ما جعل تلك الأطراف تتكتل ضده، ما سهّل عزله وحصاره ثم القضاء عليه.

وعلى النقيض من ذلك تماما، يقدم قائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع، المعروف سابقا باسم “أبو محمد الجولاني”، خطابا مسيسا يسعى لتفكيك أي تكتلات معادية للتغيير الحاصل في سوريا، ساعيا في غضون ذلك إلى تدشين أرضية لتحالفات داخلية وخارجية لتجاوز التحديات القائمة.

فاجأ أحمد الشرع من تابعوا لقاءاته وتصريحاته بخطاب هادئ متزن يحاول تفكيك الألغام تباعا، ونبرة تصالحية سعت لطمأنة جميع الأطراف داخليا وخارجيا بأن سوريا الجديدة لا تمثل تهديدا لأحد ولا تسعى للانتقام من أحد، وأنها تركز على التنمية الاقتصادية والتعافي من جراحات الماضي وآثار الحرب، والأهم أنها تقف على مسافة واحدة من الجميع، بمن في ذلك بعض حلفاء نظام الأسد البائد.

داخليا، فتح الشرع الباب أمام سائر المكونات السورية للمشاركة في صنع المستقبل، فشدد على أنه “لا يعتبر نفسه محرر سوريا، لأن كل من قدم تضحيات ساهم في تحرير البلاد”، كما حرص على طمأنة الأقليات، حيث قال خلال لقائه مع الزعيم اللبناني الدرزي وليد جنبلاط: “نحن معتزون بثقافتنا وإسلامنا، وديننا يحمي حقوق كل الطوائف والملل”. كما تحدث إبان لقائه مع وفد من القيادات الدرزية في السويداء عن “أهمية استحضار عقلية الدولة لا عقلية المعارضة، ووجوب بقاء سوريا موحدة، وأن يكون بين الدولة وجميع الطوائف عقد اجتماعي لضمان العدالة الاجتماعية”، وأشار إلى أن نظام الأسد عمل على تخويف الأقليات وإثارة النعرات، بينما ستعمل الإدارة الجديدة على حماية الطوائف والأقليات.

لقاء أحمد الشرع مع الزعيم اللبناني الدرزي وليد جنبلاط (الفرنسية)

إقليميا، أرسل أحمد الشرع رسائل بأن الإدارة الجديدة لا تريد التدخل في الشؤون الداخلية لدول الجوار، فشدد على أن “سوريا لن تنصر طرفا على آخر في لبنان، وأنها تحترم سيادة لبنان ووحدة أراضيه وأمنه”، مستحضرا بذلك المخاوف طويلة الأمد في بيروت من الهيمنة التي مارستها دمشق لعقود على السياسة اللبنانية، وتكررت نفس الرسائل تقريبا بشأن العراق والأردن. وفي غضون ذلك، كرر الشرع الإشارة إلى دور سوريا في تحجيم نفوذ المليشيات المرتبطة بإيران، ومساهمة ذلك في حماية أمن المنطقة وتحديدا دول الخليج لخمسين سنة قادمة حسب تعبيره، وذلك ضمن مساعيه للانفتاح على دول الخليج والغرب عبر اللعب بورقة إيران.

دوليا، تبنى الشرع خطابا يركز على مصالح مشتركة بين الإدارة السورية الجديدة والغرب، فتحدث عن أهمية الاستقرار لعودة اللاجئين إلى ديارهم، وعن التصدي لتجارة الكبتاغون، وفتح الباب أمام الاستثمارات الأجنبية، لكنه واكب ذلك بالحديث عن أهمية رفع العقوبات المفروضة على سوريا، ورفع هيئة تحرير الشام من قوائم التنظيمات الإرهابية، للمساعدة في بناء الدولة الجديدة، وتعزيز انفتاحها على العالم.

ورغم ما سبق، قوبل خطاب الشرع بالتشكيك، مع مخاوف أن يكون مجرد خطاب “مرحلي” تقتضيه ضرورات اللحظة الراهنة لحين ترسيخ موقعه في هرم السلطة، مع إمكانية تغيير خطابه مستقبلا مع تعزيز نفوذه وقبضته. ومصداقا لهذه الشكوك، أكدت الولايات المتحدة على لسان وزير الخارجية بلينكن بأنها ستربط مواقفها بأفعال دمشق دون الاكتفاء بأقوالها، فيما أشارت “أورسولا فون دير لاين” رئيسة المفوضية الأوروبية إلى أن الوقت ما زال مبكرا للحكم على إمكانية وفاء القيادة الجديدة بوعودها في حفظ سيادة سوريا.

أما دولة الاحتلال الإسرائيلي فقد تبنت موقفا أكثر تشددا، بلغ حد قيام المسؤولين الإسرائيليين بالتهجم اللفظي على الإدارة السورية الجديدة، بالتزامن مع توغل عسكري خطير لدولة الاحتلال في الأراضي السورية. وقد نعت وزير الخارجية الإسرائيلي غدعون ساعر النظام الجديد في دمشق بأنه “عصابة وليس حكومة شرعية”، مشيرا إلى أن الإدارة السورية “تقودها جماعة جهادية متطرفة للغاية”، بينما صرحت نائبته بأن “قادة سوريا الجدد هم ذئاب بثياب حملان، ويحاولون إقناع العالم بأنهم ليسوا متطرفين”، معقبة بالقول: “لن ننخدع بالكلام اللطيف من قادة سوريا الجدد، وسنقيّم أفعالهم”.

الأفعال الواقعية

بعيدا عن الخطاب، وخلال شهر من دخوله دمشق، ظهرت السمات “العملية” لتعامل أحمد الشرع مع التحديات التي تواجهه. ومنذ الأيام الأولى، بدأ الشرع في خطوات جادة لإذابة التشظي الفصائلي عبر العمل على دمج الفصائل في جسد الدولة الوليدة، فأعلن تشكيل وزارة الدفاع، وأوكل قيادتها لقائد الجناح العسكري سابقا في هيئة تحرير الشام مرهف أبو قصرة، وعقد لقاءات مع قادة الفصائل لبحث تفاصيل حلها وتسليم معسكراتها ودمجها رفقة سلاحها بالجيش الجديد، كما أصدر نشرة ترقيات منحت عدة أشخاص رتبا عسكرية بدرجة لواء وعميد وعقيد، وجميعهم من القادة العسكريين الذين شاركوا في عملية ردع العدوان.

برز في نمط إدارة الشرع أيضا ميله إلى تفويض الملفات الحساسة والرئيسية لشخصيات مقربة عملت معه سابقا لوجود ثقة متبادلة بينه وبينها، فبجوار وزير الدفاع، عيّن الشرع أسعد الشيباني -مسؤول الشؤون السياسية في هيئة تحرير الشام- وزيرا للخارجية، وعين أنس خطاب -مسؤول جهاز الأمن في هيئة تحرير الشام- رئيسا للاستخبارات. كما عين قادة فصائل حليفة في مناصب سيادية، فعين عزام غريب -قائد الجبهة الشامية- محافظا لحلب، وأحمد الشيخ -قائد فصيل صقور الشام- محافظا لإدلب. ودافع الشرع عن تلك التعيينات موضحا أنه يحتاج لفريق متجانس لإدارة الفترة الانتقالية، بعيدا عن المحاصصة التي ستعرقل العمل. كما لم يعترف الشرع بأي كيانات سياسية ارتبط دورها بالتفاوض مع النظام السابق نيابة عن المعارضة، وأبدى استعداده لانخراط عناصرها في المشهد الجديد كأفراد وليس ككيانات، وهو ما استقبلته تلك الكيانات بتحفظ.

وفي المقابل، أجرى الشرع تعيينات في مناصب فنية من خارج دوائر المقربين منه، فكلف ميساء صابرين برئاسة البنك المركزي، لتصبح أول امرأة تشغل هذا المنصب في تاريخ سوريا، وذلك بعد أن شغلت منصب نائب حاكم البنك المركزي في عهد نظام الأسد، وهو تعيين يحمل رسالة ضمنية للمجتمع الدولي بالانفتاح تجاه عمل المرأة، وعدم إقصاء موظفي العهد السابق ممن لم يتورطوا في جرائم، والاعتماد على أصحاب الكفاءة. وهي الرسالة ذاتها التي عززها أحمد الشرع بزيارته لفاروق الشرع -نائب الرئيس السوري السابق- في منزله لدعوته لحضور المؤتمر الوطني المرتقب، والذي يُفترض أن يتبلور خلاله شكل النظام السوري الجديد وملامح المرحلة الانتقالية.

على مستوى الأمن المحلي، تمكنت الإدارة الجديدة بدرجة كبيرة من السيطرة على نزعات الثأر والانتقام، ومنعت تحول المشهد إلى حالة فوضوية، فحرصت على التنسيق مع الوجهاء وقادة المجتمع قبيل تنفيذ حملات مداهمة وتفتيش للمناطق والأحياء التي يوجد بها المطلوبون وفلول النظام السابق، مع الاعتماد على معلومات أمنية واستخبارية مسبقة لمداهمة مخازن السلاح المخفية، وتوقيف المتورطين في قتل المدنيين والثوار. وجاءت تلك الخطوات بعد إعطاء مهلة لعناصر النظام السابق لتسليم الأسلحة وتسوية أوضاعهم عبر مراكز التسوية المفتتحة في دمشق والعديد من المحافظات.

على المستوى الخدمي، تخوض الإدارة الجديدة صراعا مع الزمن لتقديم منجزات ملموسة للمواطنين، ما يعزز شرعيتها. فبدأت وزارة الكهرباء في خطة مدتها شهران لزيادة مدة وصول الكهرباء للمواطنين بما يتراوح من 8 إلى 10 ساعات يوميا، مع بحث ربط شبكات توليد الكهرباء السورية بنظيرتها التركية، واستقبال سفن تركية وقطرية قادرة على توليد ما يعادل نصف الكهرباء المولدة في سوريا حاليا، وإعادة تشغيل مطار دمشق أمام الرحلات الجوية، وإصدار البنك المركزي قرارا بتحرير سقف السحب اليومي من الحسابات البنكية لتيسير التجارة، والإعلان عن رفع الرواتب بنسبة 400%، وإزالة القيود على تبديل العملات، وتخفيض الرسوم والضرائب، وهي إجراءات أسفرت عن انخفاض بعض أسعار المواد الغذائية لنحو النصف، وتحسن سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار.

على الصعيدين الدولي والإقليمي، حرص الشرع على الانفتاح على الدول الغربية، فاستقبل وزراء خارجية فرنسا وأوكرانيا وألمانيا وإيطاليا، ووفد من الخارجية الأميركية، واجتمع مع وفود من ممثلي الجاليات السورية في بريطانيا وأميركا وألمانيا لتشجيعهم على ضخ استثمارات وبذل جهود للضغط على الحكومات الغربية لرفع العقوبات. فبحسب تقديرات مبعوث الأمم المتحدة إلى سوريا، تحتاج البلاد نحو 400 مليار دولار لإعادة الإعمار، وهو مبلغ يصعب توفيره حال بقاء العقوبات.

المبعوث الخاص بالأمم المتحدة “غير بيدرسون” يتحدث إلى وسائل الإعلام خارج فندق في دمشق في 18 ديسمبر 2024 (الفرنسية)

في غضون ذلك، يحاول الشرع موازنة الوجود الأميركي في سوريا الداعم لقوات سوريا الديمقراطية “قسد” والضغوط الأميركية والغربية على الإدارة الجديدة، بالوجود الروسي في سوريا، حيث أبدى الاستعداد لفتح صفحة جديدة مع موسكو، ولم يطلب منها إخلاء قواعدها العسكرية في طرطوس وحميميم، وهو ما قابله وزير الخارجية الروسي لافروف بالثناء مشددا على عدم تلقي موسكو أي طلبات من سوريا لمراجعة الاتفاقات بشأن القواعد العسكرية الروسية في البلاد، ومبديا رغبة بلاده في العمل مع السلطات السورية الجديدة بعد انتهاء المرحلة الانتقالية بشأن قضايا الاقتصاد والاستثمار.

تبدو الرسالة التي يوجهها الشرع هنا واضحة، وهي أن المطالب الغربية بإخراج الروس من سوريا لا بد لها من مقابل، مثل رفع العقوبات عن سوريا، والاعتراف رسميا بالإدارة الجديدة، ورفع أسماء أفرادها من قوائم الإرهاب، وصولا للجم الانتهاكات الإسرائيلية، والتي بلغت خرق اتفاقية فض الاشتباك لعام 1974 من جانب واحد بعد سقوط الأسد، وصولا للسيطرة على جبل الشيخ والتوغل داخل الأراضي السورية. فلو طلب الشرع من الروس الخروج من سوريا لفقد ورقة تفاوضية مهمة في يده، كما أنه يدرك أن جغرافية سوريا تفرض عليها نوعية تحالفاتها، فواشنطن ضامنة للتفوق العسكري الإسرائيلي، ومن ثم لن تسمح أميركا للدول الغربية بتسليح أو دعم بناء جيش سوري قوي، بينما يمكن لموسكو أن تقوم بهذا الدور.

إقليميا، ثمّن الشرع موقف تركيا وقطر تجاه الإدارة الجديدة في سوريا، وأعلن أن لهما الأولوية في الاستثمار ومشاريع إعادة الإعمار، لكنه في الوقت ذاته حرص على الانفتاح على الخليج، وبالتحديد على الرياض، حيث أرسل أول وفد رسمي في زيارة خارجية إلى المملكة العربية السعودية، بمشاركة أركان الإدارة الجديدة، وزيري الخارجية والدفاع ورئيس الاستخبارات. وطمأن الشرع الرياض بأن التغيير الذي حدث في سوريا يصب في مصلحتها، وهو ما قوبل باحتفاء سعودي برزت مؤشراته في تدشين جسر جوي وبري للمساعدات الغذائية والطبية والوقود، وسط آمال بأن تستخدم المملكة ثقلها العربي والإسلامي والدولي للدفع باتجاه رفع العقوبات وضخ استثمارات تسهم في إعادة بناء الاقتصاد السوري. كذلك أرسلت دمشق وفدا لجولة إقليمية شملت الأردن وقطر والإمارات.

تعزيز الشرعية وجس النبض

يمكن القول إذن إن الشرع يركز في المرحلة الحالية على تعزيز شرعيته داخليا وخارجيا، وتفكيك ما أمكن من الألغام التي ورثها ضمن مخلفات الحقبة الماضية. فداخليا، يعمل على تحقيق إنجازات وخدمات للمواطنين، وتذويب ودمج الكيانات المتعددة والفصائل ضمن جسد الدولة الوليدة، والتجهيز للمؤتمر الوطني الذي سيمثل إطارا ناظما للمرحلة الانتقالية. فيما يعمل خارجيا على صياغة مصالح مشتركة بينه وبين الآخرين، وإجهاض محاولات تشكيل محاور مناهضة لسوريا الجديدة، مع تجنب التركيز مؤقتا على ملف الاعتداءات الإسرائيلية، لحين حلحلة الملفات الأخرى ذات الأولوية مثل رفع العقوبات وإعادة الإعمار.

في المقابل، تدعم العديد من الأطراف الإقليمية الإدارة الجديدة، وترى أن نجاحها سيمثل ضمانة لاستقرار المنطقة وأمنها، بينما تتعامل الولايات المتحدة وأوروبا بنهج جس النبض، خطوة بخطوة، حيث تتوجس من التوجهات المستقبلية للشرع، وبالأخص لمجاورة سوريا لفلسطين المحتلة، وانعكاسات صعود سوريا على توازن القوى مع الاحتلال الإسرائيلي، فيما تنخرط موسكو في تواصلات مع الإدارة الجديدة لبحث مستقبل العلاقة الثنائية.

إن إرضاء أطراف وجهات متنافسة أمر محفوف بالتحديات، وبالأخص في دولة خرجت للتو من ثورة وحرب داخلية طاحنة أنهكت واستنزفت مقدراتها البشرية والمادية، ووسط إقليم به محاور متصارعة، ومسرح دولي يشهد استقطابا متزايدا. ومن ثم فإن مرحلة التقاط الأنفاس ونشر رسائل الطمأنة قد تصلح لفترة زمنية معينة، لكن بمرور الوقت قد تصبح الخيارات أقل تنوعا، والمواقف أكثر حسما، لكن المرجح أن الإدارة السورية الجديدة لن تبادر لعداء أو خصومة مع أي طرف باستثناء من يبادرها بالعداء.

المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية

——————————–

السورية التي عرت نفاق المجتمع الدولي/ ياسر عبدالعزيز

12/1/2025

في مشهد يلخص ما يخالج مشاعر السوريين، ويعبر عن مكنون رفضهم الدفين لتعاطي الأمم المتحدة والمجتمع الدولي مع مأساتهم، وهي مأساة مركبة بين قتل وتعذيب، واعتقال واغتصاب، وعاهات مستدامة جسدية أو نفسية، وتهجير وفقد للأبناء والأزواج والأحباب والأقارب، وقطع للأرزاق، وهدم للبيوت، وتخريب للبنية التحتية، مآسٍ بعضها فوق بعض ظلمات، لخصت السيدة السورية التي ذهبت إلى سجن صيدنايا -كعادتها منذ تحرير سوريا- للبحث عن أخيها وابنَي عمها الذين فقدتهم، لعله يأتيها من الوثائق التي وُجدت في السجن قبس، أو تجد في السجن هدى لمصيرهم.

حظ المبعوث الأممي الخاص إلى سوريا، غير بيدرسون، أن يلقى هذه السيدة المكلومة- وهي ليست الوحيدة-، فسمع منها ما لن يسمعه من السياسيين الذين اعتاد أن يلقاهم، ويلقاهم من سبقوه في الأمم المتحدة، في السنوات الثلاث عشرة الماضية.

فأصحاب رابطات العنق الأنيقة، والذين عرفوا شكل الدولار، وعرفوا بعده الإقامة في الفنادق ذات النجوم الخمس في أعرق بلاد الأناقة والرفاهية في أوروبا، لا يستطيعون أن يعبّروا كما عبرت سيدة صيدنايا عما يشعر به الشعب السوري أمام الخذلان الذي رأوه من المجتمع الدولي، ومنظماته التي قامت لضمان ورعاية الأمن والسلم الدوليين، وصمتهم المريع أمام البراميل المتفجرة التي تسقط على رؤوس العزل، والسياط التي تسقط على ظهور المعتقلين.

منذ اندلاع الثورة السورية وعسكرتها كرهًا بإدارة النظام المخلوع، ورغبته في جر الشعب للسلاح حتى يبرر القمع والقتل، صار المجتمع الدولي ومنظماته المؤتمرة بأوامر أميركا، والمعطلة بفيتو روسيا، في تبادل أدوار مفهوم، عاجزين عن كف القتل والتنكيل الواقع على الشعب الذي طالب بالتغيير، متذرعين بتعقيد الأزمة والتوازنات الدولية، لكن مجمل الأداء الأممي والدولي تجاه الأزمة السورية لم يكن باهتًا، بل كان قاتمًا سلبيًا، تراوح ما بين المماطلة وعدم اتخاذ قرارات حاسمة، وبين الرغبة في إطالة أمد الحرب لإنهاك دولة كبيرة لمصلحة جارة الشؤم إسرائيل.

حوَّل المبعوثون الأمميون الأزمة السورية من أزمة سياسية إلى اختصارها في الملفات الإنسانية، متناسين المادة الأولى من ميثاق الأمم المتحدة التي تنص على حق الشعوب في تقرير المصير، ومع ذلك كان الفشل الذريع في فرض آليات ضغط جدية على النظام المخلوع وداعميه الروس والإيرانيين لوقف المجازر، فيما لو اقتصرنا الأزمة في الملف الإنساني، ليتحول الملف الإنساني، ويقلص إلى ملف إغاثي، وتوجه جهود الأمم المتحدة و”دول أصدقاء سوريا” إلى الحل الإغاثي، وحتى هذا لم يفلح مع تعنت الهارب بشار الأسد من ناحية، وإدراك المنظمة الدولية وتجار الكوارث من الجمعيات المحلية لحقيقة ما يحتاجه الشعب، ونضرب في ذلك مثال داريا المحاصرة، التي جوعها النظام سنة 2016، وإذ بالمنظمة الدولية بدلًا من أن ترسل الطعام لمن بقي على قيد الحياة، ومن لم يموتوا جوعًا، ترسل لهم أدوات نظافة شخصية.

منذ أن عُهد لكوفي عنان في فبراير/ شباط 2012 مهمة متابعة الملف، وأصبح مبعوث الأمين العام إلى سوريا، كان الأداء ضبابيًا، فأطلق خطة من ست نقاط لوقف العنف، منها وقف إطلاق النار وإيصال المساعدات الإنسانية، لكن الخطة فشلت بسبب عدم وجود ضمانات دولية وإرادة تصحبها، كما حدث في البوسنة، وفي ليبيا.

ليأتي بعده الأخضر الإبراهيمي منذ 2012 وحتى 2014 وكل مساعيه تنصب على جمع أطراف النزاع، ونجح الرجل في إطلاق مؤتمر جنيف، لتظهر طبقة جديدة من الثوار، أو من يتكلمون باسم الثوار من أصحاب الياقات البيض، وتبدأ عملية تبريد الثورة، ليأتي خلفه دي مستورا ليسير على نهجه، ويطلق مبادرات خفض التصعيد في جولات جنيف التي أطلقها سلفه، ليسلِّم الملف برمته طواعية وبأوامر أميركية إلى روسيا، لتصبح الخصم والحكم!

ثم يأتي بيدرسون ليقول كلمته، ويدشن لجنة دستورية، ويدخل الجميع في معضلتين يحير فيهما الحكماء، الأولى تعريف ما جرى ويجري منذ اندلاع الثورة، ومن ثم تعريف الطرفين لأنفسهما، بشار يعرف نفسه جيدًا.. هو حاكم مستبد ورث الحكم، ويدافع عن إرث عائلته، لكن الأزمة في الطرف الآخر، أهُم ثوار أم معارضون؟

فلو كانوا ثوارًا فماذا يعني أن ينخرطوا في دستور بإشراف أممي ومشاركة النظام الذي ثاروا لتغييره؟ ولو كانوا معارضين، فلماذا يتمسك هادي البحرة حتى الآن بالقرار 2254 رغم سقوط بشار الأسد وهروبه؟!

لا يمكن إغفال النصائح التي لا تتوقف منذ تحرير دمشق من كل ناصح، وأنا منهم، وكتبت في ذلك مقالًا في يوم سقوط الأسد بعنوان “ماذا بعد فرحة سقوط بشار؟!”، ومن هذه النصائح للثوار، “لا تتركوا أحدًا يقفز على الثورة”، في إشارة من أصحاب هذه النصيحة تقول لا تجعلوا الجولاني يختطف الثورة، وكأن الجولاني لم يضحِّ، وكأن الجولاني لم يوحّد الصفوف، ولم يقُد المشتتين!.

ومع تحفظي ومخاوفي فإن علينا جميعًا أن نحترم إرادة الشعب السوري واختياراته، ولأن هذه النصيحة تحمل وجهين، أحدهما مخلص يريد لسوريا أن تمر من هذا النفق بسلام، من أجل بناء الجمهورية الجديدة المؤثرة صاحبة المكانة التاريخية، والوجه الآخر خبيث، يهدف إلى دق الإسفين في مفاصل الدولة الوليدة، لاستبعاد تيار شعبي عام صاحب أيديولوجيا تقترب أو تبتعد عن أيديولوجيا الجولاني، لكنها في إطاراته، ولا تختلف إلا في التفاصيل، وتحلّ بالمرونة والتقريب، لصالح تيار مقرب من الغرب وينتهج فكره.

صرخت سيدة صيدنايا في وجه بيدرسون: “بعد ماذا أتيتم؟ لا نريدكم بعد الآن”، قبل أن تلقي بحذائها على سيارة الأمم المتحدة، في حركة لها رمزيتها، وصرخة لها دلالتها، ففي ظل حالة التسامح التي حملها الثوار مع تحرير دمشق، والتي لا أرى لها محلًا في كثير من المواضع، ومع ثلاثة عشر عامًا من القتل والقهر والحرب والسياسة، والدبلوماسية، وإدارة المدن المحررة وتنظيم شؤون الناس في تلك المدن.. هل نضجت الثورة بما يكفي لكيلا تخضع؟

أصحاب المكايد وقادة الثورات المضادة على الربيع العربي يتربصون ويجتمعون، ويتلونون، فهل أنتم – يا ثوار- مستيقظون، وتصرخون كما صرخت سيدة صيدنايا؟

الجزيرة

————————

الاقتصاد السوري… فرصة تاريخية لإعادة بناء دولة حديثة/ عبد القادر حصرية

آخر تحديث 13 يناير 2025

في مقابلاته التلفزيونية الأخيرة، قدر قائد الإدارة الجديدة في سوريا، أحمد الشرع، الفترة المطلوبة ليشعر المواطن السوري بتحسن ملحوظ في معيشته بسنة، وبنحو ثلاث سنوات لصياغة دستور جديد، وأربع سنوات لإجراء انتخابات. إلا أن هناك تساؤلا عن أولويات الاقتصاد السوري خلال هذه الفترات، في ظل التحديات الكبيرة التي يواجهها نتيجة سنوات من الصراع والعقوبات الاقتصادية والانهيار الهيكلي في القطاعات الإنتاجية والخدمية بسبب الدمار والنزوح والهجرة.

يشكل سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول فرصة تاريخية للعمل على إصلاح اقتصادي شامل يركز على إعادة بناء دولة حديثة وتحقيق الاستقرار الاقتصادي والتخلص من الفساد والإفساد. إعادة الإعمار بعد الحروب والنزاعات، عملية معقدة تتطلب جهودا شاملة لإعادة بناء البنى التحتية والاقتصاد والنسيج الاجتماعي. يسلط المقال الضوء على أولويات الإصلاح الاقتصادي، وتحديد المشاكل التي يجب معالجتها على المديين القصير (سنة) والمتوسط (2-5 سنوات)، وتوقعات معدلات النمو الاقتصادي والناتج المحلي الإجمالي خلال السنوات الأربع أو الخمس المقبلة.

هناك أربع أولويات لا بد من معالجتها من خلال إجراءات سريعة تريح الشارع السوري، وتوفر للإدارة الجديدة شرعية الإنجاز، إلى جانب ست قضايا رئيسة لا بد من التعامل معها على المدى المتوسط.

ليشعر المواطن بتحسن ملموس في معيشته، هناك أربعة إجراءات سريعة وفاعلة (quick fixes) يجب اتخاذها:

أولاً: تحقيق الاستقرار الأمني ووقف دائم لإطلاق النار، وكذلك تحقيق السلم الأهلي في عملية سياسية شاملة لخلق بيئة مواتية لإعادة الإعمار.

ثانياً: إعادة تشغيل المرافق الحيوية في الاقتصاد السوري مع التركيز على قطاع الطاقة والعمل على توفير المشتقات النفطية.

الكهرباء في أول سلم الأولويات

تغرق البلاد منذ سنوات في تقنين للكهرباء يتجاوز العشرين ساعة يومياً، كما عانت البلاد من شح في واردات النفط بسبب العقوبات الاقتصادية وشح الموارد المالية بالعملات الأجنبية. تعتبر الطاقة الكهربائية في أعلى سلم الأولويات، ليس فقط للمواطنين بل أيضا لتنشيط عجلة القطاعات الاقتصادية، وهي تطرح تحديات في الانتاج، والتوزيع والقدرة على الشراء لدى الناس في ظل نية السلطة وقف الدعم للسلع والخدمات. كذلك، من المهم إعادة إدارة شؤون الحياة اليومية وتوفير السلع الأساسية وتشغيل القطاعات الحيوية بما في ذلك قطاعا الصحة والتعليم.

ثالثاً: تنفيذ مرحلة أولى من الإصلاح الإداري واتخاذ إجراءات أولية للتعامل مع الفائض في العمالة أو ما يعرف بالبطالة المقنعة في القطاع العام وإدارات الدولة، والبطالة الناجمة عن تسريح عناصر الجيش السوري وتأمين متطلبات زيادة الرواتب بنسبة 400 في المئة التي وعدت بها السلطة والتي تتجاوز تكلفتها مليارا ونصف المليار دولار، مما قد يوازي إجمالي الموازنة العامة للدولة.

حلول للعسكريين والعمالة الفائضة في الإدارة

صحيح أن تسريح عناصر الجيش، وهو الذي كان يستنزف أكثر من 50 في المئة من نفقات الموازنة العامة، سيوفر نفقات كبيرة، لكن لا بد من تقديم حلول للعسكريين المسرحين الذين قد يواجه بعضهم الجوع، ولا بد من وضع حل للعمالة الفائضة في الإدارات العامة والقطاع العام وهم بعشرات الآلاف بل ربما مئات آلاف الموظفين الذين كانوا على جداول الرواتب والأجور دون عمل. لذلك، لا بد من حلول إسعافية، وعلى المديين المتوسط والطويل، هناك حاجة لتأسيس صندوق لتسديد معاشات شهرية خلال فترة انتقالية وإطلاق مبادرات لتشغيل هؤلاء لتجنب مشاكل اجتماعية جدية قد تمس بالاستقرار الاجتماعي، أو ربما تؤدي إلى ارتفاع معدل الجريمة.

رابعاً: فرض السيادة على المنطقة الشرقية التي تحوي ثروات النفط والحبوب والقطن. ستوفر عودة إنتاج النفط الطاقة اللازمة لتشغيل محطات الطاقة الكهربائية، ومصافي المشتقات النفطية. كذلك، سيصار إلى توفير استيراد القمح وتشغيل معامل النسيج.

خامساً: رفع العقوبات الاقتصادية عن سوريا. وهي فرضت عندما تم تصنيف سوريا كدولة راعية للإرهاب. كان لهذه العقوبات دور كبير في انخفاض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تفوق 50 في المئة مقارنة بما قبل 2011، وارتفاع التضخم المالي إلى مستويات قياسية بسبب نقص السلع الأساسية. وأدت العقوبات إلى إضعاف البنية التحتية وعرقلة جهود إعادة الإعمار نتيجة القيود على واردات المواد الأساسية. كما أدت إلى فرض قيود على صادرات التكنولوجيا المتقدمة وعلى المساعدات الاقتصادية والعسكرية الأميركية.

ثم كان قانون محاسبة سوريا بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري في عام 2005، الذي أدى إلى  تجميد أصول المسؤولين السوريين السابقين وفرض قيود على الاستثمارات الأجنبية. تلا ذلك العقوبات التي صدرت في عام 2011 بموجب الأمر التنفيذي رقم 13582 الذي منع عمليا التعامل مع سوريا،

وأخيرا “قانون قيصر” الصادر في عام 2020، الذي وسع العقوبات لتشمل أي شخص أو كيان أجنبي يقدم دعما للحكومة السورية. وهناك عقوبات أوروبية شملت تجميد أصول وحظر تصدير النفط وقيود على التعاملات المصرفية.

بعد العلاجات السريعة خلال السنة الأولى، ينبغي خلال الفترة المتوسطة الأمد، التي ربما تغطي أربع سنوات أو أكثر، معالجة ملفات مهمة لتأمين الأموال اللازمة لإعادة الإعمار، حيث قدر البنك الدولي تكلفة الخسائر في سوريا في عام 2016 بأكثر من 216 مليار دولار. وفي غياب مسح دقيق، تقدر تكلفة إعادة الإعمار بين  300 و500 مليار دولار. يستند النجاح في المدى المتوسط الى القدرة على إعادة بناء الدولة السورية وتأهيل الاقتصاد على نحو شامل والتركيز على بناء الصناعات الثقيلة وإعادة تأهيل البنى التحتية. ومن هذ الملفات:

أولا: التعامل مع ملف الديون الخارجية

نتيجة العقوبات الاقتصادية العربية والدولية، خصوصا بعد طرد النظام السابق من الجامعة العربية، انحصرت التعاملات المالية للنظام بعدد محدود من الدول في مقدمها روسيا وإيران. ومدت إيران النظام بمساعدات مالية وعينية، منها عبر خط ائتماني جدد لمرات عدة وتم بموجبه استيراد نفط وسلع ومواد من إيران. وقدمت حكومة النظام البائد في مقابل ذلك امتيازات لإيران في قطاع الفوسفات والمرافئ ورخصة لتشغيل الخليوي.

أما روسيا، فقد تم منحها امتيازي التنقيب عن الغاز وتشغيل مرفأ طرطوس لتسعة وأربعين عاما قابلة للتجديد. لذلك، لا بد من حصر المديونية مع هذه الدول، وإعادة النظر في شرعية العقود والتعاملات المالية السيادية التي أنجزت بعد عام 2011، كون هذه الأموال والمديونية نتجت من تدخل خارجي في نزاع بين النظام وفئة واسعة من الشعب السوري. كما أن التدخلين الروسي والإيراني عطلا تطبيق القرار الدولي 2254 وكلفا الشعب السوري ثلاث عشرة سنة من النزاع والدمار. والطائرات الروسية أكبر شاهد على حجم الدمار التي تسببت به الغارات حيث تم القاء ما يقدر بسبعين ألف برميل مواد متفجرة من الطائرات.

أ.ف.ب أ.ف.ب

يضاف إلى ذلك أن كلتا الدولتين لم تستقبل اللاجئين السوريين. وبالتالي، لا بد من مسح للدمار الحاصل شبيه بالمسح الذي تم عند الغزو العراقي للكويت، والعمل على المطالبة بالتعويض على المتضررين من الغارات الروسية والتدخل الإيراني المسلح، هذا بالإضافة إلى تجميد كافة الامتيازات التي منحت لإيران وروسيا، لا سيما تلك المتعلقة باتفاقات التنقيب عن الغاز في البحر المتوسط ومناجم الفوسفات.

ثانيا: توفير بيئة للأعمال جاذبة للاستثمار الخارجي والداخلي

من منظور اقتصادي بحت، فإن ما يقال عن خطة للتحول السياسي تتطلب ثلاث سنوات لصياغة الدستور وأربع سنوات لإجراء انتخابات عامة، قد تكون له مبررات نتيجة ظروف التحول والواقع السوري. لكن هذا التأخير سيؤدي إلى حالة من عدم اليقين السياسي التي من شأنها أن تزيد الأخطار السيادية وتحول دون تدفق الاستثمار وترفع تكلفة إعادة الإعمار والوصول إلى الأسواق الدولية للتمويل والاستثمار الأجنبي المباشر. فأي مستثمر أجنبي يهمه أولاً الاستقرار السياسي والقانوني وهما شرطان أساسيان، مما يستدعي إيجاد حلول تطمئن المستثمر وتعزز اليقين حول الاستقرار السياسي.

ثالثا: عودة اللاجئين

يصل عدد اللاجئين خارج سوريا إلى نحو 6,5 ملايين يتوزعون على دول الجوار وبعض الدول الأوروبية. تحتاج عودة اللاجئين إلى موارد كبيرة لتوفير الطاقة الكهربائية والخدمات وبناء المساكن التي دمرتها الحرب، والمدارس والمستشفيات، والرعاية الطبية، والتعليم في مختلف مستوياته وفرص العمل. لذلك، لا بد من برنامج عملي وشامل وتأسيس صندوق يمول من الأمم المتحدة والدول المانحة لتمويل عودة اللاجئين واستقرارهم وتوفير الوظائف لهم. في هذا الإطار، من المهم النظر في تأسيس هيئة لإعادة اللاجئين والمهجرين إلى مناطقهم وقراهم وأن تتواصل هذه الهيئة مع دول اللجوء لترتيب عودتهم لمن يرغب في ذلك. وعلى الدولة السورية أن تبادر إلى وضع خطة واضحة الأهداف والإطار الزمني لعودة اللاجئين.

رابعا: سياسة التجارة الخارجية

تحت عنوان الاقتصاد الحر، يدور حديث عن اعتماد تعرفة جمركية واحدة وفتح باب الاستيراد. تعاني سوريا، منذ فجر استقلالها، من عجز تجاري. وبسبب الفشل في إدارة الاقتصاد، استمر تقنين الاستيراد الى درجة أدت إلى خنق الاقتصاد السوري.

هناك حاجة لوضع سياسة تجارة خارجية تنظم الاستيراد بما يتناسب مع الاقتصاد السوري كاقتصاد نام وتشجيع الصادرات وتطوير الصناعات الزراعية والنسيجية والدوائية لتكون منافسة في الأسواق الإقليمية والعالمية. تضاف إلى ذلك، إعادة فتح طرق التجارة والعمل على تحسين البنية التحتية للنقل لربط الأسواق المحلية بالدول المجاورة وتعزيز العلاقات الاقتصادية وتنويع الشركاء التجاريين والعمل على جذب الاستثمارات الأجنبية. سيكون فتح باب الاستيراد على مصراعيه في غياب سياسات اقتصادية متناغمة مدمرا للاقتصاد السوري.

خامسا: إصلاح القطاع المالي وسياسة سعر الصرف

ترك النظام البائد الخزينة خاوية من العملات الأجنبية، مما يحتم وضع سياسة سعر صرف تشجع على الاستثمار والتصدير بدل التركيز على استيراد الكماليات، إذ لا يمكن أن يستقر سعر الصرف إذا فتح باب الاستيراد على مصراعيه. كذلك، لا بد من تعزيز الاحتياط من العملات الأجنبية وجذب تحويلات المغتربين وزيادة الصادرات، ومحاربة السوق السوداء من خلال تنظيم أسواق الصرف وتعزيز دور البنك المركزي. ويحذر في هذا الإطار من الخطر الذي قد تستدره دولرة الاقتصاد، إذ أنها ستؤدي إلى فقدان البنك المركزي القدرة على إدارة السياسة النقدية. وهنا لا بد من ضبط التضخم وخفض معدلاته من خلال تطبيق سياسات مالية ونقدية هادفة. يضاف إلى ذلك العمل على تعزيز الثقة في النظام المالي وإصلاحه عبر تحديث القوانين المصرفية وإعادة رسملة المصارف القائمة ومنح التراخيص لمصارف جديدة.

سادسا: تحويل الاقتصاد السوري من اقتصاد انساني إلى اقتصاد ناشئ

مع امتداد النزاع في سوريا، بات العالم ينظر إلى الاقتصاد السوري على أنه اقتصاد يعتمد على المساعدات الإنسانية من مسكن وغذاء وغيره. فمن متطلبات الانتقال من اقتصاد انساني يعتمد على توفير الخيم والسلال الغذائية إلى اقتصاد ناشئ، تحويل الموارد المتاحة لإعادة بناء البنية التحية والعمل على تنفيذ برامج التنمية، والتواصل مع صناديق التنمية للحصول على التمويل اللازم لإعادة الإعمار. في غياب ذلك، ستظل الموارد تصب في خانة المساعدات الإنسانية مما يبقي الشعب السوري على شفا الفقر.

توقعات النمو

ينفرد النزاع في سوريا بكونه أكثر النزاعات العالمية عنفا بعد الحرب العالمية الثانية من حيث عدد الضحايا وحجم الدمار في البنى التحتية والمساكن، وفي عدد النازحين والمهجرين الذين تجاوزت نسبتهم الـ50 في المئة من الشعب السوري، وطول فترة النزاع والعقوبات الإقتصادية. تحتاج توقعات النمو الاقتصادي في الفترة المقبلة 2025 – 2029 الى نماذج اقتصادية تبنى على فرضيات علمية حول إعادة الإعمار، كرفع العقوبات، وإعادة بناء البنى التحتية وتوفر التمويل اللازم.

لكن، وبالمقارنة مع تجارب دول أخرى كألمانيا ورواندا، يمكن أن تكون التوقعات قريبة إلى الواقع. في ألمانيا، تم تدمير 20 في المئة من المساكن، بينما تصل هذه النسبة إلى نحو 50 في المئة في سوريا، عدا الدمار الذي لحق بالبنى التحتية. ويقارب عدد الضحايا الذي يصل إلى نحو مليون سوري (بين ضحايا مباشرة للنزاع وضحايا السجون والمعتقلات) عدد ضحايا المذبحة في رواندا، وعدد الجرحى ومشوهي الحرب. وعلى الرغم من التشابه في عدد الضحايا (800 الف) وفي فظاعة الجريمة، إلا أن المجازر ارتكبت في رواندا في سنة واحدة في العام 1994 دون أن تسبب دمارا كما في سوريا.

وبينما حققت ألمانيا معدل نمو اقتصاديا سنويا خلال الفترة من 1951 إلى 1961 بلغ 8 في المئة، عانت رواندا من انكماش في الناتج المحلي الإجمالي في سنة الحرب عام 1994 بلغ 50 في المئة، وهو العام الذي حدثت فيه المجازر، ثم شهد عام 1995 نموا اقتصاديا بلغ 50 في المئة. ونظرا الى خصوصية الحالة السورية يمكن أن نتوقع قفزة في الناتج المحلي الإجمالي تقارب معدلات رواندا إذا ما تمت مواجهة كافة التحديات وتمت إعادة بناء وتأهيل البنية التحتية والبنية الصناعية والزراعية مع رفع للعقوبات، ويترافق ذلك كله مع اعتماد برنامج مناسب لعودة اللاجئين.

المجلة

——————————

أكتب إليكم من دمشق/ إبراهيم حميدي

وجدت العاصمة السورية كأنها قد وضعت في ثلاجة. ترهلت وشاخت

آخر تحديث 13 يناير 2025

العودة إلى دمشق بعد 13 سنة، كانت مفاجئة. لم أكن- مثل كثيرين- مستعدا لبركان من المشاعر. هروب بشار وسقوط نظام الأسدين، كانا أقرب إلى معجزة لم تداهم السوريين وحسب، بل داهمت أيضا قادة في الإقليم والعالم. لا يزال كثيرون يفركون عيونهم ويقرصون جلودهم للتأكد من ثباتها وصحتها.

كلفة إسقاط النظام، كانت مؤلمة ومديدة ومتدحرجة عبر العقود. جروح آخر عقد منها عميقة، فيها: 13 مليونا هُجروا من منازلهم، سبعة ملايين لاجئ، مليونا جريح، نصف مليون قتيل، 120 ألف مفقود، وقرى وبلدات عربية سنية سُويت بالأرض. لكنه سقط وأسقط، بفعل عذابات وتضحيات ومعاناة وثبات الملايين.

احتجت- مثل كثيرين- بعض الأيام كي أستوعب ما حصل وأستعد للذهاب إلى “مدينتي” بمفعول رجوعي في الطريق ذاته الذي سلكته عندما غادرتها في 2012. توجهت من لندن إلى بيروت فدمشق عبر الحدود البرية. كنا محظوظين أن السلطات السورية الجديدة بدأت بالتدقيق في أسماء القادمين والعائدين، كي نقرأ ونعرف ما كانت أجهزة أمن الأسد قد رتبته من مذكرات اعتقال وتوقيف ومراجعة لكل واحد منا في المجموعة.

نقاط الحدود التي كانت مخيفة، ويسير فيها الوقت كسلحفاة، باتت محلا للتندر يمضي فيها الزمن برشاقة. عناصر الأمن المرعبون حل محلهم شباب مرحبون. لهجات جديدة وأسماء جديدة وأخلاقيات جديدة. “العناصر الجدد” ينحدر عدد كبير منهم من إدلب أو الذي استضافتهم لسنوات طويلة من مناطق الثورات والنزوح، يتفحصون أسماء العائدين ويضحكون لدى اكتشافهم أن جميع الأسماء كانت مطلوبة للاعتقال أو التوقيف أو المراجعة الأمنية. يسحب معلوماتنا الأمنية إلى الشاشة ويقول: “أنتما مطلوبان مرتين للاعتقال، ومرة للمراجعة”. يضيف زميله: “للأفرع الأمنية نفسها في أمن الدولة والأمن السياسي… معا كي لا تشعرا بالوحشة في السجن”. يدق بأصبعه أحرف أسمائنا على لوحة الكمبيوتر. يضحك ويعيد جوازي السفر والبطاقات.

نقطة البدء في سوريا الجديدة، صورة تذكارية تحت “علم للثورة” رفع فوق بقايا صورة للأسدين مرمية في الأرض على أول بوابة حدودية. بعدها يتولى السائق الشرح بفرح: هنا كانت نقطة مدمرة لـ”الفرقة الرابعة” التي كان يقودها ماهر شقيق بشار الأسد، وهناك نقطة لتاجر كبير كان مربوطا بـأسماء الأسد، وأخرى مركز تفتيش مجهز بدبابة وجهاز مسح، محروقين منذ 8 ديسمبر/كانون الأول.

في الطريق الواسع المنزلق إلى دمشق، على أبواب العاصمة يقف حاجز لـ”هيئة تحرير الشام”. يقول السائق: “كل شيء تغير. شباب لطفاء مثل الورد، ليسوا مثل أولئك الذين شفتهم عندما غادرت البلاد” في مايو/أيار 2012.

نعبر ونمضي ونغوص تحت النفق الأول. موقع مطار المزة العسكري على اليمين. مكتب الأمن الوطني وأماكن الضربات الإسرائيلية لمصالح إيران و”حزب الله” على اليسار. وبينهما يتسلل أوتوستراد المزة في جسد دمشق. بعد قليل تقع سفارة إيران وقد احترقت صورة قاسم سليماني على واجهتها قرب موقع القنصلية الذي دمرته إسرائيل بداية أبريل/نيسان الماضي.

نصل إلى الفندق. نرمي حاجاتنا. نستعجل الذهاب إلى ساحة الأمويين رمز الثورة. نسجل اللحظة. نهرول للتجول في شوارع مدينتنا ولقاء الأصدقاء. نصل الليل بالنهار. لا نكمل حديثا أو اتصالا. تتداخل المواعيد والأحاديث والعواطف. أمضيت أسبوعا في مدينتي. لقاءات مع مسؤولين سياسيين وعسكريين من الإدارة الجديدة. زيارات لمقهى الروضة ولقاء أصدقاء ومثقفين. زيارات لسجن صيدنايا وسجن فرع التحقيق العسكري حيث سجنت في إحدى منفرداته. تجول في الشوارع والمحلات وزيارة إلى الجامع الأموي ودمشق القديمة والحديثة.

وهذه انطباعات أولية لعائد إلى دمشق:

أولا- شيخوخة وتعب: الانطباع الأول عن المدينة مهم. شعور غريب. كأنني كنت هنا أمس. وجدت دمشق كأنها قد وضعت في ثلاجة. ترهلت وشاخت. لم تخضع أبنيتها لصيانة أو تجديد. بعض قطعها تعفن وبعضها مجمد. لم تنمُ في أي منها براعم. يقيم بين أزقتها متسولون ويخيم عليها الظلام والعتمة والبرد في الليل والنهار. محاطة بدمار، كأن زلزالا ضرب ضواحيها السنّية من داريا إلى جوبر والقابون وبرزة والغوطتين.

ثانيا- تلاشي النظام: أعرف هذه المدينة. تدرجت في معرفتها. جئتها طالبا جامعيا ثم اشتغلت فيها. النظام كان مخلوطا مع الأكسجين. في الشارع والهاتف والتلفزيون والجريدة والحراس والعمال والجيش والأمن، في الجامعة والعمل والمقاهي، في صفوف الجامعة وكراسي الحافلات والسيارات.

موجود في كل مكان وزمن لبضعة عقود. المدينة على حالها. هو هرب وهي بقيت. أين تلاشى المخبرون ورجال الأمن والجيش والنظام؟ أتيحت لي فرصة زيارة سجون وتقليب ملفات فيها. هناك ملف لكل شخص. سواء كان مواليا أو معارضا. تلاشى كل هذا الجبروت والمعلومات.. تحول إلى أرشيف. المدينة على حالها لكن دون صور الأسدين والظل الثقيل للنظام.

ثالثا- فرح وتوقعات: هناك فرح بسقوط النظام وسقوط جدران الخوف. لكن التوقعات كبيرة. الشعوب صبرها قصير. فترة السماح تضيق. فترة الفرح انتهت. مواعيد الحساب ضُربت.

 المواد الغذائية في الشوارع. هناك مازوت وغاز وهناك أمان. لكن الكهرباء غير متوفرة والرواتب لم تصل إلى الموظفين. الناس تستعجل تحسن الوضع الاقتصادي. أصوات ناقدة تتسع. بعضهم اعتاد التظاهر والانتقاد والتمرد.

رابعا- أمان وإدارة: هناك ملاحظة عادلة، أن إسقاط النظام لم يمر في بحر من الدماء. 11 يوما أسقطت الأسد وهزت الشرق الأوسط دون دماء. ما حصل أفضل من أفضل سيناريو لإطاحة الأسد. العموم يستعجلون تعميم الأمان والأمن. وأهالي الضحايا يريدون المحاسبة والمساءلة، كي لا يترك الأمر للمزاجيات والانتقامات الشخصية. إنجاز أن تبقى مؤسسات الدولة، عدا الجيش والأمن، لكن الطموحات كثيرة عن أداء المؤسسات وتوسيع دائرة العاملين في المـؤسسات.

خامسا- دمشق “المؤدلبة”: أهل إدلب ولهجتها موجودان في كل مكان، الحكومة والإدارة والأمن و”الهيئة”. هناك طرفتان، أن “الأدالبة” هم “العلويون الجدد”، وأن إدلب هي “القرداحة الجديدة” نسبة إلى مسقط رأس عائلة الأسد.

الإدارة الجديدة والحكومة الجديدة، الآتيتان من حكم إدلب بأهلها ونازحييها منذ 2017، مدركتان لهذه الإشكالية والحساسية، ونقل لي قيادي قوله، أكثر من مرة، إنه “لا يمكن حكم دمشق كما حكمت إدلب”.

سادسا- تحديات: هناك تحديات عسكرية كبيرة تتعلق بتـأسيس الجيش الجديد. وزير الدفاع مرهف أبو قصرة حاور قادة جميع الفصائل وجهز خطة لحلها وتأسيس الجيش الجديد بطريقة مهنية تختلف جذريا عن الجيش السابق. التحدي هو توحيد البندقية وإقناع قادة الفصائل بالانتقال من الفصائلية إلى عقلية الدولة والجيش.

هناك تحد له علاقة بمستقبل فصائل الجنوب في درعا والسويداء، وهناك تحدٍ له علاقة بعناصر النظام وضباطه السابقين في حمص والساحل، الذين وقّعوا تسويات. هناك أيضا سؤال كبير له بعد خارجي يخص مستقبل “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) في شمال شرقي البلاد، بسبب الدورين التركي والأميركي. جرت جولة مفاوضات صريحة لم تُحدث اختراقا، ما استدعى نجدة الوسطاء.

هناك من يتوقع معارك في الطريق إلى توحيد البندقية، لكن قياديا عسكريا مشرفا على تأسيس الجيش قال لي: “لن نفوت فرصة للوصول إلى اتفاق بالتفاوض. التفاوض ثم التفاوض”.

سابعا- مساران متوازيان: الإدارة الجديدة منهمكة في الاتصالات السياسية الخارجية، والإصلاحات العسكرية والأمنية الداخلية، وعقد لقاءات مع رجال أعمال محليين ومغتربين. وفي موازاة ذلك، هناك حراك ثقافي ومدني في مقهى الروضة وغيرها من المنتديات. واضح أن هذين المسارين لم يلتقيا بعد.

هذه انطباعات أولية. لكن رغم التحديات الكثيرة والأسئلة الكبيرة، هناك نقطتان للتفاؤل الحذر:

الأولى: شعور عام لدى السوريين بأنهم يملكون مستقبلهم. وقال لي مثقف: “بعد السنوات الأسدية، لدينا فرصة تاريخية بأن نبني سوريا من جديد، ويجب أن نعطيها كل ما نملك”.

 الثانية: الإدارة الجديدة تستجيب لطلبات الناس على عكس النظام السابق. واثقة من نفسها وتعدّل قراراتها وتتعلم بسرعة. ظهرت مطالبات نسوية فجرى تعيين نساء في مناصب عليا. ظهرت ملاحظات على مؤتمر الحوار الوطني، فتم تأجيله مرات منذ 29 ديسمـبر/كانون الأول إلى 4 الشهر الجاري ثم إلى 30 يناير/كانون الثاني ثم 15 الشهر المقبل. والآن إلى آخر الشهر المقبل. وعليه، فهو “لن يعقد إلا عندما تتوفر جميع شروط نجاحه”، حسب قول أحد المسؤولين لي.

إجماع في الداخل والخارج على إعطاء فرصة واغتنام الفرصة… المهم أن تستغل الفرصة وبسرعة. المهم أن لا تضيع الفرصة كما ضاعت فرص سابقة، أن لا تقدم ذخيرة للمتربصين، وهم كثر في الداخل والخارج.

* أكتب إليكم من دمشق: عنوان مقال جميل من الروائي الراحل خالد خليفة لمقال كتبه من العاصمة السورية في “المجلة”.

المجلة

———————————

في الدرس السوري الراهن/

معن البياري

13 يناير 2025

خُلاصة الخلاصات التي ينتهي إليها زائر دمشق، إذا ما حاوَرَ الناس فيها، وهم، في العموم، ليسوا كل أهل سورية، أن أولوية أولوياتهم، بعد الخلاص المذهل من نظام الأسد (ومعه الحضور الإيراني الضاغط)، أن تتوفّر لهم سبل العيش الطبيعي، … فرص العمل والوظائف، الدُّخول التي تحمي من الحاجة والعوز، التعليم الجيّد، خدمات النقل الميسورة، الكهرباء بلا انقطاع، الاستشفاء، السكن الكريم. يتدبّر السوريون أمورهم في توفير بعضٍ من هذا، بمغالبةٍ ومكابدةٍ على الأغلب، سيّما الفئات المتوسّطة والفقيرة منهم. الصعوبةُ ظاهرةٌ في تأمين هذه المتطلبات. يحتاج السوريُّ إلى روحٍ كفاحيةٍ في مصارعته عيشَه. وإذا ما عقّب قائلٌ يقول إن هذا الحال قد ينسحب على شعوب غير بلدٍ عربي فهذا غير دقيقٍ تماماً، بفعل التخريب الهائل الذي أحدثه نظام الأسد في سورية، الغنيّة بإمكاناتٍ فلاحية وزراعيةٍ وصناعية ونفطية وإنتاجيةٍ كبرى، فضلا عن كفاءات أهلها وقدراتهم في مهنٍ وصناعات عديدة، وتميّز ذوي التعليم العالي منهم في اختصاصاتٍ كثيرة. وقد طاول التخريب الفادح النسيج العام للمجتمع السوري، مع إنشاء النظام طبقاتٍ طفيليةً استفادت كثيراً من السلطة وأجهزتها ومنظومات الفساد المريعة، حازت الحصّة الأوسع من موارد سورية وحركيّتها الاقتصادية.

المعنى مما تقدّم أن السياسة في منزلةٍ تاليةٍ من مشاغل الناس ومداولاتهم ونقاشاتهم، فلستً تلحظ أن شكل الحكم الذي ستستقرّ عليه البلاد موضوعةٌ مركزيةٌ ورئيسيةٌ لديهم. يكفي أن يكون هذا الحكم غير مخيف، يوفّر منابر القول والكلام، تكون فيه أجهزة الأمن المهنيّة موضع ثقة وتقدير، عملُها خدمة الناس وحمايتُهم، لا ترهيبهم والتجسّس عليهم ورميهم في الأقبية والزنازين وأقسام التوقيف والتعذيب. على هذا النظام أن ينهض بالبلد، أن يُسعفه، أن ينشله من قيعانٍ أخذه إليها نظام الأسد، الذي أقام جمهورية النهب المريع والاستبداد الفظيع. أن يعِد بالممكن، فلا يكذب، أن ينهمّ بالسوريين ونظافة شوارعهم ورقيّ تعليمهم في المدارس والجامعات ومعاهد التأهيل. عليه أن يُخلص لهم، يراهم مواطنين لا هتّيفةً للتطبيل لهم في مهرجانات التصفيق “لإنجازاته”. يتوق السوريون إلى نظام حكمٍ من هذا اللون، لا يعنيهم كثيراً إن كان إسلامياً أم غير إسلامي، رئاسيّاً أم برلمانياً، يأخذُ بتعدّديةٍ حزبيةٍ أم يقيّدها. يبدو الناس، كما يلاحظ زائر عابر في بعض دمشق، غير مكترثين تماماً بأي جدالاتٍ سياسيةٍ، بشأن دستور سينكتب، أو انتخاباتٍ ستنتظم، أو حوارٍ وطنيٍّ سينعقد، بشأن أقليات وأكثريات. لا يرفضون النقاش في هذا كله أو بعضه، فللمثقفين وأهل الاختصاص والعمل في الشأن العام أن يخوضوا فيه بأيّ كيفيةٍ، غير أن الملحّ المركزي الضاغط على أفهامهم ومداركهم، ويوميّاتهم، أن يكونوا في أمنٍ وأمانٍ من أي توتّراتٍ من أيّ نوع، أن يطمئنوا إلى بعضهم، وإلى السلطة وأجهزتها، وإلى عدلٍ اجتماعيٍّ يقوم بينهم، وإلى دولةٍ لنفعهم، تتعاقد معهم على انتمائهما سويّاً إلى وطنٍ واحدٍ لجميع أبنائه، لكل مواطنٍ فيه كل حقوق العيش الكريم، كالمياه النظيفة والتدفئة في الشتاء والحافلات المريحة وما يُعين الإنسان على هناءة البال.

موجز الدرس السوري الراهن إلحاحُ الخدماتيّ وتقدّمه على السياسي، لكن الأمريْن مرتبطان بداهة، فالموضوعة السياسية في أي بلد محكوم بالتسلّطية والشمولية شديدة التأثير على التداول العام في شؤون اليومي والمعيشي. وواحدٌ من دروسٍ غير قليلة من تجارب شعوب عديدة أن أنظمةً قمعيةً وفرت لشعوبها متطلبات عيشٍ آمنٍ بسويةٍ مُرضية، غير أن هذا الحال كان يُخفي أسباب احتقان وغضب وفيرة، أخذت الإيقاع العام إلى أزماتٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ ومعيشيةٍ حادّة، فأودت بتلك الأنظمة إلى مهاوي التاريخ. وفي البال أن سورية، في أطوار مضت من حكم البعث الأسدي، تيسّر لمواطنيها تعليمٌ جيد، وخدماتٌ مُرضية، ونظامٌ صحيٌّ لا بأس به، وبوفرة من المنتوج الزراعي، وبتأميناتٍ اجتماعيةٍ حمت فئاتٍ عريضةً في المجتمع، غير أن تفشّي ما تفشّى من أساليب قهريةٍ وحادّة في تسلّطيتها، وفي تجبّر أجهزة المخابرات ومصادرة المجال العام، أخذت سورية إلى خرابٍ واسع، فكان الحلم بالخلاص من نظام الأسد، ثم صار ما صار، وهرب الأسد، فاستجدَّ حلمٌ آخر، هل يتحقّق، ومتى؟

العربي الجديد

————————-

المقاربة الإسرائيلية للتغيّرات في سورية/ رندة حيدر

13 يناير 2025

من يتابع من كثب المواقف الرسمية الإسرائيلية إزاء حكّام سورية الجدد، والتحليلات وتقديرات مراكز الأبحاث الكثيرة للتغييرات في سورية، لا بد أن يلاحظ السرعة التي استبدل فيها الإسرائيليون بالخطر الإيراني الشيعي في سورية على إسرائيل، الخطرَ الإسلامي الجهادي السنّي، وكيف فجأة بدأ الكلام عن المخاوف الإسرائيلية على أمن الأقلّيات وسلامتها في سورية، في ظلّ الحكم الجديد المتماهي مع جماعة الإخوان المسلمين، بينما لم يعبأ الإسرائيليون لحظة، طوال أعوام الحرب الأهلية في سورية، بالمجازر التي كان يرتكبها نظام بشّار الأسد بمساعدة الروس والإيرانيين ضدّ أبناء شعبه، قتلاً وتهجيراً وتدميراً.

الموقف العدائي والمشكّك في النظام الجديد بسورية ظهر منذ اللحظات الأولى لسقوط نظام بشّار الأسد وسيطرة هيئة تحرير الشام على أكثر المدن السورية أهميةً، وجرى التعبير عنه فوراً عبر سلسلة خطوات عسكرية مثل عمليات القصف الجوي الإسرائيلي الواسعة النطاق، التي استهدفت قواعدَ عسكريةً للنظام السابق، ومخازن أسلحة استراتيجية، سرعان ما ترافقت هذه الخطوات بتوغّل برّي في هضبة الجولان السورية، وبتمركزٍ لقوات من الجيش الإسرائيلي في منطقة تقدر بـ15 كيلومتراً في داخل الأراضي السورية، بالإضافة إلى إنشاء منطقة يطلق عليها الإسرائيليون اسم “منطقة نفوذ” خاضعة لسيطرة الاستخبارات الإسرائيلية لدرء نشوء أيّ خطر يمكن أن يتربّص بإسرائيل من هناك.

تبني إسرائيل مقاربتها العدائية إزاء النظام الجديد في سورية على مجموعة من المخاوف والشكوك، تبدأ من شخص القائد الجديد لسورية أحمد الشرع، والهُويَّة الإسلاموية الجهادية للإدارة الجديدة، ووصولاً إلى صعود النفوذ التركي في سورية الجديدة، وتداعيات ذلك على إسرائيل.

فيما خصّ أحمد الشرع، يشكّك أكثر من خبير إسرائيلي في الموضوع السوري في صدقية التحوّلات التي طرأت على شخصيته في ضوء ماضيه في تنظيم القاعدة، ورئاسته جبهة النصرة، ثمّ هيئة تحرير الشام، ونموذج الحكم الذي أقامه في إدلب، وصولاً إلى تولّيه زمام القيادة السياسية للإدارة السورية الجديدة. ويسأل أكثر من إسرائيلي: هل أحمد الشرع “ذئب في ثياب حمل”؟ وبالإضافة إلى التشكيك وعدم الثقة في المواقف المعتدلة الحالية للشرع، يبرز خصوصاً الغضب الإسرائيلي من الوفود الغربية، التي تتوافد على دمشق من أجل الاجتماع به، ويرى الإسرائيليون أن الغرب “أعمى”، ومرّة أخرى وقع في “الفخّ الإسلامي الجهادي”. والنقطة الثانية التي تثير شكوك الإسرائيليين ومخاوفهم هو الطابع الإسلاموي الجهادي الأصولي للنظام الجديد في سورية، وتماهيه مع حركة الإخوان المسلمين، التي تخوض إسرائيل ضدّ أحد أهم أذرعها (حركة حماس) حرباً لا هوادة فيها. وعلى الرغم من تصريح أكثر من مسؤول في الإدارة السورية الجديدة بأنهم لا يريدون حرباً مع إسرائيل، لا تصدّق هذه الأخيرة ذلك، وتعدّ منذ الآن العدّة لمواجهة عسكرية محتملة مع النظام السوري الإسلامي الجديد. وضمن هذا الإطار تعمل إسرائيل في أكثر من خطّ، فهي من جهة تسعى إلى استغلال قلق بعض الأنظمة العربية من صعود الإسلاميين في سورية، وخوفهم من تداعيات ذلك على استقرارهم الداخلي، من أجل الحصول على دعم هذه الدول العربية المعادية لحركة الإخوان المسلمين، وحثّهم على الوقوف ضدّ الحكم الإسلامي الجديد في سورية، ومن جهة ثانية تسعى إلى تأليب دول الغرب والولايات المتحدة من مغبّة مد يد العون إلى النظام الجديد الذي تعتبره “الأخطر في العالم”.

النقطة الثالثة التي تثير مخاوف إسرائيل صعود النفوذ التركي في سورية، والتضخيمات الإسرائيلية لخطر التمدّد التركي في المنطقة إلى حدّ تصريح مسؤولين إسرائيليين أخيراً لـ”وول ستريت جورنال” أن العناصر الإسلامية السُنّية بقيادة تركيا، التي استولت على مقاليد الحكم في سورية، لا تقلّ خطورة على إسرائيل من المحور الإيراني. والخوف هو من دخول الجيش التركي إلى سورية واحتمال أن يقيّد من حرّية عمل سلاح الجو الإسرائيلي هناك. وتبدو صعود لهجة العداء ضدّ تركيا، ومخاطر تدخلها العسكري في سورية، مبالغاً فيها ومفتعلة ومصطنعة، وتخفي وراءها صراع مصالح اقتصادية بين إسرائيل وتركيا، منها إمكانية أن تتصدّر تركيا مسألة نقل الغاز عبر سورية إلى أوروبا، بالإضافة إلى المصلحة السياسية الإسرائيلية في حثّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب على عدم سحب القوات الأميركية من سورية، الأمر الذي سيؤدّي إلى انهيار الحكم الذاتي الكردي في شمال شرق سورية.

وفي الواقع تتأرجح المقاربة الإسرائيلية للتغيرات في سورية بين أكثر من سيناريو. هناك مثلاً السيناريو الأكثر تطرّفاً الذي يدعو إلى التشجيع على تقسيم سورية إلى خمس كانتونات؛ كانتون كردي وآخر درزي وثالث علوي وكانتونين للسُنّة، وهذا هو رأي عدد من الوزراء الحاليين في الكابينت الإسرائيلي، وحجّتهم أن سورية بعد الحرب الأهلية مقسّمة فعلاً إلى كانتونات. وهناك سيناريو يدعو إلى التمسّك بخطّة دفاعية تقوم على إنشاء مناطق عازلة منزوعة السلاح داخل الأراضي سورية تتولّى إسرائيل مسؤولية السيطرة عليها حتى يجري التوصّل إلى تفاهمات مع الإدارة السورية الجديدة. وهناك سيناريو ثالث (أكثر عقلانية) هو ضرورة التوصّل إلى تفاهم مع تركيا وتوضيح نيّات إسرائيل ومسألة وجودها العسكري في داخل الأراضي السورية، وشروط انسحاب قواتها من هناك مستقبلاً، والتنسيق مع الولايات المتحدة من أجل التوصّل إلى تفاهمات مع الحكم الجديد في سورية.

—————————

سرديات السلطة وفاعلية النقد الثقافي: سوريا نموذجا/ علي حسن الفواز

تحديث 13 كانون الثاني 2025

إذا اعتبرنا الحداثة «سردية كبرى» فإن ما بعدها سيكون نقدا وتقويضا لها، وتجاوزا على مركزيتها النسقية، وباتجاه يُعطي للنقد فاعلية استثنائية على مستوى إرجاء الثابت، أو على مستوى التفكير بإعادة تشكيل العالم والأفكار في نصوص أخرى، أو اختزالها في سرديات صغرى، أو على مستوى تهديم أشكال أو أنماط مهيمنة مثل السلطة، والمعسكر والأيديولوجيا، التي قد يدفع نقدها إلى تسويغِ نوعٍ آخر من أنواع العنف..

نقد السلطة وتقويضها، عبر التغيير الثوري أو الانقلابي هو المجال الإجرائي الذي بات علامة عربية في مواجهة أنماط بنيات الحداثة التقليدية، بما فيها الحداثة المشغولة بمفاهيم غامضة وماكرة مثل المدنية والعلمانية، فهذه السلطة، في مثالها العربي، ليست بعيدة عن السرديات الكبرى التي تكرست عبر العصاب العسكري والأيديولوجي والطائفي والعائلي، حتى بدا الحديث عن تغييرها وكأنه خطيئة أنطولوجية، رغم أن هذه السلطة قد فسدت بسبب «التأرخن» غير المشروع، وباتت كتلتها السياسية صلبة وقاسية وغير مستعدة للإصلاح والتنوير وتجديد جهازها السياسي والإداري، وحتى الأيديولوجي، لأن مكوثها في التاريخ، وفي الخطاب، وفي العصاب الحاكم تحول إلى ما يشبه المكوث الإيهامي في المقدس..

ما بعد «الربيع العربي» كشف عن صراع عميق بين السرديات ذاتها، سردية التاريخ، وسردية السلطة والجماعة والعسكر، وبالشكل الذي وضع جماعة المركز أمام خيارات تمثيل تعقيدات هذا الصراع، بين الحفاظ على التاريخ بوصفه الصياني، حيث تملك السلطة جهازها القامع، أو بين التفريغ المؤسساتي والقانوني والأخلاقي، حيث يؤدي انكسار السردية الكبرى للسلطة ومعسكرها إلى إنتاج سرديات صغرى مسكونة بعصاب «الهويات القاتلة والمقتولة» وبالشكل الذي يفقد فيه مفهوم «الأمة» وظيفته التداولية، في نسق الحداثة، وحتى في مقاربة الأطروحات الثقافية لما بعد الحداثة، حول «نقد السلطة» وعلاقة ذلك بالتمثيل الثقافي للتنوع والتعدد، وبفاعلية الدولة الناجحة عبر تشكيلها المؤسساتي، وعبر إدارتها للمختلف والمتنوع على أساس وجود الجامع الثقافي لقيم المواطنة والمشاركة والحريات والحقوق والقوانين..

السلطة السورية القديمة أنموذجا

قد يبدو السقوط السياسي للدولة القديمة في سوريا لا علاقة مباشرة له بالربيع العربي، لكنه ليس بعيدا تماما عنه، فبقدر ارتباطه بالسرديات الغامضة التي صنعتها تلك السلطة حول النضال القومي والتحرير والأمن والعروبة، فإنه كان يرتبط بتاريخ طويل للمعارضة السياسية، والمعارضة العسكرية، وهذا ما أفقد تلك السلطة القدرة على تكريس قوة مشروعها وسط خيبات وهزائم عربية متلاحقة، فتحولت عبر لعبة «الخطاب» إلى «سلطة» حكم تدار بالعنف وبرد الفعل، والسجون، والبحث عن تحالفات دولية وإقليمية صعبة، مثلما أفقدها القدرة على القبول بالنقد والمراجعة، لوجود قوى ضاغطة داخل جهازها العسكري والسياسي والأيديولوجي، ما أوهم بأن صلابتها الموهومة، توحي بأن سقوطها سيعني الدخول في الفراغ والمجهول، وبالتالي تكرار أحداث الربيع العربي وتشظياته في هذه الدولة أو تلك، لكن الحالة السورية تظل لها تعقيداتها الخاصة، وإشكالاتها السياسية والأنثروبولوجية، ولها تاريخ حافل بالانقلابات العسكرية، وبظروفها الصراعية مع إسرائيل، وعقدة حرب 1967، فضلا عن تأثير العامل الفلسطيني وتعقيداته على طبيعة صياغة خطابها القومي، وعلاقتها بالتحالفات الجيوسياسية الدولية..

السقوط السياسي فضح كثيرا من تلك المرجعيات، وعرّاها من أوهامها، فبقطع النظر عمن قام بالتغيير، والكيفية التي جرت فيها الأحداث، فإن النتائج ظلت تتطلب وعيا استثنائيا بطبيعة هذا التغيير، ومدى تأثير العوامل الخارجية فيه، من خلال الدعم والاحتضان والمشاركة، إلا أن العامل الداخلي كان هو الفاعل الحقيقي، إذ تحوّل السأم الاجتماعي، والرثاثة الاقتصادية والعنف السياسي، إلى دوافع للتفكير بصوت عال، وإلى ممارسة نقدية صاخبة، اسهمت في تحجيم رفض التغيير ومقاومته، بما فيها مقاومة الجهات التي صنعتها السلطة وكرستها كجزء من النمط الحاكم..

لقد كشف التغيير عن مشكلة معقدة وتاريخية اسمها السلطة، وعن علاقة هذه السلطة بالقانون والمجتمع والأخلاق، فالسلطة لا تصنع لوحدها «الدولة» لأن الدولة مفهوم شامل، ويتطلب الحاضن الأكبر والفاعل للأمة/ المجتمع، فحين تتغول تلك الدولة عبر السلطة، فإن المجتمع يفقد دوره التكويني، والمؤسساتي والنقدي، وبما يجعل المؤسسات الحاكمة/ مؤسسات السلطة أمام مواجهة نقدية وأخلاقية، لاسيما وأن تلك المؤسسات الصلبة ذات تكوين مركزي/ عقائدي/ أيديولوجي/ عصابي، عمد إلى الاستئثار بآلية الحكم تحت يافطة «الضبط الوطني» ومواجهة الآخر/ العدو/ الإمبريالي/ العولمي.

السلطة والحداثة وما بعدها

نقد السلطة يعني نقد مركزيتها، ومراجعة تاريخها، لكن ذلك لا يعني التغافل عن السياق الذي تشكلت فيه السلطة، فهذه الظاهرة من أكثر العلل التاريخية التي ظلت غائبة عن المراجعة «الأنتلجنسياوية» وعن أغلب أدبياتها، وأحسب أن تغول ظاهرة السلطة العربية ليس بعيدا عن «رثاثة» ظاهرة الثقافة، وربما تماهى كثير من مؤسساتها مع السلطة، تحت ضغوط شتى، مثل الإغراء والترهيب والعجز والانتهازية، وهذا ما نخشاه من تداعيات ما يحدث بعد أي انقلاب عسكري، أو تغيير، لاسيما وأن أحداث الربيع العربي كشفت عن نكوص تاريخي كبير إلى التاريخ والعصاب والنمط، مما أسهم في خلل فكرة الدولة، وفي تهديد الحقوق الطبيعية والسياسية للإنسان.

تثير علاقة الحالة السورية بالجماعات الأصولية، جدلا حول العلاقة مع مفهوم التغيير، ومع الجدية في مراجعة ونقد سياسات وتاريخ السلطة القديمة، فتقويض سلطة بشار الأسد لا يعني الدخول إلى «عصر ما بعد حداثة افتراضية» لعدم وجود البيئة المناسبة للنشوء والدخول، فضلا عن أن أنماط السلطات العربية لم تتخلص بعد من لا وعي التاريخ، ومن «عقدة بن خلدون» حول العصاب، وهو ما يعني أن التسرب النسقي للأيديولوجيا السلفية سيظل قائما، وهو ما يجعل إغواء جر السلطة مرة أخرى إلى العصاب وأيديولوجيات المركز والطائفة والقومية، أمرا واردا، والذي سيعيد التشاؤم حول التعاطي مع إمكانية التغيير، وتحويل صدمة هذا التغيير إلى لحظة فارقة في الزمن السياسي/ الحضاري، وفي إحداث هزة «بنيوية» في تداوليات مفاهيم ـ الديمقراطية، الهوية، المشاركة، الحرية، الحقوق، السلم الأهلي، المجتمع المدني- لأن تعثّر ذلك سيعيد إنتاج مركزيات العنف والاستبداد، وعبر أجهزة تُعاد صياغتها تحت يافطة «التوهم الصياني» لمشروع الدولة، وصولا إلى صناعة الرمزيات الأيقونية والصنمية للزعيم والبطل والفقيه والمخلص وغيرها..

ربط الحداثة بأشكال إدارية وتنظيمية عائمة، لا يعني تأطيرا قارا لفاعليتها في تمثيل مشروع الدولة، والنظام الاجتماعي، فكل الحداثات التي تخضع إلى مركزيات أيديولوجية يحكمها وعي زائف بتوصيف ماركس، وهذا الزيف يتحول إلى ممارسات قهرية تفرض نمطيتها على الآخرين/ الجمهور، ليتحولوا إلى اتباع بتوصيف غياتري سبيفاك، ونظرتها للتابع وهو يقلد المستعمر أو الحاكم، وهذا ما يجعلنا نشك بتلك الحداثة التي يمكن أن يصنعها ذلك التابع المشوه والمرتبك والعنيف، لأنها ستكون بلا تغطية ثقافية وتعليمية وتنموية وحقوقية، وأن مرجعيات الأيديولوجيا والعسكر لا يمكنها إشباع الحداثة بقيم أنطولوجية تسوغ وجودها، وتّنظّم عملها داخل مؤسسات فاعلة وحقيقية..

تتبع البروباغندا الإعلامية والسياسية وحتى الأمنية للحالة السورية، تؤشر مدى أهمية التغيير الحادث في سوريا، ومدى تأثيره الجيوسياسي في المنطقة، وفي العالم، وفي وضع الدولة الجديدة إزاء سياقات ومواجهات، تبدأ من مواجهة الجماعات الإرهابية، ومن ذاكرة العنف الأيديولوجي/ الأصولي، ولا تنتهي بتحرير سوريا من تحالفاتها القديمة، وباتجاه إعادة صياغة وجودها الجغرافي ليكون ممرا لطرق حرير جديدة وآمنة، ولعلاقات سياسية فاعلة وواقعية تحكم الشرق بالغرب، وتؤطر علاقات الدول الكبرى عبر توضيح مسار مصالحها.. هذا التوصيف لا يعني تبرئة الواقع بالكامل، وتحويل الأرض إلى أفق سحري مفتوح، بل يمكنه أن يكون مشروعا للحديث عن برايغما الدولة الجديدة، الدولة التي تتخلص من رثاثة حداثة مزيفة، ومن مشروع أصولي مرعب، وعلى نحو يعيد تغيير مسار موجهات الدولة عبر تجاوز عقدة الانقلاب العسكري العربي، وسلطة المعسكر والأيديولوجيا، والسعي إلى وضع الملف الثقافي بوصفه جوهر مشروع الإصلاح المفاهيمي والفكري، لتخليق أفق يتسع لفاعليات مراجعة الماضي ونقده، مقابل العمل في السيطرة على الفراغ والفجوات السياسية والاقتصادية التي كثيرا ما تراهن عليها الأنظمة القديمة، فضلا عن العمل في سياق «النقد الثقافي» لمراجعة علاقة السلطة بالنصوص، وبالتاريخ، وبالأنثروبولوجيا، إذ ستتيح هذه المراجعة مجالا للنظر في مفهوم السلطة، من خلال النظر في خطاب الدولة كتعويض أنطولوجي، وكممارسة تتعزز بإنتاج النصوص التي تؤسس على أساس المشروعية وجودة الحكم، ونبذ فكرة امتلاك الحقيقة الكاملة، كمنطلق لمواجهة محنة التاريخ وعنف الجماعة، وتجاوز أوهام السرديات التي يمكن للبعض من العصابيين التفكير بإعادة إنتاجها كنوع من «سلطة الأمر الواقع» وكنوع من الخطاب الجاذب والتعويضي، الذي يعمل على تكريس السلطة، بوصفها الجوهر المتعالي في الدولة، ما يعني تسويغ استعارتها لوظائف فائقة الخطورة، تؤدي إلى شرعنة العنف الفقهي والأيديولوجي، وفي التمكين من حيازة أدوات الضبط السياسي كمقدمة لضبط إيقاع الترويج لصورة المواطن الحر والدولة الحرة والمدنية…

كاتب عراقي

القدس العربي

————————–

فانون وسوريا: إيقاع الوجود الجديد/ صبحي حديدي

تحديث 13 كانون الثاني 2025

عام انتصار الانتفاضة السورية وانهيار 54 سنة من نظام الاستبداد والفساد والمافيات ومجرمي الحرب الذي قاده آل الأسد، الأب حافظ مثل الوريث بشار، وعصاباتهم من آل مخلوف وشاليش وخدّام وطلاس وسواهم؛ يصادف أيضاً الذكرى المئوية لولادة المفكر والطبيب النفسي والفيلسوف الاجتماعي والمناضل المارتينيكي ــ الجزائري فرانز فانون (1925ــ1961). ليس من دون سلسلة من التقاطعات بين أفكار الرجل حول العنف والثورة والتحرر الوطني، وبين ملفات شتى تتصدّر النقاش الفكري والسياسي والتنظيمي الذي اقترن بانتفاضات الشعوب العربية في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين، ثمّ سوريا بصفة خاصة ومنذ 2011 وصولاً إلى طيّ صفحة “الحركة التصحيحية”.

وفي حدود ما تعلم هذه السطور، كانت ندوة يتيمة عقدها “مشروع العلوم السياسية حول الشرق الأوسط”، POMEPS، بالتعاون مع “مركز الدراسات المغاربية في تونس”، CEMAT، أواخر أيلول (سبتمبر) 2023 في تونس؛ هي الوحيدة أو تكاد، التي بحثت انتفاضات العالم العربي في ضوء تأثيرات فانون. صحيح أنّ الأبحاث كانت غنية ومتشعبة وشاملة، وربما ذهب بعضها إلى حدود قصوى من التأويل أو الإفراط في تسخير الفانونية لاستخلاص فرضيات لا تقلّ اتكاء على المستسهَل أو المبتسَر. مؤسف إذن، في العموم، أنّ استعادة فانون لم تشغل حيزاً لائقاً أو كافياً في السجالات العربية، رغم أنّ مطاحن كلام هائلة دارت وضجّت وعجّت حول مسائل شتى تخصّ طبائع هذه الانتفاضات وأبعادها السياسية والاجتماعية والثقافية والتاريخية.

ومن الطبيعي، استطراداً، أن يقتصر الاستئناس على محافل دولية أو غير عربية عموماً، وفي تلك الأوساط التي اعتادت فتح ملفات ما بعد الاستعمار وتحليل مفاعيلها السابقة واللاحقة في ضوء أعمال فانون: كتابه المهم الأول “بشرة سوداء، أقنعة بيضاء”، 1952؛ ثمّ “السنة الخامسة من الثورة الجزائرية” 1959، و”في سبيل الثورة الأفريقية” 1964، بالإضافة إلى “معذّبو الأرض” الذي صدر ومؤلفه يصارع سرطان الدمّ في مشفى أمريكي (الترجمة العربية أنجزها الراحلان سامي الدروبي وجمال الأتاسي، ونُشرت سنة 1966).

لافت إلى هذا، أنّ بعض تطورات الانتفاضة السورية ــ لا سيما استراتيجية تسعير العنف التي انتهجها النظام، وسعى من ورائها إلى استثارة نزوعات العسكرة؛ ومثلها استراتيجية ارتكاب المجازر لدفع المدنيين نحو التسلّح، سواء بهدف الدفاع عن النفس أو لتنظيم مقاومة شعبية في مواجهة آلة النظام العسكرية الوحشيةـ قادت دفة النقاش إلى واحد من أبرز المفاهيم الإشكالية في كتلة أفكار فانون: العنف، والعنف المضادّ. صحيح أنه تحدّث عن عنف المستعمِر ضدّ المستعمَر، لكن ما اعتمده النظام السوري من إواليات العنف، العاري والمفتوح والهمجي والشامل، لم يذكّر بعنف ذلك الاستعمار الذي وصفه فانون، فحسب؛ بل كان قد تفوّق عليه في الوحشية.

وكما أنّ “محو الاستعمار” كان في نظر فانون “يستهدف تغيير نظام العالم” و”قلب النُظُم قلباً تاماً”؛ فإنّ إحداث تغيير جوهري في حياة سوريا أو تونس أو مصر أو ليبيا، والانتقال بنُظُمها السياسية الاستبدادية والوراثية العائلية إلى أخرى ديمقراطية لا يقلّ مغزى في وجدان الشعب وحياة المجتمعات عن دحر الاستعمار.

فإذا لجأ المستعمِر و/أو نظام الاستبداد المحلي إلى ممارسة العنف المنهجي المنظّم (استلاب الثروات، تفتيت الهوية الوطنية، إجبار المواطنين على العيش في شروط اجتماعية واقتصادية ونفسية وصحية وتربوية وثقافية متدنية، وسنّ القوانين الجائرة، وممارسة النفي والإبعاد والاعتقال والتصفية الجسدية، وقصف المدن عشوائياً، وتنفيذ المجازر عن سابق قصد وتصميم، واستخدام الأسلحة المحرّمة…)، فبأي حقّ يُنتظر من الضحية أن “تكبح جماح النفس” وأن تمتنع عن اللجوء إلى كلّ وأيّ وسيلة تكفل تفكيك ذلك النظام؟ أليس هذا ما رمى إليه فانون حين تساءل: لماذا يكون من واجب الضحية أن تربّي قاهرها وتعلّمه الأخلاق السلمية؟ فالقهر، وفي جانب محدّد منه هو الاستبداد، لا يقوم بأقلّ من شَرْعنة العنف وقَنْوَنته وتنظيمه في مؤسسات بنيوية، فضلاً عن تجريد العنف الشخصي الذي يمارسه المستعمِر/المستبدّ من الطابع الفردي، وإسباغ الصفة القانونية عليه.

والإنصاف يقتضي الإشارة إلى أنّ مسألة العنف لم تكن واضحة تماماً في مشروع فانون العام، وامتزجت عنده بمفهوم “استخدام القوة” أحياناً، و”الكفاح المسلح” أو “الانتفاضة الجماهيرية” أو “الانبعاث الشعبي” أحياناً أخرى؛ بل إنه، في “معذّبو الأرض” ذهب إلى حدّ الحديث عن “عنف مسالم”.

كذلك فإنّ مقولته الشهيرة حول الحاجة إلى “التطهّر” عبر العنف الثوري، قصدت ما يشبه عملية تخليص الجسد من سموم الكحول أو سموم المخدرات، كخطوة أولى ضرورية قبل التخلّص من الإدمان.

والحاجة إلى “التطهّر” ارتدت عند فانون طابعاً جَمْعياً أكثر ممّا هو فردي، وتقاطعت مع مفهوم معقّد آخر هو “صورة العالم”، كما تتباين وتتناقض بين المستعمِر/ القاهر، والمستعمَر/ المقهور.

إنّ إسقاط أنظمة الاستبداد، مثل التحرّر من الاستعمار، “يبثّ في الوجود إيقاعاً خاصاً”، حسب فانون، و”يحمل لغة خاصة وإنسانية جديدة”؛ الأمر الذي شهد العالم بأسره مظاهره في شوارع سوريا قاطبة، حيث الأفراح بسقوط نظام “الحركة التصحيحية” لا تكفّ عن تطعيم مظاهرها بمضامين تلمّس المستقبل، باستبشار كبير وتيقّظ عالٍ، في آن معاً.

القدس العربي

——————————-

السرديّة السورية في كاميرا نجدت أنزور: الحقيقة أوّل الضحايا/ فدوى العبود

13 يناير 2025

يمتدّ أثر السينما، بما لديها من ميزات، كالصورة والكلمة والموسيقى وأداء الممثلين، من الذاكرة والوعي إلى التأثير في العالم، إذ تنزع عن الحدث واقعيّته، وتجعل ما لم يحدث ممكن الحدوث. ويتفوّق دورها على “المراجع المكتوبة والمقروءة، أو حتى المسموعة، فالصور المرئيّة والمتحرّكة تعمل عملًا حيويًّا من خلال إعادة إحياء الحدَث على الشاشة أمام المشاهِد الذي يشعر وكأنه جزءٌ منه، بدلًا من تخيّله في حال قرأه، أو سمعه من أحدهم”*.

وإذا كانت الأعمال العظيمة تنتج عن خيال خصب وروح حرّة، فيمكننا أن نعثر على الضدّ من ذلك في أفلام موجهة لخدمة أغراض سياسية، أو أيديولوجيّة معينة. لقد استخدم الزعيم الألماني أدولف هتلر السينما عبر أفلامه التسجيلية للدعاية للنازية. وما ميز الأفلام الدعائية التي بثتها النازية في تلك المرحلة أنها تستهدف الغرائز. كتب هتلر عن التأثير النفسي للصور في كتابه “كفاحي”: “يجب على المرء أن يتذكر أيضًا أن الجمهور نفسه خامل عقليًا، وأنه لا يزال مرتبطًا بعاداته القديمة، وأنه ليس من الطبيعي أن يقرأ شيئًا لا يتوافق مع معتقداته الراسخة عندما لا تحتوي هذه الكتابة على ما يأمل كثيرون أن يجدوا هناك”**. وفي الصفحات ذاتها، يلحّ هتلر على كون الصورة تفعل في ضربةٍ واحدة ما لا تفعله الكتابة.

وفي المسار ذاته، حرصت سينما هوليوود على تكريس علوّ الرجل الأبيض، وقدمت لنا ذوي البشرة السمراء كمجموعة من الأشرار الذين يصعب إصلاحهم. وفي كتابه “حصان نيتشه”، يروي الناقد المغربي عبد الفتاح كيليطو ذكرياته مع السينما الغربية التي تصوّر السمراء شريرة، وعشيقة لزعيم العصابة، كما أنها مدخنة ومحبّة للعراك، بخلاف الشقراء، فالأخيرة ساذجة وغضّة وجذّابة، منتقدًا الجمهور الذي كان يحتجّ لانقطاع مشهد قبلة، لكنّ أحدًا لم يحاول السؤال: لماذا تكون السمراء شرّيرة على الدوام، والشقراء فاتنة! وقد تمنى “لو كان يعرف التصفير حتى يملأ باحتجاجه القاعة التي تمور بالخديعة والنفاق”.

وفي هذا السياق، يمكننا تأمل السينما السورية التي أتت بعد 2011، إذ تبنّت كثير من الأعمال السينمائيّة سرديّة السلطة. واستطاعت عبر الصورة البصرية والتأثيرات النفسيّة التلاعب بالانفعالات لتوجيه الوعي، وما كتابة هذا المقال إلا بأثر من تجربة شخصية عايشتها كاتبته. إذ كان هنالك برنامج ممنهج لهذا النوع من الأفلام التي كانت في غالبيتها “ملكيّة أكثر من الملك”.

إذ كان يجري تخصيص يوم لنا، معلمين وطلابًا، في السنوات التي أعقبت 2012 لمشاهدة أفلام يقدمها مخرجون يعملون في ظل السلطة ورعايتها.

وفي ظلمة سينما الكندي في مشروع دمر، كان الأمر أشبه بجمهور صراع الثيران، إذ تنفلت المشاعر العدوانية، أو الغرائزية، ورغم معايشتنا للواقع ومعرفتنا بما يحدث إلا أننا كنّا أشبه بذلك المشاهد الذي وصفه أستاذ التاريخ والدراسات الثقافية في جامعة ويسليان ريتشارد سلوتكن، والذي يصف المتلقي بأنه وإن “كان يعرف أنّ الحدث لم يحدث بالطريقة التي يرويها الفيلم، فإنّ التصوير السينمائي يعطيه الوهم بأنه حدث بتلك الطريقة بالفعل”. وعبر زاوية الكاميرا، وتركيز الانتباه على وجهة معينة يتوجب فيها ألا تتحرك بوصة إلى اليمين، أو اليسار، لأن ذلك قد يغير مجرى الحكاية. كنا نرى الواقع الذي عشناه من دون بنج، وقد اختزل في رؤية أحاديّة.

فما إن ندعى للاصطفاف في الباحة المدرسية مع تلاميذنا، حتى نعرف أن فيلمًا جديدًا يروي حكايتنا ليس كما نعرفها، بل كما يريد صنّاع الفيلم. وبرغم أن مياه حكايتنا تحوي شوائب كثيرة، لكن ينابيعها العذبة كانت في مكان آخر، كما أن الدماء التي خالطتها لم يكن لها حضور وسط كادرات الكاميرا. ولأن الوهم مريح فقد انساق كثيرون منا إلى تصديق الشاشة، حتى إن زيفّت الواقع.

ويمكن أن تشكّل مجمل أعمال المخرج السوري نجدت أنزور مثالًا في هذا الخصوص، فالأفلام التي أخرجها، ولا سيما في ذروة الحرب السورية “فانية وتتبدد” (2016)، “ردّ القضاء” (2016)، “دم النخل” (2019)، “رجل الثورة” (2018)، ليست سوى صياغاتٍ فنيـّة متنوعة لهاجسٍ وحيد: تأكيد وجود شرٍّ مطلق في مقابل خير مطلق. ولأنّ الشر يحتاج إلى شيطان يتبنّاه، فقد كان الأخير حاضرًا في إحدى زوايا الواقع السوري المعقد والسرياليّ، إذ وضعت الكاميرا حيث يرغب المستبد أن تكون. ولأنّ البناء يحتاج إلى أساس فقد عمَد إلى قصص حقيقية لتأكيد نص تحتيّ مخُتلَق.

في فيلمه “ردّ القضاء”، حصار سجن حلب حقيقي، وقصة حاتم واقعية، وهو شرطي خسر عائلته التي أعدمت على أيدي متشدِّدين، وحصار السجن من قبل الإسلاميين ومقاومة قوات الشرطة والجيش لها ليس من صنع الخيال بالتأكيد؛ لكنّ هذه الاختزالية للثورة لم تكن سوى نفي لولادة الحرية، وتأكيد لسردية السلطة حول المتطرفين الذين أخرجوا من سجون الأسد في بداية الثورة، وصبغوا وجه الثورة بالسواد. وفي كل حال، ينتهي العمل بالنصر على الإرهابيين، وإيفاء حاتم بوعده لأمه بأن يعيش، لكن أمه خذلته، إذ ماتت قبل أن يلتقيها.

ولعل أكثر أفلامه إثارة للجدل بعد “دم النخل”، الذي وصف فئة من المجتمع السوري بالجبن، مقابل بطولات فئة أخرى، هو “رجل الثورة”، الذي يروي قصة صحافي أجنبي لعب دوره الفنان سيف الدين سبيعي، والذي يدخل سورية بطريقة غير شرعيّة؛ بحثًا عن قصص ينشرها عن الواقع السوري، طامعًا بالحصول على جائزة البوليتزر، والذي سيوعز للمعارضين بأن يستخدموا الكيماوي على أنفسهم؛ للتأثير في العالم الغربي، ولتبرئة النظام من هذه الجريمة، وإظهار الحقيقة للرأي العام، كما ذكر مخرج الفيلم.

تنزع كاميرا أنزور عن المعارضين حسّهم الوطنيّ، وتختزلهم في صورة مجموعة من الوحوش، وهي وإن كان لها وجود، لكنها لا تمثل المشهد كاملًا، ومن أجل تحقيق هذه الغاية يعتمد اللقطة المقربّة، والتي اخترعت بحسب المخرج الفرنسي جان لوك غودار/ jean-luc Godara “للمأساة بخلاف اللقطة البعيدة المخصّصة للملهاة”. وعبر شحذِ انفعالات المتلقي إلى الحدّ الذي يجعل العالم، وعلى غرار الشاشة، منقسمًا بين الشرّ المطلق، والخير المطلق، ولا مكان للضحايا ضمن كادراته البصريّة، فالكاميرا تتحرك بين زاويتين لا ثالثة لهما، إما متطرف وقاتل، أو نادم وتائب عائد لحضن وطنه.

وإلى جانب التناقضات الفجّة، وغياب الرؤية الإنسانية، التي تعزز وتحرك مياه الشك لدى الإنسان، يعزز أنزور، وتحت غطاء تنوع السوريين، وتعدد لهجاتهم، من الأفكار النمطية؛ إذ يصبح الشخص بلهجته معبرًا عن طائفة أو جماعة كاملة، وحاملًا لسماتٍ محدّدة لا تجعله إنسانًا في موقف بقدر ما تجعله جماعة في موقف.

هذه العقلية هي التي تعامل فيها النظام مع السوريين، والتي انتهت بفظائع راح ضحيتها أبرياء لانتمائهم إلى مكان أو فئة معينة، ستتكرر بطريقة مواربة في سينما أنزور، فقد أثار “دم النخل” “موجةً من الغضب والاستياء لدى أبناء محافظة السويداء جنوب سورية، إذ يُظهر عسكريًا يتحدّث باللهجة المحكيِّة، كشخصٍ جبانٍ خائف من مواجهة مقاتلي تنظيم “الدولة الإسلامية”. أسهم ذلك في خلق صورة مشوّهة تجعل كلَّ من ينتقد النظام شريرًا ومتطرفًّا. وكل من يواليه شجاعًا بطلًا. اللاّفت أن فيلم “رجل الثورة” يبدأ بمقولة لكاتب يوناني هو أسخيلوس، الذي عاش قبل 2400 سنة، وهي أن “الحقيقة أوّل الضحايا في الحروب”. ولأن الحقيقة ليست عمياء، ولا ترى بعين واحدة؛ فإن كاميرا أنزور اختزلت هذا الواقعة وتنكرت للضحايا الذين شكلت أنقاض بيوتهم استوديوهات مجانيّة لتصوير أعماله، متناسيةً أن القيمة الماديّة للتذكرة، والمهرجانات الدورية، والألقاب الاعتباطيّة، لا تعطي الفن قيمته. وفي حوار مع نجدت أنزور، وعند سؤاله حول سبب السعر المرتفع لتذكرة فيلمه “ردُّ القضاء”، أجاب: ليش الثقافة دائمًا رخيصة، ومين قال إنو الثقافة لازم تكون رخيصة؟”***.

ضفة ثالثة

—————————-

عندما قتلت بشار الأسد/ سمير الزبن

12 يناير 2025

لا يكفي التحليل السياسي للإجابة عن أوضاع سياسية واقتصادية وإنسانية رهيبة وفظيعة تسبب بها الطاغية بحق البلد الذي يحكمه، والتي تكاد تشمل كل شيء، من مذابح جماعية، واعتقال تعسفي، وإرسال الناس إلى أقبية السجون لينالوا أقسى اشكال التعذيب التي تؤدي إلى الموت أو الاعاقة، وتدمير هائل للبنية العمرانية والاجتماعية والديمغرافية والعائلية للبلد. فما جرى في سورية خلال ثلاثة عشر عامًا هائل ورهيب وفظيع ويفوق كل خيال.

عندما شعرت أن التحليل السياسي وحده لا يعطي الصورة الكاملة عن الطاغية، ولا يكفي لتفسير القتل الرهيب الذي قامت به آلة القتل الرهيبة التي بناها الأسد الأب، وورثها ابنه قليل الكفاءة ومحدود التفكير، والذي لم يصدق أنه يملك كل هذه السلطة على كل هؤلاء البشر. سلطة مطلقة ورثها الأب للابن بعد أن أعدم الحياة السياسية بقمع رهيب وشامل طاول جميع القوى السياسية والمجتمعية في سورية، ما حطم الحقل السياسي السوري وألغاه.

أردت رؤية الصورة من موقع آخر، وتحديدًا من موقع الطاغية ذاته وكيف يفكر بالعوامل التي جعلته يصبح طاغية سورية؟ وكيف تعامل مع الاحتجاجات عليه وشيطنها بوصفها مؤامرة كونية، وأغرق البلد بالدم ردًا على المؤامرة المزعومة؟ فقد تفوق الابن على الأب بقمع البلد، فارتكب الابن أضعاف ما ارتكبه الأب من مذابح في حماة حلب وإدلب وسجن تدمر وغيرها. وسع الابن المذبحة السورية لتشمل كل جغرافيا البلد، فلم تنجُ مدينة سورية من هذه الجرائم التي ارتكبها النظام، ولا أبالغ إذا قلت، لم تنجُ أي عائلة تقيم في سورية من هذه الجرائم.

في عامي 2015 و2016، شغلني كيف يرى الطاغية جرائمه؟ وكيف يبررها لنفسه وينام قرير العين؟ فكان عليّ استخدام الخيال، مع استخدام الوثائق التاريخية والشهادات المتوفرة التي تغطي فترتي حكم الأب والابن من تاريخ سورية، حتى أكتب رواية الطاغية، وبلسانه، فكانت رواية «دفتر الرئيس»، حيث يكتب الرئيس مذكراته في هذا الدفتر، شارحًا الظروف التي مرَّ بها في تجربته وتحوله من ابن هامشي للرئيس الذي حطم البلد، والذي كان الرئيس يعد ابنه الأكبر لوراثته. حادث سير لرعونة الابن المرشح للرئاسة تودي بحياته، ينقل هذا الحادث المروري القاتل الابن الهامشي للرئيس إلى الوريث الجديد الذي يُعد لوراثة والده.

يكتب الرئيس كيف عالج المؤامرة التي تعرضت لها البلاد وكيف كان المنقذ لهذا البلد، ولم يرَ نتائج حربه على هذه المؤامرة، ولا الثمن الذي تدفعه البلد في تمسكه بالسلطة وممارسة القتل بحق السوريين، باعتبار هذه القتل هو الرد على المؤامرة الكونية. حاولت أن تقول الرواية أن من يرتكبون الجرائم الكبرى هم بشر، وليسوا مجرد مقولات لتجسيد للشر، وأن الشر يمكن أن يرتكبه أي شخص، ولذلك استعرت في مطلع الرواية ما قالته حنه أرندت: «إنّ أعظم الشرور في العالم يرتكبها أشخاص نكرات».

حتى يتم الحصول على دفتر مذكرات الرئيس، كان يجب تخيل روائي لأحداث تجعل الوصول إلى هذه المذكرات مقنعًا. لحل هذه المعضلة روائيًا، قمت بصياغة تمهيد يكتبه الشخص الذي حصل على هذه المذكرات، لشرح كيف وصلت له. يكتب هذا التمهيد في ربيع عام 2022 في المغرب، وهذا التاريخ يعود إلى حوالي أربع سنوات بعد نشر الرواية. يقول التمهيد إن روسيا وإيران اللتين تحميان النظام تعانيان من احتجاجات في بلدانهما. الروس يسقطون رئيسهم الذي يعاني من الخرف، والسلطة الجديدة في روسيا تسحب قواتها من سورية، بعد سبع سنوات من وجودهم بالبلد. وإيران التي حمت الميليشيات التي مولتها النظام، تتعرض لاحتجاجات شعبية عارمة في المدن الإيرانية، ما يجعلها تسحب قواتها من سورية أيضًا، وهو ما يترك النظام ضعيفًا غير قادر على الدفاع عن نفسه في مواجهة الفصائل التي تحاربه، يهاجم الجهاديون مدينة دمشق من كل الجهات، فلا يجد الرئيس المحاصر منفذًا للهروب من دمشق، سوى نفق يصل نهاية منطقة المزة بمطار المزة العسكري. يعبر الرئيس النقق، ويهرب بطائرة إلى مدينة اللاذقية، حيث الوجود الكثيف للطائفة العلوية التي ينتمي إليها الرئيس. وحتى يتنسى له هذا الهروب انتظر في شقة كان اشترها الرئيس قبل أن يستلم الرئاسة ومسجلة باسم والد كاتب التمهيد، الذي يقول له والده إنه يعتقد أن الرئيس قد اختبأ فيها قبل فراره من المطار القريب. في اللاذقية، يُقتل الرئيس بأيدي أبناء الطائفة العلوية، الذين يسعون لوضع حد للصراع الذي يؤججه وجود الرئيس بينهم.

عندما ذهب هذا الشخص وتفقد الشقة التي ذكرها أبوه، وجد حقيبة قد تركها الرئيس المستعجل في الهروب، فيها أوراق لعقود لعدة عقارات تقع في أماكن مختلفة، وسندات خزينة أميركية لحاملها بحوالي 3 ملايين دولار، ودفتر مذكرات الرئيس. يهرب الرجل بما غنمه إلى المغرب، وهناك يقيّم استثمارًا بالأموال التي وجدها في الحقيبة، حيث يفتتح معملًا للمناديل الورقية، ويحاول نشر مذكرات الرئيس بدون أن يعلن عن نفسه، لا تقتنع دور النشر بأن هذه المذكرات تعود للرئيس فعلًا، لأنه يرفض أن يفصح كيف حصل عليها، خوفًا من أن يُربط بالرئيس وتكون النتائج عليه وخيمة.

كان عليّ قتل الرئيس ليحصل هذا الشخص على دفتر مذكراته، وحتى أقتل الرئيس، كان عليّ أن أجعل حماته ينشغلون عنه بمشكلات أكثر أهمية من حماية نظام متهالك، فكأن التخلي عنه جعله يسقط في الرواية. وفي الوقائع التاريخية التي حدثت بين شهري نوفمبر وديسمبر من العام المنصرم، تخلت روسيا وإيران عنه، لانشغالهما في قضايا أهم بالنسبة لهما، ولو كانت قضايا مختلفة عن تلك التي ذكرتها الرواية، إلا أن تخليهما عن حمايته، عجلت في انهيار النظام وتبخره.

بعد سقوط النظام، كتب الصديق تيسير خلف تعليقًا عن الرواية وسقوط النظام، مقترحًا قراءة الرواية من جديد، وأنه يعتقد أنه لولا فيروس كورونا الذي عطل العالم لسنتين لكان النظام سقط في الوقت الذي توقعته الرواية، أي قبل عامين من اليوم. شكرت الصديق العزيز على إعادة التذكير بالرواية وتوقعها سقوط النظام، رغم أني لم أكتب رواية «دفتر الرئيس» كرواية تنبؤية، إنما كرواية عن الطاغية المجرم المنفصل عن الواقع والذي يعيش دائمًا في حالة إنكار.

ضفة ثالثة

———————————-

رغم رياح الحرية.. الموات الثقافي السوري رازح ومستمر/ علي سفر

الأحد 2025/01/12

مرّ خبر إغلاق المعهد الموسيقي في حلب، أو ما يعرف بمعهد صباح فخري للموسيقا سريعاً، من دون أن يلحظه أحد في الأوساط الثقافية، ولولا أن معارضي الإدارة السورية الجديدة نفخوا بالقصة، متهمين إياها بأن إغلاقه يستند إلى خلفية أيديولوجية دينية تحرّم الموسيقى، لما انتشر الخبر!

مع ذلك، استمر التجاهل، بعدما ثبت أن الإغلاق قضية قانونية، تتعلق بملكية المبنى الذي يشغله المعهد. ومضت التفاصيل نحو الأرشفة والتلاشي، في واقع تتسارع فيه الأخبار، ولا تتكرس القضايا، إلا إذا تصدت لها مجموعة أو فئة للاحتجاج، أو الدفاع عنها.

مشكلة معهد حلب، تبدو في إطارها العام قضية ثقافية تعليمية، فهذا المعهد كغيره يتبع وزارة الثقافة السورية، الغائبة حالياً، حيث لم يُكلف أحد لتولي مقعدها في الحكومة الراهنة.

ورغم أن مؤسساتها تعمل بإيقاع بطيء، فإنها لا تزال قائمة، تنتظر من يوجهها نحو قضاياها وشؤونها، لكن هذا الوضع لا يجب أن يؤدي إلى تجاهل مسائل مصيرية، طالما أن القضايا الثقافية ليست ملكية مسجلة، باسم المؤسسات المعينة للاهتمام بهذا الشأن، بل هي فضاء ومجال شرائح المثقفين كافة. في مثل هذه الواقعة كان من المفترض أن يتحرك جمع هؤلاء للاحتجاج، لكن شيئاً من هذا لم يحصل، وبدا أن المعهد محور القضية، موضوع خارج مساحة الأرض السورية، ويكاد الحديث الملح عنه على مواقع التواصل الاجتماعي، أن يصبح جرساً، يزعج طنينه أولئك الغارقين بنشوة الانتصار وبالاحتفالات المكررة به! ولا يهتم به أولئك الذين ساءهم رحيل الأسد، فباتوا يتلقفون أي خبر من هذه النوع، لاستخدامه في سياق محاججتهم للآخرين، بأن الحكم الجديد ليس سوى مشروع طالباني، سيحول سوريا إلى أفغانستان جديدة!

(فعالية “رح نبنيها” في حلب)

أسوأ ما يظهر حالياً في تفاعلات الحالة السورية بعد اسقاط نظام الأسديين إنما هو غياب المثقفين وبشكل مريب عن المشهد برمته! إذ لم يحظ شاعر، أو كاتب، أو سينمائي، أو مسرحي، أو تشكيلي، أو موسيقي، بزيارة لقصر الشعب، حيث يستقبل قائد الإدارة الجديدة أحمد الشرع زواره، كما أن الفعاليات التي يفترض بالمثقفين أن يعملوا من أجل ازدهارها في فضاءات الحرية، غائبة أيضاً! وسيرى الصحافيون الذين يقومون برصد الشاردة والواردة، من الوقائع السورية، أن متابعة الشؤون الثقافية هنا، غير مجدية، طالما أن إحساسهم يقودهم للاعتقاد، أنهم يزورون بلداً لا يعيش أزمة ثقافية مستدامة بسبب غياب الحريات، وربما لا توجد فيه عملية ثقافية من الأساس!

وحدها حملات المحاسبة، لأولئك الذي قاموا طيلة السنوات السابقة بتأييد نظام البراميل، ما يزدهر في جلسات النقاش بين السوريين! ورغم أن المسألة لا تتعدى الحكي الشفوي أو المنشورات في فيس بوك، إلا أنها صارت هاجساً يؤثر على بعض المثقفين، ممن وجدوا أنفسهم فجأة وسط محاكمات أخلاقية، يتعرضون فيها للتقريع واللوم، بسبب تنويمهم الإرادي لأصوات ضمائرهم، إما خوفاً وإما لا مبالاةً، وصار من الواجب عليهم الاستجابة لما يحيط بهم! وهكذا وجدنا البعض يبحث في أرشيفه عن مقالة كتبها، في وقت ما، ذكر فيها اسم زميل معتقل، أو مقطعاً في روايته أو قصيدته يتحدث فيه عن الحرية! لعل ذلك يساهم في التخفيف عنهم، أو يجنبهم عيون المنتصرين الشامتين!

يتوانى المثقفون السوريون، في اللحظة الراهنة، عن تعبئة المساحات التي حُرموا من العمل فيها، بسبب سيطرة الدولة على كل مجالات الحياة والفعالية، ولولا قيام الأخوين ملص، القادمين من فرنسا، بحمل عرض مسرحي إلى أحد مسارح العاصمة، وبعض المدن الأخرى، ولولا قيام مجموعة مسرحيين، بعضهم يقيم في أوروبا، بارتجال فعالية احتفالية مشهدية، تتعلق بالنصر، في حلب، ولولا حفل غنائي دمشقي، جرى قبل أيام، أحياه المغني والملحن القادم من الولايات المتحدة الأميركية وصفي المعصراني، وتحت شعارات النصر أيضاً، لولا كل ما سبق، لكانت الصورة أشد قتامة!

وجود هذه الفعاليات، لا يجعل المراقبين يظنون بأن أبواب الشام المفتوحة ونوافذها المشرعة، ستحمل هواء ينعش الجمهور الذي نشفت عروقه، بسبب تلاشي الفعاليات الثقافية الجادة والمحترمة، البعيدة عن تأثيرات النظام الأسدي، إذ لا تظهر في الأفق أي محاولات للمؤسسات الرسمية، لكسر الجمود الحاصل حالياً، وبالتوازي مع هذا، لا يشعر أحد من السوريين بالحاجة إلى أمسيات أو أصبوحات شعرية أو قصصية، بالإضافة إلى أن الظرف الراهن، وبما يحتاجه من نقاشات فكرية وسياسية، لا يملي على أحد الحاجة إلى إقامة مؤتمرات أو جلسات نقاش منظمة، تُفتح فيها الأوراق المغلقة منذ سنوات، ليمر عليها الضوء وتراها عيون البشر المقموعين ممن منعهم الاستبداد من الاطلاع بحرية على الرؤى المغايرة.

يمكن توصيف المشهد بالسبات الثقافي، لكن هذا ليس إيحاء بالاستمرار على ذات الوضعية، بل هو دعوة لاغتنام الفرصة، لتثبيت دور المثقفين في زمن الحرية، فهل ثمة من يستجيب؟

المدن

——————————–

مخاوف من إعادة تدوير الفساد والقتلة/ سميرة المسالمة

الإثنين 2025/01/13

تتواتر الأخبار تباعًا عن عودة بعض شركاء عائلة الأسد المخلوع وأذرعهم الأمنية من دفاع وطني وغيرهم، المتورطة في جرائم كبرى بحق السوريين، بعفو خاص من الإدارة الجديدة، مما يثير موجة من التساؤلات والقلق بين السوريين. فهذه الشخصيات، التي أدينت اجتماعيًا بسبب ارتكاباتها التي طالت جميع مكونات المجتمع السوري، أصبحت اليوم محورًا للجدل حول نوايا النظام الجديد في التعامل مع إرث الفساد والقمع. وبينما يحاول البعض تبرير هذه الخطوة بأنها تأتي في سياق سياسة تطمينية لشريحة معينة أو محاولة لاحتواء توترات طائفية محتملة، فإن الواقع يشير إلى أن هذه التحركات قد تحمل تداعيات خطيرة على مستقبل سوريا، إذ إنها تعزز مخاوف السوريين بشأن احتمالية إعادة إنتاج منظومة الفساد والاستبداد تحت شعارات جديدة.

إن منح العفو لهذه الشخصيات لا يمكن اعتباره خطوة نحو المصالحة الوطنية، بل يُنظر إليه كرسالة سلبية تعمق انعدام الثقة حول آلية العدالة، فهؤلاء لعبوا أدوارًا رئيسية في تعزيز سلطة النظام السابق عبر القتل والقمع والفساد، لم يكونوا مجرد أدوات قمعية، بل كانوا رموزًا لمرحلة مظلمة من تاريخ سوريا، مرحلة تسعى الثورة السورية منذ بدايتها إلى إنهائها، لذلك، فإن عودتهم ليست فقط إهانة مباشرة لضحاياهم، بل هي أيضًا إعادة إحياء لمخاوف السوريين بشأن جدية المرحلة الجديدة في تحقيق العدالة والانتقال الديمقراطي.

ولا يقتصر الأمر على الأبعاد الرمزية لهذه العودة، بل يتعداها إلى الأثر الواقعي الذي قد تتركه هذه الخطوة على بنية النظام الاقتصادي والسياسي. فهذه الشخصيات، التي استفادت خلال سنوات النزاع من الفساد وتكديس الأموال، تمتلك اليوم الأدوات اللازمة للعودة إلى الواجهة الاقتصادية وربما السياسية، مما يعيد إنتاج المنظومة نفسها التي استغلت السوريين لسنوات طويلة. ولعل الأخطر من ذلك أن عودتهم تعيد للأذهان ممارساتهم السابقة، حين استخدموا نفوذهم المالي والأمني لتحقيق مكاسب شخصية على حساب مصلحة الشعب السوري، وهو ما يجعل هذه الخطوة محفوفة بالمخاطر على مستقبل البلاد.

ومما يزيد من تعقيد هذا المشهد أن النظام السابق لم يكن مجرد منظومة قمعية منفصلة عن المجتمع، بل كان شبكة معقدة من الفساد شملت مختلف الطوائف والمجتمعات، فمن خلال إشراك شخصيات من كافة الانتماءات في جرائمه، سعى النظام إلى تعميم سلوكه الإجرامي ليصبح إرثه موزعًا على الجميع، مما يخفف من عزلة النظام داخليًا وخارجيًا. لذا، فإن عودة بعض الشخصيات من الأغلبية السنية، التي كانت شريكة في الفساد والقتل، تعكس بوضوح هذا النمط. فهذه الشخصيات لم تكن تمثل طوائفها بقدر ما كانت أدوات لتنفيذ سياسات النظام القمعية، الأمر الذي يجعل محاولات إعادة دمجها في المشهد الجديد تحت ذريعة قدرتها على ضبط مجتمعاتها أو تمثيل طوائفها مجرد تكرار للاستراتيجية القديمة ذاتها، التي أثبتت فشلها في بناء دولة قائمة على العدالة والمساواة.

وبالإضافة إلى ذلك، فإن أي خطوة تهدف إلى العفو عن هذه الشخصيات أو إعادة دمجها في المشهد السياسي والاقتصادي تُعد ضربة قاسية لجهود المصالحة الوطنية.

فالسوريون، من جميع الطوائف والمناطق، لديهم موقف موحد من هذه الشخصيات، ليس بدافع شخصي، بل لأنهم أصبحوا رموزًا “لطوائفهم” حتى عندما يكونوا من الأكثرية السنية، في مرحلة القمع والفساد التي يتطلع الجميع إلى تجاوزها، ولذلك، فإن تبرير وجودهم في النظام الجديد على أساس قدرتهم على ضبط مجتمعاتهم أو تمثيل طوائفهم يعد استهانة صريحة بتطلعات السوريين نحو العدالة والمحاسبة.

وعليه، فإن إعادة هذه الشخصيات إلى المشهد العام، بدلاً من أن تكون وسيلة لطمأنة الطوائف، تزيد من حالة الاحتقان وتُضعف الثقة في الإدارة الجديدة، إن المصالحة الوطنية الحقيقية لا يمكن أن تتحقق عبر إعادة إنتاج منظومة الفساد والاستبداد، بل من خلال محاسبة جميع المتورطين في الجرائم، بغض النظر عن انتماءاتهم أو مواقعهم السابقة.

وفي هذا السياق، فإن العدالة ليست مجرد مطلب شعبي يمكن تجاوزه، بل هي شرط أساسي لتحقيق الاستقرار وإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع. إن محاسبة المتورطين في الجرائم والانتهاكات ليست خيارًا يمكن تأجيله، بل هي أساس أي عملية انتقال ديمقراطي ناجحة. فالشعب السوري، الذي تحمل معاناة طويلة بسبب القمع والفساد، لن يقبل أن يرى الوجوه نفسها التي كانت جزءًا من تلك المعاناة تعود لتتصدر المشهد مجددًا.

لا شك أن ما يقوله رئيس الإدارة الجديدة (أحمد الشرع) عن التسامح، يطمئن السوريين من كل المرجعيات. لكن مع ذلك، فهناك رموز فساد لا يمكن تجاهل تاريخها المسيء، ولا يدخل ضمن التسامح إعادة تدوير الشخصيات التي ساهمت في إفساد الماضي، فالشرعية الحقيقية لا تُبنى على العفو عن المجرمين أو استرضاء الفاسدين، بل على تحقيق العدالة وضمان عدم تكرار الممارسات القمعية. ولذلك، فإن الأنباء عن عودة شركاء النظام السابق بعفو خاص ليست مجرد أخبار عابرة، بل هي مؤشر خطير على مسار العدالة الانتقالية.

التسامح هو قيمة أخلاقية عليا يفترض أن تكون سائدة بين سوريين كمواطنين، مع قيم الحرية والكرامة والمساواة، وهي نقيض سياسة التعصب والكراهية ونبذ الآخر، التي كرسها النظام، لكن التسامح لا يعني العفو عن مجرمين تلوثت أياديهم بالدماء أو تلاعبوا بقوت الشعب السوري. فهذا شأن أخر. ولأننا نريد لهذه المرحلة من حياة السوريين أن تكلل بالنجاح والاستقرار والديمومة، ربما من المفيد القول، إن بناء سوريا جديدة يتطلب محاسبة كل من تورط في الجرائم والانتهاكات، والعمل على بناء دولة قائمة على العدالة والمساواة، بعيدًا عن استرضاء الفاسدين أو إعادة تمكينهم. فلا يمكن لأي مشروع سياسي أن ينجح إذا كان قائمًا على طمس حقوق الضحايا وتجاهل تطلعات الشعب السوري نحو مستقبل أكثر عدلًا وإنصافًا.

المدن

———————————–

إعادة الانتشار”… تقارير استخباراتيّة عن انسحاب الجيش السوري أمام “ردع العدوان”/ عمّار المأمون – فراس دالاتي

13.01.2025

تشير الوثائق إلى اختلاف بين الأوامر الأمنية التي تكشف “إعادة الانتشار” والأوامر العسكريّة التي تشير إلى الجاهزية والاستعداد للمعركة، التي اختارت الغالبية من جنود النظام ألا تخوضها.

انطلقت عملية “ردع العدوان” التي قادتها فصائل المعارضة السوريّة المسلّحة من إدلب يوم 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، وأُعلن عن سقوط النظام السورية وفرار بشار الأسد في 8 كانون الأول/ ديسمبر من العام ذاته، نُشرت بعدها عشرات القصص والتقارير والمقابلات التي روت حكاية المعركة “من الداخل” وكشفت أسرار “الساعات الأخيرة” لبشار الأسد. وهكذا، يهمل تلخيص أهم مرحلة في تاريخ سوريا الجانب الآخر من الحكاية، ونقصد هنا “الجيش السوري” أو “جيش النظام” كما يُسمى عادة، والذي لا نمتلك صورة واضحة عن كيفية تعامله مع هذه “المعركة” التي غيّرت تاريخ سوريا.

الجيش السوري: “جاهزية قتاليّة كاملة”!

منذ بداية العملية، شهدنا أخباراً عدة عن الجيش السوري، ففي 27 تشرين الثاني/ نوفمبر، نشرت صحيفة الوطن المقربة من نظام الأسد تقريراً صغيراً عن “دكّ” الجيش السوري خروقات “النصرة” في ريف إدلب، الأمر ذاته في اليوم التالي، 28 من الشهر نفسه، إذ نشرت الوطن عن قصف الجيش “النصرة” وأعلنت أن “زمن خفض التصعيد انتهى”.

في الوقت تكشف، تكشف “برقية عاجلة” صادرة عن إدارة عمليات الجيش السوريّ في تاريخ 28 تشرين الثاني/ نوفمبر عثر عليها “درج” في مقر إدارة المخابرات الجوية، موقّعة من العماد عبد الكريم محمود ابراهيم، رئيس هيئة الأركان العامة للجيش والقوات المسلحة، جاء فيها أنه “نظراً الى التطورات المتسارعة توضع الهيئات والشعب والإدارات والجحافل والتشكيلات بجاهزية قتالية كاملة اعتباراً من لحظة استلام هذه البرقيّة”.

الاستعداد الرسمي والجاهزية يكشفان أن الجيش السوري أمام حالة حرب، إذ تقول البرقية أيضاً: “توقف الإجازات ويمنع المبيت وتكون قوات جاهزة لتنفيذ أية مهمة تُسند لها…”، وذلك لحماية القوات “من أي هجوم أرضي أو جوي مفاجئ ويبقى القادة في مقراتهم”.

استمرت بلاغة دحر “الإرهاب” حتى أيام نظام الأخيرة بينما تتقدم قوات “ردع العدوان”، وتخلّلتها أخبار عن اشتباكات مع الجيش السوري، وفرار جنود الجيش السوري. لكن ما يلفت هو تداول حكايات عن قرصنة أجهزة اللاسلكي الخاصة بجنود الجيش السوري، وبثّ أوامر للانسحاب، إشاعة انتشرت لفترة قصيرة، لتبرير ترك الجنود سلاحهم ومواقعهم خالية، تلتها أخبار متفرقة عن انسحاب الجيش السوري من موقعه، وفرار أكثر من ألفي جندي سوري نحو العراق، ناهيك بتهديدات من فصائل مسلّحة تابعة للنظام بأنها لن تلقي السلاح.

على الصعيد الأمني، عاش النظام أيامه الأخيرة برقابته الصارمة وبيروقراطيته القاتلة المعتادتين، بخلاف ما أمرت به “البرقية العاجلة” أعلاه، إذ يدل آخر جدول للضباط المناوبين في شهر كانون الأول/ ديسمبر على حركة دوامٍ روتينية، بينما يكشف ملف سجل الكتب الصادرة والواردة لعامي 2024 و2025 في إدارة المخابرات العامة بحيّ كفرسوسة في دمشق، أن يوم الدوام الأخير في تاريخ نظام الأسد الأمني، 5 كانون الأول 2024، لم يتجاوز بضعة أوامر بإجراء دراسات أمنية لصحافيين وناشطي مجتمع مدني أجانب دخلوا البلاد حديثاً، قبل أن يتوقف التدوين في ذاك السجل عند الكتاب رقم 2055 لتبقى بقية صفحاته فارغة إلى الأبد.

“إعادة الانتشار” ما قبل السقوط

قبل سقوط النظام بيومين، أي في تاريخ 6 الشهر، خرج علينا وزير الدفاع السوري علي محمود عباس في كلمة تلفزيونيّة فسر فيها “اضطرار قواتنا المسلحة لاستخدام أساليب مناسبة في خوض المعارك من كر وفر وتقدم وانسحاب إلى بعض النقاط”، مؤكداً: “قيام قواتنا المسلحة بإعادة انتشارها خارج مدينة حماة”.

تحركات الجيش السوري بقيت مجهولة بصورة ما، لكن حصلنا في “درج” على وثيقة استخباراتيّة مفادها أنه في 5 كانون الأول، أي قبل يوم واحد من كلمة وزير الدفاع، تلقى “اللواء رئيس شبعة المخابرات-الفرع 227”  أو المخابرات العسكرية، “برقيّة” وصفت بأنها “فورية وسرّية للغاية” مفادها أن اللواء بشار خليل اسكندر، قائد القوات الخاصة المنتشرة في البادية “تلقى أمراً” بتنفيذ “مناورة” وتجميع الكتائب (804-972-255) في منطقة حويسيس بصورة أدق “مطار T-4 العسكري” ثم التوجّه إلى حمص، حيث استقرت في المدينة الرياضيّة.

بشار خليل اسكندر عيّن في الشهر السادس من عام 2024 نائباً لقائد “القوات الخاصة” سهيل الحسن، كما شملت البرقية أيضاً مقتل 9 عسكريين أعلاهم برتبة عميد ركن، وهو قائد الكتيبة 804، إلى جانب اثنين وصفهما (دورة متطوعين) مواليدهما 2005 و2006.

هؤلاء قُتلوا أثناء تنفيذ كمين لقوات المعارضة في جبهة حماة (جبل علي زين العابدين)، وتكرّر دائماً في التقارير أن اشتداد المعارك واستخدام المسيّرات هما ما تسبّب بمقتلهم، وهذا ما نلاحظه في صور المسيّرات التي استخدمت في تلك المعركة ذات اليوم. ويذكر أنه في عام 2019، نُشر تسجيل فيديو لأحد جنود الكتيبة 804 يخاطب “أخيه الكبير بشار الأسد”، قائلاً إنه هو وكل عسكري عندهم وجع ولا يوجد من يكترث لهم ولمطالبهم.

 نقرأ أيضاً في وثيقة تعود إلى يوم 6 كانون الأول/ ديسمبر عام 2024، أن الكتائب التي كانت في الملعب في حمص، تم توجيهها لـ”إعادة الانتشار” في منطقة “المشرفية” أو كلية الهندسة. تذكر المراسلات أيضاً أن كتائب القوات الخاصة (708، 95) الموجودة في  ريف حماة (قمحانة وجبل زين العابدين) تراجعت نحو مطار حماة العسكري، ثم انقطع الاتصال معها ولم تعلم جهة توجهها لاحقاً، وفي 6/2012 تمت “إعادة انتشار” من منطقة الربيعة في حماة إلى منطقة سلحب مع انضمام عناصر من الفرقة الخامسة.

الحال في دمشق لم يكن بتلك الحدّية لكنه كان يشي بقُرب بدء تنفيذ الجيش “مهمة أمنية خاصة”، ففي وثيقة أخرى “سرية للغاية” صدرت بتاريخ 6 كانون الأول/ ديسمبر 2024 – أي قبل سقوط النظام بأقل من 48 ساعة – اطلع عليها “درج” في أحد الألوية التابعة لقوات الحرس الجمهوري، جرى التعبير عن مخاوف “من وجود بعض الخلايا الإرهابية النائمة التي يحتمل أن تقوم ببعض الأعمال التخريبية لزعزعة الأمن والاستقرار وتخريب المصالحات ونشر الفوضى وتهديد سلامة المواطنين الآمنين وإيقاع الخسائر في صفوف قواتنا المسلحة”.

اقترحت الوثيقة تنفيذ الفوج 108 مغاوير مهمة أمنية خاصة تُعنى بـ “تأمين الحماية وتحقيق الأمن والاستقرار وملاحقة الخلايا النائمة وأي أنشطة إرهابية تخريبية”، من خلال إقامة حواجز ونقاط تفتيش على الشوارع والمداخل الرئيسية للقرى المحاذية لدمشق من الجانب الجنوبي الشرقي، إضافة إلى نشر عدد من “الحواجز المتنقلة التي تُفتح بشكلٍ مفاجئ” – التي تُعرف شعبياً باسم “الحواجز الطيارة” التي غُيّب عندها آلاف السوريين – وتشكيل مجموعات الاقتحام والمداهمة.

في الوقت ذاته، جاء في الوثيقة أن الفوج 108 جاهز لتنفيذ العمليات العسكرية المكلف بها في ريف دمشق، كذلك “المهمة القتالية” الموكلة إليه في اللاذقية، و”المهمة الأمنية” في السويداء، لا نعلم الفرق بين المهمتين، وهل الأمر مجرد بلاغة بيروقراطيّة أم ذو معانٍ أخرى.

ليلة السقوط

يقول محمد الجلالي، رئيس وزراء حكومة نظام الأسد المخلوع، أنه في ليلة هروب الأسد حاول التواصل مع وزير الدفاع، ولكن الأخير لم يرد على هاتفه، وهنا يتضح أنه بعد ساعاتٍ من صدور تلك الوثيقة، تم أُخلي الفوج تباعاً وفرّ كبار ضباطه ومجنديه وعناصره، حسبما أفادت به مصادر محلية في منطقة دمر – التي يقع فيها اللواء 105 الذي وجد “درج” الوثيقة فيه – إذ كان مقر الفوج خاوياً عندما اقتحمه المدنيون عشية السابع من كانون الأول/ ديسمبر، قبل وصول قوات “جبهة فتح دمشق” بقيادة أحمد العودة، التي كانت أول الواصلين إلى العاصمة.

تشير الوثائق إلى اختلاف بين الأوامر الأمنية التي تكشف “إعادة الانتشار” والأوامر العسكريّة التي تشير إلى الجاهزية والاستعداد للمعركة، التي اختارت الغالبية من جنود النظام ألا تخوضها، الموقف الذي يمكن تلخيصه في أحد الفيديوهات التي يظهر فيها جنديان من الجيش السوري يقولون“تسريح جماعي… يوم الأحد… أتوستراد المزة… 2024… انتاكت أم الجيش العربي السوري”.

درج

————————

فرحتنا لم تكتمل”… سوريون عاجزون عن العودة بعدما دُمّرت منازلهم/ باسكال صوما

13.01.2025

“فرحنا بسقوط النظام، فقررنا النزول إلى سوريا لكي نتفقد منازلنا وأراضينا، ولكن عندما وصلنا لم نجد شيئاً، فالحرب دمرت كل شيء، لذلك قررنا العودة مجدداً إلى لبنان”.

“لم نجد شيئاً”، تعبير كرره عدد من اللاجئين السوريين الموجودين في لبنان الذين ذهبوا لتفقّد منازلهم، إثر سقوط نظام الأسد، وقد تلاشت آمالهم أمام الحقيقة المرّة، فكثيرون لم يجدوا أثراً لمنازلهم أو أملاكهم. فكان خيار كثيرين البقاء في لبنان، وإن كان ذلك يعني في الواقع الحياة في خيمة، لا تقي برد الشتاء ولا حرارة الصيف، في مخيمات لا تتوافر فيها أبسط مقوّمات المعيشة.

بحسب الدولية للمعلومات، ما زالت أرقام السوريين العائدين من لبنان محدودة، وهو ما يمكن أن تؤكده جولة قصيرة بين مخيمات اللجوء، التي ما زالت على حالها بقاعاً وشمالاً وفي كل مكان تقريباً. علماً أن في لبنان نحو 3100 مخيم عشوائي، يتركز معظمها في البقاع والشمال.

بحسب دراسة مسحية للدمار الحاصل أجراها معهد الأمم المتحدة للتدريب والبحث (UNITAR) في 16 مدينة وبلدة في سوريا، تبين أن حلب أكبر المدن المتضررة من جراء القصف، حيث وصل عدد المباني المدمرة إلى نحو 36 ألف مبنى، تلتها الغوطة الشرقية بـ 35 ألف مبنى مدمر، وجاءت في المرتبة الثالثة مدينة حمص التي تدمر فيها 13778 بناء، ثم الرقة حيث 12781 بناء مدمراً، ومن ثم حماة بـ6405 أبنية، ودير الزور 6405، بالإضافة إلى مخيم اليرموك 5489 بناء.

عادوا مرة أخرى إلى لبنان

يعيش عبد العيسى أحمد في أحد مخيمات المنية شمال لبنان منذ عام 2012، يروي رحلته مع العودة التي لم تكتمل لـ”درج”، قائلاً: “فرحنا بسقوط النظام، فقررنا النزول إلى سوريا لكي نتفقد منازلنا وأراضينا، ولكن عندما وصلنا لم نجد شيئاً، فالحرب دمرت كل شيء، لذلك قررنا العودة مجدداً إلى لبنان”.

يضيف، “عدت إلى خيمتي، لأن منزلي في سوريا قد دمر بالكامل، وأنا لا أملك المال حتى أقوم بإعادة الإعمار التي تحتاج مبالغ طائلة، إضافة إلى صعوبة تأمين عمل لإعالة أسرتي في سوريا حالياً”.

حال محمد مع العودة تشبه حال عبد العيسى، الذي يعيش في أحد مخيمات شمال لبنان، وإثر سقوط النظام قرر العودة إلى مدينته حماة. يقول محمد، “البيوت مدمرة، لا كهرباء ولا ماء، الحياة شبه معدومة في مدينتي، لذلك اضطررت إلى العودة مرة أخرى إلى الخيمة التي كنت أسكن فيها، رغم صعوبة العيش هنا لكنني لا أملك خياراً”.

وفقا للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، يوجد حالياً 6.2 مليون لاجئ سوري خارج الوطن، أي ما يقارب ثلث سكان سوريا خارج بلادهم، 3 أرباعهم (76 في المئة) في الدول المجاورة، 3 ملايين منهم في تركيا، ونحو 775 ألفاً في لبنان، وأكثر من 600 ألف في الأردن، ونحو 300 ألف في العراق، وأكثر من 150 ألفاً في مصر.

في المقابل، كانت مديرة المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ريما جاموس إمسيس، صرّحت بأن نحو مليون لاجئ سوري من المتوقع أن يعودوا إلى بلدهم في الأشهر الستة الأولى من عام 2025، داعية الدول الى الامتناع عن إعادتهم قسراً.  ومليون لاجئ يعني أقل من سدس عدد اللاجئين حول العالم، سيحصلون على فرصة العودة إلى أحضان الوطن، مع سقوط النظام.

“أنا غير قادرة على ترميم منزلي، فأنا أرملة ولا أملك عملاً، وسأضطر للبقاء في هذه الخيمة، بانتظار إعادة الإعمار في حال حصلت”.

شتاء آخر بعيداً عن الوطن

شتاء آخر مع البرد القارس تمضيه عائلات سورية كثيرة في لبنان، في ظل تراجع المساعدات المقدمة من المفوضية العامة للأمم المتحدة في الفترة الأخيرة، ما يعني المزيد من المعاناة. فعلى رغم سقوط النظام الذي كان يمنع كثيرين من العودة، بخاصة المطلوبين للتجنيد الإجباري والمعارضين، لم يستطع هؤلاء التنعّم بالعودة، فالبلاد غير مجهزة لاستقبال أهلها حتى الآن.

ويرتبط ذلك بشكل أساسي، إضافة إلى الدمار الذي لحق بالمنازل والمنشآت، بصعوبة تأمين الخدمات الأساسية من المياه والكهرباء والإنترنت والتدفئة، لا سيما في موسم الشتاء.

تقول فاطمة، وهي لاجئة سورية تعيش مع عائلة أخرى في خيمة صغيرة، “أنا أرملة ولدي ابنة وحيدة، أملت بعد سقوط النظام بأن أعود لأعيش في منزلي في سوريا، لكن عندما ذهبت لم أجده، بل وجدت حطامه”. وتضيف، “أنا غير قادرة على ترميم منزلي، فأنا أرملة ولا أملك عملاً، وسأضطر للبقاء في هذه الخيمة، بانتظار إعادة الإعمار في حال حصلت”.

اللاجئة روضة الفارس والتي تعيش مع ثلاث عائلات أخرى في خيمة واحدة، تصف الحياة بالمخيم بالرديئة جداً، “نحن هنا نعيش مع الحشرات والجرذان والفئران، لكن على رغم ذلك أنا لا أستطيع العودة إلى سوريا والعيش هناك لأن منزلي قد دمر بالكامل ولا أستطيع إصلاحه، كما أننا لا نعرف من أين سنأكل ونشرب في سوريا، على الأقل في لبنان تصلنا بعض المساعدات”.

حال روضة وفاطمة هو حال معظم السوريين الذين يعيشون في لبنان، فعلى الرغم من مضي قرابة الشهر على سقوط النظام، عودة السوريين إلى بلادهم لا تزال خجولة، إذ تقدر بحوالى الـ50 ألف لاجئ، بحسب بعض التقديرات غير المؤكدة، بينما أعداد السوريين الموجودين في لبنان تقدّر بحوالى المليون ونصف المليون لاجئ وفق أرقام الحكومة اللبنانية، فيما تشير تقديرات أخرى إلى نحو 750 ألف لاجئ.

90% من سكان سوريا يعتمدون على المساعدات

تقول ريما جاموس إمسيس، مديرة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مفوضية اللاجئين، أن أكثر من سبعة ملايين شخص نزحوا داخلاً بالفعل في البلاد، وأن أكثر من 90 في المئة من السكان يحتاجون إلى الدعم الإنساني للبقاء على قيد الحياة.

وأصدرت مفوضية اللاجئين خطة لسوريا تسعى إلى جمع “310 ملايين دولار لتلبية الاحتياجات الحرجة لما يصل إلى مليون لاجئ سوري عائد من المتوقع أن يصلوا إلى سوريا بين كانون الثاني/ يناير وحزيران/ يونيو المقبل”.

ويشهد الاقتصاد السوري أزمة غير مسبوقة، تشمل ارتفاع معدلات البطالة والتضخم، وضعف الخدمات الأساسية مثل المياه والكهرباء والصحة، ما يشكل عائقاً كبيراً أمام عودة اللاجئين، كما أن الحرب دمرت جزءاً كبيراً من البنية التحتية.

على الرغم من الواقع الصعب الذي يعيشه السوريون في لبنان، فبحسب المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، نحو “90 في المئة من العائلات السورية اللاجئة في لبنان تعيش فقراً مدقعاً جراء الانهيار الاقتصادي”، إنما يبدو ألا خيار آخر أمامهم الآن، بانتظار خطة إعادة الإعمار، والتي يبدو أنها ستستغرق سنوات طويلة، تحترق في عمر سوريا وأهلها.

درج

———————-

سوريا الجديدة والقضية الفلسطينية/ مصطفى الفقي

يتحول الخطاب الجديد في دمشق بين يوم وليلة إلى لغة ودية تسعى إلى علاقات طيبة مع إسرائيل

الاثنين 13 يناير 2025

سوريا كسائر الأقطار العربية تتحمل مسؤولية تاريخية في الصراع العربي – الإسرائيلي حرباً وسلاماً، ولا يمكن اختزال ذلك كله في بعض العبارات أو التصريحات من دون تمهيد سياسي أو تحول فكري متفق عليه على المستوى العربي العام.

تعد القضية الفلسطينية القضية الأولى لكل العرب والمسلمين وكل الشعوب المحتلة التي اعتنقت الكفاح المسلح طريقاً للخلاص مما حلّ بها من احتلال أجنبي أو غزو خارجي أو طغيان سياسي، وسوريا تجسد بهذا المعنى كل مظاهر النضال الوطني من أجل الحرية والكرامة والسعي الدائم إلى استرداد الحقوق، وهي في الوقت نفسه قلب الشام الكبير وكانت فيها عاصمة أول خلافة إسلامية، كما أن سوريا الكبرى تضم الدولة السورية الحالية ولبنان والأردن وأطرافاً من العراق التي تشكل في مجملها “الهلال الخصيب” ونجمته في قبرص، إلا أن أيقونته الضائعة هي فلسطين بكل ما تجسده من معان وما ترمز إليه من دلالات، لذلك كان السوريون ينظرون إلى القضية الفلسطينية باعتبارها قضية سورية أيضاً مثلما هي بالنسبة إلى مصر قضية مصرية كذلك، وقد اتخذت الدولة السورية في مراحل تاريخها الحديث واحداً من أكثر المواقف تشدداً تجاه القضية الفلسطينية وأكثرها عداء لإسرائيل، كما خاضت حروباً أعوام 1948 و1967 و1973 دفاعاً عن الحق الفلسطيني، بل قادت دمشق دائماً جبهة الرفض لما اعتبروه تخاذلاً من مصر السادات بالدخول في سياسات “كامب ديفيد” ونتائجها السلبية على الصراع العربي – الإسرائيلي بصورة عامة كما رأتها مجموعة الدول الرافضة.

ويحسن أن نشير هنا إلى المقومات الراسخة في الخطاب السياسي السوري الذي كان يتحدث دوماً عما يسميه “الكيان الصهيوني” ويتشدد ظاهرياً في إدانته والعداء معه، فما أبعد الليلة عن البارحة، فها هو الخطاب السوري الجديد يتحول بين يوم وليلة، في ظاهره بغض النظر عن جوهره، إلى خطاب ودي يسعى إلى علاقات طيبة بين سوريا وإسرائيل، ونحن لا ندعي الوصاية على ذلك التوجه السوري الجديد ولكننا نعبر عن دهشتنا لانتقال الخطاب 180 درجة للاتجاه المعاكس، ونحن لا ننكر في الوقت ذاته تأثير نظرية تغير الظروف على الأفكار والسياسات والمواقف، ولنا هنا بعض الملاحظات على ما جرى في سوريا العربية وتأثيره في مستقبل علاقات المنطقة العربية والصراع العربي – الإسرائيلي بخاصة، وفي جوهره القضية الفلسطينية بتاريخها الطويل وآثارها على الإقليم كله ومنطقة غرب آسيا والخليج العربي والجزيرة العربية وشمال أفريقيا، لنرصد تلك الملاحظات في المحاور الآتية بصورة موجزة.

أولاً: سوريا كسائر الأقطار العربية تتحمل مسؤولية تاريخية في الصراع العربي – الإسرائيلي حرباً وسلاماً، ولا يمكن اختزال ذلك كله في بعض العبارات أو التصريحات من دون تمهيد سياسي أو تحول فكري متفق عليه على المستوى العربي العام، فسوريا التي كانت سباقة في المد القومي ولو بصورة نظرية لا يمكن أن تصبح بين عشية وضحاها معبراً للتطبيع الشامل مع إسرائيل، قفزاً على الأزمنة والأحداث والمواقف، حتى لو جاء ذلك تحت شعارات إسلامية أو تبريرات مرحلية، خصوصاً أن المشهد العام في المنطقة اليوم يمر بأسوأ ظروفه بعد مذابح غزة وتوترات لبنان وضرب البنية العسكرية التحتية للجيش السوري، على نحو يؤكد أن روح العداء لم تنتزع من الطرف الآخر، وأن العنصرية والغلو والتشدد تمضي كلها على ما كانت عليه على المستويين الرسمي والشعبي، فالقضية الفلسطينية ليست وليداً جديداً ولكنها مسألة معقدة مرت بمراحل طويلة ودفع فيها العرب، بمن فيهم السوريون، فاتورة غالية عبر الأعوام، وكان يمكن أن يجري ما جرى بحسابات ذكية وخطوات متأنية في مقابل حقيقي تدفعه إسرائيل ثمناً للسلام وتحقيقاً للعدل واستعادة للحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية المهدرة، بعد نزف الدم الذي شهده العالم في أنحاء غزة لما يزيد على عام كامل، وتوجته إسرائيل بهدم المستشفيات وقتل البشر وترويع الأسر التي فقدت كل واحدة منها قتيلاً أو يزيد.

ثانياً: لا يوجد تناقض بين التعاليم الإسلامية والمفاهيم القومية إذ يلتقيان على مبادئ العدل والمساواة والتسامح، بل إن العروبة هي التي حملت الإسلام إلى كثير من  المناطق التي دخلها حتى ظهرت القومية العربية، ابنة الشام الكبير، لكي تكون نقطة بداية لمد قومي وحلم عربي لا يزالان يراوحان مكانهما حتى الآن، كما أننا يجب أن نعترف بأن الرقائق الحضارية والمظاهر القومية تمثل في مجملها عناصر السبيكة في شخصية المنطقة وهوية شعوبها، فلا الفرعونية في مصر ولا الفينيقية في الشام ولا الآشورية في بلاد النهرين تتناقض في مجموعها مع العروبة التي زحفت من الجزيرة العربية وانتقلت من دولة الخلافة المطلقة إلى دولة الحكم الوراثي على يد معاوية بن أبي سفيان والدولة الأموية التي ورثها بعد ذلك بنو العباس.

ثالثاً: نعترف بأن الإسلام غطاء حضاري شامل للمنطقة بأسرها ولكنه لا يقف وحده، فالمسيحية الأولى بدأت من الشام وفي فلسطين ولد المسيح عليه السلام، ولا يمكن أن نقلل من تأثير أصحاب الديانات الأخرى في المكون الشامل لهوية الأمة بعد قرون من العناق التاريخي بين ورثة الحضارات وأتباع الديانات في المنطقة العربية كلها، كما لا يمكن إهدار مراحل التاريخ بحادثة عابرة أو تغيير طارئ، فالشعوب باقية والديانات قائمة والأمة العربية تعتز دوماً بمسلميها ومسيحييها بل ويهودها أيضاً.

رابعاً: التحول الفكري لدى البشر أفراداً وجماعات أمر لا جدال فيه ولا اعتراض عليه، فالإنسان ابن ظروفه والعقل البشري لا يتوقف والتطور سنّة الحياة، ولكن الأمر في مجمله يحتاج إلى خطوات مدروسة وانتقالات محسوبة تضع في اعتبارها أسباب الظروف المتغيرة وتأثيرها في رسم صورة المستقبل وتصور أبعاده المختلفة وتخيل آفاقه بصورة عامة، وأنا هنا لا أصادر مرة أخرى على التحول الفكري الذي طرأ على قيادات دمشق من عضوية منظمات غير شرعية إلى مقاعد الحكم الرسمية في واحدة من أهم العواصم العربية، ولكنني أتحسب كثيراً لاحتمالات الارتداد الفكري الذي يكون من توابع الزلازل الكبرى في الطبيعة أو في السياسة على حد سواء، واضعين في الاعتبار أن الرواية لم تتم فصولها والحكاية لم تكتمل أركانها بعد، وقد يطول بنا الانتظار فعامل الزمن طويل وآثاره بعيدة المدى، خصوصاً عندما يتصل الأمر بالنفس البشرية وتحولاتها والعقل الإنساني وتقلباته بكل ما يؤثر فيه ويتأثر به.

وإذا كنا نتصور اليوم أن النمط التركي سيسود على الساحة السورية فإن الأمر لن يكون سهلاً، ولا شك في أنه سيأخذ وقتاً شرط حسن النيات وصدق المقاصد والفهم العميق لفقه الأولويات على ساحات الشام، وقد يمضي صراعاً مكتوماً لأعوام بين تيارات ثلاثة، أولها عروبي وثانيها تركي وثالثها إيراني، وإسرائيل ترقب في سعادة مخرجات ذلك الصراع مع ميلاد الهوية السياسة لسوريا الجديدة التي تضم شعباً أبياً ذكياً صبوراً بطبيعته وشجاعاً بفطرته، لا ينفصل أبداً عن أمته وقوميته.

هذه قراءة وصفية للأوضاع التي طرأت على المنطقة العربية خلال الأسابيع الأخيرة بعد شهور من الحرب في غزة والقلق في لبنان والترقب في العواصم العربية والشرق أوسطية كافة التي تظن أن ما هو قادم يحمل كثيراً من أسباب التغيير وعوامل التحول، فالأمم كالكائنات والشعوب مثل البشر تبدو في حراك دائم وحيوية مستمرة، والجمود ليس صفة دائمة ولا حالاً مستمرة، وما أكثر ما شهد التاريخ من تغييرات سياسية وانقلابات فكرية وتحولات اجتماعية سقطت معها نظم وقامت بها دول واستقرت حكومات، ودعونا نتأمل ما هو قادم ونأمل الخير في مستقبل أفضل لشعوب المنطقة العربية والشرق الأوسط الذي يتطلع إلى السلام والاستقرار والعدالة الدائمة، واحترام تطلعات الأمم نحو غد أفضل.

———————————-

ابتكار الجماعة السياسية/ مضر رياض الدبس

2025.01.13

يطرح هذا النص مجموعةً من الأفكار التي ترتبط بالواقع السوري اليوم، ونقاشات الساحة السورية العمومية، وأحداثها، منذ سقوط النظام البائد، ونقاربها في العناوين الفرعية الآتية:

    أولاً: الجماعات غير السياسية، والجماعات المُضادة للسياسة

ثمة في الدنيا دائماً جماعات غير سياسية أو “لا سياسية” (non-political)، ومنها بطبيعة الحال الجماعات المناطقية، والقبلية، والطائفية، والدينية، والتعاونية، وهواة جمع الطوابع، وما إلى ذلك.

هي بطبيعة الحال مسألة عادية وموجودة، لا يوجد فيها أي مشكلة، ولا يمكن أن يعترض أحدٌ على وجودها، وعلى استمرارها في التعبير عن هذا الوجود بالطرائق التي تراها ملائمة، بل إن السياسة كلها تبني ذاتها ممّا هو “لا سياسي” بالأصل، وبهذه المعنى فإن هذه الجماعات غير السياسية ضرورية للسياسة أيضاً.

وثمة جماعات مضادة للسياسة ِ(Apolitical) أو (anti-political)، وفيها تكمن المشكلة، فهذه الجماعات تعمل ضد فكرة المدينة السياسية، ولا تدع مجالاً للإنسان بأن يكون فرداً إلا بوصفه صعلوكاً منبوذاً: إنها جماعات تُحجِّم الفرد، تصهره فيها، تذوِّب حسه النقدي والجمالي وتحرمه من التفكير بوصفه ذاتاً مستقلة؛ فيصير يرى نفسه قاصراً من دون جماعته، يستسهل أن يصير تابعاً، ووسيلة لغايات الآخرين، يصير مغروراً بجماعته وذاكرتها وتاريخها وأساطيرها، يتساءل عمّا سيحدث بدلاً من أن يتساءل عمّا يمكن القيام به؛ يُطالب بالفعل بدلًا من المشاركة في صنعه، ولسان حاله يقول اعملوا لكي أحدد موقفي منكم، بدلاً من لنعمل معاً كي نخرج بشيءٍ مشترك.

الجذر المنهجي المكثّف في الجماعة المضادة للسياسة هو “كُن مثلي”، أو “اعمل مثلي لكي ألتقي معك ضد من لا يشبهنا”، ويبدو هذا مناقضاً للسياسة الوطنية الي تستند في جوهرها إلى منهجية “اعمل معي” وليس “اعمل مثلي” أو “كن مثلي”، الجماعات المضادة للسياسة هي بالضرورة جماعاتٌ مثلية، لا تستطيع العمل إلا مع من يشبهها فحسب.

كلُّ جماعةٍ تطغى فيها الـ”نحن” على الـ”أنا” هي بالضرورة مُضادة للسياسة: هذه هي بالضبط الجماعات الهُووية (من هُوية)، هي ضربٌ من البحث عن النمطية البدائية، وإعادة إنتاجها، ولا تحضر الـ”نحن” فيها إلا أيديولوجياً، فالجماعات الدينية غير سياسيةٍ، ولكنَّها بالضرورة جماعات تمهد للسياسة ولا تعاديها؛ ولكن ما أن تنجز أدلجة الدين داخلها (أي أن تحوِّل دينها إلى أيديولوجيا) حتى تصير جماعة مُضادة للسياسة، وتصير فيها المشكلة كلها؛ فغير السياسي لا يعمل ضد الوطنية، ولكن المضاد للسياسة بالضرورة يفعل.

استناداً إلى ذلك يمكن أن نقول إن الجماعات الدينية في سوريا كلها، جماعاتٌ لا سياسية، ولكنها ضرورة للسياسة، ما دامت لا ترى أن دينها أيديولوجياً، وهذا مهم، فإذا حوَّلت دينها إلى أيديولوجيا، وصار الانتماء الهُووي أقوى من الإيمان الفردي؛ فصار لها زعيماً مُقدساً، وأنجزت مقاربات منتهية للحياة من حولها، وصارت الـ”نحن” فيها مغرورة متضخمة، عندها تتحول بالضرورة إلى جماعة مضادة للسياسة، ومن ثم مضادة لفكرة الدولة وفكرة الوطن، وهذا فعلٌ غيرُ حميد، وغير مستحب، وقد يتضمن مآلات سيئة للجميع.

وأيضاً، وعلى مستوى آخر، فإننا عندما نقول إنّ الجماعة السنية في سوريا كانت حاضنة مشروع وطني، وما تزال مؤهلةً لتكون كذلك، فإننا نصنفها بوصفها جماعة لا سياسية، ولكنها لم تتحوَّل إلى مضادة للسياسة، ولأنها أكثرية عددية فهي ما تزال قادرة أن تختضن السياسة الوطنية، وأن تنتج السياسة من كلِّ اللاسياسة التي بحوزتنا.

لأنها أكثرية لها تاريخ حاضن للمشروع الوطني؛ فإن تحوُّلها إلى جماعة مضادة للسياسة أمرٌ لا يقوى عليه أحد، هذه مسألة لا خشية فيها، ولكن الخشية في الجماعات اللاسياسية الأخرى، الدينية تحديداً، من الأقل عدداً، أن تحوِّل نفسَها أمام هذا الواقع إلى مصانع أيديولوجية للانتماء على حساب الهوية الوطنية، وأن تبني لنفسها مرجعياتٍ وسردياتٍ تنافس الوطن في وجدان أفرادها. لو تم التفكير في هذا السياق مثلاً ضمن الجماعة الدرزية، أو المسيحية، أو الكردية، لتغيرت مقاربات كثيرة فيها وتطورت نحو الأفضل والأفق الأوسع.

بصراحةٍ مطلقة، نحن السوريين جميعاً، من دون استثناء، بحاجةٍ إلى أخذ لقاحٍ يحصننا ضد المثلية الجماعاتية، لأنها موجودة بيننا بوصفها وباءً مضاداً للسياسة، وقد يكون مُعدياً جداً، هذا التحصين هو امتلاك فن بناء الجماعة السياسية، وهذا تمرينٌ أول في سياسة التأسيس؛ فما هي الجماعة السياسية؟

    ثانياً: في الجماعة السياسية

تكلمنا في الجماعة الـ”لا سياسية”، وفي الجماعة المضادة للسياسة؛ فما هي الجماعة السياسية؟ هي بالضرورة جماعة يتم ابتكارها، ولا يوجد في الدنيا جماعة سياسية موروثة، أو جاهزة.

وفي صفات هذه الجماعة قد نحدد الآتي:

    الجماعة السياسية نتيجة إبداع وليست نتيجة وراثة، أو تقليد، ومن هنا فالجماعة السياسية لها جديدها الخاص، بالفعل لها نموذجها الخاص بها التي تبنيه بأيدي أبنائها.. صناعة الجماعة السياسية ضربٌ من ضروب الفن، بوصفه موهبة، وسيرورة تعلمٍ، وخبرة.

    الجماعة السياسية مرنة تتغير، ولا تبقى ثابتة كما هي بتغير الزمان وتغير الظروف والمعطيات.

    لا تنظر إلى أفرادها، ولا ينظر أفرادها إلى ذواتهم، بوصفهم رعايا لشيخٍ أو زعيم أو ظاهرة، لكن هي جماعة تسعى إلى دولة الرِعاية (بكسر الراء)، وتناهض دولة الرَعايا (بفتح الراء).

     تُسخِّر الجماعة السياسية إمكاناتها كلها لتدعم أفرادها، ترفع من شأنهم، وتدعم إبداعهم، وتحرص على راحتهم واستقلالهم وحرية ضميرهم وآرائهم وتفكيرهم، لتُخرِج منهم أجمل ما فيهم.

    العلاقات بين أفرادها لا تقوم على صهر البشر بعضهم ببعض، بل على بناء الجسور التي تحافظ على الفردية. وبنا شبكات الثقة داخل الجماعة، وخارجها.

    قادرة على بناء خط سياسي فكري واضح، يجعل التنبؤ بمواقفها إزاء القضايا ممكناً، ومن ثم يجعلها أهلًا للثقة.

    تصنع من الجماعات اللاسياسية ظاهراتٍ جميلة، بالغيرية، وبمبدأ يقوم على الإيمان بأن حقنا في الإيمان والتعبير عن إيماننا أياً كان، يمر بالضرورة من دفاعنا عن حق كل آخرٍ لا يشبهنا في الإيمان بشيءٍ لا نراه نحن صحيحاً، لكن بدفاعنا عن حقه نحن ندافع بالضرورة عن حقنا. هذه مقدمة اجتماع سياسي للمواطنة لا بد منها، وممارسة للتعددية ضرورية للسياسة.  

    ثالثاً: ماذا لو؟

ماذا لو لم يتفق السوريون؟ ماذا لو لم يكن ممكناً أن تتحقق الطموحات والآمال السياسية دفعةً واحدة؟  ماذا لو حدث نزاع مسلح داخلي بين القوى الموجودة في القيادة السياسية اليوم؟ ماذا لو أن إيران بنت أذرعاً جديدة للتخريب والتفجير؟ ماذا لو أن دولةً إقليمية أثارت البلبلة مستخدمةً منطقة سورية أو أفرادًا سوريين؟

كلُّ هذه الـ”ماذا لوَّات” ومثيلاتها طريقةٌ في التفكير السياسي في المستقبل، لها بطبيعة الحال مقارباتها على مستوى رسم السياسات إن حدثت، ولكن إزاءها كلها ما العمل؟ لا يوجد إلا نوعٌ واحدٌ من العمل الناجع لتفاديها، والتعامل معها إن وقعت، هو بناء جماعة سياسية وطنية فيها التضامن، والتجسير، وقادرة على مراكمة رأس مالٍ اجتماعي سوري وطني يكون ملجأً لكل سوري اختار وطنه، وهم الغالبية الساحقة.

إذا وصلنا إلى هنا لا يصبح الاتفاق مهماً، ولا يهدد الدولة أي اختلاف، بل على العكس تقوم الدولة على تدبير هذا الاختلاف تدبيراً سياسياً، ونصير أكثر جماعةً سياسية تجسدها الدولة.

رابعاً: في فكرة الانسجام

ثمة نقطة لافتة، ومهمة، بأن فريق الإدارة السورية الجديدة يعتدُّ بالانسجام، ويجده مسوِّغاً يتم استخدامه أمام سؤال السوريين عن اللون الواحد للإدارة المؤقتة.

وفي هذا التسويغ شيءٌ من المنطق المقبول مؤقتاً، ولكن لنفكر في الملاحظة الآتية: يبدو أن الخطاب الذي يمثِّله الشرع منسجماً مع الرأي العام السوري أكثر من انسجام هذا الخطاب نفسه مع فريقه التنفيذي.

هذا يعني أهمية أن يكون الفريق التنفيذي المؤقت منسجماً مع الخطاب والتوجه العام للإدارة، مثل انسجام أعضائه بعضهم مع بعض.

يبدو للمراقب أن السوريون بالعموم، لديهم شعورٌ بنوعٍ من الراحة الباعثة على التفاؤل بالقادم أمام هذه التوجهات وهذا الخطاب التي تتبناه الإدارة الجديدة، صحيحٌ أنه شعورٌ ممزوجٌ بالحذر والترقب، ولكن غالبية المشكلات والاعتراضات لا تأتي من هذا الحذر، بل من تصريحات وقرارات شخصيات في القيادة الجيدة ممن يفترض أنهم متشبعون بهذا التوجه، ويسعون إلى تنفيذه، ومكلفون بذلك نظرياً في المرحلة المؤقتة الحساسة.

أهم هذه الملاحظات توجد في فكرة بناء نموذج جديد؛ فيشعر المرء أن لدى بعض من المسؤولين الجدد الذين أثارت تصريحاتهم أو سلوكياتهم اعتراضات واستنكارات واسعة، نموذجاً جاهزاً، في رؤوسهم، لا ينسجم مع فكرة البناء الذي يتطلب تفكيراً وتعاوناً ومقارباتٍ عابرة للتخصصات وفن خلق الجديد.

قد يؤدي غياب الانسجام هذا إلى ولادة فكرة تستند إلى خبرة السوريين مع الجماعات الإسلامية سابقًا، بأن الانسجام بين الإسلاميين والآخرين أسهل من انسجام الإسلاميين مع بعضهم، وهذه جزئية تحتاج إلى التحقق والتدقيق: التحقق من قدرة القوى المتحالفة في الإدارة، والتيارات المختلفة ضمنها، على الاستمرار في الاتحاد لتحقيق نياتهم الجيدة التي يعبرون عنها دائماً على المستوى الرسمي، هذا التحقق ضروري في وقتٍ لا يبدو أنهم حقاً منسجمون تماماً على مستوى التشبع بالتوجهات الجديدة التي يعبرون عنها، كما هم منسجمون بوصفهم فريق.

وإنجاز هذا الانسجام من قبلهم ضروري جدًا، وحساس في هذه المرحلة، وحبذا لو أن الإدارة الجديدة تكون قد بدأت بالفعل في العمل في هذه المنطقة.

    خامساً: فكرة أخيرة مهمة

يكتب المرء في أحيانٍ كثيرة للسبب نفسه الذي يجعله يقرأ: أي ليفهم، وهذا يكون أكثر في كتابات النظرية السياسية والواقع السياسي، ومن ثم يكتب المرء أيضاً للمساهمة في تجنب وقوع أمرٍ سلبي يتوقعه؛ فتصير الكتابة عملًا ضد الاحتمالات السلبية في الرأي، أي أن الكتابة تصير فعلًا يسهم في منع تحقق بعض توقعات الكاتب نفسه، وليس تعزيزها.

هدف الكتابة في هذه الحالة ترجيح احتمال عدم تحقق السلبي في المستقبل، أو تفادي حدوثه، تصير العملية كلها وكأنها فعلٌ يشبه التطعيم قبل توقُّع الوباء، فلأن المرء يتوقَّع الإصابة بالوباء فإنه يكتب ويعمل كي لا تتحقق توقعاته؛ فيقوم بأخذ اللقاحات ونصح الآخرين بها.

هذا التمرين مهمٌ جداً في سوريا اليوم؛ فإذا استقر رأينا مثلًا أن سلوك جهة معينة في سوريا سيؤدي إلى كارثة؛ فلا ينبغي أن ينصب اهتمامنا على تقديم الأدلة للآخرين بأن رأينا أو تنبؤنا هذا صحيح، وأنه بدأ يقع بالفعل، من ثم ننتظر إلى حين وقوعه لنقول بفخرٍ “ألم نقل لكم”؛ بل الأجدر أن نعمل على النقيض من ذلك؛ أي أن نسعى إلى تغيير المقدمات التي قد تؤدي إلى الأسوأ، وتفادي كل شيء سلبي نتوقعه، معظم أفكار هذا النص، وأفكار أخرى سابقة طرحها كاتب هذه السطور، تأتي في هذا السياق.

———————-

عن البلاد التي تنسج سلامها بصبرها/ وفاء علوش

2025.01.13

مثل عادتها تبرع سوريا في جمع المتناقضات لكنها تبرع أيضاً في تقديمها بحلّة عصية عن المقارنة بغيرها من الحالات.

في كل بيت سوري اليوم ربما فرح ومأتم في آن، لكن هذه البيوت ببساطة تحيا في الشعورين معاً قصة ألم تتوق إلى الأمل، وكل نفس يتألم يتبعه صوت ينادي بالتسامح والمصالحة ويرغب ويصلي ألا يتكرر هذا الواقع مرة أخرى، وألا يعيشه أحد من السوريين بعد الآن.

في تعريفه الجامد يعد السلم الأهلي حالة من التعايش السلمي بين أفراد المجتمع بمختلف مكوناته الثقافية، الاجتماعية، والدينية، حيث يسود الاحترام المتبادل والتفاهم، وتُحل الخلافات بطرق سلمية بعيدة عن العنف أو النزاعات، ويبدو أن كل ذلك كان في حالة غياب عن المجتمع السوري في زمن حكم الأسدين بسبب التشوه المجتمعي والقيمي الذي كان سائداً.

لا يعد المجتمع السوري في جوهره عنيفاً وينزع أبناؤه إلى السلم ولا يميلون إلى ثأر أو تحقيق انتقام وتطبيق عنف على الآخر، لكن ذلك يبدو من الصعوبة بمكان بسبب ما خلفه النظام الأسدي من حالة عنفية في المجتمع، إذ جرّد السوريين من إنسانيتهم وجعلهم يضطرون إلى التعامل بقانون الغاب وهذا ما اضطر كثير منهم إلى التكشير عن أنيابه وسن مخالبه من أجل حماية وجوده من أي تهديد محتمل.

ها قد مر شهر اليوم ولم نر ما توقعه العالم من انتشار حالات عنف وانتقام، ولم نشاهد برك الدماء في الشوارع مثلما توقع العالم لنا وربما مثلما خطط، لقد استطاع السوريون بصبرهم وحلمهم احتواء الأمر والسيطرة على كثير من مشاعر الغضب والاحتقان المخفية وهذه تحسب لهم لا عليهم.

لا يمكن أن تكون أي حالة مثالية بكل تأكيد، وقد ظهرت حالات شوهت الصورة المثالية التي تمنى السوريون استمرارها كي لا تنغص عليهم فرحاً انتظروه سنيناً، وعلى أن ما حدث كان متوقعاً ويعد أمراً طبيعياً بعد سنوات من العنف الذي امتصه السوريون في أجسادهم وتوارثوه فيما بعد، لكن تلك الحالات كانت في حدودها الدنيا ولم تشكل حالة سورية عامة قط.

يحتاج السوريون اليوم الوصول إلى حالة من التشافي والتعافي ليس من أجل تحقيق السلم الأهلي فحسب، بل إننا بحاجة إلى علاجات مستمرة ومديدة، من أجل مقاربة ما يحدث في دواخلنا من مشاعر متناقضة للسلام النفسي، كي نستطيع الاندماج في الحياة والعالم الخارجي من دون رضوض داخلية وخارجية ومن دون عطب نفسي مزمن.

في مقاربة بسيطة لمحددات السلم الأهلي في مجتمع ما، مثل العدالة الاجتماعية وتقبل الآخر ووجود قوانين عادلة وتعليم جيد ونشر ثقافة التسامح مع وجود تنمية اقتصادية واجتماعية، نجد أن تلك العوامل لم تكن موجودة على الإطلاق في حقبة الحكم الأسدي، وعلى الرغم من الخوف الذي عاش مع السوريين وتعايشوا معه إلا أن ذلك لم يجعل من الأرض السورية جاذبة للعنف أو مصدّرة له.

ليس السلم الأهلي مجرد غياب للنزاعات، بل هو بناء ثقافة تُشجع التعايش والتعاون في ظل بيئة يسودها السلام، ولأن الحالة السورية تتسم بخصوصية عالية تجعل منها تحت المجهر العالمي بعد سقوط النظام، من المفيد ألا نتعامل معها على أنها حالة خالصة التعقيد ومن غير المقبول اعتبارها قنبلة موقوتة تحتاج رعاية وعناية، بما يتيح لأذرع المجتمع الدولي بالتدخل من أجل فرض وصاية معينة واستنساخ نماذج مشوهة في المنطقة.

يتطلب تحقيق السلم الأهلي مقاربة شاملة تعتمد على معالجة الأسباب الجذرية للنزاع، وبناء أسس للتعايش السلمي، بتعزيز العدالة الانتقالية ومحاسبة المسؤولين، لكن ذلك لا يمكن أن يتقدم قيد أُنملة من دون الاعتراف المجتمعي بالمظالم وردها وتعويض الضحايا، حتى نستطيع صناعة سلم أهلي حقيقي غير مزيف أو معجون بالاحتقان وجاهز للانفجار في لحظة أو أخرى، يتبع ذلك بناء ثقة بين الأطراف يستطيع بعدها السوروين تجاوز الماضي المؤلم.

ليس علينا أن نعوّل في مثل هذه الحالة سوى على السوريين فهم وحدهم من يستطيعون ردم الهوة بين بعضهم بعضاً، ووحدهم قادرين على تضميد جراحهم والنهوض مجدداً من أجل بناء المؤسسات وصناعة نظام سياسي يليق بتاريخ الثورة السورية وتضحياتها، وبناء دولة قانون ومواطنة تجمع السوريين تحت سقفها، في حين تتولى الدولة مسؤولية تحقيق التنمية الاقتصادية وتعزيز التماسك الاجتماعي عن طريق برامج التوعية ودعم الفئات المهمشة بمنحها صوت للفئات التي تضررت أو كانت مهمشة خلال الحرب.

تعد عملية تحقيق السلم الأهلي عملية طويلة تحتاج إلى الصبر والتعاون بين جميع الأطراف، فالمفتاح الأساسي هو بناء مستقبل مشترك يحترم الحقوق ويضمن العدالة والمساواة للجميع، أما المجتمع الدولي الذي يتربص اليوم من أجل مد أذرعه على شكل ضمان لحماية السوريين، فلا مطلب للسوررين منه سوى المراقبة والدعم من دون فرض وصاية بذرائع واهية تحقق مطامع خاصة به.

من نافل القول إن أي محاولة لتجاوز مراحل تحقيق السلم الأهلي قد تجعل الوضع في سوريا معقد للغاية في حال غياب العدالة الانتقالية التي تعد أساس السلام، وهو ما يلزم اتباع استراتيجيات متعددة الأبعاد تأخذ بعين الاعتبار التعقيدات المحلية والإقليمية والدولية.

وعلى الرغم من صعوبة تطبيق العدالة الانتقالية في الوقت الراهن، إلا أن هناك خطوات أولية يمكن اتخاذها بتشكيل لجان محايدة لتوثيق الانتهاكات تعمل على جمع الأدلة وتوثيق الجرائم من دون انحياز لأي طرف.

ولكن الاعتراف العلني بالمظالم ومعاناة الضحايا يبقى هو الخطوة الأهم نحو بناء الثقة، يماثله في الأهمية توفير ضمانات لعودة اللاجئين بشكل آمن وكريم إلى مناطقهم، وتحقيق خطاب وطني جامع يركز على الهوية السورية المشتركة.

لا بد هنا أيضاً من تمكين المبادرات المحلية بدعم المنظمات المحلية التي تسعى لتعزيز التعايش وإعادة بناء النسيج الاجتماعي، وتحقيق برامج المصالحة المجتمعية بإطلاق مبادرات محلية تعمل على جمع المجتمعات المتناحرة وتخفيف الاحتقان تدريجياً.

بالتزامن مع إجراءات تدعم الفئات الأشد تضرراً وتأمين عودة النازحين واللاجئين عودة آمنة وكريمة، مع السعي الحثيث لإيجاد توافق دولي يضع حداً للتدخلات الخارجية السلبية، ولا يخفى على أحد أهمية برامج دعم نفسي الجماعي والفردي للمجتمعات التي عانت من الحرب من أجل تحقيق تعافي نفسي يكون هو اللبنة الأساسية لتحقيق التعافي المجتمعي فيما بعد.

إن تفعيل آليات السلم الأهلي في الحالة السورية يتطلب مراعاة التعقيدات المحلية المرتبطة بالطبيعة الطائفية، السياسية، والعرقية للنزاع، بالإضافة إلى آثار التدخلات الدولية، ولكن مثل هذه الإجراءات تحتاج إلى وقت وصبر، إذ يتطلب الوضع معالجة تدريجية وعميقة لموروثات الحرب والانقسامات، مع بيان أن المفتاح الرئيسي هو اعتماد حلول عملية تراعي الواقع على الأرض، مع ضمان مشاركة مجتمعية واسعة ودعم دولي متوازن لتحقيق الاستقرار المستدام.

لقد شهدت دول عدة نزاعات معقدة تشابه الحالة السورية في تعقيداتها، ونجحت إلى حد كبير في تحقيق السلم الأهلي والاستقرار النسبي، من خلال عمليات مصالحة شاملة وآليات العدالة الانتقالية مثل رواندا (1994)، البوسنة والهرسك (1992-1995)، جنوب أفريقيا (1994)، كولومبيا (1964-2016).

وعلى الرغم من التحديات، يمكن للحالة السورية أن تستفيد من هذه التجارب إذا توفرت الإرادة السياسية والتعاون بين القوى المحلية والدولية، فالسلم الأهلي ليس مجرد غاية، بل هو السبيل لإعادة بناء ما تهدم، وإحياء الأرواح التي أرهقتها الحروب، إنه وعد الأمهات لأبنائهن بغدٍ آمن، ورجاء الأطفال بعالم لا يسمعون فيه سوى ضحكاتهم.

إن أكثر امتحانات السوريين صعوبة اليوم أيضاً هو كسر حلقة العنف وعدم التجاوب مع الاستفزازات التي قد تتكرر، كما إن تحقيق السلم الأهلي -مسؤولية مجتمعية تقع على عاتق الجميع من دون استثناء- وهو الاختبار الأصعب من أجل تعايش سلمي حقيقي في سوريا لا تشبه سوريا الأمس، ذلك أن السوريين اليوم في أمسّ الحاجة لبعضهم بعضاً، أكثر من حاجتهم لحماية المجتمع الدولي أو لطلب الوصاية والرعاية من أي جهة كانت.

تلفزيون سوريا

——————————-

سجناء صيدنايا الجهاديون بين صورتين/ حسام جزماتي

2025.01.13

في العقد الأول من حكم بشار الأسد استعاد ناشطو حقوق الإنسان في سوريا بعض أنفاس الحياة فأسسوا، رغم المضايقات الأمنية التي لم تتوقف، جمعيات ومنظمات، ودافعوا عن المعتقلين السياسيين أمام «محكمة أمن الدولة العليا»، ونقلوا ما كان يجري في داخلها إلى الإعلام. والملاحظ في التقارير والبيانات التي صدرت عنهم في تلك المرحلة ورود أسماء عابرة سيكون لها شأن لافت بعد اندلاع الثورة.

ففي أحد التقارير السنوية، وتحت عنوان «نماذج من الاعتقالات العشوائية»، ورد أن أجهزة الأمن في اللاذقية اعتقلت «الطالب الجامعي» محمود علي طيبا دون معرفة الأسباب. علينا أن ننتظر سنوات حتى يظهر الرجل بلقب الشيخ «أبي عبد الملك الشرعي» البارز في «حركة أحرار الشام الإسلامية» ويُقتل، مع رفاقه من قيادات الجماعة في التفجير الشهير في عام 2014، ثم تظهر ترجمته؛ لنعرف أنه طالب في «الجامعة الإسلامية» بالمدينة المنورة حيث «كان مهتماً بدعوة الطلبة، فانتشر على يديه الفكر الجهادي بين مختلف الجنسيات في الجامعة، والتحق كثير من الطلاب بالجهاد في ساحة العراق»، كما يقول كاتب سيرته الذي يتابع أن المخابرات السعودية استدعت طيبا للتحقيق معه فعاد إلى سوريا حيث اعتقل وحُكم عليه بسبع سنوات قضى أكثرها في سجن صيدنايا.

تحت العنوان نفسه يذكر التقرير أنّ أجهزة الأمن في حماة اعتقلت «باحثين ومتخصصين في الدراسات الشرعية» نعثر بينهم على اسم محمد عبد الوهاب العمادي، ممرض التخدير في المشفى الوطني كما توضح جمعية حقوقية أخرى. وكذلك سينال العمادي حكماً بالسجن لخمس سنوات، ما عدّته لجنة لحقوق الإنسان حكماً جائراً بسبب صدوره عن محكمة استثنائية تتلقى تعليماتها من أجهزة المخابرات التي تعتقل المواطنين بصورة تعسفية خارج إطار القانون. وأيضاً وصل العمادي إلى سجن صيدنايا حيث عُرف بكنية أبي عبيدة. ثم اشتهر بلقب أبي جابر الحموي بعد دخوله «جبهة النصرة» التي استلم هيئتها الشرعية في حلب. وفي عام 2017 قُتل بقصف جوي يُعتقد أنه أميركي وهو في منصب القاضي الشرعي الذي يمثل «هيئة تحرير الشام» في محكمة «جيش الفتح» بإدلب.

قل مثل ذلك عن الجهادي المثير للجدل نديم سهيل بالوش. إذ أوردت إحدى المنظمات المحلية لحقوق الإنسان خبر الحكم عليه بالسجن عشر سنوات، ستقوده إلى صيدنايا أيضاً، بصيغة أن «محكمة أمن الدولة» حكمت على أربعة طلاب جامعيين من محافظة اللاذقية بتهم إسلامية، منهم بالوش «الطالب في هندسة الميكانيك»، وعلى الثلاثة أبناء قضيته بالسجن سبع سنوات. رغم أن بالوش كان قد انخرط بالفعل في محطة خارجية من «تنظيم القاعدة» من خلال علاقته الوطيدة وقتئذ بالجهادي السوري لؤي السقا.

وسوى حالات الأفراد هذه، التي يمكن التقاط الكثير منها بمراجعة سجلات المحاكم السياسية في ذلك العِقد، مالت منظمات حقوق الإنسان العاملة في البلاد إلى تكذيب الحوادث التي كانت السلطة تنسبها إلى مجموعات جهادية محلية هنا وهناك. وعدّت الحملات التي تحدث بعدها مجرد إجراءات قمعية تعسفية تطول معتقلين إسلاميين لا توجد «مؤشرات تدل على وجود روابط تنظيمية سياسية فيما بينهم»، كما عبّرت إحدى هذه المؤسسات عند الحديث عن تنظيم «جند الشام» الذي ساد في الأوساط السياسية السورية المعارضة إنكار وجوده، كما هي الحال مع تنظيمات جرى الإعلان عن كشفها قبله أو بعده. لكن الذين اعتقلوا في سجن صيدنايا في تلك المدة، وخاصة زمن استعصائه الشهير في عام 2008، التقوا فعلياً بأبناء هذا التنظيم الذي كان كبيراً وجرى التوسع في احتجاز أعضائه ومحيطهم الاجتماعي لمنافسة أمنية بين شعبتي المخابرات العسكرية والأمن السياسي.

والحق أنّ أسباباً وراء هذه الالتباسات؛ أولها بالتأكيد عدم الثقة بالنظام وبنتائج تحقيقاته الأمنية وأحكام قضائه السياسي خاصة، وغياب الشفافية في الاطلاع على كامل ملفات القضية وحرية الحصول على المعلومات من المتهم. ولذلك لجأت الجمعيات الحقوقية إلى الإنكار التام، المستند إلى أقوال خائفة صدرت عن المعتقل أو عن ذويه، لمواجهة فيض التأويلات المفرطة التي تعدّ التجمع المتواتر انتساباً إلى جمعية تهدف إلى تغيير كيان الدولة الاقتصادي والاجتماعي بالعنف، والتعبير عن رأي معارض وهناً لعزيمة الأمة، إلى آخر سجل الجرائم المزعومة الواقعة على أمن الدولة.

لم يكن بالإمكان، إذاً، أن يصدّق المحامون على أي جزء من التهم الموجهة إلى موكليهم، لئلا يسلموهم لافتراس القاضي فايز النوري، الذي يحكم عليهم بناء على الاعترافات المأخوذة في أجهزة الأمن على كل حال، مما أسهم التعذيب في انتزاعه. فضلاً عن أن هؤلاء المحامين كانوا ينظرون إلى مهمتهم الحالية كامتداد حقوقي لنشاط سياسي سابق أو مواز.

يمكن فهم كل ذلك في سياقه دون تسويغه بالضرورة، ودون تبرير الاعتقالات وما يتلوها من تنكيل وأحكام غير قانونية بالطبع؛ لكن ما يثير الاستغراب هو أن هذه البيئة نفسها من ناشطي المجتمع السياسي والحقوقي والمدني هي من سارع إلى الاعتراض على الإفراج عن سجناء صيدنايا الجهاديين، ونظرت إليه على أنه مؤامرة خبيثة من النظام تهدف إلى أسلمة الثورة وتسليحها وحرفها عن مسارها والقضاء عليها عبر إطلاق هؤلاء الذين أصبحوا، فجأة، رجالاً خطرين بسوابق جهادية إرهابية وخبرات تنظيمية عالية، بعد أن كانوا، من وجهة نظر الأشخاص أنفسهم، مجرد طلاب أبرياء وقعوا بالصدفة، أو بتقرير كيدي، في براثن الأمن!

وإذا قيل إن الجهاديين المفرج عنهم كانوا شباناً أغراراً عند الاعتقال واشتد عودهم أثناءه بفعل «صناعة الإرهاب» في صيدنايا فإن هذا لا يصح في حالة الأسماء التي ذكرناها، وغيرهم الكثير من أندادهم الذين كانوا شرعيين نشطين في السجن ثم حركيين فاعلين بعده.

تلفزيون سوريا

————————-

ملاحظات/ محمد العبدلله

عن طلاّب السلطة… الكلاب!

ضمن حفلة التخوين الحافلة التي يتعرض لها الكثير من السوريين والسوريات اليوم لمجرد قول رأي مخالف لرأي السلطة الجديدة في دمشق، ظهرت تهمة جديدة تضاف إلى القائمة إياها (فلول، ثورة مضادة، إمارات، بني علمن…إلخ)، التهمة هي “طلاب سلطة”.

ظهر أحد التافهين على الإعلام ووصف من يخالفه الرأي بموضوع العقوبات بأنهم “طلاب سلطة” ويرغبون بالحصول على جزء من السلطة.

لذلك رغبت بتحليل هذه التهمة الشائنة علنا نصل إلى حكم مناسب بحق هؤلاء المجرمين الكلاب؛ طلاّب السلطة!

الحقيقة أن فكرة “طلب السلطة” أو الرغبة بالمشاركة بالسلطة في أي بلد، ليست فقط أمراً مباحاً ومسموحاً ومطلوباً ومشجَعاً، بل ربما هي صلب وجوهر العمل السياسي في أي بلد.

طرف لا تعجبه إدارة السلطة لبلاده فيقرر المنافسة وطرح برنامج سياسي موازٍ، إن كان في السياسة الخارجية أو ملفات الهجرة أو الإقتصاد وغيرها. آلاف السوريين يعيشون هذه الحالة في ألمانيا اليوم التي تقف على أبواب انتخابات هامة، ويرون كيف تتنافس الأحزاب في برامجها السياسية وكيف تتداول السلطة بينها بالانتخابات.

ذات الأمر يحصل في الولايات المتحدة، يرفض الجمهور برنامج حزب ما، مثل الحزب الديمقراطي، فيطرح طلاب السلطة (ترامب) أنفسهم ببرنامج انتخابي يحقق مطالب الشارع، ويفوز بالانتخابات ويستلم السلطة لمدة أربع سنوات، وهكذا دواليك!

المنافسة السياسية، شأنها شأن المنافسة بين الشركات والماركات، قد (ركزوا على قد) تقود إلى نتيجة إيجابية للبلاد وينتصر الطرف المؤهل لإدارة البلاد.

هل مطالب الشارع محقة دائماً أو صحيحة وهل يصل الطرف الأفضل للبلاد للحكم دائماً؟ طبعاً لأ! قد يصل أشخاص شعبويين أو انتهازيين أو خبراتهم السياسية ضعيفة لمجرد أنهم نجحوا باخافة الجمهور من ملف ما مثل الهجرة. أو يصل طرف “حالم” يرغب بطاقة نظيفة وحماية البيئة (مثل حزب الخضر في ألمانيا) لكن تجبره حرب أوكرانيا على إعادة تشغيل المفاعلات النووية لتوليد الطاقة!

رأيي المتواضع، أن الشارع، شأنه شأن السوق، “يصحح نفسه”. من أهم نظريات الاقتصاد في العالم أن تترك الأمور للسوق ليصحح نفسه دون أي تدخل من الدولة، فيلعب العرض والطلب دوراً في تصحيح الأوضاع الاقتصادية (نظرية اقتصادية مبسطة قليلاً.)

ذات الشيء في السياسة، يصل طرف للسلطة ويفشل في تنفيذ الوعود التي قطعها، يغضب منه الشعب وينفض من حوله ثم يبدأ بعض “الكلاب” من طلاب السلطة بترتيب برنامجهم السياسي ليفوزا بالسلطة. وبالتالي يتبادل الطرفين الأدوار، حكام اليوم هم “كلاب” الغد وهكذا!

الهدف الأساسي والمحوري لأي حزب سياسي في أي بلد في العالم هو المنافسة على السلطة. طرح أفكار وبرامج سياسية تقود البلاد للأفضل. تقديم نظريات سياسية أو اقتصادية تنافس الحزب الحاكم وتقود البلاد لمكان أفضل.

الاستثناء الوحيد الذي عرفته في حياتي عن أحزاب سياسية مهمتها تأييد الحزب الحاكم والترويج له، بل والتصويت لرئيس الحزب الحاكم، هي أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية! هناك أحزاب “مرخّص” لها لتمارس دورها، لكن غير مسموح لها بالمنافسة على السلطة. تشترك في البرلمان أو مجلس الشعب، ولها مكاتب سياسية ونواب وقيادات، لكن “مخصية” سياسياً ولا يسمح لها بالمنافسة على السلطة. أحزاب سياسية بدون “الكلاب”؛ طلاب سلطة!

لذلك اليوم في سوريا على أي طرف يرى أن أحمد الشرع غير ناجح أو غير مؤهل لقيادة البلاد أو أن تاريخه السياسي لا يصب في مصلحة الشعب السوري، عليه أن يشكل حزباً سياسياً ويطرح برنامجاً سياسياً ينافس السلطة القائمة. ربما لا ينجح بهزيمتها لكن قد يدفعها للعمل بجهد أكبر وأمانة أكبر ويضغط عليها لتنال رضا الشارع.

من يتهم الناس أنهم طلاب سلطة كلاب، عملياً يقول لهم أن الطريق الوحيد للوصول للسلطة هو السلاح؛ الإنقلابات العسكرية مثلاً. أو ببساطة شخص تربية “الجبهة الوطنية التقدمية”، لا أكثر ولا أقل!

طبعاً تفصيل أن الإدارة القائمة في سوريا تدير مرحلة إنتقالية فقط وستنافس، شأنها شأن باقي الأطراف (ولو نظرياً) على السلطة، سقطت من حسابات التافه ملقي التهم!

بعد حملة الشتائم بحق هؤلاء الكلاب، طلاب السلطة، في مكالمة قصيرة مع شقيقتي، سألتني لماذا لا تكتب أنك لست مؤهل قانوناً للعب أي دور في سوريا. باعتبار أني سوري من أب سوري وأم لبنانية. الدستور السوري والقانون السوري لا يسمح لنا بأي دور في أي منصب رسمي في سوريا. عل هذا يهدئ من حمقة التافه موزع التهم وصكوك البراءة!

رغبت في السابق أن أكتب عن أمي وعن رحلتها وحياتها بين الفروع وسجن صيدنايا، تبحث عن زوجها وولديها المفقودين، وصولاً لوفاتها وحيدة مع أختي، زوجها في سجن وولدها في سجن آخر وكبيرها في المنفى. لم يخطر لي أني سأكتب يوماً عن جنسيتها، التي قد تساعد بإسقاط تهمة “الكلاب، طلاب السلطة”، عني.

ببساطة، شخص سوري عنده رأي بقضايا وطنه، لا أكثر ولا أقل!

الفيس بوك،

————–

خواطر بقلم الأكاديمي الدكتور وائل مرزا

سوريا: من أسلمة (الثورة) إلى ثورةٍ في (الإسلام)

على مدى أعوامٍ من عمر الثورة السورية، باتت (أسلمةُ) هذه الثورة (حلماً) لدى البعض و(كابوساً) لدى البعض الآخر.

واليوم، مع تحرير سوريا، تعود الثورة الولاﱠدة لتفرض منطقها وبرنامجها وأجندتها الخاصة، بعيداً عما يتمناه الكثيرون. فباستقراء سنن الاجتماع البشري وقوانينه، لايبدو أن الحلم، بشكله التقليدي، سيتحقق، ولا يلوح أن الكابوس، كما هو في ذهن أصحابه، سيزول.

فكما يبدو مستحيلاً إلغاءُ الطابعٍ الإسلامي المتعلق بسوريا ومستقبلها، يبدو مستحيلاً أيضاً إلغاءُ تنوعها الثقافي والقومي والديني، وحشرُها في فهمٍ محدد للإسلام ترسمهُ فئةٌ أو مجموعةٌ أياً كانت.

بدلاً من هذا وذاك، تبدو ثورة التحرير متجهةً بسوريا وأهلها نحو نقطةٍ وَسَطْ بالمعنى الحضاري والإنساني، لا بمقاييس الهندسة والرياضيات. نقطةٍ تليق بتاريخها وثقافتها وهويتها الحقيقية أكثر بكثير من الموقع الذي يريد أن يجرﱠها إليه هؤلاء وأولئك.

يحدث هذا ببطء كما هي العادة في مثل هذه الظواهر، وبشكلٍ لايراه بَصرٌ مُستعجل ولا بصيرةٌ مشوهة. فمثل هذه التغييرات الكبرى في واقع الدول والحضارات تحدث بأثر فعلٍ تراكمي يُدرك البشرُ في نهاية المطاف أنه كان يسير في اتجاهٍ يعاكسُ كل مايوحي به ضجيج الأحداث الآنية وصخبُها المُلتبس في ذاته من جانب، والذي يدعو للالتباس من جانبٍ آخر.

قد يكون الأمر في وجهٍ منه أحد التفسيرات لتعقيد القضية السورية وطول مسيرتها وكثرة اللاعبين في شؤونها. بمعنى أنها فعلاً ظاهرةٌ حضاريةٌ كبرى سيكون لها شأنٌ في التاريخ الإنساني، وليست حدثاً عابراً فيه.

من هنا يأتي الحديث عن احتمال أن تقودَ ثورةُ سوريا، وانتصارها الراهن، إلى ثورةٍ حقيقيةٍ في فهم الإسلام وتنزيله على الواقع، أكثرَ من أن تؤدي إلى أسلمةٍ يجري الحديث عن مظاهرها وتجلياتها بشكلٍ معروف اليوم، لاحاجة لتكرار التفصيل فيه.

الفيس بوك

———————————-

سوريا الجديدة… كثرة طمأنة الأقليات غير المُطَمْئِنة/ حسن عباس

الاثنين 13 يناير 2025

في تصريحاته ومقابلاته، لا يُطَمْئِن “قائد الإدارة السورية الجديدة” أحمد الشرع، كما حال غيره من المعيَّنين لإدارة المرحلة التي أعقبت سقوط النظام السوري، الأقليات فقط، بل يمكن القول إنه يبالغ في الأمر. وإنْ كان كثيرون يرون في ذلك رسائل إيجابية تدلّ على اقتراب بزوغ نظام حكم يحترم حقوق الأقليات وخصوصياتها، إلا أن هذه المبالغة غير مُطَمْئِنة البتّة لأسباب كثيرة.

نفي المسألة الطائفية

بدايةً، يؤسس الشرع خطابه المُطَمْئِن للأقليات على نفي المسألة الطائفية في سوريا، إذ يرسم صورة لشعب سوري كان يعيش منذ قرون ومنذ آلاف السنين على أرض سوريا بحب ووئام وانسجام إلى أن جاء نظام الأسد وأحدث شرخاً في نسيجه. والمشكلة هنا ليست فقط في أنه يمحي من التاريخ كماً هائلاً من الصراعات والمعارك بين المجموعات الطائفية الموجودة حالياً داخل حدود الدولة السورية، وبعضها دارت رحاه في دولة سوريا المستقلة قبل حكم البعث، ومخلّفاتها في المجتمع، بل تكمن في أن نفي وجود المسألة الطائفية لا يمكن أن يؤسس أرضية صالحة لحلّها، كونها تُعتبر غير موجودة أساساً.

وعندما يعلن الشرع أن “لا أحد يستطيع أن يلغي الآخر” في سوريا، لا يشرح فهمه لمفهوم “الإلغاء”، فهل هو إلغاء سياسي مثلاً أو ماذا؟ ومن متابعة التفاصيل القليلة المرتبطة بأحاديثه ذات الصلة، لا شيء يدعم فرضية أن فهمه له يتضمّن إشراك الأقليات بفعالية في رسم ملامح سوريا الجديدة ولاحقاً في إدارتها، إذ لا يتجاوز فكرة الإلغاء الجسدي أو فرض التحوّل الديني القسري على غير المسلمين السنّة. فعندما يريد إثبات صدق حديثه عن احترام حقوق الأقليات يضرب مثلاً بأن “هذه الطوائف بقيت موجودة” عندما دخل جنود هيئة تحرير الشام إلى مناطقها مؤخراً.

ذات التوجّه يُلاحَظ أيضاً في أحاديث تطمين الأقليات التي صدرت عن مسؤولين آخرين في الإدارة السورية الجديدة، فنقرأ عن معاملتهم بموجب “مبدأ الرحمة” الإسلامي الذي يتضمن منحهم الأمان على دمائهم وأموالهم وأرزاقهم وأماكن عباداتهم، كما قال المتحدث باسم إدارة الشؤون السياسية في دمشق عبيدة أرناؤوط، وكأن هذه “الضمانات”، وهي في الحقيقة أقل الحقوق، كفيلة بإيجاد الحلول لكل أبعاد المسألة الطائفية في سوريا، وفي ذلك فهم أكثر من تبسيطي لها.

ومما يزيد التخوّف من المبالغة في طمأنة الأقليات ويثير التوجّس من فكرة عدم العناية بتمثيلها بشكل فعلي في سوريا الجديدة كيفية استخدام مفهومين هما “الكفاءة” و”المحاصصة”. للوهلة الأولى، يبدو طرح مسألة اعتماد الكفاءة ورفض تحويل النظام السياسي إلى نظام محاصصة إيجابياً، ولكن أي مفهوم لا ينفصل عن كيفية فهم مستخدِمه له، والشرع يستخدم مفهوم المحاصصة كمفهوم ضدّي لإجراء تعيينات “من لون واحد”، كما يبرّر كل التعيينات التي أجريت مؤخراً في سوريا بأنها أتت مراعيةً لمفهوم “الكفاءات” رابطاً بين الكفاءة وبين اختبار الأشخاص في مرحلة عمل مشترك سابقة، ولا مرحلة عمل سابقة يمكن أن يشترك أحدهم فيها معه إلا تجربة حكم إدلب.

“الحوارات” المُجرَّمة

عوضاً عن النظر إلى المسألة الطائفية كإشكالية لا يمكن تأسيس سوريا جديدة مستقرة بدون التعامل معها بشكل مُرضٍ لكل المكوّنات السورية، يعتبر الشرع أن “التدقيق على هذه المسألة هو ما سيثير الفتنة داخل سوريا”، أي أن الحل الأنسب برأيه هو تركها لتحلّ نفسها بنفسها.

ويذهب شادي الويسي، المعيّن مؤخراً وزيراً للعدل في الإدارة السورية الجديدة، خطوة أبعد من التوصية بعدم إثارة هذه المسألة، فيهدد بتجريم الحديث عنها من الأساس، مصرّحاً بأن “جميع الحوارات الطائفية التي تخرج الآن على العلن أو التي تقال الآن في الأروقة بين المجتمع هي محل تجريم”، بدون أن يميّز بين الحديث عن الطوائف الهادف إلى تحديد موقعها في سوريا الجديدة وبين خطابات بث الكراهية أو التحريض على العنف مثلاً.

حكم إسلامي باسم الشعب؟

بالحديث عن سوريا الجديدة وعمّا إذا كانت ستكون دولةً مدنية أو دينية، وهذه نقطة أساسية لدى الأقليات، خرج الكثير من الإشارات غير المطمئنة. وإنْ كان الشرع يكتفي بالحديث عن الموضوع بشكل عمومي مثل قوله إنه سيكون هنالك حكم “متناسق مع ثقافة البلد وتاريخه”، ونستطيع أن نستنتج أن قصده تلطيف الحديث عن واحد من أشكال الحكم الإسلامي، إلا أن زملاءه في الإدارة الحالية يذهبون خطوات أبعد منه في هذا السياق.

وتتعدد أشكال الدفاع عن الحكم الإسلامي القادم، غير المصرّح به علناً، بين أحاديث من نوع أن مَن يتخوّف من تيار ديني “لا يفهم حقيقة الإسلام وسماحة الإسلام وعدالة الإسلام”، حسبما قال رئيس الحكومة السورية المؤقتة محمد البشير، وأخرى من نوع استنكار الاعتراض على تحكيم الشريعة، كما في إجابة وزير التربية نذير القادري عن سبب حذف كلمة قانون من المناهج السورية المعدّلة والاكتفاء بمصطلح الشرع، فبرأيه المصطلحان مترادفان، كما أن استبدال مصطلح “المغضوب عليهم والضالين” باليهود والنصارى مبرَّر كونه يتوافق مع “تفاسير العلماء”.

وربما كان وزير العدل شادي الويسي الأكثر وضوحاً في هذا الصدد، وبالتبعية الأكثر إثارة لقلق المهتمين بحقوق الأقليات السورية وحرياتها وخصوصياتها، فعند سؤاله عن حديث له عن “تحكيم شرع الله” أطلقه بعد إسقاط الأسد، أجاب بوضوح شديد: “حوالي 90% من الشعب السوري هو شعب مسلم… وما يريده الشعب يقرّ في البرلمان (القادم)… إذن، حالة تحكيم الشريعة سيكون لها دور رئيسي في المرحلة القادمة… هذا خيار الشعب… داخل هذا الإطار نقول إن تحكيم الشريعة سيكون ضمن هذا المفهوم”، مضيفاً أن تحكيم الشريعة ليس تسلطاً على الشعب فالشعب هو مَن سيختارها بنفسه.

في الواقع، وبحسب تقديرات وزارة الخارجية الأميركية، 74% من سكان سوريا هم من المسلمين السنّة، وينقسمون عرقياً إلى عرب وأكراد وشركس وشيشان وتركمان. وتشكّل المجموعات المسلمة الأخرى من علويين وإسماعيليين وشيعة ودروز نحو 16%، فيما تبلغ نسبة المسيحيين 10% غالبيتهم هاجرت بسبب الحرب، مع وجود أعداد قليلة من الأيزيديين والبهائيين والأحمديين.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مشكلة حديث الويسي المذكور هي في أنه يبني فكرته عن الحكم في المجتمع السوري المتنوّع على العددية، وهذا لا يمكن أن يتفق مع فكرة حقوق الأقليات التي تفترض نوعاً من توافقية تتجاوز مجرّد الركون إلى “ديكتاتورية العدد”. وإذا قُرن هذا الكلام مع غموض الإدارة السورية الحالية حيال المؤتمر الوطني الذي سيُعقَد في وقت ما من المستقبل القريب وعنه ستنبثق لجان تضع دستوراً جديداً وتعدّل القوانين، أي تحدد شكل سوريا الجديدة وحقوق المواطنين والجماعات فيها، ومع غياب أية مؤشرات عن أن المشاركين في هذا المؤتمر سيمثلون كل شرائح المجتمع السوري وكل الأفكار الموجودة في سوريا، لا يبقى لنا إلا أن نقلق من القادم.

رصيف 22

——————————–

من أين تبدأ امرأة سورية بالحديث عن الاستبداد؟/ نينار عمران

الجمعة 10 يناير 2025

تتردد كلمة “الاستبداد” كثيراً هذه الأيام، بعد سقوط ديكتاتور سوريا بشار الأسد، وتكشف جرائم نظامه ضد الأحياء والأموات. النظام الاستبدادي، الاستبداد الأمني، الطاغية المستبد.. توالت الكلمة كثيراً وفي سياقات مختلفة، حتى كادت أن تصبح “ترند” المرحلة. فاليوم لا سجون في سوريا، لا مخابرات أو أجهزة أمنية تسمع أنفاسنا وتراقبها، لا تقديس إجباري لديكتاتور مستبد، لا صور، لا تماثيل، لا قبضة أمنية. هو انعتاق صادم جعلنا نعيد التفكير في مفهوم “الاستبداد” في حد ذاته، هذا الاستبداد الذي ظننا أننا بعدنا عنه وسعدنا بدونه، هل ستكون سوريا الجديدة بدونه؟ هل حقاً سنعيش في بلاد خالية إلى حد ما من الاستبداد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي؟ ومن منطلق نسوي، هل ستتمكن السوريات من تفكيك مصطلح الاستبداد من منظور نسوي، في سبيل تفكيك الاستبداد نفسه؟ ومن نفس المنطلق، هل تعيش السوريات حقاً بدون استبداد بعد سقوط نظام الاسد؟

في الحقيقة، أنا أغبط الصحفيات والباحثات حين أقرأ دراساتهن وأبحاثهن حول صراع النساء مع الاستبداد، كيف يقسمن الاستبداد ويفصّلنه، ويناقشن بصبر بديهيات المعاناة النسوية مع الاستبداد. أقول بديهيات، إذ لا بد من السؤال، من أين نبدأ؟ من أين تبدأ امرأة بالحديث عن الاستبداد؟ كيف تستطيع الباحثات والأكاديميات النسويات الحفاظ على مهنيتهن، بل وأعصابهن، وهن يفندن الاستبداد من منظور نسوي، لجمهور يحتاج لشرح من مستوى Tiranny for dummies أو أقل؟

حين نتطرق لقيم مطلقة كالقتل، الهجرة، الحرب، النزوح أو الفقر، يغفل الجميع أن المنظور النسوي/النسائي لهذه القيم كتجارب معاشة، ربما يكون مختلفاً (تخيلوا!) عن المنظور الذي يسمى اصطلاحاً بـ “المنظور العام”. هذا الإغفال يقودنا إلى ضرورة الشرح من البداية تماماً. فحين تقررين أن تشرحي الاستبداد من منظور نسوي، ستبدئين من واقع الاستبداد الرأسمالي ضد النساء حول العالم، كالتسليع أو الضريبة الوردية، مروراً بعدم تكافؤ الفرص والفجوة في أجور العمل بين الرجال والنساء، وعدم أحقية نساء بعض الدول بإجازة الأمومة، أو قد تتطرّقين للتمييز الجندري أو القمع المجتمعي المتمثل بممارسات تعذيب جسدي أو نفسي للنساء، أو حرمانهن من التعليم أو العمل أو التنقل، أو السيطرة الاقتصادية عليهن، والوصاية على أجسادهن وأملاكهنّ، أو التهديد بقتلهن او نبذهن أو وصمهن في حال خرجن عن “العرف العام” أو عادات الدين أو الملة، انتهاء بقتلهنّ جهاراً نهاراً، بينما ما تزال ملاحقة قتلتهن قضائياً وقانونياً ضرباً من ضروب الرفاهية.

تأخذين كل هذا الخليط من نكهات الاستبداد، وتغيرين ظرفه الوجودي كلياً، وتضيفين إليه نكهات جديدة، كالهجرة والاغتراب،  الاعتقال أو النزوح مثلاً، ثم تضعين المكون السحري الذي سيربط المفاهيم في أذهانهم: الاستبداد المشترك. فعندما تذكرين الاستبداد السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي نعاني منه كمواطنين أو كبشر بالعموم، رجالاً ونساء، بعد شرحك السابق عن الاستبداد من منظور نسوي، ستتضح (ربما) الفجوة المختلف عليها في هذا المفهوم. وربما لو كنت نسوية راديكالية، لذكرتهم بأنهم بينما يرون زميلك باحثاَ أو سياسياً، يرونك أنت كامرأة باحثة، أو امرأة سياسية، يختلفون معه كسياسي، بينما يختلفون معك كامرأة، هذا الاختلاف هنا هو مصدر الشتائم والإهانات الجنسية، أو التسليع أو التشييء، أو الضغط الاجتماعي الذي يرافق وصمك كـ “امرأة” من قبلهم. أعتقد أنه في مثل هذه الحالات لا ضير في ان تكوني راديكالية وتشرحي ألف باء صراع النساء مع الاستبداد، فالمنظور العام غفل عن هذه النقاط.

كيف أكتب مقالاً غير ذاتي عن الاستبداد؟

كثر الطلب في الآونة الأخيرة، على مقالات صحفية تغطي موضوعة “النساء والاستبداد”، الاستبداد! هكذا بمفهومه المطلق.

أحاول أن أكتب عن الاستبداد في تقرير صحفي حيادي، بعيداً عن “الكتابة الذاتية” التي يتهمنا بعض مثقفي الإعلام البديل، نحن النساء، بأننا نبرع بها على حساب خبرتنا وبراعتنا في التحليل الاقتصادي والسياسي. بتلميح (إن أخذناه بحسن نية) ربما محق قليلاً، إذ إن نسبة النساء المشتغلات في الصحافة الاقتصادية أو التحليل السياسي، أقل بشكل واضح من مثيلتها بين الرجال، وربما يدفعنا هذا التلميح (إن أخذناه بحسن نية أيضاً) إلى طرح بديهية أننا، كنساء، ما نزال تاريخياً حديثات العهد بالقدرة الاجتماعية والنفسية على “التعبير” بكل أشكاله.

أنا امرأة سورية مهاجرة، عشت آخر 13 سنة من عمري بين برلين ومرسيليا وباريس والقاهرة، لي في كل مدينة صديقات لاجئات، مغتربات أو متغربات، أو غريبات في أوطانهن، بسبب الاستبداد.

غادرت سوريا بعد أن طردتني الأجهزة الأمنية المستبدة أنا وأمي من البلاد، منذ ذلك الوقت وأنا أبحث عن وطن غير وطني وبيت غير بيتي، هل يصنف القلق تحت بند الاستبداد؟ أليست كل مشاكلنا النفسية، القلق والأرق والاكتئاب واضطراب الشخصية الحدية وثنائي القطب، أليست صراعاً مع أحد أشكال الاستبداد؟ أليس كل ما نفعله ضد إرادتنا هو استبداد؟

طلبت بالفعل من مجموعة من صديقاتي أن يساعدنني على كتابة موضوع عن “النساء والاستبداد”، لكنني انتبهت فجأة أنني محمّلة بمئات القصص التي تحكي عن صراع النساء اليومي مع “الاستبداد”، فأنا امرأة، وصديقاتي نساء، ولكل واحدة منا تجربة في هذا الصراع .

أجلد نفسي بالتفكير في صحة كتابة تقرير صحفي موضوعي ومهني مبني “على ثرثراتك أنت وصديقاتك وأصدقائك”، ثم ألوم نفسي: “هذه ليست ثرثرات، بل إنها بديهيات نضطر لتكرارها ولشرحها بأكبر قدر من الشغف والمهنية”.

من أين نبدأ؟

بعد 2015، حين دخل مئات آلاف السوريات والسوريين ألمانيا، ارتبطت مواضيع كينونة المرأة السورية اللاجئة في ألمانيا في النقاشات السورية‑ السورية والسورية‑ العربية، بموضوعي الطلاق وجرائم الشرف، حتى تحولت هذه الموضوعات في بعض الحالات إلى ترندات، هدفها الانتشار الإعلامي دون الاكتراث بحقيقة أن هناك امرأة قتلت أمام أطفالها لمجرد أنها امرأة.

لم نسمع إعلامياً عن تحليل يقدّم معلومات عن حرمان بعض الرجال لزوجاتهن من تعلم اللغة خشية “انحرافها”. لم نسمع كثيراً عن الأمهات اللواتي خطف أزواجهن أطفالهن وهربوا إلى تركيا أو الشرق الأوسط. لم نسمع عن ابتزاز الأزواج لزوجاتهن بأوراق الإقامة بل وحرمانهن منها أحياناً، مستغلين جهل النساء بالقوانين وحقوقهن. سمعنا القليل عن حوادث التحرّش، القليل عن الصراعات اليومية مع البيروقراطية الأوروبية، قليل من الدعابات حول الصراع مع اللغة، والكثير عن جرائم القتل. سمعنا الكثير من الشتائم والإهانات والتحليلات، لكننا لم نسمع كثيراً صوت النساء نفسهن.

تعجّ مراكز إيواء النساء المعنّفات في برلين بنساء مهاجرات، قابلت مجموعة منهن في أحد المراكز في برلين، كثيرات منهن لا يتكلمن لغة البلد. كلهن هربن من أزواجهن بعد تكرار تعرضهن للعنف. بعضهنّ سعيدات ومنطلقات وقد حصلن على فرصة جديدة في الحياة، بينما بعضهن الآخر قلقات، فهنّ لم يجربن العيش بدون رجل، مطلّقات، في بلاد لا يتكلمن لغتها، بينما تبدو البقية خائفات. قالت لي إحداهنّ إنها، ورغم الحماية الأمنية للمكان، ما تزال تتوقع في أي لحظة أن يأتي زوجها ويضربها.

تحدثني صديقة لي، وهي أم عزباء هربت بابنتيها من سوريا إلى ألمانيا، عن مشاكل اندماج ابنتيها في المدارس الألمانية في برلين، تقول: “الأطفال الألمان لا يصادقون إلا الأطفال الألمان، بينما يجد أبناء وبنات الجيل الثاني للهجرة أنفسهن/م منتميات/ين تلقائياً إلى مجموعات موصومة نوعاً ما، منعزلة، يصارع أفرادها من الأطفال والطفلات إلى إثبات هويتهم بتعزيز انتمائهم إلى هذه المجموعات”.

ما يزال طليق صديقتي هذه يضايقها ويبتزها بأطفالها، رغم حصولها على الجنسية الألمانية وسعة معرفتها بحقوقها، ورغم استقلاليتها التامة عنه ونجاحها المهني، إلا إن كل ذلك لم يمنعه من استغلال البيروقراطية لمحاولة التلاعب بحياتها وممتلكاتها وحقوقها. كان طليقها عنيفاً، لا يستطيع التحكم بنوبات غضبه. طلقته لأنها خافت أن تراها ابنتاها كامرأة ضعيفة خانعة. تقول: “ماهي القيمة التي سأقدمها لبناتي حين تريانني خائفة خانعة لا أستطيع حماية نفسي وحمايتهما؟”.

أسألها فجأة: “وأنت؟ ماذا عنك أنت؟”. تبتسم.

تعيش ابنتاها معها في شقة صغيرة، تقضيان معظم وقتهما معها في المنزل، أسألها متى تجد الوقت لنفسها؟ تضحك وتقول لي: “شو يعني وقت لنفسي؟”.

تعرفت في برلين أيضاً على سيدة مصرية صاحبة مشروع صغير للطبخ المنزلي. حكت لي قصة هروبها من مصر بابنتيها وزوجها عبر الصحراء، ثم البحر ثم السير عبر الغابات والحدود حتى الوصول إلى ألمانيا. أسألها بسذاجة: “هل كان الخطر يستحق كل هذا؟”. تضحك: “تعرضت في طفولتي للختان، استطعت أن أهرب بابنتي قبل أن تتمكن حماتي من ختانهما”.

لطالما أدهشتني هذه السيدة، كانت تبرع في دروس الرقص رغم حملها. تخبرني أنها لم تعد تريد الإنجاب لكن زوجها يريد طفلاً صبياً. زوجها لا يعمل، يعيش على المساعدات الحكومية، وعلى محاولة استرضاء والدته في مصر بعد رضوخه لقرار زوجته بالسفر. سمعت بعد مدة عن طريق صديقة مشتركة أنها تمكنت من تطليق زوجها والحصول على حضانة بناتها الثلاث، لكن العملية كانت شديدة الصعوبة، تخللها عنف وابتزاز وتهديد، لكنها طلقته.

جوهر الاستبداد

عملت منذ فترة في مؤسسة إعلامية، وطلب مني تجميع شهادات وقصص نساء تعرّضن للعنف الاقتصادي. أذكر أني توقفت وقتها مطولاً أمام العبارة: “العنف الاقتصادي من منظور نسوي”. شعرت أن الجملة بديهية للغاية وتشرح نفسها، أليس شكل الاقتصاد الحالي بحد ذاته عنفاً ضد النساء؟

وقتها جمعت لهذا العمل عشرات من الشهادات والقصص الحقيقية، لنساء سوريات تعرضن لإجحاف قوانين الأحوال الشخصية، فتعرضن للاستغلال أو السرقة أو التقييد على الحركة أو الممتلكات.

تداخل عبارة “قانون الأحوال الشخصية السوري” مع عبارة “العنف الاقتصادي من منظور نسوي” يبدو عبثياً للغاية، فقوانين الأحوال الشخصية السورية لطالما كانت مستمدة من الشريعة الإسلامية، ولطالما كانت أقل ما يقال عنها إنها مجحفة بحق نساء يعشن في القرن الحادي والعشرين. من العمل المنزلي غير المأجور، إلى حق الرجل بالتعدد حتى دون موافقة زوجته، إلى رفض تطليقها وإجبارها على الخضوع لما يسمى بـ “بيت الطاعة” والعيش تحت ظروف مهينة، أو التطليق الغيابي أو الحرمان من الحقوق، كالنفقة أو المؤخر أو حتى ملكيتها المشتركة مع الزوج، كالعقارات أو المشاريع الاقتصادية، في حال طلبها للطلاق.

هذه التفاصيل الاستبدادية التي يتم في الغالب تجاهلها أو تناسيها، تخلق نوعاً خاصاً من الاستبداد وهو الاستبداد الذكوري، الذي يضاف في حياة النساء إلى أشكال الاستبداد الأخرى المشتركة مع الرجال أو مع بقية كائنات الكوكب، لنحصل على الخلطة التي نحاول شرحها لجمهور البديهيات.

يخبرني صديقي المصري إنني تحولت فجأة إلى امرأة عاطفية وحنونة بمجرد سقوط بشار الأسد. لم أكن مدركة لثقل استبداده إلا بعد زواله. أستطيع الآن (بعد إنجاز بضعة معاملات بيروقراطية، تندرج حتماً تحت بند تقييد الحركة والتنقل والذي يعد أحد أشكال الاستبداد) أن أعود إلى منزلي ولو لزيارة فقط، أن أختبر شعور “العودة” بعد سنوات من التيه. العودة إلى سوريا التي أصبحت فجأة بدون استبداد، حتى الآن.

 لوهلة، وأنا أكرّر كلمة الاستبداد، أتخيل تشيهيرو، بطلة فيلم spiritted away لهاياو ميازاكي، وهي تحاول غسل stink spirit بينما هو يجرفها بفيضانات وموجات متتابعة من قذاراته. أليس الاستبداد هو نفسه stink spirit؟

تقول الكاتبة والنسوية الهولندية آنيا مولينبيلت في كتابها “ماذا تعرف النسويات عن الحب”: “حاولنا أن نغير حياتنا كنسويات، وأن نستقل، ولكنه اتضح أننا لا ندري كيف. كل ما كنت أريد قوله هو أنه بوسعنا التغزل بالحرية، ولكن في الواقع، الأمور لا تجري بتلك البساطة”.

تلخص عبارة “لكننا لا ندري كيف” التي قالتها آنا مولينبيلت، جوهر الاستبداد. نحن حقاً لا ندري كيف نغير حياتنا ونستقل، والحرية كما الاستبداد، مفهوم مطلق يحتاج الكثير من التفكيك قبل أن يصبح بديهياً. حرية النساء، أو تخلصهن من الاستبداد، لن تكتمل دون ثورة حقيقية يقوم بها الرجال أنفسهم ضد المنظومة الاقتصادية والثقافية المهيمنة على الحضارة البشرية بشكلها الحالي.

نحن لا ندري كيف، ليس بسبب جهلنا بحقوقنا أو لكسل منا، نحن لا ندري كيف نغير حياتنا ونستقل لأننا نقف شبه عاجزات، عاجزات أمام أنظمة اقتصادية وقوانين وأعراف وشرائع متواجدة منذ الأزل، هي كلها مجحفة بحق كينونتنا بالدرجة الأولى، ونحن لا نزال نحاول تطويعها عبر التطبيع مع مصطلحات مثل “العنف الاقتصادي من منظور نسوي” أو “النسوية الدينية”، علنا نقترب من تحقيق القليل الذي نسعى إليه.

وكسوريات اليوم على أبواب التجربة، هل فعلاً سندري كيف نغير حياتنا ونستقل في دولة جديدة، أم إن البقاء على المنظومة نفسها سيعيق تقدمنا في أي طريق يتجه بعيداً عن الاستبداد؟

تبدو اليوم سوريا على استعداد للنهوض مجدداً، تسير نحو تشكيل دستور جديد وصياغة قوانين جديدة للبلاد، ونأمل أن يكون بناء دولة سوريا ما بعد نظام الأسد، غير مؤسس لاستبداد آخر.

————————————————

سلاح درعا معضلة أمام القيادة السورية الجديدة/ محمد أمين

تحديث 13 كانون الثاني 2025

تبدو مهمة تفكيك المشهد الفصائلي وجمع السلاح في محافظة درعا في الجنوب السوري، من أبرز المعضلات التي تواجه وزارة الدفاع في حكومة تصريف الأعمال السورية التي شرعت في خطوات تستهدف تشكيل جيش وطني تنضوي تحت رايته كل الفصائل المسلحة التي قاتلت النظام خلال سنوات الثورة، وصولاً إلى إسقاطه في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024. ويواصل وزير الدفاع في حكومة تصريف الأعمال السورية، مرهف أبو قصرة، وعدد من ضباط قيادة الأركان في الوزارة، التباحث مع وفود تمثل فصائل وتشكيلات عسكرية في البلاد في آليات دمجها في الهيكل التنظيمي لوزارة الدفاع. ويبدو أن هذه المهمة ستكون من أكبر المعضلات التي تواجه الإدارة الجديدة في البلاد، والتي اصطدمت برفض أو تريّث العديد من الفصائل والمجموعات في تسليم سلاحها، وفي مقدمتها تلك الموجودة في محافظة درعا. ووضعت هذه المجموعات شروطاً قبل الانضواء في الجيش الجديد، متذرعة بعدم انتفاء الأسباب التي تدفع لبقاء السلاح بيديها، ومنها استمرار التهديدات الأمنية خصوصاً لجهة فلول النظام، أو احتمالية عودة تنظيمات متشددة مثل “داعش” إلى النشاط، مستغلة حالة “عدم اليقين” التي تمر بها البلاد.

أحمد حسين: أحمد العودة يريد لعب دور أكبر في مستقبل سورية

فصائل درعا

لكن يبدو أن قادة هذه الفصائل لديهم تحفظ على آليات العمل في وزارة الدفاع الجديدة، خصوصاً لجهة تعيين القائد العسكري لـ”هيئة تحرير الشام” مرهف أبو قصرة وزيراً للدفاع، وإقصاء كبار الضباط السوريين الذين انشقوا عن جيش النظام المخلوع. ولا توجد إحصائيات دقيقة لعدد المقاتلين المنضوين في فصائل درعا، التي يأتي “اللواء الثامن” بقيادة أحمد العودة في مقدمتها لجهة العدد والتسليح والتأثير، فضلاً عن كونه الأكثر تنظيماً، فهو كان ضمن “الفيلق الخامس” الذي شكلته روسيا في البلاد، وضم عدداً كبيراً من المقاتلين المعارضين الذين كانوا أجروا تسويات مع النظام المخلوع. ويُعتقد أن عدد مقاتلي أحمد العودة نحو 1500 عنصر يتمركزون خصوصاً في ريف درعا الشرقي. وإلى جانب فصيل العودة، هناك عدة مجموعات محلية تشكل ما يُعرف بـ”غرفة عمليات الجنوب”. كما تملك “هيئة تحرير الشام” حضوراً كبيراً في محافظة درعا، تعزز أكثر بعد الثامن من ديسمبر الماضي. ويُنظر إلى أحمد العودة على أنه “رجل روسيا” في الجنوب السوري، ويريد الانخراط في الجيش السوري الجديد، ولكن وفق شروطه، منها الدخول بالجيش ككتله موحدة وعدم حل الفصيل الذي يقوده، والاحتفاظ بمواقعه في الجنوب السوري على الحدود الأردنية والحدود مع فلسطين المحتلة.

وبحسب أحمد حسين، وهو أحد الناشطين في محافظة درعا، فإن العودة “له علاقات متشعبة ومتشابكة ومعقدة وارتباطات إقليمية مكّنته من لعب دور مهم في المحافظة قبل سقوط بشار الأسد”، مضيفاً لـ”العربي الجديد”: “يبدو أنه يريد لعب دور أكبر في مستقبل سورية والجيش السوري الجديد، مستفيداً من تجاذبات إقليمية وعربية حيال الإدارة الجديدة في البلاد”. ونقل حسين عن مصدر مقرب من “اللواء الثامن” تأكيده أن هذا الفصيل بقيادته الحالية “لن يُحل” حتى تتشكل وزارة دفاع وجيش جديد وأن يدخل فيه الفصيل كجسم كامل بضباطه وعناصره وسلاحه. وبيّن أن هناك مناطق في محافظة درعا لا تخضع لسيطرة “اللواء الثامن”، قامت المجموعات فيها بتسليم سلاحها للإدارة الجديدة مثل: الصنمين واللجاة والريف الغربي، مشيراً إلى أن قيادة “اللواء الثامن” لم تبد حتى اللحظة أي استعداد لتسليم سلاحها الثقيل لإدارة العمليات.

ووفق مصادر محلية، فإن معظم أهل محافظة درعا يرفضون هذا التوجّه من قبل العودة وغرفة عمليات الجنوب، فـ”محافظة درعا جزء لا يتجزأ من سورية الموحدة”، وفق الشاب محمد م. (رفض الكشف عن هويته)، الذي رأى في حديث مع “العربي الجديد” أن أهالي درعا يرفضون “أي مشروع مناطقي أو تقسيمي”، مؤكداً أن الأهالي بغالبيتهم “يطالبون بمحاسبة الأشخاص الذين تلطخت أياديهم بالدماء وفق القانون”.

وتعليقاً على المشهد الفصائلي في محافظة درعا، رأى الخبير العسكري العميد مصطفى فرحات، في حديث مع “العربي الجديد”، أن المشهد العسكري في سورية برمته “معقد”، مشيراً إلى “تعدد ولاءات” القوى الموجودة في الشمال الشرقي وفي الجنوب، مضيفاً: “هناك “فلول” للنظام لن يسلموا أسلحتهم إلا بالقوة لأنهم يعرفون مصيرهم بسبب ارتكابهم للمجازر. وبيّن فرحات أن فصائل درعا “تطالب بالدخول إلى الجيش السوري الجديد كما هي”، مضيفاً: “في هذه الحالة سنكون أمام مشهد لا علاقة له بالجيش بل هو تجميع مليشيات في تشكيل واحد”. وتابع: “الإدارة الجديدة تريد دخول عناصر هذه الفصائل سواء في درعا أو غيرها بشكل فردي وليس على شكل فصائلي. ووصف فرحات شروط الفصائل في درعا بـ”التعجيزية”، معتبراً أن تشكيل الجيش من الفصائل كما هي ينزع عنه صفة الوطنية ويكون عرضة للانقسام أمام أي مشكلة سياسية. وتابع: “الجيوش الوطنية تضم كل أطياف ومكونات أي بلد ولا يجوز تجميع فصائل محلية في أماكن بعينها. ولاء الجيش يجب أن يكون للوطن كله وليس لمنطقة معينة، أو لجهة خارجية”.

حضور “هيئة تحرير الشام”

من جهته، أوضح الباحث العسكري في مركز جسور للدراسات رشيد حوراني، في حديث مع “العربي الجديد”، أن لـ”هيئة تحرير الشام حضوراً كبيراً في محافظة درعا”، مشيراً إلى أنها بدأت بتشكيل خلايا لها منذ عام 2023، مضيفاً: “السبت الماضي تم تعيين قيادي في الهيئة، كان في سجن صيدنايا وحُرر يوم السابع من ديسمبر الماضي، قائداً أمنياً في منطقة نوى بدرعا”. وتابع: “يبدو أن الإدارة الجديدة تريد التفاهم مع كل الفصائل في سورية للاندماج في الجيش الجديد من دون خوض معارك معها لهذا الشأن”. وأعرب عن اعتقاده بأن وزارة الدفاع في حكومة تصريف الأعمال “ستلجأ إلى الأساليب المتّبعة في أي مؤسسة عسكرية في العالم في تعاملها مع الحالة الفصائلية في البلاد، وستعتمد أسلوب العقوبات المتدرجة والحرمان من الامتيازات والتضييق على الفصائل التي ترفض تسليم السلاح ومن ثم التدخل التدريجي السلمي للسيطرة على زمام الأمور”. بيد أن حوراني رأى أن لهذا الأسلوب بعداً سلبياً وهو أنه “يستهلك وقتاً طويلاً وهو ليس في مصلحة السلطة الجديدة في دمشق”.

واستبعد أي صدام عسكري بين إدارة العمليات العسكرية وفصائل درعا، خصوصاً أن هناك قبولاً شعبياً لهذه الإدارة في محافظة درعا، مضيفاً: “أعتقد أن حضور السلطة الجديدة في جنوب سورية سيتطور بالتدريج للوصول في النهاية إلى استلام كل الملفات خصوصاً الأمنية والعسكرية. ويتحدر أحمد العودة من مدينة بصرى الشام، شرقي درعا، وقاد فصيل “شباب السنة” في المحافظة منذ عام 2012، والذي كان أحد أهم فصائل الجبهة الجنوبية المرتبطة بغرفة عمليات دولية في عمّان (الموك). وفي عام 2018 وبعد قيام النظام بالهجوم على محافظة درعا وتخلي “الموك” عن دعم فصائل الجبهة الجنوبية، قام العودة بالتفاوض مع روسيا بحضور مندوبي النظام لتسليم المنطقة وسلاحها الثقيل وإجراء مصالحة لمعارضي النظام وتشكيل “اللواء الثامن” والذي ضم منشقين عن قوات النظام ومطلوبين له. وعمل اللواء في منطقة بصرى الشام وبعض القرى والمدن في ريفي درعا الشرقي والغربي، وتلاحق بعض قادته اتهامات من قبل الأهالي بتنفيذ عمليات اغتيال وتصفية واعتقال لمصلحة النظام المخلوع.

——————————–

======================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى