سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 14 كانون الثاني 2025
كل المقالات والتحليلات والحوارات التي تناولت انتصار الثورة السورية اعتبارا من 08 كانون الأول، ملاحقة يومية دون توقف تجدها في الرابط التالي:
سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع
————————————–
هل سورية 2025 هي المُنتظَرة؟/ أيمن الشوفي
14 يناير 2025
جلب العام 2024 في أواخره فرحاً عظيماً تداوله السوريون في ما بينهم، وكأنه نعمةٌ تامّة الأركان، وهو على أيّ حال مشاع مبهج يخصّ الجميع، تداوله السوريون في ما بينهم بالتساوي، من دون أن تنقطع هواجسهم وهي تختبر الأداء السياسي للإدارة الانتقالية في بلادهم، وتعاينه بصورة يومية. إذ ثمّة لون واحد يسود التعيينات الرسمية في المناصب العامّة، وهو سلوك سياسيّ يحرص قائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع على تثبيته، حتى لو كان لا يلقى قبولاً من مكوّنات الطيف السياسي كلّها في سورية.
وقد جعل هذا المسلك القلق العام يستبدّ تدريجياً بالمزاج الشعبي، وهو إن شئنا قلق مُشرَعن يكفي أن نشعره قبل أن نبرّره، إذ جاء وكأنّ فيه اختزالاً لمسيرة الثورة السورية الطويلة (2011 – 2024)، بسلطة سياسية ناشئة ذات تركيبة ضيّقة، وقد آثرت أن تجعل أبوابها مغلقةً في وجه الراغبين الجدد بالانتساب إليها، ويبدو أيضاً أن أحمد الشرع معنيٌّ بتقديم سياسته الداخلية في إدارة سورية من دون محاصصة طائفية في توزيع المناصب، وشَغلْ المراكز الحكومية والرسمية كما كان يدأب النظام السابق، وهذا تجديد يتجاوز بمفرداته أعرافاً سياسية سالفة، والشرع يريد هذا بثبات لا نعرف مصدره، لكنّه ثباتٌ قائمٌ ويسهل إدراكه، إذ سيسود معيارُ الكفاءة بلا الركون إلى نسبها الطائفي أو الإثني. على الأقلّ، هذا ما فهمناه من تصريحات الشرع العلنية، وهذا سيجعل القيادات الدينية والعشائرية تشعر بالتهميش المتزايد لها، بعدما كانت معتادةً على أن يدسَّ النظام البائد المكاسبَ والامتيازات بيدها، الأمر الذي جعلها تتحوّل بنيةً اجتماعيةً متفوّقةً على ما دونها بتلك المكتسبات، التي كان بعضها مادّياً ملموساً، والآخر حسيّاً فيه اختزالٌ للسلطة أتاح مراراً الاستقواء بها، وهذا من المساقات العديدة التي أدّت إلى استفحال تهميش المجتمع السوري، وعزله داخل فضاءٍ عامّ لا سياسةَ فيه.
في المقابل، كان النظام الساقط يعزّز سلطة ذاك الإقطاع السياسي المتمثّل بالقيادات العائلية والعشائرية، وحتى الدينيّة، لدى الأقليات غير السُنّية، ولدى المسيحيين أيضاً، حين كان يتيح لهم توارثَ تلك المكاسب الحميمة داخل مكوّناتهم المتحالفة معه، وربّما هذا تسبّب بأن يتعامل الإقطاع السياسي بالجفاء والتشكيك بمشروعيّة سلطة الإدارة الجديدة لسورية، ولسان حال هذه الإدارة يقول لا محاصصة طائفية وإثنية داخل السلطة كما كان العُرف الدارج أيام نظام الأسد، الأمر الذي يدفع بالتباينات السياسية في سورية إلى امتحان هذا الطرح الجديد، والسماح بأن تُمتحن بهذا الطرح الجديد أيضاً، فسورية التي تجري مناقشتها في هذه الأيّام، هي سورية التي لا تحتمي بأمزجة طائفية أو إثنية متكدّرة، ومسكونة بهواجس الانغلاق على نفسها، والخوف من الأكثرية السُنّية، التي باتت منتصرةً سياسياً بعد إنهاء سلطة النظام السابق، وهي الأكثريّة التي دفعت بمفردها الكُلفة الباهظة لتحرير سورية، وتلك الكُلفة تخصّ ما لَحِقَ بالسُنّة في سورية من قتل ممنهج، وتدمير لمدنهم الكُبرى، وتهجيرٍ لناسها، لكن ومع ذلك، تحاول “السُنّية السياسية” التي تحكم سورية الآن أن تكون حالةً جامعة، ومن المبكّر دحضُ هذا بالاعتماد على تركيبة حكومة تسيير الأعمال الحالية ذات اللون والمكوّن الواحد.
وبالتالي سيجد العام 2025 نفسه مُطالباً باستيراد ما هو أعمق من فرح الخلاص من نظام الأسد، عليه أن يكون عاماً تعويضيّاً على الأقل لتطبيب بعض التلف الذي أصاب سورية في ما مضى، ولعلّ الإدارة السياسية الجديدة للبلاد تفهم هذا جيداً، وتحاول أن تُظهِر الفروقات الممكنة بين سرديّة “سورية الأسد” و”سورية بلا الأسد”، بين “سورية المجزّأة” و”سورية الموحّدة”. وعلى ما يبدو، باتت الإدارة الذاتية لشمال سورية وشرقها تدرك مأزقها الوطني، الذي يُفصح عن أرثٍ سياسي مغلوط تتمسّك به بعد زوال حكم الأسد، وهذا نستنتجه من تصريح قائد قوات سوريا الديمقراطيّة (قسد)، مظلوم عبدي، حين قال أخيراً إنه توافق مع السلطة في دمشق على رفض مشاريع التقسيم.
وتحاول الحكومة المؤقتة ألا تروّج فكرةَ فرض رُؤاها على المجتمع السوري الغني، أو استفزازه بها، كما حدث عندما عدّلت وزارة التربية في الحكومة المؤقّتة في المناهج الدراسية، وحظي بعضها بإجماع وقبول عامّ من مختلف السوريين، مثل حذف مقرّر التربية الوطنية، وحذفّ كلّ ما يتعلق برموز النظام المخلوع من جملٍ وصور وعبارات ونصوص، وبعضها الآخر أثار استياءً واسعاً تُرجم بعضه في وقفتَين احتجاجيتَين أمام مبنى وزارة التربية في العاصمة دمشق، نظّمهما ناشطون، وتلك التعديلات أثارت مخاوفَ عديدة من “أسلمة الدولة” في سورية، إذ تناولت حذف مواضيع علمية مثل أصل الحياة وتطوّرها، وفقرة تطوّر الدماغ من مقرّرات علم الأحياء في المرحلتَين الإعدادية والثانوية، واستبدال عبارة “أن يبذل الإنسان روحه في سبيل وطنه” بأن يبذلها “في سبيل الله”، وحذف إشارات من مقرّرات التربية الإسلامية إلى زنوبيا ملكة تدمر، وإلى خولة بنت الأزور، بالإضافة إلى حذف الآراميين والكنعانيين من مقرّر التاريخ، والآلهة في الميثولوجية القديمة من مقرّر الفلسفة.
ويبدو أنّ حكومة تصريف الأعمال الحالية تتدثّرُ كثيراً بانتصاريها السياسي والعسكري حين تقرّر ما يتجاوز صلاحياتها المحدودة سلفاً بإدارة وتسيير الشأن العام ثلاثة أشهر فقط، وربّما تختبر من وراء ما تقرّره مقدارَ خجل السوريين من إدانة بعض سلوكها، سواء المرتبط بتلك التعديلات على المناهج الدراسية، أو حتى الذي يخصّ ممارساتها في الأرض مثل الفصل بين الرجال والنساء في وسائل النقل العامّة، باعتبار أنّ هذه السلطة الجديدة هي أوّل سلطة تقوم على أنقاض نظام الأسد، عدا أنها تشكّلت من قِبَل القوة العسكرية التي حرّرت سورية من احتلال آل الأسد. وعلى ما يبدو، فإن سوريين كثيرين يتريّثون في إبداء معارضتهم ملامح أسلمة الدولة في بلادهم، ربّما لأنهم ينتظرون مُخرَجات مؤتمر الحوار المُزمع، وغير المحدد الموعد (يناير/ كانون الثاني)، ولأنهم ينتظرون أيضاً شكل الحكومة الانتقالية المقبلة، المفترض تشكيلها خلال شهر مارس/ آذار المقبل. ومع ذلك، هنالك خشيةٌ مفرطة من أن تكون سورية 2025 ليست سورية التي ينتظرها السوريون كلّهم (لا بعضهم)، إذ تلتحق بهذا التصوّر الأصوات الدعويّة المحسوبة على مكوّنات إدارة العمليات العسكرية، كالتي سمعناها أخيراً، مثل الاحتفال الذي حدث في مدينة جبلة الساحلية، وقيل في ذاك الاحتفال كثيرٌ عن توجّب افتتاح معاهد لتحفيظ القرآن الكريم، والسُنّة النبوية، والحديث الشريف. … فهل تحتاج سورية مزيداً من تجريب الإسلام السياسي الذي يتصدّره الجهاديون في مساعيهم الواضحة لإعادة إنبات دولة الخلافة مجدّداً؟ وعن أيّ هُويَّة سوريةٍ جامعةٍ نتحدّث إذاً؟… سورية التي نريد، لم تأتِ بعد.
العربي الجديد
————————
من إدلب إلى دمشق: كيف تدير حكومة تصريف الأعمال ملف المقاتلين الأجانب؟/ مناهل السهوي
14.01.2025
مع سقوط الأسد وصعود أحمد الشرع، يبرز خياران أمام الأخير للتعامل مع آلاف المقاتلين الأجانب الذين لا توجد أرقام دقيقة عن أعدادهم، وهما إما التخلي عنهم أو دمجهم في المجتمع، وينذر الخيار الأول بمواجهة عسكرية واقتتال بين هذه الفصائل. أما الثاني فقد لا ينجح على الأقل في المستقبل القريب بسبب الاختلافات الجوهرية بين الأجانب والمجتمع السوري، ويحتاج إلى جهد كبير.
منذ بداية الثورة السورية، استعانت مختلف أطراف الصراع بمقاتلين غير سوريين، فالنظام استنجد بالإيرانيين واللبنانيين والعراقيين والأفغان والروس، ولجأ الأكراد السوريون إلى الأكراد غير السوريين، فيما دعت المعارضة إلى “الجهاد” لاستقطاب المقاتلين الأجانب.
في العقد الأخير وفي سياق نمو الحركات الجهادية ومن بينها جبهة تحرير الشام، كان دور مقاتلين من شمال أفريقيا ووسط آسيا وحتى من الغرب أساسياً في تشكيلات هذه الجماعات المسلّحة.
بعد خلع النظام، أصدر قائد الإدارة الجديدة أحمد الشرع مرسوماً بترفيع نحو 49 شخصاً إلى رتب عليا في الجيش السوري، بينهم مقاتلون سوريون وضباط منشقّون.
خطوة غير قانونيّة
أثار قرار أحمد الشرع بترقية مقاتلين أجانب انتقادات واسعة، حتى من الولايات المتحدة الأميركية التي أبدت استياءها من تعيين أجانب في المناصب العسكرية العليا، مشيرة إلى أن ذلك لن يحسّن من سمعة حكام سوريا في واشنطن. كما أثار كلّ من وزيري خارجية فرنسا وألمانيا، جان – نويل بارو وأنالينا بيربوك قضية المقاتلين الأجانب الذين تم تجنيدهم في الجيش خلال لقائهما مع الشرع في 3 كانون الثاني/ يناير بحسب رويترز.
وتبرز في هذه التعيينات مشكلتان أساسيتان، الأولى أن هؤلاء ليسوا سوريين ولم يُمنحوا الجنسية قبل ترقيتهم، والثانية أن بعضهم مصنّف إرهابياً في بلاده الأصلية وفي معظم دول العالم.
وحول قانونية الخطوة التي أقدم عليها الشرع، يقول الباحث والكاتب حسام جزماتي لـ “درج”: “قرار الشرع الأخير ليس فقط غير قانوني، بل أيضاً خطوة لم يكن ينبغي له أن يتخذها حتى لمصلحته الشخصية. فكل الخطاب المعسول الذي يقدمه للأجانب عن بناء مؤسسة جيش شاملة ووطنية لا يقصي أحداً فيها، لا يتوافق مع سلوكيات من هذا النوع”.
واعتبر جزماتي أنه كان من الأجدر بالشرع الاستفادة من ضباط الجيش السابقين الذين لم تتلطخ أيديهم بالدماء، بالإضافة إلى ضمّ الضباط المنشقين، ما سيجعل المؤسسة شاملة بمعنى الكلمة، وقال: “أن يمنح الشرع رتباً عسكرية لجهاديين يُنظر إليهم قانونياً كأجانب في القانون السوري، من دون حتى حصولهم على الجنسية، ويضعهم في مواقع قيادية داخل مؤسسة الجيش، فهذا قرار خاطئ على جميع المستويات. هذه الخطوة لا تخدم المبادئ التي يدّعي الالتزام بها، ولا مصلحته الشخصية على المدى البعيد”.
عدم قانونيّة مرسوم ترقية المقاتلين الأجانب
مع سقوط الأسد وصعود أحمد الشرع، يبرز خياران أمام الأخير للتعامل مع آلاف المقاتلين الأجانب الذين لا توجد أرقام دقيقة عن أعدادهم، وهما إما التخلي عنهم أو دمجهم في المجتمع، وينذر الخيار الأول بمواجهة عسكرية واقتتال بين هذه الفصائل. أما الثاني فقد لا ينجح على الأقل في المستقبل القريب بسبب الاختلافات الجوهرية بين الأجانب والمجتمع السوري، ويحتاج إلى جهد كبير.
ويرى جزماتي أن “مثل هذه القضايا يجب أن يدار بطريقة منظمة وقانونية. ينبغي طرح الموضوع للنقاش العام ضمن إطار قانوني واضح، مع تنظيم ملفات خاصة بالجنسيات لمعالجة الوضع بشكل منهجي. أما الطريقة الحالية التي تُدار بها الأمور، فهي فوضوية وغير مقبولة. على سبيل المثال، يتم تعيين شخص برتبة عميد في الجيش، ثم نكتشف لاحقاً أنه يحمل جنسية أوزبكية أو جنسية أخرى”.
يتابع جزماتي: “لدينا تجربة مشابهة في البوسنة، حيث شارك مقاتلون إسلاميون إلى جانب المسلمين خلال الصراع. وبعد تفكّك يوغوسلافيا، أثير نقاش حول وضعهم: هل يمكن طرد هؤلاء المقاتلين الذين اعتُبروا إخوة قاتلوا معهم؟ في النهاية، تمت معالجة الأمر من خلال نقاش عام، فتم تجنيسهم والتوصل إلى توافق بشأن وجودهم في المجتمع”.
من جهة أخرى، يبدو أن فكرة المؤسسات شديدة الاختلاف بين مدينة كإدلب وبين بلد كامل، وتطبيق تجربة إدلب على سوريا مستحيل ليس لأن إدلب مدينة صغيرة مقارنة بدولة كاملة، بل لأنها لم تخض تجربة المؤسسات بشكل عميق وحقيقي.
يعلّق جزماتي: “لم يعتد الجولاني احترام القانون في الأصل، وزاد الأمر سوءاً الآن بسبب حالة النشوة الطاغية التي يعيشها بعد الانقلاب الكبير في مكانته. فقد انتقل من كونه شخصاً معزولاً في إدلب، يواجه انتقادات من الحراك الثوري، إلى جالس في قصر الشعب بجماهيرية مفاجئة وكبيرة، إذ يُنسب إليه تحرير سوريا، وبات يُنظر إليه كقائد مؤهل. هذا التحول عزز ثقته بنفسه بشكل مفرط”.
ويرى جزماتي أن الجولاني يكرر نموذج إدلب لكنه يسعى الى توسيعه، يقول: “هو يدير المشهد من خلال أذرع تُنفذ أوامره، لا عبر مؤسسات حقيقية تلتزم بالقوانين وتعمل وفق أطر مستقرة. ما يبدو شكلياً كأنه مؤسسات منظمة ومنضبطة هو في الحقيقة خالٍ من الجوهر المؤسسي. هذه الأذرع تُصمم لتلبية احتياجاته وأوامره وقتما يشاء، لكنها تفتقر تماماً الى العقلية المؤسسية الحقيقية التي تضمن الاستقلالية والالتزام بالقانون”.
حسب تقارير رويترز وAFP، من بين من تمت ترقيتهم ألباني من مقدونيا الشمالية، وطاجيكي، وثلاثة من الإيغور الصينيين. كما تضم الترقيات شخصيات بارزة مثل مختار التركي وأبو حسين الأردني الذي عُيِّن ضابطاً، بالإضافة إلى أبو محمد التركستاني.
ومن بين المقاتلين الأجانب، يُعد الشيشان الذين ينتمون إلى منطقتي الشيشان وشمال القوقاز الأشدّ بأساً، كون المنطقتين شهدتا صراعاً طويلاً ضد الجيش الروسي.
من جهة أخرى وعلى رغم مرور سنوات على وجودهم في سوريا، لم يندمج جميع الأجانب في المجتمع السوري، مثل الإيغور الذين أنشأوا مجتمعاً صغيراً لهم في قرى جسر الشغور في إدلب.
ما حدث من ترقيات سريعة في الرتب أثار تساؤلات حول ما إذا كان الشرع لا يرغب في أن ينقلب هؤلاء عليه، أم أنه يسعى إلى التقرب منهم.
وبحسب رامي عبد الرحمن، مدير “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، تضمنت الترقيات شخصيات من الدائرة الضيقة لأحمد الشرع، وتمّ ترفيع اثنين إلى رتبة لواء أحدهما مرهف أبو قصرة، القائد العسكري لهيئة تحرير الشام، والذي يتوقع أن يتولى وزارة الدفاع في الإدارة الجديدة. كما تمّ “ترفيع” خمسة إلى رتبة عميد، والبقية إلى رتبة عقيد.
يقول حسام جزماتي في سؤالنا عن سبب ترقية بعض المقاتلين الأجانب: “يعتمد الجولاني بالفعل على هؤلاء المقاتلين الأجانب بشكل كبير… اعتماده عليهم يأتي باعتبارهم قوة عسكرية يعتمد عليها بشدة، ولأنهم أشخاص يثق بهم، وليس بدافع رد الجميل على مشاركتهم في القتال”.
في هذا السياق، قال آرون زيلين، مؤلف كتاب “عصر الجهادية السياسية: دراسة في هيئة تحرير الشام”، لراديو “أوروبا الحرة”، إن التعيينات لا تشير إلى أن حكام سوريا الجدد بقيادة أحمد الشرع لديهم أي أجندة تتجاوز سوريا. وأضاف الباحث في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى: “إنها محاولة من الجولاني و”هيئة تحرير الشام” لضمان أن هؤلاء الرجال يتبعون أوامر الدولة السورية وليس لديهم نشاط مستقل الآن بعدما انتهت الحرب تقريباً”.
بهذه الطريقة يضمن الشرع ولاء هؤلاء المقاتلين من جهة وعدم عودتهم إلى بلادهم أو أوروبا من جهة أخرى، وبخاصة في ظل مخاوف البلد الأم للمقاتلين الأجانب من عودتهم واستخدام مهاراتهم القتالية ومن ضمنها صنع القنابل والمتفجرات فيها، وهذا يعود بمكاسب للشرع خارجياً وداخلياً، من دون نسيان أن سيطرته في هذه المرحلة على المقاتلين الأجانب أمر شديد الأهمية، ففي عام 2013 وخلال اجتماع للمركز الدولي لمكافحة الإرهاب (ICCT) ومعهد T.M.C. Asser، أشار المتحدثون إلى أن تورط المقاتلين الأجانب في الماضي لم يكن يوماً أمراً جانبياً بل أثّر بالمشهد العالمي، فمثلاً أدت الحرب السوفياتية في أفغانستان في الثمانينات إلى تأسيس تنظيم القاعدة، وساهمت حرب العراق في تأسيس تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق”، ما يجعل من المقاتلين الأجانب ورطة حقيقية للشرع ولسوريا القادمة في حال لم تعالج قضيتهم بالطريقة الصحيحة، وبخاصة أن من بين المقاتلين من يؤمن فعلاً بالفكر الجهادي ولا تتوافق أفكاره مع أفكار الدولة واحترام الأقليات.
تجدر الإشارة إلى أن سوريا تختلف عن بلدان أخرى استقطبت مقاتلين أجانب، إذ تكسر الأنماط التقليدية لقدوم هؤلاء، فليس فقط الرجال الشباب هم من يسافرون، بل أيضاً النساء الشابات، وفي بعض الأحيان العائلات، بحسب المصدر السابق.
“داعش” الذي ينتظر في الزاوية
وسط هذه التفاهمات المعلنة وغير المعلنة، يبرز سؤال داعش باعتباره القوة المسلحة الوحيدة تقريباً التي يبدو مستحيلاً دخولها في أي تفاهمات أو نقاشات أو مساومات مع الإدارة العسكرية الجديدة، وبخاصة بعد مقال نُشر في صحيفة النبأ التابعة للتنظيم بعنوان “سوريا الحرة وسوريا الأسد”، مؤكداً موقفه المعلن سابقاً، وهو اعتباره جميع القوى في سوريا خصوماً له، وأن الحال لم يتغير بعد وصول المعارضة إلى السلطة.
وحمل المقال نقاطاً عدة، أبرزها اعتبار ما حدث في سوريا تفاهماً دولياً بعد الهدنة في لبنان، أفضى إلى إخراج إيران من المشهد في سوريا، وإسقاط الأسد واستبداله بالمعارضة.
وأكد التنظيم أن أسباب هجماته في سوريا لم تنتفِ بسقوط الأسد، معتبراً أن الاحترام الذي أبداه قائد العمليات العسكرية أحمد الشرع للأقليات، هو سبب مشروع لقتال الجميع (الأقليات وقادة سوريا الجدد)، باعتبارهم “كفاراً”.
يبرز اسم داعش مجدداً مع إعلان وزارة الداخلية السورية في الحكومة المؤقتة عن إحباط عملية تفجير كان التنظيم يخطّط لتنفيذها في مقام “السيدة زينب”.
وقال مدير الإعلام في وحدات حماية الشعب الكردية، سيامند علي، في وقت سابقٍ للحرة، إن المناطق الخاضعة للإدارة الذاتية شمال شرقي سوريا تضم 26 سجناً، ويقدر أعداد السجناء فيها بحوالى 12 ألف سجين من عناصر تنظيم داعش من جنسيات مختلفة.
تحتجز الإدارة الذاتية قرابة الـ56 ألف شخص، بينهم 30 ألف طفل في 24 منشأة احتجاز ومخيّمين هما الهول وروج في شمال شرقي سوريا.
على رغم عدم وجود مؤشرات قوية الى عودة داعش، إلا أن عناصره ما زالوا منتشرين في البادية، ويشكل خطر السجناء والمخيمات واقعاً لا يمكن تجاهله، بخاصة مع وجود 30 ألف طفل، على اعتبار نصفهم من الذكور الذين قد يصبحون قادرين على حمل السلاح بعد سنوات. إضافة إلى المقاتلين الأجانب الموالين للشرع، الذين قد لا يتفقون معه دائماً.
يتفاقم الخطر في ظل التعنت الدولي لحل هذه القضية، إذ قدمت الإدارة الذاتية مقترحاً لإنشاء محكمة دولية في آذار/ مارس 2019 وشباط/ فبراير 2020، من دون أي تطور حتى الآن. ومع غياب محكمة دولية متخصصة ومحاكمة جرائم داعش، واعتبار سوريا والعراق خارج نطاق المحكمة الجنائية الدولية، يبدو أن التدخل القضائي الدولي غير مرجح، ما يعني أن أحد أهم الملفات على مستوى العالم متروك للحظ والمصادفة.
درج
———————–
بعد شهرٍ من إدراك الحلم: أفكارٌ حول المساهمة الثقافية في القضايا الملحّة/ عبد الله الكفري
لماذا نحتاج إلى مزيدٍ من المؤسسات الثقافية والفنية في سوريا؟
14-01-2025
لا يمكنُ حصر مشاعر التعبير عن انتهاء ليل سوريا، ما هو جليٌ للعيان، أن البلد ومواطنيه ومواطناته حاولوا خلال الشهر الأول عقب التغيير أخذ الأمور إلى الأقصى بفعلٍ تعويضي عن إقصائهم من المجال العام: تجمعاتٌ ولقاءاتٌ وحواراتٌ واحتفالاتٌ، واهتمامٌ بالشأن العام لا حدود له. ضمن هذا الزخم تحاول هذه المقالة أن تُقدِّم بعض الأفكار عن الأدوار التي يمكن أن تتولاها الكيانات والتجمعات والمؤسسات الثقافية والفنية المستقلة -ونضمّن هنا العاملة في مجالي التراث الثقافي المادي واللا مادي- للمساهمة في هذا الحدث النوعي وغير المسبوق في تاريخ سوريا الحديث. تنطلقُ هذه المقالة من فرضيّتين أساسيتين: الأولى أن الكيانات والمؤسسات الثقافية والفنية المستقلّة كانت في السنوات الثلاث عشرة الماضية فاعلة على مستوى الإنتاج الفني ومقاومة عسكرة وتصحير الحياة العامة، والثانية أن هذه المؤسسات، بغض النظر عن طبيعة تسجيلها القانوني، طوّرت خلال عملها أشكال تنظيمٍ غير نمطيةٍ لتضمن حق السوريين والسوريات في التمتع بحياةٍ ثقافية ذات سويةٍ عاليةٍ في مختلف أشكال الإنتاج والتعبير الفني. وستُعطي هذه المقالة الأولوية لنقاش أدوار المؤسسات الثقافية والفنية تجاه الأسئلة الكبرى في البلاد اليوم، أكثر منه الخوض في دورها ضمن قطاعات الثقافة والفنون والتراث.
إن إحدى الأسئلة الملحّة التي تُعاجِل النقاش في واقع سوريا اليوم هو كيف يمكن عكس تعددية مجتمعها، وإتاحة المساحة للتعبير عنها ثقافياً، إذ يغيب هذا البعد الثقافي، على أهميته، عن أغلب طروحات مستقبل التعددية، والتي تركز بشكلٍ رئيسي على إدارة التنوّع ضمن عملية الانتقال السياسي. ما يهمنا هنا، هو كيف يمكن الوعي لأهمية إتاحة التنوع والتباين العرقي والإثني واللغوي في المجتمع السوري من مقاربةٍ ثقافية؟ وكيف يمكن تجاوز التعاطي معه من مقاربة الحماية لصالح اختبار التعايش؟ انطلاقاً من ضماناتٍ دستورية وقانونية وأسسٍ مواطنية تعيد استكشاف غنى وتعقيد هذا المجتمع. إن هذه الأسئلة هي بعض الأمثلة عن التدخل النوعي الذي يمكن للمؤسسات الثقافية والفنية أن تجلبه إلى النقاش العام، من خلال خلقها لمنصات ومساحاتٍ آمنةٍ تعزز التفاعل بين مكونات المجتمع السوري، وبطرقٍ تتجاوز المنظور البعثي الداعي إلى «الصهر في بوتقة واحدةٍ»، وبما يقاوم خطر انفصال هذه المكونات وتحوّلها إلى جزرٍ منفصلة أقصى ما تفعله تجنب مشكلاتٍ وخلافاتٍ مفترضة. وإن قرار هذه المؤسسات الاشتغال على مثل هذه الأسئلة هو تحملٌ لأعباء مساهمتها في تعزيز السلم الأهلي، وتعزيز المشترك بين السوريين والسوريات، ومناقشة الخلاف على قاعدةٍ نابذةٍ للعنف وطاردةٍ لروح الانتقام، وهو مساحةٌ لممارسة المواطنة كفعل عملي.
عندما انطلقت الثورة السورية في آذار (مارس) 2011، كانت في صميمها احتجاجاً منتظراً ومدنياً على إقصاء السوريين والسوريات من الحياة العامة. وبهذا المعنى كانت الفاعلية الثورية محاولةٌ للتعارف خارج الأطر الرسمية التي لا تشبه مواطني ومواطنات سوريا، وكانت الممارسات الثقافية والفنية إحدى الأدوات التي تم اعتمادها للتعبير عن تثوير الحيز العام، توثيقاً ونقداً وتخيُّلاً لحق السوريين والسوريات في الحياة الكريمة خارج منظومة الأبد. ومع تتالي سنوات سرقة الثورة والنزاع المسلح وأثر العنف والفقد والخسارات التي لاحقت السوريين والسوريات، كانت المؤسسات والتجمعات الثقافية والفنية المستقلة في سوريا، كما في مهاجرها، إحدى ضمانات ما تبقّى من الحياة بعد أن فتّتتها الحرب، وبعد أن تعزّز انتقام السلطات المطلق من المجتمع، وإفقار المواطنين والمواطنات، وبعد أن تحوّلت سوريا إلى تفصيلٍ ثانوي في نشرات الأخبار. فأضافت هذه التجمعات والمؤسسات أدواراً جديدة لعملها من خلال الإصرار على الحق بالتمتع بحياةٍ ثقافية -ظلّت في أغلبها تقدّم خدماتها بشكلٍ مجاني- والقدرة على اللقاء والتجمّع في الفضاء العام، ومواجهة أخطار الطائفية، ورفض التعصب والجهل، وإنتاج سرديات محقّة عن سوريا تُغايِرُ الصورة التي رسمها «المنتصرون» في ذلك الوقت.
لسنواتٍ عدّة لم يكن أمام هذه المؤسسات إلا العمل بصمتٍ وضمن هوامش ضيقة، بعد أن تم التطابق التام بين مؤسسات الدولة ونظام الحكم، وبعد أن صارت أغلب الأعمال الثقافية والفنية المُنتَجة من قبل «المؤسسة الرسمية» أدوات ترويجية لسردية النظام القاسمة للسوريين والسوريات والمخوِّنة لمن ثار منهم، وبعد أن وجد العالم سهولةً في التخلي عن سوريا -كما فعل مع اليمن ويفعل الآن مع فلسطين والسودان- وإن كان هذا العمل الصامت «تقيّة» استراتيجيةً للقدرة على الإنتاج خلال السنوات الماضية، إلا أننا نحتاج اليوم إلى حيوية وفاعلية وجرأة وأصوات هذه المؤسسات لتكون في صلب كل ما هو عام. كما نحتاج إلى قيم هذه المؤسسات لنضمن الوصول إلى ما نريده لمستقبل سوريا، والتعلّم من قدرتها على تفعيل الحيز العام واستخدام الخيال لضمان تطبيق العدالة والوصول إلى الشفاء الجماعي وإعادة التفاعل المجتمعي، والتفكير بكل ما له علاقة بالانتقال السياسي، وتعزيز أحقية النساء وكافة مكونات المجتمع في المشاركة الفعالة في المرحلة الانتقالية، وتوسيع التفكير بسؤال المحاسبة من منظورٍ لا انتقامي، وصولاً إلى استحقاقات إعادة الأعمار على أسسٍ تتجنب الإقصاء الاجتماعي، والاقتصادي، وتقترح آلياتٍ لتطور قطاعات التربية والتعليم، والتخطيط المدني والعمراني، والعدالة البيئية، وغيرها من المجالات الحيوية بالتوازي مع الحرص على تحسين سبل عيش السوريين والسوريات.
منذ 8 كانون الثاني (ديسمبر) 2024 تفيضُ سوريا ومهاجرها بمبادراتٍ ومقترحاتٍ عن تصورٍ مشتهى للمستقبل. وإحدى ضمانات استدامة هذه المبادرات هو التنظيم والعمل الجماعي، وعند تطبيقها في المجال الثقافي والفني أو إشراكه فيها، سيكون أمام هذه المبادرات القدرة على التغيير في القيم. لا يمكن افتراض أن هذا الأمر سيكون تلقائياً وعفوياً، أو ربما لا يكفي أن نستكين لذلك، فهناك حاجةٌ لاختبار العمل المشترك، وتطوير مساحات التفاوض والاتفاق على الأولويات، دون أن يفترض ذلك الوصول إلى أشكالٍ محددةٍ من المقاربات الفنية والتعابير الفنية أو المساومة على الحساسيات الفنية وحرية التعبير الفني. إن التفاعل مع الحيز العام يحتاج من المؤسسات توسيع عملها خارج المدن الرئيسة وخصوصاً دمشق، والتفكير في تجذير حواضنها الاجتماعية، والتعرّف على البلد مجدداً وأحوال أهله وهمومهم وإبداعهم، والحرص على التجوال داخل سوريا ولقاء المشاريع والمؤسسات المدنية والثقافية والتعرف عليها، بعد أن صارت الجغرافيا خياراً متاحاً أمام السوريين والسوريات، والإصرار على مشاركة تصوراتٍ واضحة لإنتاج رؤية وطنية لسوريا، وعرض رؤية هذه المؤسسات لالتزاماتها تجاه الحياة العامة والقطاع الثقافي ومتلقيها وعموم جماهير السوريين والسوريات.
ما نحتاجه من اللقاء والتنظيم ضمن المؤسسات الثقافية أن تساعدنا على توظيف قوة الفنون في خلق أطرٍ مفاهيمية للتدخلات الثقافية عقب 13 عاماً من تفتيت سوريا، واقتراح ديناميات تواجه بشجاعةٍ وصدق وجرأة الصدوع الحاصلة في المجتمع السوري، والبناء على القواسم المشتركة. كما ننتظر منها أن تساعدنا لنتعرّف على تجارب المنطقة العربية والعالم للتدخلات الإبداعية في المراحل الهشّة والتي تعقب النزاعات، وأن نرى مقاربتها للاستحقاقات الكبيرة ومنها قضية المغيبين والمغيبات من منظورٍ يسعى إلى موضعتهم في صميم السرديات الجامعة لسوريا الجديدة، ويساهم في الكشف عن مصيرهم، ومناصرة ذويهم، وبما يدعم جهود المؤسسات الحقوقية والقانونية والمدنية في عملها لضمان التعاطي مع هذه القضية بحساسية واعية.
وعلى صعيد تنظيم قطاع الفنون والثقافة، نحتاج من هذه المؤسسات أن تفرض علاقةً نديةً مع المؤسسة الرسمية وتشجعها وتضغط عليها لرسم سياساتٍ ثقافيةٍ تعزّز حرية التعبير والإبداع، وتعمل على تطوير الهياكل التنظيمية للكيانات الثقافية الرسمية، بما يعزز اللامركزية في إنتاج وتوزيع الثقافة، ويضمن رفع سوية الشفافية وحوكمة المؤسسات الرسمية من ناحية اتخاذ القرار وإتاحة المعلومات، وضمان وجود تشريعاتٍ تسمح بالحق في تأسيس مؤسسات مستقلة والانتظام وامتلاك هياكل ثقافية تعمل تحت أطرٍ تضمن استقلاليتها وعدم تقييد فاعليتها، ودعوة وزارة الثقافة إلى العمل مع وزارتي الاقتصاد والمالية، وأي وزاراتٍ معنية، لتطوير قوانين وتشريعاتٍ تشجِّع القطّاع الخاص على الاستثمار في قطاعي الثقافة والفنون، ودعم الإنتاج الثقافي وتشجيع المهجر السوري ليكون أحد الداعمين الأساسيين لعمل هذه الكيانات، والمساهمة في خلق مناخٍ يسمح للنقابات الفنية بالعمل بحيوية ودون تدخلٍ فيها ويضمن حقوق المنتسبين إليها.
إن أخطر ما يمكن أن يتم هو افتراض أن دعم هذه المؤسسات والكيانات يتم من خلال تقييم تجارب عملها، وآليات تنظيمها وبناها التنظيمية خلال السنوات الماضية، واقتراح تطوير فاعليتها من خلال «نمذجةٍ ذات مسطرةٍ واحدةٍ» تتسق مع ما هو سائدٌ في أدبيات التنظيم والعمل الثقافي المُمأسس. إن هذه المقاربة، عدا عن أنها ذات منظورٍ استعلائي، غير حساسةٍ لخصوصية وتكتيكات العمل التي بنتها هذه الكيانات والمؤسسات لسنواتٍ، ووسّعتها بطرقٍ شديدة التعقيد، وهي التكتيكات ذاتها التي مكّنتها من العمل على التخوم ودون مساومة على المبادئ، وساعدتها على ضمان سلامة متلقيها وأمان فرق عملها. ومن هنا فإن الانفتاح على التعلّم من هذه المؤسسات والتعرّف على أشكال تنظيمها وأدواتها هو ليس تواضعاً -والذي يظل أمراً مطلوباً- بقدر ما هو فرصة لتوسيع آفاق العمل المُمأسس بما يتسق مع خصوصية سوريا، وإعادة تطوير المفاهيم والتعلم عن كيفية الارتباط مع الفضاءات العامة.
في المقابل أمام هذه المؤسسات بشكلٍ خاص، وقطاع الثقافة والفنون عموماً، فرصةً نوعيةً لاحتضان مهاجِر سوريا والتواصل معها والتعلّم من تجاربها. ذلك أن حجم الخبرات والمعارف التي نمت في قطاع الثقافة والفنون خارج سوريا خلال السنوات الثلاثة عشر الماضية هو رصيدٌ كبير، خاض تجارب نوعية وسجالاتٍ ممتدة لرفض تهميش سوريا كقضية أساسها العدالة. ربما لم يخبرنا التاريخ القريب عن أمثلةٍ لبلدان شهدت التمزّق ثم فرص التعافي في وقتٍ قصيرٍ، نسبياً، بالشكل والمدى الذي يحدث مع سوريا، ورغم حجم التضحيات التي اختبرها هذا البلد، أمامه الآن فرصة للبدء من جديد والانطلاق من العمل المنجز في السنوات الماضية، وهنا فإن مساهمة الثقافة والفنون، من أفرادٍ ومؤسسات مستقلة، يتيح تمكين السوريين والسوريات من وكالتهم وحقهم في رسم مستقبلهم.
خلال الشهور القادمة سيكون أمام هذا القطاع الحيوي فرصةً ليكون ضمن القطاعات الرائدة في تعزيز الحياة العامة في سوريا، وكل الأمل أن يكون لدى المؤسسات الثقافية والفنية الرغبة والحماس للتعرف أكثر على جماهيرها ومجتمعاتها، وتعزيز التعاون والربط بينها وبين القطاعات المدنية المجاورة، واستكشاف الاحتمالات الكبيرة التي يمكن أن تحققها من العمل المشترك. ومن المهم أن يتاح لهذه المؤسسات أن تعود إلى التواصل مع تجارب المنطقة العربية، وأن تعزز ارتباطها مع أسئلة العمل الثقافي والفني في المنطقة العربية ومن أهمها التضامن العملي مع المؤسسات الثقافية في فلسطين، والتي تواجه عقاباً ممنهجاً نتيجة مواقفها تجاه حق الشعب الفلسطيني في رفض المجزرة المستمرة في غزة.
خلال العقود الماضية ازداد الاتجاه للحديث عن مقاربة نضج المؤسسات الثقافية والفنية والاستثمار فيه، أكثر من الحديث عن نمو وتوسّع المؤسسات وامتلاكها لأشكالٍ تنظيمية ذات نمطٍ محدد، ينطلق هذا الاتجاه من فهمٍ مفاده أن واقع الحياة اليوم، وتعقيد أزماته البنيوية، يتطلّب وجود مؤسساتٍ تمتلك وعياً عميقاً لجذور أزمات مجتمعاتها واحتياجاتها، وأن تكون ذات قدرةٍ على تحديد أدوارها بكفاءةٍ عاليةٍ تُمكّنها من المساهمة في التخفيف أو حل هذه الأزمات. يسمح هذا الفهم بتجنب اقتراض وجود «نموذجٍ مثالي» لما يجب أن تكون عليه أشكال تنظيم المؤسسة، ونفترض أن دعم المؤسسات الثقافية والفنية في سوريا ضمن هذا التوجه، هو فرصة لمساعدتها على أن تكون أكثر حضوراً في الحياة العامة، وللتعلّم من الكثير الذي تكتنزه.
موقع الجمهورية،
———————
مؤتمر الحوار الوطني السوري… بين وعد مرتقب وخطر محدق/ حايد حايد
ثمة خطر من أن يتحول الحوار الوطني إلى فرصة مهدرة
آخر تحديث 14 يناير 2025
انقضى أكثر من شهر على الإطاحة بنظام الأسد. واليوم تحولت الأنظار إلى مؤتمر الحوار الوطني الذي طال انتظاره. وهو حجر الأساس في انتقال سوريا ما بعد الأسد. وفي الوقت الذي يرنو فيه السوريون إلى مستقبلهم بعيون مفعمة بالأمل، ثمة مخاوف جدية تلقي بظلالها حول شفافية المؤتمر وشموليته وشرعيته وقدرته على تلبية توقعات الشعب.
وقد أعلنت “هيئة تحرير الشام”، الزعيم الفعلي للفترة الانتقالية في سوريا حتى الآن، أن الاستعدادات للمؤتمر جارية. ويُعتبر هذا الحدث منصة لتأسيس إطار شامل لمستقبل سوريا، ويحظى بإشادة واسعة باعتباره خطوة حاسمة نحو صياغة عقد اجتماعي جديد وتحقيق المصالحة الوطنية.
ولكن بعيدا عن الخطب الرنانة، يلف الغموض تفاصيل المؤتمر بشكل مثير للقلق. فالأسئلة الملحة حول تنظيمه واختيار المشاركين فيه وبنيته ما زالت بلا إجابة، الأمر الذي أثار الشكوك حول ما إذا كان المؤتمر سيعكس تطلعات جميع السوريين بشكل صادق، أو أنه سيعمل ببساطة على ترسيخ ديناميات السلطة الحالية.
وفي ظل غياب الشفافية والمشاركة الواسعة وخارطة طريق واضحة، ثمة خطر حقيقي من أن يتحول الحوار الوطني إلى مجرد فرصة مهدرة. وبدلا من تعزيز التقدم الديمقراطي، يمكن للمؤتمر أن يعزز هيمنة هياكل السلطة الحالية، ما يقوض الآمال في مستقبل تشاركي يحظى بتمثيل حقيقي لأطياف المجتمع السوري كافة.
رؤية طموحة ووضوح محدود
في مقابلة أجريت معه مؤخرا، حدد أحمد الشرع، رئيس الإدارة الانتقالية وزعيم “هيئة تحرير الشام”، رؤية واسعة للمؤتمر غير أنها غامضة. وذكر أن العملية ستكون تشاركية. وتمثل مختلف الملل والطوائف والمجتمعات في سوريا. واقترح مسؤولون آخرون في “هيئة تحرير الشام” أن يجمع المؤتمر نحو 1200 مشارك من جميع أنحاء البلاد، يمثلون محافظات وقطاعات اجتماعية متنوعة.
ويضم جدول الأعمال المقترح مواضيع بالغة الأهمية مثل صياغة دستور جديد للبلاد، وحل البرلمان، وتشكيل حكومة انتقالية، والتحضير للانتخابات الوطنية. وألمح الشرع إلى أن القرارات سوف تتخذ من خلال عملية تصويت. وكان من المقرر أن يعقد المؤتمر في أوائل يناير/كانون الثاني، ولكن ارتأى القائمون على تنظيمه ضرورة تأجيله للسماح بتشكيل لجنة تحضيرية موسعة، بهدف ضمان التمثيل الشامل لجميع شرائح ومحافظات سوريا، على حد زعمهم.
ورغم هذه الضمانات، فالمخاوف ما زالت كبيرة بخصوص غياب الشفافية في ما يتعلق بتوقيت المؤتمر وإطاره وأهدافه وإجراءاته. ليبرز إلى الواجهة الكثير من الأسئلة الملحة: من الذي سيختار اللجنة التحضيرية؟ وعلى أي أساس سوف يُنتقى الأعضاء؟ وما الآليات الموضوعة لضمان الشمولية والمساءلة؟
تلقي هذه الأسئلة المتروكة بلا إجابات بظلال من الشك على العملية برمتها، ما يغذي المخاوف من أن “هيئة تحرير الشام” قد تستغل مركزها المهيمن للسيطرة على جدول الأعمال والتلاعب بالنتائج.
التحديات التي تواجه التمثيل الحقيقي
إن أكثر ما يدعو إلى القلق هو الافتقار إلى الشفافية في التخطيط للمؤتمر. وتشير التقارير إلى أن الدعوات ستوجه إلى الأفراد بدلا من الكتل السياسية أو المجموعات المنظمة، مع تخصيص التمثيل على أساس الحصص الجغرافية. وعلى الرغم من أن هذا النهج يهدف ظاهريا إلى تحقيق التوازن الإقليمي، بيد أنه يثير تساؤلات بالغة الأهمية في الوقت نفسه حول كيفية اختيار المدعوين والمعايير التي ستوجه إدراجهم.
كما يثير هذا الغموض مخاوف جمة من أن “هيئة تحرير الشام” ستسعى إلى اختيار المشاركين الذين يتوافقون مع رؤيتها، الأمر الذي سيفضي إلى تهميش الأصوات التي تتحدى هيمنتها. ومن خلال دعوة الأفراد المرتبطين بالهياكل الدينية والاجتماعية التقليدية- والتي اعتادت منذ فترة طويلة على العمل في ظل حكم استبدادي– فثمة خطر حقيقي يتجلى بخلق واجهة من الشمولية مع تهميش الأصوات المستقلة.
وحتى لو عمل المنظمون على إشراك التكنوقراط وممثلي المجتمع المدني والمشاركين غير المنتمين لأي حزب، فإن نفوذهم سوف يكون محدودا وتأثيرهم ضئيلا إذا كانت العملية مصمَّمة لترسيخ ديناميات السلطة القائمة، كي تكون النتيجة مؤتمرا يعرض مظاهر التنوع بينما يفشل في تقديم نقاش هادف أو مساءلة ذات مغزى.
إن الافتقار إلى الآليات الواضحة التي تضمن العدالة والإنصاف سوف يؤدي حتما إلى تعميق هذه المخاوف. وفي ظل غياب ضمانات الشرعية والشمولية، يخاطر المؤتمر بإبعاد أولئك الأشخاص الذين يهدف إلى تمثيلهم، ما يقوض الهدف الأوسع في الوصول إلى المصالحة الوطنية.
رسم الطريق نحو المستقبل
يقدم مؤتمر الحوار الوطني فرصة نادرة لإعادة رسم ملامح مستقبل سوريا، لكن نجاحه يعتمد على معالجة ثلاث قضايا حاسمة: الشفافية والشمولية والمساءلة.
أولا، لا بد من إعطاء الأولوية للشفافية. فالسوريون يستحقون أن يعرفوا كيف تُتخذ القرارات، ومن هم المشاركون، وما التدابير المتخذة لضمان العدالة. ويعتبر وضوح الرؤية بالنسبة لعامة الشعب ضرورة حتمية لبناء الثقة في العملية وفيما سوف يتمخض عنها على حد سواء.
ثانيا، على المؤتمر أن يتوجه فعليا بحواره إلى عدد أكبر من الناس، وليس إلى أولئك الحاضرين في القاعة وحسب. كما ينبغي للحوارات المحلية والمشاورات العامة أن تغذّي المناقشة الوطنية، فتخلق جسرا بين الأصوات الشعبية وأولئك الذين يصنعون القرار الرسمي. إن هذا النهج سيقدم ضمانا على أن يعكس الحوار تطلعات الشعب السوري المتنوعة.
وعلاوة على ذلك، لا ينبغي البتّ في القرارات التأسيسية- مثل الدستور، ونموذج الحكم، وغير ذلك من القضايا المحورية- من خلال تصويت الأغلبية البسيطة. بدلا من ذلك، تتطلب هذه القضايا إجماعا واتفاقا في الرأي لمنع أي مجموعة من تحديد مسار الأمة من جانب واحد. ويشكل اتخاذ القرارات على أساس الإجماع ضرورة حتمية لتعزيز الثقة والوحدة بين المجتمعات السورية المجزأة.
وأخيرا، لا بد من إرساء آليات صارمة للمساءلة تضمن التزام المشاركين بمخرجات الحوار. وفي غياب هذا النوع من الحماية والضمانات، ثمة خطر كبير من أن تستغل الجهات الفاعلة القوية العملية برمتها لتحقيق مكاسبها الخاصة، الأمر الذي سوف يقوض التطلعات الديمقراطية الأوسع.
وبعد أكثر من عقد من الصراع الدامي والمدمر، لم يتكبد السوريون كل هذه التضحيات والخسائر كي يقبلوا في النهاية بدور هامشي وممارسة جوفاء على المسرح السياسي. لا بد للحوار الوطني أن يقدم خطوات ملموسة نحو الديمقراطية والشمولية وعدم الإقصاء، بدلا من أن يكون ذريعة لتعزيز السلطة القائمة. وأي شيء أقل من ذلك سيكون خيانة لتطلعات أمة تتوق إلى السلام والعدالة وتقرير المصير.
وفي حين يجب أن تظل هذه العملية بقيادة سورية، فإن الأطراف الإقليمية والدولية المعنية لها دور حاسم في هذا السياق. ويتعين على هذه الأطراف كافة أن تدعو إلى قدر أكبر من الشفافية والتشاركية، وأن تكون الضامن كي يتحول المؤتمر إلى خطوة حقيقية نحو المصالحة والاستقرار، وليس فصلا آخر في تاريخ سوريا من الفرص الضائعة.
وللوصول إلى هذه الغاية، لا بد للجهات الفاعلة الدولية أن تذهب إلى ما هو أبعد من الإدلاء بتصريحات الدعم العامة وتبدأ بطرح أسئلة واضحة تغطي أدق التفاصيل حول العملية والتدابير المتخذة التي من شأنها ضمان العدالة والشمولية.
ولكي تمضي سوريا بثبات نحو المستقبل، يتحتم على الحوار الوطني أن يتجاوز الخطب الرنانة ويفي بوعوده. وإذا لم يرتق إلى ما هو مطلوب منه فثمة خطر حقيقي في إهدار هذه الفرصة التاريخية التي تلوح أمام السوريين لبناء مستقبل ديمقراطي، والحكم عليهم بدورة أخرى من الاستبداد واليأس.
المجلة
——————–
أملاك السوريين في الشمال السوري… ضحيّة صراع قوى الأمر الواقع/ شفين يوسف
14.01.2025
“غالبية المطرودين من منازلهم، أو المهجرين من المدينة، يخشون من إعادة الاستيلاء على المنازل عبر تزوير محاضر عقاراتهم، بحجة التعافي المبكر، أو إعادة الإعمار، وهو يعني فقدان الحق بملكيتهم إلى الأبد”.
الصراع الطويل في سوريا، أدى إلى تبدلات وتحولات معقدة، على مستوى تركيبة السكان والتغيير الديمغرافي، تبعاً للجهات المسيطرة عسكرياً وإدارياً وأمنياً. وكنتيجة للتطورات التي رافقت الثورة السورية، فإن جغرافية الشمال السوري انقسمت بين ثلاث كتل عسكرية، هي “جبهة تحرير الشام” المسيطرة على إدلب وقسم من الأرياف المحيطة بها من جهة حلب واللاذقية، و”الجيش الوطني” المسيطر على ريف حلب الشمالي والشرقي عفرين، في حين تسيطر “قوات سوريا الديمقراطية” على الشمال الشرقي من البلاد.
حكومة الإنقاذ التي لم تُنقذ أملاك الناس!
تحمل ذاكرة المسيحيين والدروز في إدلب، ذكريات مريرة ودموية مُدمرة، وسط الصراع على النفوذ، إذ تضم مناطق الشمال الغربي 16 قرية درزية، تتوزع في جبل السماق، ومن أكبرها وأكثرها تضرراً وسيطرة على الأملاك، قرى وبلدات بنابل، كفر نبي، جدعين، عبريتا، كفتين، وقلب لوزة.
لا إحصاءات دقيقة بخصوص توزع الجماعات الدينية شمال سوريا، لكن تتداول أوساط دينية من الدروز أن عددهم فيها قرابة الـ30 ألف نسمة قبل العام 2011، ولم يتبقَّ منهم سوى ما يقارب الـ5 آلاف فقط، بالإضافة إلى ست قرى وبلدات مسيحية، هي: حلوز، الجديدة، اليعقوبية، الغسانية، القنية، التي لم يتبقَ من سكانها سوى بضع مئات، بعدما كانوا بالآلاف قبل عام 2011.
وتتبع بلدة جدعين الدرزية مدينة كفر تخاريم في محافظة إدلب، عاش أهلها أياماً وسنوات صعبة، بسبب العلاقات المتوترة بينهم وبين “هيئة تحرير الشام”. يقول ماهر حمدان أحد سكان البلدة لـ”درج” عبر الهاتف: “حاصرت الهيئة المدينة، وسعت الى السيطرة الميدانية والعسكرية عليها؛ لإخضاع جميع المدن الكبرى وتسلّم إداراتها”، مضيفاً: “مع كل توسع وتصعيد، ندرك حجم الكارثة التي تنتظرنا؛ فإذا كانوا ينتمون إلى مذهب وفكر ودين واحد ويتصرفون بهذه الطريقة، فكيف سيكون الحال معنا، وسط ضخامة الإشاعات والتشويه الذي لحق بنا”.
من جهتها، تقول منال الصلخدي؛ واحدة من أهالي بلدة عبريتا لـــ”درج”: “احترنا ما بين البقاء ومشاهدة الغرباء يستولون على منازل جيراننا وأهلنا، أو الهجرة وترك أملاكنا لهم”. وتتحدث عن التغيرات التي أصابت التركيبة السكانية، وعن سيطرة العناصر الأجنبية المنضوية في “هيئة تحرير الشام” على عقارات البلدة.
تقول الصلخدي: “حين انسحب النظام السوري، رفضنا الخروج أنا وزوجي، في حين هاجر أبناؤنا مع عوائلهم، بالتزامن مع هجرة قسم كبير من السكان بخاصة الشباب، وبقينا نحن المسنين نواجه هذه الصعاب وحدنا، إذ نعمل زوجي وأنا في صناعة المربيات والمخلل وبيعها في الأسواق، لم يتعرض لنا أحد بالسوء، لكن الهيئة صادرت أملاك أبنائي من منازل وعقارات، وأحدهم كان يملك 10 دونمات زراعية، وسلمتها لعناصر من دول أخرى لا نفهم لغتهم، وحين اعترضنا، كانت التهمة جاهزة: أبناؤكم كانوا يقاتلون مع النظام”.
لم يختلف الحال كثيراً مع قرية كفر نبي التي كانت تسكنها سابقاً عائلات درزية، وفقاً لما أكده زياد عيدو مسترجعاً ذكرياته: “دخلت الفصائل القرية، اعترانا الخوف والرعب، وسيطرت علينا هواجس المصير المجهول، فعناصرها غير منضبطين، وتم اعتقال من رفضوا تسليم منازلهم للمقاتلين الأجانب”.
لا يختلف حال المسيحيين عن الدروز، ففي قرية الغسانية بالقرب من جسر الشغور، قرر فادي ملكي البقاء في منزله، ورفض المغادرة بعد تأمين وصول عائلته إلى القامشلي، وفضل البقاء للحفاظ على أملاكهم، وقال لـ”درج” عبر الهاتف: “الغالبية هاجرت خوفاً، فتلك الفصائل كانت تعتبر موقف المسيحيين الحيادي انحيازاً للنظام، رافق ذلك مؤشرات إلزامنا بدفع الجزية، والسيطرة على منازل الأهالي الفارين من الموت وممتلكاتهم، وإغلاق كنيسة مريم العذارء”.
تغيرات في السياسات وتحول في النهج
أعاد المحامي إدوار حلو (اسم مستعار) من أهالي قرية اليعقوبية في ريف إدلب الغربي، التغيرات التي طرأت على سلوكيات “هيئة تحرير الشام” خلال العامين الأخيرين، إلى “محاولات “الهيئة” رفع اسمها عن لوائح الإرهاب، وربما كانت تُخطط لتوسيع نطاق جغرافية سيطرتها منذ تلك الأعوام”، وقال: “فجأة ومن دون تمهيد، قررت الهيئة إعادة قسم ليس بالقليل من الأملاك والعقارات المصادرة إلى أهلها، أو وكلائهم، ووافق الجولاني على إعادة فتح كنيسة القديسة آنا في قريتنا، بعد لقائه مع عدد من مسيحيي إدلب من قرى ريف جسر الشغور، وتم سحب أعداد كبيرة من الفصائل من داخل القرى والبلدات المسيحية والدرزية، لكن ما تزال قضايا اللباس والشعر المكشوف، والضوابط الصارمة لمنع الاختلاط بين الجنسين موجودة”.
في حين ترى ثريا نجم الدين من ريف إدلب، وهي طالبة ماجستير علم اجتماع في جامعة دمشق، أن “سرديات حقوق الأقليات سمعناها من النظام السوري أيضاً، من دون اقترانها بالأفعال والسلوكيات. يتحدثون عن حقوق الأقليات، ويفرضون الإطار والهوية الدينية. يستولون على أملاك الأقليات، ثم يتحدثون عن دمجهم مجتمعياً، الواضح أن العيش ضمن دولة مركزية، سيكون كفيلاً بالحفاظ على التوترات والنزاعات إلى عقود مقبلة”.
سيطرت الإدارة الذاتية على عفرين منذ بدايات الثورة السورية، وأكد ناشطون أن العملية كانت تسليماً وتسلّماً بينها وبين النظام السوري، وفي حديثه عبر “واتساب” مع “درج”، قال عضو المجلس المحلي في بلدة جندريسي ريناس كردو؛ وفق ما طلب تسميته لأسباب أمنية: “توافد المئات من عناصر حزب العمال الكردستاني من تركيا وإيران، الذين لم يكن لهم أي سكن أو إقامة سابقة، ومع زيادة وتيرة الهجرة من عموم عفرين وريفها، زادت معها عمليات السيطرة على المنازل الفارغة التي تركها أهلها، ولم تنفع كل محاولات التوسط أو الضغط او الإعلام لإعادة تلك المنازل”.
وأضاف كردو: “كانت تُهمة التآمر على مكتسبات ثورة روج آفا والتعاون مع تركيا ضدهم، جاهزة في وجه كل من دافع عن أملاك أبنائه أو أخوته المهاجرين”، يضحك طويلاً قبل أن يُنهي حديثه “خرجت قواتهم وجاءت قوات أخرى أكثر وحشية وسوءاً، فعناصر الحمزات والعمشات وأحرار الشرقية، لم يسلم من شرهم حتى من بقي في منزله، من مصادرة الأملاك والعقارات والأراضي، إلى الشراكة وفرض الإتاوات على الأرزاق”.
وسيطرت فصائل المعارضة السورية التي كانت تُسمى “الجيش الوطني السوري”، على عفرين وريفها في عام 2018 خلال المعركة التي جرت بينها؛ بدعم من تركيا، وبين قوات الحماية الشعبية التابعة لحزب “الاتحاد الديمقراطي” المسيطر على الإدارة الذاتية. ووفقاً لمنظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” فإن الاستيلاء مستمر “على ممتلكات السكان المحليين من خلال النهب والاحتلال، وكذلك الضرائب الباهظة، يمنع سكان عفرين المهجرين قسراً من العودة إلى بيوتهم، ويهدف إلى إرغام من بقوا على الفرار”.
وقال حنان عبدو (42 عاماً) الذي نزح من عفرين بعد عام 2018: “سيطر ما يُعرف بالجيش الوطني على عقارات ومساكن تعود ملكيتها إلى أهالٍ من عفرين وريفها، وتم إسكان عوائل مقاتلين من الفصائل، أو تأجيرها من قبل عناصر تلك الفصائل لأناس من النازحين إلى عفرين”.
ووفقاً لعبدو فإن أكثر ما فضح عمليات الاستيلاء على العقارات، كان زلزال شباط/ فبراير 2023، الذي ألحق خسائر فادحة بمدينة جنديرس، وكشفت الأضرار سواء الكلية أو الجزئية التي لحقت بالمباني والمساكن، حجم الغُبن والنهب المنظم، حيث إن أغلب المنازل المتضررة كانت لأهالي المدينة، لكن كان يسكنها الغرباء، وتحولت إلى ركام وأطلال، ولم يبقَ منها سوى محاضرها السكنية”.
وختم عبدو حديثه “غالبية المطرودين من منازلهم، أو المهجرين من المدينة، يخشون من إعادة الاستيلاء على المنازل عبر تزوير محاضر عقاراتهم، بحجة التعافي المبكر، أو إعادة الإعمار، وهو يعني فقدان الحق بملكيتهم إلى الأبد”.
أكد ما سبق المحامي جوان جانو من جنديرس، الذي قال: “عمليات تزوير سندات ملكية محاضر العقارات جارية على قدم وساق، وبناء التجمعات السكنية مستمر، وغالباً يتم منحها إما لعوائل المقاتلين وإما للمحسوبين عليهم، والواضح أن التغيير الديمغرافي مستمر على أكمل وجه”.
تجريد الكرد من ممتلكاتهم، شمل عمليات استيلاء واسعة على ممتلكات أتباع الديانة الإيزيدية في عفرين، من منازل ومحال تجارية، وبساتين، وبيوت عبادة، حيث أكد ذلك بيخال مردو (39 عاماً) من أهالي قرية بافيلون في ناحية شران في عفرين؛ وجميع سكان تلك القرى من الإيزيديين، إذ قال: “فصيل الجبهة الشامية استولى على القرية بالكامل، مما دفع بالغالبية العظمى إلى الهجرة والهرب، وتم توطين نازحين أو عوائل مقاتلي الفصيل في بيوت الأهالي، وتحويل بعض المنازل إلى مقار أو قواعد عسكرية”، مضيفاً: “مشكلتنا أكبر من غيرنا، جُردنا من منازلنا وأملاكنا، واتهمنا بالشيطنة والكفر والإلحاد، وأن السطو على منازلنا يُعتبر نصرة للإسلام وفقاً لعقلهم الإجرامي”.
وقال برخدان أحمد عضو المجلس المحلي “للمجلس الوطني الكردي” في عفرين: “إن بعض الفصائل وخاصة العمشات، سيطروا على منازل السكان النازحين في تل رفعت والشهباء، وبعد عودتهم إلى قراهم رفضت تلك الفصائل إعادة المنازل قبل دفع مبلغ يتراوح بين 2500-4000$ لإعادة المنزل إلى صاحبه”، مضيفاً: “لم يحصل في تاريخ سوريا، بما فيها حقبة البعث والنظام البائد نفسه، أن خُير صاحب دار بين النوم في العراء أو دفع مثل هذا المبلغ لقاء إعادة حقه وأملاكه المسلوبة، وأساساً هل يُمكن لنازح من بيته إلى مُخيم، وعائد إلى منزله، أن يملك مثل هذا المبلغ؟”. يبدو أن في عفرين قصة خاصة تتجاوز منطق المنازل، حيث “تم تشييد أكثر من 24 مجمعاً سكنياً في مناطق مختلفة منها، خُصصت للغرباء عن المنطقة فقط، من دون أن يُستفاد منها أبداً”.
الإدارة الذاتية تستولي على منازل المسيحيين المهاجرين
نشرت “الشبكة الآشـورية لحقوق الإنسان” بياناً مفصلاً قالت فيه: “إن جهات أمنية مسلحة تابعة لما يعرف بـ “الأسايش” قامت خلال الأيام القليلة الماضية، بكسر أقفال عدد من المنازل وفتح أبوابها بالقوة، في حي الوسطى والحي الغربي في مدينة القامشلي، وفي مساكن الشهداء ومساكن المحطة ومنطقة تل عزة في محافظة الحسكة، واستولت بالقوة على عدد من المنازل والعقارات، التي تعود ملكيتها إلى مواطنين سوريين من أبناء المكون السرياني الآشـوري (مسيحيون)”.
وأضافت الشبكة: “المنازل مُنحت لنازحين تم استقدامهم من مناطق عفرين وحلب، وهم بمعظمهم من القيادات العسكرية والسياسية المحسوبة على الإدارة الذاتية”، وفي حديثها مع “درج” قالت ماريا؛ وهي من عائلة أحد المهاجرين الذين استولي على منزلهم: “هاجر خالي إلى أوروبا منذ عدة سنوات، نتيجة للوضع الأمني والمعيشي، وبقي المنزل مغلقاً طوال تلك الفترة، ترددنا عليه بين الحين والآخر، كي لا يُترك مغلقاً، حتى تفاجئنا بكسر الأقفال ومنحه لشخص لم نفهم لغته الكردية، ولم يكن يُجيد الحديث بالعربية، وحين طالبناهم بالخروج رفضوا وأصروا على البقاء فيه”.
من جهته، قال محامٍ مقرب من “المنظمة الديمقراطية الآشورية” في حديثه مع “درج”، رفض الكشف عن هويته بسبب عمله ضمن محاكم الإدارة الذاتية: “إن هذه الأعمال تُعتبر انتهاكات جسيمة، وإجراءات تعسفية وممارسات غير قانونية، من حق الجميع ترك منازلهم والهجرة، وعلى أي سلطة تحكم هذه المناطق، أن تُراعي حساسية التكوين القومي والديني فيها، ومنع الاعتداء على منازل النازحين والمهاجرين”، مضيفاً: “تعهدت الإدارة الذاتية بإعادة المنازل المستولى عليها، لكنها لم تنفذ وعدها بعد”.
سبق أن أصدرت “الإدارة الذاتية في شمالي وشرقي سوريا في عام 2020 قانون “حماية وإدارة أملاك الغائب”، لإدارة أملاك الأشخاص المقيمين خارج سوريا، في مناطق سيطرتها، ولا يقيم أحد من أقاربه من الدرجة الأولى أو الثانية في سوريا، ثم تراجعت عنه بعد ضغط واعتراضات كبيرة شهدتها المناطق العربية مثل دير الزور والرقة، لكنها استخدمته في بعض المناطق والأحياء في قامشلو قبل أن تعيد المنازل بعد أشهر عدة.
درج
——————————–
التيّارات الإسلامية وتداعيات الزلزال السوري/ محمد أبو رمان
14 يناير 2025
يعيد صعود هيئة تحرير الشام في المشهد السوري، بعد إسقاط نظام الأسد، الإسلام السياسي إلى واجهة النقاش والجدل في الساحات السياسية والفكرية العربية، بعد سنين عجاف مرّت بهما هذه الحركات في مختلف الاتجاهات الأيديولوجية التي تنتمي إليها. إلا أن التطوّرات السورية تثير تساؤلاتٍ وأسئلةً أكثر ممّا تقدّم إجاباتٍ واضحةً لدور الإسلاميين في المرحلة المقبلة ومستقبل السياسة العربية بأسرها، مع إعادة الأمل لهم (الإسلاميين) بإمكانية التغيير مرّة أخرى بعد عقد ونصف العقد من بزوع مرحلة “الاحتجاجات الشعبية العربية”.
لا يرتبط السؤال الكبير بتقييم هذه الحركات، نجاحاً أو فشلاً، بوصفها جزءاً من الحلّ أم من المشكلة، بكونها فشلت في تجربتها السياسية أم أُفشِلت، لكنّه مرتبط بتأثير ما حدث في سورية فيها وفي قدراتها ومساراتها خلال المرحلة المقبلة، ففي حين هيمنت ثلاثة اتجاهات رئيسة خلال العقود الأخيرة على الاتجاهات الأيديولوجية والسياسية الإسلامية، من يمكن تسميتهم بـ”الإسلاميين السياسيين المعتدلين” (الذين يؤمنون بصندوق الاقتراع للوصول إلى السلطة السياسية)، والجهاديين (الذين يؤمنون بالعمل المسلّح ويرفضون الديمقراطية ويُكفّرون من يقولون بها)، والسلفيين التقليديين (المستنكفين عن العمل السياسي قبل “الربيع العربي”، قبل أن يدخلوا في تحوّلات وتقلّبات عديدة)، فإنّ الاتجاه الجديد الذي تمثّله هيئة تحرير الشام يعتبر جديداً ومختلفاً، ويرتبط مصيره السياسي بقدرٍ كبير من الغموض.
يتجاوز ما حدث في سورية حدودها الجغرافية والسياسية، ويصل مداه الفكري والسياسي إلى دول ومجتمعات عربية كثيرة، ضمن ظروف سياسية واقتصادية هشّة تمرّ بها كثير من هذه البلاد، وحالة “فقدان وزن إقليمي” يمرّ بها النظام العربي بأسره، مع غياب الأيديولوجيات والأفكار السياسية الكبيرة لدى الحكومات العربية التي عجزت عن القيام بأيّ دور فاعل في التعامل مع التطوّرات الإقليمية بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (2023)، بخاصّة مع حرب الإبادة الإسرائيلية للفلسطينيين في غزّة، ومع حكومة يمينية إسرائيلية لا تخفي نواياها في ضمّ الضفة الغربية والسيطرة الكاملة على القدس، وفي لحظة تاريخية حاسمة في تاريخ المنطقة مع عودة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، لكن معه هذه المرّة فريق أكثر يمينية وبأفكار صهيونية مُعلَنة وواضحة للعيان، وحالة من الترقّب الإقليمي وعدم اليقين تجاه مسار التطوّرات الإقليمية المقبلة. ذلك كلّه يتجمّع في مربّع مكثّف ليشكّل “مفترق طرق” على أكثر من صعيد.
بالعودة إلى التيّارات الإسلامية، ولنبدأ بالحركة الأمّ جماعة الإخوان المسلمين وشقيقاتها في دول المغرب العربي، نجد أنّ هنالك حالةً من الإحباط الشديد لدى أتباعها وأنصارها، وفي وقتٍ تعاني فيه هذه الحركة من المنع والحظر والاتهام بالإرهاب في دول عربية عديدة، فإنّها تواجه انهياراً في قدراتها السياسية في دول أخرى، وبالرغم من الفوز النسبي الذي حقّقه الإسلاميون في الأردن (في الانتخابات النيابية الماضية بحصولهم على قرابة 30 مقعداً في مجلس النواب)، إلّا أنّهم يبقون أقلّيةً، ولا يمثّل هذا الانتصار تغييراً يذكر في مشهد هذه التيّارات عربياً، بينما دخلت حركة النهضة في تونس في النفق نفسه الذي وصلت إليه الجماعة الكبرى في مصر، ويقبع زعيمها ورئيس مجلس النواب راشد الغنوشي في السجن، فيما تراجع حزب العدالة والتنمية في المغرب إلى درجة كبيرة، ولا يتجاوز الإسلاميون الجزائريون خطوط المشاركة السياسية التقليدية المحدودة، بعد سنين طويلة من جدل المشاركة والمقاطعة هناك، أمّا في ليبيا فتختفي الألوان الإسلامية تحت وطأة الحرب الداخلية ذات الامتدادات الإقليمية بين حكومتَي الغرب والشرق.
تمثّل حركة حماس أحد أبرز التجلّيات الرئيسة لجماعة الإخوان المسلمين في العالم العربي، وتثير الحرب الإسرائيلية في غزّة أسئلةً ملحّةً لدى نسبة كبيرة من أبناء التيّار الإسلامي “المعتدل” عموماً، بخاصّة بعد صعود هيئة تحرير الشام، حول جدوى العمل السياسي البرلماني والديمقراطي، الذي لم يؤدِّ إلى تغييرات بنيوية، بل تورّطت تلك الحركات في دهاليز العملية السياسية، وانتهى بها الأمر إلى السجون والنفي ومقصلة الإعدام، أو الفشل الشعبي مرّة أخرى، ولا تقدّم “سردية المظلومية” التاريخية لدى الجماعة اليوم أجوبةً عن الأسئلة المستقبلية، بخاصّة السؤال الأكبر: ما العمل؟ فضلاً عمّا تثيره الحرب الإسرائيلية من أسئلة لدى شباب هذه الحركات عن مدى مصداقية القيم الديمقراطية والليبرالية، وإمكانية تطبيقها في هذا الموقف الأميركي المتماهي مع حرب الإبادة في غزّة.
في المقابل، فإنّ لجوء هذه الحركات إلى حمل السلاح (في دول عربية كثيرة، بخاصة التي تعاني فيها من الحظر والتهميش) مسألة غير مطروحة، بعد هذا التراكم الفكري والسياسي ونضوج قناعاتهم برفض هذا المسار، بالرغم من دعوات بعضهم إلى العودة إليه وإلى “الفكر القطبي”، إلا أن السنوات الأخيرة أظهرت تخلّيهم عن هذا الطرح، لكن ربّما تشكّل الحالة السورية الجديدة، وفي حال نجحت هيئة تحرير الشام بتقديم نموذج جديد في الحكم مستوحىً من النموذج التركي (والمقصود هنا المرتبط بأيديولوجيا العدالة والتنمية التركي، الذي تخلّى عن الشعارات الإسلامية التقليدية، ودخل في مرحلة جديدة من الممارسة السياسية منذ عقدين ونصف)، إلى تحفيز هذا التيّار للقفز نحو مرحلة جديدة من الخطاب السياسي البراغماتي المشابه للسوريين.
مع ذلك، من الضروري أن نضع بالاعتبار أنّه بالرغم من تراجع نفوذ جماعة الإخوان المسلمين وتأثيرها في سورية، خلال العقود الأخيرة، فإنّ الواقع السياسي الجديد قد يشكّل عودة قوية للجماعة، بخاصة أنّها ما زالت تملك قواعد شعبية وسياسية، وربّما تكون منافساً لـ”الصيغة الحزبية” الجديدة لهيئة تحرير الشام، وهو ما يدفع إلى التساؤل عن موقف النظام العربي، بخاصّة ما تثيره العديد من الدول من حساسيات شديدة تجاه الإسلام السياسي، فالأفق المستقبلي لهذا لاتجاه السياسي ما زال برسم التطوّرات والتحوّلات، وكمّ كبير من المتغيرات التي تتداخل في تشكيل المرحلة الجديدة.
في ما يخصّ التيّار السلفي، الذي تفاعل في دول عربية عديدة مع الاحتجاجات والتحوّلات السياسية، وشهدت الأعوام التي تلت 2011 محاولات عديدة لتشكيل أحزاب سياسية سلفية، كان أبرزها حزب النور المصري، الذي ما زال قائماً وحاضراً في المشهد المصري، وإن كان ذلك بتأثير محدود جدّاً، فيما عادت أغلب اتجاهات التيّار السلفي إلى العمل الدعوي والوعظي، وتخلّت عن الطموحات السياسية، خلال العقد الماضي، ويمكن هنا تسجيل ملاحظة مدهشة، سواء في الحالة المصرية أو الليبية أو حتى السورية (مع الأخذ بعين الاعتبار الخلفية السلفية – الجهادية لهيئة تحرير الشام)، أنّ هذا التيّار أظهر براغماتيةً سياسيةً تجاوزت، ليس الإسلاميين فقط، بل التيّارات السياسية الأخرى، وساعدتهم في ذلك “ترسانة التراث الفقهي”، التي تمنحهم مساحةً واسعةً من التقلّبات بذريعة فقه الضرورة والمصالح والمفاسد والتعامل مع الحكومات التسلطية والاندماج، ثمّ سرعة الانكفاء عن العمل السياسي، وهي حالة جديرة بالتعمّق في الدراسة والتحليل (ألّف كاتب هذه السطور كتاباً عن هذه التحولات، “السلفيون والربيع العربي… سؤال الدين والديمقراطية في السياسة العربية”، عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، 2013، ثمّ أضاف في الطبعة الثانية منه فصلاً خاصاً عن البراغماتية السياسية لدى حزب النور السلفي).
بيد أنّ مشكلة السلفيين التقليديين اليوم لا تقتصر على الموقف من العملية السياسية، فمن الواضح أنّهم خسروا كثيراً من “الدلال” الذي كانوا يحظون به مع الحكومات السلطوية العربية، قبل “الربيع العربي”، وأدارت لهم السياسات الجديدة ظهر المجنّ، وانقلبت إلى دعم خصومهم الصوفيين ورعايتهم، بعدما رأوا أن الاتجاه الصوفي، بتركيزه على الفردية والروحانيات، أكثر أمناً وأماناً للسياسة العربية من الأفكار السلفية، التي وإن كانت تتجنّب السياسة خلال مرحلة ما قبل “الربيع العربي” (2011)، إلا أن ما وصلت إليه من “هيمنة ثقافية” على المجتمعات العربية، وقابليتها للتحوّل وتقديم نماذجَ سلفيةٍ مختلفة، دفع إلى تحويل الاتجاه في موقف كثير من النظم العربية من هذا الاتجاه.
الاتجاه الثالث هو السلفي الجهادي، الذي انقسم بدوره بعد صعود تنظيم داعش في العام 2013، ثمّ إقامته دولته التي امتدت سنين عدّة، وما أحدثه من زلزال أمني عالمي وإقليمي، بين هذا التيّار والتنظيم الجهادي الأمّ المتمثل بـ”القاعدة”، وإذا كانت هيئة تحرير الشام قد انفصلت بصورة كاملة، أيديولوجياً وحركياً، وحتى سيكولوجياً، عن القاعدة، فإنّها ليست الضربة الأولى لها، بل سبقها انقلاب “داعش” عليها، وخسارة القيادات التاريخية الكبرى في الشبكة، في أفغانستان واليمن والسعودية والمغرب العربي، وفي الأثناء تخلي حركة طالبان عن العلاقة مع التنظيم، الذي يبدو اليوم في حالة “كومة تنظيمية”، وبلا أفق أيديولوجي حقيقي، وغياب مؤشّرات إلى عودته على المدى القريب.
في الطرف المقابل، بالرغم من خسارة تنظيم داعش، ليس لـ”خلافته” (كان شعارها باقية وتتمدّد) فقط، بل حتى لجزء كبير من سرديته الأيديولوجية، وما لحق به من هزائم متتالية، في مقابل نجاح لخصومه “طالبان” وهيئة تحرير الشام، إلا أن التنظيم لم يمت، ويُظهِر قدرةً كبيرة على التأقلم والتكيّف العملياتي مع هذه التطوّرات، ولا يتوانى عن استثمار أيّ ظروف سياسية وأمنية لملء الفراغ، وهو بما اتخذه من أساليب جديدة في التجنيد والدعاية ما زال قادراً على اكتساب العديد من الأتباع والمؤيدين، ومرشّحاً مع حالة الغضب والإحباط لدى جيل كبير من الشباب العربي للعودة عبر استثمار هذه الحالة، وإن كان ذلك لن يكون بالصيغة التي ظهر عليها في نسخته السابقة.
إذا تجاوزنا هذه الخريطة المتشعبة للاتجاهات الإسلامية، فإنّ النظرية التي من المفترض أن تكون حاضرة في تحليل ما يحدث (أو سيحدث مستقبلاً)، هي أنّ الإسلاميين ليسوا بالضرورة متغيّراً مستقلاً، بل قد يكونون في كثير من الأحيان متغيراً تابعاً، في تحوّلاتهم وصعودهم وتراجعهم، فهم محكومون بالحالة العامّة في الدول والمجتمعات العربية، وبالتطورات الداخلية الخاصة بالعديد من الدول العربية، في ظلّ ظروف داخلية وإقليمية أبعد ما تكون عن الاستقرار والهدوء، وفي ظلّ أزمات مركّبة تمرّ بها هذه المجتمعات والدول.
العربي الجديد
—————————–
لبنان وسوريا: تشابك المسارات الانتقالية في مرحلة التحولات الكبرى
رأي القدس
تحديث 14 كانون الثاني 2025
زلزال سياسي هذا الذي آلت اليه سريعاً الاستشارات النيابية الملزمة وفقاً لما يقتضيه الدستور، لاختيار رئيس لحكومة لبنان، وكان هذا أول اختبار يواجهه الرئيس المنتخب حديثاً جوزف عون، ويتضح في ضوئه حجم المدى المعطى له داخلياً وخارجياً للسير بمضامين خطاب القسم الذي تلاه حال انتخابه والذي شدّد فيه على مرجعية الدولة وحدها في احتكار السلاح، وعلى تصحيح علاقات لبنان مع الدول العربية، وعلى احتضان كل منكسر في الداخل اللبناني ووجوب التركيز على أولويات استرجاع الأرض وعدم تجدد الحرب وإعادة الإعمار، أضف للعناوين المحلية التي من أبرزها حقوق المودعين لدى المصارف.
بخلاف ما كان راجحا إلى أيام خلت لم يتم تكليف رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي بهذه المسؤولية وتمكنت المعارضة من تزكية اسم القاضي نواف سلام رئيس محكمة العدل الدولي، الذي ارتبط اسمه في العام الأخير بطلب ملاحقة رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت بتهمة الضلوع بجرائم إبادية ضد الشعب الفلسطيني. انهارت بسحر ساحر حظوظ ميقاتي وكل مرشح آخر، ونال سلام أكثرية واسعة من النواب المؤيدين له وبنتيجته جرى تكليفه بمهمة ليست سهلة: تشكيل حكومة في البلد الذي لم يخرج تماما من الحرب الإسرائيلية عليه، طالما أن وقف إطلاق النار ينتهي في أواخر هذا الشهر، ويحتاج تجديده لوضع أكثر وضوحا، يترجم بانسحاب القوات الإسرائيلية من المناطق الحدودية التي تحتلها أو من خلال نشر الجيش جنوب الليطاني وتفكيك مواقع حزب الله في تلك المنطقة. يأتي هذا الاستحقاق الداخلي اللبناني في لحظة مفصلية بالنسبة إلى هذا البلد كما بالنسبة إلى المشرق العربي ككل.
فالبلدان، سوريا ولبنان، يجتاز كل واحد منهما مرحلة انتقالية، وإن بشروط مختلفة. إنما في الحالتين، هذه المرحلة الانتقالية ناتجة عن تراجع حاد في النفوذ الإيراني، بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة على حزب الله، وفي إثر انهيار نظام بشار الأسد في سوريا. في الوقت نفسه، الحالة اللبنانية تختلف عن الحالة السورية. في لبنان، إطار دستوري لعملية التحول. إطار يتضمن أكثر من نقطة بحاجة إلى إعادة ايضاح، إنما يمكن الانطلاق منه. وفيه مؤسسة عسكرية وصل من هو على رأسها مرة جديدة إلى الكرسي الأول. في سوريا، الحسم كان جذريا أكثر، حيث انهار النظام الدموي لآل الأسد بشكل هزلي في آخر المطاف، إنما هذا يعني أن المرحلة الانتقالية هي التي يتوجب عليها إيجاد دستورها وليس هناك دستور يضبطها بالحد الأدنى سابق عليها كما في نموذج لبنان. أيضاً، الخاسر في سوريا كان خاسرا بشكل مطلق. ما عاد له مكان لا في عملية مصالحة ولا في مؤتمر وطني، ولا يعني ذلك أن التعددية الثقافية والسياسية والمناطقية في سوريا لا ينبغي أن تبحث عن الصيغة الواقعية المثلى لتنظيم نفسها في إطار مجتمع ودولة. أما في لبنان، فحزب الله تعرض لأكبر عملية تنكيل بقياداته وكوادره وتدمير للمناطق التي له الكلمة الفصل فيها، إنما لا يزال الحزب، والثنائي الذي يجمعه بحركة الرئيس نبيه بري، وشبكة حلفائه، في موقع تشكيل قوة ضاغطة. في الوقت نفسه، يبدو أن الحزب دخل باكراً في تشنج مع العهد الرئاسي الجديد على خلفية تكليف سلام، ورفع ورقة الطعن «بميثاقية» هذا الخيار ما دام لم ينل موافقة الكتلتين الشيعيتين في البرلمان، والسؤال الذي يطرح نفسه هو عن استراتيجية الحزب لمواجهة تحديات المرحلة الحالية، هل ثمة بالفعل استراتيجية الآن أم ردات فعل غير مدروسة بعيدا عن مصارحة الذات والآخرين عما حصل وما هو حاصل؟
القدس العربي
—————————-
ما المخاوف المصرية من الواقع الجديد في سوريا؟/ مثنى عبد الله
تحديث 14 كانون الثاني 2025
تتقاطر الوفود الرسمية العربية والأجنبية على سوريا، للقاء القيادة الجديدة والتعرف على توجهاتها السياسية والأمنية، إلا إن مصر وهي فاعل كبير في المنطقة العربية، وكانت وسوريا ضمن دولة واحدة في النصف الثاني من خمسينيات القرن المنصرم، ما زالت تتوجس من الانفتاح على السلطة الجديدة في دمشق. لذلك كان تواصلها مع القيادة الجديدة متأخرا، حتى إن وزير خارجيتها اتصل بنظيره السوري الجديد بعد ثلاثة أسابيع من سقوط الأسد. في حين كان موقف دول الخليج العربي والأردن لافتا ومُسرعا في التواصل، وتقديم المساعدات، مع ذلك حطت طائرة شحن مصرية في مطار دمشق حاملة أولى المساعدات الإنسانية في الرابع من الشهر الجاري.
عادة ما يكون التأخر في الانفتاح على الآخر في العلاقات الدولية يعكس حالة من الحذر والخوف، في حين أن التواصل يعطي فكرة أن الطرف المُبادر يعي أن هنالك حقائق جديدة ينبغي التعامل معها كي لا تسبقه الأحداث، والتواصل بين الدول وسيلة مهمة لتهدئة المخاوف، وربما حتى الحصول على ضمانات من الطرف الآخر.
صحيح حصل تواصل هاتفي بين وزير خارجية مصر ووزير الخارجية السوري في القيادة الجديدة، لكن مؤشر هذا الاتصال يؤكد المخاوف بصورة واضحة، فرئيس الدبلوماسية المصرية يتحدث عن أن التغيرات التي يجب أن تحصل في سوريا لا بد أن تتم من الداخل، ولا بد أن تكون تغيرات وطنية، ومن دون إملاءات خارجية، كما يجب أن تشمل كل مكونات وأطياف المجتمع السوري، بالتالي هذا الكلام يعكس أن المخاوف المصرية موجودة.. وهنا لا بد من القول إن مخاوف مصر ليس لها تأثير على سوريا، لأنه ليس لدى مصر حضور فاعل على الأرض، فهي لا تؤثر على فصيل معين ولا على قوة داخلية، بحيث تكون لها ورقة ضغط، لذا يبدو أنها تحاول الحصول على ضمانات، رغم أنها تعرف أن الضمانات في السياسة الدولية من غير أوراق ضغط لن تكون ذات فاعلية كبيرة. لكن ما مؤشر في الأروقة السياسية والإعلامية المصرية اليوم، هو الحديث عن أن هنالك مجموعة عوامل أدت إلى تأخر الجانب المصري في التواصل مع القيادة الجديدة في سوريا، ويعزون ذلك إلى أن العلاقات بين البلدين قبل الإطاحة ببشار الأسد كان شقها الأساسي أمنيا، حيث كانت هنالك زيارات لعلي مملوك رئيس جهاز المخابرات السوري السابق إلى مصر، ولقاؤه برئيس المخابرات المصرية، أي أنه كان هناك تنسيق أمني بين الطرفين، خصوصا في ملف الإخوان المسلمين، وبما أن القيادة السورية الجديدة تحمل طابعا موصوفا بالإسلام السياسي، فقد تأخرت مصر في الانفتاح عليها. ويقولون أيضا إن أحد الشخصيات المصرية المتهم بقضايا جنائية والموجود خارج مصر، ظهر في صورة فوتوغرافية مع أحمد الشرع. وشخص آخر ظهر في فيديو وهو يُحرض على القيادة المصرية أثناء زيارته لدمشق. وشخص ثالث تم منحه رتبة عقيد في الجيش السوري وهو أيضا مطلوب في مصر، ويزعمون أن كل هذا زاد الطين بلّة وجعل مصر تتريث في الانفتاح بشكل كبير على سوريا أسوة بدول عربية أخرى. في حين أن أحمد الشرع أشار بشكل واضح، إلى أن هذه المؤشرات لن تجعل سوريا تتدخل، أو تكون ممرا لأي مواقف سياسية ضد الدول العربية، ثم جاءت تصريحات أسعد الشيباني وزير الخارجية السوري الجديد، تؤكد محورية مصر ودورها السياسي.
يبدو أن المشكلة الحقيقية هي أن الجانب المصري متلبّس بعقدة المخاوف الأمنية، خاصة المتعلقة منها بمسألة الإخوان المسلمين، كما ينظر إلى الإدارة السورية الجديدة من منطلق الخلاف المصري التركي المتعلق بهذا الملف، على اعتبار أنها مدعومة من أنقرة، في حين كان على مصر أن تفكر بالجوانب الاستراتيجية التي هي أكبر من المخاوف المتعلقة بفصيل سياسي تعاديه. كما كان يُفترض بها أن تهتم بمسألة تمدد نفوذ دول أخرى في سوريا، وأن تتوجس أكثر فأكثر من تمدد النفوذ الإسرائيلي واحتلاله أراضي سورية أخرى. فهذه كلها يمكن أن تشكل أدوات ضغط خارجية على النظام السوري الجديد، للوصول إلى ترتيبات معينة تخدم مصالح هذه الأطراف، خاصة أنه في مرحلة الولادة الجديدة وأمامه عقبات داخلية كُبرى في شتى المجالات، وكل هذه النقاط تخل بالميزان الاستراتيجي في المنطقة العربية إن حصلت، بل تهدد بصورة مباشرة الأمن الإستراتيجي لمصر نفسها، وعليه فالمصلحة السياسية والجيوسياسية تتطلب أن تكون مصر وسوريا على درجة عالية من التنسيق، في كل المجالات وسيكون منها المجال الأمني أيضا، لكن للأسف تسيطر على العقلية السياسية العربية مسألة المخاوف الأمنية، فيما تبقى التهديدات الاستراتيجية غائبة عن الحسابات.
أما كيف تنظر القيادة السورية الجديدة إلى هذا التحفظ المصري، فهي ومنذ البداية كانت منفتحة على جميع الاتجاهات العربية والدولية، ويبدو أنها تتفهم الخطوات المتأنية من الجانب المصري تجاهها، بل إنها تتحدث عن أن هنالك إشارات إيجابية من القاهرة من خلال استمرار بعثتها الدبلوماسية العمل في دمشق. كما إن لقاء وزير الخارجية المصري بنظيره الصيني اللذين أكدا فيه دعم المرحلة الانتقالية في سوريا، تعتبره القيادة السورية خطوة داعمه لها. أيضا تؤكد السلطات السورية على أن علاقتها الجيدة بتركيا لا تعني أنها غير منفتحة على الآخرين، والدليل على ذلك الوفود العربية التي تقاطرت على دمشق من دول عربية ليست محسوبة على المحور التركي، وكل هذه المؤشرات تؤكد أن هذه القيادة قدمت ضمانات كافية بأنها تسير في الاتجاه الصحيح. ومع ذلك يبقى التحليل السياسي يقول، إن هنالك قلقا مصريا من تركيا أكثر منه قلقا من سوريا. وهذه الأخيرة مجرد عنوان يختبئ خلفه القلق الحقيقي لصانع القرار السياسي المصري، فلطالما تصارعت مصر على النفوذ الإقليمي مع تركيا، كما زاد قلقها مؤخرا في ما لم ينتبه اليه الكثيرون، وهو الوساطة التركية في التقريب بين الإثيوبيين والصوماليين، وفض الخلاف الذي كان بينهما، ثم تبع ذلك إنجاز دبلوماسي وجيوسياسي تم للأتراك بسقوط نظام الأسد.
يقينا أن مصر تتخوف من أن تكون الحالة السورية مُلهمة لبعض الشرائح المجتمعية المصرية، لكن كلام أحمد الشرع كان واضحا في عدم وجود فكرة تصدير الثورة السورية إلى الآخرين.
كاتب عراقي
القدس العربي
———————–
سوريا الجديدة… تجليات ما بعد الإسلاموية/ د. مدى الفاتح
تحديث 14 كانون الثاني 2025
أظهر خبراء في الحركات الجهادية تشاؤماً كبيراً، عقب وصول «هيئة تحرير الشام» إلى سدة السلطة في سوريا إثر هروب الرئيس بشار الأسد في الثامن من كانون الأول/ديسمبر الماضي. كان أولئك يرون أن هذه التنظيمات المتطرفة، التي توحدت وجمعها هدف إسقاط نظام البعث العتيد، لن تصمد طويلاً عقب استتباب الأمر لها في وجه التحديات.
هذه القراءة كانت تعتمد على مسوغات موضوعية، منها وجود خلافات كثيرة في وجهات النظر بين المجموعات المقاتلة، وهي خلافات كان لها أثرها في السابق، حيث ساهمت في إضاعة الكثير من الوقت والموارد في قتال داخلي، وأدت إلى كثير من الانفصالات، بما شمل الهيئة نفسها، التي كانت قد انفصلت عما عرف بـ»جبهة النصرة».
نقطة أخرى كان يشار إليها في هذا السياق، هي كون هذه الجماعات فوضوية ولا تخفي ميلها للعنف. كان هذا كافياً بالنسبة لأغلب المحللين للقول، إن الإدارة الجديدة سوف تجد نفسها مرغمة على خوض صراعات مع قطاعات شعبية مختلفة، لا تشمل فقط أنصار النظام السابق وحلفاءه، بل تتوسع لتشمل الأقليات الدينية وعامة الشعب من غير المتدينين. هذه الصراعات، التي كان يبشر بها أولئك الخبراء، كان يفترض أن تقود إما لنوع جديد من الفوضى الشاملة، أو لإسقاط الإدارة الجديدة، خلال وقت قصير. فرضية إسقاط النظام الجديد على يد الغاضبين والمتضررين من «الحكم الإسلامي» كانت مطروحة أيضاً في كثير من الكتابات، التي افترضت أن أولوية «الهيئة» سوف تكون تثبيت مشروعها، وتنزيل رؤيتها السلفية الخاصة على جميع منافذ المجتمع. لأن هذه الرؤية المتطرفة تصطدم بقناعة الكثير من السوريين العلمانيين أو الليبراليين، ناهيك عن أصحاب المذاهب والأديان الأخرى، ولأنها أيضاً سوف لن تكون مقبولة، حتى بالنسبة لأصدقاء النظام المتشكل وداعميه الخارجيين، فإن ما ذهب إليه محللون بارزون، في أول أيام التغيير كان، أن مثل هذا النظام سوف لن يصمد، وأنه لن يلبث أن يسقط تحت تأثير الضغوط الداخلية والرفض الإقليمي.
اليوم، وبعد مرور أكثر من شهر على استتباب الأمر للإدارة السورية الثورية الجديدة، فإن ما حدث هو النقيض لما كانت تبشر به كل تلك القراءات، فالمجموعات المختلفة، التي توحدت خلف هدف إسقاط الديكتاتور لم تسمح لخلافاتها أن تطل برأسها لتفسد ما تم تحقيقه من إنجاز. على عكس النبوءات المتشائمة، فقد أظهر أولئك وعياً بالتعقيدات الدولية، وبوضعهم الخاص والحرج، الذي يحظون فيه بأعداء كثر. كان الإعلام الدولي، الذي كان يصوّر الأمر في البداية على أنه إسقاط للنظام بواسطة جماعات فوضوية متطرفة، يراقب الأيام الأولى باهتمام. التوقعات كانت أن تعمد «الهيئة» إلى التوسع في أعمال القتل والإرهاب والتصفية والتعذيب، انتقاماً من الموالين لنظام الأسد وتخويفاً لمن يمكن الظن بأنهم معارضون محتملون لحكمهم. كانت الصورة، التي أجبر الإعلام على نقلها، مغايرة تماماً، حيث حرص الحكام الجدد من أول يوم على إرسال رسائل تسامح وتطمين، بل إنهم أمهلوا، حتى من كانوا يقاتلونهم من قوات النظام، وقتاً حتى يسلموا أنفسهم وأسلحتهم. أضعف كل ذلك فرضية توجه البلاد نحو الفوضى أو تفكير البعض في تعكير صفو الانتقال السياسي الناشئ، خاصة أن «الهيئة»، التي كانت مرتبطة في الأذهان بتنظيم «الدولة الإسلامية»، لم تبد مشغولة بالتركيز على ما يفرق الناس، مثل ما تعلق بالتدين الشخصي، حيث لم تعط هذا الأمر الأهمية، التي تخوف منها كثير من أصحاب الطوائف الأخرى أو من غير المتدينين. لا نقول هنا إنه لم يحدث أي تجاوز خلال عمر «الهيئة» القصير، ولكن المقصود أن كل ما تم تناقله خلال الأيام الماضية من حالات قتل خارج نطاق القانون، أو من إجراءات وصفت بأن بها بعض التشدد يظل قليلاً جداً مقارنة بما كان الجميع يتوقع حدوثه من تفشٍ للعنف، وانعدام للأمن بشكل يجعل استهداف الهيئة مطلوباً، وتدخل أي قوات دولية من أجل «استعادة النظام» مبرراً.
الجولاني، أو أحمد الشرع وفق ما اختاره لنفسه كاسم رسمي، كان يقف خلف هذه الصيغة، التي تجمع التدين مع الاعتدال. يظهر هنا أن القيادة الجديدة، التي ارتبطت في سنوات نضالها بالشركاء الأتراك، استفادت من اقترابها من السياسة التركية البراغماتية، التي تعرف كيف تجمع بين تحقيق المصالح والبعد عن الصدام، كما تعرف كيف تستفيد من تناقضات الساحة الدولية، من أجل أن تجد لنفسها مكاناً وسط أمواج السياسة الدولية المتلاطمة. تتجلى هذه البراغماتية في الموقف من الاستفزازات الإسرائيلية، فكجماعة جهادية تقليدية كان من المتوقع أن يستجيب المتحمسون لها لتلك الهجمات، التي تزايدت عقب سقوط النظام، والتي كانت توحي بعزم الكيان على التوسع، وربما الاقتراب من العاصمة. الذي حدث أن القيادة الجديدة تحلت بضبط نفس نادر، على الرغم من الحملات والاتهامات، التي سيقت خاصة من المرتبطين بالمحور الإيراني، الذين كانوا يروجون لكون هذه القيادة الجديدة هي عميلة للغرب. فحوى تصريحات الشرع ورفاقه كان، أن الوقت غير مناسب حالياً لفتح جبهة قتال جديد، لاسيما مع الكيان، وأن البلاد، التي لا تكاد تتوفر فيها موارد كافية لدفع أبسط استحقاقات الحياة، لا يمكن أن تندفع في أتون صراع قد يجهز عليها بشكل نهائي. لا شيء يمكن أن يفسر هذه التحولات وهذا الانتقال البراغماتي أكثر من فكرة «ما بعد الإسلاموية»، التي سبق إلى التنظير حولها باحثون في مقدمتهم الأمريكي من أصل إيراني آصف بيات. خلاصة هذه الفكرة هي أن الحركات الإسلامية، ومهما أظهرت من تشدد في الفترة التي تسبق اقترابها من السلطة، إلا أنها تجد نفسها مجبرة على إجراء تعديلات على برنامجها وإعادة ترتيب أولوياتها حينما تصبح جزءاً من السلطة السياسية.
الموضوع الفلسطيني كان كثيراً ما يطرح في هذا السياق إبان التغييرات السياسية في فترة ما كان يعرف بـ»الربيع العربي»، وتصدر الإسلاميين المشهد في أكثر من بلد. المفارقة كانت أن أولئك، الذين كانت أدبياتهم تركز بشكل مكثف على موضوع الاحتلال الإسرائيلي لأرض فلسطين، وتتهم كل قيادات المنطقة بالخذلان والتواطؤ، ما لبثوا أن قاموا بتعديل خطابهم بشكل جعله أقرب للخطاب الرسمي العربي الكلاسيكي. في الحقيقة، فإن هذا ليس أمراً خاصاً بالإسلاميين، وإنما هو براغماتية يمكن أن نجد صداها بين كل التيارات، فكثير من الأحزاب اليسارية، التي بنت خطابها على دغدغة مشاعر البسطاء والفقراء ووعدهم بحياة أفضل وبانتقال سريع إلى الرفاه، ما لبثت أن تحولت للرأسمالية الجشعة والاقتصاد النيوليبرالي، بعد فوزها بالانتخابات ووصولها إلى السلطة. لا شك أن بإمكان إظهار الاعتدال أن يكسب النظام المتشكل مزيداً من الأصدقاء والحلفاء، إلى جانب فوائده الداخلية بتقليله أعداد المتضررين من وجوده، إلا أن للإسراف في القفز على الإسلاموية مخاطره أيضاً، فهو قد يقود إلى تصدع البنية الداخلية الصلبة للنظام، والمتأسسة على إسلاميين جهاديين يؤمن بعضهم بأن في الوصول إلى السلطة مع التنكر لأحكام الإسلام خيانة. يمكن لهذا أن يقود أيضاً للدخول في صراع من الأجنحة المقربة من تنظيم «الدولة»، تلك التي قد لا تتردد في وضع الحكام الجدد على قائمة أعدائها.
كاتب سوداني
القدس العربي
———————
على أبواب مؤتمر الحوار الوطني السوري/ أحمد مظهر سعدو
14 يناير 2025
ما انفكّ مؤتمر الحوار الوطني السوري المزمع في دمشق، يتلقّى ويستقبل مزيداً من العقبات والمعوقات المختلفة، التي تحول دون انعقاده قريباً، ما يدفع الإدارة الجديدة في سورية إلى تأجيله المرّة تلو المرّة، حتى بات السؤال السوري الشعبي: هل سيعقد هذا المؤتمر الحواري الوطني المفترض أم لا؟ إذ إن التغيير السياسي الدراماتيكي الكبير الذي جرى في سورية في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، لم يكن بالحدث العادي، كما لم يكن بالحسبان لدى الساسة والمتابعبن للشأن السوري، وهو الذي جرى بسرعة برق أربكت جميع أطياف المعارضة السورية وما حولها.
كان الحدث السوري زلزالاً قوياً بكلّ معنى الكلمة، فوضع الجميع أمام مسؤولياتهم، وفرض على العقل الجمعي السوري مزيداً من الغوص والتفكير العقلاني، ومن ثمّ اجتراح الحلول، وإعادة صياغة (ورسم) خرائط ممكنة للطريق، توخّياً من ألا تتكرّر التجربة السورية كمثيلاتها في ساحات عربية أخرى، خاصّة تجربة مصر وتونس، أو حتى ليبيا.
المهام كثيرة وصعبة ومعقّدة، ومحدّدات السوريين لإنجاز المؤتمر الوطني الحواري الموسّع كثيرة ومشتبكة بعضها ببعض، وتحمل داخلها كثيراً من الصعوبات والمعوقات، كما أن المطالب والمتطلّبات الدولية متعدّدة هي الأخرى، وكثيرة ومتشعّبة، ويبدو أنها أصبحت بمثابة الفروض أو الشروط كي تتمكّن سورية الجديدة من الولوج في أتون مسارات المجتمع الدولي وسياقاته. وبالضرورة، تقبّل ذلك عالمياً، وغربياً على وجه التحديد والحصر، من أجل أن تأخذ الحالة السورية ما بعد مرحلة كنس آل الأسد وداعميهم مكانتها الطبيعية، دولةً وطنيةً لها ثقلها ودورها الفاعل من دون عقوبات اقتصادية وغير اقتصادية، كانت قد أرهقت المواطن السوري (وترهقه اليوم)، وتعوق مسارات النهوض الوطني المطلوب أمام أيّ حكومة جديدة جاءت، مؤقتة كانت أم انتقالية، أو حتى دائمة.
ولا يبدو أن الخارج (الأميركي والأوروبي) بصدد حالة متحرّكة من الاستعجال الجدّي في عملية رفع العقوبات، وهذا (كما يجري الحديث) حتى يظلّ الباب موارباً وغير مفتوح على مصراعيه، كي تستمرّ الضغوط السياسية والاقتصادية والعسكرية على الحكم الجديد في دمشق، من أجل أن يكون أكثر مطواعية في موضوع الالتحاق طوعاً أو كرهاً بركب السياسة والاستراتيجيا الغربية ضمن اندراجات مصالحها الإقليمية والدولية، التي لم تعد تخفى على أحد، فهل يستطيع رئيس الإدارة الجديدة في دمشق، أحمد الشرع، ومجموعته في الحكم، تخطّي تلك الصعوبات كلّها، والاندراج في أتون سياسة وطنية سورية تنجز ما تريده أطياف الشعب السوري كافّة، وتحقّق الوحدة الوطنية، وتلبّي طلبات الغرب في إزاحة أيديولوجيات التشدّد وإشراك عملي لأطياف الشعب السوري وتلاوينه الطائفية والإثنية، وإعطاء “الأقلّيات” (كما تقول الدول الغربية) دوراً في حكم سورية، وحقوقهم المفتقدة أيّام الحكم البائد؟ وهل سيتمكّن الحكم الجديد من إشراك المرأة لتأخذ دورها المنوط بها خارج إطار التعصّب والتشدّد وتماشياً مع مواضيع “الجندرة” التي أطنبت آذاننا بها دول الغرب، وكأنّ العالمين العربي والإسلامي لا يحترمان المرأة، أو لا يعطيانها أيّ دور أو قدر، وهو منطق بعيد كلّ البعد عن الواقع العملي، عبر التاريخ القريب، وأيضاً البعيد، عن العالمين العربي والإسلامي؟
على هذا المنوال، وضمن هذه المحدّدات والتعقيدات، المطلوب من الجميع أن يُعقد المؤتمر الوطني السوري الحواري، ومن ثم أن يُشرَك السوريون كلّهم ضمن قنواته التي سوف تحدّد بالضرورة مسارات الحلّ في سورية، وتخرج السوريين من عنق الزحاجة، حتى تتمكن سورية الجديدة من إنجاز بناءات حقيقية للدولة الوطنية السورية الديمقراطية. وبالرغم من اهتمام الإدارة السورية الجديدة بمسألة إشراك السوريين في ماهية الحلّ، والخروج من حالة التردّد، وإنجاز طريق واحد ومشترك لسورية الجديدة، إلا أن كثيراً من العقبات ما زالت تعترض سبيل مسارات المؤتمر، وما زالت هناك العديد من القضايا التي تضع المسألة في متاهات عدة بين الحلّ واللاحلّ، بين الإنجاز والتأجيل، ومن هذه المسائل البحث في محدّدات اختيار المشاركين في المؤتمر، ومن هي اللجنة التحضيرية المخوّلة بهذا الاختيار؟ وعلى أيّ أسس أو معايير يكون الانتقاء والاختيار للمشاركين السوريين، حتى يكونوا ممثّلين للجميع؟ وهل يمكن للمشاركة الفردية المطروحة حلّاً للمشاركة الآن أن تفي بالغرض؟ وكيف سيتم التعامل مع الأجسام السياسية الموجودة والأحزاب التاريخية والتجمّعات بالرغم من قلّة حيلتها وعبثها بالواقع السوري وعدم ارتقائها سابقاً إلى مستوى الدم السوري المراق من نظام الإجرام الفاشيستي الأسدي؟وتبقى النظرة العقلانية السياسية تقول، إنه قد لا يكون مؤتمر الحوار الوطني السوري على الأبواب القريبة، لكنّه بات ضرورياً وينتظره السوريون بتكويناتهم وفئاتهم كلّها. المهم القول إنه لا بدّ من أن يُعبِّر (المؤتمر) عن سورية الواحدة، ويؤسّس لحوارات طرفية أخرى، قد تكون أكثر أهمية من الحوار الكبير في مؤتمر يضم 1200 مشارك.
ولعلّ الحوارات البينية في أطراف وحافات المؤتمر، أو ما بعد انعقاده في دمشق، تؤسس لسورية الحقيقية، عالية البنيان والأسوار، والمتينة والمندمجة بكلّيتها، التي ضحى من أجلها السوريون. وهذه الحوارات يجب ألّا تنتهي مع انتهاء المرحلة، بل إن الحوار ثمّ الحوار هو مقدّمة أيّ عمل، والديمقراطية غاية وطريق، وهو ما سيراكم كل ما هو إيجابي وسينحّي جانباً بالضرورة الحالات السالبة، وسينجز بناءات وطنية سورية، ويبني دولة المواطنة في سورية، التي طالما حلم بها الشعب السوري أيام الاستبداد المشرقي، خلال 54 عاماً من حكم عصابات آل الأسد وسراياه التعفيشية والفاسدة والمفسدة. سيساهم الحوار الوطني في بناء دولة سيادة الدستور والقانون، الدولة الوطنية السورية التي يتوافق عليها السوريون بلا استثناء، ثمّ يتم بناء (منها وعلى أساسها) العقد الاجتماعي الجامع والمنشود.
العربي الجديد
———————————
حكاية الأقلّيات والأكثرية/ فوّاز حداد
14 يناير 2025
ما الذي نريده من الغرب؟ أعتقد أنّ القائمة ليست طويلة، إلّا بقدر تدخّلاته، فعدا الفترة الاستعمارية التي كانت آخر تأسيس لعلاقته مع سورية، وكان من نتائجها التفرقة بين السوريّين إلى طوائف موجودة فعلاً، كان من الممكن التغلّب عليها بعد خروج العثمانيّين من سورية، وجد الفرنسيون حلّاً لها، بتقسيم سورية إلى خمس دويلات، كانت على هذه الشاكلة تخدمهم في استمرار وجودهم، وإدارة البلاد، وتؤمّن “الاستقرار” للشعب. هذا الاستقرار اللعين الذي يشبه استقرار نظام الأسد، كان ثمنه باهظاً، دفعه السوريّون من أعمارهم قتلاً وخراباً.
أوقع الفرنسيّون في يقين بعض الطوائف أنّها أقلّيات مغلوبة على أمرها، بالمقارنة مع الأكثرية، سيكونون لهم سنداً في تأمين مصالحهم وحرّياتهم. وجد ذلك صدى سرعان ما تلاشى، ومع أنّ الحُكم الوطني تصدّى لهم، فقد كانت الجرثومة قد زُرعت، وبات بعدها هذا الصراع رهينة اليسار واليمين والرجعية والتقدّمية، كانت غطاء لتكتّل الأقلّيات، حمل لواءها ضبّاط الجيش، وقادهم الطموح الأقلّوي للاستيلاء على السلطة، حسب زعمهم كانوا الأكثر حرصاً على تقدُّم سورية من الأكثرية الرجعية، طالما أنّهم إقطاعيون وبرجوازيون كبار وصغار.
غضّ الغرب النظر عن ديكتاتورية الأسدين بدعوى حمايتهما الأقلّيات، وكأنّ الأكثرية كانت في حالة تحفّز للانقضاض على الأقلّيات واضطهادهم ومنعهم من ممارسة طقوسهم الدينية، أو طردهم خارج البلاد، ما أتاح لنظام الأسد قتل الأكثرية، وألّا يعف عن قتل الأقلّيات، كان قد عمل حسابه لإسكات الأوروبيّين ومعهم الأميركان، بتقديم الخدمات لهم، فسكتوا عن مجزرة حماة، وسجن تدمر الرهيب، وقتل الحريري، والقائمة تطول. كان من الصعب على المعارضة اقتلاع نظام يحميه الغرب بحُكم ارتباطه معه بقنوات سرّية بخصوص الإرهاب، كان العمل بينهما تبادلاً للمنافع، رغم أنّ إيران وذراعها حزب الله أصبحتا مركز الثقل في زمن الوريث.
اليوم بعد فرار “حامي الأقلّيات”، يعود الغرب كي يلوّح بالحكاية نفسها، ولو كان بالوعيد الدبلوماسي، ويذكّر الطوائف بإمكانية الاستقواء به، لا تظنّوا أنّكم وحدكم. هذا التدخّل لم يكن وارداً من قبل، أمّا اليوم فيجب تحديد نوعية التعامُل مع القادمين الجدد، يجب أن يقدّموا شيئاً للغرب، وإلّا…
الخروج من مأزق الطوائف والطائفية لا يكفيه فقط قطْع هذا الممرّ الإجباري للتعامل معه. في الواقع نحن لا نرجو أملاً منه في تغيير هذا النوع من العلاقة. المعوّل علينا نحن لا الغرب، وهي عملية قد تنجح إذا عولجت سيكولوجياً، بأن نُقنع أنفسنا بأنّنا لا أقلّية ولا أكثرية، ولو كنّا هكذا، حسب أدياننا ومذاهبنا. طبعاً لا طائفة تريد استجرار طائفة إلى معتقداتها، فالخلاف ليس دينياً، وإذا كان فهو سياسي. إنّ ما يحكم علاقاتنا نحن الأفراد بالدولة هو السياسة، ويعود حلّها إلى حركة المجتمع ومصالحه التي تُعبّر عنها المجالس النيابية والأحزاب والنقابات.
بالعودة إلى سيكولوجية هذا المأزق، تتحدّد في كيف ينظر كلٌّ منّا إلى نفسه… إذا نظر إليها على أنّه سوري سنّي مثلاً، ما يعني أنّه يُميّز نفسه عن الآخرين، بينما أن يكون سورياً، يعني أنّ مذهبه يخصّه وحده، ما يزيح التمييز الديني. هذا يضع الأقلية والأكثرية في المجال السياسي، ويُلغي أقلّيتنا وأكثريتنا الدينية.
إنّ الاعتراف بالأكثرية أو الأقلّية على أساس ديني يُميّز بيننا بموجب العقائد، وهو ليس مجال خلاف لنتوافق حوله، طالما الأقلّيات والغالبية لا تريد الارتداد عن عقائدها. أمّا إذا كان الاعتراف بها سياسياً، فانتماؤنا السوري هو حقيقة وجودنا.
تجربة سورية السابقة في حماية الأقلّيات على أساس ديني، كان الزعم بأنّها مغبونة من الأكثرية، أمّا الضمانات فهي أن تكون السلطة، أي أن تَحكم ولا تُحكم، وكما حدث استولى ضابط على السلطة، حسب الشائع يمثل أقلّية دينية، استفرد بالحُكم ليطمئن، واضطرّ ليكون أكثر اطمئناناً إلى استعمال القوّة والقمع والسجون والموت ليحافظ على طمأنينة الأقلّيات، ما حتّم أن يكون الحُكم وراثياً، كي يمتدّ الاطمئنان إلى الأبد. وعندما تعرّض للاحتجاجات، أقنع باقي الأقلّيات بأنّها مهدّدة من الأكثرية، وشنّ حرباً على الأخيرة.
هذا هو الدرب الصاعد لذرائع التفكير الأقلّوي في السيطرة على البلاد، مع الزعم بإشراك ليس الأقلّيات فقط، بل والأكثرية أيضاً، مع أنّها تُشرك أفراداً منهما، بينما كما يبدو تسيطر أقلّية واحدة، لكن الديكتاتورية لا ترضى بالمشاركة حتى ضمن الأقلّية الواحدة. إنّهم مجرَّد مستخدَمين لديها، وتوزيع الفتات عليهم حسب درجة الخنوع… فما علاقة الأديان والمذاهب في ملحمة السيطرة على السلطة؟ إنّها حكاية الديكتاتورية.
في الواقع، لا تتمتّع الأقلّيات بالحماية، ولا الأقلّية هي الحاكمة، وإنّما فردٌ واحد، هو الديكتاتور، تحفّ به عائلته، تتقاسم معه المناصب والغنائم.
هذا تبسيط لألف باء الأقلّيات والأكثرية، جميعهم خاسرون، والأوحد هو الرابح الوحيد.
* روائي من سورية
العربي الجديد
————————
إسرائيل تحرض ضد تركيا في سوريا/ ماجد عزام
الثلاثاء 2025/01/14
تتسم المواقف الرسمية وغير الرسمية في إسرائيل مما يجري في سوريا، بالتحريض والتضخيم والشيطنة للحضور التركي في سوريا الجديدة.
جني مكاسب
لا يتعلق الأمر بالتأكيد بمحاذير وقلق عربي وإقليمي عام يمكن تفهمه من الحضور التركي وفرضية حلول أنقرة محل طهران وموسكو فيما يشبه الوصاية بسوريا، وإنما بالابتزاز والضغط والتهويل السياسي والإعلامي والعسكري، وكما دائماً، كون إسرائيل دولة فريدة بالمعنى السلبي ولا تملك سياسة خارجية بل داخلية فقط، ثمة مساعي لتحقيق وجني مكاسب داخلية للحكومة والجيش والمؤسسة العسكرية عبر نيل مزيد من الميزانيات بحجة تزايد الأخطار الأمنية على الجبهة الشمالية، إثر سقوط نظام بشار الأسد وانهيار بل تحطيم وتدمير حزب الله، وانسحاب إيران وميليشياتها من سوريا التي تحتاج إلى سنوات وربما عقود من أجل التعافي وإعادة البناء بعدما ترك الأسد البلاد أطلالاً مدمرة بالمعنى الدقيق للمصطلح.
إذن، وعلى طريقتها تعاطت إسرائيل مع الحضور التركي في سوريا الجديدة بعد انتصار الثورة وسقوط نظام الأسد، علماً أن هذا الحضور لا يمكن إخفاءه أو تجاهله أو تجاوزه في التعاطي مع المشهد السوري والإقليمي الجديد، لكن ثمة تجاوز إسرائيلي متعمد ومنهجي لصلب القضية والمتعلق أساساً بالعلاقات التاريخية والجغرافية والجيوسياسية بين أنقرة ودمشق، والتداعيات المباشرة للقضية والتطورات السورية على تركيا في أبعاد مختلفة سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية.
العثمانية الجديدة
بداية، ثمة عوامل ومحددات إسرائيلية تقليدية لابد من الانتباه لها في التعاطي أو المقاربة الإسرائيلية للحضور التركي في سوريا الجديدة والمنطقة بشكل عام.
هنا تحضر أبعاد تاريخية وفكرية وسياسية، كما يحضر بُعد فلسطيني بالتأكيد، مع اعتبار القضية الفلسطينية ركن وحجر عثرة أساسي في العلاقات التركية الاسرائيلية منذ تأسيس الدولة العبرية حتي زمن تركيا القديمة، وقبل وصول حزب العدالة والتنمية للسلطة وانطلاق حقبة تركيا الجديدة بداية القرن الجاري.
بالعموم تسعى المقاربة الإسرائيلية إلى تحقيق عدة أهداف مع الانتباه إلى التناسق التام بين المواقف والمقاربات الرسمية وغير الرسمية من معلقين وباحثين، غالبيتهم العظمى على صلات مفتوحة مع المؤسسة الأمنية التي رسمت دوماً ولا تزال، السياسة الإسرائيلية خاصة تجاه المحيط العربي والإسلامي.
منهجياً ثمة تضخيم وتهويل وتخويف متعمد من الحضور التركي في سوريا الجديدة واستخدام عبارات برّاقة وخادعة للتأثير على الرأي العام الإقليمي والعالمي مثل العثمانية الجديدة أو السياسات الامبراطورية لتركيا الجديدة مع الرئيس رجب طيب أردوغان.
وفي السياق نشهد ضخاً وتحليلات وتعليقات إسرائيلية موجهة تفيد بحلول تركيا كقوة احتلال بدلاً من إيران وروسيا في تجاهل للثمن الذى قدمته تركيا والترحيب والانفتاح الشعبي السوري تجاهها كونها كانت فعلاً على الجانب الصحيح من التاريخ أخلاقياً وسياسياً.
تحريض عربي
في التغطية والمقاربة الاسرائيلية للقضية السورية نجد تحريض للدول العربية وسعي لدق إسفين بينها وبين تركيا، كما يحضر التحريض للأقليات خاصة الأكراد والدروز وحتى العلويين مع دعم واضح للانفصال تصريحاً أو تلميحاً، وطرح أفكار مثل الحكم الذاتي، والكونفدرالية وحتى الوصاية الخارجية، بينما وصل الانفصام والغطرسة إلى حد الدعوة لمؤتمر دولي لتنظيم وشرعنة الانتداب الجديد المتعدد الأطراف على سوريا الجديدة.
وفي الحد الأدنى، تسعى الدولة العبرية إلى لفت الانتباه عن ممارساتها بهضبة الجولان، وخلق وقائع جبرية على الأرض بعيداً عن الأمم المتحدة والشرعية الدولية والاتفاقيات الموقعة مع الدولة السورية مع تجاوز المنطقة العازلة بالجولان لمحاولة فرض ما تسميه منطقة سيطرة-15 كم- وأخرى—60كم للتأثير والنفوذ، وفرض الأمر الواقع وفق الذهنية الإسرائيلية والهوس الأمني التقليدي، وما يمكن تسميته بمتلازمة نتسريم.
ابتزاز لتركيا
التضخيم المتعمد للتطورات والأخطار في سوريا يهدف كذلك لتحقيق مكاسب سياسية لحكومة بنيامين نتنياهو، بادعاء المساهمة المباشرة في إسقاط نظام الأسد كما حصد ميزانيات إضافية، وفق توقعات الجنرالات بالمؤسسة العسكرية، وكما قالت فعلاً لجنة نغن المعنية بدراسة الميزانية الأمنية ومواجهة الأخطار المحيطة بالدولة العبرية، والتي عرجت كذلك على الحضور التركي بسوريا وسبل مواجهته.
في المقاربة الإسرائيلية نرى كذلك ابتزاز لتركيا من أجل فتح قناة تواصل وتنسيق أمني مستمر معها، وما قالته القناة 12 العبرية منذ أيام يعبر عن هذه الأماني و التوقعات حيث الطموح الإسرائيلي لشق خط أمني ساخن بين تل أبيب وأنقرة على غرار ذلك الذي تم تفعيله مع روسيا عند تدخلها في سوريا-2015- بين قاعدة حميميم باللاذقية والكرياه –مقر رئاسة الأركان -بتل أبيب والذى انهار عملياً مع سقوط نظام الأسد كما الحضور والنفوذ الروسي في سوريا بشكل عام والمنطقة
يقظة تركية
رغم ذلك كله لرؤية وفهم المشهد كاملاً، لا بد من الإشارة إلى أن تركيا تبدو منتبهة ومتيقظة للتحريض الإسرائيلي وحساسة تجاه الهواجس المطروحة عربياً ودولياً، وهي وليس بوارد الهيمنة أو الوصاية على سوريا وفق التصريحات المعلنة، كما السياسات العملية على الأرض التي لا يمكن إخفاءها.
وبتفصيل أكثر، فقد التزمت تركيا بما يمكن تسميتها مبادىء العقبات الثلاثة تجاه سوريا بصفتها محل توافق عربي ودولي، والتي تتمثل بالحفاظ على وحدة وسلامة والأراضي السورية ومنع انهيار مؤسسات الدولة وذهاب الأوضاع الى الفوضى بما في ذلك عودة التنظيمات الإرهابية أو فقدان السيطرة على الأسلحة الاستراتيجية، إضافة إلى اطلاق عملية انتقال سياسة شاملة وجامعة دون اقصاء لأي من المكونات السياسية والاجتماعية بسوريا. والعمل على القضايا الثنائية- عودة اللاجئين ومكافحة الإرهاب والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية – مع القيادة الجديدة بدمشق تماماً كما يفعل الأردن –مكافحة التهريب وعودة العلاقات الاقتصادية والتبادل التجاري- ولبنان -ضبط الحدود ومكافحة التهريب واللاجئين والمعتقلين والمخفيين قسرياً- وكل ذلك علي قاعدة مبادىء العقبات المتفق عليها.
كما تعمل تركيا بتنسيق تام مع الدول العربية بظل قنوات التواصل المفتوحة خاصة مع العواصم المعنية مباشرة بالشؤون السورية. لتكون مجتمعة عامل استقرار في سوريا الجديدة مع السعي لعلاقات تعاون استراتيجية متكاملة وشاملة بظل توجه عربي مماثل مع الانخراط الفاعل تحضيراً وتنفيذاً في اللقاء الموسع بالرياض -العقبة 2- بمشاركة القيادة السورية الجديدة.
بالمقابل تظهر إسرائيل كمعتدية تحتل أراضي سورية وتتجاوز الشرعية الدولية والاتفاقيات الدولية مع الدولة السورية، وتدعم علناً الأفكار الانفصالية والخطط التقسيمية بما يرتد سلباً على سوريا والمحيط العربي والإقليمي كله.
الشرق الأوسط الجديد
أخيراً، باختصار وتركيز ورغم التهويل السياسي والإعلامي والعسكري فإسرائيل ليست قوة عظمى والشرق الأوسط الجديد لا ولن يبنى بالقوة ونقطة الانطلاق فيه تتمثل بإقامة الدولة الفلسطينية وإعطاء الشعب الفلسطيني كما السوري الحق في تقرير المصير وتجاوز ذهنية القوة الارتكان والعيش على حد السيف والإعداد للحرب القادمة بمجرد الانتهاء من الحرب السابقة.
وللمفارقة فإن إسرائيل -كما روسيا وايران- لا تملك قوة ناعمة علي عكس ما تدعى ومعظم منتجاتها وصادراتها أمنية وعسكرية، بينما تبدو متعلقة بالحديد والصلب والأجهزة الكهربائية من تركيا والخضر والفاكهة -من تركيا والأردن- والنفط من أذربيجان، وكانت ولا تزال دولة صغيرة لا تستطيع فرض إرادتها ببث الكراهية وأنهار وشلالات الدم مع شعوب المنطقة والاستلاب “رغم أيادي السلام الممدودة” لفكرة القلعة، والثكنة العسكرية “ماتسادا” وقاعدة إن ما لن يتحقق بالقوة يتحقق بالمزيد منها.
المدن
————————–
سوريا كأنها جامع وكباريه!/ عمر قدور
الثلاثاء 2025/01/14
اشتُهر في الأيام الأخيرة تسجيل فيديو لمهرجان دعويّ في مدينة جبلة السورية، المهرجان أُقيم تحت رايات هيئة تحرير الشام التي تحكم البلاد، وكان هناك مسلّحون بين القائمين عليه. في تقديم القائمين على المهرجان، أُعلن عن أجانب كالتركستاني والليبي.. والغاية هي تعليم أهالي جبلة الدين الإسلامي، وقد أتى هؤلاء مصطحبين معهم ألبسة “شرعية” لتوزيعها على بنات في سنّ الطفولة. وواحد منهم بدأ بوعظ طفلين لا يحفظان القرآن، بأن طلب منهما ألا يشابها اليهود والنصارى، ثمّ توعّدهما بالفلَقة إذا لم يحفظا القرآن، وهي عقوبة الضرب على القدمين، وتأكد المجاهد من أن الطفل يعرف ما هي الفلَقة!
رغم بشاعة تهديد طفل بالضرب، بقي الأسوأ في الظروف الانتقالية الحالية أن يحكي هؤلاء عن العهد البائد بوصفه نظاماً “نصيرياً”، فهذه اللغة (في مدينة جبلة على نحو خاص) لا تساعد إطلاقاً في إشاعة السلم الأهلي. يُذكر أنه، بعد التسجيل-الفضيحة، شاع خبر اعتقال “أبي سفيان الجبلاوي” الذي قيل أنه المنظّم، لكن حسبما أكد شقيقه لمنصة “تأكد” أتى اعتقاله لأسباب مختلفة، وغير مرتبطة بالمهرجان الدعوي. في حين لم يصدر رسمياً ما يفيد باعتقاله، والأهم ما يفيد بإيقاف هذه المهرجانات الدعوية وأمثالها من الظواهر الفردية.
من أمام قلعة حلب مثلاً، كان قد شاع تسجيل على نطاق أضيق (قبل تسجيل جبلة) يدعو فيه المنظّمون الأهالي إلى الصلاة، وكأنهم آتون في مهمة عاجلة إلى معقل كفْر. ومن اللاذقية شاع تسجيل ثالث، يظهر فيه مسلح وهو يدخل مطعماً، ليطالب الزبائن بالإقلاع عن تدخين الأركيلة لأسباب دينية. أما التسجيل الذي اشتُهر تحت عنوان “عودة داعش”، من ساحة سعدالله الجابري وسط حلب، فهو محلّ سوء فهم معظم السوريين الذي لا يعرفون شيئاً عن حزب التحرير الإسلامي، وقد ظهرت نساؤه بين محجبة ومنقّبة يطالبن بالإفراج عن رجالهن في سجون هيئة تحرير الشام. الذي طغى على المطالبة هو ترديد عبارات مثل: لن نقبل بالأحكام الوضعية، نريدها إسلامية. وهتافات من قبيل: لا إله إلا الله والخلافة وعد الله، قائدنا للأبد سيدنا محمد.
في أحسن الأحوال، وبصرف النظر عن حساسية الظرف الحالي على أكثر من صعيد، يصوّر هؤلاء سوريا كأنها كباريه وجامع، ومن واجبهم هداية “مجتمع الجاهلية” الذي ورثوه من “النظام العلماني” البائد. واحد من الأمثلة المباشرة، تلك الصور التي انتشرت سريعاً لبناء مسجد في كلية الآداب-جامعة دمشق، حيث لا يمكن لأية جهة غير حكومية البناء هناك. هكذا تبدو السلطة متلهفة لبناء المسجد وكأنها (رمزياً على الأقل) في حرب مستعجلة على الكباريه، بينما في الجهة الأخرى من دمشق، بدءاً من “جوبر” مثلاً، تنتشر تلك المساحات المهولة من خراب البيوت الذي خلّفه القصف الأسدي لها.
وتعميم صورة سوريا بين كباريه وجامع لا ينقصه فقط عدم رؤيتها كبلد متعدد دينياً ومذهبياً وإثنياً، بما يعنيه التعدد من اختلاف نسبي على صعيد العادات في الملبس والمأكل؛ التعميم ينتقص منه أولاً انطلاقه من رؤية خاصة للإسلام السني نفسه، وهي رؤية لا تعترف بوجود تفسيرات متباينة (بل متعارضة أحياناً) في العديد من المسائل، ولا تعترف أولاً بوجود مسلمين (سُنّة) متخالفين بحسب ظروفهم ومصالحهم الاجتماعية والاقتصادية، ومن ثم السياسية.
خارجياً، قد تساهم مظاهرات حزب التحرير المطالِبة بوعد الخلافة، وبشعاراتها المعادية للغرب، بإظهار قيادة هيئة تحرير الشام كتمثيل للإسلام السني المعتدل، ومن المفهوم أن الأخيرة مهتمة بإرسال هذا النوع من الإشارات حالياً. إلا أن المظاهرات نفسها، وتوزيع منشورات تحض على الحجاب في أحياء يغلب عليها طابع غير سني، إلى جانب المهرجانات الدعوية وحتى التصرفات الصادرة عن أفراد تابعين للهيئة، لن تعطي إشارات إيجابية في الداخل. فالتبشير المسلَّح لا ينطوي على احترام الحريات العامة، وحتى إذا لم يُستخدم السلاح فإرهابه ماثل في الأذهان. هذا ما يحدث عندما يطلب مسلح من سافرة أن تتحجب، ولو اعتذر منها بلطف عندما تسأله عمّا إذا كانت مجبرة على الحجاب. مثل هذه الحوادث تذكّر، على نحو مقلوب، بالسلوك المخزي لمظليات رفعت الأسد، عندما نزلن إلى شوارع دمشق ونزعن الحجاب عنوة عن بعض السيدات.
على صعيد متصل، أسرع وزير التربية في الحكومة المؤقتة فأصدر تعديلات على المناهج مع نهاية العام الفائت. بذريعة حذف دعاية السلطة السابقة المبثوثة في الكثير من الكتب، حذف الوزير الجديد مع تلك الدعاية فصولاً من الكتب مثل “أصل وتطور الحياة”، و”تطور الدماغ”، وما يشير إلى الربات والآلهة القديمة مثل ربة الينبوع، أو الإله الكنعاني ملقارت، وطلب إزالة صورة حمامة ترمز للآلهة. التعديلات طالت حتى أبيات من الشعر القديم، مثل الإشارة في القرار إلى أنه (لا استثناءات في الموت، العاشقون وغيرهم سواء) اعتراضاً على بيت المتنبي: وعَذلتُ أَهلَ العشق حَتّى ذُقتُه فعجبتُ كيف يموت مَن لا يعشقُ.
بسبب الضجة التي ثارت على التعديلات، خرج الوزير بتوضيح أوحى بإمكانية التراجع عما لا يتعلق منها بالعهد البائد، إلا أنه لم يتراجع فعلياً حتى الآن بقرار يلغي التعديلات التي لا علاقة لها بالدعاية للعهد البائد. ويُسجّل للوزير نشاطه وهمّته بالمقارنة مع زميله في وزارة العدل، فالثاني تأخر عنه بأيام حتى أصدر قراراً بإعادة توقيف المسجونين الجنائيين الذين خرجوا من السجون مع فتحها أثناء عملية التحرير. الحديث هنا عن الألوف من أصحاب السوابق الذين أفلتوا في تلك الأيام، والذين يروّعون الأهالي بسرقاتهم واعتداءاتهم حتى صارت مدينة مثل حلب بمثابة مدينة منكوبة بهم.
ومع أن السوريين عموماً لا يملكون ثقافة قانونية يُعتد بها فقد كان لديهم معرفة عمومية، وفي حدها الأدنى، عن القوانين الجزائية والمدنية المعمول بها. الآن، لا إجابة ولا معرفة لديهم بالقوانين التي يحتكمون إليها، وهناك عقوبات اعتباطية لا يُعرف سندها القانوني، ومنها عقوبات مهينة يجري تصويرها ونشرها على نطاق واسع. الإهانات كانت تحدث في أقسام الشرطة من قبل، بعيداً عن الكاميرا، لكن المقارنة بما سبق غير مشرِّفة في كل الأحوال.
الاستحقاق الأمني، على سبيل المثال، يفوق في الأهمية ما تركز عليه التصرفات الدعوية التي توحي بأن السوريين في كباريه، ويجب إعادتهم إلى الجامع على وجه السرعة، بينما هم غارقون في فوضى أمنية ومعيشية لا ترجع فقط إلى طبيعة المرحلة الانتقالية، وإنما أيضاً إلى الغموض الذي يكتنف الشأنين الأمني والمعيشي. ولا بد من الإشارة إلى أولوية الجانب المعيشي حتى لجهة إحلال السلم الأهلي، وقد تُلام السلطة الجديدة على الوضع البائس الذي تواجهه، إلا أنها اتخذت قرارات اعتباطية ثم تراجعت عنها، الأمر الذي لا يزرع الثقة بأن لديها رؤية للتعاطي مع التركة الثقيلة. فضلاً عن ذلك، لم تتوجه السلطة لتصارح السوريين بحقيقة الوضع، أو لتطالبهم مثلاً بالتحمّل إلى أجل مسمّى.
عندما تزدهر الظواهر الدعوية، وفي المقابل يكون هناك إهمال (أو تقصير في المصارحة حتى) في صميم عمل الدولة، فهذا الاختلال ستكون نتائجه سلبية على السوريين وعلى السلطة الجديدة معاً، لأنه يُظهر الأخيرة كأنها تتلهى عنهم بما ليس في صلب مسؤولياتها. وحتى شيوع الجدال حول هذا كله بين السوريين، واقعياً وافتراضياً، يهدر الطاقات ويتسبب بعداوات هم بغنى عنها وعن نتائجها التي يصعب التكهن بها، ومن الأجدى في كل الأحوال أن تنصرف هذه الطاقات إلى النقاش في قضايا الدولة الراهنة والمقبلة.
ما يحدث، بسبب هذه الجدالات، هو تضييق على السوريين، لأنه يدفعهم إلى الحدود القصوى، وكأن على كل منهم الاختيار بين الكباريه والجامع، في حين أن قضايا بناء الدولة السورية الجديدة لا تبدأ من هنا، ولا علاقة لها بالاثنين، والسوريون متنوعون جداً بحيث لا يُختصر أحد منهم بهذا أو ذاك. ومن نافل القول أن التنوع السوري لا يقتصر على التقسيمات المذهبية والدينية والإثنية، فالتنوع موجود ضمن الأسرة الواحدة التي يعيش أفرادها بانسجام رغم اختلافاتهم الفردية. ومن نافل القول أيضاً أن السوريين، أسوة بكافة الشعوب، لا يفطرون ويتغدون ويتعشون على إظهار التمايزات العقائدية والمسلكية، ولا يهجس معظمهم بفرض النموذج الذي يفضّلونه على الآخرين. الحديث هو عن بلد بما للكلمة من معنى، ومن المهين لأبنائه جميعاً أن يُختزل بجامع وكباريه.
المدن
————————
الأسد في موسكو يتذكر إهانات بوتين/ بسام مقداد
الثلاثاء 2025/01/14
بعد أكثر من شهر على فراره إلى موسكو وانقطاع أخباره كلياً، ما عدا ذلك البيان الذي نشره على الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية، بعد أن امتنعت عن نشره كل وسائل الإعلام بما فيها الروسية، خرج بموسكو في 11 الجاري الناطق الصحافي بإسم الأسد كمال صقر ليكشف عن صفعة جديدة من تلك الكثيرة التي اعتاد بوتين توجيهها له وهو في سدة الرئاسة. وما كشف عنه صقر في بودكاست لقناة عربية تفصيل صغير، بل وتافه، بالمقارنة مع الأهوال التي تكشفت عنها سجون سيده، وجعلت الدم يتجمد في عروق العالم وهو يتابع مشاهد منها على شبكات التلفزة. وحين أصدر بيانه على موقع رئاسة الجمهورية، كان الكثير من جرائمه المتوحشة قد تكشف، لكنه تجاهل كل ذلك ليبرر فراره، ويؤكد أنه لم يفكر يوماً في مغادرة سوريا والتخلي عن “واجبه” في ارتكاب المزيد من الوحشية بحق السوريين. وقال إن بيانه المقتضب “لأسباب أمنية” لا يتيح إمكانية الكشف عما جرى في أيامه الأخيرة وليلة فراره، ويترك الأمر للزمن المقبل.
لقد مضى أكثر من شهر على فراره إلى موسكو، ومع ذلك لم يحن ذلك الزمن، وخرج الناطق الصحافي بإسمه ليحمل بوتين المسؤولية عن انهيار نظامه. فقد نقل معظم إعلام الكرملين، ومنه صحيفة kommersant الاتحادية، ما قاله صقر للشبكة العربية عن تجاهل بوتين محاولات الأسد المتكررة على مدى يومين الاتصال به هاتفياً قبل سقوطه بأيام.
نقلت الصحيفة عن صقر قوله إن محاولة الأسد الأولى الاتصال بالرئيس الروسي جرت في 4 الشهر المنصرم. وفي اليوم التالي، كرر الأسد محاولته من دون جدوى. بعد هاتين المحاولتين، اتصل الأسد بمبعوث الرئيس الروسي إلى سوريا ألكسندر لافرنتيف، وطلب منه التحدث إلى بوتين. لكن الأخير قال للأسد إن بوتين لا يستطيع التحدث إليه لوجوده بزيارة عمل إلى بيلوروسيا. لكن بوتين، حسب الصحيفة، قام بزيارة بيلوروسيا في 6 الجاري، وليس في الخامس منه.
ونقلت صحيفة Gazeta عن صقر قوله إن روسيا لم ترد على طلب بشار الأسد السماح باستخدام قاعدة حميميم لتلقي المساعدات الإيرانية للجيش السوري بعد سقوط حلب. وقالت الصحيفة إنه، وبعد فشل كل محاولات الاتصال بالكرملين، وصل ليل الثامن من الشهر المنصرم إلى القصر الرئاسي في دمشق الملحق العسكري الروسي الذي ساعد بشار الأسد على مغادرة دمشق إلى القاعدة العسكرية الروسية، حيث انتظر بضع ساعات بينما تم توفير الحماية لطائرته التي ستنقله إلى موسكو.
ليس الأسد وحده من يضع على اللوم على بوتين، ويحمله مسؤولية سقوط نظامه. فالإيرانيون الذين من المفترض أن يوقعوا معاهدة شراكة استراتيجية مع روسيا في 17 الجاري، لا يكتفون فقط بملامة روسيا، بل ويتهمونها بالخيانة. فقد نشر موقع Kasparov الروسي المعارض في 9 الجاري نصاً اتهم فيه جنرال إيراني رفيع المستوى روسيا بالخيانة، وذلك أثناء خطبة له بمسجد في طهران.
نقلت صحيفة نيويورك تايمز عن شريط فيديو مسجل لكلمة الجنرال بهروز إسباتي، قوله إن القوات الروسية كانت تتهرب من توجيه الضربات إلى القوات المعادية القريبة منها في سوريا. ورأى أن روسيا كانت تقوم بتضليل إيران بشأن عملياتها ضد القوات العدوة في سوريا، إذ بدلاً من أن توجه الضربات إلى المقاتلين كانت القوات الجوية الروسية تسقط الصواريخ والقنابل على المناطق المكشوفة. وأضاف بالقول إنه في السنة الماضية، وحين كانت إسرائيل تقصف المواقع الإيرانية في سوريا، أقفلت روسيا بعض أجهزة الرادار، “مما سهل بشكل فعال هذه الهجمات”.
روسيا لم يصدر منها حتى تاريخ نشر النص أي تعليق على اتهامات الجنرال الإيراني رفيع المستوى هذا، علماً أن الصحيفة الأميركية أشارت إلى أن الجنرال كان يتولى في سوريا مهمة التنسيق مع الروس والسوريين. وسبق للرئيس الروسي أن أعلن أن طيران قاعدة حميميم أجلى من سوريا 4000 عسكري إيراني.
وفي سياق الخطاب الذي يعتمده الملالي في مواجهة حلقات سقوط توسعهم المتتالية في المنطقة، أعلن الجنرال أن إيران ستواصل العمل في سوريا، وستحاول تشكيل “خلايا مقاومة” فيها. وتؤكد الصحيفة الأميركية أن تصريحات الجنرال الصادمة قد “أذهلت” الحضور، خصوصاً وأنها صدرت عن شخص بمثل هذه الرتبة الرفيعة.
أحد قراء النص الروس علق على الجنرال بالقول “ليست روسيا التي أوقفت عمل الرادارات، بل إسرائيل”. وقال آخر إن السوريين يخيفون أطفالهم بالجنرال الروسي سيرغي سوروفيكين، “جزار حلب” وقائد القوات الروسية في سوريا في تلك الفترة.
بيان الأسد الوحيد الذي صدر عنه، وزعمه المشكوك بصحته، بأنه لم يجد وسيلة إعلامية تنشره، فاضطر لإستخدام الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية، خلق انطباعاً بأن السفاح يعيش في عزلة بموسكو. لكن خروج الناطق الصحافي باسمه ليتحدث في بودكاست على شاشة قناة عالمية، يخلق انطباعاً معاكساً. لكن الحقيقة أن ليس لدى السفاح ما يقوله للسوريين والعالم، بل لا يرى حاجة لقول شيء بشأن ما تكشف من توحشه بحق السوريين مع المجرمين الذين كانوا يحيطون به. ويصح اعتراض من كان يرفض إطلاق وصف “نظام” على سلطته، بل كانت سلطة عصابة من مهربي المخدرات والقتلة، لا وطن لها ولا معايير أخلاقية، كما كل العصابات المماثلة.
يوميات حياة الأسد في موسكو وتفاصيلها، من المستبعد أن تظهر في الإعلام الروسي. فجميع من حصلوا على اللجوء السياسي في روسيا قبل الأسد من الطغاة في العالم، كانوا يفقدون أي قيمة وأهمية بالنسبة لروسيا. لكن الأسد يختلف عن من سبقوه بأنه حمل معه إلى روسيا أموالاً طائلة من ضمنها ثروة عقارية كبيرة في روسيا نفسها. وسوف يلاحق الإعلام العالمي هذه الثروة، وليس تفاصيل حياة الأسد اليومية.
موقع قناة التلفلزة الأميركية التي تبث بالروسية من براغ CurrentTime نشر في 25 الشهر المنصرم نصاً تحدث فيه عن رجال الأعمال المرتبطين بالأسد، وكيف يديرون أعمالهم في روسيا.
قال الموقع إن الأسد كان منذ زمن بعيد يعد “مطاراً احتياطياً” في موسكو، تمثل بشحن أطنان من النقود، وشراء عقارات باهظة الثمن في موسكو. بعد فراره من سوريا كتب الإعلام أن السلطات الروسية “جمدت” ممتلكات الاسد (السلطات تنفي ذلك). ومن المستبعد أن يبقى الديكتاتور السابق من دون مال، إذ يحيط به عدد كاف من رجال الأعمال الذين استقروا منذ فترة طويلة في العاصمة الروسية، وإذا لزم الأمر، يمكنهم مساعدة الأسد في الغربة، حسب البرنامج الاستقصائي “النظام” (System) الذي نقلت عنه القناة.
تنقل القناة عن برنامج “النظام” توقفه عند كبار رجال الأعمال السوريين المرتبطين بالأسد ونظامه، وبينهم من يتعاون مع إبنة بوتين الكبرى. ومنهم من بقي بعد دراسته الجامعية ولم يعد إلى سوريا، بل استقر في روسيا، وأسس لصالح النظام مشاريع اقتصادية كبيرة.
موقع قناة التلفزة الروسية الدولية RTVI التابعة لعملاق بروباغندا الكرملين نشر في 10 الشهر المنصرم نصاً تابع فيه حجم ثروة الأسد وأقاربه العقارية في موسكو بشكل خاص. تساءلت القناة عما ينتظر الأسد في موسكو. وفي إشارة إلى أنه لن يحظى في إقامته بموسكو بأي اهتمام على غرار من سبقه من طغاة لجأوا إلى روسيا، قالت بأنه “لن يكون هناك مآدب عشاء في الكرملين”.
المدن
———————————
حكاية عن رفعت الأسد الرفيق اليساري/ بشير البكر
الإثنين 2025/01/13
استبعدني اتحاد طلبة سوريا العام 1976 عن الفعاليات الثقافية كافة في جامعة حلب، بعدما تجرأت وجادلت عضو القيادة القطرية لحزب البعث أحمد دياب في مدرج كلية الطب عن تدخل الجيوش السوري في لبنان، ضد المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية. استاء مني لأني استخدمت تعبير “تدخل ضد”، وصحح لي قائلاً “تدخل لحماية”. منعوني بكتاب رسمي صادر عن رئيس الاتحاد زاهد اسطنبولي، ولذلك فوجئت حينما دعاني مدرس مادة التربية القومية في كلية الاقتصاد، الدكتور غسان الظاهر، لحضور لقاء مع رفعت الأسد الذي سيزور الجامعة. وكي لا أحرجه، وأعرض نفسي لردّ فعل سلبي من قبل المنظمين، عرضت عليه نسخة الكتاب الذي عممه اسطنبولي على فروع اتحاد الطلبة، وعمداء الكليات. لكنه لم يكترث بقرار المنع، وشتم اسطنبولي والاتحاد، وقال لي إن اللقاء يقتصر على مجموعة من الشباب التقدميين يرغب رفعت اللقاء بهم، بعيداً من حزب البعث في الجامعة واتحاد الطلبة.
أحسست بأن هناك فخاً من وراء الدعوة، لكني كنت أثق في غسان وأقدره، وأعرف موقفه السياسي المعارض للنظام. ولذا ذهبت إلى أحد مدرجات كلية الاقتصاد في حي سيف الدولة، ووجدت طالبة ترشد المدعوين إلى المكان. العدد لا يتجاوز ثلاثين طالباً من جميع الكليات، وقد تمت دعوة الطلبة المعروفين في النشاطات الجامعية وفي مدينة حلب. ولم يطل الانتظار حتى دخل رفعت الأسد وبرفقته ثلاثة أشخاص أحدهم يرتدي مثله بذلة عسكرية مرقطة، وعلى كتفه نجوم عديدة وصدره موشح بالأوسمة، والثاني طالب في كلية الآداب وهو شاعر يكتب القصيدة العمودية، وكنا على خصومة كوني من كتاب قصيدة النثر، والثالث زاهد اسطنبولي. واكتشفت هناك أن دور الدكتور غسان كان يقتصر على ترشيح بعض الأسماء، ومنهم أنا.
رحب بنا رفعت وأعطانا الأمان للتعبير عن آرائنا بصراحة ومن دون خوف. وقال إنه طلب اللقاء مع “نخبة النخبة” في الجامعة، ونحن الذين سيعتمد علينا من أجل إيصال صوت القطاع الطلابي، الذي نريده أن يشارك في المسيرة، ومما ورد على لسانه أنه يتكلم بصفة تمثيله لتيار من يسار حزب البعث، وصارحنا بأنه يعرف تفاصيل عن كل منا ولديه تقرير مكتوب عن كل مدعو، وقد تقصًد ألا يكون بينا أعضاء من حزب البعث أو اتحاد الطلبة، وفي الحقيقة لم يكن بيننا أعضاء في تنظيمات سياسية، وكنا بنسبة 90 في المائة من المستقلين غير الموالين للحكم.
جلسنا في الصف الأول من المدرج، على يميني صديق لي يدرس في كلية الاقتصاد، مفصول من حزب البعث يدعى جورج ديب، وعلى يساري طالب لبناني في كلية الطب يدعى علي العبدالله، لا يكف عن المزاح والتنكيت على يسارية رفعت، الأمر الذي خفف عنا ثقل المفاجأة، وجعلنا نرى الوجه الطريف من المسألة. ومما قاله همساً “يبدو أن الرفيق أبو دريد مثقّل الشرب على الغداء، وحين يصحو من السكرة سيتنكر لما قاله، بينما سوف يسجل علينا أننا التقينا معه، وممكن ندفع الثمن”. استفسرته عن النقطة الأخيرة، فأكد أن أجهزة الأمن ستستجوبنا، وربما نتعرض للتعنيف. وهذا ما حصل فعلاً، إذ لم يكد رفعت يغادر حلب، حتى حضرت المخابرات العسكرية إلى الجامعة، وحققت مع المشاركين.
أفادني توجس الصديق اللبناني، فأمسكت لساني، ولم أتحدث. استمعت إلى محاضرة رفعت، وكان لدي إحساس بأننا أمام نسخة سورية من العقيد معمر القذافي أو الرائد عبد السلام جلود. فقد كانا يقودان الحكم من داخل المكاتب، ويبطشان بالرأي المخالف، وعندما يخرجان إلى الشارع يتحولان إلى المعارضة، ويدعوان إلى الزحف على المؤسسات التي يطلقان عليها نعوت الرجعية والتخلف والجمود. وحين انتهت المحاضرة وخرجنا من الكلية، وجدنا حافلة تنتظر المدعوين لتقلهم إلى حفلة عشاء على شرف القائد في مطعم “ستراند” الفخم المطل على حديقة حلب، وحين وصلنا وجدنا رفعت قد سبقنا إلى هناك، وهو يجلس على رأس الطاولة، وبجانبه شاعرة فاشلة صارت ممثلة لاحقاً، وإلى الجهة الأخرى تجلس طالبة من إحدى العائلات ذات الملكيات الكبيرة، وهي ابنة شقيق أحد عسكر النظام الكبار.
اخترت مكاناً أقرب إلى الباب على أمل أن أتسلل بسرعة، وأغادر الحفلة، لكن خطتي باءت بالفشل، فقد كان ممنوعاً خروج أحد قبل أن يغادر القائد، ويصبح بعيداً من المكان، ولذا صار لزاماً علينا أن نتفرج على سهرة حافلة بالابتذال والنفاق، أعطتني فكرة مبكرة عن البذخ والانحطاط والانفصام الذي يمثله رجال الحكم الجديد، الذي لم يكن قد مضى عليهم في السلطة سوى 6 أعوام.
تحققت رؤيا صديقنا اللبناني، وحضر إلى الجامعة عنصر من الأمن العسكري، وطلب مني أن نشرب فنجان قهوة معاً. أراد أن يتعرف على رأيي بأفكار المحاضرة، وسبب صمتي وعدم طرح أي سؤال. بدا له مريباً أني لزمت الحياد، ولم أتفاعل. قلت له إني فوجئت بأطروحة اليمين واليسار في داخل الحزب الحاكم. هي ليست جديدة فقط، وإنما كشفت عن تعدد منابر داخله. سجل على ورقة بيضاء، ما أفدت به، ثم غادر، تاركاً فنجان القهوة الذي دفعت ثمنه، وأنا آمل أن يكون الأول والأخير. ولم يخطر في بال أحد منا أن الهدف البعيد من الأطروحة هو تصفية مراكز قوى داخل “البعث” بوصفها محسوبة على اليمين، ومن تولى المهمة هو رفعت.
المدن
———————————-
طلاء زنازين الفروع الأمنية بسوريا: دَوس على آلام المعتقلين!/ وليد بركسية
الثلاثاء 2025/01/14
في مقطع فيديو مستفز، ظهر المذيع السابق في التلفزيون السوري يزن فويتي مع عدد من المتطوعين في مجموعة “سواعد الخير”، وهم يرسمون ويلونون زنزانات داخل فرع الأمن السياسي باللاذقية، في استمرار لمشهد الفوضى الذي طبع تحرير المعتقلين من سجون نظام الأسد، من ناحية غياب التوثيق وعدم الاعتناء بالأدلة والوثائق المهمة لأي مرحلة مستقبلية مقبلة في سوريا التي يسعى شعبها للعدالة والمساءلة.
وظهر اسم فويتي تحديداً في آب/أغسطس 2023، من بين الفائزين في مسابقة بالمشاركة مع “مجلس الأعمال الروسي السوري” ووزارة الإعلام السورية والسفارة السورية في موسكو ضمن البرنامج الحكومي الروسي “الجيل الجديد”، ومُنح زيارة لحضور ورشات عمل في القنوات التلفزيونية الروسية.
وظهر فويتي الذي احتفل بعيد ميلاده الثامن والعشرين قبل أيام، في الفيديو، متحدثاً مع زملائه بلغة الأمل والطاقة الإيجابية وغيرها من المصطلحات التي كانت حاضرة لعقود في الإعلام الرسمي وشبه الرسمي في البلاد، والتي تجرد أي مأساة أو قضية جادة من طبيعتها لصالح لغة مائعة أخلاقياً، كانت تستخدم في الماضي لطمس آلام السوريين في ظل نظام الأسد، ويبدو في الفيديو أنها تحاول محو الأدلة في المعتقلات سيئة السمعة اليوم.
وتلك اللغة كانت أساس دعاية النظام السوري بأن “سوريا بخير” لأن “الله حاميها” وبسبب “وجود الرئيس بشار الأسد في قيادتها”، وأن الحياة في سوريا جميلة رغم كل الصعاب، وغيرها من المصطلحات التي كانت تبرر غياب الحديث عن السلبيات وتوجيه الانتقادات في البلاد بضرورة “النظر إلى النصف الممتلئ من الكأس”، في حين غُيّبت الأصوات الناقدة في المعتقلات سيئة السمعة أو طُرد أصحابها إلى المنافي، حتى لو كان النقد آتياً من موالي النظام البائد حينها، بما في ذلك العاملون في الإعلام الرسمي، كالمذيعة المخضرمة هالة الجرف التي اعتُقلت وفُصلت من العمل بسبب انتقادها لشيوع الفقر في البلاد عبر اقتباس بسيط من الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو العام 2021.
واليوم تنتشر تلك اللغة في خطاب صنّاع محتوى سوريين وعرب، وأفراد عاديين، تجاه سوريا، برسم صورة رومانسية للألم والمعاناة، وهو أسلوب يخلو من الإنسانية والتعاطف عند التعاطي مع الضحايا وعائلاتهم، لأنه في الواقع يستغل تلك القصص من أجل ادعاء الإنسانية، والدَّوس عليها من أجل غايات أخرى، من بينها اليوم الحديث عن طي الصفحة ونسيان الماضي والسير نحو سوريا جديدة مستقبلية. وهذه كلها شعارات عامة نبيلة ومشرقة، لكنها تصبح سامة وخطيرة في بلد منقسم على نفسه يجب عليه السير في طريق العدالة القانونية بشكل ممنهج، كي لا تظهر نتائج عدم المحاسبة لاحقاً بصورة أعمال عنف وثأر واحتقان اجتماعي على سبيل المثال.
والحال أن أقبية المعتقلات التي يتم تلوينها اليوم ونشر خطاب الأمل السام منها، مع شعارات “فتحت الأبواب وحلّقت الأرواح”، أخرجت الشهر الماضي صوراً مروعة تكشفت للمرة الأولى أمام العالم، وكانت كافية لبث الرعب في القلوب، من غرف التعذيب إلى غرف الإعدام إلى أشكال المعتقلين الخائفين والمذهولين، إذ كانت المعتقلات سيئة السمعة تشكل تجسيداً للصمت والسرية والتعتيم الذي فرضه النظام السوري على البلاد ومحاربته للإعلام والمفكرين والأصوات الحرة، ليس فقط من ناحية اعتقالهم وزجهم فيها، بل أيضاً لأنه طوال العقود الماضية لم تكن هناك صورة واحدة من أي من تلك السجون التي تكرست عبر السنوات كأسطورة شفهية للرعب من قِبل النظام بين السوريين، من دون أن يروها حتى، لتكريس حكمه القائم على العنف والتخويف.
وتجريد السجون بهذه السرعة من هالتها المخيفة بشكل متعمد، يشكل تحريفاً لتاريخ تلك السجون التي لا يمكن تخيل ما عاناه داخلها مئات الآلاف من المعتقلين، حتى مع قراءة شهادات الناجين منها، لأن ما خفي كان أعظم فعلاً. التعذيب اليومي، اليأس، واختفاء الهوية لصالح أرقام، وتحديداً الظلام الذي ميّز كل تلك الأقبية المروعة، حيث لا يرى المعتقلون الضوء لسنوات وسنوات. ويتم اليوم محو كل ذلك التاريخ، مهما كان مؤلماً، بقليل من الألوان والموسيقى الثورية والعبارات التي تدعي الإنسانية ونشر الطاقة الإيجابية وإعطاء القوة للضحايا.
والفيديو ليس الوحيد الذي يثير الغضب، لأن مختلف الفروع الأمنية في سوريا منذ سقوط نظام الأسد، بما في ذلك “سجن صيدنايا العسكري” المعروف بلقب “المسلخ البشري”، عانت الفوضى إلى حد ظهور تقارير إعلامية عن أشخاص يقومون بتفكيك الزنزانات في سجن صيدنايا لبيعها كقطع خردة، في ما يبدو أنه “تعفيش” منظم. بينما كانت الفروع الأمنية ككل مزدحمة بالإعلاميين وصنّاع المحتوى والأفراد العاديين في غياب جهات تنظيمية أو مؤسسات من المجتمع المدني وغيرها.
وباتت الزنازين المظلمة، حيث كان التعذيب والموت يحصلان بطريقة ممنهجة طوال 54 عاماً، في مختلف مدن البلاد، مكاناً لجذب المشاهدات في مواقع التواصل، بدلاً من العناية بها وحمايتها كدرس “تنذكر وما تنعاد”، ومن أجل البدء بعملية محاسبة في إطار العدالة القانونية لاحقاً، فيما يكرر ناشطون وصحافيون الحديث عن أجندة ممنهجة من قبل فلول النظام السابق لطمس الأدلة وعرقلة الوصول للعدالة.
ليس غريباً بالتالي أن تطالب منظمة “هيومن رايتس ووتش” الإدارة السورية الجديدة بالحفاظ على الأدلة والوثائق التي تم العثور عليها في السجون والفروع الأمنية التابعة للنظام السوري السابق، مضيفة، الاثنين، أن “عشرات آلاف السوريين اختفوا قسراً على أيدي أجهزة الأمن والمخابرات التابعة للأسد، ومن حق العائلات معرفة الحقيقة، ولذلك يجب الحفاظ على أدلة الفظائع التي ارتكبتها الحكومة السابقة”.
وأعربت المنظمة عن قلقها من أن الأدلة الحاسمة على الفظائع التي ارتكبها النظام السابق، معرضة لخطر التلف أو التدمير أو الضياع، محذرة من أن ذلك يُضر بجهود العدالة للضحايا والناجين وجميع الذين ما زالوا في عداد المفقودين وعائلاتهم.
وزار وفد من المنظمة العاصمة دمشق بين 10 و20 كانون الأول/ديسمبر الماضي، وأجرى جولة على بعض المستشفيات التي كانت تستقبل جثث المعتقلين، إضافة إلى السجون ومراكز الاحتجاز، ومواقع بعض المقابر الجماعية. وخلال الزيارة، شاهدت المنظمة تعرّض غرف بأكملها في الفروع الأمنية والسجون، للحرق بشكل كامل، إضافة إلى وجود وثائق مبعثرة على الأرض.
شدّد رئيس “لجنة التحقيق الدولية المستقلة الأممية بشأن سوريا” باولو بينيرو، على ضرورة جمع وحفظ الأدلة المتعلقة بجرائم التعذيب والانتهاكات، مؤكداً أن هذه الأدلة ضرورية لملاحقة الجناة أمام المحاكم الدولية. وقال في تصريحات سابقة: “لماذا تعتبر الأدلة مهمة؟ لأنه إذا كنت تريد محاكمة مرتكبي التعذيب والتدمير والقتل والخطف، فعليك أن تستند إلى أدلة قوية ومثبتة”.
تم إخفاء عشرات الآلاف من السوريين قسراً على يد أجهزة الأمن والمخابرات التابعة للحكومة السابقة سيئة السمعة.
تستحق العائلات معرفة الحقيقة، ولذلك يجب الحفاظ على أدلة الفظائع التي ارتكبتها الحكومة السابقة.
هذا هو السبيل أمام الحكومة الانتقالية لبناء الثقة مع الشعب السوري.#سوريا pic.twitter.com/goaUwU6CjA
— هيومن رايتس ووتش (@hrw_ar) January 13, 2025
وحتى لو كان السوريون يستعيدون فضاءهم العام عبر المشاركة بالاحتفالات في الساحات العامة ورسوم الغرافيتي التي تنشر رموز الثورة السورية على الجدران، فإن الفيديو الذي يرفع فيه المشاركون الشعارات نفسها داخل السجون مع إشارات النصر بإيديهم، لا يمثل جزءاً من ذلك السياق، بل هو سلوك لا يمكن فهمه أصلاً، حتى ضمن اللغة التي يتحدث بها المشاركون، من ناحية كسر قيود الظلام ومساعدة الآخرين وغير ذلك. لأن ما يقومون به لا يتعدى التخريب والأذى، ما دفع السوريين لنشر هاشتاغ #اتركوا_حيطان_أولادنا #دعوا_روزنامة_المعتقلين_لتشهد على نطاق واسع، واحترام آثار عذابات المعتقلين كشهادات للتاريخ، مع دعوات للتحقيق مع المخرّبين.
تخريب السجون بهذه الطريقة لا يمحو فقط الآثار الفيزيائية الموجودة كدلائل على الفظائع المرتكبة من قبل النظام المخلوع، بل يشكل أيضاً عدم احترام للضحايا واستهتاراً بقضية المعتقلين، كما يشكل أيضاً عبثاً في الذاكرة الجمعية للسوريين، لأن تلك الأماكن يجب أن تبقى شواهد للأجيال المقبلة على المأساة كي لا تتكرر من جديد، كما أن أولئك الأفراد لا يملكون تفويضاً للعبث بذكريات المعتقلين في تلك الزنازين ولا ذكريات عائلاتهم عنهم، حتى مع التسليم جدلاً بأن النية من وراء مشروعهم نبيلة.
وتتكرر الأمثلة في عدد من دول العالم التي شهدت سقوط أنظمة دكتاتورية أو حروباً أهلية تخللتها فظائع وانتهاكات لحقوق الإنسان، من كمبوديا إلى ألمانيا النازية مروراً بالبوسنة ورواندا، وكلها دول حولت السجون ومراكز الاعتقال والأعدام الجماعي إلى متاحف تحفظ الذاكرة البصرية للمستقبل، منعاً لفقدان ذاكرة جمعية تجاه الأرواح التي فُقدت، والأجساد التي عُذّبت والعائلات التي تشتّتت، مهما كانت القصص وراء تلك الأماكن مروعة.
المدن
—————————-
عزيزي جولاني… لا تخف من فينوس!/ ديانا عيتاوي
14.01.2025
عزيزي الجولاني، من يخاف، لا يستطيع أن يكون حراً أو يدعو إلى الحرية؛ دع أثينا تعلمك بعض الأشياء. لا تخف من تقبيل فينوس، والركض مع ديانا. فقط حينها ستكون حراً…
في خطوة تم التراجع عنها بسرعة ونُشر ادّعاء” تصحيحها”، أزالت الحكومة المؤقتة/ الانتقالية في سوريا بقيادة “هيئة تحرير الشام”، مصطلح “الآلهة” وصور التماثيل من المناهج التعليمية. كالعادة، بأسلوب إسلامي- متطرف كلاسيكي، لا تزال التماثيل الإلهية التي شهدت على التاريخ القديم بأعينها الصخرية، تتعرض للملاحقة، بحجة الخوف من انحراف المؤمنين من “الواحد” إلى “العديد”.
في بداية أيام العمارة والفن الإسلامي، كانت بساطة التصميم التي تبنّاها وروّج لها الفكر الإسلامي، تقف على تناقض حاد مع الجماليات البيزنطية الغنية بالأيقونات، ومع سقوط القسطنطينية، بدأت ثورة عمرانية من داخل جدران الكنائس المزينة بصور الملائكة، وعيون القديسين الواسعة، وبابتسامة مريم الرقيقة، وجسد المسيح، كانت هذه الثورة تسعى إلى تحرير المعنى والرسالة من قيود الأيقونة.
هذا الابتعاد عن الإيقونية، لرصد الكينونة التي لا شكل لها، ولا جنس، ولا حدود، شكّل ثورة اخترقت الكاتدرائيات وألهمت بناء المساجد حولها. كان محور العمارة الإسلامية هو “اللامرئي”، الذي تحول إلى قوة جاذبية ومركز توازن أملى على الإسمنت كيف يلتوي حوله، وعلى الفسيفساء على أي فلك تلتف، وعلى الخط العربي إلى أي بعدٍ يمتد حتى يربط البداية والنهاية، والمعنى والوسيط، ويجسد وحدة كل شيء.
لم يتبنَ المسلمون لفظ “المحمديون” الذي أُطلق عليهم في أوروبا، ولم تُبْنَ أية تماثيل لأي نبي أو رسول في العالم الإسلامي، لا بسبب التحريم فقط، بل خشية أسر الـ”معنى” من جديد ضمن “شكل”، هذا الخوف سرعان ما تحوّل إلى هاجس وبارانويا من أي تمثال أو رمز.
ألهم الإسلام بعض أعظم الإنجازات المعمارية في التاريخ، لم تُبنَ هذه الهياكل دائماً بسلام، ولم تتماشَ دائماً مع فكرة “الواحد”، أسر الخوف حرية الـ”معنى”، ودُمّرت تماثيل ديانات أخرى، اعتُدي على معابد، وأُحرِقَت كنائس. في الوقت ذاته، رُفعت صور القادة وأسماء الصحابة والأئمة على جدران المساجد، كإعلانات غير مرغوب فيها لأولئك الباحثين عن الهدوء والسكون. ما بدأ كجهد لتحرير المعنى من الأيقونة، انتهى به المطاف إلى حبسه داخل الخوف والسلطة والطمع، والهياكل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المعتادة.
قال كارل يونغ إن اكتشاف علم النفس كآخر العلوم التجريبية ليس مفاجئاً، لأن البشرية استغرقت وقتاً طويلاً لتوثيق العالم الداخلي للإنسان. لقد كانت الهياكل الاجتماعية والشخصية والسياسية دائماً أكثر الأيقونات صعوبة للكسر، والمتاهات الأكثر تعقيداً التي يُبحث فيها عن المعنى، إن كان هناك أي معنى في داخلها على الإطلاق.
تطوّرت الأطر التي يحتفظ بها المعنى، وتبدو معابد اليوم مثل البنوك والشركات. في عالم ممتلئ بالمجهول، من الطبيعي أن نميل إلى البقاء قريبين من السياج، حذرين من السقوط وكسر أعناقنا. كان الهدف من تحرير المعنى هو الاعتراف بأن هذه الهياكل مُصمَّمة لتكون سياجات، لا وجهات. المعنى حُر فقط عندما لا يكون مقيداً، ولا يكون الإيمان أو التمسك به قصرياً. المعنى حُر، عندما يمكن أن يتجسد كتمثال إلهة، أو كفراشة، أو كدائرة، أو كأي شكل يفي بالوظيفة. المعنى حُر، عندما تتلاحم الطبقات الاقتصادية بحرية، وتلتقي المجتمعات المختلفة بحب، ويُنتَخب الرؤساء بنزاهة.
المعنى يكون حراً، عندما لا يخشى الرجل من المرأة (لاحظ طالبان !) أولئك الذين في أفغانستان يدركون جيداً كيفية بناء أكثر السجون إحكاماً، هؤلاء الإسلامويون أمروا بغلق جميع النوافذ في الغرف التي تشغلها النساء، ليأسروهن ليس فقط في منازلهن، وضمن “عائلتهن” وبدورهن الاجتماعي، بل في ظل الرجل البحت.
الرجل أيضاً أيقونة، على مر التاريخ، بقي الرمز الأبرز للقمع والخوف والتدمير، الرجل يدمر التماثيل كي لا تدمره التماثيل. بالمثل، فإن حذف “هيئة تحرير الشام” للآلهة القديمة، وتجريدها من صورها ومكانها الصحيح في التاريخ باعتبارها جزءاً أساسياً من تطور المعنى والأنوثة أيضاً، هو دعوة خطيرة إلى الحرب ضد الحقيقة والمساواة.
لماذا يخاف الإسلامويون من الآلهة القديمة؟ بالتأكيد هم يعلمون أن أيقوناتهم كرجال، التي بُنيَت على ظهور النساء والفئات المهمشة، لا يمكن أن تصمد أمام اختبار الزمن بالطريقة التي صمدت بها ما تمثله الآلهة الأخرى. الجولاني لن يستطيع منافسة أثينا، إلهة الحكمة؛ لن يتمكن أبداً من النظر في عيون فينوس، إلهة الجمال، والإعجاب بها من دون أن يمتلكها ويأسرها، ولن يصطاد أفضل من ديانا، إلهة الصيد. عزيزي الجولاني، من يخاف، لا يستطيع أن يكون حراً أو يدعو إلى الحرية؛ دع أثينا تعلمك بعض الأشياء. لا تخف من تقبيل فينوس، والركض مع ديانا. فقط حينها ستكون حراً…
درج
—————————
من سيحاسب من.. سوريا “الجديدة” تبحث عن “طريق العدالة”/ ضياء عودة – إسطنبول
14 يناير 2025
“العدالة والمحاسبة”.. كلمتان رددهما السوريون كثيرا خلال 14 عاما من النزاع الدامي، وبعد سقوط بشار الأسد أتيحت الفرصة وفُتحت الأبواب وازدادت حالة المطالبة بتطبيقهما، لكن وفقا لخبراء وحقوقيين لن تكون هذه العملية بالأمر السهل.
وبناء على الواقع المفروض حتى الآن في “سوريا الجديدة ما بعد الأسد” لا يبدو الكثير من الاهتمام لدى السلطات التي تمسك بزمام الأمور في دمشق للبدء بأولى خطوات تطبيق هذه القضية.
وفي المقابل، لم تعرف الآلية التي سيتم المضي بهذا الطريق الذي يمر بعدة محطات وتعترضه عقبات، يتعلق جزء كبير منها بالمستويات التي يجب إدراكها ما قبل الشروع بخطوات تطبيق العدالة وفي أثناء المضي فيها.
ثلاثة مستويات
ويعتبر ملف العدالة من الملفات الأكثر تعقيدا في الحالة السورية، بسبب حجم الجرائم التي ارتكبت في السنوات الماضية من قبل معظم الأطراف، وإن كان لنظام الأسد النصيب الأكبر.
كما أن الغوص في هذه الجرائم لكشفها والتحقيق بها يفوق قدرة أي نظام قضائي على استيعابه، وفقا لكبير المفاوضين في المعارضة السورية سابقا، المحامي محمد صبرا.
ويشرح صبرا، في حديثه لموقع “الحرة”، أن ملف العدالة المعقد يتضمن 3 مستويات.
ويقول إنه يجب إدراك هذه المستويات، قبل الذهاب إلى تفكيك الوسائل والسبل التي سيسلكها السوريون في معالجة هذا الملف.
المستوى الأول: هو العدالة النسبية أي حق الضحايا بالإنصاف (حق أهل القتلى وحق المعتقلين وحق كل من تعرض لعملية انتهاك لحقوقه بأن يصل إلى الإنصاف).
المستوى الثاني: العدالة المطلقة، ويذهب مفهومها باتجاه إقامة العدل بشكل جماعي.
وقد لا تتطابق العدالة المطلقة مع النسبية.
ويطرح صبرا مثالا عن ذلك بقوله: “أي أن أقيم العدل بشكل إجمالي للمجتمع السوري بكامله ليشعر بأنه تم تثبيت أسس العدالة، دون أن يشمل ذلك بالضرورة وصول أي شخص بعينه لحقه”.
ويتعلق المستوى الثالث بكيفية توظيف ملف العدالة في تعزيز السلم الأهلي، وحالة الذهاب من الصراع إلى مرحلة بناء الدولة.
ووفقا للمحامي السوري “يجب إدراك هذه المستويات الثلاث مسبقا قبل الحديث عن ملف العدالة”.
كيف يبدأ الطريق؟
بعد إدراك المستويات الثلاث المذكورة، تبدأ عملية الاختيار بين أنماط العدالة المراد تطبيقها.
هل نريد الذهاب إلى العدالة الناجزة التي تحقق النسبية؟ أم إلى العدالة الانتقالية؟، يتساءل المحامي صبرا، ويشرح المسارات التي يختلف بها كل نوع عن الآخر.
تتطلب العدالة الناجزة محاكمة جميع من ارتكب جرائم ضد السوريين بغض النظر عن نوعها والجهة التي ارتكبتها، وبغض النظر عن المستويات الأخرى المجتمعية لمفاهيم التعويض وجبر الضرر.
في المقابل، تشمل العدالة الانتقالية طيف واسع من الأدوات التي يتم استخدامها، مع محاكمة بعض الذين أوغلوا في ارتكاب الجرائم وارتكبوا مجازر كبرى، والذين قادوا عملية ارتكاب الانتهاكات.
بعد تحقيق ما سبق يتم الذهاب باتجاه تشكيل لجان حقيقة ومصالحة والكشف عن مصير المغيبين وعن الآليات التي اتبعها النظام في تغييب وقتل عدد كبير من السوريين، بحسب المحامي السوري.
ويؤكد أن “مسار العدالة الانتقالية يمتد لسنوات ويضم سلة خطوات كاملة”.
في النوعين يشير صبرا إلى أن العملية يجب أن تبنى على أسس الحوار الوطني.
ويضيف قائلا: “أي أن يكون هذا الأمر مطروحا على مؤتمر الحوار الوطني حتى يستطيع أن يحدد التوجه العام باتجاه تحقيق العدالة”.
ويوضح مدير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، فضل عبد الغني، أن مسار العدالة الانتقالية يتطلب تشكيل هيئة وطنية.
ويقول لموقع “الحرة” إن هذه الهيئة يجب أن تكون مشكّلة من خبرات ومن منظمات مجتمع مدني وما إلى ذلك، بالتنسيق مع السلطات الحاكمة.
“يجب أن تكون الهيئة مستقلة أي لا يجب أن تشكلها الحكومة”. ويتابع عبد الغني مؤكدا على معايير تشكيلها بأن تضم “خبراء في منظمات مجتمع مدني وعملوا في هذا الإطار منذ سنوات طويلة”.
من يقود مسار العدالة؟
لا توجد لغاية اليوم سردية متكاملة لدى السلطة الجديدة بخصوص العدالة الانتقالية، يتم عكسها بخطاب رسمي ويصار إلى تطبيقها بواسطة بآليات وأدوات واضحة.
كما أنه ليس هنالك وضوح فيما إذا كان هنالك دور للمجتمعات المحلية وأهالي الضحايا ومنظمات المجتمع المدني السورية في مسار العدالة الانتقالية أم لا، وما هي المحاكم التي ستتولى تطبيق العدالة (محلية، وطنية، دولية).
ما سبق يشير إليه الباحث في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية”، أيمن الدسوقي، في حديثه لموقع “الحرة”.
ويقول إنه “في ظل الغموض الذي يحيط بمسار العدالة الانتقالية تزداد احتماليات تطبيق العدالة بشكل فردي وعشوائي، وما يحمله ذلك من مخاطر فوضى أمنية واندلاع موجات عنف لا يمكن التنبؤ بمساراتها”.
ويؤكد الحقوقي السوري عبد الغني أن الهيئة الوطنية التي ينبغي تشكيلها هي التي تتولى مهمة قيادة مسار العدالة الانتقالية.
ويشرح أنه من أبرز مهامها قضية المحاسبة، فضلا عن ملفات أخرى مثل لجان الحقيقة والمصالحة وجبر الضرر والتعويضات وإصلاح المؤسسات.
وينقسم ملف المحاسبة إلى قسمين: الأول جنائي والثاني غير جنائي.
ويستهدف الجنائي، وفقا لعبد الغني، من ارتكب جرائم حرب وضد الإنسانية وبشكل أساسي المدرجين ضمن الصفوف العليا من الجيش والأمن والسلطة السياسية.
أما القسم غير الجنائي فيذهب باتجاه تشكيل لجان الحقيقة والمصالحة.
ولدى “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” اعتقاد أن الأمور غير الجنائية واسعة جدا.
وطالب مديرها عبد الغني الفئات المدرجة تحت هذا البند بالقيام بخطوات، دون انتظار تشكيل “الهيئة الوطنية”.
وتشمل الفئات موالين للنظام السوري، وكانوا انتقلوا من ضفة إلى أخرى، دون التعبير عن أي شيء.
ويتابع عبد الغني أن الخطوات المراد أن يتخذوها كشكل من أشكال المحاسبة، يجب أن تتضمن تقديم الاعتذار الخطي والفيديو المرئي الذي يحمل لغة تواضع.
ويجب عليهم أن يردوا الحقوق لأصحابها وأن يعوضوا المتضررين بالكثير من الأموال.
كما عليهم أن يتعهدوا بأن لا يستلموا مناصبا قيادية لاحقا، وألا يشاركوا بأي نشاطات قبل أن يقوموا بما سبق، الأمر الذي قد يزيد من حالة احتقان الضحايا، وفق الحقوقي السوري.
“جسم قضائي مترهل”
الخطوات المعقدة المذكورة سابقا التي تعترض طريق العدالة الطويل، لا تقتصر على ما سبق فحسب.
ويضاف إليه تحديات لاحت في أفق سوريا سابقا، ولاتزال على حالها حتى الآن، كما يقول المحامي السوري، محمد صبرا.
ويشرح صبرا أن “الجسم القضائي السوري في الوقت الحالي مرهق ومنهك ويحتاج الكثير من إعادة البناء سواء على صعيد تعزيزه بموارد بشرية أو من خلال إعادة بناء المنظومة القانونية”.
ومنذ حكم البعث، صدرت سلسلة قوانين وتشريعات قيدت بمجملها القضاء وحولته إلى مجرد أداة من أدوات السلطة.
ويؤكد المحامي السوري على ضرورة “البدء أولا بإعادة بناء الجسم القضائي، سواء من ناحية المنظومة القانونية وتعزيزه بالموارد البشرية”.
وعلاوة على ذلك، سيكون الجسم القضائي السوري في المرحلة المقبلة منشغلا إلى حد كبير بالقضايا المدنية، على غرار القضايا المتعلقة بالحقوق العينية ومعاملات الإرث وانتقال الحقوق المتعلقة بهذا الأمر.
ويضيف صبرا: “حتى نستطيع تحقيق العدالة الجنائية والبت بالانتهاكات التي ارتكبت مؤخرا لابد من إنشاء نوع من المحاكم المتخصصة بحيث تكون قادرة على تحقيق العدالة بكفاءة وسرعة لازمة”.
وزاد أن ما سبق “يتطلب الكثير من الدراسات الواقعية والكثير من الأموال التي يجب أن تخصص لهذا القسم من القضاء”.
قبل أم بعد المؤتمر الوطني؟
ورغم أن نظام الأسد كان في مقدمة مرتكبي الانتهاكات وجرائم الحرب في سوريا، إلا أن أطرافا أخرى أدرجت أفعالها ضمن هذا الإطار.
وبالتالي سيكون السؤال عما إذا كان مسار العدالة في البلاد سيقتصر على طرف دون آخر أم قد يشمل الجميع.
ويشدد المحامي السوري على أهمية الدور المناط بمؤتمر الحوار الوطني.
ويقول إن المؤتمر، الذي لم يتحدد موعده، بعد يجب أن “يرسم السياسات العامة باتجاه أي نوع من أنواع العدالة سيتم اختياره”.
كما سيتحمل المؤتمر الوطني مهمة تحديد الأدوات التي تحقق مسألة الكفاءة وتحقيق العدالة، إضافة إلى بحث القضايا المالية المترتبة للمضي بهذا المسار.
ويعتقد الباحث السوري الدسوقي أنه لا يمكن الانتظار لحين انعقاد مؤتمر الحوار الوطني لمناقشة العدالة الانتقالية، لارتباطها بموضوع ملح وهو استقرار الدولة والسلم الأهلي.
ولذلك يقول الدسوقي إنه “يتوجب البدء بإجراء حوار منفصل وسابق على مؤتمر الحوار الوطني بخصوص العدالة الانتقالية، ويكون بين ممثلي السلطة الجديدة وتشكيلات السوريين المعنيين بالعدالة الانتقالية”.
ومن شأن ما سبق أن يمنح شرعية لمسار العدالة، ويقي البلد مخاطر الانزلاق مجددا للعنف على نطاق واسع.
“تحديات ومخاطر”
ويشير الدسوقي إلى تحديات ومخاطر تواجه مسار العدالة، إذ ليس هنالك إمكانية متاحة لمحاسبة جميع مرتكبي الانتهاكات في عهد الأسد، وهو ما تؤكده تجارب الدول الأخرى.
كما أن الانتهاكات التي مورست ليست على ذات السوية والأثر والضرر.
فمن الانتهاكات ما قد يستوجب العزل السياسي، ومنها ما قد يتطلب الحبس وإنزال أشد العقوبات، ومنها ما يمكن العفو عنها، وهذه أمور يجب الاتفاق بشأنها.
أما المخاطر التي تواجه مسار العدالة فمتعددة، بينها تغليب الاعتبارات السياسية والمصلحية على اعتبارات العدالة، “كأن يتم التغاضي عن شخص لمكانته الاقتصادية أو علاقاته الإقليمية والدولية”.
ويضاف إليها مدى كفاءة وشرعية المؤسسات المناط بها تطبيق العدالة، لكيلا تحدث انتهاكات أو تغلب اعتبارات معينة تحرف مسار العدالة. والأهم غياب سردية للعدالة الانتقالية، بحسب الباحث السوري.
“مفهوم العدالة أساسي للانتقال إلى مرحلة المجتمع المستقر”، يقول المحامي السوري محمد صبرا.
ويضيف أنه “لا يمكن تحقيق السلم الأهلي دون إعادة الاعتبار للضحايا ودون إنصافهم”.
يمنع مفهوم العدالة تكرار حدوث الانتهاكات والجرائم التي حدثت خلال السنوات الـ13 الماضية.
ويؤكد صبرا: “لا يمكن إعادة إنتاج الذات السورية على أسس صحيحة دون تحقيقها”.
وبمعنى آخر “يثبت تحقيق العدالة انتقالنا من دولة العنف والتوحش إلى دولة القانون ودولة الاحتكام للمؤسسات القضائية، باعتبارها الحكم لحل الصراعات داخل المجتمع بشكل عام”، كما يضيف صبرا.
ضياء عودة
الحرة
——————————————
رسالة إلى القائد أحمد الشرع/ أحمد علي الحريري
14/1/2025
السيد أحمد الشرع:
أولًا وقبل كل شيء، أنا مواطن سوري أشترك معكم في هويتي السورية، وأتنفس معكم من ذات الهواء، وأشرب مثلكم من ذات الماء، وتغمرني بحبها ذات السماء التي تظلّكم.
بلغت من العمر سنين بعدد الكواكب التي رآها يوسف عليه السلام، مضافًا إليها نصف ما في سنبلة واحدة من السنابل السبع، ولست بوارد الطمع أو المنافسة على منصب أو مكان، ولكن ليس لدي قيود لأن أقدم لسوريتنا ما أستطيع من خبرة متواضعة، يمكن أن تساهم مع ما يقدمه الآخرون في بناء وطن للقادم من أجيالنا، يعيشون فيه بفخر واعتزاز؛ هاماتهم تطاول السماء.
لا بد من أن تُفتح القلوب على القلوب، وتتشابك الأيادي لتكون السد المنيع الذي يصد عنكم وعن سوريتنا الحبيبة كل سهم غادر، وكل مكيدة يتم نسجها في ظلام دنيء
ويتذكرون أن لهم أجدادًا فكروا بهم قبل أن يروهم، وتركوا لهم وطنًا بنوه بدمٍ وعرق وجهد صادق، كما فعل أجدادنا الذين قضوا ليتركوا لنا هذا الوطن الجميل، الذي سرقه منّا بعض المجرمين شذاذ الآفاق لبرهة من الزمن، فحرمونا من قدرتنا على المحافظة عليه سالمًا شامخًا، حتى أتيت أنت بكل عنفوانك لتعيد لنا قدرتنا على الفعل، ولتعيد لسوريا كرامتها وكبرياءها الذي سلبه القتلة المجرمون لما يزيد عن نصف قرن.
فشكرًا لكم أيها النبيل، وشكرًا لرفاقك الذين حملوا أيضًا أكفانهم على أكفهم مثلك تمامًا لتحقيق الغرض النبيل، و”شكرًا” كبيرة قد لا تكفي أن تعطيكم حقكم لما فعلتموه، ولكنها صادقة نابعة من قلوب معلقة بهذه الأرض، وترتوي من مائها، ولا تريد سوى أن يغمرها ترابها.
سأتوقف عن الكلام الممنطق، وسأكون مباشرًا جدًا، وربما حادًا في بعض كلماتي، ولكنها ستكون والله كلمات من قلب لا يحمل لكم إلا الحب والاحترام.
أيها القائد:
نرقب كل كلمة تقولونها، ونزداد فرحًا بأن القادم من الأيام سيكون جميلًا وكله فرح، ولكن تصدر بعض الأفعال فيبدأ الإحساس الجميل بالتآكل، ونخاف أن ينتهي الحلم الجميل، وأن تتم سرقة فرحنا وفرحكم.
لا بد من أن تُفتح القلوب على القلوب، وتتشابك الأيادي لتكون السد المنيع الذي يصد عنكم وعن سوريتنا الحبيبة كل سهم غادر، وكل مكيدة يتم نسجها في ظلام دنيء. الأخطاء التي يتم ارتكابها تشكل ألمًا ونزيفًا نخاف أن يؤدي إلى توقف القلب، وألا يكون هناك علاج إلا الموت لحلمنا جميعًا، وأن نضيع ويضيع الوطن، وبالتأكيد لا نريد أن يحصل هذا أبدًا .
التحديات أمامكم وأمامنا جميعًا كبيرة وخطيرة، والذئاب تتربص بنا جميعًا على حدود الوطن، وحتى من البعيد من وراء البحار، ومن خلف المحيطات
السيد الفاضل:
دعنا نشعر أننا شركاء في الوطن، وأن لنا فيه بقدر ما لكم فيه، دعونا نعرض لكم زمرة دمنا التي لا تقل طهارة عن زمرة دمائكم، ستجدون أنها والله من نفس الزمرة التي تسري في عروقكم، فهي شربت من ذات الماء، وأكلت من ذات الخيرات التي أكلتم منها، وتؤمن بذات الخالق الذي تؤمنون بوحدانيّته.
وأجدني مضطرًا لأخبركم بأن عيوننا تقرحت، كما الملايين على امتداد وطننا الغالي، للدماء التي سفكها نظام العهر والخيانة الهارب، والقلوب نزفت وتنزف دمًا لما تكشف من جرائم تندى لها جباه الكرماء والشرفاء، وهو لا كان هذا ولا ذاك؛ فقد ولد بلا شرف، وعاش بلا شرف ولا كرامة ملعونًا مذمومًا، تلاحقه جرائمه وعيون الضحايا إلى يوم الدين .
أيها الكريم:
بكل الحب والصراحة، “ما هكذا تورد الإبل”!. التحديات أمامكم وأمامنا جميعًا كبيرة وخطيرة، والذئاب تتربص بنا جميعًا على حدود الوطن، وحتى من البعيد من وراء البحار، ومن خلف المحيطات.
لا نريد أن نقول لكم كما قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام: اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا ههنا قاعدون، بل كما قال المقداد بن عمرو يوم بدر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: “اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا معكما مقاتلون”.
أرجو أن يكون في قلبك وعقلك متسع لتقبل أن نجلس كأسرة واحدة، ونفتح قلوبنا لما يعتريها من هواجس وهموم، ونتقاسم الحقوق والواجبات، وحتى ضريبة الدم إن وجبت (وهي قادمة أراها وترونها كعين الشمس)، فلتكن علينا جميعًا عندما نتفق أن الوطن لنا جميعًا، ولنا فيه وعلينا كما لكم وما عليكم، وتفضلوا بقبول صادق محبتي واحترامي.
ملحوظة: عندما تجلس الأسرة لتناقش همومها، فرب الأسرة يجلس في مكان الصدارة، ليدير النقاش بالحب والحنان على أسرته، ويمنع المتهور من الأسرة من أذية باقي أفراد الأسرة.
الجزيرة
———————–
آليات البحث عن المفقودين وتحقيق العدالة في سوريا الجديدة/ ربى خدام الجامع
2025.01.14
غلبت الدهشة المحامية الحقوقية نورا غازي عندما بلغها نبأ هروب بشار الأسد من سوريا في مطلع شهر كانون الأول الماضي، لأن النظام هو من قرر مصير أسرتها منذ نعومة أظفارها، إذ عندما كانت في الخامسة من عمرها، حبس النظام أباها بسبب نشاطه في المجال العمالي، أما زوجها فقد اعتقل خلال السنوات الأولى من الحرب السورية، ثم بلغها بعد فترة طويلة نبأ إعدام نظام الأسد له في السجن، والآن، حان دور الأسد ليرحل.
مع سيطرة مقاتلي المعارضة على دمشق خلال الشهر الماضي، فتحوا أبواب السجون الموصدة، وسمحوا لآلاف السوريين بالخروج والتحرر منها، فسعد من تحرروا من سجن صيدنايا المعروف بصيته السيئ واسمه الشنيع: (المسلخ البشري)، أو من السجون الأخرى الموجودة في حمص مثل سجن حمص المركزي ونعموا بنور الشمس في أثناء التقاط عدسات الكاميرات صوراً لهم تعبر عن بهجتهم، وقد جرى تداول تلك الصور ومشاركتها بشكل واسع عبر الإنترنت. غير أن المعلومات المضللة انتشرت هي أيضاً بشكل واسع عبر الإنترنت، ما غطى على الأخبار السارة، ولهذا لم يتسن لنورا سوى وقت ضيق لتحتفل بسقوط النظام.
“لا سلام بلا محاسبة”
تمثل المنظمة التي أسستها نورا هي وزوجها الراحل باسل خرطبيل الصفدي 3500 أسرة سورية تعرض أولادها وأحباؤها للاعتقال التعسفي على يد نظام الأسد، ويقدر عدد المفقودين في السجون السورية بنحو 150 ألفاً وذلك خلال فترة الحرب، وبما أن أغلب أفراد عائلات موكليها مايزالون في عداد المفقودين، لذا أمضت نورا هي وزملاؤها الشهر الماضي بلا نوم في أغلب الأحيان وهم يبحثون عن المفقودين ويسعون لتأمين الرعاية الطبية لمن خرجوا من السجن حديثاً.
وفي الوقت الذي عملوا على تحديد مكان الأحياء من المفقودين، عانت منظمتها، نوفوتوزون، الأمرّين وهي تحاول حفظ الوثائق التي أفرج عنها مؤخراً، والتي كانت مخبأة في أماكن سرية قبل هذا، بما أن نظام الأسد كان يستعين بهذه الوثائق لتسجيل انتهاكاته.
وفي الوقت الذي تستعد البلد لإعادة تشكيل حكومتها الجديدة بعد مرور أكثر من خمسين عام على الحكم الديكتاتوري، يسعى السوريون جاهدين في العمل على عملية بحث معقدة سعياً منهم لتحقيق المحاسبة على جرائم الحرب التي ارتكبها نظام الأسد، إذ خلال حكمه، قام النظام بسجن الآلاف من السوريين وتعذيبهم وإعدامهم، أما جيشه فقد قتل الآلاف من الناس خلال فترة الحرب، كما استهدف المدنيين والبنية التحتية المدنية، وعلى رأسها المشافي، وذلك بالقنابل والسلاح الكيماوي. واتهمت فصائل ثورية عدة بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان، وفي الوقت الذي أنهى إسقاط الأسد القتال، فإن الجراح التي خلفتها الحرب ماتزال تهدد السلام الذي صار السوريون يعيشونه منذ فترة قريبة.
تعلق نورا على ذلك بقولها: “خلال عملية إعادة بناء سوريا، لن يتحقق السلام من دون العدالة والمحاسبة”.
كنوز من الوثائق التي تدين النظام
أعلنت هيئة تحرير الشام التي قادت الهجوم العسكري الذي أطاح بالأسد بأنها ستبقى تحكم البلد من خلال حكومة انتقالية حتى شهر آذار المقبل، وألمحت إلى جديتها بشأن جرائم الحرب التي ارتكبت في الماضي، كما أعلنت عن تشكيل هيئة قضائية لحقوق الإنسان لتسهم بدورها في وضع دستور جديد، وصرحت بأن لديها قائمة تضم أسماء كبار الضباط المتورطين في عمليات التعذيب، وتعهدت بمكافأة لمن يدلي بمعلومات من شأنها أن تساعد في القبض على هؤلاء.
ثمة تخوف من الطريقة التي سيتعامل بها حكام سوريا الجدد تجاه مختلف الطوائف في سوريا، وهذا ما دفع بعض المنظمات الحقوقية والمعارضين للتذكير بانتهاكات حقوقية ارتكبتها الهيئة ناهيك عن القمع العنيف الذي مارسته عندما كانت تحكم محافظة إدلب.
فيما قامت منظمات حقوقية أخرى بمنح ثقتها لهيئة تحرير الشام وذلك بسبب إسهامها في الجهود الساعية لحفظ الأدلة التي تثبت وقوع مجازر جماعية في سوريا، إذ إلى جانب السجون، رحل النظام السوري أيضاً عن مكاتب المخابرات عند هروبه من البلد، وهذه المكاتب تحتوي على كنوز من الوثائق والملفات التي وردت فيها تفاصيل العمليات التي نفذتها قوات الجيش والشرطة التابعة للنظام البائد، وهذا ما جعل منظمات المجتمع المدني السوري للتهافت على دخول تلك المقار لجمع أكبر قدر من الوثائق التي يمكن الاستعانة بها كأساس لرفع دعاوى مستقبلاً فيما يتصل بجرائم الحرب التي ارتكبت في سوريا أيام الأسد.
تمخض هذا النهج عن نتائج في الماضي، إذ في بداية الحرب السورية، ترك النظام مقاره الاستخبارية في المناطق التي سيطر عليها الثوار، فتمكن المركز السوري للعدالة والمساءلة من جمع 500 ألف صفحة من الوثائق وجدت في تلك المكاتب، فحفظها وحللها واستعان بها لرفع دعاوى ضد نظام الأسد في أوروبا والولايات المتحدة وأمام أنظمة قضائية أخرى، وذلك بحسب ما ذكره المدير القانوني للمنظمة روجر لو فيليبس.
وخلال الأسابيع القليلة الماضية، أرسلت المنظمة فرقاً يترأسها سوريون حتى تدخل إلى الأبنية التي فتحت حديثاً وتصور أكبر عدد ممكن من الوثائق التي تعتبرها المنظمة بالغة الأهمية بحسب ما ذكره فيليبس. وبعض تلك المقار يخضع لحراسة مقاتلي الهيئة الذين سمحوا لمتطوعين يعملون في مجال حقوق الإنسان وفي الصحافة بدخولها خلال فترة من الفترات، ثم صاروا يمنعونهم من الدخول، في حين لم تخضع مقار أخرى لأي حراسة، وهذا ما يجعل الأدلة الموجودة فيها عرضة للتلف.
ضرورة حماية الأدلة من التلف
يعلق فيليبس على ذلك بقوله: “عدنا إلى بعض الأماكن التي دخلنا إليها بعد يوم من دخولنا للمرة الأولى فاكتشفنا بأن المكان قد أحرق، إذ يحاول بعض الأفراد تدمير الوثائق ولعل هؤلاء من فلول نظام الأسد الذين يقلقهم وجود أدلة في تلك المقار”.
شددت نورا وبكل صراحة على ضرورة حفظ الوثائق الحكومية وانتقدت الطريقة الخاطئة في التعامل مع الوثائق التي عثر عليها في السجون، لأن ذلك تسبب في عرقلة الجهود الساعية لمعرفة أماكن المفقودين، ونشرت خلال الشهر الماضي مقطع فيديو من سجن صيدنايا يظهر أشخاصاً وهم يدوسون على أكوام من الوثائق التي تناثرت فوق الأرضية، وطالبت السلطات والمنظمات الدولية بالتدخل. ومنذ ذلك الحين اتفقت منظمتها مع هيئة تحرير الشام وصارت تتعاون مع الحكومة المؤقتة على حفظ الوثائق التي بقيت إلى جانب مشاركتها مع المنظمات والهيئات الدولية مثل اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
وتعليقاً على ذلك، قالت نورا: “أهم خطوة الآن تتمثل بحماية الأدلة والوثائق والقبور الجماعية، ثم دراسة كل شيء، لأن هذه العملية يجب أن تكون طويلة الأمد حتى يتم تحقيق المحاسبة وإرساء العدالة”.
“قطرة في بحر”
كان السعي لتحقيق العدالة من المستحيلات في سوريا أيام حكم نظام الأسد، إذ أمام هيئة الأمم المتحدة، أحبطت روسيا حليفة الأسد محاولات عديدة لإحالة جرائم الحرب المرتكبة في سوريا إلى لاهاي من خلال حق النقض الذي تتمتع به روسيا في مجلس الأمن، ولذلك التفت المجتمع المدني السوري نحو الولاية القضائية العالمية لملاحقة مجرمي الحرب في محاكم أوروبا والمملكة المتحدة، كما أن الولاية القضائية العالمية الأميركية تبيح للحكومات أو المنظمات أو الأفراد رفع قضايا على أشخاص بسبب ارتكابهم لجرائم حرب وذلك ضمن النظام القضائي لأي دولة، حتى لو كانت الجرائم المرتكبة من اختصاص سلطة قضائية أخرى.
يعتبر النظام السوري والقوات الموالية له مسؤولة عن ارتكاب معظم الجرائم في سوريا، ولكن وبسبب عدم التمكن من الوصول إلى الأدلة والشهود، فإن معظم قضايا جرائم الحرب السورية التي رفعت في أوروبا وأميركا استهدفت جماعة تنظيم الدولة الإسلامية، وقد شارك المركز السوري للعدالة والمساءلة في نحو 100 قضية تتصل بالجرائم التي ارتكبت خلال الحرب السورية، وتابع 350 قضية تكشفت خيوطها في مختلف بقاع العالم، ولذلك يصفها فيليبس بأنها مجرد قطرة في بحر كبير.
حققت هذه الاستراتيجية بعض النجاح، إذ في عام 2022، حكم قاض في ألمانيا بالمؤبد على أنور رسلان، وهو ضابط مخابرات سوري سابق، وذلك بسبب إشرافه على عمليات التعذيب التي تعرض لها ما لا يقل عن أربعة آلاف شخص، وذلك بعد أن فر إلى أوروبا وطلب اللجوء فيها قبل أن يلقى القبض عليه في عام 2019.
وخلال شهر أيار الماضي، وبعد محاكمة غيابية، حكمت محكمة باريس على ثلاثة من كبار الضباط السوريين بالمؤبد بسبب ضلوعهم في تعذيب وقتل سوري يحمل الجنسية الفرنسية برفقة ابنه، واثنان منهما، وهما جميل حسن وعبد السلام محمود مطلوبان من السلطات الأميركية وذلك وفقاً لادعاء أعلنت عنه وزارة العدل الأميركية في كانون الأول الماضي والذي اتهم فيه هذان الشخصان بإدارة سجن سيئ الصيت بسبب التعذيب الممارس فيه، وذلك في مطار مزة العسكري بدمشق.
وفي فرنسا أيضاً، أصدرت النيابة العامة أمر اعتقال في عام 2023 بحق الأسد نفسه، والذي حصل اليوم على حق اللجوء في روسيا، وركزت هذه القضية على الهجمات بالأسلحة الكيماوية التي نفذت بموجب أوامر أصدرها الأسد على مدن سورية في الغوطة ومدينة دوما وذلك في آب من عام 2013، والتي أسفرت عن مقتل أكثر من ألف شخص بحسب التقديرات، فيما تعرض مئات آخرون لإصابات، أدت إلى وفاة بعضهم فجأة في أثناء نومهم.
هزت تلك القضايا التي رفعت في أوروبا الشارع السوري من حيث مجال اختصاصها وما ركزت عليه، وأتاحت للناجين والشهود فرصة المشاركة في الدعاوى الجنائية، فتقدم كثيرون بشهادات مروعة خلال المحاكمات، وفي بعض الأحيان واجهوا الأشخاص الذين عذبوهم. إلا أن هذه القضايا ليست سوى تذكرة بمدى غياب فكرة المحاسبة على الانتهاكات عن النظام القضائي السوري طوال عقود من حكم آل الأسد.
تعقيباً على ذلك، يقول هادي الخطيب وهو أحد مؤسسي الأرشيف السوري الذي يحتفظ بقاعدة بيانات تعتبر مصدراً مفتوحاً يشتمل على ثلاثة ملايين فيديو يوثق جرائم الحرب في سوريا: “حالياً تلوح فرصة كبرى في سوريا، غير أن المحاسبة قد تشير إلى شيء مختلف تمام الاختلاف، إذ إنها لا تقتصر على ما يمكننا فعله في أوروبا أو في الولايات المتحدة”، فقد أمضى هادي هو ومنظمته السنوات العشر الماضية في جمع الصور والتحقق منها بموجب عملية فحص وتدقيق مضنية لكنها تساعد النيابة خارج سوريا على اعتماد تلك الصور كأساس لدعاوى جنائية، كان من بينها تلك الدعاوى النوعية التي رفعت في فرنسا وأمر الاعتقال الذي صدر بحق الأسد. ومنذ شهر كانون الأول الماضي، عندما بدأ اللاجئون السوريون بالعودة إلى وطنهم، بدأ هادي هو ومنظمته بالعمل على استراتيجية جديدة تتمحور حول كيفية جمع أدلة جديدة مع استعداد أعداد أكبر من الناس للتقدم بشكاوي عن الانتهاكات.
“العدالة الانتقالية أولوية”
يخبرنا هادي الذي انتقل للعيش في ألمانيا منذ عام 2014 بأنه: “صار من الممكن الاستماع لشهادات مزيد من الشهود، كما صار بوسع مزيد من أهالي الضحايا والناجين مشاركتنا، وصار بوسعنا رفع دعاوى قضائية ضد أنواع أخرى من الجرائم التي ارتكبت”.
يخبرنا حسام النحاس وهو طبيب وباحث سوري وعضو في منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان بأنه يتمنى من النظام القضائي الجديد في سوريا أن يجعل من العدالة الانتقالية أولوية، وذلك عبر الاستعانة بالأدلة التي أمضى هو وغيره سنوات في جمعها، وكذلك بالاعتماد على الأدلة الجديدة التي ظهرت اليوم.
وهذا الطبيب يعتبر ناجياً من انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا، إذ خلال دراسته في كلية الطب، انضم إلى مجموعة من المتطوعين في مدينة حلب وهذه المجموعة عملت على معالجة وتطبيب المتظاهرين الذين خرجوا ضد الأسد وأصيبوا بعيار ناري أطلقه عليهم جيش النظام البائد خلال المظاهرات. وفي عام 2012، اعتقل النظام السابق ثلاثة من زملائه، وبعد يومين، عثر عليهما وقد فارقا الحياة وتركا على ناصية الطريق، بعد أن تعرضت جثة كل منهما لطلقات نارية ثم أحرقت. وبعد مرور بضعة أسابيع على ذلك، اعتقل حسام هو أيضاً وتعرض للتعذيب على يد ضباط في جيش النظام البائد، وهؤلاء الضباط استجوبوه وسألوه عمن يكون وعن أسماء غيره من الأطباء المشاركين في تلك المجموعة، كما سألوه عن الطريقة التي يحصل من خلالها على اللوازم والمعدات الطبية، ثم أفرج عنه بعد 16 يوم من التعذيب المتواصل.
وطوال فترة الحرب التي تلت تلك المرحلة، أخذ حسام يتنقل بين تركيا وسوريا، ليجري أبحاثاً حول الهجمات التي تعرضت لها المشافي والتي طالت العاملين في المجال الطبي، حيث وثق 608 هجمات استهدفت مرافق للرعاية الطبية وأسفرت عن مقتل 949 عاملاً في مجال الرعاية، ومعظم تلك الهجمات نفذها النظام السوري البائد أو القوات الموالية له، أو العساكر الروس المتحالفين معه. وكشفت الأبحاث والدراسات التي أجراها الدكتور حسام بأن العاملين في المجال الطبي الذين اعتقلهم النظام البائد بسبب تقديمهم للرعاية الطبية للجرحى أكثر عرضة للقتل بنسبة 400% مقارنة بغيرهم من العاملين في هذا المجال ممن اعتقلهم النظام لأسباب سياسية، وهذا ما دفعه إلى القول: “إذ ذلك يظهر بأن الأمر لم يكن عشوائياً، بل جزء من أسوأ استراتيجية في الكون، والتي تتمثل بالاستهداف المتعمد لمقدمي الرعاية الصحية”.
يرى كل من حسام وهادي بأن عملية تحقيق العدالة في سوريا تحتاج لدعم من الهيئات والمنظمات الدولية مثل هيئة الأمم المتحدة، ولكنهما أكدا على أهمية تولي السوريين لزمام هذه العملية، إذ يقول حسام: “إننا نعرف حجم الانتهاكات التي ارتكبت على أراضينا والألم الذي لا يوصف الذي سببته، والمعاناة التي لحقت بالشعب السوري والتي يعجز اللسان عن وصفها”.
“لا بد من إرساء العدالة بأيد سورية”
نظراً للطبيعة المعقدة للانتهاكات التي ارتكبت في سوريا، يعتقد حسام بأنه لايجوز لعملية المحاسبة أن تركز على النظام البائد فحسب، بل أيضاً إلى بقية أطراف النزاع، فقد اتهمت جماعات وفصائل أخرى بانتهاك القانون الدولي وعلى رأسها تنظيم الدولة الإسلامية والجيش الوطني السوري وقوات سوريا الديمقراطية التي تدير حالياً السجون الموجودة في شمال شرقي سوريا والتي يحتجز فيها مقاتلو تنظيم الدولة مع زوجاتهم وأطفالهم إلى أجل غير مسمى من دون أن يخضعوا لأي محاكمة، وهذا ما أثار استنكار المنظمات الحقوقية وعلى رأسها منظمة العفو الدولية.
يخبرنا هادي بأن أغلب السوريين أصيبوا بإحباط شديد بسبب خذلان المنظمات الدولية والدول الأخرى لهم بعد أن استغلت الحرب السورية لتحقيق مآربها السياسية، في الوقت الذي واصل النظام اعتقاله لآلاف المدنيين وقتلهم، ولذلك يقول هادي: “لهذا السبب أعتقد بأنه إن تمت عملية إرساء العدالة بأيد سورية وبطريقة سورية فإنها ستكون قائمة على المشاركة، وأرى أن ذلك من شأنه أن ينشر السلام على نطاق أوسع في البلد، كما سيؤدي إلى خلق مصالحة أكبر بين مختلف الجهات الفاعلة في سوريا، وإلا ستتحول هذه العملية إلى أداة سياسية تستخدم بين الأطراف الفاعلة المختلفة مما قد يزيد من حالة انعدام الاستقرار في البلد، أي أن العملية برمتها تتصل بنشر السلام بشكل دائم، والتأكد من إقرار الناس بما حدث والتحدث عن ذلك فيما بينهم، وحتى إن لم يحاكم أي أحد، سيتحول ذلك إلى سجل لما جرى مع ضمان عدم مشاركة المتورطين في الحكومة السورية الجديدة مرة أخرى”.
وبمجرد أن تضع الحكومة الجديدة دستوراً للبلد وتقيم نظامها القضائي، ستبقى تساؤلات كثيرة تدور حول طريقة تحقيق العدالة، إذ قد تنظر الدولة السورية في فكرة تحولها إلى دولة عضو في نظام روما الأساسي، كما حدث مع حليفتها أوكرانيا، وهذا بدوره قد يفتح أمامها سبلاً للمحاكمة من خلال المحكمة الجنائية الدولية، إذ بدلاً من التوجه إلى مجلس الأمن حيث ينتظرها الفيتو الروسي، بوسع الدولة السورية أن تحيل القضية مباشرة إلى المحكمة الدولية لجرائم الحرب في لاهاي.
كما لم يتضح حتى الآن كيف سيكون شكل الملاحقة القضائية ضمن المنظومة القضائية السورية التي تتشكل حديثاً.
سوابق تاريخية
شارك فيليبس مع المركز السوري للعدالة والمساءلة بجهود كثيرة سابقة في مجال المحاسبة بعد سقوط أنظمة ديكتاتورية أخرى، إذ تعاون مع المحكمة الخاصة بكمبوديا التي أسست في عام 1977، والتي سعت لمحاسبة عناصر من الخمير الحمر بسبب ضلوعهم بارتكاب جرائم.
وبالحديث عن النظام القضائي السوري الذي سيؤسس في نهاية الأمر، يتساءل فيليبس: “ما نوع المحاكمات التي يتوقعون إجراءها؟ وهل ثمة مجال للمجتمع الدولي حتى يدعمهم أو للمجتمع المدني في المهجر الذي بقي يجمع الوثائق على مدار الاثنتي عشرة سنة الماضية حتى يدعمهم في ذلك عبر تزويدهم بالأدلة في حال تأسيس محكمة لمقاضاة المجرمين على جرائم الحرب التي ارتكبوها داخل سوريا؟”
ومن المحاكم المتخصصة بجرائم الحرب والتي أسست في بعض الدول عقب الحرب التي عصفت بها في التاريخ الحديث نذكر المحكمة الجنائية الدولية لرواندا والتي تشكلت عقب مجزرة رواندا، والمحكمة الإقليمية في سيراليون، والتي أسست في عام 2002 عقب الحرب الأهلية التي قامت في سيراليون، والمحكمة الخاصة بسيراليون والتي ضمت قضاة من سيراليون وقضاة من دول إفريقية أخرى وشخصيات من كندا والمملكة المتحدة والتي تمكنت من إدانة الرئيس الليبيري السابق تشارلز تايلور، لتكون تلك الإدانة الأولى من نوعها بحق رئيس دولة في إفريقيا.
“العدالة بعيون الرجل الأبيض”
يعلق على ذلك المحامي الأميركي ديفيد كرين الذي أسهم في تأسيس محكمة سيراليون وترأس هيئة الادعاء فيها بإنه يمكن تشكيل محكمة مشابهة لمحكمة سيراليون في سوريا، ولقد شارك هذا الرجل في كتابة تقرير قيصر الذي كان له تأثير كبير على هيئة الأمم المتحدة في عام 2014، كونه سلط الضوء على الصور التي هربها مصور سوري سابق عمل لدى المخابرات وكان عمله يقوم على التقاط صور لجثث المعتقلين الذين عذبوا حتى الموت، ويخبرنا كرين بأنه مستعد لتقديم المساعدة في مجال تأسيس هذا النوع من المحاكم في سوريا، ويرجح لذلك أن يبدأ بقرار من الجمعية العمومية لدى الأمم المتحدة، لكنه نبه إلى وجوب تركيز هذه العملية على شكل العدالة التي يطمح الشعب السوري والدول العربية إلى تحقيقها.
ويعلق كرين على ذلك بقوله: “بصراحة، يميل القانون الجنائي الدولي إلى تمثيل العدالة بعيون الرجل الأبيض، أي أنه يتمحور حول العدالة من منظور أوروبي بحت”، فلقد أسس هذا الرجل المشروع السوري للمحاسبة في كلية الحقوق بجامعة سيراكيوز بنيويورك، ويتابع قائلاً: “إن القانون الجنائي الدولي ينظر إلى القانون من هذا المنظور، ولا ضير في ذلك، ولذلك ينبغي علينا أن نراعي الحساسية بشكل كبير”، وذكر بأنه يجب لأي عملية تقوم في هذا المضمار أن تعترف بالجراح التي خلفها الاستعمار الغربي في العالم العربي.
“أهالي الضحايا هم الأساس”
تخبرنا المحامية نورا غازي بأن لديها انفتاح كبير تجاه التعاون مع الخبراء من مختلف أطياف المجتمع الدولي وذلك من أجل الإسهام في تحريك ملف العدالة في سوريا والعمل عليه، لكنها أكدت أيضاً بأنه لابد لهذه العملية من أن تركز على الناجين من جرائم الحرب، وهذا ما دفعها إلى القول: “أفضّل أن يترأس هذه العملية سوريون أيضاً، وألا تقتصر على منظمات المجتمع المدني السورية، بل أن يشارك فيها أهالي هؤلاء الضحايا لأنهم العنصر الأهم، لأن عليهم أن يقرروا ما يريدون، أما نحن فبوصفنا خبراء ومدافعين عن حقوق الإنسان ومنظمات مجتمع مدني، فيجب أن يقتصر دورنا على تلبية احتياجاتهم، كما ينبغي علينا أن نسعى لتحقيق مطالبهم”.
مع مواصلة البحث عن مسار العدالة، مايزال السوريون يبحثون عن المفقودين بين الموتى، وماتزال نورا غازي تتمنى أن تتمكن من الوصول إلى رفات زوجها الذي فارق الحياة في سجون الأسد.
إذ في الداخل السوري، بدأت المقابر الجماعية تتكشف في مختلف أنحاء البلد، كما فتحت المشارح التي كان النظام يديرها، ما دفع أفراداً ومنظمات من المجتمع المدني السوري إلى المسارعة في استخراج تلك الجثث والبحث بين أكياس رفات الموتى على أمل التعرف إلى المفقودين وإبلاغ أهلهم بما حل بهم، واليوم تحذر نورا غازي ومنظمات المجتمع المدني من عمليات البحث السريعة لما قد تخلفه من أضرار على الأدلة التي قد تتلف من جراء تلك العملية، ولهذا تطالب الشعب السوري في الداخل بالحفاظ على تلك المواقع لحين توفر الفحص الجنائي وعمليات الحفر المتخصصة.
طوال السنين الماضية، تمكنت نورا من التأقلم مع خسارتها لزوجها باسل الصفدي، إذ قبل اعتقاله، كانا مخطوبين، ثم اعتقل قبل أسابيع معدودة من موعد زفافهما، وخلال زيارتين له في السجن، عقد باسل ونورا قرانهما، وذلك قبل عامين من إعدامه.
وبما أن نورا تعيش اليوم في فرنسا، فقد ذكرت بأنها مخطوبة اليوم لشخص آخر، بيد أن أحداث الشهر الماضي أعادتها لمرحلة الصدمة من جديد، وخلال الأسبوع الماضي، ذكرت بأنها صارت تعاني من صعوبة في النوم خلال الأيام القليلة الماضية، وحتى حينما تنام تنتابها الكوابيس، وبعد أن رأت كثيراً من المعتقلين السابقين الذين عادوا إلى أهلهم بعد أن ظنوا أنهم ماتوا، عاد إليها الأمل بأن يكون زوجها السابق حياً.
في الوقت الذي تواصل نورا مساعدة الأهالي في الوصول إلى أقاربهم المفقودين، مايزال كثيرون يحاولون التأكد من وفاة أقربائهم، أو استعادة جثامينهم تماماً كما تسعى نورا، إذ إن دفن المتوفين بالنسبة لأهالي المفقودين يعتبر الخطوة الأولى على طريق العدالة، وهذا ما جعل نورا تقول: “سأحارب حتى النهاية حتى أصل لرفات باسل ولرفات جميع المفقودين”.
المصدر: The Intercept
تلفزيون سوريا
——————————
التجربة التحرّرية للسوريين وضرورة البناء عليها/ حسن النيفي
2025.01.14
ما من شك بأن السقوط المباغت لنظام الأسد نتيجة لعملية (ردع العدوان 27 تشرين الثاني – 8 كانون الأول)، قد باغت السوريين بسيل من التساؤلات التي أعقبتها مواقف متباينة ما تزال تتراوح بين الاستغراق في نشوة الظفر وبين التوجس ممّا يجري والريبة ممّا ستؤول إليه الأمور.
إلّا أن هذه الحالة الغائمة ربما تشمل شريحة من السوريين، بالتأكيد ليست هي الأكثرية، ولكنها الشريحة التي تدّعي التماهي الكامل مع الشأن العام كما تنسب إلى نفسها مسؤولية التفكير بل ربما الوصاية على عملية التغيير الوطني، ونعني بهذه الشريحة مجمل الناشطين السياسيين والمثقفين إضافة إلى مجمل الأطر السياسية من أحزاب وتيارات، أضف إلى ذلك الجهات التي تنضوي تحت مسمى ( منظمات المجتمع المدني).
بين رغيف الخبز وشكل نظام الحكم:
وفي مقابل هذه الشريحة ثمة جمهور واسع من السوريين ربما لا تؤرقه تلك الأسئلة والهواجس التي تؤرق فئة السياسيين والناشطين والمثقفين، بل هو لا يزال متفاعلاً بجميع مدركاته مع الحدث السوري العظيم لكن بروح يعتريها كثير من الانتعاش والأمل، مع طغيان للحظة الفرح على الرغم من البؤس الشديد والمزمن الذي أطبق على حياة السوريين طوال سنوات خلت.
فسكّان المخيمات الذين يمكن أن يكونوا هم الأكثر معاناة ومكابدة، والذين كانوا -ربما- قبل انطلاق معركة ( ردع العدوان) بأيام قليلة، منهمكين بالتفكير بكيفية الحصول على الحدّ الأدنى من وسائل التدفئة، بل ربما انشغل اكثرهم بمدى قدرة الخيمة التي يستظل بها على الصمود أمام شتاء آخر بدأ يطرق الأبواب، فلا شك أن هؤلاء يخالجهم شعور بأنهم هم المعنيون بهذا النصر.
يمكن ملاحظة ذلك من خلال مبادرة كثيرين منهم لزيارة بيوتهم بعد تحرير مدنهم وبلداتهم بساعات فقط، رغم حالة الدمار التي خلّفتها قوات الأسد البائد، ذلك أن العودة إلى الديار بالتزامن مع سقوط الأسد إنما تعني -للنازحين- تجسيداً حسّياً ومعنوياً لنصر عظيم هم جديرون به، وربما ينسحب الأمر ذاته على فئات غفيرة من المواطنين السوريين ممّن يعيشون داخل المدن والمناطق التي كانت تسيطر عليها قوات الأسد.
ففضلاً عن المعاناة الكبيرة التي واجهتها هذه الفئات من الناحية المعيشية، إلى درجة بات فيها الحصول على ربطة الخبز همّاً وجودياً، فإن ثمة حالةً فظيعة من الإذلال كانت تمارسها الجهات الأمنية والميليشيات الطائفية الموالية للأسد، والتي جعلت من حياة المواطنين ديمومة نمطية من الرعب والإحساس الشديد بالقهر، ولعل المرء لا يستغرب إن وجد أحوال هؤلاء بسقوط نظام الأسد كحال من استطاع بعد نضال مرير أن يزيح عن صدره صخرةً كانت كالكابوس الخانق، وبدأ يتنسّم شميم الحرية التي غابت عنه طوال عقود.
ولا يمكن للمرء أن يتجاهل من هم أكثر الناس غبطةً بهذا الحدث الجلل، ونعني المعتقلين (من بقي حياً منهم) وقد وجدوا أنفسهم أحراراً خارج أسوار السجن، بعد أن عجزت كل حكومات العالم والمنظمات الإنسانية والحقوقية عن إجبار نظام الأسد على إخلاء سبيلهم والإفصاح عن مصير المغيبين والمفقودين.
ما هو مؤكّد أن هذه الفئات المجتمعية من السوريين لا تشاطر الفئة الأولى (النخبوية) في التفكير والهواجس والشواغل الأخرى، بل ربما لا ينتظر الجمهور العام من نخبه السياسية والثقافية الكثير، ليس لأنهم على نقيض منهم من حيث التعطّش إلى الحرية والعيش الكريم، بل لأن نخب السوريين لم تدّخر بحوزتها الرصيد الكبير الذي من شأنه إقناع عموم الجمهور العام.
فعلى المستوى الرسمي انتهى مسعى الإئتلاف وهيئة التفاوض إلى لجنة دستورية عديمة المُنتَج، وعلى المستوى غير الرسمي لم تتمكّن آلاف المسمّيات من القوى والأحزاب على اختلاف توجهاتها من الالتقاء حتى تحت مظلة واحدة ولو كانت فضفاضة، وانتهى مسعاها إلى صدور بيانات شبه نمطية تطالب بتطبيق القرار 2254 وتستجدي تواقيع الآخرين، ثم تُوزّع على وسائل التواصل لمدّة أيام وينتهي مفعولها، ويمكن الذهاب إلى ان هذه الشريحة من الناشطين والساسة هي الأكثر توجّساً وتردّداً في التعاطي مع النصر السوري الكبير.
لكي يكون المنجز الثوري أساساً للبناء:
ثمة أحقية لكلا الطرفين أن يمضي إلى ما يراه صحيحاً، فمن حق الجمهور العام أن يستثمر لحظات النشوة والإحساس بالخلاص من الطغيان وكابوس الرعب المزمن منذ سنوات طويلة، ومن حقه أن تكون فرحته العارمة عاملاً معزّزاً للتفاؤل والنظر إلى المستقبل بقلوب تتلهّف إلى مزيد من الكرامة، كما من حق النخب السورية أن ترتاب وتتوجّس ولا تسمح للحظات الفرح المباغتة أن تجعلها تسلّم بما تقرره السلطات الجديدة، كما من حقها إبداء الرأي ونقد سلوك الحاكم وعدم الركون إلى خطاب السلطة بثقة مطلقة.
ولكن أيّاً كانت فجوة الاختلاف بين الشعور الشعبي العام وبين نخبه وساسته ومثقفيه، فإنهما يتساويان في مسألة مهمّة، وهي أن ما حدث في النتيجة (السقوط المدوّي لنظام الأسد) لم يكن نتيجة لخيارٍ أو مبادرة أيٍّ منهما، بل جاء بمبادرة لفصيل عسكري (هيئة تحرير الشام وفصائل أخرى) وهذه المبادرة العسكرية التي أطاحت بنظام الأسد جاءت انتصاراً للقضية السورية التي تكوّنت ونمت واكتملت من تضحيات جميع السوريين وبكافة أشكال نضالاتهم عبر عقود من الزمن، وبعيداً عن الأحكام المطلقة في تقييم تلك التجربة التحرّرية، فإنه يمكن الوقوف عند ثلاثة أمور لا يمكن تجاهلها أو التنكّر لها:
أولاً: الإطاحة بنظام الأسد بالقوة بأيدي سورية اختزلت على السوريين سنوات أخرى من المأساة، لا أحد يدري إلى متى ستمتد، وأزاحت الوهم الذي سيطر على أذهان كثيرين من السوريين وغير السوريين بأن رأس النظام البائد كان من الممكن إزالته عن طريق التفاوض أو الحوار أو أي طريقة أخرى غير القوة.
ثانياً: زوال نظام الأسد بمعركة عسكرية من دون إراقة مزيد من الدماء وبالسلاسة التي شهدناها، ربما فاق توقعات أكثر المتفائلين من السوريين.
ثالثاً: خروج المعتقلين من سجون الأسد بحدّ ذاته منجز عظيم، وذلك على الرغم من الغصة والمرارة التي انتابت الآلاف من أهالي المفقودين أو ممّن قضوا تحت التعذيب.
رابعاً: زوال نسبي لشبح التقسيم الذي بات يظن كثيرون أنه سيكون مفتاح الخلاص لمأساة السوريين.
المنجزات الأربع المذكورة آنفا وحدها -على أهميتها- ليست حصانة كافية ودائمة لفعل التغيير الذي ينشده السوريون، ولا يمكن أن تكون حصانة للفريق الحاكم الجديد من أي نقد أو اعتراض أو تقويم، بل ربما تجسّد أساساً متيناً للبناء عليه، باعتبارها مُنجَزاً وطنياً تتقاطع حوله معظم تطلعات السوريين.
بل ربما يمكن الذهاب إلى أن هذه المنجزات الأربعة هي ما ينبغي أن يوجب على السوريين التمسّك بتجربتهم التحررية هذه، والحفاظ عليها والدفاع عنها بكل قوّة، باعتبارها ثمرة لنضال وتضحيات جميع السوريين وليست مُنتجاً أحادياً، وهذا ما يوجب نقدها ومراجعتها على الدوام، دون محاباة مجانية ودون ترف الرفض لأجل الرفض فحسب.
———————–
إشكالية رفع العقوبات عن سوريا: براغماتية التحرير في وجه عواقب التأخير/ عمار عبد الحميد
2025.01.14
نظرا للارتباط السابق بين الشخصيات الأساسية في هيئة تحرير الشام، بما في ذلك مؤسسها أحمد الشرع، بتنظيم الدولة أولاً ثم بالقاعدة، أصبح لدى المجتمع الدولي، وخصوصا لدى الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، مخاوف مشروعة من احتمالية تحول سوريا إلى مركز للجهاد العالمي بعد سقوط نظام الأسد. ويعزز هذه المخاوف وجود آلاف المقاتلين الجهاديين الأجانب في صفوف الهيئة وفي التحالفات التي تقودها.
ومع ذلك، فإن البراغماتية التي أبدتها الهيئة في إدارة عمليات التحرير والحكم حتى الآن، بالإضافة إلى التقارير الاستخبارية التي تشير إلى صدق القطيعة مع التيار الجهادي العالمي – ولو في هذه المرحلة على الأقل – دفعت العديد من القوى الدولية المحورية إلى تبني نهج براغماتي مقابل، وإلى قبول التعامل مع الهيئة بصفتها الجهة الشرعية المسؤولة عن إدارة عملية التغيير في سوريا.
لكن التطبيع ورفع العقوبات الدولية بالكامل يتطلبان خطوات أكثر وضوحًا لبناء الثقة مع المجتمع الدولي، وخاصة مع الدول الغربية. ويتمثل ذلك في تقديم ضمانات مؤسسية ثابتة تؤكد القطيعة مع الفكر المتشدد والتيار الجهادي العالمي. ومن هنا تبلورت عند الدول الغربية رؤية تتمحور حول ضرورة دعم المطالبات المتعلقة بحماية حقوق المرأة والأقليات والتيارات العلمانية، باعتبارها المكونات الأكثر تعرضًا للاضطهاد في ظل أي حكم “إسلامي متشدد”.
إذا نجحت الهيئة في الاستجابة لهذه المطالب بجدية وشفافية، وهي مطالب داخلية أساساً قبل أن تتبانها الدول الغربية، فإن ذلك سيعزز مصداقيتها داخلياً وإقليمياً وعالمياً، وسيتخذ دليلاً على أن قطيعتها مع التيار الجهادي العالمي ليست مجرد خطوة تكتيكية بل خيار استراتيجي، خيار يتجلى أيضاً في القدرة على احتواء آلاف الجهاديين الأجانب ومنعهم من استخدام سوريا كقاعدة لانطلاق نشاطاتهم. كما ستدل هذه الخطوة على استعداد الهيئة للتعايش والتفاعل السلمي مع التيارات السياسية الأخرى في المجتمع، من خلال التحول إلى حزب سياسي محافظ قادر على خوض انتخابات ديمقراطية وقبول نتائجها والالتزام بمبدأ التداول السلمي للسلطة.
لا يمكن اعتبار الموقف الغربي المطالب بكل هذا أمراً مشينًا أو غير منطقي؛ فهو موقف ينبع من اعتبارات أمنية بحتة، ولا يتأثر بشكل ملحوظ بأي ضغوط تمارسها جماعات سورية أو منظمات دولية، كما يدعي البعض. إن الحكومات الغربية تنظر إلى تعامل الهيئة مع بعض مكونات المجتمع السوري كمقياس حاسم لمصداقية التزامها بالنهج البراغماتي وقبولها بمبدأ الشراكة المدنية.
لذا، من الضروري أن تعجل الهيئة بتوضيح مواقفها من القضايا الحساسة المرتبطة بالعلاقة مع هذه المكونات إذا أرادت للعقوبات أن ترفع بأسرع وقت. وإذا كانت صياغة دستور جديد قد تستغرق سنوات، فإن ذلك لا يمنع الهيئة، بصفتها الجهة المسؤولة حاليًا عن إدارة الدولة في هذه المرحلة الحرجة، من استباق الأمور وإصدار بيان واضح يلتزم بمبادئ الدولة المدنية، واحترام خصوصيات وحقوق جميع المواطنين، بمن فيهم أولئك الذين لا يتبنون “المرجعية الإسلامية” في فكرهم.
سيكون لإعلان كهذا وقعه الإيجابي عند معظم الجهات الدولية المعنية بالعقوبات، مما سيؤدي إلى تكثيف الجهود المبذولة لرفعها كلية، وسيتيح فرصًا للحصول على استثناءات خاصة تسمح بتمويل المراحل المبكرة لإعادة الإعمار، على غرار القرار الذي اتخذته الإدارة الأميركية مؤخراً.
لكن يبدو أن تبني مفهوم الدولة المدنية ما يزال يمثل إشكالية داخل صفوف الهيئة ومعظم الفصائل ذات الإيديولوجية الإسلامية، سواء المتحالفة معها أو المنفصلة عنها. وقد يتطلب الوصول إلى توافق داخلي واضح وقتا أطول، مما سيسهم في تأخير القرارات الدولية برفع العقوبات، وسيتحمل جميع السوريين تبعات هذا التأخير دون استثناء.
مع ذلك، قد يكون التأخير مقبولاً إذا تم التوصل إلى التوافق المرجو في ختام المطاف، وامتنع التيار الإسلامي في هذه الأثناء عن إلقاء اللوم فيما يتعلق بهذا الوضع على الدول الغربية، أو على الأقليات والتيارات العلمانية، فهذا تصرف غير ناضج، وسيعمق الهوة بين مكونات المجتمع السوري، وقد يؤدي إلى فرض حالة جديدة من العزلة على البلد على الصعيد الدولي، إن عاجلاً أم آجلاً.
لقد ثار معظم السوريين من أجل بناء دولة ديمقراطية مدنية، تكفل حقوق جميع مواطنيها، بمن فيهم أصحاب “الطرح الإسلامي”، في إطار لا يعادي التيارات الأخرى ولا يهمش أي مكون اجتماعي، ولنا في تجربة إعلان دمشق وأصحابها خير دليل على إمكانية التوصل إلى صيغة مناسبة بين كل الأطراف.
وإذا كان النصر قد تحقق مؤخراً على أيدي “الإسلاميين”، فهذا لا يلغي نضال التيارات الأخرى وتضحياتهم، فالحكم في عصرنا الحديث ليس غنيمة حرب تنفرد الفئة الغالبة بتقرير طبيعته ومرجعيته وشكله، ويتحاصص قادتها فيما بينهم على المكاسب والمناصب، من منطلق “من يحرر يقرر” فالحكم في هذا العصر تكليف وليس تشريفاً أو جائزة أو وصاية، بل مسؤولية أمام المجتمع بكل ما فيه من مكونات وأطياف وفئات.
ولا ننسى في هذا الصدد أن المرحلة الأسدية في تاريخنا ابتدأت بالانقلاب “التصحيحي،” وعقلية “من يصحح يقرر” إذا جاز التعبير. لقد آن الأوان لنا اليوم لنكسر هذا القالب الفكري الذي ما بوسعه إلا أن يمهد الطريق نحو الاستبداد.
ويتطلب العمل في المجال العام التعامل باحترام وقبول مع المسائلة الشعبية من ناحية، والدولية من ناحية أخرى، لدواع جيوسياسية وأمنية واقتصادية نابعة عن طبيعة النظام الدولي السائد. إذ لا مجال في الواقع لا للشرعية المطلقة، ولا للسيادة المطلقة، وستبقى علاقة الحكومات مع بعضها ومع القوى والشرائح المختلفة في الداخل والخارج مقيدة بمجموعة من الضوابط التي لا مفر من الالتزام بها.
ولقد تبين عبر الأسابيع الماضية أن القوى المحورية في المجتمع الدولي على أتم استعداد للاعتراف بشرعية التغيير في سوريا، وشرعية مشاركة هيئة تحرير الشام في قيادة العملية الانتقالية، لكن وفق شروط تحقق طموحات ومصالح السوريين قبل غيرهم، وتسهم في احتواء المخاوف الأمنية لهذه القوى. لا مبرر في هذه الحال للتأخير والتسويف في التجاوب مع هذه الشروط.
وباختصار، إذا أردنا للعقوبات المفروضة على سوريا أن ترفع بشكل دائم وبأسرع وقت، على الجهات المسؤولة في سوريا أن تتبنى طرح الدولة المدنية بشكل دائم وبأسرع وقت أيضاً.
————-
سوريا الهشّة في مهبّ الريح/ بسام يوسف
2025.01.14
لم يدافع أحد عن سوريا، كل الذين تقاتلوا على جسدها لم يتقاتلوا دفاعاً عنها كما ادّعوا، بل تقاتلوا على أحقّية امتلاكها، واليوم كما الأمس، يُستبدل الطامعون، فيغيب طامع ليحل طامع آخر محله.
أيضاً، لم يدافع معظم المواطنين السوريين عنها، فهم لا يرون سوريا إلا بدلالة من يحكمها، وليس بدلالة كونها وطناً لكل السوريين، وعندما يتقاتل الآخرون عليها فإن الذين يريدون العيش ببساطة اللقمة والكرامة، ينتظرون انتصار القوة والأقوى، معتقدين أنهم في حيادهم هذا إنما يحمون لقمتهم والقليل من هامش الحياة والكرامة.
وهكذا، في مسلسل صراعات القوي والأقوى، وفي استمرار انتهاج سياسة انتظار القوي، ومحاباته، خسروا لقمتهم وقليل حياتهم وكرامتهم، والأدهى أنهم اليوم أمام احتمال خسارة وطنهم.
وكما في كل النظم المستبدّة، لا بد من ركيزتين أساسيتين لقيام الاستبداد: القدرة على قمع المجتمع، واستسلام المجتمع لهذا القمع.
في القدرة على قمع المجتمع، لا بد من امتلاك القدرة على التحكّم بما يشكّل أساسيات الحياة فيه، بدءاً من لقمة الخبز، وانتهاء بالمقدسات التي تشكّل البعد الرئيسي في وجدانه، وفي الخضوع لهذا التحكّم لا بدّ من الخوف، فالخوف وحده يصنع الفرد الخاضع، القابل للتشكّل كما يُراد له، وباستمرار الخوف والخضوع يمكن التأسيس لوعي فردي يرى في الخضوع قيمة كبرى، ويرى في الوعي الرافض للخضوع خطيئة كبرى.
في معادلة نشوء الاستبداد لا بد من تغييب الحوار، فالحوار يفترض بداهة وجود أطراف مختلفة، والاستبداد لا يعترف بوجود أطراف مختلفة، لهذا يُغيّب الحوار.
والتناقض الذي يعيشه الفرد بينه في حال وعيه لدوره، وبين الجهل المجتمعي المتمثل بقدسية التشابه التام، يصبح دور المثقف أو الفرد بلا أهمية، ويصبح المجتمع كتلة خرساء، لا تملك قراراً، ولا إرادة، فالأمر كله لوليّ الأمر، للراعي المقدس، الممسك بأسباب الحياة، أو بمعناها.
أولُّ حقائق الاستبداد أنّه يهدر القيمة الأهم الأساسية للحياة، وهي قيمة الكرامة الإنسانية، التي تعبّر عن وجودها بحقّ الحرية والاختيار، وبحقّ العدالة والمساواة، وترى في العلاقة المتكافئة مع الآخر شرطاً أساسياً للتشارك، وهو -أي الاستبداد- لا يهدر قيمة الحياة الأهم وحسب، بل ينمّي من جهة أخرى نزعة التفرد بالرأي، وامتهان حقوق الآخرين، وفرض الرأي، وإلغاء المشاركة، وتجاوز العمل المؤسساتي إلى العمل الفردي.
عند انهيار السلطة المستبدة يحدث ما يشبه الضياع في المجتمع، والمجتمع الذي تعوّد على وجود طاغٍ مستبدّ يتحكّم به ويقوده سيشعر بالعجز عند غياب هذا المستبدّ، وعندما يظهر مستبدٌّ جديد فإن أوّل ما يفعله مجتمع الخضوع هو مبايعة المستبدّ الجديد، أو البحث عن مستبدّ آخر، المشكلة الأخطر من كل هذا هو العنف المدمّر الذي ينفجر داخل المجتمع في معادلة المفاضلة بين مستبدّ وآخر، وهذا ما يفسر تعلّق البعض بطغاة سابقين، فـ”صدام حسين” ما يزال حلماً لقسم من العراقيين، وكذلك “حافظ الأسد”، رغم كونهما وجهين لاستبداد متوحش أسس لدمار بلدين عريقين هما العراق وسوريا.
اليوم ليس من السهل القول: إن سوريا التي تشهد مخاضاً بالغ التعقيد سوف تخرج من معادلة الاستبداد تلك، ويخوض السوريون معارك فيما بينهم بحثاً عن استبداد ديني أو عسكري يوكلون له مهمة سحق المختلفين معهم في المجتمع، لكأنّ معركتهم التي دفعوا فيها أثماناً باهظة لم تكن للتخلص من الاستبداد، بل كانت لاستبدال استبداد باستبداد آخر!.
المفارقة اليوم التي قد تقود سوريا إلى التقسيم أو التقاسم، إنما تتجلى بعجز القوى الداخلية فيها -وهي المدمّرة- أن تنتج استبداداً قوياً بما يكفي للسيطرة عليها، فجميع أطرافها منهكة، ولا بد من الاستقواء بالخارج، وبالتالي فإنّ الخارج هو مَن سيقرّر أي استبداد أقدر على تلبية مصالحه، وفي حال تضاربت مصالح أطراف الخارج فنحن أمام احتمالين أحلاهما شديد المرارة، فإما أن تترك سوريا في وضعها الراهن بانتظار توافق مصالح الآخرين، أو أن تتقاسمها هذه الأطراف.
لماذا لم يذهب السوريون إلى خيار التشارك والبحث عن خلاصهم بأنفسهم، وإنتاج الصيغ المناسبة لهم في إدارة مصيرهم، ولماذا تتعمق انقساماتهم، ولماذا يعززون عوامل الانقسام فيما بينهم بدلاً عن تعزيز ما يجمعهم؟
من نافل القول تكرار دور عصابة الأسد في تمزيق النسيج الاجتماعي السوري، لكن بسقوط هذه العصابة وانهيارها فإنه من المفترض أن تكون الطريق لعلاقة جديدة بين السوريين قد أصبحت سالكة، فما الذي يمنع من قيامها؟
أخطر ما يهدد سوريا القادمة هو الانقسام المجتمعي الحادّ، وهو رغم تفاصيله المعقدة فإنه قابل للحلّ فيما لو توفرت النوايا الصادقة لحلّه، لكن الاستثمار فيه من عدة أطراف هو ما يجعل منه عقبة كبيرة، بعبارة واضحة إن استثمار الإسلام السياسي، واستثمار أطراف خارجية، في المأساة السورية التي تسببت بها عائلة الأسد يمهد لنتائج خطيرة تهدّد وحدة سوريا، وصيغة وجودها، فسوريا لا يمكن أن تحكم بصيغة دينية، والإصرار على هذه الصيغة هو إصرار على تفتيت سوريا، إن لم يكن اليوم فغداً.
أيضاً ما يهدّد سوريا ولا يقل خطورة عن سابقه، هو طمس معالم الجريمة البشعة التي ارتكبت طوال خمسة عقود بحق السوريين، وعدم محاسبة مرتكبيها الحقيقيين، واللجوء إلى الغموض وتحميل الجريمة على غير مرتكبيها هو جريمة أخرى تعزز من تشظي السوريين، ومن المهم جداً هنا الإشارة إلى أمر مقلق جداً هو استسهال اتّهام جهة ما، والتجاهل المتعمد لجهات أخرى، هذا يدفع للتخوف من نية جهات ما، بالدفع باتجاه إشعال صراع داخلي يكون مقدمة لتدخل خارجي.
يمكن اليوم، في حال أردنا أن ننقذ سوريا، أن ندعو لتشكيل فريق سوري مختص ومحايد، يقوم بتوثيق الجرائم المرتكبة وتحديد مرتكبيها، وتوجيه التّهم لهم ومن ثم محاكمتهم، لا سيما أن الوثائق والأدلة أصبحت متاحة لنا للسلطة السورية الراهنة، فلماذا يبقى الغموض هو السائد.
إذا كانت العدالة الانتقالية مدخلاً لا بد منه لتعافي سوريا القادمة، فإن التوظيف السياسي لها سيكون الكارثة التي قد تودي بسور
تلفزيون سوريا
—————————–
تقدير موقف
مع مرور شهر على سقوط النظام السوري، يُلاحظ أن سلطات تصريف الأعمال تواصل سعيها إلى هيكلة وتعزيز سلطتها، من خلال تعيين شخصيات من إدارتها في إدلب أو في قيادة هيئة تحرير الشام أو مجموعات مسلحة قريبة منها، وكذلك الدخول في مهمة لا تبدو سهلة لحلّ الفصائل العسكرية ودمجها في جيش وطني، مع وضوح تعقيد ذلك الأمر فيما يخصّ قسد وقوات الجنوب، وربّما أيضاً مع ما يسمّى بالجيش الوطني القريب من تركيا. ترافق هذا مع تعيينات عسكرية أخرى يبدو أنها تصرّ فيها على تمكين سلطتها من خلال اعتماد شخصيات من الهيئة، واستمرار تجاهل الخبرة العسكرية” النظامية”، وقيل إن تلك التعيينات قد شملت محظوراً هو شمول عناصر أجنبية. كما ازدادت مؤخّرا المساعي الداخلية والخارجية لتطوير العلاقات وتهدئة الشكوك في المستويين. وقد أشارت إحاطة غير بيدرسون الأخيرة إلى مجلس الأمن بكلّ هذه الأمور، بلغتها الخاصة.
تتبلور التحديّات التي تواجه تلك السلطات وتزداد، خصوصاً مع اتّضاح ضعف إمكانيّات الهيئة على نسخ تجربتها ونقل هيكليّتها من إدلب إلى دمشق. ويمكن اختصار أهم تلك التحدّيات في الداخل والخارج على الشكل التالي:
أولّا ما يتعلّق بوحدة الأراضي والسيادة الوطنية، مع وجود سياسة تركيّة مستقلّة بأهدافها الاستراتيجية في الشمال، لها قواها المستقلّة أيضاً؛ ووجود تجربة خاصة شبه مستقرّة للإدارة الذاتية في الشمال والشرق التي صنعت تاريخاً عسكرياً في مقاتلة داعش بالتحالف مع الولايات المتحدة وحلفائها، حيث لم يجر التعامل معها حتى الآن بنجاح رغم المؤشّرات المعاكسة المبذولة للتهدئة والتأجيل التي يجري التهليل لها؛ وكذلك عدم مواجهة التعارض الكامن مع قوى الجنوب في درعا والسويداء؛ مع وجود تحديّات إسرائيلية تتقدّم وتتمدّد على الأرض بطريقة مهينة ومزعجة جغرافياً وربّما ديموغرافياً مع صمت غريب مقابل.
وثانياً ما له علاقة باستعادة علامات حياة الدولة الطبيعية من تنشيط وترميم للمؤسسات الرسمية، وتقديم الخدمات للمواطنين وتحسين قدرتهم المعيشية ومن ثم مساهمتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. هنالك تقدّم في هذا المجال، يريد الناس تطوير ثقتهم به، لكن الفارق سوف يظهر أكثر فأكثر فيما بعد.
وثالثاً تحدّي الوحدة الوطنية والاستقرار والأمن، مع تزايد الجرأة على الشكوى والنشاط في الساحل وحمص، من دون إهمال تحريض فلول النظام وبقايا التأثير الإيراني. كذلك تزايد التناقض ما بين الميل الطبيعي في الهيئة وأعضائها لفرض القيود المحافظة دينياً، وطبيعة المجتمع السوري وتاريخه” المدنيّ”.
ورابعاً، فشل الدعوة المرتجلة الأولى إلى مؤتمر للحوار الوطني، ظهرت فيه الهيئة وكأنها تميل إلى الارتجال والشكلانية على حساب الجدية التي تعلنها ويريد الناس من السلطة أن تثبتها. هنالك نقص واضح في التوجّه نحو القوى والشخصيات السياسية والمدنية، التي تزخر بهم البلاد في الداخل والخارج… ويبدو واضحاً ميل السلطات الجديدة إلى تجاهل دور المعارضة” الخارجية”، التي لا تقتصر إطلاقاً على الائتلاف وما يشبهه. هنالك إشاعات على أن ذلك المؤتمر ما زال مطروحاً، من دون أن تظهر علامات على أيّ تغيير جذري في التوجّه الأصلي الذي لن يفيد.
خامساً: هنالك تطوّر مهم على صعيد مع العلاقات الخارجية، واعد مع الأردن والعراق إلى حدّ ما، وحتّى مع لبنان، لكنّه غير مريح مع تركيّا وطموحاتها الخاصة، وما زال ناقصاً مع أوروبا وباقي العالم، ما لم تتأكّد الميول نحو رفع جزئي أو مؤقّت للعقوبات تضخّ القوة في الدولة السورية المريضة على المتابعة والتحسّن. تحتاج تلك الميول إلى جرأة في مواجهة الذات وإثبات القدرة على التغيّر من حيث الإيديولوجيا والوجود الأجنبي الظاهر علناً في الشوارع السورية. فالاعتدال لا يتعلّق بالثياب وحدها على الإطلاق!
من المهمّ أيضاً ملاحظة تنفّس المجتمع السوري ولهفته إلى ممارسة السياسة واهتمامه بالشأن العام، واسترداده لجرأته. ذلك جوهري، لكنّه لن يكفي أمام التحدّيات المذكورة والمتعدّدة، ولن يؤدّي وحده إلى خلق الظروف المناسبةللسوريين حتّى يبنوا دولة مدنية حديثة.
الهيئة التنفيذية
المسار الديمقراطي السوري
١٣ كانون الثاني ٢٠٢٥
—————————–
كيف تسقط الأنظمة؟/ محمد الرميحي
تحديث 14 كانون الثاني 2025
لا أميل إلى تفسير سقوط الأنظمة السياسية عموماً بنظرية المؤامرة، وأن هناك أيادي خفيّة تفعل فعلها في الظلام لخلخلتها ومن ثم سقوطها. تسقط الأنظمة عندما يصل رأسها إلى مكان يرى أن رأيه هو فقط الصحيح والنهائي، ورأي الآخرين هو الخطأ؛ ليس رأي المعارضة، إن وجدت، فقد يكون مبرراً أن يراه خاطئاً، ولكن حتى رأي معاونيه، ومن يحمل الولاء للنظام، ويفكّر في حلول من داخله للمشكلات، قد لا تروق الرأس القابض على السلطة
أمثلة كثيرة في تاريخنا العربي الحديث والمعاصر، من صدام حسين إلى بشار الأسد، رغم اختلاف الظروف، فإن الأصل هو التفرد في الرأي في الشؤون العامة، وإيصال المقربين إلى منطقة أن من يقول أو يفكر برأي آخر يُعزل ويُهمّش أو حتى يعدم.
مذكرات كثيرة متناثرة بين أيدينا، ربما يحتاج حصرها علمياً إلى أطروحة دكتوراه موسعة، من مذكرات نزار حمدون، إلى مذكرات علاء بشير (طبيب صدام حسين) إلى مذكرات عبد الحليم خدام، إلى مذكرات دعد شرعب (أنا والعقيد)، وغيرها مما هو متاح من الكتابات والمقابلات المنشورة، وكلها تقود إلى تيمة واحدة (التفرد بالرأي والاعتماد على العسس في الحكم)!!
هناك أمور طازجة، إن صح التعبير، آخرها مقابلة الإعلامي حسين الشيخ (بودكاست بتوقيت دمشق) وهو إعلامي متميز في قناة الحدث، مع آخر رئيس وزراء سوري في عهد بشار، الذي امتد من 2000 إلى 2024، واستهلك عشرة رؤساء وزارات، أي في المتوسط رئيس وزراء كل سنة وأربعة أشهر تقريباً!!
آخر رئيس وزراء كان مقامه في السلطة (مع تجاوز التعبير الأخير، أي السلطة) لم يدم أكثر من نيف وشهرين، يقدم لنا بوضوح تلك المعضلة في آلية الحكم في مجمل حديثه، الرئيس هو صاحب الرأي الصحيح والأول والأخير، وهو الذي يعرف أكثر من غيره. لم يكن صدام حسين بعيداً من ذلك، ولا القذافي، ولا علي عبد الله صالح، ولا زين العابدين بن علي وأمثالهم كثير.
محمد غازي الجلالي وهو رئيس الوزراء الذي سلم السلطة لمجموعة أحمد الشرع في بداية كانون الأول/ ديسمبر الماضي يقول لحسين الشيخ، إنه كرئيس وزراء ليس له صلاحية أن يوقع على أي قرار يتخذه مجلس الوزراء، فقط يُكتب القرار، ويرسل إلى مكتب الرئيس، ثم تأتي تعليمات، وقّع على هذا القرار ولا توقّع على ذلك القرار!! تعليمات شفوية فقط، ويقوم الرئيس بتنفيذ تلك التعليمات، بل في بعض الأوقات كما قال (وهو شاهد حيّ، في البودكاست مع الإعلامي حسين الشيخ لا يزال متاحاً)، إن قراراً يوافق عليه ويتخذ، ثم يغيّر الرئيس رأيه، فيطلب أن يُتخذ قرارٌ معاكسٌ، وعلى رئيس الوزراء أن يظهر للجمهور على التلفزيون ويبرر لماذا عُكس القرار! وعليه أن يجتهد في التبرير!!
قصة الجلالي الشخصية محزنة، فهو عندما كلف، وقد كان وزيراً سابقاً، لا يستطيع أن يعتذر، فالاعتذار يعني أن يدمّر الشخص وعائلته، ولكنه أيضاً في الوقت نفسه لا يستطيع أن يمارس صلاحيات رئيس الوزراء الطبيعية التي تمارَس في أي بلد في العالم.
هناك مجموعة من المكاتب، بعضها “أشباح” تتدخل في تسيير الدولة، وخاصة أشباح الأمن، التي لا تعلو سلطتها سلطة، يقول الجلالي متحسراً إن أحد أقربائه قد سافر إلى ليبيا لخوض مغامرة التسلل في البحر إلى أقرب نقطة في أوروبا، هرباً من الفقر والعوز وزوار الفجر!
النظام المستبد المتكئ على الأمن يأكل نفسه بنفسه، وخاصة إن كان له رئيس مهووس بالاستحواذ المالي والسلطوي.
لو قرأ بشار ما كتبه محمد جواد ظريف (صانع الملوك) والمستشار الأقرب للرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، لفهم أي توجه تتخذه الإدارة الحكومية الإيرانية. قال في مقال منشور ما معناه “يجب ألا نقاتل بدلاً من الأنظمة (العربية) التي تُعتبر صديقة، فحتى سوريا التي دفعنا فيها الكثير من الجهد والمال، عندما يذهب رئيسها إلى مؤتمرات القمة العربية يوقع على إدانة إيران ويصفها بأنها محتلة للجزر الثلاث في الخليج”! ليس أكثر وضوحاً من هذا التصريح!! وامتداداً لذلك فإن روسيا تركت الفضاء السوري مفتوحاً لضربات إسرائيل متى ما شاءت، لم يكن أحد من أعوان الرئيس بقادر على الإشارة له بتلك المتغيرات، لأنه يحب أن يسمع، كمثل أي ديكتاتور، ما يحب أن يسمع!
ولم يكن جيشه أيضاً مؤهلاً للدفاع عنه، لأنه جيش في أغلبه “جيش سخرة” أي ما يعرف بالتجنيد الإجباري، والذي جعل الكثير من شباب سوريا يفر خارجها بسبب رفضه للسخرة، وفي الوقت الحرج تخلى أهل السخرة عن سلاحهم!
ملخص الأمر وزبدته، أن الاستبداد، وإن نجح لفترة فلا بد أنه يأخذ أصحابه إلى التهلكة ويطيحهم، فما بالك إن تآخى الاستبداد بالغرور ونكران الواقع معاً، في عالم أصبح مفتوحاً ودون حواجز ومتغيراً دون حدود!
النهار العربي
———————-
رسالة إلى سمر صالح: سقط النظام لكن عالمنا حزين في غيابك/ مريم حايد
ترافقت فرحة السوريين/ات بسقوط النظام مع كارثة وطنية، إذ تكسّرت أحلام مئات الآلاف من العوائل بالإفراج عن أحبائهم في سجون النظام، أو معرفة مصيرهم لدى التنظيمات الأخرى كداعش، على صخرة الواقع. في هذه الرسالة العاطفية، تخاطب مريم حايد صديقتها سمر صالح، التي غيّبها تنظيم داعش منذ أكثر من عقد، وتصف مشاعرها المختلطة، التي يغلب عليها حزن، يكبح حماسها حيال المضي في بناء سوريا جديدة.
14 كانون الثاني 2025
لقد سقط النظام ولم يعد للأسد وجود، هل تستوعبين معنى ذلك؟ لا مزيد من القصف ولا الجوع ولا الرعب ولا الحصار. جميع سجون النظام فُتحت وخرج جميع المعتقلين/ات الأحياء، لكن للأسف ظهرت الكثير من الجثث التي تعود لشهداء تحت التعذيب. لو رأيت فقط مشاهد المعتقلين والمعتقلات المحررين من تلك السجون، حتى سجن صيدنايا، لقد اعتقدوا أن الأسد قد أصدر عفوًا لأنهم لم يتخيلوا أن ذلك النظام المتوحش قد زال وانتهينا منه ومن قمعه واحتلاله لبلدنا مدة 54 عامًا.
في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024 سقط النظام للأبد ورحل الأسد وبدأت حريتنا كسوريات وسوريين. ذاك اليوم امتزج بمشاعر مختلطة، فرح بانتهاء حقبة الأسد وحزن عمن فقدناهم منذ ال 2011، وأمل بمعرفة مصير المغيبين والمختفين والمختطفين قسرًا، لترتاح قلوب الأهالي والأمهات الثكالى.
لكن فرحتنا يا سمر غائبة بغيابك وعدم كشف مصيرك حتى الآن. لا أدري ماذا أقول لك، فمنذ رحيل الطاغية وكلي أمل في معرفة معلومات جديدة عنك وعن محمد، واعتقدت أن فتح السجون وتحرير المعتقلين والمعتقلات سيعطي أجوبة ويكشف عن مصير جميع المعتقلين بمن فيهم أنت، لكن لا معلومات حتى الآن للأسف. أعرف أن الكشف عن مصيركما يستلزم الصبر والانتظار والوقت وتحقيق طويل الأمد وتحليلات ولجان دولية، لكنني تعبت من بناء السيناريوهات في رأسي، ومع ذلك لا زلت مثابرة على الأمل، من أجلك ومن أجلي.
إنها البداية وعلى أمل أن تصبح سوريا أجمل لنا جميعا نساًء ورجالًا، أقليات وأكثريات، دينيين ومحايدين ولا أدريين، مثليين وغير مثليين. أن تكون لدينا جميعًا دون استثناء نفس الحقوق والفرص، للعيش بكرامة وحرية دون تمييز أو تفضيل. وعلى أمل أن نسمع خبرًا مفرحًا عنك يريح قلوبنا ويكمل فرحتنا الناقصة بك وبكم.
وأنا أكتب هذه السطور أعود لتذكر كل تفصيل من تفاصيل حياتك. كنت منذ صغرك قوية ومندفعة، لا تفكرين بعواقب تصرفاتك وخياراتك، ولا حدود لحريتك. كنت مندفعة في كل شيء، بعطائك ومساعدتك ودعمك ومشاعرك، وفي المقابل لا تنتظرين أي مقابل من أي أحد.
عندما بدأت الثورة كنت من أوائل من تحمسوا للمشاركة في المظاهرات وتقديم الدعم للعائلات والمحتاجين، ولم يمنعك خوفك من الاستمرار على الرغم من ممارسات النظام الوحشية لمنع المتظاهرين من التظاهر السلمي والتعبير عن أنفسهم بحرية ورغبتهم في إسقاط النظام، بل حفزك أكثر لتكوني مثالًا يحتذى بك، تشجعين الآخرين لعيش تلك اللحظة التاريخية الفريدة بعد أن وصل الربيع العربي أخيرًا إلى سوريا، حلم كنا نخشى تخيله وها قد بدأنا نعيشه بلهفة على أرض عانت ما يكفي من سنوات قمع وأوجاع وكتمان لأصوات الآلاف، بسبب وحشية عائلة الأسد، التي احتكرت السلطة وأرهبت الشعب.
(صورة للناشطة سمر صالح المختطفة من قبل الدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش ) منذ تاريخ 12آب/ أغسطس 2013. المصدر: صفحة “الرقة تذبح بصمت” على فيسبوك))
كنت يا سمر كعادتك متحمسة وغير حذرة على الإطلاق خلال التظاهرات والاحتجاجات أو أثناء نشاطك السلمي. علمتنا الحياة أن هناك دائما ثمن لأفعالنا، إيجابية أكانت أم لا. أظن أنه لم يخطر يومًا لك أو لنا أن الثمن الذي ستقدمينه سيكون باهظًا هكذا، وإلا لكنا جميعا بما فيهم أنت، لنغير اعتباراتنا قليلًا ونضغط عليك، أكثر ليكون الثمن أقل ألمًا وأقصر مدة وأكثر أمانًا لنا ولك.
كنت في بداية الثورة في حلب وأنا في الشام. وفي كل مرة كنت فيها معك في حلب، كنت تشركيني معك في المظاهرات والأنشطة التي تقومين بها دون بذل أي جهد في التخطيط، ولطالما كنت جزءًا من حياتك، كما كنت جزءًا من تفاصيلي.
أتذكر تمامًا ذلك اليوم الذي تم فيه التخطيط للاجتماع مع نساء أخريات في منطقة الميدان في حلب خلال الأشهر الأولى للثورة. اتفقنا على كتابة بيان يدين فيه همجية النظام في قمع المظاهرات السلمية التي تطالب بحقها في التظاهر بشكل سلمي في الشوارع، كما تدين عمليات الاعتقال التعسفي التي يتعرض لها المتظاهرون، الذين عناصر الأمن والشرطة.
اُتفق سرًا على لقاء يجمع مجموعة من النساء اللواتي في منزل أحد شباب مدينة حلب في حي الميدان، وتمت تغطية جدران الغرفة التي سيتم التصوير فيها بأغطية ستائر حتى لا يتم التعرف على المكان، وكي لا يتعرض الشاب لأي مخاطر.
اُتفق مع النساء على وضع شال يغطي بإحكام كامل الوجه واليدين، وأي علامات أخرى مميزة، إذ إن التعرف على واحدة منهن، سيجعل الأخريات في خطر. تمت المهمة بنجاح وبسلاسة وبعد الانتهاء من التصوير، تم إخلاء المكان بسرعة. ولاحقًا عُرض البيان على قناة الجزيرة.
لاحقًا وكلما اقتضت الحاجة، كنت تساعدين في استقبال آلاف العائلات المهجرة من حمص وإدلب ودير الزور، بداية ٢٠١٢، التي اضطرت لترك منازلها والنزوح إلى حلب بحثًا عن الأمان لها ولأطفالها نتيجة قصف النظام العشوائي على المناطق التي ثارت ضده. كانت العائلات قد استقرت في مدارس بعد أن تم إخلائها واعتمادها كمراكز إيواء.
تركز نشاطك كما أتذكر الآن على تلبية احتياجات الأسر الأساسية من الطعام والأدوية والحليب والسلل الغذائية، من خلال تنسيق العمل التطوعي بين شبكة من أصدقائك. لم يقتصر عملك على التواصل مع الأهالي فقط وتلبية احتياجاتهم، بل امتد ليشمل أيضًا القيام بأنشطة تطوعية للأطفال، وقضاء المزيد من الوقت معهم في محاولة لتخفيف الأثر السلبي للنزوح والحرب على حالتهم النفسي، ولا سيما أن حياتهم وعالمهم وروتينهم، كان قد انقلب رأسًا على عقب. كان عليهم تقبل أن حياتهم لن تعود كما كانت، ولن يذهبوا مرة أخرى للمدرسة ليتابعوا تعليمهم ولن يلعبوا ولن يلتقوا بأصدقائهم الذين اعتادوا قضاء غالبية أوقاتهم معهم.
تابعتِ نشاطك السلمي وتقديم المساعدات إلى أن أتيحت لك فرصة متابعة الدراسات العليا في مصر، والحصول على ماجستير في كلية الآثار التي درست فيها.
لم تكن ترغبين بالرحيل، أتذكر ذلك، لكن تشجيع عائلتك وأصدقائك أقنعك بالسفر. أشاروا إليك بأن بإمكانك العودة إلى سوريا ومتابعة نشاطك بعد أن تنهي دراستك. اقتنعتِ وسافرتِ على مضض، حزينة على اتخاذك قرار الرحيل. في العام 2013 عدتِ يا سمر إلى سوريا وتحديدًا إلى مسقط رأسك، الأتارب في ريف حلب في الوقت الذي كانت تحت سيطرة تنظيم داعش.
لم تكن ترتدين الحجاب يومها وكنت مصرة على رفض ارتدائه. كنتِ مصرة على إثبات وجهة نظرك وتحدي ما فرضته داعش على الأهالي، كما كنت مصرة على التمرد والنضال ضد قوانين وقواعد التنظيم في المنطقة على الرغم من محاولة والدتك إقناعك بالعدول عن ذلك، وعدم المخاطرة لتلك الدرجة، لما لذلك من عواقب وخيمة. لكن بالتأكيد لم يخطر لك أو لوالدتك أن تصل العواقب لدرجة الاختطاف.
(سمر صالح وصديقها محمد العمر الذي اختطفتهما داعش في مدينة الأتارب شمال غربي سورية بتاريخ ١٢ أب/ أٌغسطس ٢٠١٣- المصدر: وسائل التواصل الاجتماعي))
خلال فترة وجودك في القرية مع صديقك محمد العمر، قررتما التقاط الكثير من الصور للأماكن التي تم دمرها داعش في المنطقة. لم تكتف بذلك فقط، بل طرحتِ أيضًا استبيانًا على أهالي المنطقة، حول رأيهم بسيطرة داعش وقوانينهم الجائرة، من تقييد الحريات وفرض لباس معين عليهم.
ماذا حصل؟ ما علمناه يا سمر، أن أحدهم تكفل بإيصال تلك المعلومة بطريقة ما لداعش، وعلم التنظيم كما يبدو بمكان وجودك ومحمد ووالدتك. كنتم تتمشون في إحدى شوارع المنطقة في طريق عودتكم للمنزل. توقفت ثلاث سيارات قربكم، علمنا لاحقًا، ونزل منها عدد غير قليل من المسلحين الملثمين، بلباس مدني، قام أحدهم بإمساك محمد وتوجيه سلاح لرأسه ثم إدخاله قسرًا لإحدى السيارات، في حين توجه مسلح آخر نحوك ليمسكك من شعرك ويوجه سلاحه نحوك ويدخلك قسرا أيضًا إلى إحدى السيارات. حاولت والدتك، منعهم وحمايتك، لكنها لم تستطع أن تنقذك، على الرغم من صراخها وطلب المساعدة.
اختفت السيارات ومعها، أنتِ ومحمد منذ ال 13 من أغسطس/آب 2013 حتى الآن؛ وإلى الآن لا زالت والدتك تبحث عنكما، لكن للأسف دون جدوى.
لا زال الأمل يحدو أهلك وأهل محمد وأصدقائكما، ولا زلنا جميعًا ننتظر معلومة عن مكان وجودكما أو خبرًا يطمئننا بأنكما بخير، ولا زال الأمل حاضرًا، بأنه سيأتي اليوم الذي تتحقق فيه العدالة لجميع من عانوا وعذبوا وخُطفوا وغيبوا قسرًا في السجون، وبأنه سيأتي اليوم الذي سيُطلق فيه سراح جميع المعتقلين والمغيبين والمختفين قسرًا، سواء في سجون النظام أو في سجون داعش.
سمر، منذ اختفائك وأنا أعيش على أمل أنني يومًا ما سأعرف ما جرى معك، وأملي زاد بهروب الأسد، لكن إلى الآن لا جديد. لا أدري إن كان الأمل يخفف ثقل وطأة الأيام ويعيننا على الاستمرار أم أنه يزيد الوجع والوهم والحلم والخيبة. الانتظار متعب والاحتمالات كثيرة، الأمل متعب لكن لربما العيش بلا أمل متعب أكثر.
رحل الأسد صحيح لكنه أخذ تفاصيل حكايتنا السورية معه، فرحتنا كانت ناقصة، ممزوجة بالوجع والحزن وقلة الحيلة والضياع وهول صدمة المشاهدة. رحل الأسد صحيح، لكن حكايتنا لم تنته وجرحنا لم يلتئم ولم يشف ووجعنا لم ينته، وأنتم أين أنتم؟ هو رحل وأعادنا للبداية، ثم زاد أملنا بمعرفة مصيركم ثم خاب أملنا بمشاهد المقابر الجماعية، والآن نتخبط وننتظر.
لا زالت أسئلتنا بلا أجوبة، والأمهات مفجوعات تنتظر معرفة ما حل بأبنائها وبناتها، ولا زال الجرح السوري ينزف ويلتهب، ولا زلنا ننتظر خاتمة لهذا الوجع، من خلال معرفة ما جرى معكم لنتمكن من إغلاق جراحنا والمضي قدما في بناء سوريا الجديدة. سأبقى انتظرك وأتمنى أنك في مكان جيد ومريح وهادئ، لا تعب فيه ولا وجع.
حكاية ما انحكت
————————–
نتآمر على الفرح في سوريا/ هنادي الخطيب
14-يناير-2025
في مطلع حياتي، كان العالم يعيش تحت تأثير حدث يُعتبر آنذاك الأهم والأبرز، وهو سقوط الاتحاد السوفييتي. ومع سقوطه، تهاوت الأحزاب الشيوعية، وقيل يومها إن حلم الثورة قد انتهى، فلا ثورة بدون شيوعية.
كلمة “الثورة” في ذلك الوقت بدأت تفقد بريقها، بعد أن استأثر بها المنظرون اليساريون وربطوها بالشيوعية لسنوات طويلة. وإذ بالشيوعية تتهاوى بشكل دراماتيكي، ومع هذا التهاوي، تحوّل تشي غيفارا إلى مجرد صورة تُطبع على القمصان (T-shirts)، حتى أن صورته وصلت إلى قلب واشنطن، عاصمة الرأسمالية والإمبريالية.
سمعت كثيرًا من الأحاديث والنقاشات المحتدمة من سياسيين سوريين قدامى “نجوا بأعجوبة” من معتقلات حافظ الأسد وابنه من بعده. تمحورت تلك الأحاديث حول ضرورة الإصلاح من الأعلى، وعدم إمكانية اندلاع ثورة
في الحقيقة، لم تكن الشيوعية وحدها التي تراجعت؛ فقد تراجع قبلها الفكر القومي العربي، بعدما ارتبط بالدكتاتوريات العسكرية التي رفعت شعاراته، بدءًا من عبد الناصر وصولًا إلى صدام حسين وحافظ الأسد البعثيين. وفي تلك الفترة، وحتى نهاية العقد الأول من هذا القرن، كان الأمل يتضاءل فيما يُسمى “الثورة”.
سمعت كثيرًا من الأحاديث والنقاشات المحتدمة من سياسيين سوريين قدامى “نجوا بأعجوبة” من معتقلات حافظ الأسد وابنه من بعده. تمحورت تلك الأحاديث حول ضرورة الإصلاح من الأعلى، وعدم إمكانية اندلاع ثورة في ظل غياب الأحزاب والأيديولوجيات الثورية. وكانت جملة أحدهم ترنّ دائمًا في رأسي: “انتهى حلم الثورة”.
اليوم، انتصرت الثورة السورية، وقبلها انتصرت ثورات كثيرة، سواء في الدول العربية أو في دول أوروبا الشرقية. جميعها انتصرت دون أن تكون شيوعية وتستند على قواعد لينين للعمل الثوري.
بالنسبة لي، فإن عدم ارتباط هذه الثورات بالشيوعية أو بالقومية أمر مطمئن. فهو على الأقل يضمن غياب “الرفاق” الذين يتحولون إلى “الرئيس المفدّى”، ولن نشهد ثورات ثقافية أو علمية أو فنية تُحارب “الغزو الثقافي الغربي” بقتلنا وسجننا كما فعل ماو تسي تونغ في الصين. وهذا أمر يستحق تنهيدة ارتياح كبيرة.
ورغم غياب الحزب الثوري والطليعة الثورية والمنظرين، كانت الثورة السورية مكتملة الأركان. عمّدها السوريون بدمائهم وبرحلات الشقاء في البراري والغابات، هربًا من أجهزة الأمن ومن العصابات التي امتهنت “اصطياد اللاجئين السوريين لقتلهم”. ولعلّ كثيرًا منهم يحتفظون ببعض رؤوسنا معلقة على جدران بيوتهم.
ولا أنسى أن كثيرًا من سياسيي أوروبا وأميركا يدينون لنا بالفضل في شهرتهم ونجوميتهم. فقد أصبحوا رؤساء دول وحكومات، ونجوم “يوتيوب” ولقاءات تلفزيونية، عبر شيطنتنا ووسمنا بالإرهاب، عبر بثّ آرائهم الدموية بكل راحة ضمير تحت شعار “هم (أي نحن) لا يشبهونا” رغم أني لم أدرك يومًا ما معنى هذه الـ”نا”.
حسنًا، إذن، انتصرت الثورة السورية. وفي هذه الأيام، يتقاطر الوزراء وتكثر المقالات والتحليلات والتصريحات السياسية. واكتشفنا فجأة أن كثيرين من هؤلاء “الصحفيين والمحللين والسياسيين”، رغم كرههم لبشار الأسد، إلا أن اهتمامهم كان منصبًا في مكان آخر.
يأتون غير مهتمين بما كابدناه، ولا بمدننا المدمرة، ولا بدماء شهدائنا، بقدر اهتمامهم بعلاقات الدولة الجديدة الخارجية، وكيف سيكون شكل الحكم. تساؤلات أشبه بالإملاءات.
وبما أننا نجبر أنفسنا على استمرار الفرح بسقوط الأسد، فإننا نتآمر معهم بصمت. نرحب بهم ونفرح باعترافهم السريع بانتصار ثورتنا. لكننا بدأنا نستيقظ ببطء من نشوة الفرح، لنجد أنفسنا أمام تساؤل كبير: “متى يحين دورنا لنحتفل بثورتنا ونقرر شكل حكومتنا الجديدة؟”.
ربما نريد أن نقرر نحن شرعية حكومتنا، دون انتظار حماية المجتمع الدولي ورعاية الدول الجارة أو العدوة. وربما نريد أكثر من ذلك، كأن نرفض نفوذ رفاق السلاح الذين خطفوا المناصب الوزارية، وأن نرفض أيضًا الرفيق الحزبي والمعارك المقدسة وتعبيرات الجهاد والحملات الدعوية. بالطبع، ربما نريد أن نكون بلا أمة واحدة، ولا اشتراكية زائفة، أو علمانية خادعة.
لازلت أذكر اللحظات الأولى التي أُعلن فيها فرار بشار الأسد من سوريا وسقوط النظام. داهمني شعور طاغٍ بالفرح لم أعرفه سابقًا. لكنني أدركت أيضًا أنه من الطبيعي ألا أتعرف على ذلك الشعور؛ فلم أكن أعرف قبل سقوط النظام معنى تعبير “الوطن”. عندما خرجنا ضد النظام، لم نكن قد رسمنا مشهد السقوط في خيالنا، ولا صورة للوطن المنشود.
رغم فرحي الكبير بتحرير سوريا، إلا أنني أتعامل مع فرحتي بحذر. أريد اليوم أن أكون حرّة تمامًا بالتفكير في وطني، بعد أن تعرفت على معنى أن يكون لدي وطن.
الترا صوت
—————————–
الطائفية والسياسة: من إرث التعايش إلى تحديات الدولة الحديثة/ همام حداد
14-يناير-2025
على مدى قرون، مثلت الإمبراطورية العثمانية نموذجًا لإدارة التنوع الديني والعرقي في سياق سياسي معقد، حيث تداخل الدين مع السياسة في صياغة العلاقات الاجتماعية والسلطوية. لم تكن الطائفية مجرد انعكاس لصراعات دينية، بل أداة سياسية ضمن نظام الدولة. وكما يشير بروس ماسترز، فإن نظام الملة كان ابتكارًا إداريًا ساهم في استقرار الإمبراطورية، لكنه أيضًا أسس لتراتب قانوني واجتماعي رسخ الهويات الطائفية ومنحها بعدًا سياسيًا طويل الأمد.
نظام الملة: آلية للتعايش بتفاوت متأصل
كان نظام الملة أبرز الابتكارات الإدارية العثمانية لإدارة التنوع. أتاح لكل طائفة دينية إدارة شؤونها الدينية والاجتماعية بشكل ذاتي محدود، مع بقاء الدولة ممسكة بالسلطة العليا. ولعب الزعماء الدينيون دور الوسطاء بين الدولة وأتباع طوائفهم، مما خفف الأعباء الإدارية على الدولة.
ورغم نجاح النظام في خلق توازن نسبي، إلا أنه أرسى تفاوتات عميقة. أهل الذمة، على سبيل المثال، خضعوا لقيود قانونية واجتماعية مثل دفع الجزية، مما عزز إحساسًا دائمًا بالتراتبية. وكما توضح كارين باركي، لم يكن النظام مجرد أداة للتعايش، بل وسيلة لترسيخ التفوق القانوني والسياسي للمسلمين. هذا التفاوت القانوني والاجتماعي ساهم في تكريس الطائفية ككيان سياسي منفصل، ما جعلها أداة للتفاوض مع الدولة وأحيانًا للهيمنة عليها.
أدى هذا التراتب إلى انقسامات طويلة الأمد بين الطوائف. فبينما وفرت الدولة مظلة للتعايش، فإنها أضعفت الروابط المشتركة التي يمكن أن تجمع رعايا الإمبراطورية في وحدة سياسية متماسكة. يرى البعض أن هذا النظام خلق شعورًا دائمًا بالعزلة بين الطوائف، مما أعاق تطور مفهوم المواطنة الموحدة.
الطائفية كأداة سياسية
استُغلت الطائفية كأداة سياسية لتعزيز السيطرة وضمان استقرار النظام عبر استغلال الانقسامات الدينية والاجتماعية. يوضح أسامة مقدسي أن الطائفية تجاوزت الصراعات بين الأديان لتشمل توترات داخل الطوائف نفسها، خاصة في ظل التدخل الأوروبي.
في سوريا ولبنان، ساهمت القوى الأوروبية في تعميق الانقسامات الطائفية. على سبيل المثال، دعمت فرنسا النشاط التبشيري الكاثوليكي لتعزيز نفوذها، ما أدى إلى خلق ديناميات جديدة من الصراع والهيمنة. إنشاء مجتمع كاثوليكي كبير في حلب بدعم فرنسي أدى إلى مواجهات مع الأرثوذكس المتحالفين مع البطريركية اليونانية. هذه التدخلات لم تكن عشوائية، بل خضعت لاستراتيجيات مدروسة لتقويض الولاء للدولة العثمانية وزعزعة استقرارها.
ساهمت هذه الاستراتيجيات في إعادة صياغة الهويات الطائفية لتصبح أدوات في يد القوى الخارجية. ومع تزايد اعتماد الطوائف على الدعم الأجنبي، ضعفت قدرة الدولة المركزية على فرض سلطتها، ما فتح المجال لتنافسات داخلية عنيفة. يشير هذا إلى أن الطائفية لم تكن مجرد أداة محلية، بل جزءًا من شبكة معقدة من المصالح الإقليمية والدولية.
الطائفية في ظل إصلاحات التنظيمات
هدفت إصلاحات التنظيمات (1839-1876) إلى تحديث الدولة العثمانية وتعزيز المساواة القانونية، لكنها كشفت عن تناقضات جوهرية. رحب المسيحيون بالإصلاحات كفرصة للخروج من الهامشية التاريخية، بينما رفضها المسلمون المحافظون معتبرين إياها تهديدًا للهوية الإسلامية.
في سوريا ولبنان، بلغ التوتر ذروته في مذابح 1860، التي عكست التداخل بين الدين والسياسة مع تدخل القوى الأوروبية. أظهرت المذابح عمق تعقيد العلاقة بين الطوائف والدولة، إذ أسهمت الإصلاحات في تعميق الانقسامات بدلاً من حلها، واوضح محدودية قدرة الدولة على معالجة الجذور العميقة للطائفية.
على الرغم من أن التنظيمات كانت تهدف إلى تقليص التفاوتات، إلا أن التنفيذ أدى إلى نتائج عكسية. فاستغلال الإصلاحات لتعزيز مكانة بعض الطوائف على حساب أخرى، عمق الإحساس بالظلم والتفاوت. بالإضافة إلى فشل الإصلاحات في معالجة التدخلات الخارجية، زاد من تعقيد المشهد الطائفي.
رغم نجاح نظام الملة في احتواء التنوع، إلا أنه ساهم في ترسيخ التفاوتات القانونية والاجتماعية التي كرست الهويات الطائفية ككيانات سياسية منفصلة. هذا النظام لم يكن مجرد آلية للتعايش، بل أداة لتهميش مفهوم المواطنة الجامعة. التراتبية التي فرضها النظام جعلت من الهويات الدينية أساسًا للحقوق والواجبات، ما أدى إلى تقويض فكرة المساواة القانونية والسياسية.
كذلك ساهم نظام الملة في إدامة شعور التبعية لدى الطوائف غير المسلمة تجاه القوى الخارجية. هذا الأمر جعل من الصعب تحقيق رؤية موحدة للمواطنة، حيث بقيت الهويات الطائفية منفصلة عن الهوية الوطنية.
الإرث الطائفي والدولة الحديثة
رغم نجاح نظام الملة العثماني في إدارة التنوع الديني داخل إمبراطورية متعددة الأعراق والأديان، إلا أن استنساخه في الدولة الحديثة يبدو مستحيلًا لأسباب جوهرية تتعلق باختلافات السياقات التاريخية و السياسية.
اختلف شكل الدولة الوطنية الحديثة عن سلفها الامبراطوري. فالدولة الحديثة تعيد صياغة العلاقة بين السلطة والمجتمع لتتطلب اندماج الجميع في إطار قانوني يستند الى فكرة “المواطنة المتساوية” قانونيًا وسياسيًا، وهذه الفكرة تجعل من المستحيل استنساخ نظام الملة ذو الهرمية التراتبية. يشير ألبرت حوراني في كتابه “الفكر العربي في عصر النهضة” إلى أن نظام الملة كان وسيلة لإدارة التنوع في سياق الإمبراطورية العثمانية متعددة الأديان، ولكنه ساهم في ترسيخ الفصل بين الطوائف على أسس قانونية واجتماعية. ورغم نجاحه في خلق توازن سياسي نسبي، إلا أنه أدى إلى إضعاف فكرة الوحدة الوطنية الجامعة لصالح هويات فرعية متباينة. يرى حوراني أن هذا النظام، مع فعاليته التاريخية، لا يمكن أن يتوافق مع متطلبات الدولة الحديثة التي تقوم على أسس المواطنة المتساوية والانصهار الوطني.
أحد أوجه نظام الملة هو السماح للطوائف غير المسلمة بالتواصل مع القوى الخارجية للحصول على الدعم أو الحماية. كما يشير ماسترز، كان هذا الترتيب مناسبًا للإمبراطورية العثمانية، حيث كانت السيادة مرنة نسبيًا. بينما تعتمد الدولة القومية الحديثة على مفهوم صارم للسيادة الوطنية، يمنع التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية.
كان نظام الملة يعتمد على الطوائف لجمع الضرائب وإدارتها داخليًا، وهو نموذج ملائم لاقتصاد زراعي بسيط. أما الاقتصاد الحديث، فهو أكثر تعقيدًا ويتطلب إدارة مركزية لتوزيع الموارد والخدمات بشكل عادل.
في الإمبراطورية العثمانية، كانت الهويات الطائفية واضحة ومحددة، مما سهل إدارة التنوع ضمن بنية سياسية هرمية، أما في المجتمعات الحديثة، فقد أصبحت الهويات متداخلة ومعقدة، إذ لم تعد الحدود بين الديني والثقافي والسياسي واضحة، مما يجعل التقسيم الطائفي أقل فاعلية ومصدرًا للنزاعات.
يشير أسامة مقدسي إلى أن الطائفية الحديثة ليست استمرارًا بسيطًا لنظام الملة، بل هي نتاج لتفاعلات معقدة بين الديناميات الداخلية والخارجية، بما في ذلك تأثير العولمة وتغير طبيعة الدولة الحديثة. في هذا السياق، يقترح أمارتيا سن تعزيز هويات متعددة ومتداخلة للمواطنين كوسيلة لتجاوز الانقسامات الطائفية وتحقيق استقرار مجتمعي أكثر شمولاً.
نحو رؤية مستقبلية
في عالم تتزايد فيه التحديات المتعلقة بإدارة التنوع، تبرز الحاجة إلى نماذج جديدة تتجاوز الأنماط التاريخية التي كرست التفاوتات والصراعات. تتطلب هذه النماذج تحولًا جذريًا في التفكير والتخطيط لضمان تحقيق التوازن بين حماية التنوع وتحقيق الوحدة الوطنية. بدلاً من استنساخ نظام الملة، يمكن للدول الحديثة استلهام دروسه الإدارية مع تطوير نموذج جديد لإدارة التنوع يقوم على المبادئ التالية:
تعزيز الشمولية: الشمولية لا تعني فقط تحقيق المساواة القانونية، بل تتجاوز ذلك إلى تعزيز الشعور بالانتماء المشترك. يجب أن تُبنى السياسات على احترام خصوصيات الثقافات المختلفة دون تمييز، مع ضمان حقوق جميع المواطنين. وتعزيز آليات الحوار المستدام بين الطوائف والمجموعات الثقافية هو مفتاح بناء الثقة والتفاهم المتبادل.
تعزيز الهوية الوطنية الجامعة: الهوية الوطنية ليست نقيضًا للهويات الثقافية أو الدينية، بل يجب أن تكون مظلة تجمع الجميع. هذا يتطلب استثمارًا كبيرًا في التعليم والإعلام لتعزيز القيم المشتركة، مثل الاحترام المتبادل والتسامح. الهوية الوطنية الجامعة تساعد في تقليل النزعات الانفصالية وتعزز الشعور بالمشاركة في مشروع وطني مشترك.
التوازن بين المحلي والمركزي: ينبغي أن تكون العلاقة بين الدولة والمجتمعات المحلية ديناميكية وقائمة على الشراكة. يمكن تحقيق ذلك عبر تمكين المجتمعات من إدارة شؤونها الثقافية والاقتصادية بشكل مستقل، مع الالتزام بسيادة القانون على المستوى الوطني. هذا التوازن يقلل من الشعور بالتهميش ويعزز الاستقرار الاجتماعي.
معالجة التفاوتات الاقتصادية: التفاوتات الاقتصادية هي أحد الأسباب الرئيسية للصراعات الطائفية. تحتاج الدولة إلى وضع سياسات تضمن توزيعًا عادلًا للموارد وتوفير فرص اقتصادية متساوية لجميع الفئات. يمكن أن تشمل هذه السياسات دعم المناطق المهمشة وتطوير البنية التحتية فيها لتقليل الفجوات التنموية.
نحو نموذج جديد للتنوع
في سياق الإمبراطورية العثمانية، أظهر نظام الملة جانبًا مزدوجًا؛ فقد كان أداة للتعايش والاستقرار، لكنه في الوقت نفسه عمّق التراتبيات وأسس لتفاوتات اجتماعية وقانونية. ساعد هذا النظام في احتواء التنوع، لكنه أرسى أيضًا أسسًا للهويات الطائفية ككيانات سياسية متميزة، ما ساهم في تفاقم التوترات على المدى البعيد.
في الدولة الحديثة، يتحول التحدي إلى كيفية تحقيق التنوع الثقافي والديني في إطار العدالة والمساواة، بعيدًا عن التفاوتات المؤسسية التي قد تؤدي إلى النزاعات. وبينما يُعد استنساخ نظام الملة غير ممكن بسبب تغير السياقات السياسية والاجتماعية، يمكن استلهام دروسه المتعلقة بالمرونة الإدارية والتعددية المنظمة. هذه المبادئ تقدم للدول الحديثة نماذج لإدارة التنوع بطرق تحقق التوازن بين الحفاظ على الخصوصيات الثقافية وضمان حقوق المواطنة المتساوية، ما يسهم في بناء مجتمعات أكثر عدلاً واستقرارًا.
مع سقوط نظام بشار الأسد، تدخل سوريا مرحلة جديدة تتطلب معالجة جذرية للإرث الطائفي والسياسي الذي عمّق الانقسامات في المجتمع. المرحلة المقبلة تتطلب التركيز على بناء دولة وطنية حديثة تضمن العدالة والمساواة لجميع مواطنيها، بعيدًا عن أساليب التهميش والتمييز التي كانت سائدة في العقود السابقة، وهذا يتطلب إعادة بناء الثقة المجتمعية والقيام بإصلاح شامل للمؤسسات الحكومية لتكون عادلة وشاملة، بما يضمن تمثيلًا متوازنا للجميع دون تمييز.
تحقيق الاستقرار يتطلب أيضًا إعادة إعمار شاملة تراعي احتياجات كل المناطق والفئات، مع إشراك المجتمعات المحلية في تحديد الأولويات عبر سبل الحوكمة المحلية والمشاركة في صناعة القرار.
في النهاية، يبقى تحقيق هذا الهدف مسؤولية جماعية تتطلب التزامًا طويل الأمد وجهودًا مشتركة بين القيادة السياسية، النخب الفكرية، والمجتمع المدني. بناء نموذج جديد لإدارة التنوع في سوريا بعد سقوط النظام السابق ليس مجرد استحقاق وطني، بل ضرورة لضمان مستقبل مستدام لجميع السوريين.
الترا صوت
—————————
السويداء بين الازدحام “المدني السياسي” ووهم التمثيل/ وضاح عزام
14-يناير-2025
منذ انبثاق الحراك الأهلي السلمي في السويداء في 17 آب/أغسطس 2023، وهو بمثابة دينامو لكل من عشق العمل السياسي والمدني، ولا نغفل أنه كان أيضًا بمثابة العمل بمعناه الحرفي للبعض -ولسنا بصدد الخوض في هذا البعض – لكن هو جزء موجود، وكان المحرك الأول للتجاذبات ورمي التهم والنقطة الفاعلة التي ارتكز عليها النظام البائد لشق صف الحراك في تلك الأيام.
بدأ الحِراك يفرز تيارات سياسية منها القديم، ومنها الذي نبت داخل الحراك، ومنها الأحزاب الأيديولوجية التي عفا عليها الزمن وتحاول إعادة الحياة لنفسها عبر منفسة الحراك، وأيضًا بدأت الساحة المكان الأمثل، بل والأهم والأوسع لمنظمات العمل المدني والفرق المستحدثة للخوض في غمار البناء.
وهنا نقطة أولى للارتكاز على الوهم. بدأ العمل المدني للمنظمات أولًا يأخذ مكان السلطة المنزوعة القدرة والمهترئة والمنسوفة البنى التحتية، فأصبحت هذه المنظمات تقوم بالمساعدات الإنسانية الطبية والغذائية والتشجير وتمديد الكهرباء للآبار، بل حتى وصيانة هذه الآبار، فكانت نقطة الوهم الأولى: إسقاط النظام تحصيل حاصل دون التفكير بلحظة السقوط الحقيقية؛ طيب حبيبي ماذا بعدها؟
هذا الخطأ الأول لمنظمات المجتمع المدني استلزم ذات الخطأ من المجتمع الأهلي، حيث دمج المصطلحان وأصبحت الفِرق والمجموعات البشرية التي تحاول القيام بعمل ما ضمن المدينة تسمي نفسها “عمل مدني”، وتعتبر أنها تمثل المجموعة التي تعمل معها، وبالتالي مؤسس الفريق أو الجماعة هو بالضرورة يحظى بتمثيل جماعته.
وهم التمثيل الأول
في سياق العمل السياسي، انخرطت الأحزاب والتيارات في التظاهر السلمي والعمل المدني، ونسيت مرغمة، نتيجة الإغراق في تفاصيل اليوميات، سؤالها الأهم ماذا بعد؟وهنا كان دائمًا الجواب تطبيق القرار 2254، لكن دون جواب لآليات التطبيق كيف تكون؟ وماذا لو سقط النظام فجأة؟
لقد غاب دورها التوعوي السياسي، وحتى دورها التعبوي، وأصبح الحزب أو التيار عبارة عن جماعة من الأشخاص يعتبر أمينهم العام أو أمين منظمتهم في المدينة ممثلًا عنهم، وفخامة اسم الحزب أو التيار تخلق النمط الوهمي للتمثيل: “فقد اجتمع ثلاث ممثلين عن ثلاث تيارات في السويداء وأعلن اتحاد الأهداف، وكان مجموع تياراتهم يساوي 22 شخصًا يزيد أو ينقص”، فالوهم بلغ هذا المستوى.
أما عن الأعداد فالواضح أن عدد سكان السويداء المسجل في النفوس داخل المدينة في عام 2014 هو 500 ألف نسمة، أما حقيقة الموجود في السويداء فقد فاق العدد المليون مع وجود وافدين من المناطق التي هدمها النظام البائد، وهنا يأتي السؤال الذي يبنى عليه الوهم الأساسي في التمثيل: كم تيارًا ومنظمة في السويداء تحوي أشخاصًا من أهلنا الوافدين؟
ولم ينته الأمر هنا، فقد ارتبط كل تيار غالبًا بصفحة إعلامية على السوشيال ميديا، بدأت بنقل الأخبار حتى أصبح عدد الإعلاميين في الساحة الذين يصورون الأخبار يساوي تقريبًا ثلث الحضور اليومي، ونسبة قد تتجاوز الخُمس في أيام الجمعة. وبحساب بسيط لعدد الناس الذين يسجلون اللايكات للصفحات إذا قلنا 200 ألف لايك أو 400 ألف لايك وبين التفاعل مع المنشورات، نجد المنشور 2000 لايك أو 3000 لايك. وهنا تتأكد من الوهم حيث إن تمثيل هذه الصفحات للناس أو متابعة الناس لها لا يتجاوز 1 بالمئة مع افتراض أن كل المشتركين هم من المحافظة.
هذا الوهم ازداد بعد سقوط النظام وتضخُّم أعداد الفرق والمنظمات والناشطين في الساحة، وأصبح الرعيل الأول للساحة يشعر أنه يمثل الجميع والسيد للجميع فينبري للحديث باسم الساحة أو باسم السويداء.
هذا ناهيك عن الفصائل وتعدادها الفعلي، وأنه في الحقيقة حين نقول قائد فصيل فهو يمثل رقمًا وقوة حقيقية فعلية على الأرض.
في ظل هذا الضياع تُحضِّر السويداء لاختيار ممثليها للمؤتمر الوطني المزمع عقده قريبًا. كل هذا في غياب واضح لآليات التمثيل أو آليات اختيار الممثلين، والذي يعود سببه الأول لغياب الآليات الحقيقية للجنة التحضيرية للمؤتمر في دمشق، والتي عُرف منها وبمحض الصدفة السيد محمد قنطار، وأيضًا في ظل اجتماعات كثيرة تعقّد ضمن السويداء للتحضير لانتخاب ممثلين ضمن ذات الوهم الذي يقول إننا نمثل السويداء.
ويبقى السؤال هنا متى وكيف سنعقد مؤتمرا للحوار الوطني؟ إذا اعتبرنا أن السويداء بوضعها مثالًا لباقي المحافظات.
الترا صوت
——————————
سوريا ما بعد الأسد… فرصة عربية وخليجية يجب اغتنامها/ عمار جلّو
الثلاثاء 14 يناير 2025
بزيارة مستشار الديوان الملكي السعودي إلى دمشق، فتحت الرياض أبوابها لزيارات واتصالات عربية وخليجية مع قيادة دمشق الناشئة، بعد برهة من الترقب الحذر تجاه الزلزال السياسي السوري وما قد يولّده من تداعيات جيوسياسية إقليمية.
قبلها، أبدى قائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع إعجابه بنموذج الخليج التنموي، ولعلها إشارة مبكرة لرغبة دمشق ببناء وتمتين علاقاتها مع إمارات الخليج العربي، بعد اصطفافها لعقود بجانب من هدّد هذه الدول. وبعد زيارة وزير الدولة للشؤون الخارجية القطري، محمد الخليفي، إلى دمشق، وصف الشرع المرحلة القادمة بأنها تنموية بامتياز، لقطر دور “فعّال” فيها. وكانت الرياض الوجهة الأولى لقادة الدبلوماسية والدفاع والاستخبارات في سورية الجديدة.
ليست التنمية جامع دول الجوار العربي فحسب، فالهواجس والتحديّات الأمنية أشد جمعاً، من خلال استهدافها لدول الإقليم بشكل مباشر أو غير مباشر، أو من خلال تأثير وتداعيات أزمات بعضها على البعض الآخر، كحال مياه الكبتاغون التي أمطر بها نظام الأسد دول الإقليم، والخليجية منها تحديداً.
ومع طي صفحة حكم الأسد البائد، والذي امتاز بتصدير وتأجيج الأزمات إلى دول الجوار، تُمنح هذه الدول فرصة انخراط إيجابي يساعد الجارة السورية ويعود بالفائدة على دولهم، وبما لا يدع مجالاً لإحدى هذه الدول بالهيمنة على الساحة السياسية السورية مستقبلاً، معيداً حقبة تأثير إيران وهيمنتها على سوريا خلال حقبة حكم عائلة الأسد البائدة، واستخدام ذلك لنثر الفوضى والقلاقل في دول الجوار العربي، والخليجي منها تحديداً، كحال استقطاب حركة أنصار الله اليمنية، المعروفة بالحوثيين أو “حزب الله السعودي” (خط الإمام) خلال مراحل زمنية متقطعة. أو من خلال مساهمته في تقوية وتغوّل حزب الله اللبناني على لبنان، مع استقطاب ودعم حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وكلاهما أدخلا دولهما والمنطقة بأزمات وصراعات وضعت دول المنطقة على فوهة بركان، خدمةً لمصالحهما الفئوية مع مصالح نظام الأسد وإيران.
ولكون سوريا يتم إعادة تشكيلها من جديد حالياً، قد يكون من المفيد لدول الإقليم المشاركة بإعادة رسم سوريا ومستقبل العلاقات معها لاحقاً، بما يجنّب أن تصبح سوريا أرضية مناسبة لتيارات التطرّف التي تنمو وتتضخم في الدول الهشّة أو المضطربة والمتصارعة، وحينها لا يمكن التنبؤ بإمكانية حصر الأنشطة الدموية والمزعزعة للاستقرار لهذا التيارات ضمن الجغرافية السورية. بجانب ذلك، من المفيد لهذه الدول فرملة أي عودة محتملة لقيادة سورية الناشئة إلى تقوقعها الأيديولوجي الذي تسعى للخروج منه، كما تشير الوقائع الحالية لغاية الآن.
إضافة لذلك، قد ترى دول الخليج العربي ضرورة عقلنة أي نشوة تركية محتملة ناشئة عن تسلّم حلفائها لمقاليد السلطة في دمشق، والذي قد تؤدي لإعادة تأجيج الصراع السوري، داخلياً وإقليمياً ودولياً. فرغم الاعتراف الضمني بالدور المتقدّم لأنقرة في سوريا، إلا أن أي زيادة على ذلك سيكون مرفوضاً من قبل الدول الخليجية والإقليمية والدولية. فالمملكة العربية السعودية، على سبيل المثال، ستتنافس مع تركيا على النفوذ في سوريا الجديدة، خصوصا في ساحات إعادة الإعمار وتمويل مبادرات تحقيق الاستقرار، فبالنسبة للرياض، الأمر لا يقتصر على سوريا، رغم اهتمامها التاريخي بسوريا، بل سيقترن جزئياً بحماية استثماراتها المحتملة في لبنان ما بعد تحييد “حزب الله”. وهو ما ينطبق على أغلب الدول الخليجية أيضاً، إلى جانب الأردن ومصر ومشاريعهما الخاصة بالربط الكهربائي وإمدادات الطاقة.
قد تكون أنقرة مدركة لعدم إمكانية الاستئثار بالساحة السورية، ولضرورة التفاهم مع الدول الخليجية والإقليمية على تقاسم الأعباء الثقيلة في الساحة السورية، مع التوافق على مشاريع التجارة وطرقها، بجانب المشاريع الطاقوية والاستثمارية والتنموية التي ستعود بالفائدة عليها جميعاً، وستكون الجغرافية السورية ضرورية في كثير منها. بجانب ذلك، قد تجد هذه الدول نفسها ملزمة بالتعاون على مواجهة تحديات باتت مشتركة بعد تغير وجه المنطقة، نتيجة حرب غزة وما تبعها من حروب، أظهرت فجور القوة الإسرائيلية وتغوّلها الإقليمي، مع انحسار المشروع الإيراني، بما قد يدفع طهران لعسكرة علنية لبرنامجها النووي، بعد تحطيم مصداتها العسكرية والمذهبية، التي أقامتها في دول الجوار العربي وفق عقيدة الدفاع الأمامي.
وحقيقة هناك العديد من المشتركات التي قد تجمع الخليج العربي ومصر وتركيا في سوريا وجوارها، سواء عبر تنسيق جهودهما لمناهضة التصرفات الإيرانية والإسرائيلية المزعزعة لاستقرار المنطقة، أو للهيمنة عليها. كذلك بتكملة كل منهما للآخر في مجال المال والطاقة وطرق إمدادها والسياحة والاستثمارات والصناعات الدفاعية وغير الدفاعية والجيوبولوتيك، إضافة لتشابه توجّهاتهما السياسية والاقتصادية مؤخراً، عبر تنويع شراكاتهما الدولية بعيداً عن الاستقطاب الدولي القائم، مع تنافسهما المحمود والمنفرد على ريادة دولهم على المستويات الإقليمية والدولية، وهو ما يمنح هذه الدول منفردة أوراق ضغط ونفوذ على الأخرى، بما يؤدي لموازنة النفوذ وعدم تغوّل دولة بمفردها على المنطقة.
ويبقى الأهم حالياً، مصلحتها المشتركة وقدرتها منفردة ومجتمعة على ممارسة الضغط على الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي لرفع أو تخفيف العقوبات المفروضة على سوريا بعد زوال حكم الأسد عنها، لضمان تأمين بيئة الاستقرار السورية اللازمة لعودة اللاجئين ولوحدتها الجغرافية والديمغرافية، مع دفن الاقتصاد القائم على الكبتاغون نهائياً، إضافة لسواه من الأزمات التي اعتادت سوريا الأسد تصديرها لدول الإقليم لقطف مكاسب سياسية أو اقتصادية، بجانب ضمان تحييد سوريا عن ساحات الاستقطاب التنافس والصراع الغربي مع روسيا، وهو ما يجب على هذه الدول ممارسة ضغوطها الممكنة على روسيا أيضاً، لضمان ذلك، ولضمان عدم تطرف موسكو بموقفها في سوريا ثانيةً، أو لفرملة وتطويق أي نوايا إيرانية محتملة لإعادة انخراطها السلبي في سوريا، بما قد يؤدي لتمزيق الأخيرة، ويحيل المنطقة، تالياً، لحالة الصراع والاستقطاب الإقليمي والدولي. وهو ما سينعكس سلباً على كل الدول الإقليمية، ولا سيما الخليجية، التي رسمت سياساتها مؤخرا على تنويع الشراكات الدولية، مع خطط تنموية طموحة تتطلب الاستقرار الإقليمي لتنفيذها، هذا بالإضافة لتداعيات هذه الدول على أمنها الوطني، وقد دفعت بعض هذه الدول أثمانه سابقاً، لاسيما خلال الولاية الأولى للرئيس الأمريكي المنتخب مجدداً، دونالد ترامب.
خرجت سوريا مؤخراً وأخيراً من حكم عائلة الأسد الناثرة لعدم الاستقرار والأزمات في المنطقة، ورغم سقوط هذا النظام على أيدي قوى ثورية تقودها مجموعة مصنّفة على قائمة الإرهاب الدولي، إلا أن ضرورة الانخراط الإيجابي لدول المنطقة ضرورة ملحة، سواء من واجبها الديني والأخلاقي والعروبي تجاه بلد شقيق، أو لضمان عدم انزلاقه مجدداً لدورة أخرى من العنف والصراع المحلي والإقليمي والدولي، بجانب ضمان عدم ذهاب الحكم السوري الناشئ بعيداً وراء شعبوية وطوباوية تيارات الإسلام السياسي المختلفة فيما بينها، لكنها متفقة على تفخيخ بلدانها لحساباتها الخاصة، أو لحسابات الغير.
وفي ظل التحديات والحاجات الجمّة، ستكون الأبواب واسعة أمام الدول العربية والخليجية الراغبة بتفادي مخاطر محتملة مستقبلاً من سوريا، وبتأمين وتعزيز مصالحها في سوريا، وبما يتوافق مع المصلحة السورية، مع حجز مقعد واسع في ساحة إعادة إعمار سوريا، قبل فوات الأوان.
رصيف 22
——————————–
لماذا يعتبر بشار الأسد ملهم رسامي الكاريكاتير العرب؟… سعد حاجو يجيب/ سيد محمود
الثلاثاء 14 يناير 2025
عبر تاريخ الفن والأدب ظل نموذج الحاكم الديكتاتور ملهماً لكثير من الأعمال الإبداعية الخالدة، ونظراً لشيوع هذا النمط في عالمنا المعاصر تحولت بعض الأعمال إلى علامات، مثل رائعة شارلي شابلن (الديكتاتور العظيم)، أو مسرحية “كاليغولا” من تأليف الفرنسي ألبير كامو.
عربياً جرى استلهام نماذج الديكتاتور في عدة أعمال إبداعية، لكن فن الكاريكاتير ظل دائماً أسرع من غيره في التفاعل مع هذا النموذج، بحكم طبيعته كفن يومي مرتبط بالصحافة وراهنية التعبير عن أي حدث.
ولا تزال رسوم فنان الكاريكاتير المصري حجازي دالة على ذلك، مثلها مثل رسوم بهجت عثمان، الذي وضع كتاباً مصوراً بعنوان “بهجاتوس” كرّسه بالكامل لنقد الاستبداد.
بعد هروب الرئيس السوري السابق بشار الأسد، استدعت ذاكرة السوريين الرسوم التي انتقدته طوال ربع قرن، ومن بين تلك الأعمال نالت أعمال الفنان سعد حاجو (56 عاماً) حظاً أفضل من غيرها، لأنها ظهرت في الصحف اللبنانية الأقرب جغرافياً للسوريين، والتي كانت فرص تداولها متاحة حتى قبل شيوع الإنترنت.
من دمشق إلى السويد
تخرّج حاجو من كلية الفنون الجميلة في دمشق في العام 1989، ونشر أعماله الأولى مع الروائي الياس خوري خلال فترة إشرافه على الملحق الثقافي لجريدة “النهار” اللبنانية عام 1993، وانتقل بعدها في العام 1995 إلى جريدة “السفير” بترشيح من الفنان المصري بهجت عثمان، وبعد سنوات لجريدة “القدس العربي” الصادرة من لندن. ثم هاجر إلى السويد عام 2005، ليبدأ بنشر أعماله هناك منذ العام 2009، وليحصل على جائزة “إيفيكو” للكاريكاتير، وهي أرفع جائزة للفن العالمي الساخر. وقد نالها عن مجمل أعماله، ولأسلوبه الذي وصفته بـ”السهل الممتنع، حيث يمتلك موهبة فنية عالية، وقدرة على السخرية الراقية والمزج الخاص بين العمق والبساطة وخفة الظل”.
قبل أن نفقد الأمل
يوضح حاجو أنه قد بدأ برسم بشار الأسد بداية من العام 2004 حين كان يعمل لصحيفة “السفير” اللبنانية، ويشير إلى أنه رسم نماذج محدودة جداً، لأن بشار إلى ذلك الحين لم يكن قد كشف بشكل كامل عن وجهه الديكتاتوري، وكان هناك من يعلقون عليه بعض الآمال في الفترة التي نمت فيها منتديات المثقفين وما سمي “ربيع دمشق”.
وينوه إلى أن ارتفاع السقف في الصحافة اللبنانية بوجه عام، هيأ له بعض الفرص لكي يواصل رسم بشار بقدر كبير من الحرية، ربما لأن المناخ العام كان قد تهيأ لنظرة مختلفة تحكم العلاقة مع سوريا عقب خروج الجيش السوري من لبنان .
مع اندلاع موجة احتجاجات، عام 2011، حسم حاجو خياراته، ووضع بشار في ذات القائمة التي ضمت معه طائفة من الرؤساء الذين حازوا لقب الديكتاتور، وواجهوا تحديات البقاء في السلطة في ظل معارضة شعبية واسعة. آنذاك انتبه لطريقة تعبير الأسد عن نفسه مقارنة مع غيره.
يقول حاجو: “لم أحاول إعادة إنتاج النمط الشائع في رسم الديكتاتور، لأن رواد مثل حجازي وبهجت عثمان في مصر أو صديقي علي فرازات، قدّموا أعمالاً عظيمة في هذا الإطار، ومن ثم لم أرغب في تنميط بشار في قالب ثابت، فقد لاحظت أن وجهه خلال سنوات حكمه الأولى عكس سعادته بكرسي الرئاسة، لكن تلك السعادة ظلت ممزوجة بشيء من الخوف، وكثيراً ما كانت يده تتحرك بعصبية وهو يخاطب الناس”.
مع مرور الوقت تعزز شعور الأسد بتمكنه من السلطة؛ فقد آمن بالحرس القديم وحصل على بعض الشرعية الدولية مع إغلاق ملف المحكمة الدولية التي تشكلت في أعقاب اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ولذلك توسع في الممارسات الديكتاتورية، وعندما جاءت احتجاجات 2011 نال الأسد الحصة الأكبر من هجوم المواطنين العرب، بسبب سجل نظام حزب البعث الحافل بمختلف صور الإجرام، فضلاً عن الطريقة التي تعامل بها الأسد مع الاحتجاجات الشعبية في مختلف المناطق.
تصرفات غير محسوبة
تابع حاجو من السويد، حيث عاش، صورةَ بشار من جديد، بعد أن اكتسبت ملامحه صفات لم تكن جلية أمامه من قبل ؛فالأسد كما كان يراه “لم يكن مهيأ لكي يكون ديكتاتوراً، فهو لم يتوقع وصوله للسلطة في ظل طغيان حضور شقيقه باسل الأسد، الذي كان يعد لحكم سوريا بعد أبيه، لولا أن موته في حادث سير شهير ورّط السوريين في شقيقه الأصغر. لهذا انسجمت تصرفاته مع فكرة الصدفة التي جاءت به إلى السلطة”. وكما يقول حاجو: “أمثاله يتصرفون عادة بكثير من الحماقة، وغالباً ما تكون تصرفاتهم غير محسوبة”.
لم يفاجأ رسام الكاريكاتير الشهير بسلوك الرئيس السابق بشار الأسد خلال العملية التي قادها لتصفية الثورة وعسكرة المواجهة مع خياراتها الأولى وكانت سلمية تماماً، بحسب تعبيره، “لكن الدعم الذي تلقاه من إيران وحزب الله وروسيا والصين مكنه من الاستمرار وتثبت دعائم حكمه ولم يغير من سياساته لكسب ثقة شعبه مطلقاً”.
أكثر ما لفت نظر حاجو في بشار أن “النصف اليمين في وجهه ليست له علاقة مع النصف الأيسر، وهذا شيء غريب فمع الوقت ظهر التباين في ملامحه بما يعكس صورة من صور الاضطراب”.
يتذكر أيضاً أكثر رسوماته شهرة خلال فترة الاحتجاجات، فقد رسم الأسد مرتبطاً بـ”حبة الذرة الشامية” أو “البوب كورن” الذي يسميه السوريون (بوشار،) ما يعني أن مساحة اللعب بالخطوط الكاريكاتيرية راهنت على مفارقة الاسم؛ فلدى أهالي الشام أغنية شعبية تقول “طير وفرقع يا بوشار”، وكانت ضمن شعارات المحتجين عند بدء الحراك الشعبي الداعي لإسقاط حكم البعث. لذلك استعملها حاجو ورسم الأسد وهو يطير، ثم رسمه من جديد وقد تحول رأسه إلى علبة “بوب كورن” بعد أن هبط أول طيار سوري منشق بطائرته في عمّان، بعد أن رفض تنفيذ أوامر السلطة بإطلاق قنابل على المحتجين.
في تلك الرسمة التي نالت شهرة كبيرة يظهر “قفا” الأسد وفوقه منه كلمة “أكل طيارة” التي تشير إلى أنه “أخذ قفا”، ففي العامية السورية تعنى عبارة “أخذ طياره” أنه تعرض لإهانة الضرب على مؤخرة الرأس، وعبر صورة من صور التلخيص والاختزال، أبرز حاجو طبيعة هذه المفارقة اللغوية وجعلها هي البطل.
سيرة شعبية بصرية
طوال 15 عاماً واصل حاجو رحلته في البحث عن وصف بصري ملائم لوضعية الرئيس، الذي كان محاصراً داخل قصره، فرفع شعار “رئيس من غير سبب قلة أدب” ضمن حملة وجدت تفاعلاً جماهيرياً كبيراً.
وفي مرحلة من مراحل تطور علاقته بصورة الديكتاتور فكّر حاجو في الاستفادة من السير الشعبية الشائعة في بلاد الشام، منطلقاً من مفارقة المجاز في عنوان “سفر برلك”، حيث قدم سلسلة بعنوان “أسد برلك”، تظهر معاناة السوريين في الشتات، فقد رسم اللاجئين السوريين وهم يقفون على هاوية تمثل وجه الرئيس الأسد ذاته.
كما رسم سلسلة أخرى بعنوان “البطة”، وهو اسم استعمله السوريون كشفرة لاستعارة للحديث عن الرئيس بسبب المراسلات التي تم تسريبها عن علاقته مع إحدى الصحافيات التي كانت تدلل الأسد بهذا اللقب بحسب التسريبات. وفي سياق آخر استغل الفنان صفة الطول الفارع للرئيس السابق ورسمه في صورة زرافة.
يؤكد حاجو أن كافة تلك الرسوم رسمها مستغلاً المفارقات التي كانت تقف خلفها ويضيف: “تعاملت معه كمحفز فني، لأن غياب الديكتاتور يحرم الفن من مادة غنية جداً لا يمكن تعويضها”.
على هذا أساس “التعاطي مع الديكتاتور كنموذج محفز”، رسم حاجو رؤساء آخرين، مثل معمر القذافي، وزين العابدين بن علي، كما رسم شارون، ونتنياهو، وأمراء من الخليج، إلى جانب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ولاحظ أن القذافي مثلاً يبدو مليئاً بالألوان لكن عيونه ظلت مطفأة، في حين بدا زين العابدين بن علي متشبثاً بالوقار، لكن حاجو أعطاه على الرغم من ذلك صفات طائر الغراب بسبب حرصه الدائم على ارتداء السواد، ورسمه وهو يطير هارباً من الثورة. أما ترامب فقد رسمه في لوحات متعددة وتعامل معه كموضوع تشكيلي و محفز بصري أكثر من كونه سياسياً طائشاً كما يبدو لمن يشاهده، وبالتالي صارت هناك جرأة في تشخيصه في أكثر من نموذج، وهو ملهم أكثر من غيره لرسامي الكاريكاتير الذين يحبونه لأنهم استفادوا مادياً من بيع الرسوم التي تسخر منه.
يقول حاجو: “رد فعل الشخصية هو ما يلهمني ويمنحني مفتاح فهم ملامحها، لذلك استهلك الزعماء الآخرين بسرعة لأنهم غادروا مناصبهم، في حين أصرّ الأسد على البقاء في السلطة وتدمير بلاده بمنهجية لا تخفى على أحد”.
زميل قديم
ساعد على ذلك أن ملامح الأسد كانت مطبوعة في ذاكرته، فالعلاقة مع ملامحه تاريخية بالطبع، فكلاهما من نفس الجيل، وكثيراً ما رآه خلال سنوات الدراسة في جامعة دمشق.
طوال سنوات شبابه كان الأسد الصغير يقدم كوجه مدني، بخلاف بقية أفراد العائلة الذين طغت عليهم الصفة العسكرية، وحين واجه احتجاجات 2011 حرص على ارتداء الزي العسكري، وهو أمر حفز حاجو لرسم ما رصده من تناقضات في علاقة الرئيس بزيه الجديد، فرسمه وهو يرتدي زيا عسكرياً ويضع في قدمه “شحاطة” من البلاستيك.
كما لاحظ الرسام أن الأسد الأب ظل دائماً في وضعية الصنم الذي يفكر في الخفاء، بينما يتحرك بشار قلقاً طوال الوقت بطريقة تكشف توتره. في ما بعد رسم الأسد الصغير وإلى جواره فريق المستشارين الذين ساهموا معه في تدمير سوريا، وخص بثينة شعبان ومعها عم الرئيس السيد جميل الأسد في سلسلة حملت عنوان “جميل بثينة”، فقد رأى السوريون أن ملامح بشار ليست جميلة، ومن تلك المفارقة استدعى حاجو من التراث العربي قصة “جميل بثينة” واستعملها في إبراز علاقة الاستلاب التي كانت تحكم علاقة بشار مع مستشاريه.
كما تابع في رسوم أخرى حضور زوجته أسماء الأسد التي كانت ترغب في التحكم بالسلطة، وساءت علاقتها مع زوجها في ما بعد لأسباب معروفة.
قبل ذلك بسنوات شارك سعد حاجو في العمل كممثل مع زياد الرحباني في الجزء الثاني من المسرحية الشهيرة “بخصوص الكرامة والشعب العنيد”، وبالتحديد في “لولا فسحة الأمل”، حيث لعب دور مواطن سوري يعيش في لبنان.
استفاد حاجو كثيراً من النزعة الكاريكاتيرية لدى زياد الرحباني، لأن جيله كله امتلك فهماً عميقاً للطابع النقدي في مسرح زياد، ويرى أن أعماله ظلت مطبوعة في أذهان الشباب هناك، يضيف: “وقت أن تقابلت معه اكتشفت أنه شخص بالغ البساطة في حياته اليومية، لكنه بالغ الدقة والتنظيم فيما يخص أعماله، فلا مجال فيه لأي تهاون”.
كما يلفت إلى أن البنية النصية لأعمال زياد تماثل إلى حد كبير البنية في مسرح محمد الماغوط، وهناك الكثير الذي يجمع بينهما في هذه المسألة، وبالذات تحويل المفاهيم إلى شخصيات، يقول: “ما لفت نظري أكثر من أي شيء، أن لدى زياد جرأة في نقد الذات أفادتني كثيراً في عملي كرسام كاريكاتير، كما أن لديه قدرة على الدهشة واستشراف المستقبل”.
يتابع: “لم يتأثر تقديري لفن زياد الرحباني ولا صداقتي معه رغم تحفظي البالغ على بعض مواقفه السياسية، والتي يؤمن بها بصدق وليس تحقيقاً لغرض أو مصلحة”.
ويضيف: “كانت الأحداث تتلاحق، ولم تمنحنا الوقت لمعاتبة زياد أو مناقشته في وجهة نظره التي لم تعد بنفس الألق الذي كانت عليه في الماضي، لكن حزّ في نفسي كثيراً عدم قدرته على التعاطف مع ضحايا الديكتاتور، فالتعاطف الإنساني مع الضحايا أمر غير مشروط”.
اعتباراً من العام 2006، استقرّ حاجو في السويد، و بدأ نشر أعماله هناك في عدة صحف سويدية، كما شارك في معارض ومسابقات كبرى، وبعد أعوام طويلة من البقاء هناك، يقر بأن شعوره بفهم جديد لمعنى الحرية في الغرب ساعده كثيراً في تطوير أفكاره وتقنيات الخطوط، فقد وجد نفسه فرداً ضمن منظمة يتمكن فيها الناس من انتخاب ممثليهم في البلديات والبرلمان ومؤسسة الرئاسة، ولم يجد أمامه كرسام أي خط أحمر.
وجد سعد حاجو في سنوات إقامته الأولى، أنه أمام تحد البحث عن شيء آخر ينبغي تقديمه للقارئ الإسكندنافي، فالصعوبة كانت في انتقاد مصلحة الضرائب وليس الزعيم السياسي، لكن أكثر شيء أفاده هناك مرتبط بتفصيل صغير يتمثل في السرعة الفائقة للإنترنت، فكان يتمكن من متابعة الأحداث والتفاعل معها بسرعة وإرسال رسوماته إلى الصحف التي يعمل معها.
ظلّ حاجو يتساءل عن أسباب استمرار الدعم الأوروبي لبشار رغم كل ما فعله بشعبه، لكن الإجابة وصلته مع أحداث غزة كما يقول، فقد أدرك أن التناقض بين الشعارات والممارسات بات واضحاً وأصبح من الصعب حله، كما صار من الواضح أن الغرب يحرس الأنظمة الفاشية بدلاً من إجبارها على الاستجابة لمطالب شعوبها.
رصيف 22
——————————–
“عائدون إلى سوريا”… سقوط النظام يعيد الخيارات إلى اللاجئين السوريين في تركيا/ موسى جرادات
الثلاثاء 14 يناير 2025
“استبينا”، يقول هاشم بكور (50 عاماً)، من ريف حلب، ويملك محلاً لبيع الخضروات والفواكه في إسنيورت في إسطنبول، بلهجته السورية، ويعني أننا فعلنا كل شيء هنا، ونريد العودة إلى مكاننا الطبيعي. وردّاً على سؤال رصيف22: “متى العودة؟”، يجيب: “لن أنتظر كثيراً. أحتاج إلى شهرين فقط حتى أسلّم المحل وأنتهي من الحسابات المالية وأعود. أرسلت ابني حسن، قبل أيام إلى حلب، لكي يستطلع الأحوال تمهيداً لعودة العائلة”.
أما أبو محمود مرعي (58 عاماً)، من ريف حلب، فلم يحسم أمره بعد. يقول لرصيف22، إنه يريد أن يطمئن على الوضع الأمني في سوريا، قبل أن يتخذ قرار العودة، فمسألة الأمن والأمان ضرورة بالنسبة له: “لقد فقدت ثلاثةً من أشقائي هم وعائلاتهم في الحرب، نتيجة قصف النظام في العام 2013، ولا أريد أن أذهب دون ضمانات”، صحيح أنّ قرار العودة بالنسبة لأبي محمود متّخذ، لكنه ينتظر الوقت المناسب، فكل الذين التقيناهم من السوريين في إسطنبول يريدون العودة إلى سوريا، والمسألة مسألة وقت فحسب.
نهاية التغريبة السورية؟
مرّ وقت طويل على اللاجئين السوريين في تركيا، قبل أن يصلوا إلى “لحظة النهاية”، نهاية تغريبتهم التي طالت كثيراً. ففي السنوات التي خلت من عمر هجرتهم القسرية، كان الأمل يصعد ويهبط، تبعاً لحال سوريا وحربها الطاحنة.
سوريون عائدون من تركيا إلى بلدهم
مطلع شهر كانون الأول/ ديسمبر 2024، بدأت ملامح الأمل الممزوج في اليقين، ترتسم على وجوههم. “المعارضة المسلحة استعادت حلب، وهذا يعني أنّ توازناً ما قد حدث، توازن يجعل المرء أقرب إلى العودة”؛ هذا ما يقوله محمد الفرج (42 عاماً)، واللاجئ إلى تركيا حيث يقيم في منطقة أفجلار في إسطنبول، وهو من ريف القنيطرة، ويعمل مترجماً محلّفاً معتمداً لدى الدوائر الرسمية التركية.
ناصر الخطيب (55 عاماً)، صاحب محل مفروشات في إسطنبول، التي قدِم إليها من دمشق قبل أكثر من عشر سنوات، يتحدث إلى رصيف22، عن تسارع الأحداث التي وصلت حدّ سقوط النظام. يقول: “الأثر كان واضحاً وجليّاً لنا جميعاً. إسقاط النظام يعني أنه أصبح لدينا خيار آخر، غير هذا الخيار الذي نحياه، ونتحمل بصعوبة كبيرة تبعاته على كل الأصعدة. سقوط النظام يقابله صعودنا”. قالها ولحظات الفرح بادية على وجهه، فالخيار الجديد بالنسبة له ولغيره ممن قابلهم معدّ التقرير، يعني العودة إلى الديار وبدء البناء من جديد.
الكثير من السوريين الراغبين في العودة، يعتقدون أنّ عودتهم مسألة وقت. كل من حاورهم رصيف22، أظهروا رغبةً في العودة سريعاً، ولكن كلهم يريدون أن يكملوا بعض الإجراءات الضرورية. غالبية المواعيد التي ضربوها لعودتهم ترتبط بشهر رمضان، أو انتهاء الموسم الدراسي، أو انتهاء الصيف.
“بداعي السفر”
أمّ عمار مدخنة (65 عاماً)، القادمة من دمشق قبل 14 عاماً لاجئةً إلى تركيا، تسكن في إسنيورت في إسطنبول، وتعمل مدرّسةً للتربية الدينية في إحدى الجمعيات الخيرية. عرضت قبل أيام على مجموعات واتساب، عفش منزلها للبيع، تحت عنوان: “بداعي العودة إلى سوريا”، وبالمناسبة غالباً ما كان السوريون في إعلاناتهم يضعون جملة “بداعي السفر”، دون تحديد الوجهة، وفي حالة أم عمار كانت الوجهة محددةً هذه المرة.
محمد أمين، درعاويّ يعيش في إسطنبول، قرر عدم الانتظار: “سأعود إلى درعا بعد أيام بصحبة عائلتي، وسيبقى أحد أولادي ليهتم بإنهاء بقية التفاصيل”. أمين البالغ من العمر 70 عاماً، لم ينقطع عنه الأمل؛ غالباً ما كان يحلم باقتراب هذا اليوم. “لقد بدأت بالاتصال بالأقارب في سوريا، لتحضير المنزل الذي سأستقرّ فيه”.
بعض السوريين الذين يمتلكون منازل في تركيا، عرضوا منازلهم للبيع. ليلى محمد (64 عاماً)، من دمشق، عرضت منزلها للبيع في إسطنبول والذي اشترته قبل سنوات بعد حصولها على أموال التقاعد من وكالة “الأونروا” التي عملت فيها مرشدةً اجتماعيةً، وطلبت من وكيلها في دمشق عدم تجديد عقد إيجار منزلها هناك، لأنها ستعود بعد بيع منزلها في إسطنبول.
ثورتنا على الموروث القديم
سوريون عائدون من تركيا إلى بلدهم
52 ألف عائد
منذ سقوط النظام قبل شهر تقريباً، بلغ عدد السوريين العائدين إلى بلادهم، 52 ألفاً حتى اليوم، وفق إحصائيات وزارة الداخلية التركية. صحيح أنّ هذا الرقم قليل جداً، نسبةً إلى أعدادهم التي بلغت قرابة 3 ملايين لاجئ، لكن من الملاحظ أنّ وزارة الداخلية التركية أعطت تصاريح سفر للسوريين، للذهاب لزيارة سوريا، واشترطت في هذا التصريح أن يُعطى لفرد واحد من العائلة، تُسمح له بزيارة سوريا والعودة قبل نهاية شهر تموز/ يوليو 2025. الهدف من تصريح الزيارة هذا، استطلاع الوضع وتأمين فرصة العودة في المستقبل القريب، لكن الوزارة لم تفصح حتى كتابة هذه السطور، عن عدد التصاريح التي منحتها إلى الآن.
الحكومة التركية من جانبها، أصبحت مقتنعةً بأن مسألة اللاجئين في تركيا، أصبحت منتهيةً، ولم تعد موضع تجاذبات داخلية كانت حتى الأمس القريب عنواناً صادماً متكرراً بينها وبين المعارضة. واللافت أنّ الأتراك، قد طووا هذه المرحلة، فقبل أسبوع كانت لهم تظاهرة في إسطنبول تحت شعار: “بالأمس آية صوفيا، واليوم الأموي، وغداً الأقصى”.
سوريون عائدون من تركيا إلى بلدهم
وما يؤكد هذا التوجه، حديث سائق التاكسي التركي، قبل أيام معدّ التقرير، عندما سأله: “من أي البلاد أنت؟”. وعندما أجابه بأنّه من فلسطين، قال له: “بعد دمشق، القدس إن شاء الله”.
للدقة، فإنّ مجريات الأحداث في سوريا، سمحت لتيار شعبي تركي بإعلان رأيه، وبصورة علنية بأنّ تركيا معنية اليوم أكثر من أيّ وقت مضى بالتدخل في الشأن الإقليمي، وفلسطين من أولوياتها. وتنعكس خطابات المسؤولين الأتراك، على الشارع مباشرةً. جار معد التقرير، العجوز التركي، طلب منه الانتظار قليلاً: “فقط سنة واحدة، وسترى الفرق في ما يتعلق بفلسطين، عليك بالصبر فقط”. سمعت كلامه، وكل ما كان يعنيني منه أن نزعة العنصرية والعنصريين التي استفحلت كثيراً، في السنوات الثلاث الماضية، قد تراجعت إلى حدودها الدنيا، بعد أن اتضحت الصورة، ولم يعد هناك قلق من “الديموغرافيا السورية التي تهدد النسيج التركي”، وفق مزاعم النخب السياسية التركية في الأحزاب العنصرية، والتي بنت نصها السياسي على قضية اللاجئين السوريين، كحزب “الظفر” وحزب “الجيد” وأصوات أخرى داخل حزب الشعب الجمهوري المعارض.
وبالمناسبة، بعد إعلان سقوط النظام ودخول المعارضة إلى دمشق، يلاحظ السوريون المقيمون في تركيا غياب الحملات الأمنية التي كانت تستهدف الأجانب، خاصةً السوريين منهم، ولم يعد يلاحَظ جهاز الشرطة التركية وهو يوقف المخالفين منهم، وعادت الأمور إلى سنوات اللجوء الأولى، حيث بات هناك تسامح أكبر مع السوريين الذين دخلوا تركيا تهريباً عبر الحدود البرّية الطويلة بين البلدين، فالحملات الأمنية بالأساس، كانت تستهدف كل من لا يستوفي شروط الإقامة الإنسانية، وبذلك ينتهي الهدف من الحملات تلك. كما وصف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، السوريين الراغبين في البقاء بتركيا بـ”ضيوفنا”.
تبعات اقتصادية
ومع طي صفحة الماضي وبدء صفحة جديدة، لا تزال هناك قضايا شائكة، تتعلق بالوجود السوري في تركيا، وشكله المستقبلي، بعد الحديث غير الرسمي من قبل صحافيين أتراك وبعض العاملين السوريين في الشأن الإعلامي، عن مسعى الحكومة التركية خلال منتصف الصيف المقبل، لإلغاء نظام الحماية المؤقتة للسوريين “الكمليك”، وفتح المجال لمن يريد البقاء منهم في تركيا، وذلك من خلال تحويل “الكمليك” إلى إقامة نظامية تُعطى بعد توافر شروط البقاء في تركيا، كوجود “إذن عمل”، أو قبول جامعي للطلاب، فتقديرات المتابعين للشأن السوري، تفيد بوجود 500 ألف عامل سوري في مختلف القطاعات الإنتاجية، منهم 100 ألف عامل مسجّل بشكل قانوني حتى لحظة سقوط النظام. وفي كل الأحوال، ما زال الوقت متاحاً، لبناء تصوّر حكومي يأخذ في الحسبان حاجة الاقتصاد التركي إلى العمالة السورية، فلم تعد المسألة السورية مسألةً إنسانية وسياسيةً، بعد سقوط النظام، وهي في طريقها لتتحول إلى علاقة ثنائية تقوم على المنفعة للطرفين، خاصةً بعد أن جنّست الحكومة التركية، 238 ألفاً و55 شخصاً من السوريين الخاضعين للحماية المؤقتة، بشكل استثنائي منذ بدء اللجوء السوري، تحت بند الجنسية الاستثنائية، وفق معايير حددتها مسبقاً، منها حيازة المتقدم شهادةً جامعيةً، أو إثبات وجود مشروع استثماري له في تركيا، وربما هذا الأمر سيرتبط مستقبلاً بالعمالة السورية المسجلة بشكل قانوني، لناحية إضافتها إلى قوائم المجنّسين.
مراحل متعددة
لقد مرّت الشخصية السورية بمراحل متعددة، منذ أن بدأت محنة اللجوء، وغالباً لم تكن تعبّر عن كينونتها الأصلية، بعد أن أحاطت نفسها بالغموض، بهدف الدفاع عن الذات التي تعرّضت للكثير من الاهتزاز والخيبات وفقدان الأمل، فلقد كان الشعور الطاغي لدى غالبية اللاجئين السوريين، أنهم لم يكونوا فقط ضحايا للنظام السوري السابق، بل ضحايا للمعارضة السورية أيضاً التي تركتهم دون تمثيل مصالحهم في دول اللجوء، بالإضافة إلى تخاذل المجتمع الدولي والمؤسسات المنبثقة عنه في حمايتهم وتقديم الدعم المالي والقانوني لهم. مثلّث “المظلومية” هذا، جعلهم يشعرون بأنّ خلاصهم فرديّ، ما رتّب أعباء إضافيةً عليهم، زاد من حدّتها انعدام الأفق السياسي لحلّ قضيتهم، وبعد إعلان سقوط النظام، أصبحت كل الخيارات متاحةً أمامهم.
اليوم كان الفرح بادياً على وجوه الجميع، “لقد تخلصنا من كل الظروف التي دفعتنا إلى اللجوء، وأصبح لدينا دولة ووطن وسنعود جميعاً”، وفق محمد درويش (42 عاماً)، القادم من مدينة حلب، والذي يعمل في مكتب لتقديم الخدمات الاستشارية الطبية للقادمين العرب، في ما يُعرف بـ”السياحة الطبية”. درويش الذي لا يخفي بعض القلق على مستقبل العودة إلى سوريا، نتيجة الأخبار عن عدم عودة الاستقرار الأمني إلى حلب، يقول برغم ما سبق: “لقد خُيّرنا الآن بين البقاء في تركيا، تحت رحمة الغلاء الفاحش، والعودة والبناء من الصفر… المهم أصبح لدينا خيار آخر”.
رصيف 22
————————
=====================