قصور رفعت الأسد وأشباحه: قصة إمبراطورية «سفّاح حماة» العقارية كما لم تُروَ من قبل/ أنمار حجازي
15-01-2025
* * * * *
أهم الخلاصات
– بدأ رفعت الأسد بنهب الأموال في سوريا منذ صيف العام 1969 على الأقل، حين قام بالاستيلاء على بناء يعود لآل القباني في وسط دمشق، وأَجبرَ العائلة على التخلي عنه بعد قيام أزلامه بخطف أحد أطفالها.
– بدأ رفعت الأسد باقتناء العقارات السكنية الفاخرة في فرنسا منذ نهاية السبعينيات على الأقل، أي قبل حوالي خمسة أعوام من خروجه الاضطراري من سوريا عام 1984.
– راكم رفعت الأسد أمواله مبكراً في مصارف لبنانية مثل البنك اللبناني الفرنسي وبنك عودة، وبالتحديد في فرع الأخير في جنيف، وساعدته شخصيات لبنانية مثل الشيخ فادي الخوري وألبير لحام في اقتناء العقارات.
– تعاملَ رفعت الأسد مع مكتب موساك فونسيكا الفاسد لتأسيس أولى شركاته الصّورية في بنما، وهو المكتب الذي بُنيت قضية «أوراق بنما» عام 2016 على تسريب مُستنداته. كما تعامل في جبل طارق مع مكتب الأخوة ماراتشي، الذين انتهى بهم المطاف في السجن بتهمة الاحتيال المالي.
– أسس رفعت الأسد أولى شركاته الصّورية في بنما في بداية الثمانينات تحت إسم الشركة العربية الدولية للتجارة، بالشراكة مع رجلي الأعمال أحمد فاروق حبي ووليد جلنبو من دمشق.
– خلال فترة ثلاثة شهور فقط في 1984، اشترى رفعت الأسد عقارات في فرنسا وبريطانيا تجاوزت قيمتها 220 مليون فرنك فرنسي، دفعَ القسم الأكبر منها نقداً.
– بعد خروجه من سوريا، اعتمد رفعت الأسد على زوجتيه؛ الثالثة رجاء بركات والرابعة لين الخيّر، وعلى ابنه فراس الأسد حتى بداية نهاية التسعينات، كواجهات لشَرِكاته، مع غياب كامل لزَوّجتيه الأولى والثانية وأبنائه الذكور دُريد ومُضر.
– خلال عامين فقط، 1986-1988، اشترى رفعت الأسد أكثر من 450 عقاراً في منطقة ماربيّا في إسبانيا بقيمة تتجاوز 64 مليون دولار أو ما يعادل 180 مليون دولار بأسعار اليوم.
– في التسعينيات لعب سومر الأسد دوراً في إدارة امبراطورية والده العقارية، ومن ثم انتقلت بعض المهام إلى سوار ومحمد علي، لكن رفعت بقي صاحب القرار الفعلي على طول الخط.
– تُقدَّرُ قيمة ممتلكات رفعت الأسد العقارية في فرنسا بنحو 100 مليون يورو، أما في إسبانيا فمن المرجح أنها تجاوزت 800 مليون يورو مع الارتفاع المستمر في قيمة العقارات الفاخرة في كلا البلدين، فيما قُدّرَت قيمة بيت لندن قبل خمس سنوات بنحو 28 مليون يورو.
* * * * *
«أنا لست مهتماً بالمال، ولا أعرف شيئاً عن أموالي وعقاراتي، لا أعرف حتى كيف اشترينا العقارات. كل ما يهمني هو الدفاع عن مصالح الشعب السوري وسوريا، فأنا صاحب مشروع سياسي وأريد خدمة بلدي ولن يقوم أحد بهذا الأمر أفضل مني».
رفعت الأسد
في 24 تشرين الأول (أكتوبر) 2016، في وقتٍ انشغل فيه الكثيرون في سوريا بمجريات المعارك الدموية الدائرة في شمال البلاد، أو بمحاولات نجاتهم منها، جَلس شقيق الديكتاتور السوري السابق حافظ الأسد، رفعت، داخل قاعة المحكمة في قصر العدل في باريس، في أولى جلسة استجواب رسمي له أمام القضاء الفرنسي.
هو المكان نفسه الذي أُقيمت فيه محاكمات شركة لافارج التي اتُّهمت بتعريض حياة موظفيها للخطر عام 2014 بسبب عملهم في الرقة خلال سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية عليها، والمكان نفسه الذي حُكم فيه لاحقاً على عدد من رجال المخابرات السورية (علي مملوك وجَميل حسن وعبد السلام محمود) بالسجن المؤبد على خلفية جرائم ضد الإنسانية.
جلس في مواجهة رفعت الأسد في قاعة المحكمة قاضي التحقيق الفرنسي الشهير رونو فان رومبيك، المختصّ في قضايا الفساد السياسي والمالي. وكانت جمعية شيربا الفرنسية، المتخصصة بمحاربة الفساد، قد قدّمت شكوى بحق رفعت الأسد أمام مكتب المدعي العام في باريس في 16 أيلول (سبتمبر) عام 2013، متهمة اياه بنهب المال السوري العام، وتبييض الأموال المنهوبة في إطار عصابة للجريمة المُنظّمة. وبعد انطلاق عملية البحث والتقصي الرسمي، أضاف القاضي فان رومبيك تهمة ثالثة، وهي التهرُّب الضريبي نتيجة إخفاء عمل مجموعة من الموظفين المقيمين على الأراضي الفرنسية.
امتدَّ التحقيق القضائي ست سنوات كاملة، من بداية عام 2014 وحتى نهاية عام 2019، ليصل عند ذلك إلى مرحلة المحكمة العلنية. وخلال هذه المُدة، وجد رفعت الأسد نفسه مضطراً، للمرة الأولى وربما الأخيرة في حياته، للحديث عن نفسه وعن عائلته وعن تاريخه السياسي في سوريا أمام سلطة علنية عامة، ومُجبَراً على تبرير مصدر ثروته الهائلة بشكل أو بآخر، وذلك في جلسة استماع حر أولى جرت في شتاء 2015، وثلاث جلسات استجواب مُفصّلة أمام القاضي فان رومبيك في الأعوام 2016 و2017 و2018.
شهدَ أمام المحكمة في باريس أيضاً أشخاصٌ من عيار نائب رئيس الجمهورية السوري الأسبق عبد الحليم خدام، ووزير الدفاع السابق مصطفى طلاس، والمعارض السوري ميشيل كيلو، بالإضافة إلى عدد من الخبراء الأكاديميين المختصين بالشأن السوري. ومن جهة رفعت الأسد، استمعت المحكمة إلى زوجتيه الثالثة والرابعة رجاء بركات ولين الخيّر، وأولاده سومر وسبلاء وسوار وريبال ومحمد علي، إلى جانب بعض أعوانه وموظّفيه القدامى والجدد.
وبالإضافة إلى هذه الشهادات، استند قاضي التحقيق في عمله البحثي إلى السجلات العقارية الفرنسية، وملفات وحواسيب صودِرت من مكاتب رفعت الأسد، وتسجيلات لمكالمات هاتفية بين أبنائه وموظفيه تم التنصت عليها، بالإضافة إلى تنسيق وتبادل للمعلومات على مستوى القارة الأوروبية بأسرها. وفي إسبانيا تحديداً، أدى التنسيق مع السلطات الفرنسية إلى فتح تحقيق قضائي كامل هناك، أسفر عن مجموعة مستقلة من الشهادات والمعلومات العقارية والمالية المُفصلة المرتبطة برفعت الأسد وثلاثة عشر شخصاً آخر من أفراد عائلته وموظفيه.
تقرؤون في هذا التحقيق
بالاستناد إلى الوثائق الفرنسية الرسمية المفصّلة التي تمخّضت عن محاكمة رفعت الأسد، وتقرير التحقيق الإسباني الكامل الذي قامت به السلطات القضائية في مدريد ولم يصل إلى مرحلة المحاكمة بعد، بالإضافة إلى عدد من المقابلات المُعمَّقة والبحث في مصادر نوعية مثل أوراق بنما وتسريبات وكيليكس وأرشيف الصحافة العالمية، يروي هذا التحقيق السردي قصتين متداخلتين:
تُقدِّمُ القصة الأولى تصوراً متكاملاً ومفصلاً عن إمبراطورية رفعت الأسد العقارية في فرنسا وإسبانيا وبريطانيا، وكيف أدارها منذ نهاية السبعينيات بشكل مُعقد ومدروس بالتعاون مع شخصيات محددة من أفراد عائلته وموظفيه، وذلك من خلال شبكة هائلة من الشركات الصورية أو الشبحية الموزعة في عدد كبير من الملاذات الضريبية في العالم.
أما القصة الثانية فتُضيء على التكتيكات والمُحاججات المتعددة التي لجأ إليها رفعت الأسد وعائلته وفريق محاميه لنفي تهمة الفساد ونهب الأموال العامة، وعلى رأسها حجة التمويل السعودي، وما كشفته المبارزة القضائية بين الطرفين من حلقات مفصلية في قصة صعود رفعت الأسد، وعلاقاته المحلية والإقليمية والدولية المتشعبة منذ نهاية الستينيات وحتى يومنا هذا.
ومن خلال هاتين القصتين، نُقدِّمُ لقراء العربية والإنكليزية الرواية الصحفية الأكثر تفصيلاً وتوثيقاً في الحيّز العام، حسب معرفتنا، عن رفعت الأسد في صعوده وهبوطه المدوي، بما يُسهم في تبديد هالة الغموض وكم الشائعات الكثيرة التي لطالما أحاطت بالرجل «الأكثر فساداً في بلدنا» على حد تعبير أحد شهود المحكمة السوريين، ويضع مسألة الفساد وتبييض الأموال وممارسة الجريمة المنظمة في سوريا ضمن سياقها الإقليمي والعالمي.
لا يحتاج معظم السوريين والمتابعين للشأن السوري لتحقيقٍ مُطوَّل لمعرفة أن رفعت الأسد متورط في نهب المال العام في سوريا، فهذا أقرب لأن يكون من البديهيات، لكنهم سيجدون في السطور التالية حقائق عيانية قادرة على تحويل انطباعاتهم العامة ومروياتهم المتناثرة إلى قصة مُوثّقة مُفصّلة ومتماسكة، يمكن الاستناد إليها في العمل الصحفي والأكاديمي والحقوقي المتعلق بسوريا، ولا سيما في الجهود الجارية حالياً لتعقُّب أموال رفعت الأسد المُجمّدة في أوروبا وتحويلها إلى صندوق يعود على سوريا والسوريين بالفائدة.
1- بدايات التسوّق العقاري
«لقد كنتُ القائد الروحي لسرايا الدفاع لكن لم يكن لي فيها منصبٌ رسمي. سافرتُ إلى موسكو مع مئتي شخص بمهمة رسمية واعتقدتُ أن بإمكاني العودة، لكن أخي أخلفَ بوعده. لم يكن معي أكثر من خمسة آلاف دولار!».
رفعت الأسد
على مدى السنوات الست التي استغرقتها محاكمة رفعت الأسد في فرنسا، وجد فريقا الادعاء والدفاع أنفسهم أمام استعادة متكررة لعام 1984، بصفته عام ظهور رفعت على المسرح الفرنسي، واللحظة الأكثر مفصلية على صعيد نهبه للمال السوري العام. فبعد محاولته الفاشلة في الاستيلاء على الحكم، وحسب شهادتَي عبد الحليم خدام ومصطفى طلاس أمام المحكمة، اعتمد خروج رفعت من سوريا في أيار (مايو) من ذلك العام على صفقة مالية ضخمة عقدها مع حافظ الأسد، حصل بموجبها على 300 مليون دولار، شملت 200 مليون دولار من المال العام المتوافر في سوريا وقتها، و100 مليون أخرى اضطُرَّ الأسد الأكبر لاقتراضِها من معمر القذافي، فأرسلها الأخير على شكل شيكات سفر مصرفية مع العميد محمد الخولي.
لكن التدقيقَ في قائمة ممتلكات رفعت الأسد في فرنسا، وتاريخ شرائها، يُظهر بوضوح امتلاكه سلفاً لثروة تسمح بالاستثمار العقاري في بعض أغلى أحياء باريس قبل ما يقارب خمس سنوات من خروجه من سوريا على الأقل، واتّباعه منذ ذلك الحين نهجاً في اقتناء العقارات الفاخرة سيستمرُّ على حاله بعد انتقاله إلى العاصمة الفرنسية منفياً هو وعائلته وحاشيته الضخمة.
ففي الشهور الأولى من عام 1980، في وقت بلغ فيه رفعت الأسد أوجَ قوته في سوريا على رأس ما عُرِفَ باسمِ «سرايا الدفاع»، اقتنى الرجل ذو الثالثة والأربعين من العمر عقارين مُختلفين في الدائرة السادسة عشر غرب باريس، التي كانت وما تزال عنواناً لأغنى أغنياء فرنسا والعالم. هناك، على جادة دو لامبال بالقرب من نهر السين وفي مقابل السفارة التركية تماماً، اشترى رفعت الأسد في شهر كانون الثاني (يناير) من ذاك العام قصراً صغيراً على النمط الباريسي التقليدي (hôtel particulier)، سكنه سابقاً إمبراطور فيتنام الأخير باو داي. وبعد شهرين فقط، ألحق به طابقين كاملين من قصر أكبر يقع على جادة فوش الشهيرة، على مقربة من قوس النصر وقصور امتَلكها آل روثشايلد وأوناسيس يوماً، وعلى بعد حوالي النصف ساعة مشياً على الأقدام من القصر الأول، مروراً بساحتَيّ تروكاديرو وفيكتور هوغو. كلّفت عمليتا الشراء حسب السجلات الفرنسية الرسمية مبلغاً يتجاوز 14 مليون فرنك فرنسي وقتها (ما يعادل 13 مليون دولار بأسعار اليوم).
ومنذ تلك الصفقات الأولى، لم يقتن رفعت الأسد هذه العقارات باسمه بشكل مباشر، بل من خلال شركات صورية مُسجَّلة خارج فرنسا، وبالتحديد في بلدان صغيرة تُعرف عالمياً بكونها «ملاذات ضريبية»، لما تُقدِّمه من تسهيلات وإعفاءات ودرجة أكبر من الخصوصية لقطاع الأعمال عموماً، وخصوصاً للشرِكات الناشطة خارج حدودها (ما يعُرف باسم «شركات الأوفشور»). فاقتنى دارة جادة لامبال باسم شركة سومر التي قام بتأسيسها في إمارة ليختنشتاين في بداية شهر تشرين الأول (أكتوبر) من عام 1979، ومَثَّلَها شخصٌ يدعى الشيخ فادي شارل الخوري، والطابِقين الثالث والرابع من قصر جادة فوش عبر شركة إيلْم للاستثمار التي تم تسجيلها في جزيرة كوراساو الكاريبية التابعة لهولندا في نهاية تشرين الأول (أكتوبر) عام 1979 أيضاً، ومَثَّلَها شخص يدعى ألبير لحّام.
وبالنظر إلى الأسماء والتواريخ وعناوين العقارات والشركات المُنتقاة بعناية، يبدو واضحاً أن رفعت الأسد بدأ يستفيد في تلك الفترة من شبكات وخبرات لبنانية راكمها بعد دخول الجيش السوري إلى لبنان عام 1976، قدمت له الخدمات في مجال الاستثمار العقاري الفاخر، وفي كيفية العمل عبر واجهات تجارية صوّرية خاضعة لأنظمة قانونية شديدة التساهل، تحجب هوية المستثمر الحقيقي وراء مستويات متعددة من الكيانات والأفراد، وتسمح بتحريك وتبييض أموال مشبوهة المصدر.
قبل خروجه من سوريا أيضاً، وبالتحديد في 1982، وسّعَ رفعت الأسد رقعة أملاكه في فرنسا مرة أخرى، في صفقة جديدة ستتخذ أهمية كبرى بعد ذلك. ففي أيلول (سبتمبر) من ذلك العام، وبعد تشكيل شركة جديدة تحمل اسم آيّم (غير «إِيلم» آنفة الذكر) في ليختنشتاين أيضاً، اشترى رفعت أرضاً بلغت مساحتها 45 هكتاراً في ضاحيتَي بُسانكور وتافِرني شمال غربي باريس، عُرفت باسم «اسطبلات سان جاك». كان هذه الأرض منذ عام 1975 تعود للأمير (وفيما بعد الملك) عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، الذي كثيراً ما أُشيع أنه عديل رفعت الأسد. والحقيقة أن الرجلين عرفا بعضهما عبر حسن محمد الخيّر، حَمي رفعت الأسد منذ العام 1973 والصديق المُقرَّب لأحد إخوة الأميرة حصّة بنت طراد الشعلان، زوجة الأمير عبدالله، لكن دون أن تربطهما أي قرابة. ستقول العائلة لاحقاً إن الأمير السعودي قدَّمَ الأرض والقصر الذي فيها لمساعدة رفعت الأسد على إيواء حاشيته بعد خروجهم جميعاً من سوريا، لكن تاريخ الشراء يوضح انتقال ملكية العقار قبل سنتين كاملتين من هذا الخروج.
مثّلَ حسن الخيّر شركة آيم في صفقة الشراء، ودفع مبلغ 6 مليون فرنك فرنسي (ما يعادل 3 مليون دولار بأسعار اليوم) بشكل مباشر لممثلي الملك دون وساطة عقارية أو مصرفية، باستثناء أتعاب المُحلَّف العام. وحسب عمدة بُسانكور، شهدت الأرض في عام 1982 أعمال بناء باذخة وضخمة، فباتت تشملُ قصراً مؤلفاً من سبع شقق وسبعة بيوت أخرى، بمجمل مساحة تتجاوز 2000 م2. لكن شهادته لا توضح إن كان الأمير السعودي قد تكفَّلَ بهذه الأعمال كهدية أو لقاء خدمات قدمها له رفعت الأسد، أم أن الأخير قام بها على نفقته الخاصة بعد إتمام عملية الشراء.
2- الخروج الكبير والإنفاق الباريسي الأكبر
«عندما وصل الأمير عبدالله وزوجته إلى جنيف لزيارتنا في صيف عام 1984، رأوا بأم أعينهم الأوضاع المُزرية لمن خرجوا معي. بعد ذلك، قرر الملك فهد والأمير عبدالله التكفّل بجميع النفقات».
رفعت الأسد
خلال جلسات استجوابه الخمس أمام القضاء الفرنسي، غيَّر رفعت الأسد الكثير من كلامه وناقضَ نفسه أحياناً بين جلسة وأخرى، لكن وَصفَهُ لأولى مراحل نفيه من سوريا بقي ثابتاً لم يتغير. خرج الرجل مع حاشيته إلى موسكو أولاً، ومنها بعد أسبوعين إلى جنيف حيث أمضى أربعة أو خمسة شهور «بائسة»، اضطُر فيها بعضُ أتباعه إلى النوم في الحدائق ومواقف السيارات، إلى أن زارهم ولي العهد السعودي الأمير عبدالله وزوجته الأميرة حصّة، ووصل وفدٌ من الرئيس فرانسوا ميتران يدعوه وحاشيته إلى الإقامة في فرنسا، فانتقلوا جميعاً إلى باريس في خريف عام 1984.
في سرده للأحداث، ركّزَ رفعت الأسد دوماً على علاقاته السياسية، وحاول جاهداً الترفع عن حديث المال، لكن المال كان دوماً في قلب الأحداث.
أثناء إقامته القصيرة في جنيف، وحسب معلومات حصل عليها الادعاء الفرنسي من السلطات القضائية السويسرية، فتح رفعت الأسد حساباً مصرفياً في بنك عودة اللبناني، ليُضاف بذلك إلى حسابات كانت لديه سلفاً في البنك اللبناني الفرنسي وبانك دو جنيف، وحساب في بنك إس بي إس السويسري وصلت إليه في الفترة ذاتها تحويلات كبيرة من البنك المركزي السوري، وذلك تبعاً لتقرير داخلي كتبه موظف بنك عودة الذي قام بإدارة حساب رفعت الأسد على مدى ثلاثة عقود. وبعد انتقاله إلى باريس، باشر رفعت الأسد ودائرته المقربة فوراً باستثمار مبالغ هائلة من الأموال في ممتلكات عقارية جديدة وبسرعة خاطفة، دون أن يغيروا شيئاً في نمط الاقتناء المتّبع سلفاً أو يبتعدوا عن العقارات الأولى.
ففي غضون شهرين فقط، أيلول وتشرين الأول، قامت العائلة أولاً بشراء باقي طوابق قصر جادة فوش لقاء 27 مليون فرنك فرنسي (أي حوالي 9 مليون دولار اليوم). اشترت زوجة رفعت الثالثة، رجاء بركات، الطابقين الخامس والسادس، وذلك عبر شركة مُسجَّلة في بنما تدعى آرمادورا آريستوكراتس، في حين امتلكت شركة الجنان المُنشأة في عام 1982 في ليختنشتاين الطابقين الأول والثاني، ومَثَّلَها المحامي بيتر ماركسر وزوجة رفعت الرابعة لين الخيّر. دفعت الجنان مبلغ الشراء المستحق عبر شيك صادر عن بنك عودة بتاريخ 17 تشرين الأول (أكتوبر) 1984، ليمتلك رفعت الأسد بذلك كامل بناء فوش الذي احتوى على 27 شقة، بمساحة إجمالية تبلغ 1689م2.
وخلال الأسابيع القليلة ذاتها، أنفقَ رفعت الأسد مبلغاً طائلاً من المال عند شرائه 60 شقة سكنية جديدة في باريس، انقسمت على بنائين حديثين فاخرين مُطلَّين على نهر السين. وقع البناء الأول على بعد خطوات قليلة جداً من قصر جادة دو لامبال، على جادة الرئيس جون كينيدي المحاذية للنهر، ويُعَدُّ تحفة هندسية حقيقية من الطراز المعماري الحداثي الشهير لو كوربوزييه. في حين وقع الثاني على شارع أندريه ستروين المحاذي لضفة نهر السين من الجهة الأخرى، في منطقة جافيل من الدائرة الخامسة عشر، وكان قد بُني على الطراز الحداثي أيضاً في عام 1978.
بلغت الكلفة الإجمالية لصفقات شراء شقق كينيدي وسترون مبلغاً قدره 111.480.000 فرنك فرنسي (حوالي 42 مليون دولار اليوم). وسجّلت المحكمة باهتمام أن الغالبية العظمى من هذا المبلغ تم دفعه في المكتب العقاري نقداً أثناء شهر تشرين الأول. امتلك رفعت الأسد الشقق عبر شركة سنون المُنشأة في بنما قبل أيام قليلة من إتمام الصفقة الأولى، والتي مَثَّلتها زوجتاه رجاء بركات ولين الخيّر، وبذلك بات رفعت مختبئاً خلف خمس شركات صورية أو خمس «أشباح» عبّرت عن مصالحه العقارية في مدينة باريس: سومر، إيلم، آيم، الجنان، وسنون، بقيت جميعها دون أي نشاط اقتصادي حقيقي، باستثناء فرع فرنسي لشركة سنون بدأ منذ أول التسعينيات بتأجير شقق بنائي كينيدي وسيتروين المفروشة.
بقيت هذه الشقق الستون الاستثمارَ العقاريَّ الأضخم لرفعت الأسد في العاصمة باريس، لكنها لم تكن الأخيرة. اقتنت شركة الجنان عام 1985 شقة أخرى على جادة دو لامبال، مواجهة تماماً للقصر، بمبلغ قدره 2.6 مليون فرنك فرنسي (ما يعادل اليوم حوالي 850 ألف دولار)، ومثّلَ الشركة في هذه الصفقة ابن رفعت الأسد فراس، في أول ظهور من هذا النوع لجيل الأبناء. ويبدو أن رفعت الأسد اقتنى قصراً آخرَ بالقرب من جادة فوش في الفترة ذاتها، وسجلّه باسم ابنه فراس أيضاً، ولكنه تمكَّنَ من إعادة تسجيله باسمه وبيعه سريعاً أثناء سنين المحاكمة الأولى قبل صدور أوامر الحجز على ممتلكاته. ولذلك لا تورد سجلات المحاكمة أي معلومات عن مبالغ البيع والشراء.
وفي عام 1988، سيشتري رفعت الأسد شركة مُسجَّلة منذ عام 1960 في شارع ڤيڤيين في الدائرة الثانية بالقرب من متحف اللوڤر، وسيدفع باسمها مبلغ 5 مليون دولار (ما يعادل 12 مليون دولار بأسعار اليوم) لقاء أرض غير مُعمَّرة على شارع جزمان (شارع الياسمين) على مقربة من كل ممتلكاته السابقة في الدائرة السادسة عشر. قسّمَ رفعت ملكية الشركة هذه بين أولاده: دريد وفراس وسومر وسوار وريبال وعلي ومي الأسد، وذلك حسب شهادات رفعت وسوار وريبال أمام المحكمة. اقتنت العائلة هذه الأرض لإقامة مؤسسة إعلامية وراديو، لكن المشروع واجه عدة تعقيدات بعد ذلك ولم يرَ النور قط.
أما الإنفاق الباريسي الأبرز الذي لم يتوقّف منذ تلك اللحظة، فكان على الأثاث والمقتنيات الفنية في قصر جادة فوش تحديداً، والذي برز بصفته بيت رفعت الأسد الرئيسي في باريس، والمكان الذي بات لاحقاً يعود ليُقيمَ فيه دوماً عند مروره بالعاصمة الفرنسية قادماً من إسبانيا أو بريطانيا. استوعبت البيوت في أرض سان جاك في بُسانكور-تاڤيرني القسمَ الأكبر من الحاشية التي غادرت مع رفعت في عام 1984، وقُدّرَ عددها بحوالي الـ200 شخص، وتم تأجير معظم الشقق السكنية في كينيدي وسترون، في حين استعمل رفعت وأولاده عقارات دو لامبال كمكاتب. أما قصر جادة فوش فتم تكريسه بصفته المنزل-المقرّ الذي راكمت فيه العائلة التحف والمفروشات الفاخرة ولوحات فنية هامة لرسامين انطباعيين وحداثيين. تجاوزت القيمة الإجمالية لأثاث ومحتويات قصر فوش في عام 2014، حسب تقدير الخبير القانوني، 7 مليون يورو (أو 12 مليون دولار بأسعار اليوم)، وبلغت قيمة السجّاد وحده من ضمنها حوالي 1.5 مليون يورو (2.5 مليون دولار اليوم).
3- عقلٌ مُدبّر واحد خلف مئة ستار
«أنا لا أملك شيئاً! حتى الآن لا أملك أي شيْئ! أنا لا أملك المال، وأكره المال أصلاً. اليوم، إن لم يعطني أولادي المال أبقى بلا شيء!».
رفعت الأسد
في كل مرة حاول فيها رفعت الأسد الترفُّعَ عن حديث المال أمام القضاء الفرنسي، كان القضاة يصّرون عليه أن «يتنازل» ويُقدِّمَ شرحاً لكيفية مراكمة الأموال والثروة. وفي كل مرة بعد هذا الإصرار، كان رفعت يلجأ، بعد تكتيك الترفُّع باسم السياسة، إلى تكتيك آخر: إحالة الموضوع كله إلى الدائرة المحيطة به من أفراد العائلة. فحسب أقواله، تولى حَمَواه عبد الوهاب بركات وحسن الخيّر ترتيب أمور العائلة المالية والعقارية في المرحلة الأولى بعد خروجهم من سوريا، وفيما بعد تمكَّنَ أولاده بفِطنتهم من توسيع حجم أملاكهم بشكل حقيقي، دون أن يكون لديه هو أي دور أو معرفة حقيقية بما يحصل. في إحدى الجلسات، في خضّمِ حماسة الإنكار، قال رفعت أنه أصلاً «شبه أُمّي»، وذلك بعد دقائق فقط من التأكيد على أنه سياسي قيادي.
بعكس ذلك، شهد أنطوان لوفيان، مدير أملاك رفعت في باريس في الفترة الممتدة بين 1995 و2010، أن الرجل هو صاحب القرار الأول والأخير في كل شيء، وأنه «يمتلك ذاكرة مدهشة ويحفظ كل ما لديه بالاسم». واستعان الادعاء أيضاً بتسجيلات الاتصالات الهاتفية بين أولاد وموظفي رفعت خلال فترة التحقيق، والتي بدا فيها واضحاً اعتمادهم جميعاً على موافقته وخوفهم الشديد من غضبه. وحتى دون هذه القرائن، التي لم تكن لتحضر دون تحقيق قضائي رسمي، بإمكان المرء تَبيُّنُ دور رفعت الأسد المحوري في بناء إمبراطوريته المالية، من خلال تتبع آلية تشكيل الشركات الصورية أو الشركات-الواجهات التي ارتبطت به في أنحاء العالم، وكيف تَغيَّر مُدراؤها من أفراد العائلة بشكل دوري يُثبت هامشية أدوارهم جميعاً بالمقارنة مع مَن لا يظهر اسمه أبداً ولكنه يُحرّك كل شيء.
في تموز (يوليو) من عام 1981، على سبيل المثال، وحسب مَحاضر خط اليد المختومة والمُصدَّقة التي حصلنا عليها، تم تأسيس شركة في بنما باسم الشركة العربية الدولية العامة للتجارة وتسمية أربع مدراء سوريين لها، كانوا يدورون جميعاً في فلك رفعت الأسد في دمشق في ذلك الوقت، وهم حَموه حسن محمد الخيّر، ابن حَميه حسان حسن الخيّر، ورجلا الأعمال الدمشقيان أحمد فاروق حبي ووليد عبد الوهاب جلنبو. وبعد أربع سنوات، تخللها طبعاً خروج رفعت الأسد العاصف من دمشق، في الوقت ذاته الذي ظهر فيه اسم فراس الأسد كممثل لشركة الجنان في باريس، فتح مكتب المحاماة البنمي، المسؤول عن تمثيل وتسيير معاملات الشركة، محضراً جديداً في سجلّاتها وعَدَّلَ قائمة المدراء: خرجَ حسان الخيّر وحلَّ محله فراس رفعت الأسد. وعلى الرغم من أن فراس لم يكن يتجاوز التاسعة عشر من العمر وقتها (مواليد شباط 1966) سينصُّ التعديل أيضاً على أنه لا يحق لأي مديرين اثنين للشركة أخذ قرار مُلزِم بخصوصها إن لم يكن فراس الأسد واحداً منهما. خرج حسان الخيّر ودخل فراس الأسد بكل سلاسة لأن الاثنين لم يكونا إلا واجهتين لصاحب القرار الفعلي: رفعت الأسد.
ومن المُرجَّح أن تكون الشركة العربية الدولية للتجارة هي الشركة الأقدم التي سجّلها رفعت الأسد في بنما، وهي لا تُثبت فقط انخراطه في خلق الشركات الصورية قبل خروجه من سوريا، كما في حالة سومر وآيم وإيلم والجنان، بل وعدم ارتباط هذه الشركات بالضرورة بممتلكاته العقارية التي تم حصرها في فرنسا وإسبانيا وبريطانيا. فلا ذكر لهذه الشركة في وثائق التحقيقات الفرنسية والإسبانية بصفتها مالكاً لأي عقار. هل امتلكت الشركة أملاكاً في أماكن أخرى؟ أم ساعدت على تحريك أموال تم كسبها في سوريا؟ من المستحيل معرفة ذلك دون تعاون قضائي من السلطات البنمية نفسها، أو شهادات المدراء الباقين. أما مكتب المحاماة البنمي الذي أشرف على تسجيل وتيسير أمور الشركة العربية الدولية للتجارة فلم يكن إلا مكتب موساك فونسيكا ذائع الصيت، الذي ساعد آلاف الأثرياء في العالم على التهرُّب الضريبي وتخبئة الثروة والإفلات من الملاحقة منذ نهاية السبعينيات، قبل أن تُدمّره تسريبات أوراقه التي باتت تعرف باسم أوراق بنما في عام 2016، وتُحوِّلَ مالكيه يورغن موساك ورامون فونسيكا إلى مطلوبين للعدالة في أكثر من سبعين بلداً.
القصر الأكبر في لندن بعد باكينغهام
في بنما أيضاً، وبعد العربية الدولية للتجارة وسنون، بدأ رفعت الأسد شيئاً أشبه بورشة لا تنتهي من تأسيس الشركات-الواجهات، ليبلغ عدد شركاته البنمية التي تمكَنّا من تقفّي أثرها 33 شركة حتى العام 1996. وعبر هذه الشركات تحديداً، وأخرى مرتبطة بها مسجّلة في جزر القناة الإنكليزية وفي جبل طارق، تمدد رفعت الأسد نحو الاستثمار العقاري خارج فرنسا، مُنفِقاً مبالغ طائلة في بريطانيا أولاً، ومن ثم في إسبانيا، في غضون سنتين فقط، أي قبل أن يتجاوز أي من أولاده من رجاء ولين أوائل العشرينيات، وبشكل تراكُمي خاطف يؤكد أنه امتلك أموال الشراء سلفاً، ولم يعتمد على مكاسب بيع بعض هذه العقارات ليقتني عقارات أخرى.
ففي تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 1984، وكان قد انقضى شهر واحد فقط على عمليات شراء شقق كينيدي وسيترون في باريس، وكان رفعت الأسد يزور سوريا مُرافِقاً لفرانسوا ميتران في زيارته الرسمية لدمشق، اقتنى السياسي «شبه الأُمّي» عبر شركة منير للتطوير المسجلة في بنما، والمرتبطة بشركة تدعى أوبوس للإدارة والخدمات المالية في جزيرة غيرنسي في القناة الإنكليزية، القصرَ الخاص الأكبر في مدينة لندن بعد قصر باكينغهام، المعروف باسم ويتانهيرست. دفعت الشركة لقاء القصر نفسه، الواقع في منطقة هايغيت شمال لندن، والمكوَّن من 60 غرفة، مبلغاً قدره 7 مليون جنيه إسترليني (ما يعادل 30 مليون دولار اليوم)، وذلك حسب أرشيف صحيفة التايمز. ومن المحتمل أن تكون الشركة قد اشترت أيضاً حق تطوير 24 منزلاً جديداً في جزء من الأرض المحيطة بالقصر، والبالغ مساحتها 4.5 هكتار، لقاء مبلغ آخر تجاوز 7 مليون جنيه إسترليني.
استثمر رفعت القصر بأشكال متعددة، لكنه لم ينفق المال المطلوب لصيانَته، علماً أنه مُدرَج في قائمة الأملاك التاريخية في بريطانيا من الدرجة الثانية، مما أدى إلى تدهور حالته بشكل خطير واستدعى شكاوى متعددة من مجلس البلدية المسؤول في المنطقة. في النهاية، باعت العائلة القصر عام 2007 لقاء 32 مليون جنيه إسترليني، لينتقل سريعاً بعد ذلك إلى أيدي أفراد من الأوليغارشية الروسية.
وِديان وغابات كاملة في إسبانيا
أما العدد الأكبر من الشركات البنمية فيبدو أنه ارتبط باستثمارات رفعت الأسد في إسبانيا، والتي بدأت حسب السلطات الإسبانية في تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 1986. في ذلك العام وحده، أسَّسَ رفعت 11 شركة بَنمية، سبقها في عام 1985 تأسيس ثلاث شركات، ولحقها في عامي 1987 و1988 أربع شركات أخرى. وحسب البحث في المعلومات المُتاحة عبر مشروع الكشف عن الجريمة المنظمة والفساد العابر للحدود (OCCRP)، تولّت إدارة معظم هذه الشركات اسمياً في تلك الفترة زوجتا رفعت، رجاء بركات ولين الخيّر، وهما الأصغر منه بـ15 و18 عاماً على التوالي، وكذلك ابنه فراس الذي كان أكبر أولاده المقيمين خارج سوريا.
بالتوازي مع تأسيس هذه الشركات، قام رفعت الأسد في الفترة ذاتها بتأسيس 29 شركة في جبل طارق، اشترى باسمها عقاراته الإسبانية، و29 شركة قابضة تمتلك تلك الشركات المالكة للعقارات، وتكون بدورها مملوكة من الشركات البنمية. علاقات الملكية متعددة المستويات هذه حكمها أيضاً تقسيم معقَّد للأسهم، بحيث انقسمت ملكية كلّ شركة مالكة لعقار على عدة شركات قابضة، وانقسمت ملكية كل شركة قابضة في جبل طارق على عدة شركات في بنما. وبالإضافة إلى ذلك، كان يتم نقل ملكيات الأسهم بالجملة من شركة لأخرى بشكل دوري، وتغيير أسماء بعض الشخصيات الإدارية، وقد يتم نقل الشركات نفسها من دولة إلى أخرى، بشكل يجعل من الصعب جداً تعقّب المالك الأخير لكل شيء. أدار هذه العملية المعقدة في جبل طارق منذ البداية مكتب محاماة الإخوة إسحاق وبينامين وسولمون ماراتشي، الذين انتهوا بدورهم وراء القضبان في عام 2010 جراء إدانتهم بتهم الاحتيال والسرقة في قضية منفصلة.
تجاوباً مع السلطات الفرنسية في أيار (مايو) 2016، وبعد تقصٍّ أوّلي كشفَ الحجم الهائل للعقارات في إسبانيا والطريقة المعقدة في إخفائها وراء شركات-أشباح لم تمتلك يوماً نشاطاً اقتصادياً حقيقياً، اضطُرّ القاضي الخاص في قصر العدل الإسباني خوسيه دي لا ماتا آمايا إلى توسيع عمله، ليشمل فريقاً كاملاً من المحققين باتت مهمتهم حصر ملكيات رفعت الأسد وتحديد طبيعة تمويلها. استمرَّ عمل الفريق عامين كاملين، تبيّنَ خلالهما أن شركات رفعت الأسد دفعت مبلغاً يقارب 64 مليون دولار (ما يعادل اليوم 180 مليون دولار) خلال ورشة شراء تأسيسية بين تشرين الثاني 1986 وتشرين الثاني 1988، حملت حسب المحققين كل علامات غسيل الأموال.
اقتنى رفعت الأسد لقاء هذا المبلغ 461 عقاراً في مقاطعة ملقة جنوب أسبانيا، وبالتحديد في «أماكن استراتيجية» في منطقة كوستا دل سول (أو شاطئ الشمس) الممتد من ملقة مروراً بمصيف ماربيّا الشهير وحتى بلدة إستيبونا. شملت العقارات 244 موقف سيارات في مجمع وفندق بينابولا الفاخر، الواقع في مارينا بويرتو بانوس على شاطئ ماربيّا، و94 شقة سكنية، و28 فيلا في المُجمّع نفسه، بالإضافة إلى 98 فيلا في مشروع غراي دي ألبون الضخم الذي جمع في داخله مركزاً للتسوق وفندقاً وشققاً سياحية مفروشة، وصرّحَ عنه جميع أفراد العائلة بصفته عنوانهم الشخصي في إسبانيا.
أما «جوهرة التاج» فكانت الأرض الخضراء المعروفة باسم لاميكينا في بلدة بيناهاڤيس، الأبعد قليلاً عن الساحل. امتدّت «الأرض» على مدى أكثر من 420 هكتاراً، واحتلّت ما يقارب ثُلث المساحة الإدارية للبلدة، وشملت سلسلة جبال بحالها، فيها سيلٌ متدفق ووادٍ كاملُ الخُضرة وغابات للصنوّبر والكينا. قُدِّرت قيمة لاميكينا في عام 2017 بـ65 مليون دولار، وتردَّد في الصحافة الأسبانية والعالمية وقتها أن تطويرها عقارياً سيضاعف قيمتها عشر مرات، بالنظر لقربها من مجمّع القصور والفيلات الأعلى ثمناً في إسبانيا المعروف باسم لا زاغاليتا، حيث يقال إن فلاديمير بوتين يملك قصراً إلى جانب أثرياء روس آخرين.
وفي المحصلة، قدّرَ التقرير الصادر عن قاضي التحقيق الإسباني في عام 2019 القيمة الإجمالية لجميع ممتلكات رفعت الأسد في إسبانيا بما يقارب 700 مليون يورو، شملت بالإضافة للعقارات الأقدم 46 عقاراً جديداً اشتراه رفعت الأسد بين عامي 1988 و2005، بالإضافة إلى مجوهرات و8 سيارات فاخرة و3 يخوت تم إصدار أوامر بالحجز عليها أيضاً.
ولحظَت وثائق المحكمة الفرنسية الرسمية والتحقيق الإسباني اقتناء رفعت الأسد في إسبانيا في عام 1987 طائرة بوينغ من موديل 200-727، تتسع في العادة لـ180 شخصاً لكنه كان يستعملها كطائرة شخصية له، قبل أن يضطر للتخلي عنها لحكومة الأردن عام 1994 بعد تَخلُّفه عن دفع تكاليف ركنها في عمّان على مدى سنتين كاملتين.
4- المال والبنون: الجيل الثاني من الأولاد يتولى المسؤولية
«قام سومر الأسد بتوظيفي في منتصف التسعينيات. كان علي الأسد يجلب لي مبلغ مئتي ألف يورو بشكل نقدي كل شهر لأدفع منه رواتب للموظفين والأتباع. وكنت أقوم بسحب الأموال أيضاً من حساب تابع لسلمى مخلوف في باريس».
أنطوان لوفيان
لم تهدأ ورشة اقتناء العقارات وخلق الأشباح التجارية بعد العام 1988، لكن وتيرتها تراجعت بلا شك، أقله بالنظر لإسبانيا وفرنسا وبريطانيا. قد يكون هذا دليلاً آخر على مركزية دور رفعت الأسد في بناء إمبراطوريته العقارية، فقد عاد إلى سوريا عام 1992 لحضور جنازة والدته، فبقي في البلاد حتى عام 1997 أو 1998. وبالفعل، لم تشهد بنما تأسيس أي شركة مرتبطة باسم رفعت الأسد وعائلته في عام 1992 تحديداً، وذلك للمرة الأولى منذ بداية الثمانينيات. كما لم تسجل الوثائق الفرنسية أو الإسبانية أي عمليات شراء خلال تلك الفترة، باستثناء عقار تجاري واحد اقتُني عام 1994 في بويرتو بانوس لقاء حوالي 360 ألف دولار.
بالمقابل، سيعودُ النشاط العقاري بزخم ملحوظ في نهاية 1997، مع شراء أكثر من 6000 م2 من المكاتب والعقارات التجارية في بنائين متجاورين يقعان على جادة شارل ديغول شمال مدينة ليون الفرنسية، وقطعة أرض غير مبنية في منطقة فيرني-فولتير الواقعة ضمن فرنسا إدارياً والملاصقة في الوقت نفسه لمِطار جنيف الدولي في سويسرا. وجنوباً، عاودت العائلة تَسوُّقها العقاري في إسبانيا عام 2000 لتُراكِم 24 عقاراً جديداً في غضون 4 سنوات، تركزت معظمها داخل مجمع بينابولا نفسه، وامتدت نحو جبل طارق لتشتري بناءً تجارياً كاملاً هناك مكوناً من 7 طوابق.
أما في لندن، وإثر بيع قصر ويتانهيرست عام 2007، اشترى رفعت الأسد دارة سكنية (تاون هاوس) في منطقة مايفير الراقية في قلب العاصمة البريطانية، وانتقل للعيش فيها مع لين الخيّر وابنه الأصغر محمد، لتكتمل بذلك سلسلة قصوره التي كشفت عنها التحقيقات في فرنسا وإسبانيا. وبلغت الكلفة الإجمالية لطفرة التسوّق العقاري الثانية هذه، بين عامي 1997 و2007، حوالي 140 مليون دولار بأسعار اليوم.
أربع زوجات، ست عشر ابناً وابنة
لكن الأهم من «لائحة مقتنيات» فترة الاستراحة تلك هو التغيُّر الذي شهدته عائلة رفعت الأسد في الوقت نفسه، والذي سيلقي بظلاله على التحقيقين الفرنسي والإسباني، وعلى لائحتي الشهود والمتهمين من آل الأسد في كّل منهما.
فشقيق حافظ الأسد الذي اشُتهر بين أتباعه في السبعينيات بأفكاره «التحديثية»، وارتبط اسمه بعد ذلك بالقمع الوحشي لحركة الإخوان المسلمين بين 1979 و1982، دخل العقد الرابع من عمره متمتعاً بالحد الأقصى من عدد الزوجات حسب الشرع الإسلامي. وعلى العكس من زواجَيه المتأخرَين من رجاء بركات ولين الخيّر، اللذين يبدو أنهما تواليا سريعاً في بداية السبعينيات، يعود زواج رفعت الأسد الأول من ابنة عمه أميرة عزيز الأسد إلى منتصف الخمسينيات، ومن سلمى إسماعيل مخلوف إلى بداية الستينيات، ولذلك توّزعت أعمار أبناء وبنات رفعت الأسد الست عشر على ما يقارب الخمسين سنة، من كبيرته تماضر المولودة عام 1959 إلى ابنه محمد أو محمد رفعت المولود عام 1996.
وتُشير كل الدلائل التي بين أيدينا إلى أن رفعت ترك خلفه زوجتيه الأولى والثانية عند مغادرته سوريا في عام 1984، وأن أولاده من هذين الزواجين، وهما 3 أبناء و5 بنات، لعبوا دوراً هامشياً في تمثيل وإدارة الإمبراطورية العقارية في فرنسا وإسبانيا وبريطانيا. فلا ذِكر لاسم دريد الأسد، مثلاً، إلا بصفته مالكاً لثلاث شقق في العمارة الضخمة على جادة الرئيس كينيدي في باريس، وشريكاً لبعض إخوته في أرض شارع الياسمين، حيث يرد أيضاً اسم اخته الشقيقة مي للمرة الأولى والأخيرة. أما مضر الأسد فلا يظهر في أي من الوثائق على الإطلاق، ومثله أخته الشقيقة تماضر، وأخواته من سلمى مخلوف لما وشذى وميسون. وحده فراس الأسد، من مجموعة الأولاد هذه، وُضِعَ في الواجهة منذ بلوغه السن القانونية كمدير للعديد من الشركات، وكمالك مؤقت لبعض العقارات، قبل أن يستعيدها رفعت عبر إحدى الشركات أو يقوم ببيعها.
ومع بلوغ أولاد وبنات رفعت الأسد من رجاء بركات ولين الخيّر السن القانونية في التسعينيات، ستبدأ أسماؤهم بالظهور على قوائم الإدارة والتمثيل إلى جانب فراس ورجاء ولين، إلى أن تطغى تماماً بحلول عام 2000. بدأ هذا مع سومر الأسد أكبر أولاد رجاء بركات الذي بلغ الثامنة عشر في عام 1990، فحلَّ محلَّ والدته في مجالس إدارة الشركات البنمية بالتدريج، وتوّلى «إدارة» الفرع الفرنسي لشركة سنون وهو في العشرين من العمر. و«كرّت المسبحة» سريعاً بعد ذلك مع بلوغ أشقائه سبلاء وسوار، وإخوته من لين الخيّر رانيا وريبال وناتال، السن القانونية بين 1992 و1994، ليلحقهم بعد ذلك ابن لين الخيّر الرابع وقبل الأخير، علي أو محمد علي، في 1997. وبالفعل يُظهِرُ البحث في أسماء أعضاء مجلس إدارة الشركات المالكة للعقارات في فرنسا وإسبانيا أنها كانت، عشية انطلاق المحاكمة، مُوزَّعة بالكامل بين توليفات مختلفة من مجموعة الأولاد الثانية هذه، مع تصدُّر عَدَدي واضح لصالح سوار وعلي الأسد.
خروج «الابن الضال»
وبالإضافة لولادة ابن لين الخيّر الخامس والأخير محمد في عام 1996، ترافقَ هذا الانزياح الجيلي مع خروج عاصف لفراس الأسد من حياة والده تماماً، وصل في لحظة الذروة إلى حافة الموت. وفي حين يبقى من الصعب الإحاطة بشكل كامل بأسباب القطيعة دون حديث مُعمَّق مع فراس الأسد، حاولنا الحصول عليه عبر وسيط لكن تمَّ الاعتذار بلباقة، يمكن الاعتماد جزئياً على مقابلة خاصة أجراها فراس مع الصحيفة السويدية داغنز نيهيتر في أيلول (سبتمبر) من عام 2021. فحسب حديثه هناك، يبدو من الواضح أن فراس تعرَّضَ لتعنيف جسدي ونفسي منهجي ومزمن على يد والده، نبع في الأساس من سوء معاملة رفعت لزوجته الأولى أميرة الأسد، قبل أن يتصاعد مع سخط فراس المتزايد عن علاقات والده السياسية وصفقاته المالية. بالإضافة إلى ذلك، لمّحَ فراس الأسد في بعض مذكراته المنشورة على صفحته على فايسبوك إلى «الحظوة التي امتلكها أولاد لين الخيّر»، ومن ورائهم عائلة والدتهم، لدى رفعت، وانعكاس ذلك على قراراته وأمواله.
اكتملت القطيعة بين رفعت وفراس الأسد في حزيران 1998، ولكن سجلات الشركات البنمية تُعلِمنا أن الأب قام قبل ذلك بسنتين بحلّ 11 شركة كان الابن المتمرد عضواً في مجلس إدارتها دفعة واحدة، وأنه قام بنقل الشركات المتبقية في بنما إلى لوكسمبورغ في الوقت نفسه. وعندما ظهرت بعض هذه الشركات مجدداً بصفتها مالكة لعقارات في باريس مثل شركة سنون، أو في ماربيّا مثل شركة هبة للتطوير، ستَلحظ الوثائق القضائية الفرنسية والإسبانية استلام سومر وسوار وريبال الأسد لمواقع الإدارة فيها منذ بداية 1996. سيختفي فراس الأسد منذ تلك اللحظة من كل المعاملات والصفقات المرتبطة بالأملاك القديمة أو الجديدة على حد سواء.
مع ذلك، وبسبب حجم مُشاركة فراس في عمليات الشراء في الثمانينيات، سيرد اسمه في تقرير التحقيق الإسباني بصفته أحد المتهمين الأربعة عشر بغسيل الأموال والجريمة المنظمة، وسيتم اعتباره هارباً من العدالة بناءً على ذلك. أما في المحاكمة الفرنسية، فلا يظهر فراس الأسد بشكل مباشر على الإطلاق، لا بصفته شاهداً ولا متهماً.
خُلفاء حقيقيون أم بيادق طيّعة؟
ولكن هل كانت العضوية في مجالس إدارة الشركات مهمة حقاً، أو دالّة على موازين قوى حقيقية داخل العائلة؟ الجواب ليس سهلاً. فمن جهة، وعلى الرغم من تغيير بعض الأسماء بشكل دوري، يبدو واضحاً أن مجالس الإدارة في الفترة المتأخرة حافظت دوماً على توازن ثابت بين أولاد رفعت من رجاء بركات، من جهة، وأولاده من ليّن الخيّر، من جهة أخرى، بانتظام لا يمكن اعتباره محض مُصادفة. فمعظم الشركات البنمية ستنتهي مجالس إدارتها مقسّمةً بين أولاد رجاء بركات سبلاء وسوار الأسد، وأولاد لين الخيّر ناتال وعلي الأسد. كما ستتوزّع شركات جبل طارق بعد نقل جزء هام منها إلى إسبانيا عام 1999 على سبلاء وسوار وريبال وعلي بالطريقة نفسها.
الأكيد أيضاً أن دخول هذه المجموعة من أولاد رفعت إلى مشهد إدارة الأملاك لم يكن شكلياً، ولا سيما بين الذكور. فسومر الأسد هو الذي قام بتوظيف أنطوان لوفيان مديراً لأملاك العائلة في باريس في عام 1995. وبعد ترك هذا الأخير لمنصبه بشكل نهائي في عام 2012، سيقوم سوار وعلي بالعثور على البديل في سيدريك أنطوني بطيش، الذي أخبرنا في مقابلة خاصة أنه «صديق الأولاد» من أيام المدرسة. من الممكن أيضاً أن يكون سومر وسوار وريبال وعلي وراء تغيّرات محددة في أنماط الاستثمار العقاري، برزت فقط بعد عام 1996، مثل التوجه إلى قطاع المباني والمكاتب التجارية، والاعتماد حيث أمكن على القروض طويلة المدى بدلاً من الدفع الفوري أو النقدي، ونقل الشركات إلى ملاذات ضريبية أفضل سُمعةً كلوكسمبورغ، أو حتى إنشاء فروع لها في فرنسا وإسبانيا نفسها.
في الوقت نفسه، انتقلت مهمات إدارة الأملاك داخل مجموعة الأولاد الثانية هذه من الأولاد الكبار إلى الصغار تدريجياً، بشكل يوحي أنها لم تكن بحد ذاتها تكريساً لموقع قيادي بل تكليفاً واضحاً من الأب صاحب السلطة المطلقة. فبعد إدارة سنون في بداية التسعينيات، سينتقل سومر الأسد ليصبح واجهة الشبكة العربية للأخبار (ANN)، وسيتراجع حضور اسمه في الشركات العقارية والقابضة، بالمقارنة مع شقيقه الأصغر سوار. وعلى النهج نفسه، سيتّجه ريبال الأسد نحو العمل الإعلامي والسياسي من لندن، في حين سيُدير شقيقه الأصغر، علي، العقارات والموظفين بشكل أكثر مباشرة، ناقلاً حقائب مليئة برُزَم المال بين إسبانيا وفرنسا. إذاً، قد لا يكون احتلال سوار وعلي العدد الأكبر للمناصب الإدارية عشية المحاكمة دليلاً على سطوتهم الشخصية، بل تعبيراً عن دورهم كواجهات طيّعة تتحرّك بتعليمات محددة، ولا تملك بعد حيثية مستقلة تُبرِّر تَوَاريَها هي أيضاً وراء أسماء أخرى.
وفي المحصلة، سيشهدُ الأبناء الأربعة، ولا سيما سوار وعلي، أمام محكمة باريس أن الأب هو من كان يتخذ القرارات النهائية في كل شيء، فيحدد عضوية مجالس الإدارة، ويوزّع الحصص والأدوار، ويدفع التكاليف السنوية للشركات، ويقرّر المصاريف الشهرية الخاصة بكل فرد من أفراد العائلة، بالإضافة إلى رواتب الموظفين وأفراد الحاشية الباقين في فرنسا، والذين قدّرَ أنطوان لوفيان عددهم بحوالي الستين شخصاً. بكلمات أخرى، ناقضَ الأبناء كلام والدهم الذي أنكرَ معرفته بأي شيء متعلق بالمال والعقارات، لكن التناقض هذا كان مدروساً، حسب تأويل شانيز مونسو، المحامية المسؤولة عن ملف القضية في جمعية شيربا. فكلام رفعت عن دور أولاده كان مرتبطاً دوماً بكلامه عن المصدر الأصلي لأمواله، حسب استراتيجية فريق الدفاع، فإن اقتنع به القضاء الفرنسي تمكَّنَ من تبرئة نفسه وأولاده معاً، أما إن فشل فمن الأفضل للأولاد وضع المسؤولية كاملة على الوالد والنجاة بأنفسهم.
وبالفعل، صدر الحكم الفرنسي بحق رفعت الأسد وحده دوناً عن سائر أفراد العائلة، في حين لا تزال أصابع الاتهام موجهة لسوار وعلي وسومر وريبال وسبلاء وناتال ومحمد وفراس الأسد في التحقيق الإسباني، إلى جانب رفعت نفسه والزوجتين لين الخيّر ورجاء بركات، وثلاثة موظفين من بينهم رجل سوري يدعى يونس ديبة.
5- من أين لك هذا؟ النظرية السعودية
ما المصدر الأساسي لكل هذه الأموال إذاً، بحسب رفعت الأسد؟
إلى جانب الترفُّع باسم السياسة ومحاولة التواري وراء العائلة، بنى رفعت وفريق محاميه استراتيجية دفاعهم كلها في محاكمة باريس على حجة مركزية مفادها أنه تلقى تمويلاً مباشراً ومستمراً من المملكة العربية السعودية على مدى ثلاثة عقود، وذلك بحكم الصداقة القديمة التي ربطته بالملك عبدالله بن عبد العزيز، وكدعم من المملكة لمشروعه السياسي.
في لحظات محددة، لجأ رفعت إلى حجج ثانوية أخرى، فرفض الإقرار مرةً بأنه من عائلة فقيرة، قائلاً إنه ورث من والده أراضٍ زراعية وهبها فيما بعد لفلّاحيها، ونسب في مرة أخرى شراء المبنى التجاري في جبل طارق لتمويل حصل عليه أولاده من «شخصيات سورية». لكن تركيزه الأساسي وتركيز زوجاته وأولاده ومحاميه جميعاً بقي منصبّاً على حجة التمويل السعودي، الذي اتّسع حسب شهاداتهم ليشمل عقارات كاملة مثل قصر دو لامبال في باريس وقصر بيسكانور-تافيرني، وشيكات متعددة بقيمة ملايين الدولارات، وأموالاً نقدية وصلت حد المليون دولار شهرياً على مدى سنوات، بالإضافة إلى هدايا استثنائية سمحت للعائلة بتملُّك العقارات بعد مناسبات سعيدة مثل ولادة الابن الأصغر محمد.
للهرب من تهمة نهب المال السوري العام، إذاً، كان رفعت الأسد يقول بكل بساطة إن السعودية «وراءه» على طول الخط، فعاش هو وعائلته وأتباعه على نفقتها طيلة حياته، ولكنه جلب لسوريا وللشعب السوري «الكثير من المنافع والأموال» بحكم ذلك. ومن أجل إثبات هذا الدعم، قدّمَ فريق الدفاع شيكاً بقيمة 10 مليون دولار يعود لنهاية حزيران 1984، تم إيداعه في حساب رفعت الأسد في بنك عودة، وكذلك رسالة قديمة قيل إنها مكتوبة بخط يد الملك عبد الله عندما كان ولياً للعهد في عام 1985، يشير فيها إلى «هدية باريس»، بالإضافة إلى قيد لثلاث تحويلات مصرفية تمّت في 2008 و2009 و2010 من حساب مستشار شخصي للملك عبد الله بن عبد العزيز، بقيمة إجمالية قدّرها 21 مليون يورو. ومع اقتراب جلسات المحاكمة من نهايتها في عام 2019، في ما بدا وكأنه فعلٌ أخيرٌ يائس، قدَّمَ الدفاع أيضاً شهادة موقّعة من أرملة الملك عبدالله، الأميرة حصّة، تقول فيها إن زوجها الراحل «قدَّمَ» قصر بيسانكور-تافيرني للسيد رفعت الأسد ودَعَمَه مادياً ومعنوياً طيلة حياته.
لم تكن فرضية التمويل السعودي لرفعت الأسد منفصلة عن الواقع، طبعاً. فبالإضافة إلى التحويلات المصرفية التي صرّحَ عنها محامو الدفاع بين 2008 و2010، تمكّن فريق الادعاء أيضاً، وعن طريق لجنة تفويض قضائي دولية، اكتشاف خمس تحويلات أخرى ذات صلة وصلت لشركات تعود لرفعت الأسد في جبل طارق، وعلى رأسها شركة سِيزارا هولدينغ. تمت التحويلات في عامي 2012 و2014، وبلغت قيمتها الإجمالية حوالي 20 مليون دولار، ووصلت جميعها إلى حسابات في فرع بنك جايسكي الدنماركي في جبل طارق، قادمةً من الرياض أو جدة، ومصحوبة بشرح «بروتوكول ملكي» أو «تحويل بأمر من البلاط الملكي».
أما على صعيد السياق العام، وسواء توطّدت المعرفة بين رفعت الأسد وعبد الله بن عبد العزيز من خلال آل الشّعلان أو بحكم مواقعهم السياسية، فقد ترافقت علاقتهما بالتأكيد مع انفجار هائل في الثراء الملكي السعودي بعد حرب تشرين (أكتوبر) 1973، وما ولّده هذا من صعود في نفوذ المملكة الإقليمي من جهة، وتغيّر في نمط حياة ملوكها وأمرائها من جهة أخرى. وحسب شهادة مصطفى طلاس في المحكمة، وما نقله ميشيل كيلو من انطباعات متداولة في سوريا في تلك الفترة، قامت السعودية بتمويل سرايا الدفاع بمبالغ ضخمة كادت تساوي الميزانية السورية بأسرها خلال السبعينيات، وأجزلت العطاء لضباط وجنود السرايا (أو الوحدة 569 حسب التسمية الرسمية) بعد مشاركتهم خصوصاً في إخماد تمرُّد جهمان العُتيبي الشهير نهاية 1979. وللمصادفة، افتتح الملك فهد بن عبد العزيز في العام ذاته طقس تمضية أثرياء وملوك العرب عطلتهم الصيفية في ماربيّا، المدينة التي استحوذت أيضاً على مخيال رفعت الأسد واستوعبت كماً طائلاً من أمواله.
6- من أين لك هذا؟ تفنيدات الإدعاء
مع ذلك، لم يتمكّن محامو دفاع رفعت الأسد من إقناع القضاء الفرنسي أو المحققين الإسبانيين أن أمواله الطائلة كلها كانت عطايا من السعوديين. فمن جهة، عادت كل التحويلات المصرفية الواردة من السعودية بشكل واضح وموثق إلى فترة متأخرة جداً، أي إلى عام 2008 فما بعد، في حين أتم رفعت القسم الأهم والأكبر من استثماراته العقارية في فرنسا وإسبانيا في الثمانينيات. أما شيك الملايين العشرة العائد لعام 1984 فلم تكن قيمته كافية لشرح الإنفاق الهائل الذي حدث خلال فترة قصيرة في نهاية ذلك العام. وعلى العكس، تمكَّنَ الادعاء الفرنسي، بالتنسيق مع السلطات السويسرية، من توثيق قيام رفعت الأسد بشراء سندات خزينة أميركية بهذا المبلغ، بعد يوم واحد فقط من إيداعه في حسابه في فرع بنك عودة في جنيف. الصورة باتت واضحة: لم يستعمل رفعت الأسد هذا الشيك نهائياً لاستكمال طوابق قصر جادة فوش أو إتمام صفقة شقق البناءَين على جادتي جون كينيدي وأندريه سترون، والمبلغ لم يكن كافياً أصلاً.
أضعفَ رفعت الأسد دفاعه أيضاً عندما قام بتغيير بعض التفاصيل الهامة بين جلسة استجواب وأخرى. فقال في بداية الأمر إنه خرج من سوريا عام 1984 ومعه خمسة آلاف دولار فقط، مشيراً إلى وضعه المزري في جنيف لولا قدوم ولي العهد السعودي وزوجته الأميرة حصّة. أما في جلسة استجوابه الثالثة في أيار 2017، فقال إنه استلم الشيك السعودي قبل مغادرته إلى موسكو عن طريق الشيخ نائل الشعلان، وذكر للمرة الأولى أيضاً قدوم رفيق الحريري إلى دمشق في الفترة نفسها لتسليمه شيكاً آخر بمبلغ 3.5 مليون دولار من الأمير عبدالله.
وعند سؤاله عن عقارات محددة، مثل قصر بيسانكور-تافيرني أو شقق جادتي كينيدي وسيترون، أصرّ رفعت أن الملك عبدالله قدّم هذه العقارات كحل لإيواء حاشيته المنفية من باريس. لكن الادعاء أثبت بسهولة أن بعض هذه العقارات اقتُنيت قبل سنوات من خروج الحاشية أولاً، وأنه امتلكها جميعاً من خلال صفقات بيع وشراء مثبتة، وأن فعل «الإيواء» يتناقض مع شراء شقق تقع في أغلى أحياء باريس على الإطلاق.
إثبات صفقة الخروج
حاول فريق الدفاع أيضاً، دون نجاح، التشكيك في رواية عبد الحليم خدام ومصطفى طلاس المتعلقة بالصفقة التي خرج بها رفعت الأسد من سوريا ومعه 300 مليون دولار. قال رفعت أمام المحكمة إن هذين الرجلين خصمان سياسيان قديمان له، وهذا كان صحيحاً طبعاً. محاكمة باريس وضعت على طرفي نقيض قضائي من كانوا منذ نهاية 1983 على طرفي نقيض سياسي مُستحكِم داخل تركيبة النظام السوري. ولكن المحاججة القانونية في المحصلة تمحورت حول تفاصيل تقنية وتاريخية.
ارتكزت شهادة عبد الحليم خدام حول الصفقة المالية التي عقدها حافظ ورفعت الأسد في عام 1984 إلى تفصيلين محددين: الأول حساب الأموال التي صرفها البنك المركزي السوري لرفعت ضمن مصاريف رئاسة الجمهورية، والثاني حسابُ الدَين الليبي كمُقدَّم لقاءَ واردات من سوريا سيتم إرسالها لاحقاً. وبالفعل، شهدت مصاريف رئاسة الجمهورية السورية، حسب التقارير الإحصائية الرسمية الصادرة سنوياً، زيادة هائلة في عام 1984 تجاوزت المعدل المعتاد طيلة تلك الفترة بأكثر من 150 مليون دولار، في حين تجاوز بند الأخطاء والمُغفَلات في ميزانية عام 1985 أكثر من ستة أضعاف مُعدَّله المعتاد في تلك الفترة، أي ما يعادل 50 مليون دولار. وحسب التقارير الإحصائية نفسها أيضاً، تضاعفت الواردات السورية إلى ليبيا في عامي 1984 و1985 بأكثر من عشر مرات مقارنة بالسنوات الثلاث السابقة، ولحَظت المحكمة بتمعُّن أن تقارير عام 1984 نُشِرت في شهر تموز (يوليو)، أي بعد انعقاد الصفقة.
شكَّكَ محامو رفعت في هذه الرواية، قائلين إن هناك أسباباً أخرى تقع وراء زيادة مصاريف الرئاسة في تلك الفترة، وهي إعادة دمج سرايا الدفاع ودفع أجزاء من الديون السورية لروسيا وتنظيم انتخابات رئاسية. كما جادلوا أن البنك المركزي لم يكن في حوزته أي قطع أجنبي في تلك الفترة أصلاً، وأن التقارير الإحصائية الرسمية في سوريا لا يمكن التعويل عليها.
لكن الادعاء فند هذه المقولات بنجاح، واحدة تلو الأخرى. فقد شهد البرفسور فابريس بالانش وخبراء آخرون من مركز بيت المشرق والمتوسط أن السجلات الإحصائية السورية في تلك الفترة كانت لا تزال موضع ثقة، وتستند إلى خبرات محلية و سوفياتية في التخطيط والتوثيق. كما أثبتوا أن نفقات سرايا الدفاع كانت مُدرَجة سلفاً في مكان آخر من الميزانية، وأن الدَّين السوري لروسيا لم ينقص خلال تلك الفترة بل زاد، وأن مستوى كلفة تنظيم انتخابات في بلد مثل سوريا في عام 1985 لا يعدو أن يكون «كسراً» من مبلغ 200 مليون دولار محل النقاش. أما إذا كان البنك المركزي السوري خالياً من القطع الأجنبي في أيار (مايو) 1984، فماذا عن المبالغ الكبيرة التي وصلت منه بعد ذلك إلى حساب رفعت الأسد في بنك إس بي إس السويسري، حسب تقرير بنك عودة الداخلي؟
الهوس القديم باستملاك العقارات
بالإضافة لصفقة عام 1984، قدَّمَ الادعاء الفرنسي شهادات عن فساد رفعت الأسد وأعوانه وشبكاته الزبائنية منذ استيلاء أخيه حافظ على السلطة في سوريا. وبعد إتمام التحقيق الإسباني عام 2018، استفاد القضاة الفرنسيون أيضاً من المعلومات والشهادات التي تمكَّنَ المحققون الإسبانيّون من الحصول عليها بشكل مُستقل، لا على صعيد العقارات والشركات الصورية الفاعلة في إسبانيا فقط، بل وأيضاً فيما يرتبط بأنواع النشاطات المشبوهة والإجرامية التي مارسها رفعت الأسد ودرّت عليه أموالاً طائلة.
استمع المحققون في إسبانيا، على سبيل المثال، إلى شهادة سوزان القباني، التي تحدثت بالتفصيل عن مصادرة رفعت الأسد غير القانونية لمبنى امتلكته عائلتها في وسط دمشق، وذلك في صيف عام 1969، أي بعد شهور قليلة فقط من توضح غلبة حافظ الأسد على صلاح جديد في صراع السلطة الدائر حينها. اقتحم أتباع رفعت الأسد المبنى بالقوة واحتلّوه، حسب شهادة سوزان، وعندما كسب جدها القضية التي رفعها ضدهم، اتهم رفعت والدة سوزان اليونانية الجنسية بأنها عميلة لإسرائيل وهدّد بسجنها. بعد ذلك، أجبر رفعت العائلة على القيام بإصلاحات في المبنى لقاء مبلغ لم يدفعه، واختطفَ عناصرُهُ عمَّ سوزان الأصغر وهو طفل في السادسة من العمر، وطلبوا من والدها استلامَه في منتصف الليل بالقرب من قصر الضيافة في دمشق. تخلّت العائلة عن المبنى فوراً بعد ذلك.
تقاطعت شهادة سوزان القباني في إسبانيا مع شهادة أخرى، كان المحامي محمد رامي حميدو قد قَدَّمها في فرنسا، تحدَّثَ فيها عن مُصادرة رفعت الأسد لأراضي جده في اللاذقية. شارك حميدو جمعية شيربا في رفع الدعوى على رفعت، ولكنه انسحب بعد ذلك لأسباب مجهولة.
تتلاقى الشهادتان مع كلام ابن مسؤول سابق بارز في النظام السوري، فضّلَ عدم الكشف عن اسمه، قال لنا إن أحد مصادر ثروة رفعت الأسد «الأقل شهرة» على الرغم من أهميتها هي مصادرته العقارات والأراضي غير المبنية، ومن ثم تطويرها بالاعتماد على الإدارة الهندسية التي كان قد أنشأها ضمن سرايا الدفاع، ثم بيعها لحسابه الخاص بعد ذلك. حدثَ هذا بكثرة في دمشق، وفي الساحل، منذ بداية السبعينيات، وفي المنطقة الممتدة بين حلب وجسر الشغور مروراً بإدلب في نهاية العقد. تركيز رفعت الأسد خارج سوريا على الاستثمار العقاري وأرباحه الريعية كان إذاً امتداداً لنشاط قديم بدأه داخلها.
الوساطات والعلاقات الدولية الشخصية
من جهة أخرى، اطّلعت المحكمة الفرنسية على الشهادة التي قَدَّمها المقدم يون ميهاي پاشيپا، رجل الأمن الروماني الشهير المنشق عن جهاز مخابرات تشاوشيسكو. ففي كتابه المنشور في عام 1978، أورد باشيپا عدة حوارات خاضها مع تشاوشيسكو في السنوات الست السابقة لانشقاقه، دارت بشكل أساسي حول الوضع الاقتصادي في رومانيا. في إحدى هذه الحوارات في منتصف السبعينيات، تحدث تشاوشيسكو بوضوح عن قدرته على تحصيل صفقات جيدة للشركات الرومانية في سوريا، وذلك عن طريق رفعت الأسد. قدم رفعت لتشاوشيسكو معلومات هامة عن مناقصات الدولة السورية واحتياجاتها، وضَمِنَ حصول الشركات الرومانية على بعض هذه المناقصات لقاء مبالغ كبيرة من الأموال.
وتلتقي هذه الشهادة مع وثائق سرية تعود للسفارة الأميركية في بيروت، عثرنا عليها عبر ويكيليكس، ينقل فيها مسؤولو السفارة لواشنطن لقاء مصدر مُقرَّب منهم مع رفعت الأسد في دمشق في عام 1974. جاء اللقاء ضمن سعي محموم من المُلحَق الاقتصادي في السفارة لإتمام صفقة بيع طائرتين مدنيتين من تصنيع شركة بوينغ الأميركية للخطوط الجوية السورية، وكان أمير دولة الإمارات الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان قد تكفَّلَ بنفقاتهما كهدية منه لسوريا. لا تتحدث البرقية عن دفع أي مبالغ مالية لرفعت الأسد، لكنها تضعه بلا شك في سياق المُطَمْئِن والضامن للصفقة، وهذا على الرغم من تفضيل رئيس مجلس إدارة الخطوط الجوية السورية في ذلك الوقت، والذي يُفترض أن يكون صاحب القرار النهائي، لنماذج شركة إيرباص. وبالفعل قامت مؤسسة الطيران العربية السورية في العام التالي باقتناء عدة طائرات من شركة بوينغ.
تؤكد كل هذه الدلائل تَمكُّنَ رفعت الأسد السريع من مراكمة عدة مصادر لتوليد الثروة، جمعت بين الاستقواء على الشرائح الأكثر ضعفاً من المجتمع السوري، من جهة، وتقديم الخدمات لأطراف إقليمية ودولية، من جهة أخرى. وكما وجدناه يتشارك في بنما في بداية الثمانينيات مع شخصيات تجارية مثل أحمد فاروق حبي ووليد عبد الوهاب جلنبو، سُيعرَف عنه في منتصف السبعينيات تحالفه مع «الثلاثي» عبد الرحمن العطار ونذير هدايا وصائب نحاس، الذين اعتُقلوا وأُفرج عنهم بسرعة في تشرين الأول من عام 1977، ضمن أولى حملات حافظ الأسد ضد الفساد في سوريا.
وبحسب برقية سرية أرسلها السفير الأميركي ريتشارد مورفي إلى واشنطن في نهاية تشرين الأول من ذلك العام، سبق هذه الحملة صراعٌ سرّي على السلطة والنفوذ وضع شخصيات مثل ناجي جميل وعلي دوبا ومحمد حيدر في مواجهة رفعت الأسد، وقد تمكَّنَ حافظ الأسد من ضبط الصراع والموازنة بين أطرافه، دون التفريط على الإطلاق بموقع رفعت أو لجم أسلوبه «الوحشي» على حد تعبير مورفي.
الضابط الإله على الحدود السورية
في إسبانيا أيضاً، وبمساعدة من المحامي أنور البني، تمكَّنَ المحققون من الاستماع لشهادة العميد عدنان الهواش، الذي كان قد بدأ مساره الأمني والعسكري في سوريا في سرايا الدفاع نفسها، وانتقل بعدها إلى المخابرات العسكرية، وبقي جزءاً من المنظومة الأمنية لنظام الأسد حتى انشقاقه في حزيران 2012.
تحدَّثَ الهواش عن رفعت الأسد في عام 1982 بوصفه «أقرب إلى إله» تجاوزت سلطته الأمنية والمالية كل الحدود. كان رفعت قد استفاد أكثر من أي مسؤول سوري آخر من دخول الجيش السوري إلى لبنان، وانعكس هذا لا على جبروته الأمني وخزينة أمواله فقط، بل على تعامله أيضاً مع التراتبية العسكرية داخل الجيش السوري، حيث بات أكثر استقلالية و«عجرفة وبذاءة» وأقل احتراماً للقيادات العسكرية الأعلى منه، وهذا بحسب ابن المسؤول السابق في النظام السوري أيضاً، الذي عَرَفَ رفعت الأسد عن كثب. أما المصدر الأساسي للأموال في المرحلة اللبنانية فكان، طبعاً، التهريب.
اتّفقت جميع الشهادات أن المنظومة الأمنية والمالية التابعة لرفعت الأسد مارست جميع أنواع التهريب في تلك الفترة، في الحديد ومواد البناء، والسيارات المسروقة، والنقد والنقد المزوّر، واحتكرت تحديداً تهريب وتجارة الآثار.
تحدَّثَ رامي حميدو عن سرقة رفعت الأسد لكنز من الآثار الرومانية التي عُثر عليها في أراضي جده، وانتهت مُخبّأة في أحد أقبية سرايا الدفاع. وشهد مصطفى طلاس أيضاً أنه تلقى حين كان وزيراً للدفاع تقارير عن قيام رفعت الأسد وأتباعه بتهريب الآثار من سوريا إلى لبنان، ومنها لأوروبا والولايات المتحدة، وأنه التقى في الماضي ببعض المهرّبين التابعين لرفعت. أما الهواش فتحدث بشكل واضح عن اضطرار الأجهزة الأمنية للإفراج عن أي مهرب للآثار في تلك الفترة بأوامر من رفعت الأسد، وعن اعتماد شبكة التهريب التابعة له على مرفأ خاص امتلكه رفعت في اللاذقية. وقد بقي هذا المرفأ فاعلاً وتابعاً لرفعت ومولِّداً للأرباح لصالح عائلته حتى بعد خروجه هو شخصياً من سوريا عام 1984، حيث لم يتم إغلاقه إلا عام 1999 بأوامر من حافظ الأسد شخصياً.
هل تاجرَ بالمخدّرات والإرهاب أيضاً؟
وأخيراً، نقلت الوثائق الإسبانية أيضاً حديث بعض الشهود عن اتّجار شبكات رفعت الأسد بالحشيش المزروع في البقاع اللبناني، دون الكثير من التفصيل أو الجَزم. ويلتقي هذا مع تقارير استخباراتية أميركية وإسرائيلية تعود للثمانينيات تحدَّثَ عنها الصحافي الأميركي جوناثان مارشال في كتابه عن تجارة المخدرات في لبنان الصادر عام 2012.
اتّهم الإسرائيليون في تقاريرهم، بحسب مارشال، تنظيم الفرسان أو الفرسان الحمر التابع لسرايا الدفاع بالتورط في تجارة الحشيش والمخدرات، ونقلها عبر الشاحنات وطائرات الهيليكوبتر من البقاع إلى ميناءَي اللاذقية وطرابلس، في حين نقل الأميركيون «أخباراً غير مؤكدة» عن شراكة بين رفعت الأسد وطوني فرنجية في تهريب المخدرات والسيارات المسروقة. وبحلول عام 1983، ستتعقّب الشرطة في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وسويسرا واليونان شبكة واحدة متورطة بسرقة السيارات من أوروبا وتهريبها للبنان وسوريا، حيث عملت مع «آل الأسد». لكن الجزء المرتبط بالحشيش والمخدرات بقي دون تأكيد قاطع.
وفي المحصلة، يبدو هذا الجانب الأخير هو الأكثر غموضاً ومافيوية من حياة رفعت الأسد. فقد امتلك، مع منتصف الثمانينيات، ما يكفي من العلاقات والاختراقات داخل شبكات الجريمة المنظمة عبر المتوسط، وبالتحديد داخل عوالم تجارة الأسلحة وما رَشَح عبرها من معلومات عن زبائنها من الخلايا الإرهابية. ولعلّ هذا مكّنه من تقديم خدمات جليلة لعدة أجهزة استخباراتية في أنحاء العالم، وعلى رأسها المخابرات الفرنسية والإسبانية، منحته نوعاً من الحصانة والحرية في نشاطاته الأخرى.
وقد يكون الدليل الأقوى على ارتباطات رفعت الأسد بهذه العوالم هو قيام جاره في ماربيّا، تاجر الأسلحة والمخدرات السوري الشهير منذر كسار، برفع دعوى عليه بتهمة اختلاس الأموال في إسبانيا في عام 2006، وذلك قبل شهور قليلة من تَمكُّن المخابرات الأميركية من اعتقال الكسار ونقله للولايات المتحدة حيث يقبع في سجن فيدرالي حتى اللحظة.
7- قصة لا خاتمة لها بعد
نطقت محكمة باريس الحكم على رفعت الأسد في 17 حزيران (يونيو) 2020، أي بعد حوالي 7 سنوات من تقديم جمعية شيربا شكواها الأولى ضده. قَبِلَ القضاة حجة محامي رفعت القائلة إن القوانين التي جرت المحاكمة على أساسها لم تكن سارية المفعول قبل 1996، ولكنهم أدانوا رفعت الأسد بجميع التهم التي وُجّهت إليه بناء على إنفاقه وطريقة تنظيم شركاته وتعويض أتباعه منذ ذلك العام. شمل ذلك استعماله لمالٍ عام منهوب، وإدارته عصابة منظمة لتبييض الأموال، وتهرُّبه من دفع الضرائب على عقاراته وحاشيته من مرافقين وحرس قدموا معه من سوريا. حكمت المحكمة على رفعت الأسد بالسجن لأربعة أعوام، وبمصادرة جميع ممتلكاته في فرنسا، وبالحجز على بيت لندن لقاء مبلغ 29 مليون يورو.
ثبّتت محكمة الاستئناف الحكم في عام 2021، وحذت حذوها بعد ذلك بعام محكمة النقض، أعلى سلطة قضائية في الشؤون المدنية والجنائية في فرنسا. لكن رفعت الأسد كان قد فرّ بجلده في هذه الأثناء.
فبعد أقل من شهر من قرار محكمة الاستئناف، ظهر رفعت الأسد في صورة مع حفيدته شمس دريد الأسد في دمشق، وذلك بعد شهور قليلة من ذهابه إلى السفارة السورية في باريس برفقة ولديه سومر وسوار للمشاركة في الانتخابات الرئاسية السورية، في ما بدا وكأنه إشارة استسلام واستعطاف لبشار الأسد من أجل السماح له بالعودة.
لم يكن الأمر فراراً بالمعنى القانوني البحت للكلمة، لأن محكمة الاستئناف لم تفرض على العجوز ذي الرابعة والثمانين أي منع سفر، ولم تُصدر مذكرة بالقبض عليه بانتظار قرار محكمة النقض. هل سهّلت المخابرات الفرنسية عملية الخروج هذه أيضاً؟ هذا مُرجَّحٌ حسب التحليل الذي شاركه فراس الأسد مع صحيفة ليبراسيون في فرنسا حينها، والذي بنى على معرفته بمعارضة المخابرات الفرنسية للمحاكمة منذ بدايتها في عام 2013. لكن الجواب الأكيد سيبقى مجهولاً.
أخيراً: بضعة أسئلة ختامية
وفي الواقع، وعلى عكس افتراضنا الأول أن الوثائق الرسمية الفرنسية والإسبانية ستُمكِّننا من تقديم «القصة الكاملة» عن أموال رفعت الأسد وعقاراته، نصل إلى نهاية هذا التحقيق الطويل وفي جعبتنا على الأقل ثلاثة أسئلة جديدة لا تزال تنتظر أجوبة مؤكدة.
هل شكلت استثمارات رفعت الأسد العقارية في فرنسا وإسبانيا وبريطانيا غالبية ممتلكاته في العالم، أم أنه وأولاده الستة عشر يملكون عقارات هامة في مناطق ودول أخرى؟
نعلم يقيناً أن العائلة امتلكت في جنيف عنواناً منزلياً واحداً على الأقل، وقطعة أرض كبيرة في إحدى ضواحي جنيف الريفية المحاذية لبحيرتها الشهيرة من جهة الشرق، بالإضافة لقطعة أرض ثانية من الجزء السويسري من منطقة فيرمي-فولتير المحاذية للبحيرة من جهة الغرب. لكننا لا نعرف إن كانت هذه الممتلكات لا تزال في حوزة العائلة أم بِيعت في وقت ما. كما أننا لا نعلم إن قام بعض أولاد رفعت بشراء عقارات جديدة في بريطانيا نفسها، كما نصحهم أحد مستشاريهم الماليين في حديث هاتفي قام المحققون الفرنسيون بتسجيله أثناء فترة التحقيق.
من المحتمل أيضاً أن يكون لدى رفعت الأسد ممتلكات في الولايات المتحدة، ولا سيما أننا وجدنا ذِكراً لشركات مسجلة باسم ريبال الأسد في ولاية ديلاوير، التي تُعتبر ملاذاً ضريبياً داخل الولايات المتحدة، وإشارة لقصر في ضاحية مكلين في أطراف العاصمة واشنطن امتلكه رفعت في الثمانينيات حسب الصحيفة الإسرائيلية ذا جيروزاليم بوست. نعلم أيضاً أن العائلة بدأت بنقل مقرات شركاتها أثناء فترة المحاكمة من جبل طارق إلى مالطا وقبرص، ودرست إمكانية لجوء رفعت الأسد إلى أندورا، وأنها قامت ببعض التحويلات المصرفية إلى دبي أثناء فترة التحقيق، وأن المصرف الذي تعاملت معه في جبل طارق – وتجاوز الكثير من الضوابط من أجلها – يقع مقره الرئيسي في الدنمارك. هل يعني هذا أن هناك عقارات واستثمارات في تلك البلدان؟ لا نعلم.
أما السؤال الثاني فيرتبط بطبيعة العلاقة بين السعودية ورفعت الأسد عبر العقود.
يبدو أكيداً أن سرايا الدفاع تلقت تمويلاً كبيراً من المملكة منذ بداية السبعينيات، وأن هذا أثار حفيظة أو غيرة بعض الشخصيات المناوئة لرفعت الأسد داخل النظام السوري. لكننا لا نعلم إن كان هذا التمويل نتيجة للعلاقة الخاصة بين الأمير عبد الله ورفعت تحديداً، أم سبباً لها، وذلك لأنه ترافقَ مع دعم كبير قدمته دول الخليج لسوريا عموماً في تلك الفترة. كما لا يُمكن البت إن كان الغرض من هذا التمويل مُوجَّهاً ضد حافظ الأسد، أم على العكس. فحتى الشهور الأخيرة من عام 1983، كان رفعت الأسد بالفعل الشخصية الأكثر قرباً من حافظ الأسد، وتمويله يعني تمويل مخلب النظام السوري الضارب في لبنان والعراق وبين الفصائل الفلسطينية.
أما في الفترة المتأخرة التي ترافقت مع تحويلات سعودية لرفعت الأسد في أعوام 2008 و2009 و2010، وبعدها بين 2012 و2014، فيبدو الموضوع مختلفاً. فإن لم يكن رفعت قادراً على إظهار قيود لغير هذه التحويلات، فهذا يعني فعلاً أنها ظهرت بهذا الشكل المُوثَّق بعد طول غياب، وهذا يطرح سؤالاً عن الهدف منها: هل كانت مجرد مساعدات ومكارم شخصية؟ أم أنها ارتبطت برغبة سعودية بدعم «مشروعه السياسي»، على حد تعبيره هو شخصياً؟
هل وُلِدَت هذه الرغبة بعد تراجع العلاقة بين السعودية ونظام بشار الأسد إثر مقتل رفيق الحريري، ثم تَراجُع نشاط عبد الحليم خدام وجبهة الخلاص الوطني في عام 2008؟ وهل عاد التمويل في عام 2012 كجزء من خطة سعودية بعد اندلاع الثورة السورية للاستثمار في عدة بدائل ممكنة لبشار الأسد؟ المنظومة الصانعة لسياسة السعودية الإقليمية في تلك الفترة باتت اليوم خارج السلطة تماماً، فهل يرشح منها مرويات ومذكرات تكشف خبايا تلك المرحلة؟
وأخيراً، إذا أشَحْنا نظرنا عن الماضي والتفتْنا نحو المستقبل، ما مصير ثروة رفعت الأسد الآن؟
تقول المحامية شانيز مونسو من جمعية شيربا إن المحادثات بدأت في فرنسا فعلاً ضمن لجنة تجمع وزارة الخارجية ووزارة العدل لإيجاد طرق لإعادة أموال رفعت الأسد وممتلكاته المُصادَرة في فرنسا إلى السوريين، على غرار ما فعلت فرنسا مع دول أفريقية أخرى كغينيا الاستوائية بعد القانون الذي صوّتَ عليه البرلمان الفرنسي عام 2021، والذي يقضي بعودة الأموال إلى أصحابها من الدول والشعوب بعد إدانة من استولى عليها في فرنسا.
من استراتيجيات استعادة الأموال المحجوزة هي إنشاء جمعية تُعنى بإعادة بناء البنى التحتية في سوريا مثلاً عبر الوكالة الفرنسية للتنمية، وهناك أيضاً إمكانية إيداع الأموال في صندوق دعم تابع لمنظمة بوتا (Bota Foundation) التي تعنى بالأموال المنهوبة من الدول، ومن ثم تقديمها عبر مشاريع تُقيمها المنظمة في سوريا عبر مهماتها على الأرض، وخاصة فيما يتعلق بالطفولة. وهناك أيضاً خيار تقديم الأموال إلى صندوق النقد الدولي، الذي يمكنه تقسيم أموال رفعت إلى عدد من القروض الصغيرة التي تُقدَّم إلى سوريا لدعم بنيتها التحتية وتحسين أنشطتها الاقتصادية. كذلك فعّلت الولايات المتحدة أسلوباً آخر للاستفادة من أموال عقوبات قانون قيصر عبر فتح صندوق لضحايا النظام السوري في الولايات المتحدة، وقد استفاد منها صحفي أميركي واحد فقط ولم يتقدم له أي سوري حتى الآن.
أما مصير الممتلكات الإسبانية، وهي التي تكاد تقترب قيمتها الآن من مليار يورو، فلا يزال غير واضح ضمن هذه المعادلة. فهناك أكثر من 500 عقار في إسبانيا تحت الحجز، ولكن لا يوجد قرار نهائي بمصادرتها كما في فرنسا، بالنظر لعدم انعقاد محاكمة في مدريد أو مَلَقة على الرغم من إنجاز التحقيق منذ خمس سنوات على الأقل. هل يعود التأخير لأسباب قضائية وبيروقراطية فقط، أم أن هناك أسباباً أخرى وراءه؟ وهل تذهب قيمة الممتلكات للدولة الإسبانية كتعويض عن الغرامات الهائلة التي طالب قاضي التحقيق بفرضها على المتّهمين الأربعة عشر هناك في حال كسب الادعاء القضية؟ أم أن هناك إمكانية للتنسيق مع فرنسا في مسألة إعادة الأموال؟ وكيف سيؤثر تخلُّفُ رفعت الأسد النهائي على الأغلب عن الحضور على كل هذا؟ هذه أسئلة جديدة برسم المستقبل.
*****
في آخر ظهور له أمام المحكمة في باريس في عام 2018، وبعد سؤاله مجدداً عن الحسابات المصرفية التي فتحها باسم شركة سنون في فرنسا، انفعل رفعت الأسد أمام القاضي وأكد أنه لا يعلم شيئاً عن هذا الموضوع وقال: «خذوا كل شيء، الموضوع لا يهمني، فلنُنهِ هذه المسألة».
كان يكذب طبعاً.
في محادثة هاتفية جرت بين سيدريك بطيش وعلي الأسد، نقل سيدريك لعلي تفاصيل إحدى لقاءاته مع رفعت الأسد الحقيقي:
«جلست معه سبع ساعات. هو غاضبٌ لأن أموال إخلاء أرض فولتير قد تعود لأولاده وليس له. لا يزال غاضباً أن أرض شارع الياسمين أُخذت. يريد أن يبيع جميع شقق بناء كينيدي قبل أن يتم الحجز عليها. قال إن فرنسا ستدفع ثمن ما فعلته به لعقود قادمة».
أُنتِجَ هذا التحقيق ضمن الدورة الأولى من «برنامج مِنَح الجمهورية للصحفيّات السوريات»، الذي يَدعمُ إنتاج مشاريع صحفية مُعمَّقة تتعلّقُ بشؤون السوريين والسوريات ومعاشهم داخل البلد وخارجه. عملت الزميلات الصحفيات على مشاريعهنَّ مع محررات ومحررين من فريق الجمهورية.نت، وكان المُحرِّر المشرف على هذا الريبورتاج هو الزميل كرم نشار.
موقع الجمهورية