خالد زيادة: الهوية الوطنية السورية بحاجة إلى ترميم
حاوره: محمد حجيري
الجمعة 2025/01/17
مع التحولات والتغيرات الدراماتيكية في سوريا ولبنان بعد سقوط نظام بشار الأسد، لا بدّ من استطلاع آراء المفكرين والكتّاب والمثقفين، حول الحاضر والمستقبل. هنا حوار مع المؤرخ والدبلوماسي خالد زيادة، صاحب المؤلفات الكثيرة والبارزة والذي عاصر التجارب والتيارات السياسية والفكرية.
– بعد انتخاب جوزاف عون، هل نحن أمام شهابية جديدة؟ ما المقومات الأساسية لنجاح شهابية جديدة في هذه المرحلة؟
* تحدث الرئيس عن بناء الدولة، وأنه لم يأت للإشتغال بالسياسة وهذا يدل على إدراك عميق للحظة التي نعيشها، وضرورة الخروج من السياسات الضيقة، وفي نفس الوقت تجاوز كل المعوقات التي حالت حتى الآن دون بناء الدولة، وبمعنى آخر استعادة الدولة التي تقاسمتها الأحزاب والتيارات.
والمقارنة بين العهد الحالي والعهد الشهابي يعبّر عن توق اللبنانيين إلى عودة المؤسسات إلى العمل، وعلى سبيل المقارنة فإن الرئيس فؤاد شهاب جاء من المؤسسة العسكرية بعد صراع استمر أقل من ثلاثة أشهر، انتهى عمليًا بعد انقلاب 14 تموز في العراق الذي قوّض حلف بغداد، أما الرئيس جوزيف عون فقد انتخب بعد سقوط حكم بشار الأسد في 7 كانون الأول 2024، الذي كان تعبيرًا عن سقوط النفوذ الإيراني. إلا أن الرئيس عون لم يأت بعد العدوان الإسرائيلي على لبنان فحسب، بل أنه يأت بعد خمسين سنة 1975-2025، من الصراعات العنيفة العسكرية والسياسية والوصاية السورية والإيرانية.
لقد استفاد الرئيس شهاب من التفهم العربي لوضع لبنان، في زمن الوحدة السورية- المصرية، والنفوذ الطاغي للناصرية. وما الاجتماع الذي جمع بين الرئيسين شهاب وعبد الناصر في خيمة على الحدود السورية اللبنانية سوى الإشارة إل احترام عبد الناصر لخصوصية لبنان وسيادته. واليوم فإننا نلمح تفهمًا لوضع لبنان من خلال الرعاية العربية ووعود الإدارة الجديدة في سوريا بعدم التدخل في الشؤون اللبنانية.
إن المهمة الملقاة على عاتق الرئيس جوزاف عون وحكومة الرئيس نواف سلام الموعودة هي أصعب من تلك التي كانت في عهد الرئيس فؤاد شهاب. فلم يواجه الرئيس شهاب معارضة في بناء المؤسسات (مصرف لبنان- مجلس المشاريع الانشائية- التفتيش المركزي ومجلس الخدمة المدنية- كليات الجامعة اللبنانية الخ)، أما اليوم فإن إعادة العمل والروح إلى المؤسسات تواجه نظامًا من الفساد من الأعلى إلى الأدنى. وهيمنة الطائفية والنزعة الميليشياوية. إن نقطة التفاؤل تتجسد في دعم اللبنانيين للخطوات التي يتخذها العهد في هذا الصدد. لقد ملّ اللبنانيين من انقطاع الكهرباء والماء وسوء الإدارة وتدهور الخدمات.
– هل لامست غياب الوسط الثقافي أو غياب النخبة الثقافية عن المشهد الرئاسي، ما عدا ترشيح شبلي الملاط؟
* من حيث المبدأ ليس للمثقفين أن يخوضوا في السياسة المباشرة والتنافس على المناصب وليس من الضروري أن يكون المثقف سياسيًا بالمعنى الحرفي للكلمة. لكن ما شهدناه في لبنان انجراف عدد لا بأس به من المثقفين في الاستقطاب الطائفي والحزبي، وكليات الجامعة اللبنانية شاهد على ذلك. وإذا عدنا إلى فترة الستينات من القرن الماضي يمكننا ملاحظة صعود دور المثقفين بحيث أصبحت بيروت عاصمة الثقافة العربية المنوعة والتعددية. وقد استطاعت بيروت أن تستمر بلعب دورها الثقافي في سنوات الحرب واستعادت بعد الحرب (في تسعينيات القرن الماضي) نشاطًا ثقافيًا بارزًا، ولكن هذا الدور تراجع خلال العقدين الأخيرين لأسباب تحتاج إلى تحليل عميق.
وبالعودة إلى علاقة المثقف بالسياسة، فإننا نحتاج إلى عودة لدور المثقف في تقديم الرؤى المتعلقة بالنظام السياسي، والعلاقات مع العالم العربي والتعددية وغير ذلك من المسائل التي هي في صلب عمل المثقف. وبهذا المعنى يمكن للمثقف أن يكون وزيرًا في مجال اختصاصه.
– هل فوجئت بسقوط نظام الأسد في سوريا؟
* لقد فوجئت بالسرعة التي سقط فيها الأسد، وقد تبيّن انه لم يكن ثمة نظام ولا مؤسسات ولا جيش. لقد تحولت السلطة في سوريا إلى ما يشبه العصابة على حد تعبير أحد سفراء الأسد نفسه. وأحد الأسباب التي كانت تستبعد التغيير في سوريا، هو الإحباط الذي نجم عن إخفاق الثورة السورية في إزاحة الأسد، وبسبب ما ظهر من محاولات عربية لإعادة تعويمه. وفي جميع الأحوال، فإن سقوط الأسد ينهي حقبة مديدة امتدت لأربع وخمسين سنة، وهي تزيد على أكثر من نصف عمر الدولة السورية الحديثة.
– مسار التغيير الدراماتيكي في لبنان وسوريا… إلى أين يأخذك فكريًا؟
* مهما يكن من أمر، وبالرغم من الصعوبات والعقبات وما تراكم من مشكلات خلال ما يزيد على نصف قرن من الزمن. فإن تغييرًا كبيرًا قد حدث ويمكنه أن يفتح آفاقًا جديدة عنوانها علاقات تحترم السيادة والاستقلال، وتسوية مشكلات الحدود، واللاجئين. والتغيير الذي حدث خلال أشهر قصيرة بدّل المشهد السياسي في المنطقة وبدّل من توازن القوى الذي يدعونا إلى التفكير بالكلفة الباهظة للطموحات الإقليمية وانعدام السلام بسبب العدوانية الإسرائيلية.
– كيف ترى مستقبل الإسلام السياسي في سوريا وهل يمكن لأدواته أن تبني دولة وتحكم؟
* ثمّة شيء من الغموض في هذا المجال، وبالمقارنة مع ما حدث في مصر وتونس، فإن الأمور لا تبشّر بمستقبل زاهر، والصورة التي يقدمها رئيس الإدارة الجديدة لا تعكس بالضرورة تطلعات وطرق تفكير الإسلاميين. لكن سوريا ليست مصر وليست تونس، نظرًا للنسيج السكاني التعددي. وهو ليس نسيج أكثرية وأقلية (حسب لغة القناصل الجدد الذين استيقظوا الآن لحماية الأقليات حسب تصاريحهم). بل هو نسيج واحد، عاشت أجزاؤه في الماضي، وساهمت على قدم وساق في الحركة الوطنية والثورة السورية. فهل يمكن القول أن سلطان باشا الأطرش وزكي الأرسوزي وميشيل عفلق وخالد بكداش هم من الأقليات بالرغم من مساهماتهم في بناء الوطنية السورية الحديثة.
إن ما تعانيه سوريا، وساهم حكم الأسد فيه هو التفاوت بين المناطق السورية والسكان الذين يتوزعون بين أهل المدن وأهل الريف، وكذلك الذين يتحدرون من البادية ولا تزال روح العشيرة تتحكم بمجتمعاتهم، والمهمة في سوريا تكمن في تنمية المناطق التي تحتاج إلى خدمات التعليم والصحة والعمل، ولا تزال إعادة صياغة المواطنة على أسس المساواة بين المواطنين في تنمية المناطق التي تحتاج إلى خدمات التعليم والصحة والعمل.
– انطلاقًا من كتابك “مصر الهوية والثقافة”، كيف تقرأ واقع المثقف في سوريا، إذ تبدو الثقافة السورية شبه غائبة… أو باختصار ما نظريتك لـ”سوريا الهوية والثقافة”؟
* الواقع لا يدهشني كثيرًا في غياب ما سميته المثقف في سوريا، لكني أستغرب حتى الآن التردد والإحجام الذي يبديه أولئك الذين كانوا في بداية الثورة العام 2011، يعتبرون أصحاب الصوت الأعلى، وأعني بذلك الذين كانوا يعبّرون عن تطلعات إلى الديموقراطية وإقامة حكم مدني. وإذا كنا نريد أن نشير إلى “سوريا الهوية الثقافية”، فمن البديهي القول بأن العروبة قد نشأت في سوريا مع الحكومة العربية بقيادة الأمير فيصل بن الحسين (1918-1920)، والتي انتهت بمعركة ميسلون التي أصبحت رمزًا للنضال ضد الاستعمار. ومع الأربعينيات من القرن الماضي، تحولت العروبة إلى قومية عربية راديكالية متأثرة بالتيارات القومية في أوروبا. كانت قيادة حزب البعث منوعة دينيًا وضمّت أعضاء من المدن والأرياف والبوادي، في نفس الوقت الذي ظهر نشاط الحزب القومي السوري والحزب الشيوعي.
ومن الملاحظ أن المثقفين السوريين والأدباء والمفكرين قد استقطبتهم التيارات الأيديولوجية وخاضوا صراعات عقائدية إلى الحد الذي صار الشاعر أو الروائي أو المفكر يصنّف تبعًا لانتمائه الحزبي. وقد أدّى ذلك إلى افتقار الإنتاج في مجال الفكر والتاريخ والاجتماع إلا في ما ندر. ومنذ الستينيات أصبح نظام الحزب الواحد يراقب الإنتاج الفكري والأكاديمي إلى حد انعدام هذا الإنتاج، مع سياسة تمييز بين المواطنين بنسبة الولاء للسلطة. ولهذا السبب فإن سياسات مماثلة في عدد من الدول العربية قد أدت إلى نمو المشاعر الدينية وبروز الجمعيات والمنظمات ذات التوجه الإسلامي.
إن ما نقوله بعبارات مختصرة يحتاج إلى تحليل طويل. ويمكننا القول بأن الهوية الوطنية في سوريا بحاجة إلى ترميم وهو أمر قد لا يحتاج إلى مجهودات كبيرة، ذلك أن الأمور بعد أسابيع قليلة على التغيير الكبير الذي حدث تدعو إلى نوع من التفاؤل المبني على رغبة عارمة من السوريين لاستعادة وطنهم وانتمائهم. والاحتضان العربي حاسم في استعادة موقع سوريا في الجغرافيا العربية.
– أنت الخبير في التاريخ التركي أو العثماني، ما الدور الذي يمكن أن تؤديه تركيا الأردوغانية في سوريا بعد سقوط الأسد، ودعمها الفصائل السورية؟ وهل هي قادرة على إرشاد أو رعاية أسلمة معتدلة؟
* أعتقد أن الدور التركي الحاسم قد أنجز، نظرًا للدعم الذي حصلت عليه الفصائل المسلحة في ادلب وعلى رأسها هيئة تحرير الشام من جانب حكومة الرئيس أردوغان، وما كان بالامكان أن يتم اسقاط الأسد بهذه السرعة، والأمر الذي يشغل الاتراك هو “قسد” (قوات سوريا الديمقراطية) أكثر من أي أمر آخر.
أما الكلام الشائع عن دور تركي في سوريا، فهو ناتج عن مقارنة بين تركيا والدور الذي لعبته ايران في سوريا. والمقارنة خاطئة، فليس لتركيا أهداف مماثلة لما كان لإيران في سوريا ولبنان. ثم أن النظام في تركيا بالرغم من توجهه الإسلامي فهو ليس نظاماً عقائدياً. لا أجرّد تركيا الأردوغانية عن خدمة أغراضها السياسية والاقتصادية في سوريا.
وبخصوص دعم التوجّه الإسلامي، أذكر أن الرئيس أردوغان قد زار مصر عام 2012، خلال الحكم الأخواني محمود مرسي، وقد استقبل استقبالاً لائقًا. وقد التقى قياداتهم ونصحهم باتباع سياسة واقعية، لكنهم لم يقتنعوا وودعوه وداعًا فاترًا معبرين عن عدم رضاهم.
المدن