سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسة

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 17 كانون الثاني 2025

حرية إلى الأبد: كل المقالات والتحليلات والحوارات التي تناولت انتصار الثورة السورية اعتبارا من 08 كانون الأول، ملاحقة يومية دون توقف تجدها في الرابط التالي:

سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

——————————————–

نحن والغرب ومشكلة الأقليات ومصيرها/ برهان غليون

17 يناير 2025

يصدم الخطاب الغربي القديم الجديد الذي لا يكاد يركّز على مسألةٍ في عملية الانتقال السوري الصعب أكثر ما يركّز على مسألة الأقليات طيفاً واسعاً من قطاعات الرأي العام السوري التي تريد بأيّ وسيلةٍ الخروج من فخّ الأقليات والأكثريات، وتحاول أن تركّز على مفهوم المواطنة، لتجاوز سياسات التعبئة الطائفية التي اعتمدها النظام القديم، وأخضع من خلالها المجتمع بأكمله لإرادته وأجهزة مخابراته الدموية. وعندما نتحدّث عن المواطنة فنحن نضع التشديد على حرية الفرد واستقلاله وحقوقه المدنية والسياسية، بصرف النظر عن انتماءاته الأهلية الموروثة.

وتأتي الإحالة إلى مسألة الأقليات في السياق الراهن كما لو كانت تشكيكاً بهذا النهج الوطني، وإصراراً على العودة إلى طريق التقاسم الطائفي للسلطة  بشكلٍ أو بآخر، كما جرى من قبل في العراق الذي لم يخرُج من فوضاه، ويستعيد الدولة والسياسة بعد.

أخطر ما يقود إليه التركيز على موضوع الأقليات والمكونات هو تسميم الفكر الوطني في البلدان العربية والإسلامية بمفهوم التجانس الذي سيطر على الفكر القومي الأوروبي في القرن التاسع عشر، وتركيز النظر في مفهوم الأمة على أنها التعبير عن تطابق الهوية السياسية والهويتين الثقافية واللغوية. كان هذا جوهر القومية الألمانية والإيطالية وعديد من القوميات، بما فيها الفرنسية التي استُخدمت من أجل تحقيق هذا التجانس، وقد كانت متعدّدة اللغات والقوميات، الجمهورية بمثابة مدحلة قوية فرضت على الجميع لغة واحدة، وحرّمت عليهم لغاتهم المحلية.

في مديح الأقليّات

وإذا تجاوزنا مفهوم الأقليات الذي وُلِد في حضن الحركات القومية الأوروبية التي تركّز على التجانس، ولا ترى فيها سوى معيقٍ له وجسم أجنبي، نجد أنّ التعدّد والتنوّع في الجماعات الدينية والقومية هو الحالة الطبيعية في المجتمعات على مرّ التاريخ. وفي الفضاء الحضاري والثقافي المشرقي قبل الإسلام وبعده، تعايشت هذه الجماعات فيما بينها، واستبطنت تعدّديتها الدينية والقومية، ولم تنظر إلى الآخر المختلف في أيّ وقت عنصراً دخيلاً، وإنما شريكاً في الوجود والمصير. ولم يحل اختلاف الدين أو الأصل دون تفاعل الأفراد في نشاطاتهم التجارية والزراعية والثقافية والفنية. يعرف كلُّ فردٍ أنّ في المجتمع طوائف عديدة، لكن الصفات الإنسانية والأخلاقية هي التي كانت معيار العلاقات بين الأفراد في هذه الثقافات.

غذّى التطبيق الآلي لهذا المفهوم للقومية على المجتمعات التي عرفت تاريخًا مختلفًا وتعدّدية بنيوية ودائمة النزاعات، وأدّى إلى إنتاج مذابح إثنية في عديد من البلدان في آسيا وأفريقيا. وقد نجحت البلدان العربية والإسلامية، ربما أكثر من أيّ مجتمعات حديثة أخرى ناشئة، في أن تتجنّب هذا الخلط، وأن تتبنّى مفهوماً مختلفاً ومركّباً للقومية يستوعب التعدّدية الدينية والثقافية، كما يجسّده شعار الدين لله والوطن للجميع. ونشأت فيها وطنياتٌ ترتبط بالولاء للدولة، وتقوى وتضعف حسب تجسيد هذه الدولة إرادة المجموع. والسبب أنها لم تكن ترى في “الأقليات” جماعاتٍ دخيلةً على جماعة نقية وخالصة من كلّ اختلاف، وإنما أصحاب أديان مختلفة، جميعهم أصلاء في بلدهم (وطنهم)، بصرف النظر عن القلّة أو الكثرة. وكان وجود هذه الطوائف وحضورها أمراً معطى لا يمكن إنكاره، وإنما ينبغي استيعابه جزءا لا يتجزّأ من الواقع الاجتماعي السياسي القائم، أي من الدولة ومن الذات السياسية إذا صحّ التعبير. وربما أصبح من الممكن في مجتمعنا الراهن الطامح إلى أن يتشكّل بوصفه أمة من أفراد أحرار متساوين في الحقوق والواجبات أن نستخدم مفردة أطياف دينية وقومية بدلًا من طوائف التي بدأت عُراها هي ذاتها تنحلّ بالفعل ويتراجع وقعها وأثرها في سلوك الفرد بمقدار اندماجه في الحياة العامة الحديثة.

والواقع أنّ أمم الأرض جميعًا، والحديثة منها بشكل خاص، لا يمكن إلا أن تكون مكوّنة من جماعات متنوّعة، ديناً وثقافة وطبقات وفئات اجتماعية، يجمعها التفاهم الأساسي من حول مشروع حياة وطنية يصنعها أفرادها معا. وحتى داخل ما نسميها الأكثرية القومية أو الدينية هناك جماعات متميّزة. والشعب الذي ليس فيه إلا جماعة واحدة مُتطابقة مع نفسها ومُتماهية مع كلّ فردٍ فيها هو شعب بدائي لم يوجد أبدًا أو لم يعد له وجود. بل إننا نجد التنوّع الديني والقومي شديداً في المناطق والبلاد التي شهدت وتشهد تقّدمًا حضًاريا كبيرًا. فالتقدّم/التطوّر يغذّي التمايز والتنوّع داخل الجماعة الواحدة، بل الأسرة الذرية نفسها، كما يجذب الآخرين القادمين من الخارج، وينمّي داخل المجتمعات القدرة على تقبّل الاختلاف واستيعاب التنوّع من دون أن تفقد توازنها.

والبلاد الأكثر تنوّعًا دينيًا وإثنيًا هي التي كانت مهد حضارات كبيرة، مثل الهند والصين والبلاد الإسلامية. وبالعكس، بقيت أوروبا الهمجية تطرد الأقليات الدينية والأقوامية خلال أكثر من ألف عام، وترى فيها خطراً عليها، إلى أن انتهت بتنظيم محارق لم يعرف التاريخ مثيلاً لها للطائفة اليهودية. وهي لا تزال تستخدم ضحاياها اليهود لفرض الاستسلام على بلدان الشرق الأدنى وإجبارهم على الطاعة والتسليم بوصاية الغرب الذي لا يتردّد في أن يعبّر عن كراهيته الإسلام، بعد أن أصبح جزءاً من نسيجه الوطني في أكثر من دولة، في كلّ حرب تُشنّ على شعوبه، ويستمتع بإضفاء صفة الصليبية على حروبه إثارة للأحقاد التاريخية.

لا يوجد اليوم شعبٌ من قومية صافية أو من عقيدة واحدة. وحتى لو لم تكن فيه تعدّدية دينية أو طائفية لا بُدّ أن تولد فيه تيارات ومذاهب مختلفة في نظرتها إلى التراث وتأويلاتها للعقيدة الدينية الواحدة. وبالتالي، لا يوجد شعب من دون اختلاف داخل صفوفه بين فئاتٍ متباينة. وقد كان النزاع بين اليسار واليمين في عديد من مجتمعاتنا في الخمسينيات أشدّ وأعنف منه بين الطوائف الدينية. وحدها القبائل البدائية تعيش في وحدة ثقافية قبلية مغلقة، وتنظر إلى أيّ اختلاف أنه دخيل عليها وتهديد لوحدتها وحرب ضدّها.

وأكثر البلاد تعدّداً إثنيا ودينياً وفكريًا هي اليوم الولايات المتحدة، أي الدولة الأكثر تقدّمًا أيضا في عديد من الميادين العلمية والتقنية والحريات الاجتماعية والسياسية. وهذا التنوّع هو مصدر قوتها وإبداعيتها وديناميكية مجتمعها.

ينبغي أن نكفّ عن تصوّر التنوّع نقمة، كما علّمتنا الفلسفة القومية الغربية العنصرية، فهو نعمة. وينبغي أن نوقف الدول الأجنبية عن العبث بقضيّة “الأقليات” وتهديد هذا التنوّع، الذي يشكّل ثروتنا وهُوّيتنا، لغاياتٍ استعمارية. ليس الغرب هو من رعى عندنا هذا التنوّع، فهو لا يزال يرى في وجود الأقليات، كما يصرّ على تسميتها، على أراضيه نقمة وخطراً ووباء.  بينما عاشت الطوائف المختلفة بحرية في البلاد المتحضّرة في القرون الوسطى، ومنها الإسلامية والعربية، وحافظوا على دينهم وعباداتهم ومصالحهم، قبل تدخّل الغرب في شؤونهم وشؤون شعوبهم واستعمال بعضهم أوراقاً لتحقيق غاياته الاستعمارية خلال مئات السنين، من دون حصول مجازر أو حروب دينية أو قومية.

وأحد أبرز العوامل في تفجير الثورة السياسية في أوروبا كان الحروب التي فجّرها تشبّث الكنيسة بوحدة دينية وعقدية وسياسية مطلقة، وإدانة جميع تيارات الفكر المسيحي الأخرى بالهرطقة ورفض أيّ شكل من التنوّع الديني. وما كان من الممكن وقف هذه الحروب وعقد السلام بعد أن أوشكت أوروبا أن تفقد جزءاً كبيراً من ساكنتها إلا بوضع حدّ لسلطة الكنيسة السياسية ولعقيدتها الواحدية وقبول التعدّدية السياسية والدينية. وفي هذا المخاض، ولدت فكرة الدولة السياسية المستقلة عن سلطة الكنيسة وتقاليدها الواحدية والتكفيرية، فحلّت المواطنة صفةً لأيّ فردٍ يعيش تحت سلطة الدولة، ويتمتّع بالحرية محلّ التابعية وأُمكن تعايش الجميع، والارتقاء إلى مستوى أعلى من الحياة المدنية، حيث يتنافس الأفراد ضمن القانون على احتلال مواقع المسؤولية وتجسيد آرائهم الاجتماعية.

أسّست دولة المواطنة للاعتراف بأهلية جميع الأفراد ليكونوا أعضاء فاعلين ومتساوي الحقوق في الحياة السياسية والاجتماعية، بصرف النظر عن تنوّع اعتقاداتهم وأديانهم. لكن هذه الدولة والمساواة القانونية والسياسية التي تميّزها لم تلغ حقوق الأفراد المدنية الخاصة في الانتماء لجماعاتٍ دينية أو ثقافية أو أحزاب أو قوميات أيضا. فالعام (الاتحادات تحت سلطة القانون) لا يلغي الخاص (الاتحادات الأهلية الدينية وغير الدينية)، بل هو الضامن لممارسة التنوّع بحريّةٍ وضمن حدود احترام حقّ الآخرين في الممارسة ذاتها. والفارق بين التعدّد والتنوّع الذي كانت تُتيحه الدولة الإمبراطورية القديمة، أو السلطنة، والدولة الأمة الحديثة أنّ الأولى كانت تساوي بين جميع الأديان والطوائف بحرمان جميع الأفراد من الأهلية السياسية وحصرها في الأسرة الحاكمة، بينما تقوم التعدّدية في الثانية على المساواة في المواطنة بين جميع الأفراد في السيادة. باختصار، تساويهم الأولى في العبودية والثانية في الحرية.

في اللعب بمسألة الأقليات وتهديد وجودها 

بخلاف ما تشيعه الفرضيات السائدة حول تطوّر مجتمعاتنا السياسية في المشرق، وفي سورية بشكل خاص، ليس تعدّد الأديان والقوميات هو الذي يعرقل نشوء الأمة بالمعنى السياسي الحديث، ولكن استخدام الدول الغربية هذا التعدّد، وربما في المستقبل ممن يقلدها من الدول الإقليمية الطامحة إلى إعادة إنتاج نمط الإمبراطورية الاستعمارية، أي التوسّعية، فمن وراء الحماية المعلنة للأقليات تبرُز سياسات الوصاية على عموم الشعوب. وما تمثله من فرصةٍ للتحكّم وهيكلة هذه الشعوب وحصرها في نماذج طائفية أو شبه طائفية تسهّل السيطرة عليها والتلاعب بمصيرها. فليس من أنشأ المسألة الطائفية، أي سيّس الطائفة الدينية وزوّدها بقيمة سياسية تبادلية، في المشرق، سكانه ولا نخبه الذين تبنّوا غالبا سياسة وطنية، وصاغ بعضهم أكثر الدساتير رقيا في هذا المجال (مثلا دستور أول مملكة سورية عام 1920)، وإنما سلطات الانتداب التي فرضت تقسيم الجغرافيا حسب ما اعتقدت أنها حدود الطوائف والأقليات. فعلت ذلك كلّه، للتمكّن من اللعب على تعدّدية المجتمعات الدينية والمذهبية والقومية للتحكّم بها من الداخل، وحرمانها من حقوق المواطنة الأساسية الفردية والجماعية، أي السياسية والأهلية معا، ومنعها من التقدّم والنمو والنضج. هذا من أحد الأسباب الرئيسة لغياب نموذج الدولة الوطنية في أقطارنا وتقويض شروط إنتاجها، وهو ما لا تزال مجتمعاتنا تعيش عواقبه الوخيمة، وتخوض ثورات متعاقبة من أجل إزالة آثاره المدمّرة للوطنية والسياسة على حدّ سواء.

 استمراراً لهذه السياسة، دعمت أوروبا، من دون أيّ نقد أو شروط، نظام الأسدين في سورية، وراهنت على بقاء نظامهما بذريعة حماية الأقليات. ولم تتخلّ إلا مرغمة عن هذا النظام الذي حذا حذوها في الرهان على تغذية العصبيات الطائفية والأقوامية لتأبيد حكمه وفرض وصايته المطلقة على الشعب. والآن، تُستخدم الورقة ذاتها للضغط على النظام الجديد الذي لم يرسّخ أركانه بعد. وبدلًا من التوسّط لإيجاد حل للمسألة الكردية السورية، تتمسّك أوروبا بحزب الاتحاد الديمقراطي وتشجّعه على الاستمرار في سياسته التي لا يمكن أن تقود، لا إلى حلّ المسألة الكردية، ولا المسألة السورية، وإنما تضع المسألتين في طريق مسدود، فالخلط الذي يصرّ عليه الحزب (وهو فرع لحزب العمّال التركي) وداعموه العرب والغربيون بين قضية الحقوق القومية الكردية المحقّة والعادلة وقضية الإدارة الذاتية المسمّاة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) يشكّل مشكلة حقيقية ليس لها حل. فإذا لم يكن هناك أيّ اعتراض من أغلب السوريين على تمكين الكرد من حقوقهم الثقافية واللغوية والإدارية في المناطق ذات الأكثرية الناطقة بالكردية. في المقابل، هناك استحالة أن تسلّم أيّ حكومة سورية بسيطرة حزب كردي مسلّح بذريعة المسألة الكردية السورية على ثلاث محافظات سورية لا يمثّل فيها الأكراد إلا نسبة ضئيلة من السكان، وهي تضم، بالإضافة إلى ذلك، أهم موارد البلاد الاقتصادية، ولا يكف أغلب سكانها عن السعي إلى تحرّرهم من سطوة المليشيا المُسيطرة. وإذا اعتقد الحزب أنه قادر، بالدعم الدولي، على الحفاظ على هذه السيطرة وإقامة دولة حزب الاتحاد الديمقراطي، كما كانت هناك دولة حزب الله في لبنان، سنكون لا محالة أمام حرب سورية سورية ليست بعيدة شمال شرق الفرات، قد تعطّل، في أيّ لحظة، مرحلة الانتقال السياسي وتدفع البلاد إلى فوضى عارمة. وربما يكون الكرد السوريون أكبر ضحاياها. 

لذلك لا يقدّم الغربيون خدمة للقضية الكردية عندما يشجعون فريقاً هو نفسه لا يؤمن بالقضية الكردية القومية، وإنما يستغلها لإقامة إمارة صغيرة في سورية يجرّب فيها فلسفة “ديمقراطية الشعوب” على الطريقة الستالينية، ولكنهم يخدعونهم لتحقيق مآرب استراتيجية في صراعات النفوذ الإقليمية والدولية ويحمّلونهم أثمانًا باهظة. كما أنهم لم يخدموا المسيحيين عندما خوّفوهم من التغيير، ودفعوهم إلى التعاون مع نظام الأسد، وإنما أضعفوا موقفهم السياسي، بعد أن كانوا شركاء أصيلين في حكومات ما بعد الاستقلال الوطنية. ومعظم هجرات هولاء التي عرفتها البلاد السورية لم تحصل بسبب الاضطهاد أو التمييز الداخلي، وإنما بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية والانفتاح الغربي عليهم وتقديم المغريات لهم، بالإضافة طبعاً إلى زعزعة ثقتهم بشعوبهم وزعزعة ثقة شعوبهم بهم، وإحداث فجوة بينهم، مع تصاعد حملات الإسلاموفوبيا حتى صار أكثرهم ينظر إلى أكثرية شعبه الأصلي أنها بعيدة عن المدنية ويستحيل تقدّمها، ولا مستقبل للبقاء فيها. هكذا هبطت نسبتهم من السكان في سورية من حوالي 30% في بداية القرن الماضي إلى أقل من 5% اليوم. والنسبة الأكبر لم تُهجّر  تحت حكم الأكثرية المسلمة، وإنما في ظلّ نظم ديكتاتورية وأقلوية دعمت الغرب وشجعته منذ أكثر من نصف قرن. وفي ظروف سياسية مختلفة ومشابهة، لا بسبب الاضطهاد الداخلي، لم يبق من يهود البلاد العربية إلا القليل.

سواء كان هدفها حماية الأقليات أو الاحتماء بها، لم تخدم سياسة التمييز في مسألة الحقوق الإنسانية العامة والوطنية، الأقليات بمقدار ما غشّتها وأساءت إلى علاقات الدول الغربية مع شعوب المنطقة وجمهورها. كلُّ ما نجحت فيه هو دقّ إسفين بين الأقلية والأكثرية الشعبية أملًا بكسب ولائها واستخدامها وسيلة لتعزيز نفوذها على حسابها. وفي أحيانٍ كثيرة، ألّبت شعوبها عليها وتركتها عند المحنة تواجه مصيرها وحدها. هذه ليست سياسة إيجابية. وليست إيجابية سياسة التركيز على حقوق الأقليات وحمايتهم، كما لو كان السوريون من غير الأقليات كلّهم “دواعش”، متهمين سلفًا بكراهية مواطنيهم، بسبب عقيدتهم أو متمسّكين بالتمييز ضدّهم.

وليس هناك، في نظري، سبب للاستمرار في هذه النظرة التحقيرية للشعوب، والعربية منها بشكل خاص، عند الغربيين، سوى صعوبة القطع مع تاريخ السيطرة الاستعمارية وما ضمنته من استباحة الموارد البشرية والطبيعية فيها، والتعويض عن هذه السيطرة الوحشية الفائتة بوصاية سياسية وأخلاقية وفكرية لا تقلّ تهديداً لمسار تقدّم هذه الشعوب ومستقبلها الثقافي والسياسي والاقتصادي عما قامت به السلطة الاستعمارية المباشرة من فتكٍ بالدول والمجتمعات.

من مصلحة الغربيين أن يتوّقفوا عن إنكار الطابع السياسي لهذه الشعوب الذي أرسوا عليه في الماضي القريب شرعية غزوهم الاستعماري البلاد الأخرى منذ أكثر من قرنين، وأن يقبلوا بمنطق المساواة بين الأمم في السيادة على أرضها وتقرير الشعوب مصيرها بنفسها ويتركوا لها أن تحلّ خلافاتها بذاتها وبالطرق السلمية.

وفي اعتقادي، يكسب الغربيون كثيراً إذا نجحوا في التغلّب على مشاعرهم السلبية تجاه الشعوب التي استعمروها سابقاً، وتجاوزوا عاهة نظرهم إلى شعوب المشرق طوائف وعشائر لا رابط بينها، تقف واحدتها في مواجهة الأخرى، سانّة أسنانها، ولا تفكّر إلا في اللحظة التي تسمح لها بالتهام جارتها، وإنّ الأكثرية (المتعصّبة حتما) فيها ستقضي، لا محالة، على الأقلية الضعيفة والمُتسامحة والمجرّدة من أيّ سلاح. ومن مصلحتهم أن ينظروا إليها ويتعاملوا معها منذ الآن بوصفها شعوبًا، أي كيانات سياسية واحدة تعبرها صراعات ونزاعات واختلافات، كما تجمعها قواسم مشتركة وثقافة وتاريخ وشعور بالمصير الواحد وطموح الى التقدّم والترقي ومجاراة الشعوب السبّاقة ومواكبة العصر، مثل الشعوب المتقدّمة الأخرى. ومن مصلحتهم أيضا أن ينظروا إلى الأقليات جزءا من هذه الشعوب، ويقبلوا بتركها تقرّر مصيرها مع بقية أبناء شعبها وتقاتل من أجل حقوقه، من دون أن يصب هذا القتال في كيس الدول الغربية التي تدّعي حمايتها.

هذا هو الأسلوب الصحيح والأخلاقي لإنهاء الاستخدام الأداتي وغير اللائق دائماً بغرب يتبنّى قيم الديمقراطية والمواطنة وحقّ جميع الدول في السيادة لورقة الأقليات، والتعامل معها فقط بوصفها وسيلة للضغط والابتزاز. فبصرف النظر عن أقلياتها وأكثرياتها، ما يجمع الشعوب اليوم ويوحّد إرادتها في جميع القارّات ليس عصبية دينية أو أقوامية، وإنما الأمل بالوصول إلى الحقوق الإنسانية الأساسية: الحرية والعدالة والمساواة والسعادة الأرضية. هذا هو المحرّك الأبرز للأفراد اليوم بصرف النظر عن أديانهم وطوائفهم وقومياتهم. وهو الذي يولّد الفردية المستقلة، ويدفع إلى التحرّر من ضغط الانتماءات التقليدية، في كلّ مكان. وكما يفسّر أيضاً نجاح الأفراد في تجاوز العصبيات الأهلية التي لم يعد أكثرهم يرى فيها خلاصًا من البؤس والعبودية، وإنما بالأحرى قيداً ينتظر فرصة التخلّص منه، فإنه هو الذي يولّد إرادة الانتقال إلى الدولة الأمة الحديثة، ويغذّي الروح الوطنية.

العربي الجديد

——————————-

مسرح عبث أم واقع سوري؟/ رشا عمران

17 يناير 2025

لم أستطع رؤيته أكثر من مسرحية هزلية ذلك المهرجان الدعوي الذي أقامته مجموعة من المقاتلين الجهاديين في مدينة جبلة الساحلية التي يغلب على سكّان ريفها المذهب العلوي، والتي يوجد فيها آلاف من العلويين يومياً بحكم أنها المدينة الحاضنة لكل الريف المحيط بها: مجموعة من المقاتلين الجهاديين لا يوجد بينهم سوري واحد، يرتدون اللباس الأفغاني (لا أعلم إن كان السلف الصالح يرتدي هذا النوع من اللباس)، ويحملون أسلحة رشاشة، تحيط بهم حلقة من سكّان المنطقة، بينهم أطفالٌ كثيرون، يخطب بهم مقاتل ليبي جهادي يشتم العلويين ويصفهم بالكفرة والزناديق، من دون أن يدرك أن المحيطين به، في غالبيتهم، من هؤلاء المشتومين. ثم يحاول أن يعثر على طفل أو طفلة حافظين آية من آيات القران الكريم ولا يجد، ويستغرب لماذا لا يصيح هذا الجمع بالتكبير والتشهد على عادة المؤمنين الذين يفترض أنهم باتوا أحراراً بسقوط النظام “النصيري الكافر” الذي كان يمنعهم من إقامة دولة الخلافة الإسلامية.

هل من فانتازيا أكثر من هذا المشهد الغرائبي الذي تكرّر ما يشبهه في عدة أمكنة من سورية؟ كأن تعبر سيارة بمكبر صوت في وسط حي الأرمن في حلب تدعو النساء إلى ارتداء اللباس الشرعي، أو تتوجّه مجموعة من الجهاديين الملثّمين المسلحين إلى حي القصاع الشهير ذي الغالبية المسيحية في دمشق يلصقون ملصقاتٍ حائطيةٍ تدعو إلى تحريم الاختلاط والسجائر والكحول والغناء والفن، وتحثّ النساء على ارتداء اللباس الشرعي، قبل أن يقبض عليهم رجال الحي ويزيلوا أقنعتهم ويسلموهم للأمن العام.

هذه ظواهر سوف تحدُث كثيرا في سورية. وشخصيا، (أنا علمانية تنتمي لأقليةٍ من الأقليات السورية)، لا تخيفني ولا تسبّب لي الرعب، بل أراها من منظور كوميدي، أو لنقل من منظور العبثية التي يمكن أن نصف فيها المرحلة السورية الحالية بامتياز. وأعتقد أن الوجدان السوري والذاكرة السورية الجمعية سوف يلفظان هذه الظواهر سريعاً لصالح الاعتدال الديني الذي تميز به المجتمع السوري خلال تاريخه. الاعتدال بوصفه النمط الإيماني المناسب لبلدٍ مثل سورية، مدنه الكبرى تجارية وريفه زراعي، والتجارة والزراعة مهنتان لا يتناسب معهما التطرّف الديني. ذلك أن التجارة تحتاج مجتمعاً منفتحاً قادراً على استيعاب حركة سياحة داخلية وخارجية (تشغل السوق) كما يقال بالعامية السورية. وتحتاج الزراعة إلى وجود النساء جنبا إلى جنب مع الرجال في الأرض، فالتربة التي تنتج هذا التنوّع في خيراتها تحتاج أيادي متنوعة تشبهها. وهذا أمر يدركه المزارعون جيداً. لذلك من النادر جدّا أن نرى مجتمعا زراعيا في مكان يتّبع سكانه نمطا متشدّدا في حياتهم اليومية، هذا منطقٌ مضادٌّ للطبيعة ذاتها.

تكشفت سورية بعد فرار الأسد وانهيار دولته عن مستنقع آسن ممتلئ بالعفونة والروائح الكريهة، إجرام وطائفية وفساد ووصولية وانتهازية وكبت ديني وكبت مجتمعي وقمع غير مسبوق، كل هذه الخلطة الفاسدة إذا أضيفت إلى الفقر وانعدام أساسيات الحياة وانتشار السلاح وتجريف المجتمع وانتشار آفة المخدّرات والإدمان، ثم نضعها كلها في دائرة الفوضى وفقدان الأمن وقلة خبرة حكام الأمر الواقع وعدم وجود كوادر مدربة لحماية الآمن تكفي لبلد بحجم سورية، سوف نحصل على وصفة من العبثية والكوميديا السوداء غير مسبوقة في التاريخ الحديث.

هذا المشهد العام كفيل بأن يزيد الخائفين خوفاً والقلقين قلقاً، خصوصاً مع العبثية السياسية، هيئة عسكرية موضوعة مع قائدها تحت بند الإرهاب في مجتمع دولي سهّل لهذه الهيئة الوصول إلى الحكم في بلد موضوع كله تحت قائمة العقوبات الدولية، وتتقاطر الوفود الدولية إلى العاصمة للالتقاء بقادة هذه الهيئة (الإرهابية)، التي تحاول التخلص من ثيابها القديمة، وارتداء لباس حداثي ليبرالي بخطاب جديد متخفّف جداً من حمولة إيديولوجية راديكالية متطرفة، لكنه ما زال متردّداً في إعلان مظهره الجديد الذي سوف بدأ يتسبب بصدمة واضحة لمناصريه من باقي الفصائل الراديكالية، وفي الوقت نفسه، يعيّن مسؤولين لديهم تاريخ حافل بالقتل الجندري أو خطاب الكراهية الموجه ضد الطوائف والأديان التي تشكل جزءاً رئيساً من المجتمع السوري.

العربي الجديد

——————————–

سورية: المناهج المدرسية مقدمة التغيير أم نهايته؟/ سميرة المسالمة

17 يناير 2025

تُعد المناهج الدراسية من أهم الأدوات التي تُستخدم لتشكيل وعي الأجيال القادمة، فهي ليست مجرد وسيلة لنقل المعرفة، بل هي أيضًا وسيلة لتوجيه الفكر وإرساء القيم، ما يفترض ذلك أن عملية تغيير المناهج الدراسية سواء كان ذلك بهدف تحديثها أو تنقيتها، تكون مدروسة بعناية، لضمان عدم استخدامها كسلطة رقابية فكرية لفرض رؤى أو أفكار معينة، حيث يُستخدم التعليم عند السلطات المستبدة، كأداة لتوجيه العقول نحو اتجاهات محددة تخدم مصالح سياسية أو أيديولوجية محددة، بما يخرجه عن مهمته الأساسية في فتح أبواب المعرفة الشاملة أمام التلاميذ، وبناء ذواتهم المستقلة والفاعلة.

في سورية، ربما يمكن القول إن حكومة تسيير الأعمال كانت محقة في الإسراع بإجراء سريع طاول المناهج الدراسية بعد انتصار الثورة (8/12/2024)، وهروب رئيس النظام من البلاد بعد حربه المدمرة على شعبه، وهنا أقصد ما أعلن عنه من تحرير المناهج من تمجيد النظام السابق، وهذا حق، وهو مطلب شعبي غايته إزالة المواد التي كانت تُكرّس لسلطة الحزب الواحد، وتروج لأفكار النظام الحاكم، وبخاصة أنها في  الأساس بدون أي قيمة تاريخية أو علمية.

إلا أن عملية التغيير هذه، سرعان ما تحولت إلى ساحة للصراع الأيديولوجي -السياسي، بسبب أنها امتدت إلى ما هو أبعد من مجرد إزالة محتوى دعائي للنظام السابق، لتطاول تغييرات علمية واجتماعية في محتوى المناهج، فمع أهمية حذف الدروس المتعلقة بتمجيد نظام الأسدين (الأب والابن) لكن في المقابل، تم التعاطي مع نواح أخرى بخلفيات أيديولوجية أو تعتيم على معلومات علمية، وهو ما أدى إلى اعتبار أنه تم إدخال محتوى يخدم التوجهات السياسية للحكم القائم الحالي، مما جعل العملية تبدو وكأنها أداة للرقابة الفكرية أكثر منها عملية تنقية للتعليم.

فالمناهج الدراسية هي أكثر من مجرد كتب دراسية، لأنها تشكّل الأساس الذي يُبنى عليه وعي الطلاب، وأي تحول بهذه المناهج عن طبيعته التعليمية، يُؤثر على طريقة تفكيرهم وتقييمهم للعالم من حولهم، وعليه، فإن التدخل في المناهج الدراسية لتوجيه الفكر أو حذفه أو تغييره بما يتناسب مع رؤية معينة يُعد نوعًا من الرقابة الفكرية التي تقيّد حرية التفكير والنقد.

ولعل من المهم التأكيد على أن تدخل الرقابة الفكرية في التعليم لا يقتصر فقط على حذف أو إضافة مواد دراسية، بل يمتد إلى كيفية تقديم المحتوى، وطريقة تدريس المواد. فالرقابة على المناهج قد تشمل أيضًا التدخل في اختيار الكتب الثقافية، والتأثير على طريقة تقديم المعلومات في الفصول الدراسية، بل قد تصل إلى فرض قيود على المعلمين في كيفية مناقشة الموضوعات الحساسة، حيث تؤثر كل هذه الممارسات في قدرة الطلاب على التفكير النقدي وتكوين آرائهم المستقلة.

وعلى رغم أنه في عصر العولمة والانفتاح الرقمي، من الصعب على الحكومات فرض رقابة شاملة على الفكر من خلال المناهج الدراسية أو غيرها، حيث أتاح الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي للطلاب والمهتمين بالمعلومات الوصول إلى مصادر تعليمية متعددة ومتنوعة، والخشية من أن تكون  تلك المصادر من الناحية العلمية، أكثر دقة وشفافية من المناهج التعليمية، ما قد يفقد العملية التعليمية ثقة الطلاب وأهاليهم، لأن التعليم الرسمي والمناهج الدراسية هو المصدر الأساسي لتشكيل الفكر الجمعي، مما يجعل من مسؤولية التدقيق في المناهج وصدقيتها وانفتاحها على العلوم والنظريات العلمية ضرورة، حيث ينظر لها أنها هي المجال الأكثر تأثيرًا في بناء وعي الأجيال الجديدة.

من هنا، تبرز أهمية القول، بضرورة أن تكون عملية تعديل المناهج شفافة ومدروسة، بعيدًا عن الأجندات السياسية أو الأيديولوجية، فالمناهج أداة لبناء الفكر النقدي وتشجيع التفكير المستقل، وضمان أن التعليم يُعزز من قيم الحرية، والمساواة، والتسامح، والعدالة، ويُتيح للطلاب فرصة التعبير عن آرائهم والتفاعل مع أفكار متنوعة.

إلى جانب المناهج الدراسية، تلعب هيئة التدريس دورًا رئيسيًا في تشكيل البيئة التعليمية، أي أن هذه الهيئة قد تتعرض أيضًا للتغيير ضمنًا حيث يمكن لضغوط اجتماعية وسياسية أن تؤثر على استقلاليتها وحتى على خياراتها الشخصية، في بعض السياقات، مثلًا قد تجد المعلمات أنفسهن مضطرات لارتداء الحجاب أو التظاهر بارتدائه كوسيلة لضمان بقائهن في وظائفهن، خاصة في ظل بيئات تُفرض فيها معايير اجتماعية أو أيديولوجية صارمة، هذا التوجه لا يقتصر على كونه قيدًا على حرية الأفراد، بل يمتد ليؤثر على طبيعة التعليم نفسه، حيث يعتبر هذا إحدى وسائل المنهج الخفي في التغيير.

ولتوضيح ذلك، أستعين بما دلل عليه الكاتب أنس غنايم في مقال له منشور في موقع الجزيرة في 18/7/2017 في معرض حديثه عن تغيير المناهج في الأردن من تأثير المنهج الخفي على التلاميذ أيضًا حيث يرى الباحث جان مارتن بأنّ المنهج الخفي هو “التعلم العرضي غير المقصود الذي يؤدي إلى تحقيق أهداف غير مخطط لها بالإضافة إلى تلك الأهداف المخطط لها” ومن ذلك العرض أمكن تحديد المفهوم الإجرائي للمنهج الخفي بأنه “القيم والمعايير والمعتقدات المنقولة للتلاميذ بدرجة كبيرة من خلال اللاوعي والعمليات اللا نظامية في بيئة وبنية المدرسة”.

بمعنى أن المعلمين يصبحون أدوات لنقل قيم معينة تعكس رؤية السلطة أو المجتمع المهيمن، بدلًا من أن يكونوا وسطاء للتفكير الحرّ والنقدي، وعندما تُفرض مثل هذه المعايير، فإنها تُرسل رسالة ضمنية للطلاب بأن الامتثال هو الخيار الوحيد، مما يُضعف من قدرتهم على استيعاب قيم التنوع والتعددية.

إن خيارات التعديل والتغيير تبقى دائما في أيدي السلطات الحاكمة عندما تغيب سلطة الشعب عليها، ولذا فإن الجمهورية (السورية) الثالثة التي تتشكل معالمها اليوم تحتاج، بعد النصر الكبير الذي تحقق، إلى النهوض بالعملية التعليمية لأنها إحدى أهم الركائز التي تُبنى عليها المجتمعات، وإن أي تدخل غير مسؤول في المناهج قد يؤدي إلى تكريس الانقسامات الفكرية والاجتماعية، في وقت سورية أحوج ما تكون فيه إلى توحيد الجهود للنهوض بها في كل المسارات، وأولها التعليم لأنه أساس بناء مجتمع أكثر نضوجًا وتسامحًا وابتكارًا.

*كاتبة سورية.

ضفة ثالثة

——————-

خضوع ثقافي: هل نفضّل التماهي مع الصور الشمولية؟/ محمد سامي الكيال

تحديث 17 كانون الثاني 2025

أثارت تصريحات أطراف، في القوة الحاكمة حالياً لسوريا، كثيراً من القلق بين المهتمين بالشأن العام، وأيضاً عموم المواطنين، إذ بدا أن السلطة الجديدة تمتلك تصورات محددة جداً عن كثير من المسائل الاجتماعية والثقافية، ومنها الصورة الصحيحة للدين والمرأة والرجل. هذا قد يعني أن هذه الجهة، التي تمتلك سلطةَ تنفيذية، وما يشبه السلطتين التشريعية والقضائية، ستسعى لفرض تلك الصور على مجتمع، يصنّف دائماً بأنه شديد التعددية، عبر أجهزتها العنفيّة والأيديولوجية. وبالتأكيد فإن ربط المجتمعات بصور مسبقة ومتعالية، تحددها الدولة، أو ما يشبهها من قوى سياسية مسلّحة، يهدد بحكم شمولي. في تكرار لما عانته وتعانيه المنطقة منذ عقود طويلة.

إلا أن هنالك ميلاً للتفاؤل لدى كثير من السوريين: لن تستطيع القوة الحاكمة، أياً كانت أيديولوجيتها ونواياها، أن تفرض صورها على سكّان البلد. لماذا؟ الجواب غير واضح، ولكن يبدو أن هنالك ثقة بوعي أو ثقافة «الشعب السوري»، وربما أيضاً، الضغط الخارجي، اللذين سيمنعان الحكم الشمولي، أو حتى «يروّضاه» و»يبتلعاه».

لا يوجد أي معطيات، تاريخية أو اجتماعية أو سياسية، تدعم هذا التفاؤل بشكل كافٍ، فالمجتمع السوري، رغم تعدديته وثقافته، خضع لعقود، وبشكل نسبي أو كامل، للصور الشمولية، التي عمّمها حزب البعث الحاكم، تحت نظر العالم، ليس من دون مقاومة، أو وقائع دموية كثيرة، ولكن بالتأكيد كان هنالك ائتلاف واسع من الفئات الاجتماعية، التي ارتضت تلك الصور لنفسها وللآخرين، وفرضتها بالعنف والهيمنة. اليوم، ورغم أن سلطات الأمر الواقع في سوريا لم تعزّز عنفها وهيمنتها بعد، ولم تنل الشرعية المحلية والدولية، يمكن ملاحظة ميل مقلق بين فئات سورية متعددة: التنازل، الذي يبدو طوعياً، عن عدد من المظاهر الحياتية، والحريات، إرضاءً لما يُفترض أنه عقيدة الحاكمين، أو استباقاً لإجراءاتهم، من قبل أفراد مؤيدين لهم، أو خائفين منهم. قد يظهر ذلك في وقائع نقلها كثيرون، دون إمكانية توثيقها بشكل منضبط، مثل التحجّب الطوعي لنساء من طوائف ومعتقدات لا تعتقد بالحجاب، أو قيام بعض شركات النقل والمؤسسات التعليمية بفصل الجنسين، أو إغلاق بعض المؤسسات الثقافية لأسباب غير واضحة. إلا أن الأهم في هذا السياق، ما يبدو أنه حالة من الرضا والتسليم بأحقية بروز لون عقائدي واحد، وتسيّده على الحيّز العام، من دون إعطاء فرص متساوية، ولو حتى نظرياً، لبقية المعتقدات والرؤى لإظهار نفسها، والدعاية لأفكارها.

قد يشير كل هذا إلى نوع مما يمكن تسميته «استباق الشمولية»، أي ميلاً اجتماعياً لافتراض نوعية الحكم الشمولي الذي سيخضع الناس له، ومن ثمّ التماهي معه بشكل أقرب للطوعية، وكأن ذلك النوع من الحكم هو القاعدة، والأمر «الطبيعي». ما السبب؟ هل يمكن تفسير ذلك بالخوف، أو حتى قرب عهد الناس بالديكتاتورية؟ ماذا عمّن يُفترض أنهم نخب ديمقراطية في البلد؟ هل يواجهون ذلك الميل، أم يعززونه؟ وكيف يمكن فهم دائرة فرض الصور الشمولية هذه، التي يبدو أنها بعيدة عن التوقف؟

مشكلة الذاتية

بعيداً عن التحديدات، التي تتسم بضعف المعنى أو انعدامه، لا توجد، ولم توجد بلدان لا تعددية فيها، سواء كانت تعددية دينية أو إثنية أو ثقافية أو طبقية، وسواء تحدثنا عن سوريا أو أفغانستان أو ألمانيا أو فرنسا، وبالتالي فإن خضوع المجتمعات للحكم الشمولي، أو لبعض مظاهره، لا يعني أنها ضعيفة التعددية، بل ربما تكون الصراعات الاجتماعية والسياسية المرتبطة بتعدديتها، أحد أهم دوافع الشموليين، لفرض صورهم الأحادية، في سبيل إلغاء المظاهر الكثيرة، التي تنافي أو تتحدى تصوراتهم عن شكل الدولة، أو الأمة الذي يبتغونه، ولذلك فإن التعويل على تعددية وثقافة «الشعب السوري» غير ذي معنى أو فائدة، في معالجة مسألة التصورات الشمولية.

من جهة أخرى، فلا يمكن لنظام شمولي، مهما بلغت كفاءته، أن يلغي تماماً كل مظاهر التعددية، حتى لو لجأ لـ»حلول نهائية» مثل الإبادة الجماعية، فما بالك بدول وميليشيات، مثل التي سادت وتسود في بلدان المنطقة، والتي لا يمكن وصفها بالكفاءة التنظيمية، والقوة والتماسك المؤسساتي، مهما بلغت ضراوة عنفها.

ما تركّز عليه الأنظمة الشمولية عادة هو إعادة هندسة المجتمعات، عبر أجهزة كثيرة، ومنها أجهزة القانون والتعليم والإعلام، لفرض نموذج لـ»الإنسان الجديد» أو «ابن الأمة» الذي تريده. يرتبط ذلك بالتأكيد مع تغيير علاقات القوة الاجتماعية، لحساب من يطابقون تلك الصورة، من دون أن يعني ذلك بالضرورة أن المطابقين لن يتعرّضوا بدورهم للاضطهاد من السلطة، أو أن امتيازهم السياسي سيؤدي إلى تحسين ظروفهم المعيشية، أو يؤمّن احتكارهم لمصادر الثروة في كل الحالات. «إنسان» تلك الأنظمة قد يكون أول ضحاياها، ووقوداً رخيصاً لحروبها ومشاريعها، و»قوته» لا معنى لها إلا بالخضوع التام لما يفرضه النظام. بمعنى أن الأنظمة الشمولية تسلب فعليا القوة من الجميع، بمن فيهم أبناؤها الصالحون، حتى عندما تميّزهم اجتماعياً وسياسياً، وذلك لأنها تمنع كل فرصة لبروز ذات اجتماعية أو سياسية مستقلة، ولو نسبياً، عنها. إنها لا تترك مجالاً إلا للإلغاء، أو الخضوع، أو المزاودة في الخضوع. إنسان الشمولية قوي بقدر ما يكون مُستَخدَماً، وليس بقدر إمكانيته في تعيين حقوقه، والدفاع عنها، ولذلك فهو منسحق بالضرورة، وربما أقرب للتفاهة الأخلاقية. لا بد من ملاحظة أن الشمولية، بوصفها نظام حكم، لا يمكن أن توجد فعلياً إلا في مجتمعات صناعية، أو تتجه بنجاح للتصنيع الشامل، وذلك لأن البنى التحتية للصناعة، ومؤسساتها الانضباطية، وما يرتبط بها من مخططات للتحديث وإعادة تأهيل المجتمعات، هي الشرط اللازم والضروري، والإطار التاريخي لبروز وانتصار النزعات الشمولية. إلا أن تعميم أفق التحديث، خاصة في العصر الاستعماري، وما بعده في زمن التحرر الوطني ودوله، أدى لنشوء خلائط سياسية وسلطوية أقرب للشمولية، في مجتمعات ضعيفة التصنيع. يمكن وصف هذا بـ»الشمولية الرثة» أو البدائية، ولعل هذا النمط من الشمولية كان الموجّه الأساسي لتفكير كثير من الحركات القومية والإسلامية في دول المنطقة، التي تخيّلت أمة أحادية، ذات تاريخ غير منقطع، ومعارك كبرى مع عدو أو أعداء وجوديين، ونموذجاً صحيحاً لسلوك ومعتقد أبناء أمتها. وسعت دوماً لهندسة المجتمعات بما يوافق تلك الصورة، وبأساليب بدائية غالباً. ما جعل الجراح التي خلّفتها في المجتمعات أكثر تقيّحاً وتشوّهاً، تماماً كمعالج غير مؤهّل، يريد أن يجري جراحة بمباضع مثلّمة النصال.

ما تزال آثار تلك «الجراحات»، التي تمت في عصور مختلفة، تطبع جانباً كبيراً من المجتمعات والثقافات السورية. توجد تعددية بالتأكيد، لكنها تعددية تفتقر لأي ذاتيات سياسية واجتماعية مستقلة. وينتظر المتعددون أن يتعرّضوا لجراحة جديدة، تمنحهم معنى الأمة أو الوطن أو الشعب الواحد، ولذلك يسارع كثيرون منهم إلى استباق التماهي مع ما يبدو أنه عقلية الحاكمين المتسلطين، ربما لتخفيف الألم المقبل.

ما المقاومة؟

تؤدي ممارسات بهذه القمعية حتماً لبروز أنماط من المقاومة، والمقاومة العنيفة في بعض الأحيان. ومن المفيد ملاحظة أن نمط السلطة يتضمّن في داخله أنماط المقاومة الممكنة له، إذ أن ما تنتجه السلطة، بعد انتصارها، من أوضاع وتنظيمات وشبكات، بل حتى أنماط من الذاتية، هو ما يشكّل الإطار الأساسي للتناقضات، التي تتخذ شكل مقاومة، صامتة أو علنيّة. تنتج السلطة مقاوميها إذن، بشكل جدلي، وهذا ليس مبشّراً دائماً، بل قد يكون نذيراً بكثير من الفوضى، خاصة في حالة الشموليات الرثة، التي تحرم محكوميها من الحد الأدنى من القدرة على الوجود والاعتقاد والتفكير المستقل. وقد يكون هذا أيضاً سبب استبطان كثير من النخب السورية، المعارضة سابقاً، لأفكار الوطن والأمة الأحادية، بشكل واعٍ أو غير واعٍ، فهي لم تتمتع يوماً بذات مستقلة، أو تتمكن من رؤية أفق أبعد من التبعية للسلطة، والتماهي معها، حتى لو كانت مناهضة لها.

ربما، ولحسن الحظ، ليس التاريخ والمجتمع معادلات منطقية مجرّدة وجامدة وحتمية النتيجة، يمكن ضبط كل مدخلاتها وعواملها، فمع كل رصد ممكن لميل غالب في مجتمعات معيّنة، لا بد من التأكيد أن ما يحدث فيها يجري هنا والآن، وليس عن طريق العنف الفيزيائي المحض فحسب، وإنما أيضاً بواسطة اللغة والرمز والتواصل والفعل، والعوامل الأخيرة لا يمكن أن تكون منغلقة الدلالة، أو مؤدية لحركة باتجاه ميكانيكي. فضلاً عن هذا فإن وصف الظواهر الاجتماعية، وتحليلها، سيؤدي لبعض التغيير فيها، مهما ادعى المراقب الحياد، لأن الوصف والتحليل هو لغة، موجّهة لفاعلين يفكّرون لغوياً، وبالتالي يؤثّر على فعلهم. رصد أي ظاهرة إنسانية بلغة إنسانية، لن يُبقي تلك الظاهرة كما كانت قبل الرصد.

قد تُنتج شموليات رثة، كالتي تحاول الميليشيات المتغلّبة في سوريا وغيرها فرضها، ظواهر ومقاومات تشبهها، إلا أن هنالك «انحرافات»، وخطوط انفلات، قد لا يمكن توقّعها حالياً، إضافة لأنه لا يوجد أي نظام اجتماعي قابل للانغلاق تماماً، إذ سيبقى منفتحاً، إلى هذا الحد أو ذاك، على مؤثرات فكرية ولغوية خارجية، ولذلك فإن الميل لاستباق الشمولية، وانعدام الذاتيات الاجتماعية المستقلة، وكذلك الأفق المحدود للنخب، قد لا يكون الموجود الوحيد في المجتمعات السورية، بل قد تبرز أشكال من المقاومة، تكون نقيضاً جذرياً لبوادر الشمولية الدينية المستجدّة. وربما الأكثر جذرية في هذا السياق ليس العنف المضاد، وإنما مجرّد التركيز على حق الوجود والمعتقد والتعبير، وعدم الخوف من إبراز الذات المبنية على تلك الحقوق. وهذا يخالف تماماً الخطاب المنافق، والخائف، والإنشائي، والمتزلّف، التي اتسمت به الوطنيات الناتجة عن الأنظمة الشمولية، بسلطاتها ومعارضاتها، وأممها وشعوبها الأحادية.

يبقى أنه لا يوجد كثير من البنى التحتية المادية لبروز ذاتيات مستقلة في الشرط السوري، إذ يعيش كثيرون ضمن علاقات تبعية وخضوع لما تبقى من هياكل سلطوية في البلد، في شروط شديدة البؤس، ومن دون قدرة على التجمّع أو التنظيم. إلا أن الرثاثة غير المسبوقة لتلك الهياكل، وانعدام كفاءة معظم القائمين عليها، وفقدانهم لأي شكل جدّي من الشرعية، يطرح احتمالات كثيرة للمقاومة. وربما كان الفعل السياسي والثقافي الأجدى هو الدفع باتجاه الاحتمال الأكثر جذرية، أي أن يكون الناس، وأن يعتقدوا، وأن يرفضوا خطاب كل من يروّج أن الأحادية الجديدة هي «الواقع» الحتمي، وقبولها «نفعيّة».

كاتب سوري

القدس العربي

————————–

أمريكا وأنظمة الاستبداد العربية: عَوْد على بدء/ صبحي حديدي

تحديث 17 كانون الثاني 2025

حتى إشعار آخر، قريب ربما ويرتبط بموعد تنصيب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، لم تتخذ الإدارة الأمريكية موقفاً من انهيار نظام «الحركة التصحيحية» يختلف جوهرياً عن الموقف الإجمالي الذي انتهجته دول مثل فرنسا أو ألمانيا أو بريطانيا؛ وطبع أيضاً نظرة الاتحاد الأوروبي، في المستوى الدبلوماسي على الأقل. تخفيف العقوبات بمعدلات نسبية كان مؤشراً أمريكياً ملموساً من إدارة الرئيس الحالي جو بايدن، اقتفت أثره وعود أوروبية يُنتظر أن تكون منطقها النسبي أوسع وأكثر ميلاً إلى أصعدة أخرى غير الملفات الإنسانية. وقد يصحّ قبول الافتراض القائل بأن الفترة الانتقالية قبيل التسليم والتسلّم تضفي على مشهد المواقف الأمريكية طرازاً طبيعياً من التباطؤ والمقاربة التدريجية.

نطاق تاريخ المواقف الأمريكية من الأنظمة العربية الحديثة والمعاصرة، وهو الأكثر احتشاداً بالدلالات والقرائن، يفضي إلى خلاصات أخرى غير تلك التي تساجل بأنّ الإدارات الأمريكية سعيدة بما شهدته الشوارع العربية من انتفاضات؛ أو أنها حزينة إزاء الانتكاسات ومظاهر الثورة المضادة هنا وهناك ولا تتوانى عن مساعدة الشعوب في مشاريعها الديمقراطية، كما يسير الزعم الرسمي. ومن حيث المبدأ، واتكاء على تجارب الشعوب مع الولايات المتحدة، خير للعون الأمريكي ألا يأتي أبداً، من أن يأتي منطوياً على أجندات لا تخدم، في المقام الأوّل، إلا المصالح الأمريكية؛ وتبدأ مفاعيله الأولى من خدمة الطاغية، وإسباغ صفة «وطنية» و«مقاوِمة» على موقفه إزاء أنساق التدخل الخارجي.

طريف أننا لم نعدم، ولا نعدم اليوم أيضاً، مَن فلسف تلك الانتفاضات على نحو تبسيطي، سطحي وتسطيحي تالياً، يجيّرها لصالح واحد من اثنين: إمّا (كما فعل وزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد) الرئيس الأسبق جورج بوش الابن، بسبب غزواته في أفغانستان والعراق، وما صنعته من فيروسات ديمقراطية انتقلت شرقاً وغرباً؛ أو (كما فعل آخرون كثر) أوباما نفسه، ويده التي امتدت وانفتحت وانبسطت في خطبة جامعة القاهرة. كان نادراً، في المقابل، وهو نادر اليوم أيضاً، أن يخرج من صفوف هؤلاء محلل واحد يرى أنّ بعض السبب في اندلاع تلك الانتفاضات كان السياسة الخارجية الأمريكية، على امتداد عقود طويلة في الواقع؛ سواء لجهة انحيازاتها العمياء إلى جانب إسرائيل، أو سكوتها عن سلطات الاستبداد والفساد ومساندتها مباشرة حين تقتضي الضرورة.

توجّب، والحال هذه، أن ينتظر العالم العربي المزيد من فصول «عصور الظلام» الأمريكية» تجاه قضايا التحرر والديمقراطية وحقوق الإنسان، وأن ينتظر في هذه الأيام أيضاً قياساً على ما يحدث في مصر وتونس واليمن وليبيا؛ على وتيرة تشبه كثيراً ما ناقشه كتاب «عصور الظلام في أمريكا: الطور الأخير من الإمبراطورية» الذي كان عمل موريس بيرمان الصاعق الثاني، بعد الأوّل الأشهر: «أفول الثقافة الأمريكية» الذي صدر سنة 2000، وأثار عواصف سجال لم تهدأ حتى اليوم. والرجل، استناداً إلى انتقال السياسة الخارجية الأمريكية من تخبط إلى آخر، رجّح انتقال الحضارة الأمريكية من طور الأفول إلى عصر الظلام الفعلي؛ فذكّرنا بأنّ حالاً مشابهة واجهت الإمبراطورية الرومانية، فصّل القول فيها المؤرّخ البريطاني شارلز فريمان في كتابه اللامع «انغلاق الذهن الغربي».

وفي فصل فريد، بعنوان «محور السخط: إيران، العراق، إسرائيل» ـ دشّنه باقتباس شديد المغزى من السناتور والمؤرّخ الروماني الشهير كورنيليوس تاسيتوس: «يخلقون الأرض اليباب ويطلقون عليها تسمية السلام» ـ ساجل بيرمان بأنّ زلزال 11/9 كان نتيجة حتمية للسياسات الأمريكية في الشرق الأوسط، خصوصاً في فلسطين والعراق وإيران. منابع السخط هذه تشمل الانقلاب الأمريكي في إيران (الذي عُرف باسم «عملية أجاكس» وأسقط رئيس الوزراء الشرعي محمد مصدّق سنة 1953)؛ والتدخّل الأمريكي في شؤون العراق منذ الستينيات وحتى التعاون العسكري والأمني مع نظام صدّام حسين اثناء الحرب العراقية ـ الإيرانية؛ وبينهما، وقبلهما وبالتزامن معهما، الانحياز الأمريكي المطلق لدولة الاحتلال الإسرائيلي.

ولم يوفّر بيرمان تمثيلاً طريفاً لحال التعامي الأمريكي، الرسمي والشعبي على حدّ سواء، إزاء السخط المتعاظم ضدّ السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط: أشبه برجل مصاب بصداع مزمن، ولكنه يؤمن أنّ العلاج الوحيد هو الاستمرار في ضرب رأسه بمطرقة! وفي فصل آخر بالغ العمق، عنوانه «الإمبراطورية تتداعى» ناقش بيرمان مدرسة التفكير التي تقول بأنّ حلّ معضلات أمريكا لا يأتي إلا من داخل أمريكا، على غرار «نظرية البندول» وتوفّر حلقات تصحيح ذاتي على امتداد التاريخ الأمريكي؛ وأنّ إيقاع هذا التاريخ هو الفعل/ ردّ الفعل والمقولة/ المقولة المضادّة. لكنّ الحال، خصوصاً في رئاستَيْ بوش الابن، بلغت ذروة غير مسبوقة في استجلاب ردود الأفعال المتعددة، المتغايرة وغير المتناسبة دائماً مع الفعل الواحد.

إنها قوّة عظمى كانت تسير حثيثاً نحو الهاوية بسبب من عجوزات في التجارة لا يمكن ضبطها، وميزانيات مدينة على نحو خرافي لا سابقة له، وعملة آخذة في الانهيار دولياً، و«هوية سلبية» تتغذى على الحرب ضدّ الأمم الضعيفة، وثقافة شبه بلهاء تعيش على التلفزة والإعلام الضحل، والتعليم الفاشل أو التبسيطي في المدارس والجامعات، وجنون الاستهلاك، والصحافة الأسيرة، والحقوق المدنية الضائعة، واللوبيات التي تسيّر الكونغرس، ووزارة العدل التي تعيد كتابة القوانين الدستورية على هواها… يكتب بيرمان: «نحن مجتمع قدره محتوم لأنّ الجمهور ذاته لم يعد ناشطاً أو واعياً، وهو لا يكفّ عن إعادة انتخاب الأناس أنفسهم الذين يتولّون نسف الحرّيات».

«نحن في طور من التقلّب وانعدام الثبات، غير مسبوق» يقول دافيد غوردون أحد مؤلفي تقرير أمريكي حكومي رسمي عن أحوال العالم، أعدّه «مجلس الاستخبارات القومي» الجهة المعنية بوضع صانعي السياسات في صورة الأخطار التي تنتظر قراراتهم. أهمّ ما في ذلك التقرير أنّ توازن القوّة القادم في ميدان الاقتصاد سوف ينتقل إلى آسيا (الصين والهند خصوصاً)؛ وصحيح أنّ أمريكا سوف تظلّ القوّة الكونية الأعظم، إلا أنّ «موقع القوّة النسبي الذي تتحلّى به سوف يتآكل أكثر فأكثر» حسب التقرير.

والعالم هذا سوف يتعرّض للكثير من الأخطار الأمنية، لأنّ ارتباط البشر عبر الإنترنت وشبكات العولمة سوف يخلق «جماعات افتراضية» تفرز مختلف الأشكال الجديدة الصانعة لسياسة الهويات، فتزيد من تعقيدات قدرة الدول على الحكم، وإمكانية المنظمات الدولية في التدخّل. وبالطبع، لم يهمل التقريرُ التأكيدَ على العامل الأهمّ ربما: «الإسلام السياسي، بصفة خاصة، سوف يكون له تأثير كوني ملموس (…) وسيلمّ شمل المجموعات الإثنية والقومية المتباعدة، ولعله سوف يخلق سلطة تتجاوز الحدود القومية». وبمعزل عن الحديث الغائم حول «الجماعات الافتراضية» رغم أنها ليست مواقع الإنترنت الاجتماعية التي لعبت دوراً محورياً في حشد متظاهري الانتفاضات العربية؛ لم يتضح أنّ مؤلّفي التقرير كانوا ينتظرون معجزة في تونس، أو في مصر، أو في ليبيا، أو في سوريا…

ذلك لأنهم، في المقابل، كانوا يعتبرون نظام حسني مبارك صمّام أمان ستراتيجي، يحفظ الركيزة الأولى للسياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط: السلام مع إسرائيل. وكانوا، وما يزالون، يعتبرون أنظمة الخليج محور الركيزة الثانية: توفير النفط والغاز والطاقة الرخيصة، فضلاً عن احتضان القواعد العسكرية. وأمّا نظام القذافي، أسوة بأشقائه طغاة العرب، فهو خير مساعد في الركيزة الثالثة، أو ما تطلق عليه الإدارة الأمريكية تسمية «الحرب على الإرهاب»: إذا عزّت السجون غير الشرعية على أرض أمريكا، أو ضاق معتقل غوانتانامو، فلنا في أمثال القذافي والأسد خير معين، وخير سجّان!

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

القدس العربي

————————

الأطراف الداخلية والخارجية لإعادة الإعمار في سوريا.. من التحديات إلى الشراكات/ د. عبد المنعم حلبي

2025.01.17

إن اتساع نطاق الحرب في سوريا وطول أمدها وحجم الأضرار الهائلة الناجمة عنها، سينعكس بشكل تلقائي بتعدد كبير في أهداف ومراحل أي استراتيجية سيتم وضعها لإعادة إعمار البلاد وتحقيق التنمية المستدامة. ولأن حجم التمويل اللازم لإنجاز تلك الاستراتيجية هائل بالنسبة للقدرات الوطنية، ولأسباب أخرى موضوعية، فقد أصبح بديهياً ضرورة وقطعية وجود أطراف خارجية في عملية إعادة الإعمار في جميع مراحلها، إلى جانب الأطراف الداخلية الموجودة والمؤثرة بحكم الواقع. تعدد وتنوع الأطراف الداخلية والخارجية في هذه العملية في سوريا سيولد بالتأكيد تحديات جمَّة، تتعلق بالتنسيق والمسؤولية والفعالية وتوازن المصالح، في مختلف النواحي الإدارية والمالية والقانونية، وكذلك السياسية بالطبع، سواء في مرحلة التخطيط أو في مراحل اتخاذ القرارات والتنفيذ، وكذلك في عملية المراقبة والتقييم.

وإذا كان بديهياً وضرورياً العمل على إيجاد جهة وطنية واحدة تتصدى بصورة رسمية لتلك المهام، وهنا يمكن اقتراح إعادة تأهيل هيئة تخطيط الدولة والتعاون الدولي الموجودة أصلاً ضمن المؤسسات السورية الرسمية، فإن الحراك العربي والإقليمي والدولي المستمر لدعم السلطة الجديدة، وفي ظل نتائج الاجتماع الأخير في الرياض وما هو مخطط لمؤتمر بروكسل القادم، يجعل من الموضوعية التفكير بالدعوة لوجود جهة دولية ذات شخصية اعتبارية فوق حكومية تشارك الجهة الوطنية أعمالها، وتدعمها، وتقوم بتقييم إنجازاتها، بحيث تؤول عملية إعادة الإعمار في سوريا إلى تعاون مؤسساتي عضوي وطني ودولي، سيساعد في تحويل التحديات الناتجة عن تعدد الأطراف إلى شراكات حقيقية طويلة الأمد.

فعلى المستوى الداخلي: وللوصول إلى توزيع متناسب للموارد المسخّرة لمشاريع إعادة الإعمار على مختلف أنحاء البلاد، ومجتمعاته المحلية، وفق مبادئ العدالة والتوازن والاستخدام الأمثل لها، لا بد من إيجاد آلية عمل وطنية تشاركية بناءة وشفافة بين الجهة الوطنية المسؤولة رسمياً عن وضع وتنفيذ الاستراتيجية الوطنية تلك وعدد من الأطراف الداخلية الفاعلة من أصحاب المصالح. وهؤلاء ينقسمون -واقعياً- إلى أطراف مساعدة وأخرى معرقلة للسياسات العامة التي تتوازى مع تنفيذ الاستراتيجية الوطنية لإعادة الإعمار والتنمية، سواء منها تلك التي تستند إلى مجتمع السلم كمؤسسات المجتمع المدني من الأحزاب والنقابات والروابط المهنية، أو أصحاب الفعاليات الاقتصادية من الصناعيين ورجال الأعمال. وكذلك الأطراف التي تستند في وجودها ودورها ومصالحها إلى حالة الصراع السابق من بقايا الميليشيات العسكرية المدعومة خارجياً، أو تلك الأطراف التي برزت في الصراع كبعض القبائل والعشائر، وكذلك العديد من المنظمات ذات الصبغة المدنية والإنسانية، والأخطر شبكات الانتفاع غير المشروع، وهؤلاء جميعاً ممن يشعرون أنهم سيتضررون ويفقدون المال والنفوذ والسطوة مع السلام، إضافة إلى أطراف أخرى متعارضة في معتقداتها السياسية وتوجهاتها الاجتماعية ومصالحها الاقتصادية. وهنا تأتي أهمية العمل على الأطراف الداخلية بصورة منفتحة سياسياً وإدارياً، عبر توازن محكم بين احترام حقوق الإنسان والحريات العامة وفرض سيادة القانون، بهدف حشد جهودها بصورة جماعية في إطار ديمقراطي يدعم خطط تحقيق الأمن والاستقرار الداخلي، وتطبيق مبادئ ومعايير الحكم الرشيد، ولا سيما منها ما يتعلق بالمشاركة في بناء المؤسسات ومساءلة السلطة.

وهنا يبرز تحدٍ خطير متمثل بمدى شمولية عملية إعادة الإعمار للجغرافيا السورية، حيث سيؤدي الاقتصار على دعم مناطق وأطراف معينة دون أخرى، إلى استمرار وجود فجوات خطيرة قد تبقي على مسببات الصراع، وتكون مثاراً لممارسة أشكال من العنف على نطاق ضيق أو واسع ذي أثر كبير على التشاركية الداخلية والخارجية في مشروع إعادة الإعمار وإحلال السلام. لذلك ينبغي على الحكومة التركيز بصورة حثيثة على مواجهة الفقر المنتشر في مختلف أنحاء البلاد، وإبراز جهودها في العمل على تأمين العدالة في توزيع الثروة الوطنية، والتأكيد على اللامركزية في عملية إعادة الإعمار، بمعنى بدء تصميم عملياتها من الأسفل والقاعدة الواسعة القريبة من الأرض، ومراعاة الحساسيات الاجتماعية والسياسية الناتجة عن سنوات الحرب، بما يؤدي إلى فرض الشرعية الحكومية من خلال توازن فرص العمل والرفاه الاقتصادي والعدالة وفق تصورات مختلفة للمشاركين السابقين في النزاع، دون التنازل عن استراتيجية تنمية متوازنة وفق مبدأ مردودية الإنفاق الاقتصادية على المستوى الوطني، وبما يؤدي إلى اندماج جميع الشرائح والفئات في عملية إعادة الإعمار وشعورهم العام بمنافعها،  والذي سيعزز الهوية الوطنية ويدعم النظام السياسي الجديد ككل.

أما على المستوى الخارجي: ومع وجودٍ تحدٍ سياسي مستمرٍ وضاغط بخصوص العمل بصورة متوازنة وعدم الانجرار وراء أي استقطاب جيوسياسي، يؤدي إلى ربط عملية إعادة الإعمار بهوية أو محور سياسي إقليمي أو دولي معين في مواجهة استقطاب آخر، ينبغي العمل على بحث الجدوى الاقتصادية والمخرجات الناتجة عن أية اتفاقات ثنائية بناءً على المصالح الوطنية. وفيما يتعلق بإمكانية وجود طرف خارجي شريك لإعادة الإعمار، فإن العمل على إقامة صندوق دولي لإعادة إعمار سوريا من قبل الدول الداعمة هو الصيغة الأكثر قبولاً، والذي يعتبر تحقيقه وإنجازه فرصة سانحة للمشاركة المركَّزة الجادة والفعالة، ويعطي خيارات تمويل سريعة بعيدة عن التسيس والعقوبات.

إن العمل مع الأطراف الخارجية المهتمة بدعم إعادة إعمار البلاد والمساهمة في تنميتها يمكن أن تكون متعددة الجهات والصيغ،  كالدول التي تقدم الدعم الثنائي المباشر وفق اتفاقات وقواعد عمل واضحة، وكذلك بالنسبة للتعاون مع برامج الأمم المتحدة ووكالاتها التي تهتم بالواقع الغذائي والإنماء القطاعي والحوكمة المالية، ولا سيما البنك الدولي بمؤسستيه مؤسسة التمويل الدولية التي يمكن أن تلعب دوراً مهماً في دعم المشاريع الإنتاجية الخاصة الصغيرة والمتوسطة عبر التمويل الرأسمالي المباشر، وتمنح القروض والمشورة اللازمة لدعم التحول إلى الاقتصاد الحر بالتعاون بين الحكومة والقطاع الخاص، وكذلك البنك الدولي للإنشاء والتعمير الذي يمكن أن يُسهم في زيادة فرص الاستثمار الأجنبي الفعال، ودخول البنوك والشركات الدولية. ومن شأن كل ذلك إلى جانب تأمين التمويل والخبرات اللازمة التي هي غير متوفرة ضمن المقدرات الذاتية للبلاد، فإنها ستعطي لعملية إعادة الإعمار وتحقيق التنمية تشاركية دولية لها فوائد وانعكاسات سياسية طويلة الأمد، بربط المصالح الوطنية بأخرى دولية في السير قُدماً نحو إنهاء تام للصراع وبواعثه الخارجية وترسيخ السلام الوطني ذاته.

وهنا يمكن أن نختم بأن مواجهة كل هذه التحديات والنجاح في التعامل مع الأطراف المختلفة الفاعلة والمؤثرة فيها، سيؤدي بطبيعة الحال إلى تحويل الاستراتيجية الوطنية لإعادة الإعمار إلى مداخل لاستراتيجيات وطنية سياسية داخلية وخارجية عنوانها التوازن والشمول، ويؤدي إلى خلق وتطوير قيادات سورية في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والعمل على تطوير القدرات الوطنية بما فيها المالية لتأمين الاستمرارية في تنفيذها بالاعتماد على القدرات الوطنية أو التي تحفظ سلامة البلاد الداخلية وحسن علاقاتها السياسية مع الخارج، والتي يجب أن تكون مبنية على تشاركية حقيقية في التمويل والعمل والإنجاز وتحقيق المصالح. كما يجب على جميع السوريين أن يعرفوا بأن المساعدات والدعم الخارجي لا يمكن أن يبق مستمراً إلى أمدٍ بعيد، ومن هنا فإن العمل على تحويل البلاد إلى منتجة، وقادرة مستقبلاً على الاعتماد التام على مواردها الذاتية يجب أن يكون الهدف الأكبر لاستراتيجية إعادة الإعمار وتحقيق التنمية في جميع مراحلها.

تلفزيون سوريا

——————————

الاستراتيجيات الإيرانية المتصدعة في سوريا وآثارها على النظام/ ضياء قدور

2025.01.17

على الرغم من تدخل إيران الطويل الأمد في سوريا، إلا أن التطورات الأخيرة في البلاد، وعلى رأسها سقوط نظام بشار الأسد، أظهرت ضعفاً واضحاً في استراتيجيات النظام الإيراني في المنطقة. فعلى مدار السنوات الماضية، بذل النظام الإيراني جهوداً كبيرة في دعم الأسد ومحاولاته للحفاظ على بقائه، مستخدماً أوراقاً متعددة من بينها الحضور العسكري والسياسي وتوظيف الجماعات المسلحة المدعومة من طهران. لكن الآن، بعد أن أصبح سقوط الأسد واقعاً ملموساً، يواجه النظام الإيراني تحديات داخلية وخارجية تؤثر بشكل كبير على مكانته في الشرق الأوسط.

لطالما اعتمد النظام الإيراني على سياسة التدخل في الدول المجاورة، وخاصة سوريا، لتحقيق أهدافه الإقليمية المتمثلة في تعزيز محور المقاومة ضد الغرب واحتواء النفوذ الأميركي. ورغم ما حققه النظام الإيراني من مكاسب على مدار السنوات الماضية، فإن التحولات الأخيرة في سوريا أظهرت هشاشة هذه الاستراتيجيات، وأسهمت في تعميق الأزمة السياسية والاقتصادية في الداخل الإيراني. ما حدث في سوريا ليس مجرد انهيار لنظام حليف لإيران، بل هو بداية تحديات استراتيجية أكبر تواجهها طهران، والتي باتت تعيد حساباتها في ضوء هذه التحولات.

مواقف المسؤولين الإيرانيين وتصريحاتهم بعد سقوط الأسد

سقوط النظام السوري كان بمثابة ضربة قاسية لاستراتيجية إيران في الشرق الأوسط، حيث كان الأسد طوال سنوات طويلة أحد أهم الحلفاء السياسيين لطهران. فمع إعلان سقوط الأسد، حاول المسؤولون الإيرانيون التعامل مع هذا التطور عبر نفي التأثير الحقيقي لهذا الحدث واتهام القوى الخارجية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، بالتآمر لاستنزاف نفوذهم في المنطقة. رسول فلاحتی، ممثل خامنئي في رشت، صرّح حول ذلك قائلاً: “العدو يسعى جاهداً لإثارة اليأس بين الناس، ويحاول استخدام وسائل الإعلام الداخلية لزرع الإحباط. هؤلاء الأشخاص الذين ما زالوا يثقون بأميركا والقوى الوهمية العالمية، يسهمون في هذه الأجندة”. هذه التصريحات تعكس محاولات النظام الإيراني لنقل الشعور بالضعف والانكسار إلى الخارج، وإلقاء اللوم على القوى الدولية بدلاً من تحمل المسؤولية الكاملة عن إخفاقاته.

في المقابل، بقيت مواقف المسؤولين الإيرانيين ثابتة في الدفاع عن استمرار سياساتهم في سوريا، رغم التحولات الكبيرة التي أظهرت فشل تلك السياسات. ملا نوري، إمام الجمعة في بجنورد، علّق على تدخل إيران في سوريا قائلاً: “لقد دخلنا في محور المقاومة ليس دفاعاً عن الآخرين فقط، بل عن أنفسنا. من اغتال علماءنا النوويين؟ ومن قتل 17 ألف شهيد إرهابي في بلادنا؟”. هذه التصريحات تعكس بوضوح خوف النظام الإيراني من انكشاف أهدافه الحقيقية، وتؤكد ما تشير إليه المعارضة الإيرانية، بما في ذلك مجاهدو خلق، بأن تدخل الملالي في سوريا ولبنان والعراق لم يكن بدافع الحب لشعوب هذه الدول، بل كوسيلة لحرف الأنظار عن الانتفاضات الشعبية داخل إيران وإبعاد الحرب الحقيقية بين الشعب الإيراني والنظام الجائر الحاكم. يظهر هذا الموقف بجلاء أن النظام الإيراني ما يزال يبرر تدخلاته الخارجية رغم سقوط الأسد، محاولاً صرف الانتباه عن أزماته الداخلية العميقة وشرعيته المتآكلة.

تأثيرات الداخل الإيراني على ضوء التطورات في سوريا

الضعف الاستراتيجي الذي تعرضت له إيران في سوريا ليس بمعزل عن الداخل الإيراني، حيث ينعكس بشكل واضح على الأوضاع السياسية والاقتصادية المتأزمة في البلاد. فالنظام الإيراني، الذي طالما اعتمد على استغلال الأزمات الخارجية لتعزيز شرعيته المتآكلة، يجد نفسه اليوم في مأزق حقيقي. أصبح من الواضح أن تآكل النفوذ الإيراني في سوريا ستكون له آثار مباشرة على الداخل الإيراني، حيث تواجه الحكومة صعوبات متزايدة على المستويين الاقتصادي والاجتماعي.

ملا دري نجف آبادي، ممثل خامنئي في أراك، أشار إلى هذه التحديات بقوله: “نحن أحياناً نصبح ضعفاء وكسالى أو تؤثر علينا الدعايات السيئة وتسبب لنا اليأس والتردد. يجب علينا أن نواصل طريقنا المستقيم الذي رسمه الإمام والقائد”، في إشارة إلى خامنئي. هذه التصريحات تعكس محاولة النظام الاستمرار في استخدام القضايا الخارجية، بما فيها سوريا، كوسيلة لصرف الانتباه عن الاحتجاجات الشعبية والأزمات الداخلية المتفاقمة.

لكن هذه الاستراتيجية، التي لطالما استُخدمت لإلهاء الشعب، باتت تُظهر تدريجياً ضعف النظام وعجزه عن مواجهة التحديات المتصاعدة داخلياً وخارجياً. مع تزايد الأزمات وتعمق الانقسامات، يبدو أن سياسة الهروب إلى الأمام لم تعد تجدي نفعاً للنظام الإيراني.

تُظهر التطورات الأخيرة في سوريا أن النظام الإيراني بات في موقف دفاعي بعد أن فقد أبرز أوراقه السياسية في المنطقة. فقد شكل سقوط الأسد ضربة استراتيجية كبيرة لطهران، كاشفاً عن تآكل نفوذها في الساحة الإقليمية. وفي ظل هذه التحولات، يسعى النظام الإيراني إلى الهروب إلى الأمام عبر الاستمرار في التدخل في الأزمات الخارجية، رغم أنه يعاني في الوقت ذاته من أزمات داخلية عميقة تتطلب معالجة جذرية.

هذه التحولات تضع النظام الإيراني في موقف حرج جداً، حيث يواجه تحديات متزايدة من الداخل والخارج. ومع تفاقم هذه الأزمات، يبدو أن الوضع الاجتماعي المتفجر قد يصل إلى نقطة اللاعودة، مما قد يجعل مصير خامنئي مشابهاً لمصير الأسد، في نهاية محتمة بيد الشعب الإيراني ومقاومته المنظمة.

تلفزيون سوريا

———————————–

نموذج إدلب.. ملف التعليم (من كل عشرة أطفال في إدلب التحق ثلاثة فقط بالتعليم)/ رعد أطلي

2025.01.17

ما إن دخلت هيئة التحرير العاصمة دمشق بعد هروب الدكتاتور بشار الأسد، حتى أعلنت عن رغبتها في تعميم نموذج الإدارة الناجح في إدلب على باقي البلاد، وبناء عليه قام رئيس الإدارة الجديدة أحمد الشرع بتسليم حكومة الإنقاذ في إدلب مهام الحكومة السورية لتصريف الأعمال، على اعتبار أنهم أعضاء فريقه الناجح في إدلب، والأقدر على السير في البلاد خلال الفترة الحالية، وخاصة بسبب السرعة التي يتطلبها ملء الفراغ الحكومي.

ويبدو من الجيد لاستشفاف ما يمكن أن تقود إليه سياسات الحكومة الحالية العودة لسياسات حكومة الإنقاذ في إدلب، والنتائج التي أدت لها سياساتها، وهل كانت بالفعل مؤشرات على نموذج رائد يمكن أن يستفيد منه المجتمع والدولة السورية؟ وعليه ستتم مناقشة سياسات حكومة الإنقاذ التي اعتمدتها في ملفات أساسية، وذات تأثير مباشر على حياة المواطنين أثناء حكمها لإدلب، ومنها ملف التعليم والصحة والمساعدات الإنسانية والنزوح، والملف الأمني والسياسي، وقياس مدى نجاح حكومة الإنقاذ ومن خلفها هيئة تحرير الشام في إدارة تلك الملفات في إدلب، وبناء عليه فهم ما إذا كان للهيئة والحكومة الحق في الجرأة على التصريح برغبة تعميم نموذج إدلب على باقي المحافظات السورية.

في هذه المادة ستتم مناقشة ملف التعليم، من حيث السياسات التعليمية التي اتبعتها الحكومة، والنتائج التي أدت لها.

ملف التعليم المدرسي

يعتبر الملف التعليمي حسب تقارير منظمات حقوقية وإنسانية وتقارير صحفية عدة هو الملف الذي أظهر العجز الأكبر في سياسات حكومة الإنقاذ في إدلب، والتي أدت إلى احتجاجات واسعة للمعلمات والمعلمين لم تهدأ منذ 2022، وإلى تراجع العملية التعليمية في مدينة إدلب وأرياف إدلب وحلب وحماة واللاذقية التي تسيطر عليها الهيئة.

انخفاض جودة التعليم وعدد المدارس العامة مع إعلان حكومة الإنقاذ:

لم يكن التعليم في عهد الحكومة المؤقتة المدعومة من تركيا في أحسن حالته، إلا أن إعلان هيئة تحرير الشام عن تشكيل إطار مدني لإدارة مناطق سيطرتها متمثلاً بحكومة الإنقاذ، أدى إلى عجز وفشل أكبر في الملف التعليمي في مدينة إدلب وريفها.

بسبب تصنيف هيئة تحرير الشام كمنظمة إرهابية، ومع تشكل حكومة الإنقاذ المدعومة من قبلها امتنعت العديد من المنظمات الدولية عن تقديم الدعم لمناطق سيطرتها، أو قلصت منه، مما أدى إلى تراجع الدعم في المناطق التي تديرها حكومة الإنقاذ بنسبة 70٪، ما أرخى بثقله على قطاع التعليم بشكل كبير، وأدى لإغلاق العديد من المدارس العامة.

تبعت لوزارة التربية في حكومة الإنقاذ 950 مدرسة تضم ما يزيد عن 213 ألف طالب، وما يقارب 12500 كادر تدريسي، ولم تتلق في غالبيتها العظمى أي دعم أو تمويل من الوزارة، بل اعتمدت في تمويلها على منظمات محلية ومبادرات أهلية في تحصيل رواتبها، حيث موّل الاتحاد الأوروبي العديد من مشاريع التعليم في حلقته الأولى، وموّلت منظمات محلية الحلقات الثانية والثالثة. ولم تكتفِ حكومة الإنقاذ بالفشل في تمويل المدارس العامة، أو إيجاد الحلول لتوفير ذلك، بل فرضت على المنظمات التي تقوم بدعم تلك المدارس اقتطاعات من ذلك الدعم وصل حتى 70٪ في بعض الحالات، بحجة تأمين التدفئة أو العقارات أو غير ذلك، مما أدى إلى امتناع العديد من المنظمات على دعم المدارس والعملية التعليمية، وفي مفارقة غريبة ألقت الحكومة باللوم على المنظمات بسبب توقف الدعم.

إن توقف الدعم وضعفه أدى إلى إغلاق العديد من المدارس العامة على مدى سنوات إدارة حكومة الإنقاذ، وجاء النازحون الذين يقطنون المخيمات على رأس المتضررين من ذلك، ففي تقرير لوحدة التنسيق والدعم عن التعليم في سوريا لـ 2022 – 2023 جاء أن فيما يزيد عن 1400 مخيم في شمال غربي سوريا، يحتوي 189 مخيماً فقط على مرافق تعليمية.

إن المستوى المتدني للمعيشة في مناطق حكومة الإنقاذ، والظروف الضاغطة، وعدم توفر المخيمات على مرافق تعليمية ومدارس، وعدم قدرة العائلات على الانتقال للمدن أو مراكز تتواجد فيها تلك المدارس، أو عدم قدرتهم على تحمل نفقة وسائل المواصلات العامة لإرسال أطفالهم إليه دفع بتلك العائلات بالامتناع عن إرسال صغارهم للمدرسة، وبسبب عدم توفير حلول بديلة من الحكومة سواء للتعليم أو المعيشة، زادت نسبة عمالة الأطفال، وزيجة الأطفال بشكل كبير، حيث وصلت نسبة زواج الأطفال في إدلب وريفها إلى ما يقارب 73٪ من حالات الزواج عموماً.

أدى تراجع الدعم من المنظمات الدولية، وتقاعس الحكومة عن تمويل المدارس العامة إلى ضعف في البنية التحتية، ووسائل التدريس، إضافة لاكتظاظ الطلاب في الصفوف الدراسية، ما نتج عنه انخفاض حاد في جودة التعليم، وبات الذهاب للمدارس رغبة اجتماعية في تغيير مستقبل الأطفال، أكثر منه عملية تعليمية تسهم بشكل حقيقي في هذا المستقبل.

المدارس الخاصة، حل بديل أكثر ضرراً وتقسيماً للمجتمع على أساس طبقي:

باعتبارها استجابة لسد العجز الذي خلقته عواقب إغلاق المدارس العامة وتراجع جودة التعليم فيها، بدأت المدارس الخاصة في المناطق التابعة لحكومة الإنقاذ في التكاثر، ورغم وجودها منذ عام 2015، إلا أن أعدادها في عهد حكومة الإنقاذ زاد بشكل كبير، وتمت خصخصة العديد من المدارس العمومية العريقة في إدلب مثل مدرسة المتنبي وغيرها، وسجل عام 2024 زيادة في عدد المدارس الخاصة بنسبة 24٪ عن العام الذي سبقه، مما زاد في تسرب الآلاف من الطلاب من التعليم، بسبب عدم قدرة العائلات على تغطية مصاريف المدارس الخاصة، وتراوحت أقساط المدارس بين 180 دولاراً و500 دولار سنوياً، حسب الميزات والخدمات التي تقدمها كل مدرسة، وتم افتتاح معظم المدارس الخاصة في مراكز المدن، مما دفع العديد من العائلات إلى الامتناع عن إرسال أبنائهم إليها في مجتمع يعيش 90٪ من أبنائه في حالة فقر تمنعهم من قدرتهم على تمويل رحلة تعليم أطفالهم، سواء من حيث دفع القسط، أو توفير أجرة المواصلات.

تتميز المدارس الخاصة بخدمات تعليم إضافية تزداد كلما زاد القسط، ما يجعل جودة التعليم فيها بفارق كبير عن تلك التي في المدارس العامة، إضافة لاجتذابها المعلمين والمعلمات الأفضل أداء لتوفيرها رواتب ثابتة وأعلى من رواتب المدارس الأخرى، ما يخلق مجتمعاً طبقياً لا تحصل فيه الأكثرية على تعليم لأبنائها، أو على مستوى تعليم منخفض في أحسن الحالات، وأقلية تتلقى فيه تعليماً أعلى جودة، وأكثر فاعلية.

كان لدى الحكومة فرصة لتحسين التعليم في المدارس العامة لو لجأت لإجراءات ترخيص للمدارس الخاصة تلزمها في تحمل المسؤولية الاجتماعية والتنمية المجتمعية من مثل منح عدد معين من مقاعدها للفئات الأكثر ضعفاً في المجتمع، أو تمويل صفوف في المدارس العامة من نسبة مقتطعة من مداخيل المدارس الخاصة، أو أي إجراء من شأنه جعل الاستثمار في المدارس الخاصة مشروعاً تنموياً، ولكن يبدو أن حكومة الإنقاذ هدفت من فرصة الاستثمار تلك لجعلها من المدارس مشاريع تجارية تنمي من خلالها مداخيل الحكومة عبر الضرائب، وتمنح المستثمرين الذين عادةً ما ينتمون لهيئة تحرير الشام أو يتناغمون مع توجهاتها، بغض النظر عن النتائج السلبية التي يولدها ذلك الاستثمار على المجتمع وعملية التعليم.

خضوع التعليم لإيدولوجيا وكوادر هيئة تحرير الشام واستخدام المال العام على أساس تمييزي:

لم تكن وزارة التربية في حكومة الإنقاذ سوى هيكلية تم تفريغها من غايتها لصالح هيئة تحرير الشام المتحكم الحقيقي في ملف التعليم في مناطقها، وأداتها لترسيخ إيديولوجيتها في المجتمعات المحلية التي تقطن تلك المناطق، وقد ظهر ذلك جلياً إبان تسلم الوزارة من قبل نذير القادري الوزير الحالي في حكومة تصريف الأعمال في دمشق.

فعلياً لم يكن ملف التعليم بيد “حكومة التكنوقراط” كما تعرِّف الإنقاذ نفسها، بل تمت إدارته من قبل شخصيات كبيرة من هيئة تحرير الشام على رأسهم مسؤول متابعة الوزارة “أبو بلال قدس” أحد الشخصيات الأمنية في الهيئة والمقرب من أحمد الشرع “الجولاني حينها”، الذي مارس التضييق على التربويين والاختصاصيين لصالح الشخصيات المحسوبة على الهيئة داخل الوزارة، وكان إلى جانب الوزير في رئاسة الوزارة شخصيتان لا يمكن للوزير أن يقوم بأي شيء إلا بموافقتهما، وهما عبد الرحمن الشموس وأبو زيد الحمصي اللذان أدارا بشكل فعلي القطاع التربوي والتعليمي.

في المقابل سعت الوزارة لبناء كادر تدريسي يدين بالولاء للهيئة بخطوات عدة، منها إحالة العديد من المدرسين للتقاعد دون دفع أي تعويضات مالية لهم، وتعيين معلمات ومعلمين وإداريين وموظفين جدد تابعين للهيئة أو موالين لها، رغم اتهام بعضهم بتهم فساد مالي وأخلاقي، وتشجيعهم على الالتحاق بسلك التدريس سواء من قبل الوزارة أو هيئة تحرير الشام، وشهدت نتيجة ذلك إدلب العديد من الوقفات والإضرابات والمظاهرات الاحتجاجية ضد هذه القرارات وغيرها، وعندما سعى المعلمون لتشكيل نقابة لهم، وتنادى لها ما يقارب 16 ألف معلمة ومعلم، اقتحمت هيئة تحرير الشام عليهم اجتماعاتهم في المراحل النهائية وفضتها، ثم وضعت رئيساً للنقابة تابعاً للهيئة ومقرباً من رئيس الحكومة.

إضافة لذلك عملت هيئة تحرير الشام على افتتاح العديد من المدارس الدينية التي تتبع إيديولوجيتها في مناطقها، وعلى رأسها سلسلة مدارس “دار الوحي الشريف”، والتي تنشر عبرها إيديولوجيتها الدينية، بشيء يشبه إلى حد كبير المدارس الإيرانية التي انتشرت في مناطق مختلفة من سوريا في مناطق سيطرة النظام الهارب، وقد مُوِّلت تلك المدارس من المال العام، عبر “رسم التربية والتعليم” الذي تفرضه الهيئة على البضائع المستوردة عبر باب الهوى، وعبر رسوم أخرى تم فرضها أثناء إجراء المعاملات الرسمية على المواطنين، وتلعب “الهيئة العامة للزكاة” التابعة لهيئة تحرير الشام دوراً كبيراً في دعم تلك المدارس لوجستياً، إضافة إلى الدعم المقدم من قبل تجار مرتبطين بالهيئة أو محابين لها، وبذلك فإن معظم ميزانية تلك المدارس تأتي من المال العام، والذي تميز فيها الهيئة بين المواطنين على أساس الالتزام بالإيديولوجيا الدينية الخاصة بها، عن طريق صرف المال العام على تلك المدارس دون غيرها من المدارس العامة، ولا تخضع مناهج تلك المدارس لتدقيق وزارة التربية ولا تتبع لسلطتها.

رغم الظروف القاسية التي تعرضت لها مناطق سيطرة الهيئة وحكومة الإنقاذ في إدلب وما حولها، من القصف المستمر، واكتظاظ السكان الذي سببه النزوح، ودمار العديد من المدارس، وضعف المستوى المعيشي، وتراجع الاهتمام الدولي بالقضية السورية حتى سقوط النظام، والتي أدت بدورها إلى تراجع جودة التعليم إلى درجات كبيرة، إلا أن إدارة حكومة الإنقاذ ووزارة التربية زادت من حدة تدهور التعليم، عبر مجموعة من السياسات التي أدت لامتناع المنظمات المحلية عن المشاركة في دعم التعليم والمدارس العامة، وعبر اهتمامها بخصخصة التعليم دون أي خطط لمشاركتها في التنمية المجتمعية، ما خلق مجتمعاً طبقياً تتحصل فيه أقلية على تعليم جيد نسبياً مقابل أكثرية لا تتلقى التعليم أو تعاني من حصولها على جودة منخفضة في حال توفر، إضافة للتمييز بين الخدمات التي تقدمها المدارس على حساب نشر إيديولوجيا هيئة تحرير الشام مستخدمة المال العام، الذي من حق كل المواطنات والمواطنين في ذلك، وتعيين سلك تدريسي وإداري يدين بالولاء للهيئة على حساب الاختصاصيين والتربويين، والتغول على العمل النقابي وقمع المعلمين والمعلمات الذين طالبوا بحقوقهم. كل ذلك أدى إلى تسرب 69٪ من عدد الطلاب في مناطق حكومة الإنقاذ، أي من أصل ما يزيد عن المليون طالب لم يلتحق بالمدارس سوى 300 ألف طالب، فهل تتجرأ حكومة تصريف الأعمال في سوريا، وفي الإدارة الجديدة على تبني ذلك “النموذج الناجح” لملف التعليم في إدلب؟ وما هي النتائج التي يمكن أن تتأتى عن ذلك “النموذج الناجح” لو تم تطبيقه في الدولة السورية.

تلفزيون سوريا

—————————-

قراءة روسية في فنجان المتغيرات السورية/ ناصر زيدان

الجمعة 2025/01/17

بعد مرور أكثر من شهر على سقوط النظام في سوريا؛ تحدث وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف بإسهاب حول ما جرى، وما بين سطور مطالعته المفصلة، يمكن قراءة وقائع لم تتضمنها الكلمات. لقد أسدل الستارة على مشهد مضى، لكنه لم يتنكر لدور قامت به موسكو، سهَّلت فيه ما جرى، أو لم تمنع حصوله على أقل تقدير.

وأشار لافروف إلى إمكانية الاستثمار السياسي في المستقبل انطلاقاً من الوقائع التي حصلت، وإشارته الى العلاقات التاريخية بين روسيا ومكونات الشعب السوري، مركزياً من خلال الدولة، وأفقياً مع وجهاء هذه المكونات وممثليهم؛ يؤشِّر بوضوح الى رغبة في عدم التخلي عن الساحة السورية الهامة لسياسة بلاده الخارجية، مع إمكانية بلورتها بصيغة مختلفة عن الأُطر السابقة.

انفصام عن الواقع

قال لافروف أن الأسد لم يستجيب لنداءات روسيا المتكررة، والتي دعته فيها الى فتح حوار جدي مع المعارضة والقبول بإجراء تعديلات على الدستور، كما أنه تجاهل توصيات حوارات أستانا المتعددة، ولم يلتفت الى أهمية تطبيق ما تمَّ الاتفاق عليه في مؤتمر سوتشي وفي لقاءات القاهرة، وتجنَّب أن يقول بالحرف أن الأسد كان يعيش انفصاماً كاملاً عن الواقع، أو أنه كان جثة سياسية تنتظر الدفن، لكن ما بين سطور كلام لافروف يؤكد هذه الواقعة.

وأشار وزير خارجية روسيا؛ الى أن موسكو نصحت الأسد باللقاء مع الرئيس التركي رجب طيب اردوغان، لكنه لم يفعل، وطلبت منه تفعيل دور أجهزة الرقابة لضبط الفساد، لكن شيئاً من هذا القبيل لم يحصل، وقد حذرته القوات الروسية مرات عدة من مغبة تحويل المقرات الرسمية لمراكز تسويق الممنوعات والتجارة بالمخدرات، لكنه تجاهل هذه التحذيرات، أو أنه لم يكُن قادر على وقفها، من جراء التدخلات التي كانت تحصل بواسطة قوى إيرانية نافذة، أو من مجموعات مسلحة تدور في فلكهم. وقال لافروف أن روسيا لعبت دوراً كبيراً لعودة سوريا الى الجامعة العربية، لكن الإلتزامات التي تعهد بها الأسد لم ينفذ منها شيء. بينما الوضع المعيشي للشعب السوري كان يتراجع الى حدود لم تكُن مقبولة على الأطلاق.

موسكو سهلت وصول المعارضة

القراءة الروسية في فنجان المتغيرات السورية، تؤكد أن موسكو سهَّلت وصول المعارضة الآمن إلى السلطة، ولم تفعل ما كان بقدرتها فعله لمنع الانتصار المُهيب، وقصف بعض الجسور إبان اندلاع المعارك، لم يكُن بهدف وقف زحف المعارضة الى دمشق، بقدر ما كانت لتسهيل اجلاء مجموعات عسكرية كانت منتشرة في مناطق الجنوب ودمشق وإجلائها لاحقاً من مطار حميميم.

هل حصلت الخطوات الروسية بموجب تفاهمات دولية وإقليمية كفلت مقايضة على النفوذ بين الساحة السورية والساحة الأوكرانية؟ أو استناداً الى تطمين لروسيا من استمرار دورها مستقبلاً في سوريا، بضمانات محلية أو خارجية؟ وهي قد تستسيغ المُساكنة مع دور تركي وعربي فاعل، أكثر مما تطمئن لنفوذ إيراني غير واضح، ومُكبَّل بالمفاهيم العقائدية والميثولوجية القاسية على الفهم الروسي. أم أن ما حصل كان مجاراة لوقائع لا مفرّ من حصولها بعد أن أفلس نظام الأسد وفقد كل مقومات الحياة؟ ولروسيا أوراق أخرى يمكن أن تلعبها حفظاً لمصالحها ومكانتها في المنطقة، ومن هذه الأوراق نقل نفوذها العسكري إلى الشواطئ الجنوبية للمتوسط في ليبيا، بدل أن تكون على الشواطئ الشرقية المُتعِبة في الساحل السوري. لكن حتى الآن لا يوجد ما يؤكد هذا الخيار، وكلام لافروف لم يُشِر إليه، لا من قريب ولا من بعيد.

التفاوض مع القيادة الجديدة

من الأوراق الروسية الهامة التي بدأ الحديث عنها؛ هي تكليف الرئيس الشيشاني رمضان قاديروف بالتفاوض مع القيادة السورية الجديدة، لتوليف توافقات تتناسب مع مصالح الطرفان. والمصالح واسعة ومتعددة ومتشعبة. فالقيادة السورية الجديدة لا يمكن أن تخرج من الحاضنة التسليحية والتجهيزية والإستثمارية الروسية بالسهولة التي يتصورها البعض، وربما هي ليست في هذا الوارد، كما أن روسيا لا يمكنها استبدال الساحة السورية في أي مكان آخر، فلسوريا خصوصية جيوسياسية وجيو نفطية وجيو عسكرية متميزة. وقاديروف قادر على لعب دورٍ في هذا السياق، والأرضية السورية مُهيئة لقبول مثل هذه الوساطة، كما أن نُخب المكونات السورية المختلفة، لا سيما عند الموحدين الدروز والكُرد والعلويين والمسيحيين الأرثوذكس إضافة لنُخب واسعة من العرب السُنّة؛ لديهم هوىً روسي، وعاطفة قديمة اتجاه البلاد التي تعلَّم غالبيتهم في جامعاتها منذ أيام الاتحاد السوفياتي.

حاول وزير خارجية أوكرانيا اندريه سيبيغا إبان زيارته لدمشق نهاية العام المُنصرم معرفة موقف أحمد الشرع، عندما اعتبر أن التغيير يجب أن يطال طرد القواعد الروسية من سوريا، ولكنه لم يحصل على أي جواب، والواقعة حصلت أيضاً عند لقاء الشرع بوزيرة خارجية المانيا أنالينا بيربوك بحضور وزير خارجية فرنسا، لكن الجواب الصامت لم يتغيَّر، والصمت في تلك اللحظة، قد يخفي ما لا يتوقعه المتحدثون.

المدن

—————————–

مستقبل المعتقلين السوريين بلبنان: تسليم لدمشق أم عفو عام؟/ بتول يزبك

الجمعة 2025/01/17

صبيحة سقوط نظام الأسد، وانتصار ثورة الشعب السّوريّ في الثامن من كانون الأوّل الفائت، وقف السّوريّون أمام اليوم المُنتظر – الذي أتى بسرعةٍ فاقت كل التّوقعات –  وطرحوا سؤالًا جوهريًّا: ماذا نفعل بعد التحرير؟ وإن كان يبدو السّؤال بديهيًّا في الظاهر ويرتبط مباشرةً بالشأن السّوريّ، إلّا أنّه يتدرّج ضمن مشروعٍ  أوسع من الحدود السّوريّة، ليشمل تحرير الشعب السّوريّ المتشظي في شتات الأرض بأسره، كما جرى تحرير أراضيه. وربما قد يكون هذا المشروع، المُحرّك الأساس لمطلب “العدالة الإنتقاليّة” للسّوريين في سوريا وخارجها، والذي حملت الحكومة الإنتقاليّة السّوريّة مسؤوليته إبان تسلّمها السّلطة.

اليوم، وأكثر من أي وقتٍ مضى، بات ملف تسليم المُعتقلين السّوريّين في السّجون اللّبنانيّة وتحديدًا أولئك الّذين جرى توقيفهم إما بذريعة مناصرة الثورة السّوريّة أو “المشاركة بتنظيماتٍ إرهابيّة” (ضمنًا “داعش” وجبهة النصرة)، قضيةً ملّحة، خصوصًا بعد مباشرة السّلطات السّوريّة، بإعداد قوائم بأسماء الموقوفين وإرسال طلباتٍ رسميّةٍ إلى الحكومة اللبنانية من أجل تسليمهم. لتصير بذلك القضيّة في صلب النقاشات بين الطرفين اللّبنانيّ والسّوريّ وعاملًا حاسمًا في العلاقات الدبلوماسيّة بينهما.

قضية المعتقلين السّوريّين

في حديثه إلى “المدن” يُشير مدير مركز “سيدار” للدراسات القانونيّة والمحامي محمد صبلوح، إلى أن “جذور قضية المعتقلين السوريين في لبنان تعود إلى السّنوات الأولى من الحرب السّوريّة، حيث وجد العديد من السّوريّين أنفسهم في لبنان إما كلاجئين أو كمعتقلين على خلفياتٍ عدّة، أكان لمشاركتهم في الاحتجاجات ضدّ النظام السّوريّ أو انخراطهم في أنشطةٍ معارضة، بما في ذلك تشكيل جماعات مسلّحة أو المشاركة في الاقتتال الداخليّ السوريّ”.

ويُضيف صبلوح: “على حدّ علمنا فإنّ الحكومة السّوريّة قد بدأت بإعداد قائمةٍ بأسماء المعتقلين السّوريين في لبنان وتحديدًا السّجناء السّياسيين وسجناء الرأي، ويشمل ذلك الأشخاص الذين تمّ توقيفهم بسبب انضمامهم إلى قوى معارضة للنظام السّوريّ السابق. وبالإضافة إلى هؤلاء، يتضمن الطلب السوري تسليم العديد من السّجناء الذين صدرت بحقهم أحكام بتهمٍ جنائية مختلفة”. لافتًا لكون أعداد السّجناء من التابعيّة السّوريّة و”بشكلٍ عام، حوالي 1700 أو 1750 سجينًا، غالبيتهم موقوفين على خلفيةٍ جزائيّة أو جنائيّة من دون محاكمات، أما معتقلي الرأي فهم 200 سجين”.

من جهتها، تؤكد مصادر “المدن” في إدارة العمليات العسكريّة (الحكومة الانتقاليّة)، لكون العمل على هذا الملف قد بدأ بالفعل، وبدليل تبليغ قائد الإدارة الحاليّة في سوريا أحمد الشرع، رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي في الزيارة الّتي قام بها الأخير لسوريا منذ أيام، بضرورة العمل على هذا الملف وتسليم السّجناء السّوريين للإدارة. وأشارت المصادر لكون الاتفاقيّة القضائيّة المُبرمة بين لبنان وسوريا هي الّتي سيتمّ بموجبها الطلب رسميًّا من لبنان تسليم سجنائه السّوريّين عبر القنوات الدبلوماسيّة والقضائيّة. وردًّا على سؤال “المدن” عن أعداد المُعتقلين، أكدت المصادر أنهم ما زالوا بصدّد إحصائهم، لكنهم يُقدّرون وجود ما يربو عن الـ 1700 سجين وفقًا لشهادات وتقارير حقوقيّة.

جدليّة استمرار اعتقال السّوريّين

يلفت صبلوح في حديثه، لكون السّلطات اللّبنانيّة قد اعتمدت وتستمر بالمراوغة في هذا الملف، فمن جهةٍ تستمر باعتقال هؤلاء بذريعة “الإرهاب” لكنّها بالمقابل رحّبت بإرادة الشعب السّوريّ وجلست مع الإدارة العسكريّة الّتي تتهمها بـ”الإرهاب”، رسميًّا، قائلًا: “عددٌ كبيرٌ من المعتقلين متهمين بدعم الثورة السّوريّة، وهذا يشمل اتهامات بالانتماء إلى عصاباتٍ إرهابيّة. فكيف يواجه هؤلاء اتهامات بالإرهاب فقط لأنهم دعموا الثورة، في وقتٍ أعلن فيه لبنان استعداده للتعاون مع القيادة الجديدة في سوريا؟ وهل سيتم اتهام شخصيات لبنانيّة بتهمة الإرهاب بسبب تواصلهم مع قيادات سوريّة مثل “أبو محمد الجولاني؟”.

ويُعلّق: “هناك ازدواجية في المعايير، فقد تم احتساب العديد من الميليشيات الّتي شاركت في القتال ضدّ سوريا كـ”شهداء” وأبطال، بينما يعتبرون في سوريا قتلة. هذا الموقف يضع لبنان في موقفٍ محرج. والحاجة اليوم هي لإيجاد صيغةٍ قانونيّةٍ لمعالجة هذا الوضع. أما بالنسبة للمعتقلين اللّبنانيّين المتهمين بالإرهاب لدعمهم الثورة السّوريّة (السّجناء الإسلاميين)، فالأعداد كبيرة، ومعظمهم تمّ اعتقالهم في مختلف المناطق اللبنانية. الحلّ يتطلب تعديل الاتفاقيات السابقة وتعديل القوانين على المستوى النيابي”. وبحسب صبلوح، فإن العديد من هؤلاء المعتقلين لم يتم محاكمتهم بعد، وهم رهن الاحتجاز الاحتياطي أو لأسباب غير واضحة. وزير الداخلية اللبناني أشار إلى أن معظم السّجناء السوريين لم تتمّ محاكمتهم بعد، ويعانون من نقص في المتابعة القانونيّة بسبب افتقارهم إلى المحامين.

خيارات لبنان في هذه القضيّة

وإزاء هذه المعضلة، يبدو أن أمام الحكومة اللّبنانيّة خياران رئيسيان للتعامل مع هذا الملف: فإمّا أن تتعاون الدولة اللّبنانيّة مع الجانب السّوريّ لتسليمهم للسّلطات السّوريّة كي تنظر في ملاحقاتهم الجزائيّة، لا سيّما إذا كانت الجرائم قد ارتُكبت في سوريا وليس في لبنان، وإمّا أن يتم التوجّه نحو عفوٍ عامٍ يشمل هؤلاء الموقوفين، خصوصًا إذا طالت فترة انتظارهم وظلّت أوضاعهم معلّقة بلا محاكمة عادلة، وتحديدًا بعد إنجاز انتخاب رئيس للجمهوريّة وتفعيل مسار العفو، بما يحلّ إشكاليات عديدة تتعلّق بغياب المساواة في الملاحقة القضائيّة.

وفي حال اتخاذ لبنان خيار التعاون مع السّلطات السّوريّة، وفقًا للاتفاقيات القضائيّة بين البلدين، وأبرزها اتفاقية التعاون القضائيّ في العام 1951، حيث تشمل هذه الاتفاقية تبادل المعلومات، التعاون الأمنيّ، ومسألة تسليم المطلوبين. إلّا أن صبلوح يرى في هذا الخيار مشكلة لا يُستهان بها، ومتمثلة في الحاجة لتعديل هذه الاتفاقيّة بيّد “الاتفاقيّة القضائيّة تجيز تسليم المحكومين الذين تبقى لهم أقلّ من ستة أشهر على انتهاء عقوبتهم، وهذا ليس مفيدًا فعلًا لا بسياقه اللّبنانيّ (نظرًا لمسألة الاكتظاظ في السّجون) ولا بسياقه السّوريّ”.

من جهةٍ أخرى، فإن الخيار الثاني، والذي يتضمن إصدار عفو عام عن المعتقلين السّوريّين، سيعتمد على تحركات الحكومة اللّبنانيّة المقبلة في عهد الرئيس المنتخب حديثًّا جوزاف عون. وفي حال تحقيق توافقٍ سياسيّ داخليّ حول هذا المسار، قد يتمّ إصدار العفو لتخفيف معاناة المعتقلين وتلبية مطالبهم بالإفراج عنهم. هذا من دون إغفال أن مطلب العفو العامّ ليس محكومًا وحسب بالاعتبارات القانونيّة، بل أيضًا بالاعتبارات السّياسيّة. ففي الوقت الذي يطالب فيه السوريون بالإفراج عن معتقليهم أو تسليمهم للسلطات السّوريّة، فإن لبنان يواجه تحديات قانونية وسياسية معقّدة وأبرزها التوازانات الطائفيّة والمناطقيّة والسّياسيّة في عملية العفو العامّ حيث أن الإفراج عن هؤلاء يستلزم الإفراج عن سائر السّجناء، وضمنًا الفئات معتقلة بجُرم “الاتجار بالمخدرات” من البقاع الشماليّ.

مسار القضيّة دبلوماسيًّا

من جهةٍ أخرى، لا يُخفِ صبلوح، أن تبعات عدم تعاون الحكومة اللّبنانيّة بجدّيّة في هذا الملف، قد تؤثر بشكلٍ سلبيٍّ على العلاقات مع سوريا. مذكّرًا أن المنفذ البريّ الوحيد للبنان هو عبر سوريا، سواء كان ذلك في مجال التجارة أو غيرها من المجالات. إذا لم تتخذ الحكومة اللبنانية خطوات جادة في هذا الشأن، فإن سوريا قد تبقي على هذه الخلافات وتؤثر على العلاقات بين البلدين وتحديدًا في حال قرّرت سوريا إقفال حدودها للضغط على السّلطات اللّبنانيّة لحلّ هذا القضيّة.

والحال أنّه مع تقدم المفاوضات بشأن تسليم المعتقلين السّوريّين، يُشير مراقبون إلى أنّه ومن المحتمل أن يشهد لبنان وسوريا تغييرات في الاتفاقيات القضائيّة بينهما بما يتماشى مع الوضع الجديد في سوريا.  وبينما تستمر التحركات في هذا الملف، يبقى الأمر متوقفًا على التفاهمات السّياسيّة الّتي قد تساهم في فتح صفحة جديدة من التعاون بين البلدين، بما يخدم مصلحة المعتقلين وحقوق الإنسان في المنطقة.

المدن

————————————–

فلسطين ولبنان وسوريا: حلم الدولة الوطنية ويقظة الفتن/ منير الربيع

الجمعة 2025/01/17

بوقف الحرب الإسرائيلية على غزة، والتي تأتي بعد ضغوط أميركية واضحة على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، يمكن الحديث عن مرحلة جديدة تدخلها منطقة الشرق الأوسط ودول المشرق العربي بالتحديد. وقع نتنياهو في مواجهة خيار أميركي موحد بين إدارتين مختلفتين، إدارة راحلة وفّرت له كل آليات وأساليب الدعم لخوض الحرب و”تغيير وجه المنطقة”، لكنها أصبحت تتمسك بمبدأ وقف الحرب قبل رحيلها. وإدارة مقبلة يريد رئيسها دونالد ترامب إنهاء الحرب في الشرق الأوسط قبل دخوله إلى البيت الأبيض، ليطلق مساراً جديداً اختصره بعبارات إحياء مشروع السلام والاتفاقات الإبراهيمية. الحسابات الأميركية هي التي ألزمت نتنياهو بوقف الحرب، علماً أنه لم يكن مقتنعاً بها، ولم يستكمل تحقيق أهدافه، وهي تهجير الشعب الفلسطيني من قطاع غزة، والانتقال للانقضاض على الضفة الغربية في حرب تهجيرية جديدة.

تدمير الدول

عندما يتحدث ترامب عن إعادة إحياء اتفاقات السلام الإبراهيمية، يعني ذلك ممارسة المزيد من الضغوط أو الاستضعاف للدول العربية، في سبيل جرّها إلى الاتفاق والتفاهم مع إسرائيل. وتلك معادلة استقامت على مدى السنوات الماضية منذ تكريس معادلة الصراع “العربي- الإيراني” أو العربي- العربي، والذي أدى إلى تراجع العداء لإسرائيل في سلّم الأولويات. طوال الحرب على فلسطين ولبنان وسوريا، استمر بنيامين نتنياهو في تصريحاته المركّزة على أن الهدف هو ضرب إيران وإضعافها وإنهاء حقبة نفوذها في المنطقة. وهو بذلك أراد اللعب على التناقضات العربية الإيرانية، ليبرز كمخلّص للمنطقة من النفوذ الإيراني.

أدت الحرب إلى متغيرات كبيرة على مستوى المنطقة، انعكست بشكل مباشر في تحولات سياسية كبرى سورياً ولبنانياً. ومن هنا يتكاثر الحديث عن طي مرحلة “قوة النفوذ الإيراني” لصالح تقوية مشروع آخر. علماً أن هذا المشروع الآخر لا يزال غير واضح المعالم المتصلة بهذه الدول ولا بجوارها. كان من نتاجات هذا المشروع تدمير دول وأنظمة ومؤسسات، وهي أصبحت بأمس الحاجة إلى مشاريع إعادة إعمار وإعادة ترتيب أولويات اجتماعية، اقتصادية، سياسية، قبل الوصول إلى مرحلة رسم التصور الواضح لأي مشروع سياسي يمكن إنتاجه. تأخُر ولادة المشروع والرؤية الواضحة لإعادة إنتاج المؤسسات أو بناء الدول، سيكون له مستفيد وحيد وهو إسرائيل، التي ستستثمر بالفوضى في كل هذه الساحات، وتتخذ من جماعات مختلفة “رهائن” لمشروعها، الذي يزدهر بإضعاف المجتمعات والدول، خصوصاً في ضوء إقبال هذه الدول على صراعات داخلية، سياسياً أو أمنياً وعسكرياً، بخلفيات طائفية أو مذهبية أو بتوجهات سياسية متناقضة.

مشروع الدولة الفلسطينية

فلسطينياً، فإن التحدي الأساسي لمواجهة إسرائيل هو بقاء الشعب الفلسطيني، وإطلاق مشروع إعادة الإعمار، لإعادة خلق وإنتاج كل مقومات الحياة. فمنع التهجير من القطاع لا بد له أن ينعكس على منعه في الضفة، ليكون ذلك منطلقاً جديداً لإعادة إطلاق مشروع الدولة الفلسطينية والحفاظ على الوجود والبقاء، والدخول في ورشة لإصدار إعلان دستوري وإنتاج سلطة جديدة تجمع كل مكونات الشعب الفلسطيني، مع تجاوز الصراعات والخلافات والتي جرى اللعب عليها طوال سنوات ما بين “السلطة الفلسطينية” التي تمثل الاعتدال، وحركة حماس التي تمثّل “الإسلام السياسي”. من هنا تبزر الحاجة إلى فرض وقائع سياسية جديدة لإعادة تشكيل السلطة، بدءاً من توفر مشروع واضح المعالم لإدارة قطاع غزة، والتكامل ما بين الضفة والقطاع.

سوريا ولبنان

سورياً، التحديات كبيرة. إسرائيل تراقب وتنتهز أي فرصة تتجاوز فيها مسألة الضربات العسكرية لكل المقدرات السورية، وتسعى من خلالها إلى الاستثمار بالصراعات العرقية أو القومية أو المذهبية. ولذا، لا تزال سوريا أمام تحديات كبيرة وقد تتفاقم في ظل تضارب الرؤى والاتجاهات، بينما الحاجة الفعلية هي للدخول في إعلان دستوري واضح، أو العودة إلى دستور سابق كدستور العام 1950، يتم العمل بموجبه، بانتظار طرح كل الأفكار والهواجس في حوار وطني عام وشامل وتفصيلي، تأسيساً لمؤتمر عام يصدر عنه إعلان دستوري جديد. كما تبرز الحاجة إلى إعادة تفعيل وتشكيل الأجهزة الأمنية والعسكرية الرسمية، لضبط الوضع ووقف الكثير من التجاوزات التي يمكنها أن تؤدي إلى انفجار حرب أهلية، تأخذ أبعاداً متعددة ومتناقضة وتسمح لقوى خارجية كثيرة أن تدخل للاستثمار بها وتغذيتها.

أما لبنانياً، والذي دخل في ورشة سياسية منذ إنجاز عملية انتخاب رئيس للجمهورية واختيار رئيس للحكومة، فهو بحاجة أيضاً إلى إعادة الاعتبار للعمل الدستوري، مع السعي إلى تشكيل حكومة جامعة لا تعمل على عزل أي طرف من المكونات، خصوصاً بعد مقاطعة الثنائي الشيعي للاستشارات النيابية، ولكن مع تمسكه بأن يتمثل في الحكومة. وهنا يجدر التنبه إلى محاولات جهات كثيرة للعمل على “عزل الثنائي” أو دفعه إلى المعارضة، علماً أن ذلك في ظل الظروف الحالية والتحولات الحاصلة في المنطقة، وخصوصاً في سوريا ولبنان، قد تؤدي إلى إذكاء نار الفتنة السنية- الشيعية مجدداً. وهو ما يعلم المعنيون مخاطره ويؤكدون أنهم يريدون تجنبه، خصوصاً أن أي صراع طائفي أو مذهبي سيحصل في سوريا أو لبنان بهذه المرحلة سينعكس على الدولة الأخرى، وهو لا بد له أن يمتد إلى دول أخرى في المنطقة.

بنتيجة التحولات التي شهدتها سوريا ولبنان، ومع وقف الحرب على غزة، برز حجم التدفق الدولي والعربي إلى هذه الساحات والمسارح، بعضها يرتبط بحسابات النفوذ والحفاظ عليه وتعزيزه، وبعضها الآخر يرتبط بحسابات التنافس وتثبيت الحضور. لكن من الواضح أن هناك نوعاً من الاحتضان الإقليمي والدولي لهذه التحولات. وهو ما يفرض إعادة إحياء أو إنتاج معادلة “التكامل الإقليمي” ما بين دول المنطقة، كما هو حاصل من تقارب بين دول خليجية مع تركيا ولا سيما حول الساحة السورية، وهو ما يفترض أن يحصل مثيله في لبنان، لا سيما أن إيران لم تكن بعيدة عن مفاوضات إقليمية أنضجت تسوية انتخاب رئيس الجمهورية.

المدن

—————————

الوطن كما يراه باسم ياخور/ وليد بركسية

الجمعة 2025/01/17

أكثر ما يثير الانتباه في تصريحات الممثل السوري باسم ياخور الأخيرة، بعد سقوط نظام الأسد، ليس الموقف الدفاعي الحاد حيث وجد الفنان الشهير نفسه مضطراً لاتخاذه لمرة الأولى ربما مع هزيمة الجهة السياسية التي مازال يدعمها ويلمع صورتها، ولا العنجهية والفوقية التي خاطب بها معارضي الأسد المخلوع، من إسلاميين وعلمانيين، لأن ذلك مألوف في لغته ولغة زملاء آخرين له، مثل سلاف فواخرجي ومصطفى الخاني. بل اللافت هو السبب الذي قدمه لدعم نظام شمولي يمارس انتهاكات حقوق الإنسان بشكل ممنهج، عن قناعة تامة ورضى لا يمكن بموجبهما “التكويع” نحو التطبيل للسلطات الجديدة.

وقال ياخور أن دعمه لنظام الأسد انطلق وما زال، من أنه يشكل الضامن الوحيد لعدم تقسيم سوريا بوصفها وطناً للسوريين. وهي ليست فقط مقاربة غير صحيحة سياسياً وسامة فكرياً، بل أيضاً هي فكرة ساقطة أخلاقياً، لأن معنى الوطن المشوّه في هذا السياق يأتي من مفهوم الأرض التي تأتي فوق كرامة الإنسان المنتمي إليها وفوق حقوق المواطنين والقانون بشكل يجعل تلك “القدسية” تبرر كل الانتهاكات التي قام بها نظام الأسد وكانت حاضرة في مشهد المعتقلات المنتشرة في كل مكان، فوق الأرض وتحتها، بما كان يجري فيها من تعذيب وقتل وتصفية واعتقال وتغييب قسري، طوال 54 عاماً.

وتنبع الفكرة القائلة بأن الوحدة وحماية الأرض لهما قيمة أعلى من حقوق الإنسان، من مصادر أيديولوجية وتاريخية وثقافية عديدة، غالباً ما تكون متشابكة مع الاستبداد والقومية والعسكرية. وفي الحالة العربية كانت أحزاب مثل “البعث” في سوريا تروج لها منذ عقود بعد الحرب العالمية الثانية، من دون نسيان إرث المصري جمال عبد الناصر في هذا السياق، علماً أن الجذور الفلسفية لها تأتي عموماً من أفكار ترتبط بالاستبداد وعبادة الدولة، قبل ظهور الديموقراطية بشكلها الحالي، كما هو الحال لدى الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز (1588-1679).

وجادل هوبز في كتابه “لوياثان” بأن السلطة المركزية القوية ضرورية لمنع انهيار المجتمع إلى الفوضى، وشرح جزء كبير من الكتاب ضرورة وجود سلطة مركزية قوية لتجنب الشقاق والتقسيم والحرب الأهلية. وفيما كان ذلك منطلقاً للحديث عن الانفصال عن الكنيسة وضرورة التحول نحو مجتمع مدني يضطر فيه الأفراد لإنشاء عقد اجتماعي، فإنه تطور لاحقاً بشكل كبير في المجتمعات الديموقراطية التي لم تعد فيه الدولة هي الهدف بقدر ما هي الحامي لحقوق الأفراد الذين تشكل فردانيتهم أسس بناء المجتمع، بغض النظر عن الأيديولوجيا، والهويات الدينية والطائفية، والتوجهات الجندرية، وغيرها من تفاصيل.

وتحرف الأنظمة الديكتاتورية غالباً تلك الفكرة، مروجة للاعتقاد بأن الحكم الاستبدادي هو الطريقة الوحيدة للحفاظ على النظام والوحدة، وهو ما كان نظام الأسد يمارسه طوال عقود، رغم أن ذلك الأسلوب في الحكم يفتت المجتمع في الواقع لدرجة نفي أي إمكانية لخلق هوية وطنية، وهو ما يظهر اليوم بشكل واضح بين السوريين الذين يعودون في خطابهم إلى هويتهم الطائفية والإثنية للحديث عن مخاوفهم بشأن سوريا المستقبلية، في فترة انتقالية تمر بها الدولة ككل.

والحال أن هناك فارقاً بين مفاهيم الدولة والوطن والحكومة، لكن الأنظمة الشمولية، كما كان الحال في سوريا، تساوي تلك المفاهيم وتسطحها وتجمعها معاً في صورة القائد المخلص، وتحاول إقناع المواطنين فيها بأن الولاء للنظام يعني الولاء للوطن، وهذا الخطاب متجذر بعمق في دعاية نظام الأسد، ويمكن تلمسه في مقابلة ياخور الأخيرة، حيث يظهر مصدقاً لتلك الأفكار ومروجاً لها بوصفها الحقيقة الوحيدة التي بنى عليها نظامه العقائدي (belief system).

هذه الأيديولوجية ليست فريدة من نوعها في سوريا، بل هي موضوع متكرر في التاريخ البشري، خصوصاً في المجتمعات الخاضعة للحكم الاستبدادي أو التي لديها تاريخ من التهديدات الخارجية، من الصين المعاصرة إلى ألمانيا النازية، مروراً بالاتحاد السوفياتي البائد.

وفي حالة سوريا، كان ذلك الخطاب مرتبطاً أيضاً بخطاب يعلي من الوطنية والقومية (Nationalism) مع تصوير البلاد مهددة دائماً بخطر الغزو الخارجي أو المعارك الوجودية مع الجارة إسرائيل، أو الحروب الأهلية أو محاولات الانشقاق من طرف الأكراد أو انتشار الإرهابيين في إشارة للمعارضة السورية بعد العام 2011، مع ربط ذلك كله بالمؤامرة الكونية، من دون نسيان الجانب التاريخي والديني الذي يتبناه كثير من السوريين، بغض النظر عن موقفهم السياسي، ويرون فيه أن السوريين “خير أمة أخرجت للناس” من زوايا مختلفة: دينية إسلامية لكون دمشق حضرت في نبوءات دينية عن نهاية العالم، ومسيحية من ناحية كون البلاد مهداً قديماً للمسيحية حيث ما زالت قرى في القلمون السوري تتحدث السريانية، وسياسية/ثقافية بسبب عقود من الحكم الشمولي الأسدي الذي عمل على تكريس تلك الفكرة بشكل ممنهج.

وتظهر مقاربة ياخور لما يحدث في سوريا كيف جعلت عقود من الاستبداد، الناس يعتادون على إعطاء الأولوية للبقاء على الحرية، حتى من قبل أفراد يفترض أنهم من “النخبة” الذين ترتبط مهنتهم كفنانين بمناخ الحرية قبل أي شيء آخر. لكنهم في الواقع يقدمون وجهات نظر تقلل من أهمية الأخلاق، وتركز بدلاً من ذلك على نتائج مثل القوة والاستقرار والوحدة الإقليمية، بشكل يبرر المجازر والتعذيب والانتهاكات والفقر بوصفها مشاكل ثانوية يمكن معالجتها لاحقاً بمجرد أن تصبح الدولة آمنة، وهو وعد لا يمكن أن يتحقق بطبيعة الحال، لأنه جزء من دورة ذاتية التغذية.

هذه النقطة بالتحديد تشكل جوهر النضال من أجل سوريا المستقبلية، التي يرتجى أن تصل لبناء دولة مدنية تعددية وديموقراطية، لأن الوطن الذي يبيح دماء أبنائه لمجرد بقاء ذلك الوطن متماسكاً، ليس وطناً، بل هو سجن ينبغي تحطيمه والتحرر منه، حتى لو كان الثمن هو تفتيت ذلك السجن إلى كيانات فيدرالية أو دول جديدة كلياً. فالوطن لا يتحدد بالحدود السياسية له ولا بالأيديولوجيا التي يتبعها حكامه، بل بكرامة أفراده وشعورهم بأنهم ينتمون إلى سياق أكبر يدافع عنهم ويحميهم بغض النظر عن هوياتهم.

واليوم، حتى في ضفة السوريين المعارضين للأسد سابقاً، يتواجد خطاب مشابه لما يقدمه ياخور، يعلي من قيمة الدولة ويؤجل كل مشاكل البلاد الأخرى والحديث عن هوية البلاد إلى وقت لاحق بدعوى الأمن والحفاظ على الاستقرار، إلى حد إطلاق خطاب التخوين على معارضين بارزين أمضوا معظم حياتهم بعد العام 2011 في المنافي أو تعرضوا للاعتقال والتنكيل من قبل الأسد، لمجرد حديثهم عن أولويات مختلفة عن أولويات وحدة سوريا وتمكين السلطة الجديدة فيها.

ولا تساعد الفوضى الحاصلة في سوريا اليوم ولا طبيعة الفصائل الإسلامية التي أسقطت النظام، في تهدئة المخاوف المحقة التي تظهر بشكل مظاهرات محدودة هنا وهناك وعبر مواقع التواصل، مع غياب وسائل الإعلام الرسمية عموماً وتوقفها عن العمل، وعدم توجه حكام سوريا الجدد إلى الشعب السوري بخطاب واحد مباشر حتى اللحظة، ما يخلق ككل بيئة مثالية لنشر الأخبار الكاذبة وتضخيم المخاوف المحقة. بينما تملأ الفراغ شخصيات مثل ياخور ممن يعيدون تدوير خطاب السلطة القديم الذي ينذر بسيناريو الثورات المضادة التي حصلت في دول الربيع العربي كتونس ومصر وأعادت تدوير الاستبداد بوجوه جديدة.

المدن

———————————–

محمد حمشو لم يغادر منزله في دمشق !/ مّار المأمون – فراس دالاتي

17.01.2025

تبقى الحالة القانونية والمدنية لمحمد حمشو في “سوريا الجديدة” موضع ريبة ورهن التكهنات، في ظل تخبط التصريحات الرسمية وغياب الإجابات الواضحة، هل هو خاضعٌ للإقامة الجبرية، أم أنه أجرى تسوية من “نوع خاص” تشبه تلك التي نالها طلال مخلوف ومفيد درويش وغيرهم من كبار أركان النظام المخلوع بما يحفظ مكاناتهم ومكتسباتهم؟.

سقط نظام الأسد في كانون الأول/ ديسمبر 2024 واقتحم السوريون قصور آل الأسد وغيرهم من الشخصيات المتنفّذة والقريبة من السلطة، عدا محمد حمشو، الذي تداولت تقارير صحافية خبر مغادرته نحو بيروت، ثم عودته إلى دمشق في كانون الثاني/ يناير 2025 لـ”تسوية وضعه” مع السلطات الجديدة مقابل مليار دولار!

وزير الاقتصاد في حكومة تصريف الأعمال باسل عبد الحنان نفى في لقاء صحافي، أن يكون حمشو قد دفع تسوية كهذه ولم يشر إلى مكان وجوده، وأشار إلى أن السياسة العامة هي “تشغيل الشركات والملاك سيوضعون أمام لجنة قضائية هي التي ستحدد أي الأموال هي من حق الشعب، فتعود للشعب، وما هي الأموال التي من حق أي مستثمر، أو أي رجل أعمال سابقاً، وإن كانت من حقه أو كان مكرهاً أو مجبراً فهذا يقدره القضاء”.

تضاربت الأخبار حول محمد حمشو، إذ أفادت  قناة العربيّة إلى أنه غادر سوريا، خصوصاً أنه واحد من المتهمين بتمويل ماكينة القتل التي كان يديرها النظام السوري، في الوقت ذاته لعب عبر عضويته في مجلس الشعب دوراً في تلميع صورة النظام وصورته الشخصية سواء عبر الإنتاجات الفنية والإعلامية التي يمولها (سوريا الدولية للإنتاج الفني) أو المؤسسات الخيرية التي يديرها.

هل غادر حمشو منزله؟

توجه فريق  “درج” إلى منزل رجل الأعمال السوري محمد حمشو الواقع في منطقة المالكي بدمشق مساء الأربعاء 15 كانون الثاني/ يناير، ليجد تجمعاً قوامه ستة أفراد من الحرس الشخصي غير المسلحين إلى جانب عنصرين من الأمن العام التابع لوزارة الداخلية في الحكومة السورية المؤقتة، بلباسهم الرسمي وسلاحهم، قرب مدخل البناء.

حي المالكي في دمشق، واحد من أرقى الأحياء في العاصمة السوريّة، ويحوي قصر بشار الأسد ومكتبه ومكتب أسماء الأسد وعدداً من المكاتب ومنازل كبار شخصيات النظام المخلوع الأمنية والاقتصادية، ولطالما كان محاطاً بحماية أمنية بسبب بعض الشخصيات التي تسكنه وقربها من السلطة، ناهيك بالعائلات الميسورة والتي كانت تخضع لرقابة دائمة بسبب سكان الحيّ، والذين تحدثوا عن معاناتهم بعد سقوط النظام، واقتحام بعضهم منزل بشار الأسد.

لم يكن دخول البناء حيث يسكن محمد حمشو ممكناً للعموم، وكانت تركن قرب البناء سيارتان؛ إحداهما مرسيدس-بنز إس كلاس 2022 سوداء اللون ذات زجاج أسود بالكامل، وخلفها سيارة ميتسوبيشي رباعية الدفع؛ السيارتان كانتا مُشغلتان طوال مدة الرصد.

رصد “درج” تحركات مريبة على مدخل البناء، منها تحدّث عناصر الحرس الشخصي بين بعضهم وإلى عنصري الأمن العام، واتخاذهم التشكيلات، إضافة إلى قدوم سيارتين للأمن العام محمّلتين بعشرات العناصر إلى الموقع، وتحدث سائق إحديهما لأحد العناصر قبل مضيّهما قدماً.

بعد مرور نحو العشرين دقيقة، اتخذ العناصر تشكيلاً عند المدخل وخرجت من البناء سيّدة محجبة تبدو في منتصف العمر رفقة شابة، وصعدتا إلى سيارة المرسيدس السوداء التي لم تتحرك لأكثر من 15 دقيقة بعد صعود السيدتين إليها.

لاحظ “درج” بعدها تحركات مكثفة لعناصر الحرس وعنصري الأمن العام وصعود بعضهم الدرج ونزول آخرين، إضافة الى تقدّم سيارة المرسيدس بضعة أمتار لتحاذي باب البناء مباشرة، ويخرج من الباب السيد محمد حمشو مرتدياً سترةً وقبعة سوداوين ويصعد إلى المرسيدس التي انطلقت ومعها سيارة الميتسوبيشي التي صعد إليها أربعة من عناصر الحرس الشخصي، وتوجهتا باتجاه طريق القصر.

في اليوم التالي، رصد “درج” وجود سيارة ميتسوبيشي — ذاتها التابعة للحرس — تقلّ عناصر الأمن العام التابعين لحكومة تصريف الأعمال، لكن مع تغير العناصر الذين كانوا في اليوم الأول، بجانب المنزل. ومن الملاحظات اللافتة توقف سيارة نقل ركاب صغيرة “ڤان” ترجل منها بضعة شبّان يحملون عشرات الأكياس الممتلئة بوجبات الطعام ومواد التموين كالخبز والبيض وتوجهوا إلى الداخل، هذا إلى جانب عمليات التنظيف الحثيثة التي يقوم بها عددٌ من الأفراد للمبنى وللرصيف المحاذي.

“الهيئة” لا تنفي ولا تؤكد

سأل”درج” أحد المسؤولين في وزارة الداخلية التابعة للحكومة المؤقتة عن الحالة القانونية لمحمد حمشو بصفته رجل أعمال خاضعاً للعقوبات الدولية، وسبب وجوده، رغم تأكيد مصادر رسمية في الحكومة مغادرته البلاد، رفض تقديم أي إجاباتٍ واضحة، لكنه لم ينفِ الأمر كذلك.

وقال إن الإجابة عن هذا النوع من الأسئلة تقع خارج نطاق صلاحياته، وأن “الملفات الحساسة من هذا النوع تقع ضمن صلاحيات إدارة العمليات العسكرية”.

كما أفادت مصادر أمنية مقرّبة من الإدارة الجديدة لـ”درج”، بأن إدارة العمليات طلبت من محمد حمشو البقاء في البلد، بل وطُلب منه البوح بتصريح “تتهنوا بالبلد” الذي أذيع على قناة “العربيّة”.

ولفتت مصادر مقربة من عائلة حمشو الى أن وجوده في سوريا مرتبط بقطر، كون أولاد أخته هناك ويحملون الجنسية القطرية، ونقصد معتز رسلان الخياط، الذي ساهم في مشاريع عدة أثناء كأس العالم في قطر عام 2022.

يذكر أن عائلة حمشو ظهرت في تحقيقات “مفاتيح دبي”، حيث أشير الى اسم رانيا الدباس زوجة محمد حمشو، والمشمولة في لائحة العقوبات الأميركية ضمن “قانون قيصر” 2020، مالكة عقار على شكل شقة في برج DAMAC TOWERS من المنطقة العقارية بزنس باي بقيمة تقديرية 621 ألف دولار أميركي، بينما ظهر اسم أحمد صابر حمشو، شقيق محمد حمشو، كجهة مسيطرة على عقارين في منطقة Al Hebiah Third.

إمبراطوريّة حمشو الاقتصاديّة

محمد حمشو رجل أعمال سوري ولد في دمشق العام 1966، هو واجهة اقتصادية لماهر الأسد قائد الفرقة الرابعة في الجيش السوري، ومتهم بتمويل الفرقة ونشاطها العسكري.

هذا النشاط العسكري تقابله أنشطة مدنيّة، فحمشو شريك رامي مخلوف في شركة “شام القابضة”، وبنى إمبراطورية اقتصادية تشمل الاتصالات والعقارات والإعلام والتجارة، ناهيك بكونه نائباً في مجلس الشعب قبل إسقاط عضويته بسبب حصوله على الجنسية التركية. وتداولت تقارير أن حمشو فُرض على الإدارة الجديدة بوساطة تركية-قطرية، لذلك لم يعتقل أو حتى يقتحم منزله.

فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات على محمد حمشو منذ العام 2011، وتلاحقه أيضاً تهم  الإتجار بأنقاض المنازل المدمرة، كما شملت العقوبات زوجته رانيا الدباس وولديه أحمد وعمر.

كشفت وثائق الأمم المتحدة عن تلقي شركات مرتبطة به ملايين الدولارات من منظمات دولية. فيما أشارت محاضر تحقيقات تاجر المخدرات اللبناني حسن دقو إلى استخدام مستودعاته لتخزين بضائع مشبوهة قادمة من لبنان.

تبقى الحالة القانونية والمدنية لمحمد حمشو في “سوريا الجديدة” موضع ريبة ورهن التكهنات، في ظل تخبط التصريحات الرسمية وغياب الإجابات الواضحة، هل هو خاضعٌ للإقامة الجبرية، أم أنه أجرى تسوية من “نوع خاص” تشبه تلك التي نالها طلال مخلوف ومفيد درويش وغيرهم من كبار أركان النظام المخلوع بما يحفظ مكاناتهم ومكتسباتهم؟.

وهل “المحاكم الخاصة” التي تحدث عنها وزير العدل السوري ووزير الاقتصاد السوري، ستطاول حمشو و إمبراطوريته المالية أم لا؟

درجات

—————————–

من “ورد” الى “عمر”… اسمٌ واحدٌ لا يكفيك لتحمي نفسك من معتقلات الأسد/ عمر الهادي

17.01.2025

الحريّة بالنسبة إلي ليست فقط الكتابة من دون رقابة، بل هي قدرتي على الشعور بالأمان الذي لم اختبره يوماً، في بلدٍ يمكن أن يتحوّل أي شيء داخله إلى خطرٍ يُلاحقك، حتى لو كان اسمك!.

من الصعب نسيان ذاك اليوم الذي اكتشفتُ فيه أن لصديقتي الصحافية اسماً ثانياً، كنا نسير وسط دمشق، في حاراتها القديمة تحديداً، نَعبر حواجزها الأمنية، ومن أمام صور بشار التي تحدق بنا من كل زاوية، اقتربتْ صديقتي مني وهمست: “أنا أملك اسماً مستعاراً، وأكتب فيه ضد نظام الأسد”.

لماذا نحتاج اسماً آخر في سوريا؟

بدأتُ حينها بالكتابة الصحافيّة خلال دراستي الجامعية، خطوتُ فيها على مهل، تتبعتُ مواضيع اجتماعية، وثقتها ونقلتها، كتبتُ عن تجربتي كطالبٍ في جامعات سوريا، كتبت عنا نحن، “السوريين في الداخل”، وعمّا يعنيه العيش في بلادٍ تُحمل فوق أكتافنا.

حاولَ المحرر تنبيهي من الاقتراب من الوضع السياسي في نصوصي، مُحذراً من الجمل أو التحليلات التي قد تحوي خطراً أمنيّاً مباشراً. وعلى رغم منحي مساحةً حرّة لقول ما أريد، إلا أنه كان حريصاً على سلامتي الشخصية كشرطٍ أول، فغالباً ما كان يغيّر بعض عباراتي، يحذف أُخرى، وبأفضل الحالات يخفي دلالتها. 

مقالاً تلو الآخر، بدتْ كل المعاني كما لو أنها تلتفّ حول فكرة غير مكتملة، شيء يمنعني من قولها خشية أن تقودني إلى معتقلات نظام الأسد.

 في بداية الأمر، ابتعدتُ عن أي موضوع من شأنه أن يشكّل خطراً على أماني، وتجنبتُ الكتابة في السياسة، لكن الواقع أعادني إليها من دون قصد، كلّ تفصيل يوميّ كان ينزلق نحوها، لأجد نفسي أكتب عن القمع والخوف والحريّة. فخلال الحرب التي عايشناها، اقتحمت السياسة كلّ منزل سوريّ، جلستْ على موائد طعامنا، قسّمتنا وقاسمتنا الأحاديث والطعام والألفة، وأصبحت التصاقاً يصعب التخلّص منه. 

منحتني تجربتي الشخصيّة ـ والصحافية تحديداًـ مقاربة لواقع نخشى الاعتراف به، لم أستطع الامتناع عن الكتابة عمّا يحدث، لم أستطع تجميل المشهد، أو نقله بصورة ناقصة. لذلك قررتُ البحث عن اسمٍ ثانٍ كالذي تملكه صديقتي، اسم يمكنني الكتابة من خلاله، وقول ما ليس بإمكان إسم الحقيقي قوله.

في سوريا، من غير المعتاد أن تختار شيئاً يخصك من دون خوف، أن تمتلك حريتك مثلاً! فكل ملكيّة سوريّة يشوبها شعور خفيّ بأنها حرية من الدرجة الثانية، ملكيّة ناقصة وإن كانت بينك وبين نفسك، أمّا الحرية الكاملة التي من الدرجة الأولى، هي امتياز يقتصر على النظام الحاكم وأذرعه.

كأي شاب ولد في سوريا، مُنِحت اسماً، وبطاقة شخصية، ودفتر خدمة عسكرية، وسجلاً أمنياً في أفرع المخابرات يشاع أنه يعرف عني أكثر مما أعرفه عن ذاتي، ربما حتى اسمي الآخر.

أن أمنح نفسي اسماً جديداً كان بالنسبة إلي نوعاً من التحدّي، وفرصة للتحرر من تلك الهوية والدفتر العسكري والملف الأمني، اسم يملكه شخص، يمكنه أن يعيش داخل سوريا ويعبر حواجزها بهويّة مجهولة وغير مرئية.

في البداية كنتُ سأختار اسم فتاة وأكتب كل المقالات بلسانها، في محاولة لإبعاد الشبهات عني قدر المستطاع، ثم فكرت في اسم يحمل دلالة للنظام أو لأحد أقربائه. ووصل بي الجنون حتى كدت أختار كنية “الأسد”، كرد فعل لما تحمله هذه الألقاب من فزع داخلنا، وكأنني أستحضرها وأجنّدها كما أريد، انتقاماً لصوتي الذي أخذوه مني.

اخترتُ أخيراً اسم “ورد بيك”، جاء الاسم مصادفة، أردت لمعناه أن يحمل شيئاً أحبه وهو الطبيعة، أما لقب “بيك” فهو كناية للترفع عمّا يحدث، والتأكيد أننا أيضاً يمكننا أن نطلق ألقاباً  ذات جاه على أنفسنا، كما يفعل رجال السلطة في سوريا.

عمر الهادي… اسمي الأوّل

منذ سقوط نظام الأسد، ولأول مرة أعادني المشهد السوري إلى “عمر”، الذي اختبر حريته داخل نفسه، أما النجاة الفردية التي كان يخشاها، فباتت جماعية.

رافقني “ورد” سراً، اختبأ خلفي أحياناً، وأختبأت خلفه أحياناً أكثر، وحملني إلى أماكن أبعد مما توقعت، أنا صاحب هذا الإسم المستعار، الذي كنتُ أنتظر فرصة سفر كي أكشف عنه، لكنني اليوم، ومن داخل منزلي في سوريا، أعلن أنني صاحب هذا الاسم.

هذا الإعلان ليس سوى اعتراف شخصي أمام ذاتي بحريتي الصغيرة، التي حملتها وسط كل ما مررنا به، وهو لا يتعدّى تجارب صحافية كثيرة ومهمة حدثت داخل سوريا وخارجها.

في ما مضى، كانت الأسماء المستعارة جزءاً من تجربتي، عاشت هذه الأسماء نجاحاتي وشعرتُ كما لو أنها تسبقني بعض الأحيان، أبرزها كان حصولي على المركز الأول في مسابقة المناضل السياسي “ميشيل كيلو” لمقالة الرأي، التي أقامتها منظمة “مارس” Mars، عن مادة بعنوان: “الخوف من الكاميرا… ثلاثة وجوه سوريّة لشخص واحد”، وتحسباً تم استخدام اسم آخر عند إعلان النتائج. 

علّمني الحرمان الطويل في ظلّ نظام ديكتاتوري كيف أعيش بصمت وحذر، ومع كل خطوة خطوتها، كانت المسافة بين “عمر” و”ورد” تزداد، إلى أن أصبحت مساحة كافية لأركض فيها كما أُريد، بعيداً عن أعين جلادٍ يقف فوق رأسي ورأس عائلتي وأقربائي.

أتساءل اليوم، بعدما خرجت من العتمة: هل تحررتُ حقاً؟ هل تجاوزتُ الخوف الذي رافقني طوال تلك السنوات؟

الحريّة بالنسبة إلي ليست فقط الكتابة من دون رقابة، بل هي قدرتي على الشعور بالأمان الذي لم اختبره يوماً، في بلدٍ يمكن أن يتحوّل أي شيء داخله إلى خطرٍ يُلاحقك، حتى لو كان اسمك!.

درجات

———————————-

سوريا والتجربة الرواندية – سويسرا القارة الأفريقيّة!/ محمد الوتيري

16.01.2025

لا ينبغي المساواة بين مآسي الشعوب أو مقارنتها ببعضها بعضاً، لكن من المهم بمكان، التعلم والاستفادة من التجارب المختلفة بالشكل الذي يساعدنا على تصميم نموذجنا الخاص، الذي يتناسب مع أهداف مجتمعاتنا وآمالها، وقد تكون التجربة الرواندية تجربة مثيرة للاهتمام بالنسبة الى السوريين.

تحوّل اسم سويسرا من اسم دولة في أوروبا إلى مصطلح بات يُستخدم لوصف الدول، التي تحقق إنجازات ملحوظة في التنمية والتعايش والاستقرار. وهنا نستحضر سويسرا القارة الأفريقية – رواندا، التي تشكلت على أعقاب حرب أهلية وانتهاكات مروعة وجرائم إبادة جماعية، حصدت ما يزيد عن 800 ألف من مواطنيها، خلال 800 يوم فقط، كانوا في غالبيتهم من الأطفال والنساء. فما الذي يمكن أن نتعلمه من هذه التجربة، وهل يمكن أن تصبح سوريا في يوم ما، سويسرا الشرق الأوسط؟

تجربة الحرب الأهلية بين الهوتو والتوتسي في رواندا، هي واحدة من أبشع الحروب التي شهدها العصر الحديث، أكثر من 800 ألف شخص قُتلوا بشكل جماعي وبطرق لا إنسانية، أكثر من 500 ألف امرأة اغتُصبن، أُحرقت المنازل، ودُمرت المدارس، وشُرد الملايين الذين هاجروا إلى الدول المجاورة. هذه الجرائم كلها قُوبلت بتخاذل وتواطؤ من الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، الذي اكتفى بدور المراقب اثناء حدوث جرائم الإبادة الجماعية، من دون أن يحرك ساكناً، بل سحب قوات حفظ السلام التي كانت موجودة حينها، بعدما قُتل 10 من عناصرها، وهو ما اعتبره الروانديون تخاذلاً، إن لم يكن مشاركة في الجريمة.

 مع انتهاء جرائم الإبادة بانتصار التوتسي وسيطرتهم على الدولة، بدأت الوفود الأممية والمنظمات الدولية بزيارات مكوكية مستمرة إلى كيغالي عاصمة رواندا. وفي الذكرى العاشرة للإبادة الجماعية، أتت الأمم المتحدة ممثلّة بأمينها العام بان كي مون معتذرةً عن عجزها، ومعربة عن خجلها من عدم قيامها بما يجب، لإيقاف جريمة الإبادة الجماعية التي حدثت، وأقرت بأنه “كان في وسعنا أن نفعل الكثير لإيقافها، بل كان يجب علينا أن نفعل الكثير، لكنها لم تفعل”.

أشار خبراء إلى أن التعامل مع عواقب الحرب الأهلية وآثارها بخاصة التحقيق في الانتهاكات ومحاسبة المجرمين، سيتطلب قرناً بكامله أي 100 عام، لكن الروانديين والقيادة الرواندية كان لهم رأي آخر. إذ رأى الروانديون أنهم لا يستطيعون الاعتماد على المجتمع الدولي الذي خذلهم، وذُبحوا على مرأى ومسمع منه، فقرروا أن يخطوا قدماً بقيادات وطنية وجهود محلية واسعة، لمعالجة آثار الحرب، وإنشاء دولة رواندا التي يحلم بها كل الروانديين، وعلى رأسها التحديات المتعلقة بتحقيق العدالة والمصالحة، وابتكروا محاكم “الغاكاكا”، وهي محاكم محلية على مستوى المدن والأرياف، لمحاكمة المتورطين في جرائم الإبادة، هذه المحاكم هدفت إلى تخفيف الضغط على المحاكم التقليدية، ومحاسبة المتورطين، ورتق النسيج الاجتماعي. وقد تم تشكيل 12 ألف محكمة محلية في مختلف مناطق رواندا، لمحاكمة آلاف المتورطين في ارتكاب الجرائم، الذين فُرزوا إلى أربع فئات مختلفة.

الأولى قادة الصف الأول، الذين خططوا وحرّضوا وأشرفوا على جرائم الإبادة الجماعية، من قادة عسكريين، وقادة دينيين وآخرين، هؤلاء أحيلوا إلى المحاكم العادية، وليس إلى “الغاكاكا”، وحُكم عليهم بالإعدام، ولاحقاً خُففت الأحكام إلى السجن مدى الحياة.

الفئة الثانية أولئك الذين نفذوا الأوامر، وقاموا بعمليات القتل والاغتصاب، وحوكموا في محاكم “الغاكاكا، وأُنزلت بهم عقوبات مشددة، ما لم يعترفوا ويقروا بذنوبهم، ويحصلوا على عفو أولئك الذين اعتدوا عليهم.

الفئة الثالثة هي التي ارتكبت جرائم وانتهاكات أقل حدة، والفئة الرابعة هي من الذين تستّروا على المجرمين، أو تعاونوا معهم بطريقة أو بأخرى، وهاتان الفئتان أخذتا أحكاماً مخففة مع خدمة مجتمعية (العمل في أنشطة تخص الصالح العام، مثل البناء وإعادة الإعمار وغيرهما).

كانت محاكم “الغاكاكا” عامة وعلنية، وفي حضور مجتمعي، تقودها شخصيات اجتماعية لم تتورط في الجرائم، تقوم فيها بالتحقيق مع المتهمين بنظام عدالة موازٍ للنظام الرسمي، وكانت هذه سابقة للروانديين في التعامل مع الجرائم والانتهاكات التي تعرضوا لها.

قررت الحكومة الرواندية الجديدة المضي قدماً وعدم الوقوف على أطلال الماضي، للاستفادة وأخذ العبرة، وأعطت أولوياتها للتنمية والاستقرار، والخدمات العامة، والبنى التحتية مثل التعليم والصحة، والزراعة، والتكنولوجيا، وغيرها.

تمكنت الحكومة من بناء علاقات دولية قوية مع الدول في المنطقة والعالم، بما يخدم مصالح الروانديين، وفتحت الباب للاستثمارات الأجنبية، وعملت على تعزيز الاستقرار والأمن، اللذين مهّدا لتنمية متسارعة غير مسبوقة في القارة الأفريقية، ليُطلق على رواندا اليوم لقب سويسرا القارة الإفريقية، وتصبح واحدة من أسرع عشر دول في العالم من حيث النمو الاقتصادي، كما صُنفت العاصمة الرواندية كأجمل مدينة أفريقية، والسابعة على مستوى العالم من حيث النظافة والأمن.

لعبت النساء دوراً محورياً في عملية السلام والتنمية الرواندية، إذ تم تخصيص كوتا 30 في المئة للنساء في كل مؤسسات الدولة، من مجموع المناصب المنتخبة حكومياً. وشهدت هذه المشاركة تزايداً متسارعاً ونشاطاً فاعلاً للنساء، ليشكلن اليوم ما يزيد عن 60 في المئة من المشرّعين في مجلس النواب، وأكثر من 40 في المئة من مجلس الوزراء، و43.5 في المئة من مقاعد مجالس المدن والمقاطعات، بحسب هيئة الأمم المتحدة للمرأة.

لا ينبغي المساواة بين مآسي الشعوب أو مقارنتها ببعضها بعضاً، لكن من المهم بمكان، التعلم والاستفادة من التجارب المختلفة بالشكل الذي يساعدنا على تصميم نموذجنا الخاص، الذي يتناسب مع أهداف مجتمعاتنا وآمالها، وقد تكون التجربة الرواندية تجربة مثيرة للاهتمام بالنسبة الى السوريين.

في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، أعلنت “هيئة تحرير الشام” بقيادة أحمد الشرع، السيطرة على العاصمة السورية دمشق، وفرار بشار الأسد، الإعلان الذي اعتُبر انتصاراً للثورة السورية بعد 13 عاماً من اندلاعها.

السيطرة على العاصمة دمشق كانت نهاية لسنوات من الظلم والقتل والتهجير، التي مارسها نظام الأسد بحق السوريين المناهضين لحكمه. وصل الثوار إلى سجون النظام ومعتقلاته، وإلى أماكن المقابر الجماعية، وكُشفت حقيقة الجرائم الفظيعة التي ارتُكبت بحق عشرات الآلاف من السوريين، صُدم العالم من هول ما رأى من جرائم تعذيب لا إنسانية، ومن سجون بالغة التعقيد، استُخدمت لقمع المتظاهرين السوريين الذين نشدوا الحرية.

منذ السيطرة على العاصمة دمشق، بدأت “هيئة تحرير الشام” بعقد اللقاءات مع الهيئات الأممية والدولية، واستقبال السفراء والوفود الأجنبية المرحبة والمهنئة بسقوط النظام، والحريصة على علاقات جديدة مع الحكام الجدد.

المراقبون للمشهد في سوريا، يرون أن القرارات التي اتخذتها الإدارة السورية الحالية في التعامل مع القيادة السابقة، والحفاظ على مؤسسات الدولة وفعاليتها، كانت قرارات حكيمة، وهناك تفاؤل حذر حول مستقبل سوريا، وحول التعامل مع فلول النظام ومؤيديه، وكذا مع الأقليات المختلفة، بالإضافة إلى تخوف كبير من أعمال انتقام واسعة من بعض الجماعات المتشددة، أو بعض المحسوبين على الثورة، أو المنتحلين اسمها وهويتها لتصفية حسابات شخصية، الأمر الذي يتطلب وعياً وحرصاً شديدين من الإدارة الحالية، لحصر القوة واستخدامها بيد الدولة، وفرض رقابة على ممارستها، لتجنب أي جرائم أو انتهاكات قد تسيء الى الثورة.

ما زال من المبكر الحكم على الثورة السورية والتنبؤ بمستقبلها، لكن ما يُجمع عليه السوريون اليوم، أنهم قد تجاوزوا أطول حقبة وأسوأها في حياتهم، هي حقبة عائلة الأسد التي ارتكبت بالشعب أبشع الجرائم وشردته في كل بقاع العالم.

الأمل اليوم هو بالمستقبل. فتحقيق حلم سوريا المزدهرة والمستقرة ليس مستحيلاً، لكنه يتطلب إرادة سياسية، رؤية واضحة، والتزاماً حقيقياً بالعدالة والمصالحة والشراكة. بينما تقدّم رواندا درساً ملهماً في تجاوز المآسي وبناء دولة مزدهرة، تظل التحديات أمام سوريا متعددة ومعقدة.

بالطبع، الطريق ليست مُعبّدة بالورود، وهناك فروقات واختلافات جوهرية في السياق بين سوريا ورواندا، يجب أخذها بالاعتبار. فالحرب في سوريا هي صراع طويل ومعقد، تخللته تدخلات إقليمية ودولية متعددة، على عكس الصراع في رواندا، الذي كان قصيراً والتدخل الدولي فيه محدوداً نوعاً ما. بالإضافة إلى اختلافات أخرى مهمة، ولكن ما نؤكده دائماً هو أن استنساخ التجارب لن يجدي، بل الاستلهام منها ومواءمتها بما يتناسب مع السياقات الوطنية.

ويبرز السؤال المهم اليوم، عن ماهية النموذج الذي تسعى الإدارة السورية الحالية الى تطبيقه في سوريا، هل تستطيع؟ أو بالأحرى هل ترغب الإدارة السورية وهل هي مستعدة لاستلهام تجربة رواندا؟ أم أن الفوضى والصراعات الداخلية ستعيد إنتاج التجربة الأفغانية؟ الإجابة عن هذا السؤال هو ما سيشكل مستقبل سوريا لعقود مقبلة.

– باحث في القانون الدولي وحقوق الإنسان

درج

————————–

الخطاب السياسي السوري أثناء بناء الدولة الجديدة/ عمر اونهون

أهمية إنشاء إطار سياسي مستدام وهيكل حكم شرعي

آخر تحديث 17 يناير 2025

زار وفد رفيع من الحكومة السورية الجديدة ضم وزير الخارجية السوري الجديد، أسعد الشيباني، ووزير الدفاع مرهف أبو قصرة، ورئيس إدارة المخابرات أنيس حطاب، تركيا لعقد اجتماعات رفيعة المستوى مع وزير الخارجية التركي هاكان فيدان ومسؤولين رفيعين آخرين.

كما استقبل الرئيس رجب طيب أردوغان أعضاء الوفد أيضا.

ومعروف عن الشيباني درايته الجيدة بتركيا، حيث عاش فيها لعدة سنوات وأكمل درجتي الماجستير والدكتوراه في إحدى جامعات إسطنبول، وقد أعلن الشيباني على وسائل التواصل الاجتماعي عن زيارته الرسمية الأولى لتركيا باللغة التركية، مشيرا إلى أنه يزور “جمهورية تركيا التي لم تتخلَ عن الشعب السوري خلال الأربعة عشر عاما الماضية”.

وفيما لم يُكشف عن تفاصيل المباحثات التي جرت في الغرف المغلقة، حمل المؤتمر الصحافي المشترك الذي عقده فيدان والشيباني في وقت لاحق رسائل إيجابية للغاية. وكان لافتا بشكل خاص تأكيد هاكان فيدان استعداد تركيا لدعم الحكومة السورية في مجموعة واسعة من المسائل الدفاعية والأمنية، بما في ذلك تبادل المعلومات الاستخباراتية وتعزيز القدرات العسكرية.

وأبرز فيدان صراحة استعداد تركيا لمساعدة سوريا في مكافحة تنظيم “داعش” وإدارة المخيمات التي تؤوي مسلحي التنظيم وعائلاتهم. وقال: “يمكننا تقديم الدعم العملياتي لسوريا”.

وفي المقابل، أكد الشيباني أن سوريا ستضمن أن لا يُطلَق أي تهديد من أراضيها باتجاه تركيا وأن شمال شرقي سوريا سيخضع لسيطرة الحكومة المركزية ويستعيد هويته العربية.

تَعِد هذه التصريحات بآفاق واعدة للعلاقات السورية التركية، ولاسيما في ظل الصعوبات التي تواجه سوريا، فهناك الآن نظام جديد وربما دولة جديدة في طور التكوين في سوريا، حيث يعمل أحمد الشرع، زعيم “هيئة تحرير الشام” ورئيس الدولة بحكم الأمر الواقع، ووزير خارجيته الشيباني، بنشاط من أجل النهوض بالأمة وتأمين الدعم الدولي لجهود إعادة البناء.

وشمل نشاطهما الدبلوماسي اجتماعات مع الكثير من المسؤولين العرب والغربيين، مثل وزراء خارجية فرنسا وألمانيا وإيطاليا، بالإضافة إلى وفود من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وقام الشيباني بدوره بزيارات رسمية إلى المملكة العربية السعودية والأردن وقطر والإمارات العربية المتحدة.

وعلى الرغم من أهمية هذا الزخم الدبلوماسي للحصول على اعتراف دولي، لا تزال الشكوك قائمة بسبب أصول “هيئة تحرير الشام” في تنظيم “القاعدة” و”جبهة النصرة”. ومن جانب آخر، لا يمكن للحكومة التي تقودها “هيئة تحرير الشام” وقيادتها، كونها غير منتخبة من قبل الشعب السوري أو البرلمان، أن تدعي السلطة السياسية الشرعية.

ومع أهمية إنشاء إطار سياسي مستدام وهيكل حكم شرعي، تبقى هذه المهمة معقدة وصعبة المنال، وتتطلب وقتا وصبرا، على حد سواء. ولكن الوقت يدهمنا، وقد يؤدي التأخير في تحقيق الاستقرار السياسي إلى إغراق البلاد في أزمة متجددة.

ومن المتوقع أن تنتهي مهمة الحكومة المؤقتة للهيئة العليا للانتخابات في شهر مارس/آذار، حيث يفترض أن تتسلم مقاليد الأمور حكومة انتقالية أوسع نطاقا. ومن المحطات الحاسمة في هذ المرحلة عقد مؤتمر الحوار الوطني المرتقب، والذي سيجمع أكثر من 1200 ممثل من جميع أنحاء سوريا، مما يعكس تنوع المجتمع السوري.

ومن المنتظر أن يمنح المؤتمر الوطني أحمد الشرع تفويضا لقيادة البلاد خلال المرحلة الانتقالية، إلى حين إجراء الانتخابات الوطنية. ويشمل هذا التفويض أيضا تشكيل حكومة انتقالية وصياغة دستور جديد يحدد ملامح سوريا المستقبلية. ولكن سوريا ستظل خلال هذه المرحلة الحرجة في حاجة ماسة إلى دعم المجتمع الدولي لتعزيز استقرارها وتمكين عملية إعادة البناء.

لقد لعبت تركيا على الدوام دورا حاسما في الأزمة السورية، واستمدت قوة تأثيرها من حدودها المشتركة مع سوريا التي تمتد لمسافة 911 كيلومترا. ومنذ عام 2011، كانت تركيا طرفا مؤثرا في تطورات المشهد السوري، ولا سيما العملية التي أوصلت “هيئة تحرير الشام” إلى السلطة. واليوم، تجد تركيا نفسها في موقع متميز، يتيح لها ممارسة نفوذ كبير على سوريا، وخاصة في مرحلة إعادة الإعمار المرتقبة.

وأولى أولويات تركيا تنصب على القضاء على “وحدات حماية الشعب” الكردية وتسهيل عودة نحو ثلاثة ملايين لاجئ سوري تستضيفهم على أراضيها. وترتبط “وحدات حماية الشعب” أيديولوجياً بـ”حزب العمال الكردستاني” (PKK)، وتعتبر مؤسس الحزب عبد الله أوجلان قائدا لها، وتضم في صفوفها عددا كبيرا من مقاتلي الحزب القادمين من تركيا. وقد تطورت لتصبح قوة عسكرية قوامها أكثر من 80 ألف مقاتل، جرى تدريبهم وتسليحهم من قبل الولايات المتحدة باعتبارهم الحليف المحلي الرئيس في مواجهة تنظيم “داعش”.

لقد كادت تركيا وسوريا أن تنزلقا، في أواخر التسعينات، إلى مواجهة عسكرية بسبب دعم دمشق لـ”حزب العمال الكردستاني” وإيوائها لعبد الله أوجلان. ولكن سوريا تجنبت هذه الأزمة بإبعادها أوجلان عن أراضيها وتوقيع “مذكرة أضنة” عام 1998.

اليوم، لا تقبل تركيا بأي حال من الأحوال بقاء “وحدات حماية الشعب” الكردية كقوة مسلحة مستقلة في شمال شرقي سوريا، وهي التي استهدفت على مدى سنوات طويلة بنيتها التحتية وقادتها. وتطالب أنقرة بحل الوحدات الكردية تماما، وإخراج جميع المقاتلين غير السوريين من صفوفها، وخصوصا المنتمين إلى “حزب العمال الكردستاني” القادمين من تركيا.

ويضيف الصراع التركي مع “وحدات حماية الشعب” وما يُعرف بعملية المصالحة داخل تركيا، إلى جانب التعاون بين الولايات المتحدة والوحدات الكردية، تحديات إضافية وتضع عقبات جديدة أمام الحكومة السورية في سعيها لإدارة هذا الملف الشائك.

وكان قائد “وحدات حماية الشعب” الكردية، مظلوم عبدي، قد التقى قبل أيام بأحمد الشرع في دمشق، وناقش معه كيفية اندماج “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) في النظام الجديد، وما إذا كانت ستنضم إلى الجيش وآلية حدوث ذلك. وتناول الرجلان مسألة ما إذا كانت المناطق ذات الأغلبية الكردية ستحصل على شكل من أشكال الحكم المحلي، بالإضافة إلى مستقبل حقول النفط في المناطق التي تسيطر عليها “قسد”.

ومثل ذلك في الأهمية وجوب أن تعالج الإدارة الجديدة في سوريا بشكل فوري نزع سلاح الجماعات المختلفة وجلبها تحت مظلة وزارة الدفاع. وقد ذكر الشرع أن الجماعات المسلحة قد وافقت على هذه الرؤية، ولكن ذلك ليس دقيقا بالكامل، فقد أشارت “قوات حماية الشعب” إلى أنها قد لا تعارض الأمر من حيث المبدأ، لكنها أكدت أن المسألة تحتاج إلى مناقشة.

وفي جنوب سوريا، لم تنضم الجماعات المسلحة في السويداء ودرعا والقنيطرة إلى هذه الرؤية، حيث تنتظر لترى كيف ستتطور الأمور. ولعل أهم هذه الجماعات غرفة عمليات الجنوب بقيادة أحمد العودة، والتي يُعرف عنها ارتباطها بعدد من الأطراف الإقليمية مثل الأردن، والإمارات العربية المتحدة، وحتى إسرائيل.

ولئن كانت العلاقات بين تركيا و”هيئة تحرير الشام” والجيش الوطني السوري معروفة، فإنها تحتاج الآن إلى أن تُبنى على مستوى دولة لدولة وعلى أساس قانوني صحيح.

لقد كان هناك اتفاقان أمنيان رئيسان بين تركيا وسوريا السابقة تحت حكم بشار الأسد. أحدهما هو اتفاق أضنة الذي وُقع في عام 1998، والذي أنهى الأزمة بين تركيا وسوريا وجرى تنفيذه بشكل جيد، ولكنه عُلق في عام 2012 بعد اندلاع الأزمة.

وكانت دمشق قد اقترحت، في عام 2010، توقيع اتفاق جديد يأخذ في الاعتبار الظروف الإيجابية المتغيرة، وقبلت أنقرة ذلك شريطة أن لا يعني إلغاء اتفاق أضنة. وفي العام ذاته، وقع وزيرا الخارجية آنذاك أحمد داود أوغلو ووليد المعلم “اتفاق التعاون المشترك ضد الإرهاب والمنظمات الإرهابية”، بيد أنه لم يدخل حيز التنفيذ، بسبب أزمة عام 2011.

وهناك فوق هذا وذاك تنامي قلق الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين من احتمال عودة ظهور تنظيم “داعش”، فضلا عن ضرورة الاحتفاظ بمقاتلي التنظيم وأسرهم في السجون والمخيمات. والشريك الموثوق في هذا الصدد بالنسبة للولايات المتحدة هو “قوات سوريا الديمقراطية”، التي تستغل الحساسية والمخاوف الغربية لصالحها للحصول على الدعم ضد تركيا والحكومة السورية.

وفي تعليق على دعوة الأكراد السوريين الأخيرة لفرنسا للحصول على دعم، وتصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأن فرنسا لن تتخلى عن الأكراد في سوريا، قال وزير الخارجية التركي هاكان فيدان إن “الطرف الذي نتعامل معه في سوريا هو الولايات المتحدة، وليس بعض الدول الأوروبية الصغيرة التي تحاول التحرك في ظل الولايات المتحدة”.

ولكن الرئيس المنتخب دونالد ترمب لم يعلن بعد عن سياسته تجاه سوريا، والأرجح أنه لن يغض النظر عن القضاء على قوة مسلحة مثل “قسد”، التي دربتها الولايات المتحدة وجهزتها. ومع ذلك، لن ترغب الولايات المتحدة في استعداء تركيا. وقد أدلى المسؤولون الأميركيون مؤخرا بتصريحات تشير إلى تعاطفهم مع المخاوف الأمنية التركية.

وقد جرى بالفعل نقاش بين المسؤولين الأتراك والأميركيين حول هذا الموضوع، ويقال إن الولايات المتحدة تلعب دور الوسيط بين أنقرة ودمشق و”قوات سوريا الديمقراطية”. وقبل أسبوع، زار نائب وكيل وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية جون باس تركيا للمرة الثانية خلال فترة وجيزة ولم تكن التصريحات التي أُدلي بها في ختام المحادثات سلبية، ولكن من الواضح أن هناك قضايا لا تزال قائمة وبحاجة إلى حل.

المجلة

——————————

عن سؤال تسليم السلاح في أوساط العلويين: مخاوف وتوجهات متباينة بشأن السلطة الجديدة في دمشق/ نوار قاسم

17-01-2025

        بُعيدَ الإعلان عن سقوط نظام بشار الأسد في سوريا في فجر 8 كانون الأول (ديسمبر) 2024، وبينما شاعت مخاوف من احتمال حدوث مجازر طائفية بحق العلويين في حمص ودمشق وحماة والساحل، صدرت بيانات من وجهاء ومشايخ علويين تدعو المسلحين من أبناء الطائفة لرمي السلاح. بعض تلك البيانات دعت إلى التعاون مع القيادة العامة لقوات «ردع العدوان»، كما أن بعضها صدر قُبيلَ شيوع خبر فرار بشار الأسد، ما يشير بوضوح إلى تنسيق بين الفصائل وبعض مشايخ ووجهاء العلويين، وهو ما أكّده لنا يامن حسين الناشط المدني من مدينة حمص.

        تزامنت تلك البيانات مع تطمينات علنية واضحة من جانب قيادة عملية «ردع العدوان»، لكن هذا لم يكن كافياً لتهدئة روع عموم العلويين، إذ أظهرت الصور والفيديوهات آلاف السيارات التي تقلّ عوائل متّجهة من محافظات دمشق وحمص باتجاه الساحل السوري. ورغم انتشار حواجز إدارة العمليات العسكرية على طول الأوتوستراد الرابط بين دمشق وحمص، إلا أنه لم تُسجَّل حالات اعتداء أو أعمال قتل ذات طابع طائفي في ذلك اليوم. وقد ساهم هذا بوضوح في تسهيل دخول قوات ردع العدوان إلى الساحل السوري، وذلك بعد ساعات من دخولها دمشق وإعلان إسقاط النظام، لتبقى مسألة سلاح مقاتلي النظام العائدين إلى بيوتهم واحدة من أبرز تحديات المرحلة التالية.

        طرطوس بلا صور وتماثيل الأسد

        معتز أحمد شابٌ من سكان طرطوس، شاركَ في احتفالات المدينة التي تلت الإعلان عن هروب الأسد، وهو يقول إن سيارات «إدارة العمليات العسكرية» التي دخلت طرطوس في عصر ذلك اليوم «لم تواجه أي مقاومة من أي أحد، بل على العكس من ذلك، عندما وصلت إلى مدخل المدينة من الجهة الجنوبية كانت صور الرئيس المخلوع قد أُزيلت في كل أحياء طرطوس، وكان في استقبالها العديد من أهل المدينة».

        يقول معتز في حديثه مع الجمهورية.نت إنه نزل إلى ساحة النجمة، وهي ساحة في أحد الأحياء ذات الغالبية السنية في المدينة، في السادسة صباحاً، وإنه بدأ مع عشرات من السكان بتمزيق الصور التي كانت موجودة على كورنيش المدينة، وفي الوقت الذي وصلوا فيه إلى شارع العريض الذي تقطنه غالبية علوية كانت الصور والتماثيل في الحي قد أزيلت تماماً. يُشدِّد معتز أن من قام بشق الصور وتكسير التماثيل في شارع العريض لم يكونوا من خارج الحي، كما أنهم لم يكونوا من الوجوه المُعارِضة المعروفة في المدينة.

        تسويات، اعتداءات، تطمينات

        في الأيام اللاحقة بدأت القيادة السياسية الجديدة في البلاد بدعوة عناصر الجيش والأجهزة الأمنية «لتسوية أوضاعهم» وتسليم سلاحهم، وفتحت مراكز لهذا الغرض في أنحاء البلد. كما سمحت في بعض المناطق، كمصياف مثلاً، بوضع سلاحهم في الجامع بدل تسليمه مباشرة لعناصر الإدارة، مؤكدة بأن «صفحة الماضي قد طويت» وأنه «نصرٌ لا انتقام فيه»، وفي الوقت نفسه حذّرت من يحتفظ بسلاحه ولا يصرح عنه بعد إجراء التسوية بالعقاب الشديد.

        يُظهِرُ الازدحام على مراكز التسوية أن أعداداً كبيرة من عناصر النظام السابق في المناطق العلوية يقومون بتسليم أسلحتهم، وذلك رغم الشكوك وحالة عدم الثقة السائدة تجاه السلطة الجديدة. يقول فادي من مصياف، وهو موظف مدني سابق في وزارة دفاع النظام البائد، إنه استطاع القيام بالتسوية أخيراً، ففي اليوم الأول ورغم وقوفه في الطابور أمام مركز التسوية في مصياف منذ الثالثة صباحاً، لم يستطع إتمام الإجراءات بسبب الأعداد الكبيرة من الراغبين بتسوية وضعهم. بعد الانتظار لساعات طويلة في ذلك اليوم، قيلَ لهم إن الدوام قد انتهى وإن عليهم العودة في اليوم التالي.

        يقول فادي إن هناك فرقاً كبيراً في التعامل بين عناصر الأمن العام التابعين مباشرة للإدارة الجديدة وبين تعامل عناصر بعض الفصائل، ففي حين أن الشكاوى تكاد تكون معدومة ضد عناصر الأمن العام مثلاً، فإن بعض الفصائل عُرفت بقسوتها وعدم التزامها تعليمات الإدارة. ولدى سؤاله إن كانوا قد حاولوا تقديم شكوى للمسؤول الأمني المحلي المُعيَّن من قبل إدارة العلميات العسكرية في مصياف، أكد فادي أن هذه الفصائل «تتبع أميرها وليس المسؤول الأمني» حسب تعبيره.

        تبدو إدارة العمليات العسكرية حريصة على بناء صورة طيبة لها بين الناس والحدّ من الانتهاكات والجرائم، فتارةً تقول إن «التجاوزات فردية» وتَعِدُ بقمعها، وتارة تقوم بنقل عناصر أو مجموعات عسكرية من المناطق ذات الحساسية الطائفية، لكن هذا ليس كافياً حسب رأي فادي، فانتشارُ السرقة والخطف والقتل خارج القانون كان أكبر من أن يتم تجاهله أو إقناع الناس بأنه مجرّد «تصرفات فردية». ورغم أنه يؤكد أن جزءاً ليس قليلاً من القتلى كانوا شخصيات مرتبطة بالنظام السابق ورفضوا إلقاء السلاح، ولكن تبقى العديد من حوادث القتل دون تفسير، فلا القتلى من داعمي النظام السابق ولا إدارة العمليات العسكرية ادّعت ذلك.

        يرى فادي أن هذا دليلٌ على أن بعض الفصائل غير ملتزمة بتعليمات القيادة، وهذا مبعث الخوف الأساسي. ولدى سؤاله عن الطرف الذي يتحمل المسؤولية من وجهة نظره، قال إن «إدارة العمليات العسكرية والسيد الشرع شخصياً يتحملون المسؤولية»، فهُم السلطة وهُم من يملكون السلاح، بالإضافة إلى رفضهم السماح لأهالي المنطقة بالمشاركة في فرض الأمن؛ يقول فادي: «كيف يريدون منا أن نثق بهم إن كانوا لا يثقون بنا؟».

        ويشهد الوضع الأمني الآن في الساحل تحسناً نسبياً مستمراً في أغلب المناطق، فحوادثُ السرقة بعد ما يقارب 5 أسابيع على سقوط النظام باتت أقل، وكذلك التعديات والتجاوزات الأمنية أيضاً، ولو أنها ما تزال مستمرة وكثيرة عموماً. بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، فقد بلغ عدد القتلى المُسجَّل في محافظات حمص وحماة وطرطوس واللاذقية 197 قتيلاً بين 8 كانون الأول (ديسمبر) و15 كانون الثاني (يناير). ذلك بالإضافة إلى اعتداءات واستفزازات متفرقة من طبيعة طائفية أحياناً، يرتكبها عناصر بعض الفصائل التي دخلت المناطق مع إدارة العمليات العسكرية.

        تجدر الإشارة إن الوضع الأمني ليس نفسه في كل المناطق، ففي حين تشهد مناطق سهل الغاب وجبلة وحمص عمليات قتل وخطف متكررة، لم تعاني مدينة طرطوس بالطريقة نفسها، حتى أن المدينة لم تتأثر كثيراً بالعملية العسكرية التي قامت بها أجهزة الأمن العام في قرية خربة المعزة في ريف طرطوس بتاريخ 25 كانون الأول 2024 لاعتقال مطلوبين، بل كانت مسيرةُ السيارات التي قام بها مقاتلون تابعون لإدارة العمليات العسكرية على كورنيش طرطوس في اليوم التالي، بتاريخ 26 كانون الأول 2024، وردَّدوا فيها هتافات طائفية، أكثر قلقاً وازعاجاً لعموم سكان المدينة من العملية العسكرية نفسها.

        التحسّن النسبي للوضع الأمني لم يطمئن عموم العلويين حتى الآن، ورغم تَوجُّه كثيرين إلى تسليم سلاحهم الفردي، لكن عدداً ممن تحدثتُ إليهم لأجل هذا التقرير أشاروا إلى عمليات دفن للسلاح. وكانت الأجهزة الأمنية للنظام السوري قد وزَّعت السلاح على الناس بشكل عشوائي في الساعات الأخيرة قبيل سقوط النظام، بالإضافة إلى نهب كثير من مستودعات السلاح، ما يجعل من معرفة كميات السلاح الموجودة فعلاً أمراً مستحيلاً.

        تسليم السلاح أم الاحتفاظ به؟

        أعلن أحمد الشرع قائد الإدارة الجديدة، وزعيم هيئة تحرير الشام، أن الهيئة ستحلّ نفسها في المؤتمر الوطني العام المُزمع عقده قريباً، وأن جهازها العسكري سيندمج مع باقي الفصائل في نواة جيش وطني. كما دعت الإدارةُ الفصائل المسلحة للاندماج في الجيش السوري الجديد بغية «حصر السلاح بيد الدولة». وقد واجهت هذه الدعوة التي قوبلت بالترحيب بين عموم السوريين بعض الصعوبات، فمن جهة لم تندرج بعض الفصائل فيها حتى الآن بشكل واضح، ومن جهة أخرى تربط بعض الفصائل تسليم السلاح بالمؤتمر العام وصياغة الدستور، كما طلب بعضها الآخر الالتحاق بالجيش الجديد كوحدات منفصلة مع الاحتفاظ بعتادها والمواقع التي تسيطر عليها، وهو ما ترفضه الإدارة الجديدة تماماً حتى الآن.

        لكن هذا الملف بتعقيداته لم يؤثر على عمليات التسوية وتسليم السلاح المستمرة من جانب عناصر النظام السابق وميليشياته وأجهزته الأمنية، الذين يحصلون بعد تسليم هوياتهم العسكرية على بطاقة شخصية مؤقتة تسمح لحاملها بالتنقّل. ورغم وجود حالة عامة من إعلان التأييد لتسليم السلاح الفردي في أوساط العلويين، فإن كثيرين ما يزالون متوجسين إذ تكتسب هذه العملية بُعداً خاصاً بالنسبة لهم مع استمرار عمليات القتل خارج القانون والاستفزازات الطائفية، الأمر الذي جعل البعض يقتنعون أن مصيرهم هو القتل ولو بعد حين، وأن تسليم السلاح سيكون له عواقب وخيمة عليهم.

        قلّما يتحدث أيٌّ من معارضي تسليم السلاح عن مواقفهم علناً على وسائل التواصل الاجتماعي، وخاصة إذا كانوا داخل البلد، وبالتواصل مع عدد من أصحاب هذا المواقف، رفضوا جمعياً نشر أسمائهم، وهذا في حد ذاته يُشير إلى عمق هذه الأزمة. يعتبر رافضو تسليم السلاح أن العملية تستهدف فقط مؤيدي النظام السابق وبالأخص العلويين منهم، ويقولون إنه بينما يُسمَح للدروز في محافظة السويداء بإبقاء سلاحهم في الوقت الراهن، تجري حملات أمنية على قدم وساق في مناطق العلويين بحثاً عن السلاح، فهل يحتفظ جميع السوريين بوسائل للدفاع عن أنفسهم عدا العلويين؟

        يقول بعض من تحدثتُ إليهم صراحةً إن بقاء السلاح هو الطريقة الوحيدة لمنع مجازر طائفية أو عمليات تهجير واسعة قد يتم ارتكابها بحق العلويين، سواء على يد هيئة تحرير الشام أو على يد جهات فصائل أخرى تعجز الهيئة عن ضبطها.

        يعكس هذا حالة من عدم الثقة بالسلطات الجديدة وتعهداتها لدى شرائح من العلويين، ذلك أنها «رغم كل الوعود التي قطعتها، ما تزال غير قادرة على وقف أعمال القتل والخطف، ولا على وقف الفيديوهات التحريضية ضد العلويين. الادعاء بأن هذه الحوادث هي أخطاء فردية ليس أمراً مقنعاً»؛ بحسب أحد عناصر جيش النظام السابق.

        يؤكد فادي أن رغبة البعض بالاحتفاظ بسلاحهم هي دليلٌ على حالة الخوف التي يعيشها العلويون، فالسلاح «لردع مجزرة قد تحدث في القريب العاجل وليس للدفاع عن النظام السابق كما يروج البعض»، إذ لا يوجد في رأيه من هو مستعد للقتال من أجل عودة الأسد.

        بالمقابل، يدعو كثيرون في الأوساط العلوية عناصر النظام السابق لتسليم سلاحهم، ويحذرون من استغلال دول خارجية أو أطراف داخلية مرتبطة بالنظام السابق لهذا الأمر. يعتبر أصحاب هذا الرأي أن من مصلحة العلويين المبادرة لتسليم السلاح والأفراد المتورطين بجرائم، والانخراط بقوة في مؤسسات الدولة الجديدة، وأن هذا هو الضامن الوحيد لتحسين الوضع الأمني في مدن الساحل ومنع أي مجازر أو انتقامات ذات طابع طائفي قد تحصل.

        «السلاح الفردي الموجود غير قادر على منع الأعمال الانتقامية، فلا قيمة لهذا السلاح في مواجهة سلاح الفصائل»، بحسب معتز أحمد الذي يدعم عمليات تسليم السلاح، إذ قال لي مازحاً إن «قوة العلويين الآن في ضعفهم» في استعارة ساخرة لما قاله بيار الجميل مؤسس حزب الكتائب اللبنانية، حين وصف الحالة اللبنانية قبل أكثر من نصف قرن من الآن.

        وينتشر السلاح بشكل أساسي بين أيدي عناصر سابقين في أجهزة النظام الأمنية والميليشيات، ما يخلق أحياناً حالة من الريبة والشك في أوساط المدنيين العاديين تجاه من يرفض تسليم السلاح، خصوصاً في ظل التصعيد الأمني. قبل يومين من مقتل شجاع العلي على يد إدارة الأمن العام، وهو أحد قادة الشبيحة في ريف حمص الغربي، كان قد ظهر في فيديو من قرية بلقسة مهدداً أهالي منطقة الحولة المجاورة، وذلك خلال مظاهرة قام بها بعض الشباب العلويين رداً على حرق مقام الخصيبي (تبيَّنَ لاحقاً أن فيديو حرق المقام قديم، وأن حسابات مرتبطة بالنظام كانت هي السبب وراء إعادة نشره). أجَّجَ ظهور شجاع العلي وهتافاته التحريضية مشاعر العنف والتوتر في الساحل وحمص، وكاد ذلك أن يتسبب بانفجار الأوضاع، ولذلك يرى العديد من العلويين أنه يجب عليهم تمييز أنفسهم عن هؤلاء والمبادرة لتسليمهم أو التعاون من السلطات للقبض عليهم، وذلك رغم حالة عدم الثقة بالسلطة في دمشق، فهؤلاء على استعداد تام للعنف والتصعيد خدمة لأهدافهم الشخصية أو نجاتهم الفردية.

        من المرجح أن عمليات ملاحقة عناصر النظام السابق الرافضين للسلطة الجديدة ستستمر لفترة، وقد تكون عنيفة أحياناً، حيث شهدت قرية عين الشرقية في ريف جبلة قبل أيام سقوط قتلى وجرحى في اشتباكات بين قوات الأمن العام التابعة لادارة العمليات العسكرية ومجموعة مسلحة بقيادة بسام حسام الدين، وهو ضابط سابق بالفرقة 25 في قوات نظام الأسد قام باختطاف عناصر من الأمن العام. أدّت تلك المواجهة إلى تصاعُد الخطاب الطائفي، ما عزَّزَ شعور البعض منهم بأن من مصلحتهم عدم الانجرار وراء دعوات مقاومة السلطة الجديدة عسكرياً.

        في المعركة ضد السلاح العشوائي التي تخوضها السلطات في دمشق حالياً، يرى هؤلاء أن من مصلحة العلويين أن يكونوا مع سلطة دمشق وليس ضدها، وخصوصاً في ظل التوقعات بأن معركة مشابهة قد تكون قادمة ضد تنظيمات وفصائل محسوبة على المعارضة سابقاً قد ترفض تسليم السلاح للجيش الجديد.

        بين هذا الرأي وذاك، ومع صعوبة معرفة الحجم الحقيقي لأنصار كل رأي، وعدم وجود مساحة للحوار العلني ولا مرجعية دينية أو سياسية تمثل العلويين، تبقى هذه التساؤلات والهواجس لتُناقَش خلف الأبواب المغلقة وفي المجالس الصغيرة. ورغم وجود تأييد شعبي واضح لعملية تسليم السلاح وطي صفحة النظام السابق، فإن ضعف أو غياب وسائل تطبيق القانون، وعمليات القتل العشوائية، وعدم إصدار قوائم واضحة بأسماء المطلوبين، واستمرار احتجاز الآلاف من عناصر جيش النظام السابق، والخوف من أعمال انتقامية مستقبلية مع التحريض وخطاب الكراهية على وسائل التواصل الاجتماعي، كلّها أمور تُساهم بالإضافة إلى صعوبة الوضع الاقتصادي الحالي في حالة عدم الثقة تجاه السلطة الجديدة في دمشق.

موقع الجمهورية

————————————-

حكاية «شبكة التغيير من أجل سوريا»:     بحثاً عن مسارات سورية-سورية/ أنس يونس

16-01-2025

        في سياق التحوّلات المُتسارعة التي يشهدها العالم منذ بداية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، وتزامناً مع الأزمات الإنسانية الكبرى التي مرّت بها سوريا منذ بداية الثورة إلى يومنا هذا، ظهرت شبكة التغيير من أجل سوريا كحركة تقدمية متجددة، تحمل في طياتها أملاً في إعادة صياغة مستقبل البلد الذي دُمِّر، ليس فقط على الصعيد المادي، بل على صعيد الهويات الجمعية والتصورات السياسية التي فَقَدت كثيراً من وضوحها وسط ضباب الإيديولوجيات المتناقضة. الشبكة ليست مجرد ناشطية، بل هي نداء حي ومُلِحّ للعدالة والحرية والمواطنة.

        بدأت شبكة التغيير من أجل سوريا في العام 2023، انطلاقًا من دعوة عفوية وتلقائية لمجموعة من الناشطين المدنيين والسياسيين المقيمين في ألمانيا وهولندا، في استجابة لزلزال سوريا وتركيا المُدمِّر. لم تكن هذه الدعوة مجرد استجابة إغاثية لتقديم المساعدات الإنسانية، بل كانت أيضاً محاولة لإعادة تسليط الضوء على الأزمة السورية، خصوصاً في وقت بدأ فيه الاهتمام الأوروبي يتضاءل، وتختفي القضية السورية تدريجياً من العدسات الإعلامية والسياسات الدولية.

        كانت الدعوة تجمعُ نشطاء سياسيين ومدنيين فاعلين في مجتمعاتهم الجديدة، حيث يشاركون في الأحزاب والمؤسسات السياسية والمدنية التي ينتمون إليها. ومع ذلك، كان السؤال المركزي الذي يواجههم: كيف يمكن تحويل هذه الفاعلية السياسية في مجتمعاتهم الجديدة لخدمة القضية السورية؟ ومن هنا، انبثقت فكرة تشكيل شبكة التغيير من أجل سوريا كتحالف سوري مستقل يعمل على كسر الوصاية الأوروبية في التعاطي مع الأزمة السورية، والتي كانت تفتقر غالباً إلى الفهم العميق للسياق المحلي في سوريا، وتفرض حلولاً استعلائية بعيدة عن الواقع السوري.

        كان الهدف من هذه الشبكة إعادة سوريا إلى الطاولة السياسية الدولية، بعد أن بدأت تظهر فجوة بين الداخل السوري ومجتمعات الشتات، وبين النشاط السياسي السوري والبرلمانات الأوروبية. عملت الشبكة على صياغة بيان للبرلمان الأوروبي، وتقديمه كتحرُّك سياسي يسعى لرفع الوعي السياسي وتحفيز تدخلات فعلية لدعم الشعب السوري في مواجهة الأزمة المستمرة. هذه المبادرة كانت كفيلة بمراجعة الأدوار التي يمكن أن يلعبها الناشطون السوريون في الشتات، حيث اتفق الأعضاء على أنهم بحاجة إلى أُطُر وأدوات فاعلة تجعل من جهودهم السياسية الدولية أداة لصالح القضية السورية.

        رفضَ الأعضاءُ «المأسسة» بمعناها النيوليبرالي، حيث رفضوا فكرة تأسيس مؤسسة جديدة قد تكون رهينة لتمويل مشروط أو أجندات سياسية خارجية. كان هدفهم خلقَ مسار سوري-سوري يتملك قراره ومرجعيته بشكل مستقلّ، بعيداً عن أي كيان سياسي أو حزبي مُسبَق. جاء قرارهم بعدم الانضمام إلى أي مؤسسة أو حزب كان لهم صلات به في الماضي، وذلك من أجل بناء هيكلية مستقلة تتبنى مبادئ التضامن والتكافل. كما قرروا تمويل أنفسهم بأنفسهم، معتمدين على مبدأ التشاركية في الموارد، وبالتالي استطاعوا عقد المخيم التأسيسي الأول والثاني، وتواصلوا فيهما لبناء شبكة من العلاقات السورية-السورية.

        الشبكة كانت تدرك في بداية انطلاقتها أنها بعيدة عن سوريي الداخل، وكانت بحاجة ملحة إلى خلق قنوات تواصل حقيقية وكسر الاستقطاب بين الداخل والخارج. وعليه، بدأ الأعضاء في تعزيز التعاون بين الناشطين في الداخل والشتات، فكانوا جُزءاً من عملية كسر العزلة التي فرضتها الظروف السياسية والعسكرية على السوريين. كانت تطلعاتهم واضحة؛ أن «التغيير من أجل سوريا» ليس مجرد شعار بل هو حتمية، هو كسر للحواجز التي صنعناها بأنفسنا بين الأبيض والأسود، بين الداخل والخارج، بين المختلفين والمختلفات. كانوا يدركون أن سوريا لا يمكن أن تتقدم إلا عندما يُعيد أبناؤها تعريف كيف يعيشون معاً في فضائها العام، وكيف يصنعون ثقافة يومية تُشبههم جميعاً، دون أن تُقصي أحداً أو تُفرِّقَ بينهم.

        رغم الأثمان الباهظة التي دفعتها سوريا، إلا أن الشبكة تؤمن أن التغيير قادم، حيث أن التاريخ لا يعرف الرجوع للخلف مهما كانت الانتكاسات قاسية ومُلبَّسة بلبوس الطائفية أو التطرّف. ستنتهي المأساة يوماً ما، وسيعود العقل ليُعيد البناء، ليعيد الحكاية. هذه الحكاية هي حكاية وطن يتسع لجميع أبنائه.

        فلسفة الشبكة ورسالتها

        رسالتنا بكل بساطة هي أن سوريا المستقبل يجب أن تكون وطناً لجميع مواطنيها دون تمييز. وهذه رؤية تتجاوز البُعَد الجغرافي والزمني، وتقتحم فضاءً فكرياً يُنادي بالمواطنة والحقوق المتساوية بين الجميع. تَعتبرُ الشبكة أن هذه نقطة تحوّل وأولوية ملحة في مسار العمل السوري على الصعيد السياسي والمدني والثقافي، وذلك باعتبار أن المواطنة هي الأساس في رسم المستقبل، وأن السوريين والسوريات، ومن في حكمهم، هم فقط من يقرر الشكل الذي ستأخذه سوريا المستقبل.

        ما يميز هذه الشبكة عن غيرها من الأُطُر التنظيمية هو التزامها العميق بتفكيك رواسب الكولونيالية الغربية، وكسر الوصاية الغربية التي لطالما سعت إلى فرض حلول تُهمِّش السياق المحلي والمجتمعي، وتدور حول تصورات سابقة تفتقر إلى الفهم الجوهري للتاريخ السوري والهويات المختلفة التي تشكّل النسيج السوري المعاصر. وبذلك، فإنَّ «شبكة التغيير» لا تُشكِّلُ مجرد دعوة للتغيير، بل هي أيضاً دعوة لتفكيك الهياكل الاستعمارية التي رسّختها القوى الغربية من خلال مؤسساتها الاقتصادية والسياسية والثقافية، والتي أنتجت نظام الاسد الساقط.

        بنية الشبكة وديناميكيتها

        إذا كانت الشبكة قد استطاعت في فترة قصيرة أن تخلق حالة من الزخم، فإنَّ الفضل يعود إلى البنية التنظيمية التي تقوم عليها، والتي تضمن لها الاستمرارية والقُدرة على التكيُّف مع المتغيرات المتسارعة. وفق تجاربنا السابقة كأفراد في الكيانات السياسية والمدنية والثقافية، كان من المهم بالنسبة لنا تعزيز أهمية بناء أُطُر لا تتبع البنية المركزية التي تهيمن عليها قوى خارجية أو فئات مُتحكّمة، بل التي تقوم على تنظيمات من أسفل إلى أعلى، مبنية على التضامن والعدالة. هذا المنظور يجد توافقاً كبيراً مع محاولاتنا في قولبة بنية شبكة التغيير من أجل سوريا، التي ترفض الهيكلية الهرمية التقليدية وتتبنى التنظيم الأفقي القائم على التعاون والمشاركة الفاعلة من جميع الأعضاء. هذه الديناميكية لا تقتصر على جعل الأفراد أكثر قدرة على المشاركة في تشكيل السياسات فقط ، بل تُسهم أيضاً في تعزيز النقاشات وتَبادُل الأفكار بشكل تراكمي حرّ وغير مُقيَّد.

        تتألف الشبكة من مجموعة من الهيئات: «الجمعية العمومية» التي تُمثل قاعدة المشاركين الرئيسية، و«اللجنة التوجيهية» التي تتولى قيادة العمل وتوجيهه. إضافة إلى ذلك، هناك «المكتب السياسي» الذي يتعامل مع الشؤون الاستراتيجية وتوسيع العلاقات مع المنظمات والكيانات السياسية العالمية، و«المكتب المدني» الذي يهتم بتعزيز الدور المدني وتوسيع دائرة المشاركة المجتمعية. هناك أيضاً «المكتب الثقافي» الذي يلتزم بدوره الفاعل في الحفاظ على التراث الثقافي السوري وتعزيزه، مع التركيز على قضايا الهوية والثقافة في سوريا وخارجها، ويمثل المكتب منصة تجمع بين الفنون والثقافة والمجال العام لضمان حضور الشأن الثقافي السوري في المناقشات الإقليمية والدولية المتعلقة بحاضر سورية ومستقبلها.

        من الفكرة إلى التطبيق: التحولات الكبرى

        ما بدأ في البداية كفكرة بسيطة بين مجموعة من الناشطين السوريين في المهجر، تَحوَّلَ بسرعة إلى حركة منظمة تمثل نقطة التقاء بين السوريين المقيمين في الخارج والداخل. وبتعبير آخر، فالشبكة لم تكن مجرد تفاعل عابر أو استجابة مرحلية، بل كانت محاولة لتجاوز الأزمة الحالية في سوريا من خلال بناء هيكل مدني وتنظيم سياسي يضمن لجميع السوريين حقهم في المشاركة الفاعلة.

        تحاول الشبكة خلق توازن بين الخطاب السياسي وبين الفعل الميداني على الأرض، حيث ساهمت في تشكيل حوار مع العديد من القوى السورية الأخرى، وطرحت نفسها كطرف ثالث يعكس رؤية الشعب السوري بعيدا عن الاستقطاب السياسي الحاد الذي شاب الحراك الثوري منذ بدايته.

        إلى جانب ذلك، تنهج الشبكة مُقارَبة نقدية لمفاهيم التنمية التي فرضتها القوى الاستعمارية، أو التي استمرّت من خلال الوصاية الغربية بعد الاستقلال. غالباً ما كانت هذه المفاهيم تتجاهل الهويات الثقافية والاقتصادية المحلية، وتُعامِل المجتمعات كأنها خالية من البنى المعرفية والسياسية التي يمكن أن تُسهِمَ في تطويرها الذاتي، حيث كانت فكرة «التنمية» تستند إلى فرض نماذج تنموية مُستورَدة من الغرب، متجاهلة السياق المحلي في سوريا وتاريخها الطويل من العيش المشترك وتَعدُّد الثقافات.

        في هذا السياق، يمكن القول إن الشبكة تحاول تفكيك هذا النموذج من التنمية الغربية، عبر التركيز على تطوير بنى مدنية وسياسية محلية قاعدية قادرة على تحقيق العدالة والمساواة.

        ملامح المستقبل: نحو سوريا جديدة

        الهدف الكبير الذي تسعى الشبكة لتحقيقه هو بناء سوريا جديدة تكون ركيزتها الأساسية هي الديمقراطية وحقوق الإنسان، لكن الواقع أكبر من أن يُحسَم عبر مواقف وتصورات من الخارج أو الداخل فحسب، بل يحتاج إلى بناء شراكات استراتيجية طويلة الأمد، تتجاوز الحسابات السياسية الضيقة.

        وفي هذا السياق، تسعى الشبكة لمد جسور التواصل مع القوى السياسية والمدنية والثقافية من جميع الاصطفافات السورية لتوحيد الجهود تحت شعار واحد: «سوريا للجميع»، كما تضع ضمن أولوياتها دعم الانفتاح على المجتمع الدولي، ليكون داعماً للعملية وليس وصيًا بهدف تحقيق الاستقرار.

        إنَّ التحديات التي تُواكب مرحلة ما بعد النظام تتطلب تضامناً غير مسبوق بين جميع البنى والكيانات والأطر السورية، ومقاومة أشكال الوصاية الغربية التي حاولت طوال عقود إعادة صياغة التوجهات السورية وفق مصالحها، بدلاً من التعامل مع الواقع السوري في صورته الأصلية، حيث لا ينتهي عملنا عند تغيير النظام السوري أو سقوطه، بل ننتقل إلى مرحلة تعزيز المناخ السياسي والمدني والثقافي وفق آليات تُشجِّعُ على الشراكة والتكافل في بناء مستقبل ديمقراطي لا مركزي. هذه العملية ليست مجرد تنظير، بل هي خطة عملية نحاول ترجمتها من خلال هيكلية الشبكة وآليات عملها ورؤاها وتطلعاتها للمستقبل السوري.

موقع الجمهورية

————————-

السجن السوري الكبير… بيروقراطية القتل و«بازار» الابتزاز/ بيسان الشيخ

ناجٍ من صيدنايا يدخل أفرع الموت مع «الشرق الأوسط» ويروي وقائع من كابوس الاعتقال

17 يناير 2025 م

«أمي أصرت على أن ترافقني في زيارتي الأولى لزنزانتي في سجن صيدنايا، وزوجتي اتصلت من تركيا لتجعلني أقسم ألا أذهب من دونها… وأنا حقيقة ما زلت غير قادر على مواجهة هذا المكان. لا بمفردي ولا مع شاهد آخر على مأساتي».

هكذا اعتذر لنا منير الفقير، الناجي من الاعتقال في أفرع الأمن وسجن صيدنايا والشريك المؤسس في «رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا»، عن عدم زيارة زنزانته التي كانت مقررة في صباح ذلك اليوم الدمشقي.

«في البداية تشجعت أن نذهب معاً» قال: «ولكنني فعلياً غير قادر على استعادة هذا الكابوس الآن. هناك فيض من المشاعر التي لا أعرف التعامل معها… استشرت صديقاً نصحني بألا أقوم بهذه الزيارة قبل أن أحصّن نفسي وأكون على أتم الاستعداد».

وبعد برهة صمت استدرك: «لكن كيف يستعد الإنسان للقاء كهذا؟».

لم نصر على الزيارة بطبيعة الحال. فالأيام القليلة التي سبقت الوصول إلى دمشق، وما نشر عن ذلك المكان السيئ السمعة من معلومات دقيقة أو مبالغة (بلا مبرر)، كفيل بإيقاظ أي صدمة مهما اندملت أو طوته الذاكرة. فكيف والجرح طري والألم مقيم. كذلك فإن الدفق الهائل من الروايات الفردية والجماعية عن هذه التجربة المروعة، الذي لم يترك تفصيلاً إلا وتناوله في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي كان ليجعل أي إصرار في غير صوابه.

صيدنايا… رأس جبل الجليد

إلى ذلك، فإنه يستحيل اختزال التجربة السجنية في سوريا على مدى الخمسين عاماً الماضية بسجن صيدنايا وحده، على فرادة التجربة لا شك، وذلك لكونه رأس جبل جليد دونه أفرع أمنية ومعتقلات وسجون كثيرة لا تقل رعباً وقسوة.

وإذا كان من نموذج لـ«الناجي المطلق» في ذلك الجحيم كله، فهو منير الفقير، المهندس ابن دمشق، الذي تنقل لأكثر من سنتين بين عدة محطات اعتقال بدءاً بالفرع 215، «سرية المداهمة» التابع للأمن العسكري، مروراً بالفرع 215 والمستشفى العسكري 601 المعروف بـ«المسلخ»، حيث التقطت صور «قيصر»، وصولاً إلى المسلخ الكبير… صيدنايا.

وقد يكون أول سؤال يتبادر إلى الذهن هو كيف نجا منير، وكيف خرج حياً بعد كل ذلك، فيقول: «المعجزة أنني خرجت حياً من الفرعين الأولين. أما وقد وصلت إلى صيدنايا، وريثما علم أهلي بمكاني فقد كان بزنس الابتزاز انتعش. وحاولت عائلتي كغيرها من عائلات كثيرة إخراجي مقابل المال… وكنت محظوظاً أنه تم لي ذلك». ولعل اللافت أن رئيس المحكمة الميدانية، اللواء محمد كنجو حسن الذي حكم على منير بالترحيل إلى صيدنايا في جلسة محاكمة لم تتجاوز دقيقتين، كان هو نفسه من صادق على خروجه بعد تقاضي رشوة كبيرة عبر شبكة ابتزاز تعمل لصالحه.

هذا علماً أن منير لا يزال حتى الساعة جاهلاً بتهمته. ويقول: «لا أعلم حتى الآن ما هي التهمة الموجهة إليّ ولم أعلم حينها بمدة الحكم أو إذا كنت سأعدم. طوال الفترة التي قضيتها لم أبلّغ بشيء وممنوع أن أسأل. كنت فقط أحاول الاستنتاج من طبيعة الأسئلة الموجهة لي. لكنني لم أعلم شيئاً».

المعتقلون و«بازار» الابتزاز

يوضح منير أن هناك 3 أنواع من حالات الإفراج. الحالة النادرة جداً وهي العفو الرئاسي، وحدث أن منح بشار الأسد عفواً في حالات استثنائية ولأشخاص معينين. والحالة الثانية هي التبادل أي تبادل معتقلين بمعتقلين لدى أطراف أخرى، وهي أيضاً نادرة.

أما الحالة الأبرز والأكثر شيوعاً فهي الابتزاز المالي. ويقول منير: «كان لدى كنجو حسن الذي يملك ثروة طائلة وعقارات، سماسرة يرصدون الصيد الثمين من المعتقلين فيتواصلون مع الأهالي وبشكل رئيسي الأمهات ثم بدرجة ثانية مع الزوجات والأخوات». وأضاف: «نحن في رابطة صيدنايا رصدنا هذا الموضوع، وقمنا بنشر تقرير توعوي للأهالي حول شبكات الابتزاز وقدرنا المبالغ المالية التي حصلت عليها شبكات الابتزاز الأمنية بنحو مليار دولار للفترة الممتدة بين 2011 حتى 2020». وتابع قوله: «منظمات حقوقية أخرى قدرت المبالغ بأكثر من ذلك، لكننا رصدنا الحد الأدنى الذي استطعنا توثيقه بناء على عينة إحصائية وليست عينة مسح».

وتعمل تلك الشبكات بإحياء أمل الأمهات باستعادة المفقود وإثارة خوفهن من خسارة ابن آخر «لينطلق البازار»، على ما يقول منير، ويبدأ إرسال المال مقابل معلومات أو إشارات شحيحة عن المفقود ريثما لا يعود لدى «الزبون» ما يقدمه؛ فإما أن يتم الإفراج فعلياً عن المعتقل وإما أن يصبح الرقم خارج التغطية، أو تُبلغ العائلة بأن الوقت قد فات وأن الابن لم يعثر عليه أو أنه ربما مات. وهنا محظوظة هي العائلة التي تمنح شهادة وفاة أو جثة تدفنها، وغالباً ما يتم ذلك مقابل إجبارها على توقيع شهادة وفاة تقول إن الموت جاء لأسباب طبيعية أو صحية أبرزها توقف القلب أو الاحتشاء أو الفشل الكلوي، علماً أن الشائع هو تسجيل من دون حتى إبلاغ العائلة ولا حتى تسليم جثة.

الموت والتغييب كإجراء إداريّ

«لا شيء متروك للصدفة»، يقول منير ونحن نقف داخل مكتب السجلات في الفرع 215: «كل شيء مسجل ومؤرشف. وهذا جزء من نجاحهم في إطباق القبضة الأمنية. فمهما كان عدد المعتقلين ضخماً ومهما كان الازدحام في الزنزانات شديداً، يمكنهم بلحظة سحب الملف وسحب السجين من أي مهجع أو زنزانة». وبالفعل، شملت سجلات الجرد التي ملأت الرفوف واطلعنا على بعضها، تفاصيل دقيقة عن الأشخاص ومقتنياتهم وأوراقهم الثبوتية وكل ما تتم مصادرته منهم حين توقيفهم. وكان هناك عدد كبير جداً من جوازات السفر المحفوظة، وعلمنا لاحقاً أنها تستخدم لنصب الأفخاخ. فأصحابها غالباً لا يعلمون أنهم مطلوبون لفرع أمني حين يتقدمون باستخراجها أو بطلبات تجديدها، وحين تنجز ويذهبون لتسلّمها يتم اقتيادهم إلى الفرع.

ومن «الأمانات» التي وقعنا عليها في قاعة المحفوظات تلك، كتاب «الاستخبارات المركزية الأمريكية: غول وعنقاء وخل: ماذا فعلت؟» لمحمود سيّد رصاص، وأحذية لأطفال ويافعين، وبطاقة هوية عليها صورة فتى لم يتجاوز سنوات مراهقته الأولى، وكثير من علب المهدئات العصبية ومسكنات الألم بتركيبة الكوديين.

أما من نعتقد أنهم «منسيون» في الأفرع والمعتقلات وبعضهم من جنسيات غير سورية أيضاً، فينطبق عليهم المبدأ نفسه بأن لا شيء متروك للصدفة. فبحسب ما يشرح منير، هناك نوعان من العبارات التي تكتب على إضبارات المعتقلين الذين يتخذ قرار «نسيانهم» أو عملياً قرار إخفائهم قسرياً: العبارة الاولى هي «يحفظ ويذكّر به» وتعني أنه يتعين على السجان تذكير مسؤول الفرع بالمعتقل في فترات متباعدة. والعبارة الثانية هي «يحفظ ولا يذكر به» فيعطى رقماً ويصبح بالإمكان إما الإبقاء عليه أو تصفيته.

قاعة إعدام وكابوس البطانيات

غادرنا قسم العمل البيروقراطي والإداري المتقن وهبطنا إلى الطوابق السفلية. هنا المهاجع والزنزانات المنفردة وقاعة تدريب على الرماية تحولت مكان اعتقال جماعي وتعذيب في فترات الذروة، ثم مسرحاً لإعدامات ميدانية وثقتها الرابطة ومنظمات حقوقية ومنحت الفرع 215 برمته سمعته بأنه «فرع الموت». لا يزال المكان يعبق بما شهده من فظاعات. ولا تزال الجدران السوداء في قاعة الإعدام تلك سقفها يحمل تركات ماض ليس ببعيد. الرائحة تثير الإعياء.

فجأة انتابت منير فورة غضب عارم فراح يضرب باب زنزانته برجليه ويديه حتى كاد يدميها. ثم تماسك، وغالب دموعه وتابع المسير.

في بعض المهاجع كانت بقايا خبز وعلب لبن فارغة وحبات طماطم تآكلها العفن مرمية على الأرض المتسخة أو فوق بطانيات رثة هي كل ما يشكل أثاث هذه القاعات. لا شيء إلا الجدران والبطانيات وحفرة صحية مكشوفة لقضاء الحاجة. على الجدران كتابات تخطر ببال ولا تخطر، محفورة بالأظافر أو أغطية علب اللبن. مناجاة وأسماء وتواريخ ومعادلات رياضية معقدة يقول منير إنها تهبط على الشخص في لحظات صفاء الذهن المطلق كما يحدث في السجن.

البطانيات التي يحمل بعضها دمغة «مفوضية اللاجئين» التابعة للأمم المتحدة (UNHCR) وتشكل الأثاث الوحيد في هذه القاعات المغلقة تستخدم لأي شيء وكل شيء حتى أصبحت بؤرة جراثيم وبكتيريا وقمل تتسبب بتقرحات ونقل أمراض وعدوى بين المعتقلين خصوصاً في حالات الجروح المفتوحة. وليس نادراً أن تتفشى الغرغرينا في مهجع ما لأسباب كثيرة، أحدها هذه البطانيات نفسها. ويقول منير: «أحياناً كثيرة يموت سجين فيتركونه هنا لساعات أو أيام، بين رفاقه الأحياء، جثة ملقية على هذه البطانيات التي يعاد استخدامها لأغراض أخرى».

في آخر الرواق ليس بعيداً من القاعات الجماعية التي لا تتجاوز مساحتها 35 متراً مربعاً ويحشر فيها 200 شخص أو أكثر أحياناً بحسب المواسم، تصطف المنفردات فتبدو كأنها قبور منتصبة لا يمكن أن تتسع لحركة آدمي. ولكنها، وعلى الرغم من ذلك تبقى «مرتجى» كثيرين لأنها تبعد عنهم ولو قليلاً رعب البطانيات ذاك.

الرعب المعمّم خارج السجن

لعل أحد أوجه القسوة والترهيب المعمم في سوريا على مدى العقود الماضية، يكمن في اختيار مواقع هذه المعتقلات بين الأحياء السكنية في دمشق وتفرعات الشوارع كأنما لفرض التطبيع مع العنف الدائر داخلها. فإذا كان سجن صيدنايا بعيداً عن العين والمخيلة اليومية للناس العاديين، فإن هذه الأفرع تنتشر وسط العاصمة بمحاذاة حياة «طبيعية»، تجري خارجها.

فللوصول إلى الفرع 215 الواقع ضمن المربع الأمني بين حي كفرسوسة والمزة، الذي شكل المحطة الأولى في رحلة الاعتقال المستعادة مع منير، مررنا عبر «أوتوستراد المزة» الشهير وانعطفنا قليلاً ثم دخلنا من بوابة مفتوحة على الشارع كأننا نتوجه إلى أي دائرة حكومية في فضاء عام. ثم لدى انتهائنا من الزيارة وخروجنا من ظلمة السراديب إلى ضوء النهار، بدت فجأة من الجهة الخلفية مبانٍ إدارية تطل نوافذ مكاتبها على باحات هذا المكان، وكأننا بالموظفين يسترقون النظر إليه خلال استراحات القهوة والسجائر ثم يعودون هم أيضاً إلى عمل بيروقراطي متقن آخر. وعلى الجانب الآخر، ثمة مبانٍ سكنية لها شرفات مظللة ضاقت بالغسيل المنشور عليها وتطل بدورها على الفرع. حمل مشهد الغسيل ألفة غامرة وخوفاً في آن. عندها تصدق قصص كثيرة عن عائلات غيرت سكنها وباعت بيوتها لتتخلص من هذه الجيرة الثقيلة، ولعجز أفرادها عن الاستمرار في سماع صوت التعذيب المتسلل إلى غرف المعيشة وحجرات المنام.

«قسم الرضوض»… وصور قيصر

يفيد تعميم مسرب منتصف 2018، ومؤرخ في 18/12/2012 صادر عن رئاسة فرع المخابرات العسكرية بأنه «يطلب من جميع الأفرع الأمنية الخاضعة لها الإبلاغ عن وفاة أي سجين، في اليوم نفسه وإبلاغ رئيس الفرع شخصياً عبر (التلغرام) مع ذكر سبب الاعتقال ونتائج التحقيق وسبب الوفاة».

هذه وثيقة تستخدمها اليوم مجموعات حقوقية لمقاضاة الجناة دولياً، وتعدّ اعترافاً صريحاً بوقوع الوفيات، لكنها أيضاً إقرار بأن تلك الوفيات بأعدادها الهائلة، تجري بمعرفة وقرار مباشر من أعلى هرم القيادة. ويعد الفرع 215 السابق الذكر محطة أساسية في «خط الإنتاج» ذاك، يليه «قسم الرضوض» في مستشفى المزة العسكري (يوسف العظمة سابقاً) المعروف بالـ601، «حيث يتم تخريج الوفيات بطريقة طبية أو يتم الإجهاز على المرضى بشكل طبي أيضاً»، بحسب ما يقول منير.

وكان «قسم الرضوض» استحدث بعد الثورة في 2011 ضمن المبنى القديم للمستشفى الذي يعود إلى حقبة الانتداب الفرنسي لـ«معالجة» المعتقلين بعدما ارتفعت وتيرة التعذيب والقتل بشكل منهجي في الأفرع وأعداد الضحايا، وبرزت حاجة لـ«تصريف» الجثث وتخفيف الاكتظاظ. وذلك بالتزامن مع جعل «قسم الرضوض» مكاناً إضافياً للتعذيب «الطبي» هذه المرة، ثم حفظ الجثث وأرشفتها وترقيمها، وأبرزها تلك التي ظهرت في صور قيصر وتم تصويرها في باحة هذا المكان.

ويشرح منير دور الطاقم الطبي فيقول: «المشرفون على قسم الرضوض هم بشكل أساسي أمنيون وأطباء عسكريون، فالقسم يخضع لإدارتين أمنيتين هما: الأمن العسكري والأمن الجوي لكل منهما عزرائيل كما كنا نسميهما، لأنهما كانا كثيري القتل والتفنن به».

وبحسب منير، وهو ما تمت مقاطعته من مصادر أخرى أيضاً، كان عدد غير قليل من الأطباء والممرضين وحتى الممرضات متواطئين إلى حد بعيد مع العسكريين فكانوا «يرشدونهم» إلى طريقة ضرب تؤدي إلى نزف داخلي مثلاً أو فشل كلوي أو اختناق من دون أن تظهر بالضرورة على الجسد آثار تعذيب واضحة، ما يسهل تبرير سبب الوفاة في السجلات الرسمية، وتسجيلها وفاة طبيعية لتكتمل دورة العمل الإداري والبيروقراطي الدقيق.

لم يكن ممكناً دخول المستشفى لمعاينة «قسم الرضوض» الذي رقد فيه منير لفترة وقد كان في حالة سيئة جداً وخسر وزناً كثيراً. فقد أغلق المكان وتحول إلى مقر شبه عسكري تابع لـ«الهيئة». عند السور الحجري الكبير، علقت عشرات صور المفقودين وأسماؤهم وأرقام هواتف ذويهم علّ أحداً يتعرف عليهم أو يمكنه الإفادة بمصيرهم. خلال انتظارنا لنحو ساعتين عند البوابة الرئيسية للمشفى، توافدت سيارات كثيرة بطلبات مختلفة من تسليم سلاح فردي، ومراجعين لأقسام طبية لم تعد موجودة، إلى موظفة سابقة تريد استعادة أغراض شخصية من مكتبها مقابل أن تسلم مفتاحها. كغيرها، عادت أدراجها خائبة، فوحده تسليم السلاح لقي تجاوباً وترحيباً من العناصر المسلحة.

أما منير، وقبل أن يعود إلى احتفالات ساحة الأمويين، توقف طويلاً عند لوحة رفعت على المدخل الرئيسي تقول: «إدارة المشفى تتمنى لمرضاكم الشفاء العاجل».

الشرق الأوسط

————————————

السويداء قد تكون مثالاً… كيف تسعى إسرائيل إلى ضمان مصالحها في سوريا ما بعد الأسد؟/ عمار جلّو

الجمعة 17 يناير 2025

من تصدير النظام السوري السابق نفسه على أنّه حامٍ للأقليات، إلى تصريحات مسؤولين إسرائيليين عن “تحالف الأقليات”، تم ويتم زرع ألغام مؤقتة في الحقلين السياسي والاجتماعي السوريين، وهي ألغام قد تنفجر على ذاتها أو في وجه الآخرين، في حال لم يتم التعاطي مع هذه الألغام بجدية وموضوعية تفككانها لصالح المصير المشترك مع احترام خصوصية المجتمعات المحلية ومشاركتها القرار.

ذهب النظام الذي صدّر نفسه حامياً للأقليات، لكن إسرائيل موجودة ومتربصة للمضي قدماً في هذا المسار. وإن كانت تل أبيب أكثر وضوحاً في ما يخص دعم قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، في شمال شرق سوريا، إلا أنّ عينها مفتوحة على إثارة وتحفيز القوى المحلية في محافظة السويداء جنوبي سوريا، وذلك ضمن سياسة “فرّق تَسُد”، التي كانت أداة أيّ احتلال أو مشروع إمبريالي مهما اختلف القائمون عليهما.

وتتجاذب المحافظة ذات الغالبية الدرزية، تيارات متباينة حيال سلطة دمشق الناشئة، يُخشى استغلالها من قبل إسرائيل، ضمن مساعيها لتكريس واقع جيو-سياسي يؤمّن مصالحها الأمنية والسياسية الضيّقة.

ففي حديثه إلى “ميدل إيست آي”، أشار الشيخ حكمت الهجري، أحد أبرز شيوخ العقل في محافظة السويداء، إلى إيجابية في اتصالات الطائفة الدرزية السورية مع سلطات دمشق الجديدة بقيادة أحمد الشرع، “لكننا ننتظر إنجازات من الحكومة الجديدة وليس فقط كلمات إيجابية”، قال الهجري، وأضاف: “الغزو الإسرائيلي يقلقني وأنا أرفضه”.

مصير غامض

“يريد الدروز البقاء في أراضيهم بخصوصية، لكن هذا أصبح شأناً دولياً. الغزو شيء يجب أن تعالجه جميع البلدان”، أردف الهجري.

لكنه اشترط لاحقاً وجود جيش سوري قوي، وبناء هيكلي واضح للدولة، قبل حلّ الفصائل المسلّحة وتسليم السلاح في السويداء، منبّهاً إلى أنّ سوء التنسيق هو الذي أدى إلى منع دخول رتل عسكري تابع لإدارة العمليات العسكرية إلى السويداء، حيث تشهد المرحلة الحالية “بداية تنسيق يُتيح تجاوز مثل هذه الإشكالات البسيطة”.

في السياق نفسه، وجّه الهجري “دعوةً إلى جماهير شعبنا السوري، بمختلف انتماءاتهم، لعقد مؤتمر وطني شامل يهدف إلى انتخاب لجان عمل تُعنى بصياغة دستور جديد للدولة السورية، يعزز نظاماً إدارياً لا مركزياً مع فصل واضح للسلطات، لضمان استمرارية مؤسسات الحكم وحماية وحدة البلاد من خطر التقسيم”.

“مصير الجنوب غير واضح ولم يظهر إلى العلن لغاية الآن. سيناريو الوصاية الإسرائيلية على الجنوب السوري أمر وارد”، حسب ابن محافظة السويداء، الكاتب والصحافي نورس عزيز.

أردف عزيز: “من الصعب جداً دخول هيئة تحرير الشام إلى المحافظة عسكرياً، وفي الكواليس هناك حديث عن نظام حكم لامركزي في كل المحافظات”، مضيفاً خلال حديثه إلى “سكاي نيوز”: “انجرار البلاد باتجاه الحرب الطائفية أو باتجاه سيناريو التقسيم الوارد جدّاً، هو أكبر مخاوف السويداء اليوم”.

    يعتقد علاوي خلال حديثه إلى رصيف22، أنّ إسرائيل أيضاً لا ترغب في تقسيم سوريا، وتصريحاتها بهذا الشأن لا تعدو عن كونها تصعيداً سياسياً وإعلامياً بهدف الضغط على السلطة الجديدة في دمشق. إذ إنّ تقسيم سوريا يعني نشوء كيانات ربما سيكون بعضها معادياً جداً لإسرائيل

وخلال حديثه إلى رصيف22، يقول عزيز: “ما يتم تداوله في هذا السياق بدأ بعد تصريحات وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر، عن نيته عقد تحالفات مع الدروز والأكراد في سوريا”، لافتاً إلى نشر موقع إسرائيل بالعربي على منصة X، خريطةً تُظهر المملكة اليهودية، حسب تسميتهم، أدرجوا فيها المنطقة الجنوبية من سوريا”. بجانب ذلك، نشرت صحيفة “يسرائيل هيوم”، المملوكة لعائلة مقربة من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مؤخراً، مقالاً يتحدث عن نية إسرائيل عقد مؤتمر لإقامة كانتونات عازلة على حدودها الشمالية.

مع ذلك، وعلى الرغم من صعوبة الحياة والوعود البراقة التي يتم تناقلها هنا وهناك بخصوص تطور إسرائيل والثروات التي يمكن أن تقوم بضخّها في المنطقة، إلا أنّ معظم التيارات السياسية والمدنية والرأي العام في السويداء، تعارض أيّ تدخّل إسرائيلي في المحافظة، وتعتقد أنّ أيّ تدخّل إسرائيلي في الجنوب السوري، إن حصل، سيكون من خلال دولة وسيطة.

وفي مقابل الزعامة الروحية للهجري، أعلن أكبر فصيلين عسكريين في المحافظة، أي “رجال الكرامة” و”لواء الجبل”، استعدادهما للاندماج ضمن مؤسسة عسكرية تشكل نواةً لجيش وطني جديد، رافضين “أي طابع فئوي أو طائفي”، حسب بيانهما المشترك، ومشددين على أنّ حملهما السلاح كان “دفاعاً عن أهل السويداء بأطيافهم كافة”، وأنه “وسيلة اضطرارية وليس غايةً”.

ورقة ضغط لا أكثر

معظم الفعاليات الشعبية والدينية في السويداء، لا ترغب في الانفصال عن سوريا بأي شكل من الأشكال، حسب الكاتب الصحافي السوري والباحث في الشأن السياسي، فراس علاوي. بل على العكس تماماً، هم ضدّ الانفصال. تاريخياً، لم ترغب السويداء يوماً في الانفصال، برغم وجود تيارات تدعم هذا التوجه، غالبيتها مدعومة من إسرائيل أو من قبل دروز إسرائيل، وربما يحفّزونهم على هذا الأمر. مع ذلك، التيار الغالب حالياً، هو التيار الرافض للانفصال عن الوطن الأم سوريا.

وفي هذا السياق، كان لافتاً تصريح رجل دين درزي خلال تجمّع محلي للأهالي في بلدة حضر التابعة لمحافظة القنيطرة في هضبة الجولان، بعد أن استولى عليها الإسرائيليون مؤخراً، بأنه سيكون من الأفضل أن يتم ضمّ البلدة من قبل إسرائيل بدلاً من تركها “للمتمردين” الذين سيطروا على دمشق.

مع ذلك، يعتقد علاوي خلال حديثه إلى رصيف22، أنّ إسرائيل أيضاً لا ترغب في تقسيم سوريا، وتصريحاتها بهذا الشأن لا تعدو عن كونها تصعيداً سياسياً وإعلامياً بهدف الضغط على السلطة الجديدة في دمشق. إذ إنّ تقسيم سوريا يعني نشوء كيانات ربما سيكون بعضها معادياً جداً لإسرائيل، لذا فإنّ الأفضل لتل أبيب هو وجود سلطة مركزية في دمشق تتحكم بالقرار.

يضيف علاوي: “صحيح أنّ سوريا مفككة وضعيفة، مفيدة لإسرائيل، لكن سوريا بقرار مركزي قابل للتفاوض أفضل من سوريا ممزقة قد تنشأ عنها بعض الكيانات التي سيتم استغلالها من جهات أخرى، كونها ضعيفةً، وهي بهذه الصفة ستعمل على الاعتماد على قوى أخرى، ما قد يؤدي إلى عودة بعض القوى المعادية لإسرائيل إلى ساحات الجوار الإسرائيلي”.

العمليات العسكرية الإسرائيلية في سوريا، مع احتلالها بعض المناطق مؤخراً، قد تؤدي إلى تعميق الانقسامات الداخلية السورية، عبر تأليب فصائل بناء الدولة ضد الذين يعطون الأولوية لتحرير الأراضي، حسب علي باكير، وهو أستاذ مساعد ومتابع للاتجاهات الجيو-سياسية والأمنية في الشرق الأوسط، وذلك قياساً إلى صراعات لبنان خلال الاحتلال الإسرائيلي لأراضيه، حيث أعاقت الانقسامات الداخلية الاستقرار والحكم.

وفي المشهد السوري المنظور، إن حظيت إعادة الإعمار بالأسبقية لدى الفصائل السورية، ستخاطر الأخيرة بفقدان شرعيتها طالما بقيت الأراضي السورية محتلةً. وإن كانت الأولوية للقتال وتحرير الأراضي، فقد تُمنى بهزائم مبكرة والمزيد من الفوضى، مع تحويل الموارد الحيوية عن جهود بناء الدولة. “في السيناريوهين، تستفيد إسرائيل. سوريا المجزأة أقل قدرةً على تشكيل تهديد لأمنها وطموحاتها الإقليمية”، قال باكير لـ”ميدل إيست آي”.

وينقل عزيز، عن قائد المرحلة الانتقالية في سوريا أحمد الشرع، قوله في اجتماعه الأول مع وفد المحافظة في دمشق: “إنّ التوجه القادم قائم على فكرة أن يكون محافظ السويداء من أبنائها، مع انضواء القوات العسكرية المتواجدة فيها ضمن وزارة الدفاع”.

لكن بالنسبة إلى موقف الإدارة الجديدة في دمشق، لم نلمس ردود فعل حقيقيةً تجاه التوغل الإسرائيلي الأخير في الجنوب السوري. “لا أعلم إن كانت هناك اتفاقات في هذا الخصوص”، يقول عزيز لرصيف22، ويعيد التأكيد على الرفض الشعبي للانفصال عن سوريا، منوّهاً ببيان أكبر الفصائل العسكرية في المحافظة، الذي أشار إلى بقاء دمشق العاصمة التاريخية لسوريا الموحدة.

مع ذلك، تبقى كل السيناريوهات مفتوحةً اليوم، في ظل ضعف الجيش السوري وضبابية وصول الإدارة الجديدة إلى الحكم (اتفاقات-وعود-التزامات… إلخ).

رصيف 22

—————————–

ملاحظات/ ياسين السويحة

يصعب تخيّل إعادة إعمار وتحريك اقتصادي في سوريا، قادريَن على تحقيق حدود دنيا من العدالة الاجتماعية، دون إدخال مقاربة بيئية قوية للنموذج الاقتصادي. سؤال الطاقة سيكون أساسياً: من أين تأتي بالطاقة، وما هي فرص إنتاج طاقة متجددة ضمن موارد سوريا (غير القليلة أبداً، بالمناسبة). ولكن أيضاً يجب التفكير بالعمران وإعادة الإعمار. اقرؤوا معي هذا المقطع الختامي لمقال عظيم، للكاتب الأعظم، وصاحب الاختصاص في الشأن، هشام حاج محمد (Hisham Haj Mohamad)، والذي يُسعدني أننا ورطناه حينها في كتابة مقال عن “العمارة الممكنة” وقت أحلك ظروفنا السورية:

“تتوفر في الحالة السورية الإمكانيات اللازمة لتقديم نماذج ملهمة في الإسكان بعد الحرب، وبما يراعي التغير المناخي في الوقت ذاته. وأقول مرةً أخرى إن هذا ليس ترفاً، بل لا يوجد ما هو أكثر قيمة من إثبات جدارة عملية وملهمة تتحدى من حطّم المدن وهجر الأهالي ليجعل منّا عبرةً. في أصعب ظروف الواقع السوري يمكن أن نضع بصمتنا في عالم مواجهة التغير المناخي المتسارع. ويمكن القول، وبكثير من الرومانسية الحالمة، أنه لكي تصمد قبةٌ ثلجية في مواجهة خطر الذوبان الجليدي عند الأسكيمو، لابد أن تساندها قبة طينية في الطرف الآخر من العالم.”

بأي طاقة، وأي مواد، وكيف تبني، وكيف تهندس عمرانياً، وما هي محركاتك الاقتصادية. كل هذا يحتاج لكثير من الخيال، ويحتاج قبل كل شيء إلى صبر، وإلى حذر من نعرة الذهاب نحو تشجيع الاستهلاك السريع (والمديونية المسانِدة له) كعنوان لتحريك الاقتصاد.. ويحتاج أيضاً لقدر ضخم من اللامركزية. هذا موضوع آخر، سأعود إليه قريباً.

وكل هذا يحتاج شيئين: أولهما التوقف عن تتفيه المسألة البيئية بحصرها بسياسات هوية الطبقات الوسطى الغربية وأنماطها الاستهلاكية، الموضوع أعمق وأكثر مصيرية من ذلك.. وبلدان مثل سوريا والعراق، لا تمر دراسة بيئية دون أن تأخذهما كمثال عن حافة الانهيارية البيئية، لا تمتلك ترف عدم أخذ الأمر بالجدية اللازمة.

الشيء الآخر هو انتباه أن سلطة الأمر الواقع الحالية، ضمن أشياء أخرى، تمثل، بشكل ما، حكم “الميلينيالز” السوريين.. جيلي العتيد. لجيلنا الألفي -وأقصد تنويعات الطبقات الوسطى منه- نعرات يعرفنا الذكور منا بالذات: السيارة وما تمثله، كلام -حقيقي أو متخيل- عن “الاقتصاد الحر”، وكلام -حقيقي ومتخيل- عن الجمارك والعملات و”هيمنة الدولة على الاقتصاد”.  ليس صدفة أن الأخوة التكنوقراط في هذه السلطة، وجلهم مواليد أواسط الثمانينات، حكوا أول ما حكوه عن إلغاء جمارك السيارات، وعن “تحرير الاقتصاد” وعن “فتح السوق”. ليست نيوليبراليتهم التي تحكي، بل ميلينياليتهم. ما يجب الحذر منه هو أنهم غالباً سيكونون عجولين نحو تشجيع الاستهلاك، وتحقيق انتصارات رمزية عن طريقه. هذا سيريح طبقات قادرة في مراكز المدن المركزية، ويحقق مشهديات سياسية إيجابية تتيح إعادة بناء “هيمنة” ما.. لكن القبة الطينية التي يحكي عنها هشام ستبقى مهشمة ومرذولة.

الفيس بوك

————————

ملاحظات/ ياسين السويحة

نأتي لبعض الجد بخصوص “فلول الفرنكات” من أمثال حمشو والقاطرجي وغيرهما.

قبل أسابيع، حضر النموذج المصري بكثافة مع استعادة مصطلح “فلول” لوصف مظاهرة “علمانيين” في الأمويين، ويُستخدم المصطلح كذلك -بدقة أكبر- للحديث عن بقايا قوات النظام التي ما زالت تحتفظ بسلاحها. ليس هناك برأيي إسقاط ممكن للنموذج المصري على سوريا الحالية، ولكن عدا ذلك، هناك وقوف في استعارة التجربة المصرية واستجلاب مصطلح فلول عند تعبيرات الرفض لمظاهر الأسلمة، وعند “عسكر” النظام السابق.. ولكن في التجربة المصرية الفلولية ضلع ثالث أهم من كل ما سبق: رجال أعمال عهد مبارك الذين تمكنوا من خداع الإخوان وإقناعهم أن رأس المال لا دين له، وأنهم قادرون على التعايش طالما “أعمالهم ماشية”، وبعضهم صار “مش إخوان بس يحترمهم”.. هؤلاء كانوا رأس الحربة في الانقلاب،بمالهم وإعلامهم وشركاتهم وعلاقاتهم ووو الخ.

حمشو بالذات، والقاطرجي وطريف الأخرس وغيرهم من “العائدين” أو من الذين ينوون العودة، يجب أن يكونوا رهن المحاسبة الجنائية على مساهمتهم الفاعلة في قتل الناس وتشريدهم (حرفياً. كان عندهم ميليشيات!)، ومن ثم المحاسبة الاقتصادية على جرائم فساد وسرقة.. بعد ذلك، ما قد يبقى من ثرواتهم فيجب أن يستحق عليها ضريبة لا تقل عن 90% كغرامة على الكماخة والغلاظة وشهادة الزور. المفروض هذا هو الشيء الوحيد المعروض عليهم.. وإذا ما عاجبهم فدرب السد لا يرد.  بإمكانهم تجديد جوازات سفرهم في سفارات منافيهم، إن احتاجوها أصلاً، وفق تسعيرة النظام البائد، نظامهم.

الفيس بوك

————————-

ملاحظات/ سمير سليمان

السلطة الجديدة في سوريا تقف اليوم على ساق واحدة.

لم يعطنا التاريخ نموذجاً واحداً لثورة ناجحة أدت إلى تغيير في بنية السلطة دون أن يرافق السلطة الجديدة عدوّا وجودياً تخترعه كأداة إيديولوجية وتحشيدية وشعبوية لتثبيت سلطتها الجديدة. فعلى عكس الشرعية الإنتخابية أو الدستورية التي تتمتع بها السطات الديموقراطية, والتي لاتحتاج لأعداء, فإن السلطة القائمة على الشرعية الثورية تحتاج بالضرورة إلى اختراع خطر خارجي, أو داخلي,” يهدد الثورة”. الشرعيات الثورية السابقة اخترعت عدوها, فكان داخلياً في بداية الأمر وتجسد في البرجوازيين والإقطاع وأعداء الإشتراكية( عبد الناصر – البعث – ستالين – كاسترو – ماو تسي تونغ _ الخ ) ثم تحول هذا العدو بعد استتباب الأمر للسلطة إلى الخارج فكانت أمريكا هي العدو المشترك لكل الأنظمة ذات الشرعية الثورية. وعندما انتهت هذه الشرعية إلى التهافت والإهتراء تحولت الأنظمة أياها إلى الخطاب الفاقد لكل معنى ولكل قدرة إقناعية, خطاب ” محاربة الإرهاب” .

في حالتنا السورية الراهنة, يبدو المسكين أحمد الشرع وكأنه يقف على ساق واحدة. فهو استطاع استملاك سلطة الأمر الواقع, ويجري الإعتراف الإقليمي والدولي بهذا الإستملاك, أي بشرعيته الثورية, ولكنه يفتقد العدو الذي يمكنه من تحشيد الجماهير ضده لتقوية شرعيته بزيادة شعبيته. فهي سلطة ثورية تقوم على ساق واحدة ولاتستطيع الإستمرار طويلاً بدون ساقها الثانية المفقودة أي عدو الثورة. وليست المصيبة عند الشرع في أنه لايملك أعداء يعلن عليهم المعركة المفتوحة “لجماية الثورة”, بل المصيبة أنه لايستطيع إعلان العداء لأي جهة في الدنيا تخطر على البال. هل يستطيع أن يقول مايزعج ” الإمبريالية” ؟ إسرائيل ؟ روسيا أو إيران؟ هل يستطيع الإدعاء بمحاربة الإرهاب ومازال هو ذاته على قيود الإرهاب؟ هل يستطيع معاداة الرجعية العربية؟ أحمد الشرع لايستطيع أن يخترع العدو اللازم لشرعيته الثورية على الإطلاق في وضعه الراهن. وهذا الأمر يبدو أنه وضع نهائي لن يستطيع تغييره.

إذن, ليس من إختيارات كثيرة أمام حكومة أحمد الشرع الحالية, فالشرعية الثورية لاتستمر بدون أعداء وبدون صراع مستمر معهم, وهو شيء غير متوفر , ولذلك إما أن يختار أن ينتهج طريقاً سلمياً أكثر ديموقراطية بالتحالف مع جميع السوريين كي يكتسب شرعية دستورية عبر انتخابات مقررة بموجب دستور متوافق عليه, ولايعود بحاجة للشرعية الثورية, وإما أن يختار أن يكرس شرعيته الثورية بخوض الصراع مع الشعب السوري ذاته. وعندها, كما حصل مع الأسد, يفقد كل شرعية ويبدأ مسلسل نهايته.

الفيس بوك

———————

===================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى