عزيز العظمة: عن سوريا بين سقوط النظام وصعود الإسلاميين
“لا تستطيع أن تستخرج الجولاني من السيد الشرع وترميه”
حمّود حمّود
17 كانون الثاني 2025
يتناول هذا الحوار مع الأستاذ والدكتور عزيز العظمة مجموعة من القضايا الحيوية المتعلّقة بالواقع السوري الراهن وتحوّلاته بعد سقوط نظام بشار الأسد. كما يناقش العظمة مواضيع محورية مثل صعود الجماعات الإسلامية المسلّحة، طبيعة الحكم الجديد المُتوقّع، وموقع هذا التحوّل من الثقافة السياسية والقانونية السورية. ولا يغيب عن الحوار الحديث عن العلمانية ومكانتها في المجتمع السوري، وسط التحديات الطائفية والإثنية التي تعصف به، إلى جانب رؤى حول العدالة الانتقالية وإعادة بناء الدولة.
كاتب وباحث سوري، متخصص في الإسلاميات، يكتب وينشر في عدد من الصحف والمجلات والمواقع العربية، منها الحياة والمسبار. صدر له: “سورية والصعود الأصولي (حوار مع الكاتب عزيز العظمة)، دار الريس/ 2015، و “بحثا عن المقدس، البعث والأصولية” عن دار جداول عام 2014، إضافة إلى عدد من الترجمات.
في هذا الحوار الثري والعميق مع الأستاذ الدكتور عزيز العظمة، الذي أجري عبر تطبيق سكايب، نتناول مجموعة من القضايا الحيوية المتعلّقة بالواقع السوري الراهن وتحوّلاته بعد سقوط نظام بشار الأسد. يقدّم العظمة هنا رؤى نقدية وتحليلات معمّقة حول أبعاد هذا الحدث المفصلي، ويضعه في سياق تاريخي واجتماعي أوسع.
ينطلق الحوار من حدث سقوط النظام، حيث يعبّر العظمة عن مشاعره المتباينة بين الفرح بزوال النظام والتوجّس من المستقبل. ومن خلال تأملاته، يتطرّق إلى مسائل متعدّدة، منها انهيار الدولة السورية ومؤسّساتها، وتأثير العقود الماضية من التآكل المؤسسي والفساد على أداء الدولة والجيش، وصولاً إلى دور القوى الإقليمية والدولية في تشكيل المشهد السوري. كما يناقش العظمة مواضيع محورية مثل صعود الجماعات الإسلامية المسلّحة، طبيعة الحكم الجديد المُتوقّع، وموقع هذا التحوّل من الثقافة السياسية والقانونية السورية. ولا يغيب عن الحوار الحديث عن العلمانية ومكانتها في المجتمع السوري، وسط التحديات الطائفية والإثنية التي تعصف به، إلى جانب رؤى حول العدالة الانتقالية وإعادة بناء الدولة. يتميّز الحوار بالتحليل الدقيق والواقعية، حيث يشير العظمة إلى مخاوفه من الانزلاق نحو أنماط جديدة من الاستبداد تحت مظلة دينية وطائفية. ورغم ذلك، يبدي أملاً مشوباً بالتوجّس والقلق حول إمكانية استعادة سوريا لهُويّتها السياسية والثقافية التي تراكمت على مدى قرن من الزمان. هذا الحوار ليس مجرّد استعراض للواقع السوري، بل هو دعوة للتأمل والنقاش حول مستقبل سوريا والمنطقة في ظلّ التغيّرات الكبرى التي تعصف بها.
عزيز العظمة أكاديمي وأستاذ سوري من مواليد دمشق 24 يوليو 1947، عمل كأستاذ في قسم التاريخ، الدراسات الدينية، في جامعة أوروبا الوسطى، فيينا، ودرّس في العديد من الجامعات الأوروبية والأميركية مثل الجامعة الأمريكية في بيروت، وجامعة ييل، وجامعة كولومبيا، وجامعة إكستر، وجامعة كورنيل، وجامعة أكسفورد، جامعة كاليفورنيا. له العديد من المؤلفات باللغة العربية والإنكليزية، من بينها “الكتابة التاريخية والمعرفة التاريخية” (دار الطليعة، بيروت 1983)، و”العلمانية من منظور مختلف” (مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1992)، و “التراث بين السلطان والتاريخ” (دار الطليعة ، بيروت، 1987)، Islams and Modernities ( London & New York , 1993 ) وأخيراً The Emergence of Islam in Late Antiquity: Allah and His People (Cambridge 2014).
سقوط نظام الأسد وأبعاده
حمّود. الأستاذ عزيز العظمة، أشكرك على قبول الدعوة للحوار حول هذا الوضع السوري المستجد. سأبدأ بهذا السؤال: كيف استقبلت حدث سقوط نظام بشار الأسد؟
العظمة: وصلتني رسالة نصية من ابني الساعة الخامسة صباحاً، وكنت حينها في الفندق في عمّان. ومباشرة بدأت بمتابعة الأخبار. لقد وجدت نفسي مشمولاً بلحظة هذا الخبر. وقد أقارنه بلحظة 2011 حينما بدأت المظاهرات في سوريا. لقد كان هناك نوع من الفرح الإيجابي مما حصل، لقد تخلصنا من هذه الوحوش. ولكن البهجة شابتها نغصة، فعشت لحظتي الخمر والأمر معاً، والسكرة والفكرة سويّة. أخذت أتساءل عن المآل الذي ستؤول إليه الأمور، وبأيّ اتجاه. وبدأت تعتريني المشاعر نفسها حينما بدأت المظاهرات سنة 2011 التي سيطر عليها أمران (وهذا لا ينطبق فقط على سوريا، بل على البلدان الأخرى التي شهدت ما سمّي آنذاك بالربيع العربي): الفرح مما حدث، والتوجّس من القادم، لا سيما أنه لم يكن في سوريا حياة سياسية منظمة، فضلاً عن أنّ بلادنا مهترئة وأوضاعها غير مستقرة ومتحوّلة هيكلياً ، إضافة إلى التحوّلات المدمرة في العشرين سنة الأخيرة، مثل الجفاف وشؤون الزراعة والهجرة، يُضاف إليها تغلغل إسلامي في مفاصل المجتمع وشؤون الناس. وليست هذه شروط مثالية لإرساء نظام ديمقراطي.
حمّود: لقد استمعت مؤخراً لحوار مع عزمي بشارة، من بين النقاط التي ذكرها هو دهشته من هذا الانهيار لمؤسسة الجيش، فهو يرى أنه يمكن أن يخسر قائد ما في النهاية، لكن أن تنهار معه هذه المؤسسة العسكرية وبهذا الشكل، فهذا كان أمراً غير طبيعي، هناك اندهاش كيف أن فرقاً من الجيش تترك مواضعها في الجنوب مع إسرائيل حين انهزام بشار الأسد. بالفعل لقد كان بعض عناصر الجيش وشبيحته صادقين حينما رفعوا الشعار “الأسد أو نحرق البلد”، لقد كانت مهمة الجيش هي فقط حماية نظام بشار الأسد. فإذا رحل هذا الشخص، يرحل كل شيء معه.
العظمة: هناك الشخص لكن أيضاً مفاعيل أو آليّات الفعل في البلد. فالذي حصل في سوريا، وهي من الأشياء التي ذكرها عزمي بشارة في حواره، هو استغرابه أنه ليس هناك في سوريا دولة عميقة. هناك لا شك في سوريا جهاز دولة، بيد أن الذي حصل في في الثلاثين سنة الأخيرة، أن جهاز الدولة تمّ نخره، وتعطلت آليّاته الهيكليّة المُنتظمة، حيث غدت كلّ حركة في هذا الدولة وعلى كلّ مستويات تراتبياته الداخلية تأتي من خارج هذا الجهاز، وتحديداً من الأمن (بأجهزته المختلفة) أو من الرئاسة، دون أن ننسى الفساد ودينامية الرشوة في تفعيل جهاز الدولة. وهنا تمّ تجويف فاعلية الدولة، فأصبح هناك نخر لكلّ طبقات الفعل الدولاني وفي كلّ مستوياته، من أبسط المعاملات، كشؤون الزواج إلى القضايا الإدارية والاقتصادية الكبيرة. فتعطلت دينامية الدولة وانخفضت دينامياتها الداخلية المنتظمة إلى ما جاور درجة الصفر. فلم تكن تصدر الأوامر والتدخلات من خلال أجهزة المؤسسات ضمن الضوابط والأطر المعروفة، بل بدا أنّ كلّ خطوة إدارية كانت بحاجة إلى تفعيل من خارج المؤسسة، أيّ قرار سياسي طابعه أمني يصدر عن الهياكل الأمنية، والتي تسيطر على مؤسسات الدولة.
أما بالنسبة إلى الجيش، فهو بالنهاية قد تبعثر إلى فرق مختلفة، وغدا خلال فترة الحرب لكلّ قائد في الجيش مساحة نفوذ وتنفّذ مستقلة نسبياً، على شاكلة الميليشيات، مع موارد اقتصادية ودعم خارجي وما شابه. وغدت وظيفة المسؤولين عن ذلك هي الحرب والنهب، فصرنا إزاء دولة ريعية، وأصبح شاغل أجهزة الجيش والأمن وميليشيات الشبّيحة استدرار الريع من الناس، عن طريق الخوّات والرشاوي وابتزاز الضباط للأنفار، إضافة إلى التهريب والتعفيش والمخدرات وما إلى ذلك. بمعنى لم يعد هناك جهاز في الدولة يعمل بموجب وظيفته كجهاز، فتم إفراغ الدولة كأجهزة من مقدراتها الفعلية والدينامية. والذي أعتقده أنّ ما حدث مؤخراً أثناء العمليات العسكرية أنّ مؤسسة الجيش لم تكن مستعدة للقتال، نعم كانوا يهاجمون المدن، ويعتقلون الناس، بيد أنها كمؤسسة فاعلة لها مهمة عملية محددة، فهذا ما كان غائباً. لقد غدا الجيش بالفعل بيتاً من الكرتون، انهار سريعاً. ونضيف إلى هذا أنه لم يعد عند عناصر الجيش القدرة على القتال، وخاصة في ظلّ الفقر والإهانات التي كانوا يتعرّضون لها من الضباط، ونقص الإمدادات وما شابه. كانت معنوياتهم منهارة، ولم يعد لديهم رغبة ومبرّر للقتال.
حمّود: أضيف نقطة صغيرة هنا وهي عامل الميلشيات الطائفية التي كانت تعمل مع الجيش، بل وتحوّل هذا الجيش إلى ميليشيات. لكن هل كنت متوقعاً هذا السقوط وبهذه السرعة بعد فقط 11 يوماً؟
العظمة: لم يكن أحداً يتوقّع هذا. وباعتقادي، وبحسب ما قرأناه وسمعناه أنه حتى هيئة تحرير الشام التي قادت عملية “ردع العدوان” لم تكن تتوقّع ذلك، حيث كان حدّ تلك العمليات وأفقها هو مدينة حلب. بيد أن الهيئة حينما دخلت حلب ووجدت أن الطريق سالكاً أمامها، استمروا في سيرهم.
حمّود: بالفعل، لقد سمعت أنا من مقربين ممن كان في مناطق تحكمها الهيئة في إدلب وقبل أشهر من انطلاق العمليات الأخيرة أنه ستحدث عملية عسكرية بقيادة هذه الهيئة ستبدأ بين اللحظة والأخرى، لكنهم كانوا ينتظرون الأوامر التركية، وكان هدف العملية هو فقط حلب والطريق الواصل لحلب، وهذا بسبب اكتساب مرابح على الأرض ليتم من خلالها الضغط في المفاوضات مع النظام السوري السابق. لكن اسمح لي هنا أن أسألك عن أخبار السجون والمقابر الجماعية. كيف كانت مشاعرك؟
العظمة: لقد تابعت بعضها، ولكن ليس كلّ التفاصيل التي ظهرت على الشاشات، ذلك أن الأمر يبعث على الاشمئزاز والاكتئاب والاستبشاع والغضب، وليس ثمّة مبرّر إلّا ربّما الاعتلال النفسي للتمادي في المشاهدة. ما حدث في هذه السجون ليس له نظير في أيّ مكان آخر في العالم، نظراً لطابع الإجرام وسعته وانفلاته. ويبدو أن قادة الأفرع الأمنية كان يحكمها قدر من اللامركزية فيما فعلوه في مناطقهم التي كانوا يسيطرون عليها، ولا شك في استساغة الكثير منهم ذائقة التفنّن في الوحشية والالتذاذ بها.
حمّود: إلى ماذا يعود مصدر هذا العنف عند عناصر نظام الأسد. لا أستطيع إلى الآن أن أفهم هذا التوحّش.
العظمة: لقد كانوا يقومون بهذه الجرائم وهم على قناعة بأنهم لن يحاسبوا على جرائمهم، بل اعتادوا، وربما أدمنوا عليها، وانتشوا بممارسة السلطة المطلقة في لحظاتها. لقد أصبح هذا العنف عندهم ثقافة مؤسساتية سائرة ضمن أطر أجهزة الأمن هذه. ولا تنسى أنّ النظام السوري، وخاصة في مرحلة بشار الأسد، قد خرّب نفوس الناس في سوريا، ودواخلها، والثقة الطبيعية بين الجيران والأقارب، وعوّدها على الوحشيّة. وثمّة سبل مستقاة من علم النفس والأنثروبولوجيا لفهم التوحّش، ونجد الكثير من الدراسات المفيدة حول توحّش داعش في هذا المساق. أنصح هنا بقراءة كلاوس تيفيلايت Klaus Theweleit وما كتبه عن مذابح رواندا. ما يرويه من قصص العنف في رواندا تتقاطع مع سوريا. وياسين الحاج صالح اشتغل أيضاً في هذه القضايا على نحو لمّاح.
(الاستاذ عزيز العظمة: تصريحات أحمد الشرع إلى الآن تتسم بالمعقولية، ويمكن أن تكون مقنعة. بيد أن الإشكال هو أن لديه جماعته، وأن في تصريحاته مزيجاً من التعويم المطمئن الملتفّ على القضايا، والتحديد الشرعي. خطاب سياسي يتلمّس الممكن)
حمود: إلى أيّ حدٍّ سيؤثّر هذا السقوط بالبنى الأيديولوجية التي قام عليها هذا النظام، وخاصة في البعد القومي. وأنت تعلم أنه هناك إلى الآن قوميون عرب، مثلاً من تونس ومصر، ممن دعم نظام الأسد من ناحية البعد القومي واليساري. وهؤلاء بدأت الآن أصواتهم تعلو، ويتوجسون ممن قدم إلى السلطة من الإسلاميين، فيتأسفون على سقوط نظام الأسد.
العظمة: هذا صحيح. هؤلاء يجب عليهم إما أن يراجعوا أنفسهم أو يستمروا كما هو عليه الإيرانيون، وهو المكابرة، كما هي تصريحاتهم إلى الآن.
حمود: مكابرة من الإيرانيين وتحريض ضدّ السوريين.
العظمة: مكابرة وتحريض، لا بل تحريض طائفي من قبل إيران وبعض عناصر النظام البائد. وهذا يشابه تصريحات عناصر حزب الله، الذين لطالما يكابرون بأنهم نالواً نصراً إلهياً مستأنفاً، ولا يبدو أنّ لديهم الحكمة ليتّعظوا بمثال الخميني وحديثه حول تجرّع السمّ عند فقدان الأمل. والمكابرة آفة ألَمّت أيضاً بالجماعات القومية العربية في صورتها البعثية وبعض ما بقي من الناصريّين أو ما بقي منها قومياً عربياً على هذا التوصيف، وتبدو من لوازم الخسران والعناد، وفيها لمحة من الحَرَد. لكن يجب ألا ننسى في هذا السياق أنّ ثقافة سورية السياسية، بصرف النظر عن هذه الجماعات، هي ثقافة قومية بقدر لم يزول، وأصبحت الآن شعوراً وطنياً سورياً وعربياً أيضاً (وأستثني هنا الأكراد) دون أن يكون عروبياً.
حمود: هل هناك بين تلافيف كلام أحمد الشرع، قائد العمليات العسكرية، رغم البعد الإسلامي له، بُعد قومي سوري؟
العظمة: ربما قليلاً، وهذا أمر ليس واضحاً إلا بالمعنى الناتج عن قيامه بالأمر في سوريا. لكن يجب التأكيد أنّ هذا النمط من الجماعات (جماعة الشرع) غريب على الثقافة السياسية السورية. إنّ فعل الانتساب إلى مثل هذه الجماعات أو أيّ جماعة سلفية جهادية، لا يحدث بالسليقة، بل يحدث من خلال إعادة تنشئة للفرد ضمن مسار أيديولوجي محدّد، إعادة تنشئة اجتماعية وتعبويّة على معنى مغاير للتنشئة الاعتيادية. وهذا المسار ليس قومياً ولا وطنياً. فسوريا عندهم هي “دار إسلام” وليست دولة وطنية. وهذه شيء أساسي في تركيبتهم الأيديولوجية. وهم يكررون أحاديث مثل: “بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً”، وبعضهم يزكّي الانخلاع عن الروابط الأسرية والاجتماعية التي اكتُسبت مع التنشئة الاجتماعية. يجب أخذ هذا على محمل الجد. وهم فعلاً غرباء عن الثقافة السياسيّة والقانونية السورية الحديثة، بل مغتربون عنها عمداً، والتي تطوّرت على امتداد قرن ونصف، فضلاً عن أنهم في تصوّراتهم وحيواتهم ولباسهم إلى فترة قريبة يعيشون في أزمنة انقضت وتقادمت. أما باعتبار الديانة، فإننا نرى الكثير من علماء السنّة يعتبرون أهل السلفية الجهادية فرقة من الغلاة ويقارنونهم بالخوارج. فهم انزاحوا عن ثقافة سوريا السياسيّة وأنماط التديّن المعهودة وصنعوا لأنفسهم أجساماً سياسية ونحلة دينية وتوصيفات أيديولوجية بديلة للمحيط الاجتماعي والتاريخي لسوريا. فكلّ ما تطوّر من عمليات حداثية ووطنية وقومية في سوريا ليس لها وجود عندهم على الإطلاق. فهم جماعات سلفية أتت من الأطراف. وهنا لا أعني فقط بالأطراف أنهم أتوا من إدلب التي تشكّل طرفاً، بل أكثر من ذلك أنّ منبع أيديولوجيتهم هو سعودي، ناشئ من منطقة كانت طرفيّة ثقافياً عندما كان المشرق سائراً على درب الترقّي. وتنبغي الإشارة إلى أنّ السعودية الآن تحاول في السنوات الأخيرة التخلّص من تركة التعصّب والتزمّت التي وسمتها منذ أيّام الملك فيصل. وحتى في أجواء السعودية، أصبح غلاة السلفيّة الذين أنعشوا جهيمان سنة 1979 وحروب أفغانستان وطالبان والقاعدة، غير مرغوب بهم بل كُسرت شوكتهم. فهؤلاء لم يكونوا مرتبطين بالتحوّلات التي حدثت في الوطن العربي في آخر مائة سنة. وغدت السعوديّة مصدراً للغنى، فأنشأت هياكل لوجستية للبثّ الأيديولوجي وللتديين الاجتماعي على أسس مغايرة كلية لما كانت عليه الثقافات السياسية في سوريا أو مصر أو العراق. فهناك أولاً طرف هو السعودية، وطرف جهادي داخل السعودية، الذي انتقل لاحقاً إلى أفغانستان وصنع هناك القاعدة، وإلى الشيشان وغرب الصين وغيرها.
حمود: وأيضاً البوسنة والهرسك.
العظمة: تماماً. فهؤلاء ليست لهم علاقة بالأرض وتحوّلاتها. وهذا هو السبب أنك ترى أنهم يجنّدون في سوريا أفراداً ألبانيين وتركستانيين، ثم يمنحونهم رتباً في الجيش السوري. ومن قادة أولئك مصري محكوم بالحبس المؤبّد، وأيغوري يهدّد الصين بالجهاد من دمشق وتنبأ للصين مصير من اعتبرهم كفّاراً. لم يأت أولئك إلى سوريا للمشاركة في ثورة سوريا، بل للجهاد في سبيل الله.
حمود: هل ستكون هذه الإجراءات مؤقتة في ظلّ مجرى الأحداث الآنية في سوريا، وخاصة أنّ هذه الجماعات قد قاتلت مع الشرع، ويبدو أنّ الشرع يلزمه بالدرجة الأولى الولاء، لهذا يمنحها هذه الرتب؟
العظمة: نعم، لكن هناك سبل أخرى لمجازاتهم خيراً إن ارتؤي في ذلك حكمة، لكن أن يتم إدخالهم في جهاز الدولة السوري، وأن يدخل تركستانيون ليغدوا ضباطاً كباراً في الجيش السوري، فهذا لا يجوز وغير قانوني.
حمود: نعم هذه خطوات غير قانونية على الإطلاق. وعلى كل فقد تمّ انتقادهم بشكل كبير.
العظمة: استقرائي من هذه التصرفات أنّ ثمّة عقلية ما تقف وراء ذلك أو توصيفات أيديولوجية معينة لهذا. مثلاً سمعت أنّهم كوفئوا لنصرتهم الله. ما العلاقة بين نصرة الله والجيش السوري؟ انتبه: نصرة الله، وليس نصرة سوريا. وهنا ترى كيف أن الأمور تختلط ببعضها البعض، وليس من الواضح اتجاهها. وخشيتي هي أنّ الطابع السلفي الجهادي، وهو المنفصل عن الثقافة السياسية في سوريا، يمكن أن يكون في الأيام والأسابيع والأشهر القادمة هو الغالب، إذا ما تمكنوا من الاستئثار بالبلد.
حمود: أنا ليست لدي هذه الخشية الكبيرة حول أن سلفيّة جهادية (كما هي مرسومة في أيديولوجياتهم المخيالية) يمكن أن تحكم سوريا أو أن تسيطر على الثقافة السياسية في هذا البلد.
العظمة: طبعاً تصريحات أحمد الشرع إلى الآن تتسم بالمعقولية، ويمكن أن تكون مقنعة. بيد أن الإشكال هو أن لديه جماعته، وأن في تصريحاته مزيجاً من التعويم المطمئن الملتفّ على القضايا، والتحديد الشرعي. خطاب سياسي يتلمّس الممكن.
حمود: أستاذ عزيز، هذا هو مربط الفرس: جماعته، وهذه برأيي إحدى أهم التحديات أمامه، لكن سلفيّة جهادية في سوريا كنظام حكم، أستبعد ذلك.
العظمة: لقد حدث ذلك في إيران وأفغانستان، والسودان، وأيضاً في باكستان.
حمود: بيد أن الوضع جداً مختلف في سوريا المعقدة داخلياً بخرائطها الاجتماعية والإثنية، وخارجياً بعقد إقليمية ودولية.
العظمة: أكيد، وأحمد الشرع نفسه يقول إنّ سوريا ليست أفغانستان. بيد أن خشيتي أن أفقه الذهني والحضاري أفغاني دون العمائم ومكمّلاتها ودون منع الهواء عن النساء، وسعودي على توصيف تخلّى عنه السعوديون، وليس سورياً بما تنطوي عليه هذه الصفة من جمهورية وقانون مدني وترقّي اجتماعي وحضاري.
حمود: عموماً هو صرّح أن “هواه” سعودي، لكن هذا بسبب تنشئته في طفولته المبكرة في السعودية.
العظمة: لا، ليس فحسب بسبب هذه التنشئة، بل كذلك من ناحية الأفق الأيديولوجي.
حول دعوى علمانية النظام السوري السابق
حمود: أحبّ أن أضيف هنا أنه بحسب أحد الخبراء الذي كان على اطلاع قريب من أحمد الشرع أنّ تنشئته الأساسية لم تكن تنشئة أيديولوجية سلفية. والده كان قومياً وله مؤلفات في مجال الاقتصاد، ولم يكن دخوله القاعدة إلا أمراً طارئاً حينما بدأ نظام الأسد يجنّد التنظيمات الجهادية للعراق، فذهب مع هؤلاء للقتال في العراق، كما حدث مع جزء آخر من السوريين. الشرع بالأساس لم يكن إسلامياً، بل غدا إسلامياً نتيجة ظروف محدّدة. وربما هذا يفسّر بجزء منه هذه التنقلات عنده. عموماً، سنعود إلى هذه النقاط لاحقاً. لكن اسمح لي الآن الانتقال إلى نقطةٍ أخرى تتعلّق بمسألة العلمانية. إلى أيّ حدٍّ كنتَ تعتبر أن هذا النظام مرتبط بالعلمانية؟ للأسف هناك عند الكثير من الشعوب العربية ربط بين العلمانية والتوحّش السلطوي، كما هو الأمر عند الأسد. وهناك من يرى أن من ينادي بالعلمانية في سوريا اليوم؛ إمّا أنه مرتبط بالنظام القديم (وهم يسمون اليوم بفلول الأسد) أو من الأقليات. وهنا نعود مرّة أخرى إلى المربّع الأوّل في الربط بين العلمانية والأقليات. ما تعليقك؟
العظمة: نعم. لكن هناك الكثير اليوم من ينادي بالعلمانية ممن لم يكن من فلول الأسد. العلمانية قضيّة جداً معقدة، ليست بالوصفة الجاهزة، ليس لها بنود ما يمكن التأشير على كلّ بند ما إذا ما أنجز. أرى أن الكثيرين يطرحون السؤال المجانب للصواب. لا يتعلّق الأمر بما إذا كان “النظام” علمانياً. الأمر يتعلّق بالدولة ذات نظام تعليم حديث وقانون مدني ودستور موضوع باسم الشعب ومحاكم مدنيّة وغياب للعلاقة المؤسسية بين أجهزة الدولة ورجال الدين. كلّ هذا وغيره الكثير يجعل من سوريا بلداً علمانياً دون أن يقوم على إيديولوجيّة علمانيّة. كان ثمة نمط علماني بيّن في انفصاله عن الدين وتمايزه عن الأمر الديني لفئات اجتماعية عريضة، داخل النظام ولدى أكثرية المتعلمين لدى الفئات المرفّهة. وهذا كان قائماً دون إعلان أن العلمانية هي مذهب لهم. خذ مثلاً أيضاً بلداً مثل بريطانيا الذي يُعتبر من أكثر البلدان علمنة، لكن هناك دولة ولها كنيسة دولة يرأسها ملكات وملوك بريطانيا. فالقضايا متراكبة مع بعضها البعض، ولو كان الكثير من مثقفينا يؤثرون التبسيط والصيغ الجاهزة والقيام على المساجلات والأهواء. ولكن لا تنسى أنه في آواخر السنوات الماضية قد انهار النظام التعليمي وهاجرت أفضل الكوادر المتعلّمة من سوريا إلى بلدان مختلفة. هكذا ليتم إفراغ البلد من أفضل الكفاءات، مع تمدّد إسلامي اجتماعي غيبي رعته أجهزة الأمن ورئاسة الجمهورية منذ الأيّام الأولى لحافظ الأسد، واستفحل في العقد الأخير.
حمود: نعم أستاذ، لكن سؤالي هو تماماً عن النظام السوري وارتباطه بالعلمانية. مؤخراً، وبعد سقوط النظام، مؤخراً خرجت تظاهرة لافتة في ساحة الأمويين، وبدأ بعضهم ينادي: “علمانية، علمانية” (وهذه ذكرتني بالمناسبة بالإسلاميين: “إسلامية، إسلامية”. فتعاملوا، كما قلت مع العلمانية كما لو أنها وصفة مثل: “الإسلام هو الحل”. ثم ليتم الكشف لاحقاً أن جزءاً من هؤلاء المتظاهرين كانوا من الداعمين لنظام الأسد. وعلى إثر هذا بدأت حملة على وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها ضدّ العلمانية التي قصروها للأسف، إما على التسلط والاستبداد أو الفلتان بالمعنى الديني (وهم ما قام به بعض الأصوات المشيخية الدينية).
العظمة: هذا التهجم على العلمانية ليس جديداً في ربطها بهاتين الصورتين.
حمود: لكن الآن بدأ يتم تفعيل ذلك على ضوء السياق الحالي وبشكل حاد واستقطابي عال.
العظمة: نعم هذا صحيح. وأضيف أنه هناك كان عبارة أصابها قدر من التشويش، وهي “الدولة المدنية”. الذين تحدثوا عن الدولة المدنية، وما أكثرهم، استخدموها للتدليس عن وعي أو بسذاجة، واعتقد الكثيرون أنّها قد تكون كناية عن العلمانيّة المُضمَرة. أرادوا الامتناع عن استخدام مصطلح العلمانية، لمحاباة الإسلاميين منذ الثمانينات، مع تكثيف في ربيع دمشق. وقد ظنوا أنّ المدنية هي ليست العسكرية، في كلام ينطوي على بلاهة موصوفة. إنّ استعمال اصطلاح المدنية بدل العلمانية هو تدليس للموضوع، وتفتح المجال أمام تأويلات كثيرة للمدنية، لمن اهتم بالمعرفة. أحمد الشرع أو غيره (لم أعد أذكر) أشار إلى أمر ذي دلالة وهو “دولة مدنية شرعية”. ممكن أن تكون الدولة مدنية، أي لا عسكرية، وبنفس الوقت تكون دولة قائمة على أسس الشريعة، أي دولة إسلاميّة. بمعنى دولة يحكمها الشرع بأناس يلبسون البدلة مع كرافات أو دونها. ولنا أن نظنّ (وسبحان من لا يخطئ) أنّ ارتداء الكرافات ممن يمسكون بالسلطة الآن في سوريا هو فقط كي لا يتشبّهوا بالإيرانيين الذين يرتدون الجاكيتات ويتفنّن بعضهم بالقمصان. يبدو لي أننا في سوريا اليوم وكأننا نشهد مسرحية على أرض الممارسة والواقع.
حمود: يعني الأمر لا يرتبط بالترقي (يضحك)؟
العظمة: لاحظ أنّ كل الطاقم حول أحمد الشرع، غدوا يتزيّون بنفس الزي، بين ليلة وضحاها اقتداء بزعيم الهيئة. في أوّل يومين رأيت أحمد الشرع يجتمع مع أناس وهم جالسين على الأرض في غرفة مكتب فيها كراسي، وهذه جلسات تذكر كيف كان يجلس عناصر القاعدة، لأنه بحسب هؤلاء فإنّ الجلوس على الكراسي يعتبر تشبهاً بالكفار. أرجو ألا تغيب هذه التفاصيل الصغيرة عن ذهنك
حمود: مهما يكن، لكن ألا تعتقد أن هذا اللبس سيفرض شيئاً على تغيير في الذات.
العظمة: أتمنى ذلك.
حمود: بالعودة لسؤالي. هل تعتبر طغمة نظام الأسد علمانية؟
العظمة: سبق وأن علّقت على هذا الأمر. استخدم النظام البائد الدين لأغراض سياسية وللضبط الاجتماعي، ووسّع مجال التدين في المجتمع، ومنح وزارة الأوقاف صلاحيات كبيرة، وألغى منصب المفتي. وأنت حمود كتبت عن هذه القضايا وتعرفها جيداً.
حمود: اسمح لي أن اختلف معك قليلاً في مسألة علمانية النظام. أتفق معك تماماً حول علمانية هيكلية الدولة كمؤسسات، كأجهزة وعلمانية فئات معينة من المجتمع. لكن أقصد بالنظام السوري كفئة تسلطية قادها بشار الأسد، لا أرى بها أبداً شيئاً من العلمانية. لا بل في العشر السنوات الأخيرة غدا هناك قدر عال من أسلمة المجتمع والدولة تقوده هذه الفئة المتسلّطة بقيادة بشار الأسد، ووصل الحد بأسلمة الدستور، مع قدر هائل من الحضور الديني الشيعي الكبير في سوريا، وعمليات التشييع والجماعات الجهادية الشيعية التي يدعمها الأسد، فضلاً عن إعادة أسلمة الخطاب السني بما يتوافق ومسطرة التسلّط للأسد. وأعتقد أن هذه الأسلمة بدأت قبل الثورة السورية بسنين طويلة حينما أخذت الدولة العربية تتدّين أو ما أسميته أنت بـ”تمشيخ الدولة” في كتابك “العلمانية من منظور مختلف” (والذي ترجم مؤخراً للإنكليزية).
العظمة: نعم أتفق معك. كلامك لا يناقض كلامي. الناحيتان هاتان موجودتان: العلمانية في الثقافة السياسة وعدم إدخال الدين بها، وهذا حاضر في المجتمع، وبين المجتمع والدولة، ولا تنسى أنّ هذا نتيجة تطوّر مائة سنة، والناحية الأخرى هي التدخل من قبل أجهزة الدولة، وتحديداً الأمن ومؤسسة الرئاسة لإفساح المجال أمام التمدّد الديني. وبالفعل، هذا ما يرضي الأميركيين وغيرهم. تؤكد الوصفة الأميركية للاستقرار في بلد غير مستقر على مسألة التآلف بين الدين، كنمط للضبط الاجتماعي، وبين العسكر للضبط الأمني. وهذا ما حصل في السودان وفي باكستان في شكل بالغ الوضوح. واليوم حينما يتحدّث الأميركيون والأوربيون عن سوريا، فإنهم يتحدثون عن دولة مليّة، دولة بما هي تجمّع ملل. وأنا اعتقادي أن أفق هيئة تحرير الشام هو أفق مللي يتوافق مع هذه النظرة. فبالتالي إذا كان هناك من “مشاركة” على الفهم الذي نراه في تصوّر الهيئة والأميركيين والأوروبيين، فإنها ستكون بين أعيان الطوائف. ولكن الواقع أن التمايزات هذه تدمّر التمايزات الأهم، السياسية والاجتماعية والأيديولوجية وغيرها، وهذه عابرة للملل والنحل والجماعات المحليّة. من أخطر الرؤى المُعاندة لفهم الواقع والتعامل معه، بل والقامعة له، اعتبار كلّ من كان مسلماً بالولادة إسلامي الهوى في السياسة. وهذه مقالة محورية لدى الإسلام السياسي. الولاء الإسلامي في السياسة هو خيار أيديولوجي، وليس نابعاً من طبائع المجتمع. لهذا إنّ اعتبار السنة في سوريا كوحدة صمّاء لهو خطأ كبير، ذلك أن السنة في سوريا هم جماعات متباينة (إضافة إلى الطوائف الأخرى)، وهذه جماعات اجتماعية وليست سياسية. فعملية التفكير في سوريا كدولة ملّيّة هي عملية تحويل للجماعات الإثنية والطائفية إلى أحزاب سياسية، كما حدث في العراق. والحال، فما تحاول القوى فرضه في سوريا هو النموذج العراقي، الذي استُلِم من النموذج اللبناني.
حمود: يعني أشبه بمحاصصة.
العظمة: بكلّ تأكيد. وهذا هو أفقهم، وخاصة أنّ هيئة تحرير الشام، وهي فرقة سلفية جهادية، تعتبر نفسا ممثّلة لملّة السنّة. إنهم مسلمون، أو سمهم (وليس كلّهم) مسلمين سوريين، أو مسلمين صدف أنهم موجودون في سوريا. وأنت تذكر التبريرات التي أطلقها بعض أعضاء الهيئة للاحتلال الإسرائيلي لبعض المناطق في الجنوب السوري بعد سقوط الأسد، بأنه طبيعي أنّ لدى الإسرائيليين تخوّف، وأنّهم عملوا على حماية أنفسهم. أما الشعور الوطني السوري والسؤال الفلسطيني المرتبط به عضوياً فهما من الأمور الغائبة على الهيئة. وهذا يعود مرة أخرى لكونهم غرباء عن الثقافة السياسية السورية وعن تاريخ سورية الحديث، فهم قاطنين في زمان آخر، زمان تقادم.
حمود: نعم أذكر هذا التبرير، وقد أتى على لسان محافظ دمشق الذي عيّنوه. وهذا بمثابة “الكرت” الذي قدموه لإسرائيل. لكن هذا لا يختلف كثيراً عن منطق نظام الأسد الذي ربط كذلك منذ بداية الثورة السورية بين أمن إسرائيل وأمن سوريا. ولم يصدر عن النظام أي شيء إزاء كلّ ما فعلته إسرائيل في السنوات الأخيرة في سورية من اعتداءات.
لكن قبل أن أختم موضوع العلمانية، عاد اليوم الربط بين العلمانية والأقليات، وخاصة حينما تشاهد أصواتاً كثيرة من الأقليات (وتخيل منهم رجال دين!) تنادي بالعلمانية، ليس حبّاً بالعلمانية ولا إيماناً بها، بل لمواجهة هذا الوضع الجديد في سوريا. يا لها من علمانية! يعني نداء بعلمانية ناتج عن وضع أقلوي.
العظمة: ليس ناتج عن وضع أقلوي فقط، وحتّى في الحدود التي كان فيها على هذه الصفة في معرض المدافعة والحماية، فمنه فائدة وطنيّة عامّة، وهناك فعلاً دلالة للقول السائر “رُبَّ ضارّة نافعة”.
حمود: وهنا نعود سنين إلى الوراء، إلى النقاشات القديمة العقيمة، حول ارتباط العلمانية بالأقليات، وبأنه لا علاقة بين العلمانية والأكثرية.
العظمة: ليس صحيحاً على الإطلاق الربط بين الأقليات وبين العلمانية، واستبعاد الطائفة السنية منها.
القادة الإسلامويون الجدد وأسلمة الدولة
حمود: ربما تذكر أستاذي الكريم في حوار لي معك الذي أخرجته في كتاب “سورية والصعود الأصولي، دار رياض نجيب الريس، بيروت، 2015” وصفك لتنظيمات مثل داعش، بكونها قادمة من اللامكان، (بمعنى الخروج على الأزمنة التاريخية، الخروج على الحدود والجغرافية، وبناء شبكات مكان مخيالية، مثل دابق، الشام، القسطنطينية، وهي مفردات لا تدل على وحدات تاريخية وجغرافية بل إلى بنى مخيالية). هل هذا ينطبق على تنظيم هيئة تحرير الشام، الذين قادوا عملية ردع العدوان والذين يقودون اليوم كلّ المكان؟
العظمة: أخشى ذلك. وهذا هو أحد أسباب التوجّس عندي. لذلك استخدمت اصطلاح الغرباء في وصفهم. الغربة ليس بمعنى أنهم من إدلب أو من الأطراف أو من قرى حلب وغيرها، وقد تكون هذا الآراء متداولة لدى الكثير من الدمشقيين والحلبيين الشاكين من ترييف المدينة، بل غربة عن الثقافة السياسية السورية وتاريخها ونظمها. بمعنى أنه يمكن أن يكون سورياً من حيث المنشأ، لكن أفقه الشرعي لا مكاني، حيث يمكن تطبيق الشرع في كلّ مكان، وبهذا الاعتبار فإنّ سوريا بالنسبة له وبالنسبة لرفيقه الألباني أو التونسي في الجهاد مكان مجرّد، لا يوصف بجغرافيته أو بتاريخه أو بشعبه، بل بالجهاد والفتح (وبعضهم يتحدّث عن فتحه للشام) وإقامة الحدود فيه.
حمود: ربما هنا في هذا السياق وجهة نظر أخرى، بحسب ما يظهر لبعض المراقبين الآن. ربما ليس هناك تخوّف من أحمد الشرع، بل من الفصائل المحيطة به والانشقاقات البينية التي يمكن أن تحدث بينها وما إذا كانت هذه ستؤثر عليه لاحقاً. أما بالنسبة له، كما توضح فإنّه قد مرّ بتغيرات. ألاحظ أن ثمة “سورنة” لخطابه وجهاده، بدأت منذ دخول جهاده الأراضي السورية، وبدأ يبتعد عن الأممية الجهادية واعتبار سوريا أنها إمارة إسلام. لقد كان الشرع أوّل من انقلب على البغدادي وخلافته وأمميته الإسلامية وكسر الحدود، وكان أوّل من حاربها، قبل أن يحاربها التحالف الدولي وآخرون من الأكراد، ثم أسّس جبهة النصرة (وهذه لاحظ كانت لنصرة الشام)، فربط جهاده بسوريا، لا وفقاً لما تفرضه أيديولوجية القاعدة، بل وفقاً لما تفرضه سوريا في محاربة النظام، ثم ألغى هذا الاسم، النصرة. وإذا كان الأمر هذا عائداً بغية إرسال رسائل للخارج (تحديداً الغربي)، فإنه أيضاً كان له استحقاقه على الأرض بخضوع هذا التنظيم للشروط السورية ضمن نطاق إدلب. الإرهاب لا شك، كان ملتصقاً وما زال بالشرع وجماعته، بيد أنني أتحدّث عن التحوّلات التي استمرت في حكم إدلب واستمرت لاحقاً بوتيرة أعلى في سياق معركة ردع العدوان واليوم في دمشق. إلى هذه اللحظة لا أستطيع أن أنظر إلى خطاب الشرع بأنه وطني، بل سوري، ولا أعتقد أنّ خطابه سيغدو وطنياً طالما أن الإسلام سيكون المرجعية له. وعموماً تخوفي أنا هو من الأممية الجهادية التي ما زالت مسيطرة عند جماعات تعمل عنده وكيف سيتعامل هو معها.
العظمة: صحيح. يبدو أن الشرع ذكي جداً وبارع، وله شخصية قيادية وكاريزماتية، ويتسم تصرّفه بالواقعيّة، وهذا باعتقادي ما أبعده عن تهيؤات البغدادي وأرجعه إلى حيث وجد جذوراً وسياقاً. علاقات الجبهة ثم الهيئة تبدو بالغة التعقيد ولا أرى أنها تسمح بالقطع حول تحديد الأصدقاء والأعداء، ما عدى الكفّار والمرتدّين وأعداء الله حسب توصيفهم لهؤلاء. كما ذكرت أنت، للسيد الشرع أن يتصرّف مع جماعته حسب مقتضيات الأحوال المتقلّبة. ممكن هنا أن نستذكر عبد العزيز بن سعود وعلاقته بالإخوان السعوديين (إخوان من أطاع الله من آل عتيبة ومطير وغيرهما) في عشرينيات القرن الماضي. قدّم الإخوان له إنجازات كثيرة. لكن حينما تمردوا عليه قضى عليهم بقسوة بالغة لكي يوطّد مركزه. أما من بقي منهم على قيد الحياة، فقد أحالهم إلى مناطق الهجر ووطّنهم هناك. وعموماً ما يتحدّث به الشرع إلى الآن مطمئن، بيد أنه يبقى في إطار العموميات. وهذا مفتوح على احتمالات عديدة مرتبطة بما سيجري على الأرض.
حمود: واضح منه أنه يعمل بحس جداً سياسي وبراغماتي. لكن التحدي كما قلنا هو من جماعته.
العظمة: وأيضاً التوجّس من أننا لا نعلم مقاصده ومدى وضوح هذه المقاصد وعلاقتها بحدود الاستطاعة.
حمود: دعني أسألك هذا السؤال بشكل مختصر: كيف تنظر له: الجولاني، أم أحمد الشرع؟
العظمة: الاثنان. لا تستطيع أن تستخرج الجولاني من السيد الشرع وترميه. ما رأيك أنت؟
حمود: إنني أنظر إلى الأشياء ضمن سياقاتها التي تفرض على الشخص استحقاقات رغم التوجهات الأيديولوجية. أنا يتردد على لساني كلاهما، لقب الجولاني واسمه الأصلي. بيد أنني أنظر له كأحمد الشرع منذ بدأ بدخول دمشق وتقلده السلطة، بيد أنه، وفي سلوكه مع جماعته، يبقى بالنسبة لي الجولاني.
العظمة: جميل، هذا التعبير جداً بمحله. إذاً لننتظر ونرى كيف سيتعامل مع جماعته.
حمود: بحسب خبرتي بهذه الجماعات، من المتوقّع أن يحدث هناك انشقاقات بينها.
العظمة: وهناك الآن من يكفره.
حمود: ما رأيك بالأسلمة التي أخذت اليوم تنتشر في بعض المناطق والمدن السورية، حول الدعوة إلى العفاف الديني وارتداء الملاية، والتبشير الديني في الشوارع؟
العظمة: هذا الشيء مقلق، لا سيما وأنني أرى العشوائيّة تتخذ مساراً وربما ديناميّة.
حمود: لقد كتبت مادة صغيرة حول عدم إمكانية أن تُحكم سوريا بحكم إسلامي متشدّد، حتى ولو تربّع على السلطة إسلاميون. وقد رأيت أن صعود هؤلاء لا يعني على الإطلاق صعود الإيديولوجية الإسلاموية وإمكانية أن تحكم. ما رأيك؟
العظمة: أنا أعتقد أن هذا ممكن أن يتأسس حكم إسلامي في سوريا. الموضوع لم يحصل، لكن من الممكن حدوثه. هذا يعتمد في نهاية الأمر على توازنات داخل المجموعة الحاكمة.
حمود: لكن إذا كان الأمر كذلك بحسب وجهة نظرك، ما هو إذاً هذا الإسلام في هذا السياق الذي سيحكم؟
العظمة: بمعنى نظام قانوني شرعي، كما حدث في السودان مثلاً.
حمود: لكن ليس كما حدث في أفغانستان؟
العظمة: لا ليس كما حدث هناك. مستحيل أن يحدث في سوريا إلى تلك الدرجة في أفغانستان، ولكن الفصيل الأيديولوجي مشترك في وضعين متمايزين.
حمود: الناس عموماً تتخوّف من هذا الشيء. لكن لا أعلم إذا كنا سنطلق على هذا بالحكم الإسلامي كما هو مرسوم في أيديولوجية الشرع وجماعته. أنا من جهتي كما قلت استبعد حكم السلفية الجهادية عن حكم سوريا. وعموماً، اليوم استمعت لمقابلة وزير التربية المعيّن حديثاً من قبله وهو يبرّر القرار بالتعديلات على المناهج الدراسية. ففي جواب على أحد الأسئلة ما إذا كانت سوريا ستنتقل بمناهجها الدراسية من “بعثية إلى إسلاموية”، ردّ بأن المناهج ستكون “علمية” وليست إسلامية، حيث إن: “الدولة فيها كافة الأطياف، كافة الطوائف، متعددة المذاهب، لا يمكن أن نلزم هذه الدولة بمذهب أو دين معين. كل حسب دينه وحسب طائفته“.
العظمة: هذا كلام لا محصّلة له، ولكنه يشي بأنه يعتقد أنّ بإمكانه فرض صورته للإسلام على المسلمين. وهذا هو الحكم الملي. مثلاً الخمور، تُسمح للمسيحيين، وتحرّم على المسلمين، كما في باكستان وفي مصر أيام رمضان.
حمود: ماذا سيفعلون مع المسلم الذي سيشرب الخمور؟ هل سيجلدونه مثلاً؟
العظمة: ربما يجلدونه، ربما يحكمون عليه بالسجن، ربما يفرضون عليه غرامة مالية. طبعاً هذا إذا استقرت لهم الأمور، ونحّوا جانباً القانون المدني السوري وقانون العقوبات فيه، واستدخلوا على سوريا تشريعات غريبة عليها. ما زلنا في موقع التوجّس. لا سيّما وأننا رأينا وزير العدل الحالي يشارك في مشهد إعدام سيدتين في إدلب، ممّا يعتبر جريمة في القانون السوري، الذي نراه اليوم (أي الوزير) قيّماً عليه.
حمود: ربما هناك اتجاه، على ما يبدو، لتأسيس حكم محافظ (وهنا ثمة فرق بينه وبين حكم إسلامي يتسم بالسلفية الجهادية، كما هو مرسوم في أيديولوجيتهم)؟
العظمة: أصبحت مسألة حكم محافظ تحصيل حاصل. ربما سيكون هناك تعديل للقوانين المدنية السورية إلى قوانين شرعية. ربما سيدخلون بمحاكم شرعية لا مدوّنة قانونية لها (الفقه يعتمد على السوابق، كالقانون البريطاني)، أو يُدخِلوا بمدونة الأحكام المدنية عناصر شرعية تأسيسيّة، أو يذهبوا مذهب عبد القادر عودة في صياغة مدوّنه، للفقه الجنائي، في أمور تتجاوز الأحوال الشخصيّة بأمور الزواج، بل تشمل التعاقد والإيجار والمعاملات الماليّة وغيرها. وهذا ما حدث كذلك الأمر في السودان وإيران. وهذا كلّه ضمن الممكنات. لكن يبدو لي حمّود أنك ترغب أن تكون متفائلاً فيما سيأتي.
حمود: (يضحك). من جهة أحبّ أن أكون متفائلاً، ومن جهة أخرى لا أرى أن الدولة السورية يمكن أن تتطابق مع المخيالية الأيديولوجية للسلفية (وحتى الكثير من اتجاهات الإسلام السياسي) وتستوعبها، حتى وإن فرض هذا في البداية. أقول هذا إلا في حال ذهاب البلد باتجاه الفدرالية وأخذ السنة حكماً لهم، والدروز حكماً ذاتياً، والأكراد كذلك الأمر. إذا حدث مثل هذا، ممكن أن يتجه الأمر إلى حكم إسلامي ما. لكن سؤالي ماذا سيكون دور الأتراك حيال فرضية حكم إسلامي في سوريا؟
العظمة: أنا أعتقد أن الأتراك سيحاولون تلطيف الأمور، بناء على تجربتهم. حزب العدالة والتنمية هو حزب إسلامي بكلّ ما تعنيه الكلمة، بيد أنه توافق مع الاتجاه الغالب في المجتمع التركي بعد التطوّر الذي حصل فيها. فهو يحاول أن يتشدّد هنا وهناك (مثل قضية الخمور التي عليها ضرائب عالية في تركيا أو المطاعم التي لا يسمح لها تقديم الخمور في مكان مفتوح على الشارع). وهناك في سوريا كذلك الأمر تطوّر في المجتمع، لكن في السنوات الأخيرة دبَّ النكوص على أرضيّة المجتمع وفشا في الكثير من أنسجته، اجتماعياً ومعرفياً.
(عزيز العظمة: استخدم النظام البائد الدين لأغراض سياسية وللضبط الاجتماعي، ووسّع مجال التدين في المجتمع، ومنح وزارة الأوقاف صلاحيات كبيرة، وألغى منصب المفتي)
حمود: هناك الآن كثير من السوريين يودون لو تُحكم سوريا كما هو الأمر في تركيا. لكن برأيي أنّ هناك افتراق كبير بين التجربتين السورية والتركية. أردوغان تقلّد الحكم أساساً الذي هو نتيجة نظام علماني عميق في الدولة، بعكس سوريا. وحتى أردوغان نفسه مختلف في إسلاميته عن إسلامية قادتنا. وربما تذكر أنه حينما زار مصر في فترة حكم الإخوان، نصحهم بالعلمانية، فقام الإخوان ضده. مجتمعنا السوري جداً محافظ مقارنة بالتركي. ألا ترى ذلك؟
العظمة: مجتمعنا السوري هو أقل تقدّماً وترقّياً. ذلك أن التقدّم هو معيار فعلي، اجتماعي وتاريخي. والنكوص أيضاً مفهوم يحيل على المعاينة. قد تذكر نوربرت إلياس Norbert Elias (ت. 1990) ومفهومه عن عمليات التحضر، لديه كذلك مفهوم النكوص عن ذلك (Dezivilisation). قال بذلك إشارة إلى المجتمع الألماني خلال الحرب العالمية الثانية. وتلاميذه الآن يطبقون مفهوم النكوص هذا على مجتمعات مثل المجتمع الأميركي ومجتمعات أخرى. المجتمع السوري مرّت عليه مراحل ترقت بها هيكلياً كثير من المجالات، بيد أنها أصيبت بالنكوص في السنوات الأخيرة، في سلوك الناس، وأفهامهم، وأنماط سلوكهم وتعابيرهم.
حمود: يبقى تخوفي أنا من مسألة الحريات ومن الأسلمة في المجال الاجتماعي أكثر منه في فرض حكم إسلامي سلفي جهادي من فوق. وربما الآن هناك في سوريا قابلية اجتماعية لهذه الأسلمة. اليوم هناك صور هائلة تأتي من هنا وهناك في مناطق سورية مختلفة حول إعادة أسلمة للمجتمع السوري تقوده بشكل منحط جماعات جهادية. حول مسائل الحجاب، والالتزام الشرعي إلى ما هنالك.
العظمة: الأسلمة حدثت في سوريا وإلى درجات كبيرة، ولو كانت دوافعها دفاعيّة وابتغاء للسلوى في ظروف بالغة القسوة، وهناك بالطبع قابلية لتقبّل حكم باسم الإسلام، ليس أقلّها لأنّ للعبارة رنين محمود. وأعتقد أن أحمد الشرع يعلم هذا. أما فيما يخص الحريات، لا تنسى أن الحرية في التعريف الفقهي هي كون المرء غير عبد، وهذا مفهومهم الشرعي عن الحرية. وهذا لا يتطابق مع المفاهيم الحالية للحرية.
حمود: وماذا سيكون وضع اللادينيين وفق هذه الرؤية، الذين لا يعتبرون أنفسهم مسلمين أو مسيحيين؟
العظمة: هؤلاء لا وجود لهم، هؤلاء سيكونون كفاراً وفق رؤيتهم، ولن يتم الاعتراف بهم. هذه قضية جداً أساسية، إنها قضية ردة. تخيّل أن شخصاً سيذهب إلى وزير العدل ويقول له: ليس لدي دين!
حمود: ماذا سيفعلون في هذه الحالة؟ هل سيتم الاستتابة لثلاثة أيام؟
العظمة: ربما. وإذا كانوا لطفاء معه، ربما يودعوه السجن.
حمود: أستاذي الكريم أنا أتحدّث عن قوانين في ظلّ دولة ربما تتشكّل.
العظمة: لكن يجب أن تفرّق بين الدولة وبين الإمارة الإسلامية التي يعتقدون بها. وهذا هو أفقهم. لم أسمع أي ذكر من أعضاء الهيئة لكلمة الجمهورية. سمعت عبارة الدولة، ولكن هذه لا تشير إلى مرجعية الكيان، بل إلى سلطة محض.
حمود: هل تتخيّل أنه سيدخل إذاً في الدستور أحكام المرتد؟
العظمة: لا، ليس في الدستور لأنه ليس الموضع المناسب لذكرها، لكن ربما تدخل في أحكام التشريع. وبالمناسبة تمّ إلغاء أحكام الردة سنة 1853 في ظلّ الدولة العثمانية، وليس لها مكان في القانون السوري.
حمود: إذاً بهذه الحالة سيتم النكوص بنا إلى ما قبل هذا التاريخ.
العظمة: نعم، النكوص إلى ما قبل ذلك. وتذكر قوانين الحسبة في مصر التي ليس لها وجود في القوانين المصرية، ولكن كان هناك بعض من القضاة من الإخوان المسلمين، قاموا تجاوزاً للقانون، بقوانين الحسبة، التي يعتبر الشخص وفقها مرتداً، فيتم مثلاً تطليق المرأة من زوجها ولا يتم التوريث إلى ما هنالك.
حمود: يعني تقريباً كما حدث مع ابتهال يونس، حينما تم تطليقها من نصر حامد أبو زيد بحجة ارتداده. لكن سأعرج على نقطة أخرى. يصوّر الآن الشرع في نظر الكثير من السوريين كما لو أنه المنقذ. وهذا ما سيعزّز توجهاته. لكن هل لديك أمل أن تصعد في مقابل هذا أصوات ومنظمات مدنية يمكن أن تشكل ثقلاً علمانياً ضمن هذه المسارات؟
العظمة: هناك بالفعل في سوريا هذه الأصوات والمنظمات التي لها حضور جيّد، لكن السؤال هل هناك إطار رابط سياسي واجتماعي لها يمكن أن تشكّل تياراً فاعلاً سياسياً. بحسب رؤيتي لا أرى ذلك متوفراً وربما لن تسمح السلطة الجديدة بذلك وتقف ضدّ هذه النشاطات، وخاصة أنّ الشعب السوري الآن في وضع منهك. ثم إن أحمد الشرع تحدّث عن إعادة تشكيل الدولة. ما معنى ذلك؟ دولة إسلامية؟ إذا كان الأمر كذلك، فإنه ربما سيقف ضدّ هذه النشاطات تلك.
حمود: برأيي أن ثمة ديكتاتوراً يسكن ضمن هذه القيادة الجديدة. وهذا ما هو واضح في سلوكياتهم إلى الآن بعد خمسة أسابيع، من الاستئثار بالسلطة، إلى التعيينات من لون واحد، إلى القرارات المجحفة التي تمسّ الكثير من القضايا. هل يستندون بهذا إلى ما يسمّى بالشرعية الثورية؟
العظمة: ليس هناك شيء اسمه الشرعية الثورية. الوضع اللاحق لثورة أو لنصر عسكري يمثّل أمراً واقعاً يتجاوز الشرعية. وبالمناسبة، دعنا لا ننسى أنه لا يجوز اختزال الثورة في هيئة تحرير الشام واستقرار قياداتها في دمشق. هناك ما يسمّى بالواقعة الثورية أو واقعة النصر، وكلّ هذه الوقائع حالات استثناء حسب استعمال كارل شميت Carl Schmitt (ت. 1985). القرارات والتعيينات التي تشير إليها تنم عن سلوك فئة استلمت السلطة. ثم لاحظ أن هذه لا تصدر عن قوانين أو مراسيم تستند إلى شرعية معينة، بل قرارات تنفيذية مباشرة. إنهم لا يتحدثون عن جمهورية ثانية وثالثة، بل عن نوع آخر من الدولة، ضمن تأسيس جديد وأفق جديد اصطحبوه معهم من التجربة السلفية. من هنا توجسي منهم. لكلّ جماعات الإسلام السياسي شبق للسلطة. وحتى جيشهم الذي يريدون تأسيسه، فهو يبدو أنّ نموذجه قد يكون وفق توصيف الميليشيات.
حمود: هل من المعقول أن يستمر هذا الحال إلى ثلاث أو أربع سنوات إلى حين تشكيل الدستور (كما صرّح الشرع)؟
العظمة: وهل هناك من داع لوجود دستور؟ إذا كان ثمة هناك شريعة، لماذا إذاً الدستور؟ وما الدستور بعرفهم إلّا تطاول على حاكميّة الله؟
حمود: أنت ترى هذه الإمكانية في تشكيل دولة إسلامية، لكن ماذا سيكون الموقف الأوربي والأميركي حيال هذا؟
العظمة: إذا لم يصدر عن هذه الدولة مشاكل وعدم استقرار، فلن يكون لديهم مانع من قيام دولة إسلامية، شريطة ألّا تكون جهادية. لن يمانعوا من الدولة الإسلامية، وخاصة إذا ما فكرنا في توجههم الذي يقوم على أنّ شعوبنا مسلمة فهي إسلامية السياسة والنظام بالسليقة. ثم أنّ الدولة الملية متوافقة مع ما استقرّ عليه مخيال وزارات الخارجية في أوروبا والولايات المتحدة.
العدالة الانتقالية والسلم الأهلي
حمود: أنا وغيري كثر كنا من المتخوفين من انتقامات طائفية كان يمكن أن تحدث بعد تقدّم المقاتلين واستلامهم السلطة. بيد أن هذا لم يحدث إلى الآن، سوى بعض الأعمال الفردية من قبل بعض المقاتلين، الذين يقومون كذلك بعمليات إذلال في المناطق التي يقطنها علويون، وربما تهجير لهم في بعض المناطق بحسب تقارير. بيد أن هذا لم يتطوّر إلى أعمال انتقام جماعية كما كان تخوفنا. هل يعبّر هذا عن وعي عام عند السوريين. أما أنّ ضبطاً ما (تركياً ودولياً) يقف خلفه ويمنع هذه الأعمال؟
العظمة: إنّ مسألة ألا تحدث عمليات انتقامية طائفية كبرى كما كان متوقعاً، هو أمر باعث على السرور. وأعتقد أن الناس عموماً تحاول ضبط سلوكها. لكن ربما تنحو الأمور بنحو فقدان هذا الضبط والانفجار، وخاصة في ظلّ الخلايا النائمة والتهديدات الإيرانية التي لم تهدأ، وإذا انتهجت السلطة مسارات غير حكيمة.
حمود: كيف يمكن برأيك أن تتحقّق العدالة الانتقالية؟
العظمة: فضلاً عن القانونيين السوريين وبعض تنظيمات المجتمع المدني لدينا، أعتقد أنّ العدالة الانتقالية يلزمها عناصر خارجية من جهات موثوقة ولديها خبرة بهذه الشؤون، كما هي عند تجارب أخرى مثل تشيلي أو جنوب أفريقيا أو الأرجنتين، فهذه الدول لديها خبرات جيدة، ومسألة العدالة كانت مضبوطة لديها ضمن سياق قانوني. سوريا لديها لا شك خبرات قانونية قديرة، لكن من المستحسن أن تستعين بخبرات دولية، وهذا ما يكسبها مصداقية وشرعية أكبر في وضع من الخراب والتهتّك المؤسساتي. هناك أيضاً أطر قانونية دوليّة ذات مصداقية في سورية وخارجها. إنني قلق مما قاله وزير العدل، الذي ما بدا لديه كبير معرفة بهذه السياقات، حول محاكم ثوريّة للعدالة الانتقالية، أي ارتجال غير مهني يمزج بين السياسة الغوغائية والانتقام ونثار من الأحكام، الشرعية على الأرجح. يبدو لدي أن في هذا تصوّراً بدائياً للأمر.
حمود: وهناك إشكالية أنه إذا استقرت السلطة لهؤلاء القادة الجدد ربما هم من سيدير ملف العدالة الانتقالية وهم أنفسهم كانوا مجرمين. وربما شاهدت الفيديو لوزير العدل الحالي، الذي قتل امرأة على العلن سنة 2015 في إدلب بحجة الفاحشة أو الزنى.
العظمة: كان من المفترض عليهم أن يعيّنوا وزراء تكنوقراط، وسوريا ممتلئة بالكفاءات الجيدة، في الداخل والخارج، التي يمكن لها أن تدير قضايا العدل والمالية وما إلى هنالك. المشكلة لدى هؤلاء هو احتكامهم للشرع، والقانون يتمايز عن الشرع. فهذا الوزير شرعي، حائز على دبلوم شريعة من مكان ما، مدرس ديانة في المدارس وإمام جامع، سلفي، وليس بقانوني، ولا يعترف أساساً بالقانون.
حمود: يعني مثل هؤلاء يجب أنفسهم أن تتم محاسبتهم قبل أن يحاسبوا هم الآخرين.
العظمة: بالطبع. ثم ما زال هناك في سجون إدلب معتقلين سياسيين ومعتقلي رأي.
حمود: تسود على وسائل التواصل اليوم وعلى الأرض حالة هستيرية طائفية عند جزء من السوريين. يتشكّل لأحمد الشرع شبيحة يسمّون الآن بـ “شبيحة الجولاني”، يمنعون أي نقد ويرفعون عقيرتهم وشعار فلول الأسد مجرّد نقد جماعته. وكأنك يا زيد ما غزيت. خطاب الطائفية علا صوته جداً بين السوريين. كلّ منهم يتنادون بصناديق طوائفهم. هناك من تظاهر من العلويين وأصبحوا ينادون يا علي، هناك من تظاهر من المسيحيين أخذوا يرفعون الصليب وينادون بعلوه، وبعض الدروز لا يفتئون وهم يرفعون أعلامهم الطائفية وبعضهم يطالب باللامركزية، وكذا الأكراد وحسّهم القومي العالي، وأناس من السنة يتخيّلون كما لو أن بني أمية قد عادوا. أما سوريا، أما الحديث عن بناء هوية وطنية، فهذا غائب عند كلّ هؤلاء.
العظمة: رغبة الفرح ربما تقضي أحياناً على ملكة التمييز عند الناس. ولكن الدولة الملية ليست دولة مواطنين، ولا الامارة الإسلاميّة.
استشرافات المستقبل
حمود: ماذا عن الجانب الإسرائيلي والموقف الأميركي؟ إسرائيل صرّحت علانية قبل أن تبدأ بتدمير الجيش السوري بأنها تفضل التقسيم أو أقله الفيدرالية.
العظمة: الخطير عند الإسرائيليين باعتقادي هو مسألة الدروز. فهم يرغبون بالاحتفاظ بالقنيطرة وغيرها من المناطق المُعترف بها وغير المعترف بها، هناك كلام كثير حول إعادة ترتيب الدروز في الجنوب. لكن أعتقد أنه ليس هناك شعور لا وطني عند الدروز للذهاب مع المشروع الإسرائيلي. وأعتقد أن ما احتلته إسرائيل منذ سقوط بشار الأسد من الأراضي السورية ستستبقي عليه، وخاصة في ظلّ هذه الحكومة التي تقود الآن في دمشق وعلى ضوء الرئيس الأميركي، ترامب، الذي سيستلم السلطة قريباً.
حمود: هل يمكن أن تأتي سلطة تستطيع بناء هوية وطنية من دون مساعدة الدول الغربية؟
العظمة: الدول الغربية ليست معنية أساساً بتشكيل هوية وطنية أو سورية. ما يعنيها هو قيام نظام مستقر، بصرف النظر عن التوصيف. ليس لدى الأوربيين مثلاً مانع من قيام دولة فيدرالية أو محاصصة بين الطوائف والإثنيات، لكن ما يهمهم هو الاستقرار. وأعتقد أن أفقهم في النظر إلى العرب يقوم أساساً على منظار النظر إلينا بمسطرة الأقليات والسليقة التفتيتية والمللية (وهذا ما غدا ثابتاً في المخيال السياسي الأوربي)، فمثل هذه التشكيلات والأنظمة تناسبهم. وهذا ما عملوا عليه منذ نابليون الثالث في النظر إلى العرب من زاوية أن العرب عبارة عن موزاييك غير منسجم ومتماسك. في البداية كان هذا النظر يمثل مشروعاً لتفتيت الدولة العثمانية، واستمر هذا إلى الآن. وقد غدا هذا اليوم ناجحاً.
حمود: بالفعل، هل يعقل لوزير الخارجية الفرنسي الذي زار سوريا مؤخراً (برفقة وزيرة الخارجية الألمانية) أن يزور في دمشق رجال الدين المسيحيين ويطالب بحماية الأقليات! وكأن الأمر لم يتغيّر منذ سؤال الأقليات سنة 1860.
العظمة: تماماً. منذ ثلاثين سنة، لم يكن هذا بعد ثابتاً في المخيال السياسي الأوربي، أما الآن فأصبح ثابتاً. وهذا نتيجة لأفعالنا وسلوكنا نحن.
حمود: حقيقة نحن من نعزّز للأوربيين والأميركيين ما يطمحون إليه في هذه السياسات الطائفية. لكن دعني أختصر رؤيتك حول مسألة الحكم اللامركزي أو الفيدرالي في ظلّ الجدل الآن حول الأكراد. ربما لست على الضد من قيام مثل هكذا نظام. أليس كذلك؟
العظمة: الأكراد عموماً أكثر تقدماً في القضايا الاجتماعية والدينية. وليس لدي إشكال أن يكون هناك حكم ذاتي للأكراد وللآخرين. لكن المهم أن تكون الوزارات السيادية مركزية (الخارجية والدفاع والمالية وربما كذلك التربية والدين، كما هو الحال في المغرب، فهذه من اختصاص الملك في المغرب التي يديرها مستشارو الحكم الملكي). أنا لست ضد الحكم اللامركزي، شريطة أن يكون مفهوماً ومتفقاً عليه بحيث يكون الجميع مواطنين متساوين. ليس هناك مانع أن يتم مثلاً تعليم الكردية في المناطق التي يتواجد فيها الأكراد، لكن بشرط ألا يمتنعوا عن تعليم العربية، وخاصة أنّهم منذ سنوات الأزمة لا يعلّمون العربية في مناطقهم الشمالية، لأنهم بهذا سيخسرون تراثاً ثقافياً كان هو تراثهم هم أيضاً.
حمود: إذا أردنا أن نلخص، أين ترى أهم الأخطار المحدقة التي ينبغي القلق منها؟
العظمة: الشبق التسلطي والاستئثار بالسلطة للإسلاميين. وإذا تم إعادة إنتاج الاستبداد فسيكون لدينا استبداد إسلامي، نمط إمارة إسلامية، ليس على الطريقة الأفغانية، (لأن سوريا أكثر تقدماً من الناحية الاجتماعية وغيرها)، ولكن من نفس المسرب، ونفس نوع التسلّط، ونفس نوع النكوص الاجتماعي الذي تفرضه طالبان على المجتمع الأفغاني.
حمود: من أين ينبغي أن يبدأ به المثقفون السوريون في هذه المرحلة؟
العظمة: إذا كنا نتحدث عن المستقبل القريب، فينبغي دائماً التأكيد على محورية الاستمرار في الثقافة السياسية لسوريا التي تطوّرت عبر مائة سنة، والتي لا يمكن اختصارها بالنظام البعثي. ولنعلم أنه حتى في فترة الانتداب الفرنسي (وهذه لا يرغب لسماعها الكثيرون) كان هناك ثقافة ديمقراطية وحركة سياسية بكلّ ما تعنيه الكلمة، يشملها أحزاب وما إلى هنالك. نعم كان هناك خطوط حمر فرضها الفرنسيون، ولكن ما تحت هذه الخطوط كان ثمّة حركة ثقافية وسياسية فعلية، وأنتجت مثقفين كباراً ونظاماً سياسياً ديمقراطياً استمر بعد الاستقلال عن فرنسا، فلم يكن هناك انقطاع. وحتى نفس النخبة السياسية التي أنتجت في ظلّ الانتداب استمرت بعد الاستقلال. وهناك أسماء كثيرة أنتجتها هذه الفترة مثل عبد الرحمن الشهبندر (ت. 1940)، فارس الخوري (ت. 1962)، ومن المثقفين والإنتاجات الثقافية كامل عياد (ت. 1986)، “مجلة الحديث” (بمعنى الحداثة، وليس ما يُنسَب الى النبي) التي كان يكتب بها قسطنطين زريق وآخرون. لدينا فترة أكثر من ثرية تمتد من ثلاثين سنة من العشرينيات إلى منتصف الخمسينيات، وللأسف البعثيون طمسوها كلياً.
حمود: اسمح لي بالقول إنه عند المثقفين السوريين جهل مطبق مركب بتاريخهم السوري. لكن لا ننكر أن سياسة الفرنسيين في هذه الفترة كانت تفتيتية وتقسيمية كذلك.
العظمة: نعم كانت هذه السياسة تفتيتية، إلا أنها فشلت بسرعة. ولا ننسى أنه نمت في ظلّ السياسة الفرنسية سياسة وثقافة وطنية، اكتست عند البعض بعداً عربياً وعند الآخر بعداً محلياً. إلا أن الكل كان يؤكّد على عربيته. على سبيل التمثيل بالعراق: كانت تربطني في لندن علاقة مودة مع بلند الحيدري (ت. 1996)، الشاعر المبرز. لم يكن يخطر له أنه كردي إلا بعد حرب العراق الأولى (أي بعد غزو الكويت) فاكتشف نفسه أنه كردي بعد التدخل الأميركي بعد أن كان يعرف نفسه بأنه عراقي، رغم أنه لم يجيد الكردية.
حمود: يعني كما يحدث الآن مع كثير من السوريين الذين يكتشفون أنفسهم الآن فجأة بأنّهم سنّة. ودعني هنا الأستاذ الكريم أن أختم بهذا السؤال: إلى أي حد تبني آمالاً لسوريا القادمة؟
العظمة: لقد أخبرتك أنني أقف بين التفاؤل والتوجس. لقد سألتني ما إذا كنت أسمي الشخصية القيادية اليوم أحمد الشرع أم الجولاني. أقول إنّ الماثل أمامنا الإثنين.
مرّة أخرى أرجو للفرح بسقوط نظام الأسد ألا يلغي ملكة التمييز العقلاني عند السوريين تجاه ما يحدث.
حمود: أشكرك جزيل الشكر على هذا الحوار الغني.
حكاية ما انحكت