سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 20 كانون الثاني 2025
حرية إلى الأبد: كل المقالات والتحليلات والحوارات التي تناولت انتصار الثورة السورية اعتبارا من 08 كانون الأول، ملاحقة يومية دون توقف تجدها في الرابط التالي:
سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع
——————————————–
ماذا لو فتحنا النقاش الطائفي بصراحة؟/ سميرة المسالمة
الإثنين 2025/01/20
في بداية الثورة السورية (عام 2011) أراد نظام الأسد وضع مكونات الشعب السوري في مواجهة بعضها البعض، بتجييش المشاعر وإثارة الكراهية، عبر نشر هتافات طائفية من مثل “العلوي إلى التابوت والمسيحي إلى بيروت”، بهدف صبغ الثورة بالطائفية (سنّة ضد أقليات) كما كان يسميها، بدل أن تكون مواجهة مع نظامه الاستبدادي القمعي. لكن وعي السوريين أسقط من يده هذه الذريعة في زمن الحرب، وأبقت المعارضة على هدفها المباشر، وهو إسقاط النظام من رأسه حتى أزلامه. لكن أدوات النظام التي لا تزال كامنة بين جموع الأبرياء والمشمولين بالعفو من إدارة العمليات، ما زالت تعمل على استنهاض وإنعاش مشاعر الطائفية، لأنها اليوم أداتهم الوحيدة لتخريب ما بقي من السوريين، بعد أن دمر وأحرق بشار الأسد ما استطاع من البلد قبل هروبه المذل من سوريا.
لهذا، لا غرابة أن تمارس بعض الجهات أعمالاً استفزازية في القصاع (منطقة مسيحية) على سبيل المثال، وفي مناطق العلويين في محيط دمشق والساحل السوري، بل وأن يتحدوا النخبة الشبابية من السوريين بانتقال أعمالهم التحريضية إلى الجامعات، لعلمهم أن هذه المرحلة الحساسة من تاريخ سوريا، حيث تتشابك التوترات الطائفية مع التحولات السياسية والأمنية، وتكون بنية الحكومات الحديثة بعد الثورات “هشة”، ومزدحمة بالأولويات الصعبة، ما قد يخدم أغراضهم في نشر الفوضى، بهدف تفشيل أي جهد يرمي لخلق حالة التوازن المجتمعي، واستعادة الحياة الطبيعية للسورين.
في هذا السياق، وبالنظر لعدم التعريف بمشروع حكومة أحمد الشرع، عبر خطاب واضح وصريح وموجه للسوريين مباشرة، من غير اقتطاع أو تحوير أو تسليط الضوء على أنصاف الجمل، كما يحدث في المقابلات لوسائل الإعلام الخارجية، ومنها طريقة تعاطيهم الأمنية مع مجرمي النظام السابق، يشعر كثير من أبناء الطائفة العلوية أن الحملة الأمنية الحالية تستهدفهم كطائفة، كما يثير مخاوف أوسع لدى السوريين، من ديانات ومذاهب وأيديولوجيات متنوعة، حول الهوية الوطنية والمواطنة المتساوية، التي لم تنل حظها من المأسسة حتى اليوم، ما يساعد في تأجيج فكرة الاستهداف الممنهج من قبل بعض أطراف محلية وخارجية متضررة من سقوط النظام. أي أن ما يجري من انتهاكات لا يدخل ضمن سياسات الحكومة، ولكنه يدخل ضمن سياق محاربة نشوء الدولة سواء كان مرتكبيها من داخل أيديولوجية الحكم الحالي أو المتحالفين معه، أو من المتنافسين على السلطة من بقية الاتجاهات والفصائل الأيديولوجية.
لقد برزت شخصية الشرع كرمز لإنهاء حقبة الأسد، متحدثًا بلغة وطنية جامعة وواعدًا بسوريا قوية ومواطنة كريمة لجميع أبنائها. ومع ذلك، فإن ما يجري على الأرض من تصرفات بعض الأطراف التي تحاول الاستفادة من هذا التحول يُلقي بظلال من الشك حول مدى قدرة هذا المشروع على الصمود في وجه التحديات.
لذا، حالياً، فإن أي حديث عن استهداف للأقليات من حكومة تسيير الأعمال وأذرعها الأمنية هو أمر غير دقيق، بل هو أحد أدوات زرع الفتنة في البلاد. ومع ذلك، بكل صراحة، فإن التوترات الحالية والخطابات المتباينة حول شكل الحكم المقبل تزيد من حالة القلق العام، وما يزيد الأمر تعقيدًا هو سلوك بعض الأطراف التي تحاول استغلال هذه التوترات لتحقيق مكاسب سياسية ضيقة، مستغلة أيضاً في جانب آخر التصريحات المتناقضة داخل الحكومة مع خطاب القائد العام للإدارة السورية الجديدة.
من جانب آخر، فإن تلك المخاوف تُغذَّى أيضاً من خطاب دولي وإقليمي يركز على حماية الأقليات، وهو خطاب قد يحمل في طياته تهديدًا لتماسك النسيج الاجتماعي السوري، فلطالما واجهت سوريا محاولات لنبش انقسامات طائفية واجتماعية، تفاقمت خلال العقد الماضي، بسبب الحرب والصراعات الداخلية. فقد كان الأسد (الأب والابن) يسعى دائمًا إلى زرع فكرة أنه حامي الأقليات، مستخدمًا ذلك كأداة لتأمين دعم دولي واستمالة المجتمع الدولي، من خلال إثارة التخوف من حكم الأغلبية السنية. ومع ذلك، لم يكن هناك استهداف فعلي للأقليات، بل كان هذا الخطاب أداة سياسية لتوجيه وابتزاز الرأي العام المحلي والدولي. هذا النهج أسهم في زيادة تعقيد المشهد السياسي والاجتماعي في البلاد.
فعندما تُصوَّر الأقليات على أنها بحاجة إلى حماية خاصة، فإن ذلك يعزز منطق الانقسام بين “أقليات” و”أكثريات”، مما يضعف الإحساس بالوحدة الوطنية، بالإضافة إلى ذلك، فإن الشعور بالاستهداف يجعل الأقليات أكثر عرضة للقلق من المستقبل السياسي، خصوصاً إذا كان يُنظر إلى الأغلبية السنية كقوة تسعى لفرض هيمنتها الثقافية أو الدينية “المتشددة”، وبالتالي، تعرقل هذه الانقسامات الجهود الرامية إلى بناء دولة حديثة تقوم على أسس المواطنة والمساواة أمام القانون.
على ذلك، فإن التأكيد على أن المواطنة هي الرابط الأساسي بين الجميع، حاجة أساسية من دون الخوف من الخوض فعلياً في حوار صريح يعالج المخاوف الطائفية المتبادلة، ويعزز الثقة بين مكونات المجتمع، إذ أن الطوائف كمعطى ديني تاريخي، هي غير الطائفية التي لها معنى وتوظيف سياسيين وسلطويين.
بالإضافة إلى ذلك، يجب أن تتضمن أي عملية سياسية مقبلة ضمانات قوية لحماية الحريات الدينية والثقافية، مع رفض أي محاولة لفرض الهيمنة من أي طرف، فمستقبل سوريا يعتمد على قدرتها على تجاوز الانقسامات الطائفية وبناء دولة تقوم على أسس المواطنة والحرية والكرامة والمساواة، وهذا أساسه دستور جامع ومانع للانقسام ومجلس شعب منتخب وفق قوانين “تمنع المتاجرة تحت قبته وعليها” كما كان سائداً خلال العقود الماضية.
لا أحد من السوريين، وأخص هنا النخب السياسية والثقافية، مستثنى من دور فاعل للعمل على تهدئة المخاوف وتعزيز الهوية الوطنية الجامعة، للوصول إلى حبل النجاة جميعاً من دوامة الانقسام والموت على الهوية.
المدن
—————————
بعض رؤى أحمد الشرع لمستقبل سورية وفقًا لتصريحاته
20 كانون الثاني/يناير ,2025
في أعقاب انهيار نظام الأسد في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، سيطرت فصائل غرفة عمليات «ردع العدوان» التي تتزعمها «هيئة تحرير الشام» على السلطة في الجزء الأكبر من الأراضي السورية، وأصبح أحمد الشرع الحاكمَ الفعلي المؤقت لسورية، ومن ثمّ تصدّر المشهد في هذه المرحلة.
بعد ستة عقود عجاف من سلطة البعث والأسد المستبدة، يتّسم الوضع اليوم بالتعقيد، مع تركة ثقيلة من الفساد والفوضى خلّفها نظام الاستبداد وراءه، يضاف إليها الدمار المادي والمجتمعي الذي تعرّض له الشعب السوري، حيث تقف سورية أمام تحديات كثيرة ومعقدة. والأولويات الرئيسية على المدى القريب هي تحقيق الاستقرار والأمن وإنهاء فوضى السلاح والحالة الفصائلية، أما على المدى البعيد، فتتمثل في إعادة الإعمار ماديًا ومجتمعيًا، والانتقال من إرث نظام الأسد إلى نظام عصري يلبّي تطلعات الشعب السوري، الذي ناضل منذ عام 2011 وما قبلها من أجل الحرية والكرامة.
يتطلب الانتقال الآمن من سورية السابقة إلى سورية الجديدة مجموعة مركبة من الشروط، على رأسها وجود قيادة منفتحة تسعى لإشراك الجميع في عملية تحقيق الانتقال السياسي الآمن، ويُترجم هذا في برنامج انتقالي معلن، تدير تنفيذه هيئة تمثل مختلف قوى الشعب السوري ومكوناته الحريصة على نجاح المرحلة الانتقالية.
ومع أهمية هذه المرحلة، لم يُصدِر أحمد الشرع حتى الآن خطابًا رسميًا شاملًا للشعب السوري، ولم يعلن برنامجًا محددًا للمرحلة الانتقالية، ولم تصدر أي وثيقة رسمية تتضمن خارطة طريق تشرح مراحل الانتقال وأولوياتها والخطوات التنفيذية لكل مرحلة. وعلى الرغم من ذلك، يتخذ الشرع وحكومة تصريف الأعمال التي شكّلها، قرارات كبيرة مدفوعًا بالحاجة إلى تثبيت الأوضاع، يتجاوز بعضها سلطات المرحلة المؤقتة، ريثما تبدأ سلطة المرحلة الانتقالية، مستمدًا سلطته مما يسمى «الشرعية الثورية»، وهي شرعية تبدأ عادة بالاستيلاء على السلطة، وتنتهي بالتحول إلى الشرعية الدستورية.
في ظلّ غياب هذه الرؤية المكتوبة أو المعلنة، اعتمدنا في هذه الورقة على تحليل تصريحات أحمد الشرع خلال لقاءات إعلامية مع قناة BBC في 19 كانون الأول/ ديسمبر 2024، ومع قناة العربية في 29 كانون الأول/ ديسمبر 2024، ومع اليوتيوبر جو حطاب الذي بثه بتاريخ 6 كانون الثاني/ يناير 2025 وغيرها، وعلى الرغم من محدودية هذه التصريحات، فإنها تحمل إشارات إلى طموحاته المستقبلية وخططه لسورية في مرحلة ما بعد الأسد، وأهمّ القضايا التي تناولها:
طبيعة السلطة القائمة والمرحلة الانتقالية:
قدّم الشرع رؤية لإعادة بناء الدولة السورية، في سياق التحولات التي تواجهها البلاد، وتقوم رؤيته على تسلّم مؤسسات الدولة والحفاظ عليها، حيث أشار إلى أولوية تسلّم الحكم دون الإضرار بمؤسسات الدولة، لضمان استمرار الوظائف التي تخدم الشعب وتجنب الفراغ المؤسسي الذي يمكن أن يؤدي إلى الفوضى ويصعّب إعادة البناء لاحقًا.
وعكست تصريحات الشرع الإعلامية رؤيته لبناء سلطة انتقالية، وهي تعتمد كما يراها على الانسجام المؤسسي والكفاءة، بعيدًا عن المحاصصة التي أثبتت فشلها في تجارب دول مجاورة، حيث شدّد على أهمية تكامل المؤسسات وتواصلها، محذرًا من خطر تفتيتها إلى كيانات معزولة أو تحويلها إلى أدوات لتلبية المصالح الفئوية. ورأى أن المرحلة الانتقالية تتطلب اختيار أشخاص ذوي كفاءة وخبرة، لضمان تحقيق الاستقرار وإرساء أسس الحكم الفعّال خلال هذه الفترة. وبرّر الشرع التعيينات ذات اللون الواحد التي قام بها، بأنها من ضرورات المرحلة، وقد عبّر عن ذلك في مقابلته مع قناة (العربية)، حيث قال: «أنت بحاجة في المراحل الانتقالية إلى فريق عمل منسجم. ففي المرحلة الحالية، لا نريد أن نوزّع المؤسسات والوزارات هدايا على الأعراق والطوائف والأحزاب».
أثار هذا الطرح الذي يستبعد التعددية السياسية، في المرحلة الانتقالية، انتقادات ومخاوف حول مدى ضمان التوازن السياسي، وتمثيل المكونات كافة في المرحلة الأولى، ولكنه من جهة أخرى، اقترح في مقابلته مع (العربية) الانتقال التدريجي إلى حكومة مؤقتة تنتج عن المؤتمر الوطني، تُتيح مجالًا أوسع للتشاركية بين مختلف الأطياف السياسية والاجتماعية، بعد تحقيق استقرار المؤسسات وضمان كفاءتها.
«أنا أذهب إلى حالة الكفاءات، فنعتمد في المرحلة الأولى على من أدار مرحلة معينة من العمل لكي يحصل الانسجام، ثم بعد ذلك عندما ننتقل إلى حكومة مؤقته طويلة الأمد سيحصل فيها التشارك من أطياف». (مقابلة العربية)
الإعلان الدستوري المؤقت والدستور الدائم:
الدستور هو الوثيقة الرئيسية والعمود الفقري في صياغة النظام السياسي والإداري والاقتصادي والاجتماعي والثقافي القائم في كل دولة حديثة، وعادة ما يصدر في المرحلة الانتقالية إعلان دستوري مؤقت، يوضع بالتوافق بين ممثلين عن المجتمع السوري في مؤتمر وطني يُعقد لهذه الغاية. ولم يُشر الشرع في لقاءاته إلى فكرة الإعلان الدستوري المؤقت، ولكنه أشار إلى أن المرحلة الانتقالية تتطلب معايير واضحة لإدارة البلاد، وأبرزها إعادة صياغة الدستور أو تعديله، ويبدو أن الشرع يدرك حاجة هذه العملية إلى سنوات، إضافة إلى ذلك، يلفت النظر إلى أهمية معالجة الآثار الديموغرافية الناتجة عن النزوح واللجوء، مع التركيز على جيل جديد نشأ في ظروف متغيرة، ما يستدعي جهودًا إحصائية شاملة تمتد سنوات، لضمان شمولية الجميع.
«هناك عده مراحل تمرّ فيها الحالة السورية الجديدة، المرحلة الأولى هي استلام الحكم بشكل مباشر على ألّا تنهار مؤسسات الدولة، المرحلة الثانية ستكون مرحلة انتقالية، والمرحلة الانتقالية لها مواصفات يجب أن تتصف بها، فمن يريد أن يدير سورية في هذا المشهد، أولًا نحن نحتاج إلى إعادة كتابة الدستور أو حل الدستور السابق، لكن صياغة دستور جديد أو تعديلات دستورية تحتاج إلى وقت طويل، ربما تستغرق سنتين أو ثلاثة، الله أعلم». (مقابلة العربية)
ركّز الشرع على أن صياغة الدستور ستكون مسألة قانونية بحتة، مما قد يشير إلى النهج التقني أكثر من النهج السياسي، علمًا بأن صياغة الدستور هي أولًا قرار سياسي يحدد السمت العام لتوجهات الدستور وطبيعة نظام الحكم، ويلتزم القانونيون الدستوريون بهذه المحددات عند كتابة نص الدستور.
«ذكرت سيمرّ بعدة مراحل هذا الدستور، أولًا سيكون هناك صياغة له، ومن المبكر جدًا الحديث عن أي خطوات، فهناك مسائل كثيرة تعاني منها سورية الآن، تعاني من بنية تحتية مهدمة، فالقطاع الزراعي مهدم، والقطاع الصناعي مهدم، هناك تحديات إقليمية أيضًا تواجهها سورية، ويجب أن نجد لها حلولًا عاجلة وأعتقد أن هناك كثيرًا من التفاصيل، ليست في ذهني إجابة عنها الآن، لأنها اختصاص قانوني بحت». (مقابلةBBC )
ومن ثم، فالتركيز على التقني في صياغة الدستور على حساب السياسي يثير مخاوف بشأن مدى مشاركة الشعب في العملية الدستورية، وتبدو رؤية الشرع للدستور الجديد غير واضحة حتى الآن، حيث لا يقدّم تفاصيل عن آليات المشاركة الشعبية أو الضمانات الديمقراطية، مما يثير تساؤلات حول مدى انفتاح النظام السياسي الجديد على التعددية والمشاركة العامة.
يرى الشرع أن سورية تستحقّ نظامًا حكوميًا مؤسسيًا قائمًا على حكم القانون، بدلًا من سلطة فردية تعسفية، منتقدًا حكم نظام الأسد الذي استمرّ لعقود عبر القمع والقتل والتهجير، ويؤكد حقّ الشعب في اختيار قادته بحرية، لكنه لا يحدد آليات واضحة لضمان نزاهة هذه العملية، ويدافع عن مفهوم الحكم الإسلامي، معتبرًا أن التخوف منه يعود إلى سوء تطبيقه أو عدم فهمه، من دون أن يوضح كيف يمكن أن يتوافق مع مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان وقيم المواطنة.
«الأشخاص الذين يخشون الحكم الإسلامي إما أنهم رأوا تنفيذًا خاطئًا له، أو لا يفهمونه بشكل صحيح». (مقابلة CNN)
ويؤكد الشرع أن شكل الدولة ودستورها يجب أن يُحدد عبر لجان متخصصة يتم اختيارها شعبيًا، بدلًا من أن يكون قرارًا فرديًا، وينفي أي نية لتغيير البنية الديموغرافية للبلاد، مشددًا على ضرورة الحفاظ على تنوعها. ومع ذلك، تبقى رؤيته غير واضحة بشأن نوع النظام السياسي الأمثل لسورية، أو ضمانات مشاركة جميع الأطراف في رسم المستقبل.
مؤتمر الحوار الوطني:
يعدّ عقد مؤتمر وطني جامع الجسرَ الذي تعبر عليه «الشرعية الثورية» إلى الشرعية الدستورية، والذي يمنح سلطة الأمر الواقع بعدًا شرعيًا لا بد منه لإكساب أفعالها صفة الشرعية، ويمنحها صلاحيات تمكّنها من اتخاذ قرارات أعمق وأشمل مما تملكه سلطة تسيير الأعمال في فترة ما قبل بدء المرحلة الانتقالية.
طرح الشرع رؤية محورية لدور مؤتمر الوطني السوري في صياغة مستقبل البلاد، حيث شدد على أن المؤتمر يمثل خطوة جوهرية لتحقيق التوافق الوطني وبناء نظام سياسي شامل يعبّر عن تطلعات جميع السوريين، ويهدف المؤتمر من وجهة نظره إلى إشراك جميع المكونات السياسية والاجتماعية والطائفية في اتخاذ القرارات الكبرى، مع التأكيد على أهمية الشمولية والاستقلالية، بعيدًا عن أي تدخل سياسي أو عسكري، لضمان نجاحه ومصداقيته.
ومن أبرز القضايا التي يمكن أن يعالجها المؤتمر، وفقًا للشرع: صياغة دستور جديد، تحقيق العدالة الانتقالية، وتحديد شكل الحكم الذي يضمن التمثيل العادل لكل السوريين، مع التركيز على المصالحة الوطنية، والتخفيف من التوترات الاجتماعية. ويرى الشرع أن مخرجات المؤتمر يجب أن تكون ملزمة وتعكس إرادة الشعب بشكل حقيقي.
«سيكون المؤتمر جامعًا وشاملًا لعدد كبير من مكونات المجتمع السوري، وهناك قرارات اعتاد الناس على أخذها بعد الثورات، بأن تكون من خلال السلطة التي وفّقها الله للانتصار أو حكمت، أي من خلال القوة العسكرية، أنا أريد أن أنزّه سورية عن هذا المشهد، لا أريد أن تخرج قرارات ثقيلة كحل الدستور أو حل البرلمان من شخص واحد فقط، أنا أقول أريد أن أعطي فرصة لتكون سورية كلها تشارك في هذا الموضوع، فنحن في هذا المؤتمر سنشرح القضية السورية ونشرح كلّ المعطيات، منها ما تكلمنا به حاليًا، ثم سنترك القرار عند المؤتمر، فالمشاركون سيصوّتون على القضايا الهامة والحساسة التي ستؤسس للمرحلة الانتقالية». (مقابلة العربية)
ومع ذلك، يواجه هذا الطرح تحديات عدة تستدعي معالجة تفصيلية وعاجلة، فلا يوجد حتى الآن آليات واضحة لاختيار المشاركين في المؤتمر، مما قد يثير مخاوف حول مدى تحقيق تمثيل شامل وعادل لكل الأطراف، ولا سيما أن الفترة القصيرة السابقة لم يكن فيها مشاركة في السلطة المؤقتة، وساد مبدأ اللون الواحد، مع غياب جدول زمني محدد، مع تحديد للمخرجات، ويحتاج المؤتمر كذلك إلى تفاصيل عملية لضمان نجاحه كمحطة أساسية في بناء مستقبل سياسي مستدام لسورية، وهناك خشية من تحويله إلى مؤتمر استشاري، مما يعني أن القرار النهائي سيبقى بيد الشرع وليس بيد المؤتمر.
وحدة الأراضي السورية/ الفيدرالية/ اللامركزية
أكد الشرع أن الحل في شمال شرق سورية يجب أن يحافظ على وحدة البلاد، دون تكريس أي شكل من أشكال التقسيم، حتى لو كان فيدراليًا، حيث يرى أن المجتمع السوري غير مستعدّ لفهم الفيدرالية، وقد يفسرها على أنها خطوة نحو الانفصال، هذا الموقف يعكس رفضًا لأي كيان مستقل للأكراد، لكنه في الوقت نفسه يعترف بضرورة إيجاد صيغة حل سياسية تحمي حقوق الأكراد دون المساس بوحدة البلاد، وشدد على أن الأكراد جزء من الشعب السوري، وأنهم قد تعرضوا للظلم مثل بقية السوريين، مما يستدعي ضمان حمايتهم وإعادتهم إلى القرى التي نزحوا منها خلال الثورة، وفيما يتعلق بـ (قسد)، يؤكد الشرع أن السلاح يجب أن يكون محصورًا بيد وزارة الدفاع السورية، وأن من يرغب في الانضمام للجيش النظامي سيُقبل وفق معايير محددة.
«من كان مسلّحًا من شمال شرق سورية، فوزارة الدفاع ينبغي لها أن تحصر السلاح وأن يكون بيدها فقط، ومن كان مؤهلًا للدخول إلى وزارة الدفاع فمرحبًا به، فعلى هذه الشروط والضوابط نحن نفتح مسارًا تفاوضيًا مع (قسد)، ونترك حالة الحوار لربما نجد يناسب الحالة السورية». (مقابلة العربية)
يعكس هذا الطرح رغبة في دمج العناصر المسلحة كأفراد ضمن الجيش الوطني الجديد، بدلًا من الإبقاء عليها كقوة مستقلة، ويؤكد الكُرد على ضمانات حماية مصالحهم في أيّ اتفاق مستقبلي، مما قد يجعل المفاوضات مع (قسد) معقدة، وتواجه تحديات كبيرة، ولا سيما أن الموقف الأميركي من مستقبل الوجود في سورية غير واضح حتى الآن كيف سيكون في عهد ترامب.
العلاقة بين الدين والدولة
يرى الشرع أن سورية يجب أن تبقى دولة متعددة الطوائف، معتبرًا أن التركيز على هذه المسألة يثير الفتنة، وأكد أن الدستور هو الجهة المخولة بتنظيم هذه القضايا. وقد رفض مقارنة سورية بأفغانستان، مشيرًا إلى أن المجتمع السوري مختلف عن المجتمع القبلي الأفغاني، مما يعني أن الحكم في سورية سيكون أكثر انسجامًا مع ثقافتها وتاريخها.
«لا أحد له الحق في محو جماعة أخرى. لقد تعايشت هذه الطوائف في هذه المنطقة لمئات السنين، ولا أحد له الحق في القضاء عليها». (مقابلة CNN)
في الواقع، تجنّب الشرع أي تصريح قد يوحي بحيادية الدولة، أو يشير إلى الديمقراطية، أو إلى موقف السلطات الجديدة من الطابع الإسلامي للسلطة الجديدة، وهذا الأمر مفهومٌ حاليًا، وقد تجنّب الإجابة عن أسئلة جزئية مثل فرض الحجاب وحرية تناول الكحول، مع أنّ جميع من سمّاهم وزراء ومحافظين، إضافة إلى ضباط الجيش الذين رفّعهم أو العناصر الذين عيّنهم في الإدارات الحكومية، هم من مقاتلي الهيئة ومن أصحاب التوجّه المؤيد لنظام سياسي إسلامي، ومن ثم يمكن أن نستنتج أن الشرع الذي يتطلع إلى رئاسة سورية يعلم أن نموذجًا إسلاميًا متشددًا لا يناسب سورية، ولكن أداته التي يقبض على السلطة بواسطتها هي بمجملها ذات توجّه قريب من نظام الدولة الدينية، فكيف سيتمكن من التعامل مع هذا التعارض؟
الموقف من القرار 2254
من السهل توقّع أن يرفض أحمد الشرع أن يكون للقرار 2254 وللأمم المتحدة أي دور سياسي في سورية، سوى تقديم المساعدات؛ ذلك بأن القرار ينصّ على «منع وقمع الأعمال الإرهابية التي يرتكبها على وجه التحديد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (المعروف أيضًا باسم داعش) وجبهة النصرة»، فهو يسمي «جبهة النصرة» بالاسم، والأهم من ذلك أن القرار ينص على «إنشاء هيئة حكم انتقالية جامعة تخوَّل سلطات تنفيذية كاملة»، وأن الانتقال السياسي في سورية يجب أن يكون «برعاية الأمم المتحدة، استنادًا إلى بيان جنيف»، وأنّ الأمم المتحدة هي التي تتولى تيسير العملية السياسية، وأن يكون إجراء انتخابات حرة ونزيهة تحت إشرافها. وكل هذه شروط لا يمكن أن يوافق عليها الشرع، لأنها تُخرج السيطرة على العملية السياسية من يده، ولذلك رفض الشرع التعامل مع القرار 2254، وأشار إلى أن ليس له مكان في المرحلة الجديدة.
«القرار صدر في عام 2015، ونحن اليوم في نهاية عام 2024، وهذه المعركة قلبت كل الموازين، ويجب أن تراعى المجريات الجديدة في تطبيق هذا القرار، وهذا ما أرسلناه إلى مبعوث الأمم المتحدة، بأنه جرى الكثير من التغيير في المرحلة الماضية، وتجاوزنا جوهر القرار». (مقابلة العربية)
وقد ركز الشرع على أن تكون القوانين والقرارات الدولية مرنة وتتكيف مع التغيرات الحاصلة، مشيرًا إلى أن العمل العسكري الذي جرى في سورية راعى جوهر القرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن، والذي يهدف إلى تحقيق انتقال سياسي شامل، وإعادة اللاجئين، وإطلاق سراح المعتقلين، وأنّ أهم بنود القرار 2254 قد تم تنفيذها بالفعل، حيث أصبحت عودة اللاجئين آمنة، وتم إطلاق سراح المعتقلين، وانتقلت السلطة بشكل سلمي بعد هروب الرئيس واستلام الحكومة الجديدة للحكم بما يعني أنه لا حاجة للقرار 2245. في المقابل، رأينا بيانَي مؤتمر العقبة ومؤتمر الرياض قد أكّدا على القرار 2254 وعلى هيئة الحكم الانتقالي، وهذا يعكس وجهة نظر سعودية وإماراتية ومصرية وحتى أوروبية.
الحريات العامة وحقوق الإنسان:
تشكل الحريات العامة في التنظيم والتعبير والاعتقاد، وحقوق الإنسان التي يحميها القانون وقيم المواطنة، العمود الفقري الذي يحدد طبيعة النظام السياسي في الدولة المعاصرة، وسيكون هذا الأمر هو المقياس لتقييم النظام السياسي الذي سيقوم في سورية خلال الفترة القادمة.
طرح أحمد الشرع انتقادًا واضحًا لنظام الحكم السابق في سورية، مشيرًا إلى أنه حوّل الشعب إلى عدو دائم يخشاه، ورأى أن سقوط النظام أدّى إلى تحرر الناس من الخوف، وتجلّى ذلك في قدرتهم على التعبير بحرية دون خوف من القمع.
«الآن، يمكن لأيّ شخص أن يعبّر عن رأيه بحرية، من دون أن يتعدّى على القانون أو على الممتلكات العامة ومن دون أن يخرب الحياة المجتمعية، واليوم، هناك توافق مجتمعي كبير في سورية قابلٌ أن يصنع حياة جديدة لم يجرّبها الناس منذ 50 سنة». (مقابلة العربية).
لم يستخدم الشرع صيغة واضحًة تنص على ضمان الحريات العامة في التنظيم والتعبير والاعتقاد، ولم يذكر قط «حقوق الإنسان» وتعبير «المواطنة»، وهي من ركائز المجتمعات المعاصرة، وعند سؤاله مباشرة عن بيع الكحول وفرض الحجاب، تجنّب الإجابة الصريحة عنها، وقال:
«بالنسبة إلى الكحول، كثير من المسائل لا يحقّ لي أنا أن أتكلم بها، لأن هذه مسألة قانونية بحتة، هناك لجنة قانونية ستُشرف على الدستور، وهذه اللجنة مخولة، وفيها كثير من الخبراء والمرجعيات القانونية الأصيلة من الأرض السورية، من أهالي سورية، وبالتالي هم من سيقرّرون هذا الأمر، ومهمة أي حاكم هي تنفيذ هذا القانون الذي يتم التوافق عليه من قبل هذه اللجان». (مقابلة BBC).
إن إصرار الشرع على فصل قراراته الشخصية عن القوانين العامة يعكس محاولته تفادي الجدل حول دوره في توجيه المجتمع، لكنه لا يوضح بشكل كافٍ حدود تدخل الدولة في القضايا الاجتماعية، وهو ما قد يؤثّر في الحريات العامة مستقبليًا، في حين إنه أبدى موقفًا واضحًا وصريحًا حول مسائل أخرى كثيرة، فإن ترك الباب مفتوحًا لفرض أحكام متشددة تجاه هذه المسائل مستقبلًا يخلق بعض الخوف، ويثير تساؤلات حول مدى التوازن بين الحقوق الفردية والتقاليد المجتمعية.
الموقف من المعارضة:
المعارضة في أيّ نظام سياسي معاصر هي أحد أركان النظام السياسي، وهي ضمانة ضد الاستبداد، إذ تتيح للفرد وللمجتمع على السواء مساحة واسعة للتعبير والاحتجاج لتنمية القدرات والإبداع. وقد ظهر في تعبيرات الشرع مواقف تؤيد وجود المعارضة، منها قوله: «فليس هناك من يجمع عليه كل أهل البلد، يعني كان يحصل بعض الاعتراضات وهذا حق طبيعي، وهو شيء إثرائي» (مقابلة BBC)، وفيما يخص اتهامه باستخدام العنف ضد المعارضة في إدلب، لا ينفي الشرع وجود اعتراضات ضده، بل يراها حقًا طبيعيًا، لكنه شدد على أن أي اعتداء على المؤسسات العامة تمت مواجهته بالقانون وليس بالقوة المفرطة، وبالنسبة إلى إمكانية خروج تظاهرات ضده في دمشق، يؤكد الشرع أن التظاهر حقّ مشروع، لكنه يضع شروطًا قانونية لانضباطه، حيث يميز بين التظاهر السلمي وبين التعدي على الممتلكات العامة، هذا الموقف يبدو متوازنًا نظريًا، لكنه يعتمد على مدى استقلالية الأجهزة الأمنية والقضائية في التعامل مع الاحتجاجات، ويعتمد قبلها على نص القانون والتقييدات التي توضع في القانون على الحريات العامة.
«تم استخدام القانون في مواجهة الناس الذين تعدّوا على المؤسسات العامة، فأن يعترضوا على أمر معين على قرار معين فهذا من حقهم، لكن أن يتعدى على المؤسسات ويهدمها ويقوم بحرق بعض المؤسسات وقطع الطرقات، فهذا يحاسب عليه، لأنه يؤذي المصالح العامة». (مقابلة BBC)
ولكنه في موضع آخر يرى أن:
«حالة الدولة لا تحتمل الانقسامات، فهناك مؤسسات كانت من أجل معارضة الحكم السابق، واليوم ذهب هذا الحكم السابق، وأقول لنجتمع جميعًا تحت ظل الدولة اليوم نبني قانونًا ودستورًا وخطة استراتيجية كبيرة للبلاد، ولسنا بحاجة إلى مؤسسات جانبية في ظل وجود الدولة». (مقابلة العربية)
هذا التناقض وعدم الوضوح الكافي من موضوع الحريات العامة ونشاط المعارضة يثير تساؤلات حول مدى استيعاب السلطة الجديدة للتعددية السياسية، ولا سيّما إذا كانت هناك أطراف معارضة تختلف مع الشرع في رؤيته، فهل سيُسمح بإنشاء أحزاب سياسية مستقلة تعارض السلطة الجديدة وتنشط بحرية، أم سيكون هناك تقييد لها بتشريعات وقوانين ضيقة صارمة مصوغة بعناية لتقييد الحريات العامة، كوسيلة لضبط المجتمع سياسيًا بدلًا من ضمان حرية التعبير؟!
النظام الاقتصادي:
لعل رؤية السلطات الجديدة، ومنها رؤية الشرع، تبدو ضبابية أو غير كافية حتى الآن حول النظام الاقتصادي، ويبدو أن ثمة عدم إشراك للكوادر القادرة على رسم توجه اقتصادي مدروس، يتناسب وأوضاع دولةٍ مثل سورية واجهت حربًا مدمرة لنحو 14 عامًا سبقها حكم استبدادي قرابة خمسة عقود. ومن خلال تصريحات الشرع وبعض وزراء حكومة تسيير الأعمال وبعض القرارات، يبدو أن ثمة فهمًا أوليًا بأن سورية ستتجه نحو اقتصاد السوق الرأسمالي، وأنها ستتخلى عن دور الدولة الاقتصادي، وتتجه إلى بيع القطاع العام الاقتصادي، والتخلي عن سياسات الدعم، معتبرين أن مثل هذه السياسات هي سياسات «اشتراكية».
ومن الملاحظ أن ثمة حالة تسرع في اتخاذ قرارات اقتصادية كبرى على نحو غير مدروس، مثل إصدار التعريفة الجمركية الجديدة غير المفهومة، والإعلان عن بيع جميع شركات القطاع الاقتصادي الحكومي، ومن ضمنها توليد الكهرباء وتوزيعها، وبيع معامل الإسمنت والبنوك وغيرها.
ومن نافل القول، أن الاقتصاد السوري لم يكن اقتصادًا اشتراكيًا، ولم تكن سياسات دولة البعث الأسد، منذ استيلاء حافظ الأسد على السلطة سنة 1970، تنطلق من منطلقات أيديولوجية، بل تقوم على حسابات لها علاقة بما يخدم القبض على السلطة، وبما يخدم مصالح «رأسمالية المحاسيب»، حسب التعبير المصري. ثم إن وجود سياسات دعم لبعض القطاعات أو مراعاة الجانب الاجتماعي ومراعاة أوضاع أصحاب الدخل المحدود، في أثناء رسم السياسات الاقتصادية، أمرٌ مألوف ضمن سياسات اقتصاد السوق الحر أيضًا، وأمامنا مثال اقتصاديات دول أوروبا التي تأخذ جميعها تقريبًا بهذه المبادئ، ولكنها تدير مؤسساتها وفق قواعد اقتصاد السوق. ودول مجلس التعاون مثال آخر على امتلاك الدولة لدور اقتصادي وقطاع اقتصادي إنتاجي وخدمي، ومن نافل القول أن نموذج الاقتصاد الليبرالي على طريقة المحافظين الجدد سيضرّ بسورية أيّما ضرر، وهي خارجة من حرب مدمرة اقتصاديًا واجتماعيًا، ولذلك لا بدّ أن تلعب الدولة دورًا قائدًا في إدارة عملية التنمية وتوجيهها، مع لعب دور اقتصادي تدخلي مباشر بحدود معينة، على أن يبقى الاقتصاد يدار وفق قواعد اقتصاد السوق الحر وأن يكون القطاع الخاص هو القوة الرئيسة المحركة للاقتصاد والاستثمار، وفق رؤية استراتيجية تضعها الدولة عبر خبراء ومختصين.
الموقف تجاه مؤسسات الدولة:
على الرغم من أن القرار 2254 ينصّ على الحفاظ على مؤسسات الدولة القائمة منعًا للفوضى، فقد بدا أن موقف السلطات الجديدة وتصريحات الشرع تجاه مؤسسات الدولة موقف سلبيّ تجاهها، إذا ثبت حلّ الجيش ومؤسسات الأمن بكاملها والشرطة، وعمليًا سيُحرم هؤلاء من رواتبهم، ولا سيما أن مصيرهم المستقبلي غير واضح. وبالمقابل أحضرت الإدارة جهاز الأمن والشرطة من إدلب، وهو جهاز صغير غير كاف لاحتياجات سورية، وفتحت باب التطوّع في جهاز الشرطة. وإضافة إلى ذلك، تعاملت السلطة الجديدة مع العاملين في مؤسسات الدولة على أنهم عُرضة للاستغناء عنهم، ولن يبقى منهم في عمله إلا من كانت السلطة الجديدة بحاجة إليه.
حصر السلاح بيد الدولة:
عبّر الشرع أكثر من مرة عن نيّته حلّ هيئة تحرير الشام وحلّ جميع الفصائل، ودمج عناصرها بالجيش الوطني، والانتقال من الحالة الفصائلية إلى حالة الدولة، وقدّم نهجًا قانونيًا وتفاوضيًا لحل مسألة نزع سلاح الفصائل المسلحة، مشيرًا إلى أن القانون هو الحكم الأساسي في هذه القضية، مما يعكس رغبة في تحقيق سيادة الدولة بطريقة منظمة من دون صدام مباشر، وأكد أن الحل سيكون عبر التفاوض والمشاورات، بهدف الوصول إلى دولة موحدة يكون السلاح فيها بيد السلطة الرسمية فقط، وهو موقف يتماشى مع المعايير الدولية في بناء الدول بعد النزاعات.
«أعتقد أن القانون هو من سيفصل بيننا وبينهم، إذا كان أصروا على تواجد الدولة، فهذا السلاح سيكون غير قانوني، وسنحاول من خلال وسائل التفاوض والمشاورات والحوارات التي ستجري بيننا وبينهم أن نصل إلى مرحلة تكون فيها سورية موحدة، وتحت سلطة واحدة، والسلاح يكون بيد الدولة فقط». (مقابلة BBC)
وهذا الطرح يواجه تحديات واقعية عدة، أولها أن الفصائل لن تلقي سلاحها ما لم تشارك في السلطة، وثانيها أن لدى بعض الفصائل رغبةً في أن تندمج في الجيش كوحدات، مما يعني استمرار الروح الفصائلية، في حين إن مصلحة استقرار الدولة توجب دمجها كأفراد، وثالثها أن أعداد مجموع الفصائل يزيد على احتياج الجيش الوطني الذي يقدّر بنحو 100 ألف، فضلًا عن أن الجيش يحتاج إلى اختصاصات عدة لا تتوفر لدى الفصائل، وهذا يعني أن ثمة فائضًا كبيرًا يحتاج إلى إيجاد فرص عمل لهم، وهذا ممكن في حال انطلاق إعادة الإعمار، وهنا نذكر أن أسوأ بديل هو الحلّ الذي لجأت إليه بعض الدول بدفع رواتب للفائضين وهم جالسون في بيوتهم. والمسألة الأخرى التي يمكن ذكرها هنا هي انتشار أخبار عن إلغاء التجنيد الإلزامي في سورية، ونعتقد أن التجنيد الإلزامي «حاجة وطنية»، فهو وسيلة لدمج أبناء المناطق المتباعدة وتعرّفهم إلى بعضهم وإلى ثقافاتهم، كما يمكن استخدام الجيش في أعمال مدنية كثيرة منتجة.
العدالة الانتقالية:
طرح أحمد الشرع مقاربة مزدوجة للعدالة الانتقالية، حيث يؤكد ضرورة محاسبة مرتكبي الجرائم الكبرى، مثل التعذيب الشديد والمجازر المنظمة التي ارتكبتها شخصيات محددة في الأفرع الأمنية أو خلال المجازر الشهيرة، مثل مجزرتي الحولة وبانياس، لكنه في الوقت ذاته يرى أن المحاسبة على كل ما حدث خلال 14 عامًا قد تؤدي إلى دوامة من الانتقام والانتقام المضاد، وقد تعطّل الاستقرار وتؤدي إلى خلافات سياسية ومجتمعية لا نهاية لها.
«أما إذا ذهبنا لنبحث عن حقّ كل ما حصل خلال 14 سنة … فهذا سيكرّسُ حالة الانتقام والانتقام المضاد والخلافات البينية وعدم الرضا، لذلك نحن غلّبنا حالة العفو في أدائنا العسكري أيضًا، ونحن في الحالة العسكرية يتصوّر فيها المرء أن المعركة سيكون فيها حالة من البطش وسفك كثير من الدماء، نحن غلّبنا حالة الرحمة، ودخلنا إلى مناطق كثيرة وواسعة جدًا، ولم يحصل فيها سفك الدماء». (مقابلة العربية)
يعكس هذا الموقف توازنًا بين العدالة والمصالحة، حيث يتم التركيز على الجرائم الكبرى، مع التسامح في بقية القضايا من أجل بناء مستقبل جديد.
«في المعارك الكبرى، يتم التنازل عن الانتقام إلا في حالات معينة، مثل مسؤولي سجن صيدنايا ورؤساء الأفرع الأمنية والطيارين الذي رموا القنابل والبراميل المتفجرة على الناس ومن ارتكبوا المجازر، ومع ذلك يشترط في ذلك أن يؤخذ الحق من خلال القضاء والقانون، وليس من قبل الأفراد، لأن القانون يجب أن نحترمه، وإذا لم نحترمه فستتحول القصة إلى شريعة الغاب». (مقابلة العربية)
واعتبر الشرع أن إعادة بناء سورية هو «أعظم حقّ» يُقدّم للمتضررين، لكنه يتجاهل أن بعض الضحايا قد لا يقبلون هذا النهج دون محاسبة واضحة. وهذا يعني أن رؤيته قائمة على تحقيق استقرار سريع عبر المصالحة والعفو، لكن ذلك قد يواجه تحديات إذا لم يُنفّذ ضمن إطار قضائي واضح يضمن العدالة للجميع. ولم يحدد الشرع آلية واضحة لتنفيذ هذا الطرح، مثل إنشاء لجنة مستقلة للعدالة الانتقالية، مما قد يثير مخاوف حول إمكانية الانتقائية في تطبيق العدالة، فهي تحتاج إلى إجراءات وضمانات واضحة لضمان عدم تحولها إلى مجرد تسوية سياسية تخدم طرفًا على حساب آخر.
فهو يدعو إلى مصالحة وطنية دون عقلية ثأرية أو استقطاب سياسي، ويرى أن عقدًا اجتماعيًا جديدًا سيحقق استقرارًا طويل الأمد، لكنه لم يوضح كيفية تحقيق توافق بين الأطراف المختلفة حول هذا العقد، ويؤكد أن عودة اللاجئين ستكون واسعة النطاق خلال عامين، لكنه لم يقدّم تفاصيل عن السياسات التي ستساعد في إعادة إدماجهم، وشدّد على أن التغيير الاجتماعي يحتاج إلى استراتيجيات طويلة الأمد في التعليم والثقافة والإعلام، مما يعكس رؤية إصلاحية تدريجية بدلًا من تغييرات جذرية سريعة.
«النظام خلّف انقسامات هائلة داخل المجتمع، فلو فتحنا المجال لأخذ الحقوق بالطريقة التي يريدها البعض، فالدولة لن تبنى بهذا الشكل، لا ينبغي أن يكون لدينا عقليه ثأرية في إدارة الدولة، ولا ينبغي أن تكرّس لدينا عقليه المعارضة أيضًا في إدارة الدولة، نحن ورثنا المشكلة السورية كما هي، يجب أن نتعاطى معها بكل حكمة وروية وهدوء». (مقابلة العربية)
رؤية الشرع تعتمد على التهدئة والمصالحة الوطنية كأولوية، لكنها تحتاج إلى آليات واضحة لضمان العدالة والمشاركة السياسية وضمان استدامة المصالحة على المدى البعيد.
ويبدو أن بعض عناصر الهيئة والأمن العام لا يلتزمون بهذه الرؤية، فثمة تجاوزات تتعارض مع مبادئ العدالة الانتقالية، مثل إخضاع جميع عناصر الأمن والجيش والشرطة للتسويات، بمعنى أنهم يحتاجون إلى إثبات براءتهم، وهذا الأمرُ يفتح بابًا واسعًا لمحاسبة أعداد كبيرة منهم قاموا بتنفيذ أوامر قادتهم، إضافة إلى حرمانهم من رواتبهم، وتوحي حملات التفتيش التي تشنّ في مناطق محددة، منها حمص والساحل وغيرها، بأنّ ثمة استهدافًا لهؤلاء دون غيرهم، مما يثير ردود فعل سلبية داخليًا وخارجيًا، ويحتاج إلى معالجة أكثر حكمًا وضبط التجاوزات.
العلاقات الخارجية والعقوبات على سورية
قدّم الشرع موقفًا واقعيًا تجاه سياسة سورية الخارجية في المرحلة المقبلة، حيث أشار إلى أن سورية منهكة من الحرب، وأن الأولوية الآن هي إعادة الإعمار، وتحقيق التنمية، وتحسين مستوى المعيشة، بدلًا من تبنّي سياسات عدائية، وحاول عبر هذا التصريح طمأنة المجتمع الدولي والإقليمي بأن سورية الجديدة لن تكون مصدر تهديد لأي دولة، وهو تصريح موجّه إلى القوى الغربية والإقليمية التي تراقب المشهد السوري، ويبدو أن الشرع يسعى إلى إعادة تموضع سورية كدولة تركز على الداخل بدلًا من الدخول في صراعات إقليمية، وهو تحوّل مهمّ، مقارنة بالخطاب التقليدي للنظام السابق.
«سورية منهكة من الحرب، سواء أكانت دولة قوية أم غير قوية، سورية الآن منهكة من الحروب، ونحن الآن بحاجة إلى تنميتها وتقويتها وبث الرفاهية فيها، فلا ينبغي أن تكون خطط عدائية في سورية على الإطلاق، فهي لا تشكّل أي خطر وأي تهديد، وأنا تكلمت، في أكثر من موقع وأكثر من مناسبة، بأن سورية لن تكون مصدر تهديد لأي دولة من الدول في العالم». (مقابلةBBC)
وصرّح الشرع بأن العقوبات يجب أن تُرفع تلقائيًا مع سقوط النظام، لكنه تجاهل أن أميركا قد لا ترى التغيير في سورية كافيًا لإنهاء العقوبات فورًا، ولم يقدّم استراتيجية واضحة للتعامل مع واشنطن، إذا رفضت رفع العقوبات مباشرة، ولا سيما إذا ربطت واشنطن وحلفاؤها رفع العقوبات بشروط معينة، تتعلق بالإصلاحات الداخلية أو السياسات الخارجية لسورية الجديدة، أو حتى بوجود الشرع نفسه على رأس الدولة السورية.
«نحن أكدنا على مسألة مهمة، وهي العقوبات القائمة على سورية في هذا الوقت، وقد أصدرت بناء على الجرائم التي ارتكبها النظام بحقّ الضحية التي نحن جزء منها، واليوم الضحية أزالت هذا النظام، فينبغي بزوال النظام أن تزال هذه العقوبات تلقائيًا، وأعتقد أن الاستمرار فيها سيزيد من معاناة الشعب السوري، وأميركا كانت تصدر نفسها على أنها صديقة للشعب السوري، فلا ينبغي أن تستمرّ هذه القوانين، وهي التي صدرت بحق النظام كونه قتل من الشعب، والشعب الآن أخذ قراره في إزالته، فنأمل من الإدارة الأميركية الجديدة ألا تسير على نهج الإدارة السابقة في الاستمرار في هذه العقوبات، وأن تُرفع دون الدخول في مفاوضات وفي مساومات على الإطلاق». (مقابلة العربية)
وبالنسبة إلى العلاقة مع روسيا، أشار الشرع إلى أن روسيا تعدّ ثاني أقوى دولة في العالم، ولها علاقات استراتيجية عميقة مع سورية، مشددًا على أن الجيش السوري يعتمد بشكل أساسي على السلاح الروسي، ومحطات الطاقة السورية بُنيت بخبرات روسية، وهناك روابط ثقافية بين البلدَين، بناءً على ذلك، يؤكد أن سورية لن تنفصل عن روسيا سريعًا، كما يتوقع البعض، لكنه في الوقت ذاته يؤكد استقلالية القرار السوري، وأن أي اتفاقية أبرمت بين روسيا والنظام السابق سيُعاد النظر فيها وفقًا لمصالح سورية، فهو لا ينوي قطع العلاقات مع روسيا، بل يريد الحفاظ على الشراكة الاستراتيجية مع احترام السيادة السورية، ولا يسعى لمعاداة روسيا، لكنه يشير إلى وجود اتفاقيات «جائرة» تحتاج إلى إعادة تقييم، ويريد أن تجعل سوريا نفسها «حلقة وصل» بين القوى الدولية، بدلًا من أن تكون ساحة للصراع بينها.
بالنسبة إلى العلاقة مع إيران، يعترف بأن التوسّع الإيراني في سورية كان مشكلة كبيرة، أثرت في سورية ودول الجوار، لكنه يميز بين الشعب الإيراني وسياسات السلطة الإيرانية، مؤكدًا أنه لا يوجد عداء مع الشعب الإيراني.
«التوسّع الإيراني في المنطقة وتحويل سورية إلى منصّة لتنفيذ أجنداته شكّل خطرًا كبيرًا على البلاد وعلى دول الجوار والخليج». ويضيف: «تمكنّا من إنهاءِ الوجود الإيراني في سورية، ولكننا لا نكنّ العداوة للشعب الإيراني، فمشكلتنا كانت مع السياسات التي أضرت ببلدنا». (مقابلة تلفزيون سوريا)
ومن ثم، يمكن تلخيص رؤيته في السياسة الخارجية في النقاط التالية:
الحفاظ على علاقات جيدة مع روسيا، مع مراجعة بعض الاتفاقيات غير العادلة.
تفادي المواجهة مع الولايات المتحدة، والسعي لرفع العقوبات عبر الحوار.
عدم الدخول في صراعات إقليمية، مثل الصراع بين روسيا والغرب، أو بين إسرائيل وإيران.
تعزيز العلاقات مع تركيا والدول العربية ودول الجوار، مع حفظ التوازن بينها، وعدم الانجرار إلى أي تحالفات في المنطقة.
الخلاصة
تعكس تصريحات أحمد الشرع تحوّلًا واضحًا في خطابه السياسي، حيث سعى إلى تقديم رؤية جديدة تركز على إعادة الإعمار والتنمية، بدلًا من الانخراط في الصراعات الإقليمية، وهذا التحوّل يعكس إدراكًا واقعيًا لحجم التحديات التي تواجه سورية بعد سنوات من الحرب، حيث بات من الضروري التركيز على تحسين الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للشعب السوري، وطمأنة المجتمع الدولي بأن سورية لن تكون مصدر تهديدٍ لأي دولة، في محاولة لتخفيف العزلة الدولية المفروضة عليها.
تُظهر تصريحات أحمد الشرع رؤية مبدئية لمستقبل سورية، تتسم بالواقعية الحذرة، لكنها تحتاج إلى التفاصيل التنفيذية والآليات الواضحة لتحقيق أهداف المرحلة الانتقالية، فعلى الرغم من تركيزه على الاستقرار المؤسسي، وإعادة الإعمار، والمصالحة الوطنية، فإن غياب برنامج سياسي وإطار زمني محدد يطرح تساؤلات جدية حول قدرة هذه الرؤية على التحوّل إلى مشروع وطني شامل ومستدام.
وثمة رأيٌ يذهب إلى أنه ليس من العدل أن تتضمّن المقابلات تفاصيل وبرامج تنفيذية، وأن تغطي الجوانب كافة، فمثل هذه المطالب تُوضع في وثائق البرامج المكتوبة. وهنا بالضبط نسأل: لماذا لم تُوضع رؤى مكتوبة وتُعرَض على الجميع؟ وقد يكون لهذا الأمر أكثر من تفسير، ذلك أن عدم وضع وثيقة منشورة سببه ترك الأمور مفتوحة مما يتيح تعديلها، وإتاحة فرصة لتبلور الأفكار من خلال طرحها شفويًا من جهة، ورؤية ردة فعل الشارع السوري من جهة أخرى. وثمة رأي آخر يذهب إلى أن صعوبة وضع وثيقة مكتوبة سببه التعارض بين الرؤى السلفية لغالبية عناصر هيئة تحرير الشام وحلفائها، لطبيعة سورية وأنظمتها وما يجب أن تكون عليه، وهي القوة العسكرية التي تمكّنه في السلطة، وبين رؤية غالبية الشعب السوري الذي يميل إلى رؤية أكثر عصرية وانفتاحًا.
ومن منظور المقارنة، مع تجارب دول أخرى شهدت انتقالًا سياسيًا بعد صراعات طويلة، مثل العراق وليبيا، يتضح أن النجاح في هذه المرحلة يعتمد على تحقيق توازن دقيق بين المصالحة والعدالة، وبين الحفاظ على مؤسسات الدولة وإصلاحها، من دون أن تتحول العملية إلى إعادة تدوير للنخب السابقة أو فرض واقع سياسي جديد بالقوة. وبناء على ذلك، فإن غياب رؤية دستورية واضحة، وتأخر إطلاق مؤتمر الحوار الوطني، وتضارب التصريحات حول مستقبل الحريات السياسية والاجتماعية، قد يعوق إمكانية بناء دولة مستقرة ومستدامة على المدى البعيد.
إضافةً إلى ذلك، فإن التحديات الخارجية، ومن ضمنها العقوبات الاقتصادية، وإعادة بناء العلاقات الدولية، وتأثير اللاعبين الإقليميين مثل روسيا وإيران وتركيا، ستؤثر كثيرًا في مسار المرحلة الانتقالية، ويبدو أن الشرع يحاول تبني سياسة الواقعية السياسية في التعامل مع هذه الملفات، حيث يسعى إلى إعادة التوازن في العلاقات الدولية، من دون أن يعلن رؤية محددة حول كيفية إدارة الملفات الأكثر تعقيدًا، مثل مستقبل الوجود الأجنبي في سورية، أو آليات جذب الاستثمارات اللازمة لإعادة الإعمار في ظل بيئة سياسية غير مستقرة.
ختامًا، إن نجاح المرحلة المقبلة لا يعتمد على إرادة القيادة السياسية فقط، بل أيضًا على مدى قدرة المجتمع السوري بمكوناته كافة على فرض شراكة سياسية حقيقية، وعلى مدى استعداد المجتمع الدولي لدعم استقرار البلاد من دون فرض أجندات خارجية. ومن ثم، فإنّ المرحلة الحالية تمثّل اختبارًا حاسمًا لقدرة سورية على الانتقال من حالة الفوضى والصراع، إلى نموذج حكم ديمقراطي مستدام وعادل، يلبّي تطلعات السوريين في الحرية والكرامة، ويعيد لسورية دورها الإقليمي والدولي كدولة مستقلة ذات سيادة.
تصفح الموضوع
مركز حرمون
————————-
تجربة متقدمة.. كيف كتب السوريون دستورهم الأوّل عام 1920؟/ باسل المحمد
2025.01.20
في 13 تموز/ يوليو 1920، تم اعتماد أول دستور لسوريا، في ظل الدولة الملكية بقيادة الملك فيصل بن الحسين، التي أٌسّست عقب انهيار الدولة العثمانية وانسحاب جيوشها من بلاد الشام.
وقد جاء هذا الدستور بعد عدة جولات للمؤتمر السوري العام الذي أوكل إليه الأمير فيصل، عام 1919، مهمة إنجاز أول دستور لسوريا بحدودها الطبيعية في ذلك الوقت، والتي كانت تضم (سوريا، والأردن، ولبنان، وفلسطين).
شكّل هذا الدستور تجربة متقدمة جداً في ذلك الوقت من خلال معالجة قضايا حساسة وجوهرية مثل العلاقة بين الدين والدولة، والهوية والمواطنة، وقضايا المرأة، والأقليات، وهذا مادفع المؤرّخة الأميركية إليزابيث ف. تومبسون في كتابها “كيف سرق الغرب الديمقراطية من العرب؟” للقول بأنّ القوات الفرنسية التي احتلّت دمشق كانت مكلَّفةً بالسيطرة على مقرّ المؤتمر السوري ومصادرة كلّ ما فيه من وثائق، بهدف تغييب هذه التجربة الرائدة في وعي السوريّين.
تتشابه اليوم إلى حدٍ كبير اللحظة التاريخية التي يعيشها السوريون بعد سقوط نظام الأسد (مع اختلاف الفواعل المؤثرة داخلياَ وخارجياً وجغرافياً) مع تلك الفترة قبل ما يزيد على 100 عام، من حيث سعي السوريين إلى بناء دولة جديدة قائمة على أسس المواطنة والتشاركية، والتي يشكل كتابة دستور شامل يحفظ حقوق وحريات كل السوريين على اختلاف طوائفهم وأعراقهم لبنة الأساس في بناء “سوريا الجديدة”.
ولعلّ ما يفيد في إنجاز هذه المهمة بهذا التوقيت هو دراسة التجارب السابقة التي خاضها السوريين في عملية كتابة الدساتير، لا سيما الدستور الأوّل عام 1920، للتعرف على الصعوبات والتحديات التي واجهتهم من جهة، وكيف عالجوا مواضيع عادت للظهور مجدداً على الساحة السورية مثل الأقليات وحقوق المرأة والتشاركية من جهة أخرى؟
آباء سوريا الدستوريون
شارك في كتابة الدستور الأوّل لسوريا بحدودها الطبيعية في ذلك الوقت نخبة مثّلت مختلف الانتماءات الدينية والعرقية والجغرافية، أما بالنسبة لتسمية “الآباء الدستوريون” فتعود إلى الباحث محمد جمال باروت، للدلالة على النواب أو المندوبين الممثلين للأمة السورية في مناطقها الثلاث الداخلية (الخاضعة للحكم العربي)، والساحلية (الخاضعة للفرنسيين)، والجنوبية (الخاضعة للإنكليز)، والذين تشكّلت منهم أول هيئة تشريعية منتخبة في تاريخ سوريا الحديث اتخذت اسم “المؤتمر السوري العام 1919” في دمشق، والذي أعلن بدوره استقلال المملكة السورية العربية.
وقد بادر هذا المؤتمر إلى تشكيل لجنة خاصة من أعضائه لوضع مشروع أوّل دستور للبلاد، وضمت اللجنة العديد من خريجي المدارس العليا العثمانية والأوربية والخبراء المختصين بالحقوق والشريعة والإدارة، حيث تألفت من (هاشم الأتاسي، سعد الله الجابري، الشيخ عبدالقادر الكيلاني، وصفي الأتاسي، إبراهيم الهادي، سعيد حيدر، عثمان سلطان، الشيخ عبد العظيم الطرابلسي، نيودور أنطاكي،عزة دروزة)، وقد انتخبت في جلستها الأولى هاشم الأتاسي رئيساً، وعزة دروزة سكرتيراً، بحسب ما يذكر أستاذ القانون الدولي إبراهيم الدراجي في كتابه “الآباء الدستوريون”.
وعن هذه النخبة التي كتبت الدستور، يذكر الدراجي في كتابه أن أعضاء اللجنة درسوا الكثير من دساتير الدول المتقدمة، واستعانوا بكتب الحقوق التركية والفرنسية، وتمكنوا خلال فترة قصيرة من صياغته.
ويصف الشيخ محمد رشيد رضا، أحد أعضاء المؤتمر، في مذكراته المعنونة بـ”رحلتان إلى سورية”، اللجنة التي وضعت الدستور بقوله: “وكان فيه -أي المؤتمر- العدد الكافي من دارسي علم الحقوق وأصول القوانين ومن ذوي الإلمام بالشريعة الإسلامية ومن الأذكياء المتعلمين في مدارس الدول العثمانية أو بعض المدارس الأجنبية فكان بذلك كفؤًا لوضع القانون الأساسي للبلاد”.
دولة دينية أم علمانية؟
تذكر المراجع التاريخية أن جلسات المؤتمر السوري، العام 1919، شهدت نقاشاً موسعاً حول علمانية الدولة أم إسلاميتها، وتضيف المراجع أن “بعض أعضاء المؤتمر اقترح في هذه الجلسة أن ينص قرار المؤتمر على أن حكومة سوريا المتحدة لا دينية (لاييك)، وانقسم أعضاء المؤتمر حول هذا فوافق بعضهم وعارضه آخرون مقترحين أن ينص فيه على أنها حكومة عربية إسلامية ودينها الرسمي الإسلام”.
إلا أنه بالعودة إلى المادة الأولى لهذا الدستور نجد مايلي: أنّ حكومة المملكة السورية هي “حكومة ملكية مدنية نيابية، عاصمتها دمشق الشّام ودين ملكها الإسلام”، وهي الإشارة الوحيدة للدين الإسلامي في هذا الدستور.
المفارقة في هذا السياق تأتي من انتخاب الشّيخ رشيد رضا، رئيساً للمؤتمر السوري لمناقشة مواد الدستور قبل تبنيه، وهو أحد رموز السلفية في سوريا، وفد جاء إلى هذا المنصب الرفيع خلفاً لهاشم الأتاسي، الذي أصبح رئيساً للحكومة، مطلع أيار 1920.
وهنا اكتمل التناقض الرهيب، لجنة دستورية “علمانية” أو غير دينية، فيها مسلمون ومسيحيون، تناقش مسودة دستور ملكي، داخل مجلس نواب مختلط يترأسه رجل دين سلفي.
إلا أنه وبالرغم من خلفيته الدينية، لم يعترض الشيخ رضا على “المادة 13” من الدستور، التي نصّت على حرية المعتقد والأديان، ولم يصرّ على أن تكون الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع في المملكة السورية الوليدة.
وقد دافع عن هذا الموقف أمام المحافظين، قائلاً: إنه يسحب الذريعة من الدول الأوروبية للتدخل في شؤون سوريا مستقبلاً بحجّة حماية الأقليات، كما حدث في دمشق بعد أحداث الفتنة بين المسلمين والمسيحيين عام 1860.
وتعليقاً على هذه النقطة يقول د. إبراهيم الدراجي في حديثه لـ موقع تلفزيون سوريا، إنّ تلك الفترة شهدت نوعاً من الخلاف والنقاش الجريء حول موضوع الطابع الديني للدولة، وحتى عندما تم النص على أن الإسلام هو دين الملك فكان الملك عبارة عن “سلطة محدودة”، لأنّ الحكومة كانت مدنية برلمانية.
ويتابع الدراجي أن الشيخ رشيد رضا أثار في محاضر جلسات كتابة الدستور موضوع “دولة لا دينية”، ولكن تم استخدام كلمة “مدنية” لكي لا يتم فهمها على أنها دولة ملحدة.
كيف عالج الدستور مواضيع المواطنة والأقليات والمرأة؟
إلى جانب تميزه في ذلك الوقت بإرساء قواعد لدولة مدنية ديمقراطية، أقرّ الدستور السوري في تلك الفترة نظام حكم لامركزي لضمان تمثيل الأقلّيات وتمكينها من الحكم المحلّي في مناطقه، فقد قسّم البلاد إلى مقاطعات وحدّد مساحة وعدد سكّان كلّ مقاطعة في الحدّ الأدنى، وجعل البرلمان يتألّف من غرفتين: مجلس النواب ومجلس الشيوخ الذي يعيّن رأسُ الدولة نصفَ أعضائه، ويُنتخَب النصفُ الآخر في المقاطعات، وجعل لكلّ مقاطعة مجلساً منتخباً وحكومة محلّية.
وقد أخذ الدستور بالشكل “الاتحادي” للدولة، وبالنظام الملكي النيابي (البرلماني)، وقد حصر الملك في الأكبر فالأكبر من أبناء الملك الأول، في حين أشار إلى أن المملكة السورية تتألف من (مقاطعات) ذات وحدة سياسية لا تتجزأ، ودمشق هي العاصمة، والعربية هي اللغة الرسمية.
كذلك صاغ دستور المؤتمر السوري الأول مفهوم المواطن بغض النظر عن أي تحديد ديني أو اثني له، فهو أطلق اسم سوري على جميع أفراد المملكة السورية العربية (المادة 10)، فالمواطن السوري هو كل فرد من أهل المملكة السورية العربية، وليس من يتكلم العربية فقط.
إلى جانب ذلك ناقش المؤتمر حرية المرأة وحقها في التعلم والعمل، كما ناقش أيضا أحقّيّة المرأة في الانتخاب، وكاد أن يقرّ ذلك الحق في الدستور، أي قبل فرنسا ذاتها التي لم تقر مثل هذا الحق حتى عام 1944، لولا خشية بعض الأعضاء من أن يمنح ذلك فرصة لتأليب الشارع على أعضاء المؤتمر، في الوقت الذي تكشّفت لهم أطماع الدول الاستعماريّة التي قد تحول دون استقلال البلاد السوريّة.
وفي الربط بين الحاضر الذي تعيشه سوريا وبين الماضي، خاصة في ظل تأكيد العديد من الوفود الأوروبية والأميركية على موضوع الأقليات والمرأة، يوضّح الحقوقي غزوان قرنفل أن السوريين في ذلك الوقت -وعلى الرغم من اتساع الجغرافيا بحدود سوريا الطبيعية- استطاعوا رغم الخلافات أن ينسجموا ويتوافقوا على صيغة لدولة مدنية ديمقراطية، إذ لم يكن الخلاف المذهبي أو الديني عامل مفجر للخلافات بينهم بخلاف اللحظة الراهنة.
وعليه يرى قرنفل في حديثه لـ موقع تلفزيون سوريا، ضرورة التأكيد على مبادئ المواطنة ودولة القانون لأنّها وحدها من تنزع فتيل أي انفجار في سوريا، فالسوري -يضيف قرنفل- الذي لا يجد لنفسه حقوق متساوية مع السوري الآخر سيلوذ بطائفته، أو بقوميته أو بمذهبه ليحصل حقوقه من خلال هذه الكتلة المذهبية أو الكتلة القومية، بينما لو تكلمنا بدولة مواطنة أو قانون فسنجد الكثير من الشركاء من الطوائف والمذاهب والأقليات والأديان.
ضرورة الاستفادة من التجارب الدستورية
قد يكون كتابة دستور وطني جامع من أبرز المهمات التي ستواجه السوريين بعد سقوط نظام بشار الأسد، لذا يرى أستاذ القانون الدولي إبراهيم الدراجي أنه يُفترض باللجنة المختصّة التي ستتولّى وضع الدستور الجديد أن تأخذ بعين الاعتبار هذا الإرث الدستوري الغني لسوريا، ابتداءً من أفضل دستور عربي وُضع في 1920 حتى دستور 1950، الذي اعتُبر إنجازاً مهمّاً في وقته، وأن تضمن آلية التصويت عليه مشاركة غالبية السوريّين.
ويرى باحثون بالشأن القانوني أن دستور 1950 (كل الدساتير التي جاءت بعده كانت نتيجة انقلاب عسكري)، يعد من أفضل الدساتير التي كتبت في سوريا لأنه ضَمِنَ الحياة السياسية الديمقراطية، ويمكن اعتباره مرجعاً يتم البناء عليه مع بعض التعديلات بحيث تضمن المساواة بين السوريين كافة بمختلف قومياتهم وطوائفهم ومذاهبهم.
إلى جانب ذلك يشير الحقوقي قرنفل إلى ضرورة الوعي لأهمية اللحظة الراهنة بالنسبة للسوريين، الذين يجدون أنفسهم اليوم أمام استحقاق عقد مؤتمر وطني واضح في هويته ونقاشاته، يشارك فيه الجميع من دون إقصاء لأحد، وينتج عنه لجنة تعنى بكتابة دستور متقدم ينال ثقة السوريين.
تلفزيون سوريا
——————————–
الدستور، الحُكْم الدستوري، والتاريخ السوري: في ضرورة جمعية تأسيسية مُنتخَبة لصياغة دستور البلد/ ياسين الحاج صالح
19-12-2024
قال السيد أحمد الشرع قبل أيام إن لجنة خبراء تعمل على إعداد دستور سوري جديد. هذا غير سديد. الدستور هو القانون الأساسي للدولة، المُعادِل القانوني للسيادة، الوثيقة السيّدة، وبهذه الصفة يَتعيّنُ أن يصدر عن جمعية تأسيسية منتخبة، سيّدة نفسها لأنها منتخبة، وليس عن لجنة خبراء مُعيَّنة، يَسودها من عَيَّنها. ما يتمخَّضُ عن لجنة مَسودة هو وثيقة مَسودة، لن تحظى بالاحترام العام أكثر مما حظيت به دساتير الحكم الأسدي البائد.
لا يستجيب تصور دستور تُؤلِّفه لجنةُ خبراء لا للتحوُّل التاريخي الكبير الذي تشهده سورية، الأكبر في تاريخها منذ الاستقلال، ولا من جهة أخرى لمبدأ الحُكم الدستوري، أي المُقيَّد وغير المُطلَق على النقيض من الحكم الأسدي، ولا من جهة أخيرة لسوابق أساسية في تاريخ سورية قبل الأبد الأسدي.
قبل كل شيء، البلد يخرج للتو من حُكْم استعماري داخلي، حَكَمَ بالتعذيب والسجون والمجازر، بحالة الاستثناء الدائمة، وبالتوجيهات والأوامر لا بالقوانين ولا بالدستور، وبسياسة فَرِّقْ تَسُد لا بتنمية الثقة الوطنية بين السوريين المختلفين، وبمبدأ حماية الأقليات الاستعماري، لا بالمواطنة والمساواة الحقوقية والسياسية. هذه كلها خصائص استعمارية، فلا نستخدم هذه الكلمة هنا من باب إغلاظ القول بحق نظام العائلة البائد. والتكوين الاستعماري الداخلي هو ما مَهَّدَ لدعوة النظام قوى استعمارية خارجية لمُشاركته قتل مَحكوميه، إيران وتوابعها وروسيا. والمهمّة المطروحة على السوريين بعد انطواء صفحة الكولونيالية الداخلية هي المهمة التي تطرح على بلد تَحرَّرَ لتوه من الاستعمار: البناء الوطني، أي بناء الدولة والمؤسسات بما فيه الجيش والقوى الأمنية، ويجري فيه بسط الأمن في أرجاء البلد ونزع سلاح أي ميليشيات مُحتمَلة واحتكار السلاح بيد سلطة الدولة على ما قال أحمد الشرع بحق، وتوحيدُ سورية جغرافياً. ومن البناء الوطني إصلاحُ البنية التحتية التعليمية والصحية والقضائية، وبالطبع المرافق العامة المُدمَّرة بقدر كبير. ومنه التَقدُّم في ملف العدالة الانتقالية وملاحقة كبار المجرمين (ربما بالمئات) والحجر السياسي على أعوانهم (ربما بالألوف) لسنوات محددة أو مدى الحياة، ومنه الكشف عن مصير المفقودين والمُغيَّبين قسراً، عند النظام أو عند ميليشيات أخرى «آجرت» في من وقعوا تحت رحمتها من سوريين مُستفيدة من تحول البلد إلى غابة، أو إلى جنة للجريمة والإفلات من العقاب.
ثم إنه من البناء الوطني ما يجري سلفاً من نقاش سوري عام، في وسائل التواصل الاجتماعي، في صحف ومجلات وأقنية فضائية، في منتديات إلكترونية، وهو بحاجة إلى أن يجري بصور أقلَّ عشوائية وتناثراً، وأن يبلغ مداه وتتّضحَ مُشكلاته وتتبلور مسائله. ومن هذا البناء الوطني انتخابُ جمعية تأسيسية، تضع دستوراً للبلد بناءً على هذا النقاش العام، وعلى تاريخ الثورة السورية، وعلى مُجمَل تاريخ سورية ككيان سياسي وطني حديث. لا تكون الجمعية سيّدةً إن لم تكن مُنتخَبة، ولا يكون الدستور سيَّدَ القوانين إن لم يَصدُر عن جمعية سيّدة. هذه الجمعية تتحول بعد وضع الدستور إلى برلمان، أو تحلُّ نفسها ويجري انتخاب برلمان أو جمعية وطنية أو مجلس شعب إلخ.
وهذه أشياء كبيرة، لا يمكن أن تجري بين ليلة وضحاها. فلا بدَّ من مرحلة انتقالية، فترة بين عام وعامين، يجري خلالها بسطُ السلم الأهلي وتهدأ فيها الانفعالات وتسترخي الأنفس، وتتحسّنُ الخدمات، وتُتاح الفرصة لسوريات وسوريين متنوعين أن يُنظّموا قواهم ويشكلوا جمعياتهم ومنظماتهم السياسية والاجتماعية والمهنية، ويستعيد المجتمع السوري شيئاً من مدنيته، من أجل الانتخابات والجمعية التأسيسية والدستور.
فإذا أخذنا بالاعتبار، على ضوء خبرتنا التاريخية في زمن ما بعد الاستقلال، أن حجرَ الزاوية في البناء الوطني هو البناء المُواطني، أي الاستثمار في حرية السوريين واستقلال عقولهم وضمائرهم، كان ذلك داعياً إضافياً للتمهُّل وإعطاء أنفسنا ومجتمعنا فرصة للتنفس وتَمالُك النفس. وربما خلال هذا الزمن الانتقالي تجري مبادرات لتعزيز السلم الأهلي، مبادرات أهلية، لكن كذلك مبادرات من القوى السياسية المُحتملة، ومن الفريق المُسيطر الحالي.
ربما يقال إنه خلال عام أو عامين يُعزّز الفريق المُسيطر مواقعه ويفرض تصوراته وقواعده، فلا يُطلق عملية انتخابية إن لم يضمن نتيجتها مسبقاً. ليس هذا ممّا يمكن استبعاده في واقع الأمر، إن صفا الجو لهذا الفريق. وقد تكون هناك فكرة مُكمّلة تتصل باللحظة الثورية الحالية ووجوب أن يجري التأسيس الجديد الآن، ربما خلال شهر أو شهرين، أو ربما حتى نهاية ولاية حكومة محمد البشير الحالية في آذار القادم، بدلاً من عام أو عامين. لكن هذا غير ممكن واقعياً ببساطة. جغرافيا البلد لا تزال غير مكتملة، ومحافظات الجزيرة الثلاثة أو أقسامٌ مهمة منها لا تزال خارج نطاق السلطة الجديدة. ثم إن انتخابات عامة دون حصر السلاح بالسلطة المركزية تضع الناخبين المحتملين تحت سيطرة الميليشيات.
فإذا بنينا على ما نُعاين اليوم من ديناميكيات، ربما نرى تبلور سلطة جديدة أكثر وأكثر، وفي الآن ذاته ظهور مقاومات جديدة أكثر وأكثر. وصعودُ وانتشارُ المقاومات الاجتماعية وتنظيمُها هو ما يُعوَّل عليه من أجل نظام سياسي عاقل. عقلُ النظام السياسي في أي بلد علائقي، وليس في رؤوس أفراد متولي أعلى المناصب الحكومية أو تكتلاتهم. والنظام أقلُّ عقلاً حين لا يوازن نفسه بغير التعددية الدينية والثقافية التي لا يفكر الإسلاميون بغيرها، ولا يتجاوزها إلى تعددية أمر واقع سياسية أوثقَ صلة بعالم اليوم وتَطلُّعات الناس اليوم والمصالح القائمة اليوم، وفوق أنها هي وحدها ما تُبقي النظام السياسي مفتوحاً على قوى جديدة وأفكار جديدة. لم نفتقر إلى تَعدُّدية دينية وثقافية في الحقبة الأسدية، بل بالعكس تمت رعايتها على أكمل وجه، ما افتقرنا إليه هو بالضبط التعدُّدية السياسية، تَعدُّدية التنظيمات والبرامج والفلسفات.
وعلى مستوى التَعدُّدية الدينية والمذهبية الموروثة وحدها يشتغلُ منطق الطمأنة الذي اعتُمِدَ في الأيام الباكرة لتحرير المدن الأكبر، لكنه في سبيله لأن يستنفد نفسه سلفاً. ومنذ الآن صار يتعين أن تنضبط الأمور بقوانين وقواعد معلومة تُحيل إلى المواطنة وحقوق الإنسان والحريات العامة. نحن اليوم في زمنِ ما قبل الدستور، وهو زمنُ بناء المنظمات والأحزاب، وزمن التجارب والتمارين على إدارة الحياة العامة في سورية الجديدة على أُسس من التَعدُّد والحوار والثقة.
السوريون بحاجة إلى روح إيجابية تسود في بلدهم ليستعيدوا وطنيتهم (إن من براثن الطائفية أو التبعيات الأجنبية). لقد غُرِّبنا وأُذللنا طوال عقود، والأولوية اليوم لتكريم هذه المعاناة الرهيبة التي تَشارَكها أكثر السوريين بصور مختلفة. ينتهي عهد الذلُّ بالحرية لا بغيرها، وليس بالتأكيد بكثرة الكلام على الكرامة. ومن بين ما تعني الحرية أن يَحكُمَ سوريون منتخبون بَلدَهم، وأن يجري تداول السلطة بانتخابات حرة تجري دورياً. وهو مما يُفترَض أن ينظمه دستور البلد مثلما يضعه من ينتخبهم أهل البلد، وليس لجنة خبراء مجهولة، مُشكَّلة ربما من أمثال عبيدة أرناؤوط، ينتخبها أصحاب السلطة.
ولا ننسى بعد هذا كله أن غاية الدستور هي أن يصير الحُكْم دستورياً، أي مُقيَّداً وغير مُطلَق. وهو ما لا يتأتى إن لم يصدر الدستور عن هيئة سيّدة لنفسها، هي ممّا عرفه تاريخ سورية ذاتها غير مرة باسم الجمعية التأسيسية، وهذا مثلما عَرَضَتْ مقالة محمد علي الأتاسي البارحة في الجمهورية.نت. الحُكْم الدستوري مُقيَّد من حيث الصلاحيات ومن حيث أمد التفويض، فيما يُرجَّح لحُكْم غير مُقيَّد أن يكون وحشاً كاسراً، غولاً. وقد كان للتو. وتستند فكرة الحُكْم الدستوري إلى أنه ليس هناك حاكمون مُمتنِعون لشخصهم أو مُعتقدهم على الفساد والطغيان، على ما يُدلِّل تاريخُنا وتواريخ غيرنا بما يزيد على الكفاية. الانضباط بقواعد عامة مُتَّفق عليها هو وحده ما يحمي المجتمع من الطغيان. هذه القواعد العامة المُلزِمة هي الدستور.
موقع الجمهورية
نعيد نشر هذا المقال لأهميته (صفحات سورية)
—————————-
تفعيل دستور 1950 كمظلة للمرحلة الانتقالية في سورية/ محمد علي الأتاسي
تحية متأخرة إلى د.عبد الحي سيد
18-12-2024
في 15 تشرين الأول (أكتوبر) 2011، مع بدايات الثورة السورية، شيّعَ حي الميدان الدمشقي أحد أبنائه الشهداء، الطفل إبراهيم محمد شيبان الذي سقط برصاص الأمن السوري. خرج موكب التشييع يومها من جامع الدقاق في موكب مهيب شارك فيه أهالي حي الميدان والقدم، إلى جانب العديد من أبناء دمشق الذين توافدوا من بقية أحياء المدينة. وكما جرت العادة في تلك الأيام، ارتفعت الأهازيج والشعارات المُتحدية للسلطة وردَّدَ الجميع «حرية للأبد غصباً عنك يا أسد» و«بشار ما بنريده، السوري يرفع إيده»، ورشّ أهالي الحي الأرز والورود من شرفات المنازل فوق رؤوس المشاركين، قبل أن يطلق الأمن النار ويفرّق الحشود.
في ذلك اليوم، شارك الأستاذ الجامعي والمحامي الدكتور عبد الحي سيد، إلى جانب العديد من أصدقائه وزملائه المثقفين السوريين، في التشييع المهيب، قبل أن يعود وحيداً إلى منزله في حي المزة القريب بعد تفريق الحشود بالقوة، ليتفاجأ بالتلفزيون السوري يُعلن عن اسمه، دون أن يستشيره أحد، ضمن قائمة تضم 29 اسماً أوردها المرسوم الرئاسي رقم (33) لعام 2011 الذي أصدره بشار الأسد صبيحة ذلك اليوم، والذي ينصّ على تشكيل اللجنة الوطنية لإعداد مشروع دستور للجمهورية العربية السورية، برئاسة الدكتور مظهر العنبري وعضوية 28 من الحقوقيين والخبراء الدستوريين والوجوه السياسية المعروفة، على أن تُنهي اللجنة عملها خلال مدة لا تتجاوز أربعة أشهر اعتباراً من تاريخ صدور هذا القرار، وعلى أن يتم لاحقاً إقراره وفقاً للقواعد الدستورية بحسب ما جاء في نص المرسوم الجمهوري. كانت تلك اللجنة واحدة من المحاولات المُبكّرة للرئيس المخلوع بشار الأسد في ادّعاء صياغة دستور جديد، والالتفاف بالتالي على المطالب الشعبية بإسقاط النظام وعودة الحياة الديمقراطية إلى سورية وتعليق العمل بدستور 1973 الذي فَصَّلَهُ والده الراحل على مقاسه لتأبيد النظام الاستبدادي.
في تلك اللحظات الحرجة كان مستحيلاً على الدكتور عبد الحي سيد، العائد لتوه من تشييع أحد شهداء الثورة، القبول بمثل هذا التكليف الرئاسي، وهو الذي عمل بصمت وتصميم خلال عهد بشار الأسد للمحافظة على استقلاليته، ولم ينفكَّ منذ ربيع دمشق يحاول من داخل سورية ومن قلب مدينة دمشق أن يتبنى، بالقول وبالفعل، خطاباً أكاديمياً وحقوقياً مُدافِعاً عن الحريات العامة والفردية وعن استقلالية المؤسسات التي يكفلها نص الدستور السوري نظرياً، والتي لم ينفكَّ تَغوُّلُ السلطة القائمة على انتهاكها عملياً والرمي بها عرضَ الحائط.
في ذلك المساء سطَّرَ الدكتور عبد الحي سيد، دون تردُّد أو وجلّ، كتاب استقالته مُشيراً فيه إلى أن أحداً لم يَستشِره في هذا التكليف، وأنه عَلِمَ من وسائل الأنباء بخبر تعيينه من قبل رئيس الجمهورية في هذه اللجنة، مُؤكِّداً بلهجة دبلوماسية، ولكن حاسمة، على رفضه المشاركة في أعمال اللجنة، مُشيراً إلى أنه كقانوني «يؤمن أن الصياغة المثلى للدستور تأتي عبر التداول في جمعية تأسيسية، كما عرفت سورية ذلك في أحقاب دستورية مختلفة».
طبعَ الدكتور عبد الحي كتاب الاستقالة على ورقة تحمل ترويسة مكتبه للمحاماة في دمشق، ومَهرها بتوقيعه وصَوَّرَها وحَمَّلَ الصورة على صفحته على فيسبوك، قبل أن يبعث بالنسخة الأصلية الى رئيس اللجنة الدكتور مظهر عنبري. وما هي إلا دقائق حتى بدأت وكالات الأنباء والتلفزيونات الفضائية تتداول خبر الاستقالة، مُفسِّرة الأمر بأنه تمرُّدٌ وكسرٌ لإرادة بشار الأسد ومرسومه الرئاسي، وبدأت معها الاتصالات والضغوط وعمليات الترغيب والترهيب لثني الدكتور عبد الحي عن قراره بالاستقالة. في حين التزمَ الدكتور عبد الحي الصمت واكتفى بنشر كتاب استقالته، وأبقاه على صفحته الفيسبوكية، رغم استدعائه من قبل نقيب المحامين بحضور مسؤول أمن النقابات لثنيه عن قراره دون جدوى.
لم تَكُن تلك هي المرة الأولى ولا الأخيرة التي استطاع فيها الدكتور عبد الحي سيد، من خلال تَمسُّكه بمناقبية المهنة وصلابة الإرادة، أن يُسجِّلَ مواقفَ مستقلة ومُعارِضة في مواجهة تَغوُّل السلطة، دون أي استعراض أو بطولات زائفة. ولم يكن الدكتور عبد الحي الشخصية الأولى، ولا الأخيرة، في سلسلة طويلة من الأسماء المستقلة التي بقيت في الداخل السوري، والتي عملت بصمت وإصرار على مقاومة الهيمنة السلطوية. فسورية لم تَخلُ يوماً خلال السنوات السوداء الماضية من النساء والرجال وأصحاب المهن الحرة، الذين عملوا بتصميم وصمت للدفاع عن استقلاليتهم المهنية والسياسية والفكرية، في مواجهة سلطة مستبدة تمادت في استباحة كل الفضاءات العامة المستقلّة داخل المجتمع السوري، وصولاً إلى اندلاع الثورة السورية في العام 2011.
أردتُ من خلال إيراد هذه الواقعة تبيان أهمية وخطورة الاستحقاقات المُتعلّقة بكتابة دستور جديد للبلاد بعد سقوط نظام الأسد، فالمسؤولية الأخلاقية والمهنية التي دفعت بالدكتور عبد الحي سيد لرفض قبول تكليف بشار الأسد له بالمشاركة في لجنة كتابة دستور للبلاد، من غير أن تكون هذه اللجنة مشكلة من جمعية تأسيسية لها صفة تمثيلية، يجب أن تحدونا اليوم إلى رفضِ أي محاولة من قبل سلطة الأمر الواقع لتعيين لجنة لكتابة دستور جديد للبلاد، حتى لو تم عرضه بعد ذلك على الاستفتاء الشعبي.
تمَّ اليوم، بعد سقوط نظام الأسد الدموي على يد هيئة تحرير الشام وتفكك بنيته الأمنية والعسكرية، تعليقُ العمل بدستور بشار الأسد للعام 2012، وتعليق مجلس الشعب وتنصيب الحكومة المؤقتة لإدارة شؤون البلاد خلال الفترة الانتقالية. وتشهد سورية مرحلة انتقالية غاية في الخطورة، سيترتبُ على مُخرجاتها شكلُ وآليةُ عمل نظام الحكم الجديد وموقعُ سورية في المنطقة والعالم.
لقد ترافق السقوط المدوي لنظام عائلة الأسد مع محاولة الهيئة وحلفائها في «إدارة العمليات العسكرية» الإمساك بزمام الأمور الأمنية والعسكرية في البلد، والاستئثار بإدارة المؤسسات الحكومية والنقابات المهنية في معظم الأراضي السورية كسلطة للأمر الواقع، وقد تَكرَّسَ ذلك من خلال الإعلان عن مرحلة انتقالية تمتد لثلاثة أشهر تديرها حكومة الإنقاذ القادمة من إدلب، إلى حين تشكيل حكومة جديدة وتنظيم آلية انتقال السلطة وشكلها.
في هذا السياق جاءت الإشارة الوحيدة، حتى تاريخ كتابة هذا المقال، لتشكيل لجنة تعنى بصياغة دستور جديد للبلاد، على لسان عبيدة أرناؤوط الناطق الرسمي باسم ما يسمى «إدارة الشؤون السياسية» لتلفزيون الجزيرة في 11 كانون الأول (ديسمبر)، أعلن فيها تعليق العمل بالدستور والبرلمان، وأكَّدَ بحرفية العبارة على أنه «ستُشكَّل لجنة دستورية من خيرة الحقوقيين والقانونيين، الذين سيعملون على النظر في الدستور السابق والعمل على تعديلات».
فداحةُ هذا التصريح وخطورته لا تتعلق فقط بأن تشكيل هذه اللجنة سيتم في الدوائر السلطوية الضيقة، بعيداً أي مشروعية شعبية وانتخابية، كما كان الحال مع لجنة كتابة دستور بشار الأسد التي انسحب منها الدكتور عبد الحي سيد لافتقادها الصفة التمثيلية، ولكن لأن مثل هذه القضايا المصيرية المتعلقة بصياغة دستور البلاد، وشكل الحكم وطريقة عمله، تفترضُ وجود جمعية تأسيسية مُنتخَبة ومُمثِّلة للإرادة الشعبية، تنبثق عنها لجنة لصياغة الدستور تتمثَّلُ فيها معظم القوى السياسية والمجتمعية والدينية وتتداول بشأن كل بنوده ومواده الشائكة، على أن يتم لاحقاً إقرار النسخة النهائية للدستور بالتصويت داخل الجمعية التأسيسية أو من خلال استفتاء شعبي حر.
منذ اليوم الأول لصدور هذه القرارات المرتبطة بتعليق الدستور والعمل على تشكيل لجنة لكتابة دستور جديد، ارتفعت الكثير من الأصوات السورية المُنتقِدة والمُحذِّرة من فرض لجنة لصياغة الدستور من قبل السلطة السياسية الجديدة، وتجددت النقاشات العامة من حول شكل نظام الحكم الجديد في سورية، في ظل تجاذبات ومخاوف من دفع القوى الإسلامية المهيمنة باتجاه إعادة تأسيس الدولة السورية على أُسس دينية بعيداً عن أي صيغة تشاركية، خصوصاً أن معظم الناطقين باسم هيئة تحرير الشام والإدارة السياسية لم ينفكوا يرددون عبارات فضفاضه من مثل بناء دولة المؤسسات ودولة العدل ودولة قانون، دون أي إشارة إلى مصطلحات مفتاحيه تحمل دلالات عميقة بالنسبة لاحتياجات الواقع السوري من مثل: الانتخابات، وصندوق الاقتراع، والإرادة الشعبية، ومجلس النواب، وسيادة الشعب، وفصل السلطات.
فداحةُ الأمر أن سورية تمر اليوم بمرحلة انتقالية غاية في الخطورة، ونجاح الثورة السورية يرتبط بتحصين هذه المرحلة الانتقالية من خلال تقصير مدتها الزمنية قدر الإمكان، وصولاً إلى بر الأمان المُتجسّد في إنتاج سلطة تنفيذية جديدة منبثقة من الإرادة الشعبية التي يمثلها صندوق الاقتراع والسلطة التشريعية.
لذلك فالسؤال المركزي اليوم بخصوص المرحلة الانتقالية لا يرتبط فقط بماهية وكيفية تشكيل حكومة انتقالية ذات صبغة تمثيلية، ولكنه يرتبط كذلك بالإطار القانوني والدستور المؤقت الذي سيحكم عمل هذه الحكومة في إدارة المرحلة الانتقالية. الهدف اليوم هو إيصال البلد إلى بر الأمان، وإلى صندوق الاقتراع وإلى الدستور الجديد، وقطع الطريق على قوى الثورة المضادة، الداخلية والإقليمية، المتربصة بالبلد والتي بدأت منذ الآن محاولة إجهاض الثورة السورية.
يبدو لنا أن خارطة الطريق إلى سورية الجديدة يجب أن تنطلق من القيام بمشاورات مُوسَّعة من أجل تشكيل حكومة انتقالية من التكنوقراط، تحمل صبغة تمثيلية واسعة وتجسّد قدرَ الإمكان التنوع السياسي والمجتمعي السوري، وتُشرف على إدارة المرحلة الانتقالية، وتحلُّ محل الحكومة المؤقتة التي عينتها هيئة تحرير الشام.
ومن ثم لا بد أن تتظافر الجهود، كل الجهود، للضغط من أجل إعادة العمل بدستور العام 1950 كوثيقة دستورية مؤقتة، تُنظّم عمل سلطات الدولة ومؤسساتها خلال هذه المراحل الاستثنائية التي تعيشها البلاد، وليكون هناك إطار قانوني ناظم للحكم خلال الفترة الانتقالية المحددة، ولتطبيق القوانين النافذة والحدّ من سلطة الأمر الواقع وتقييد عملها بأطر قانونية واضحة. ويجب أن يُتوَّجَ كل هذا المسار في الختام بإقرار قانون انتخاب ملائم للواقع الجديد، يسمح للشعب في نهاية المرحلة الانتقالية بانتخاب جمعية تأسيسية يمكن لها أن تتحول في النهاية إلى مجلس نيابي، ويعود إليها تشكيل لجنة لصياغة دستور جديد أو تعديل دستور العام 1950 ليتوافق مع متطلبات العصر الجديد.
لقد تناقشت النخب السورية وتصارعت على مدى قرن كامل في سياق صياغة وكتابة دساتير عديدة، وتداولت في قضايا شائكة من مثل مكانة الدين وشكل النظام البرلماني الجمهوري، بِدءاً من دستور العام 1920 الذي انبثق من لجنة دستورية برئاسة هاشم الأتاسي انتخبها المؤتمر السوري الأول، مروراً بلجنة دستور 1928 التي انتُخبت من قبل الجمعية التأسيسية بعضوية سبعة وعشرين عضواً برئاسة إبراهيم هنانو، ووصولاً إلى دستور العام 1950 الذي صاغته لجنة دستورية انتخبتها الجمعية التأسيسية من 33 عضواً برئاسة ناظم القدسي، ثم صوتت عليه الجمعية وأقرّته في 5 أيلول (سبتمبر) 1950، قبل أن يتم تعليقه بعد الانقلاب الثاني لأديب الشيشكلي.
يبقى أن دستور 1950 كان يعود في كل مرحلة تَحوّل ديمقراطي ليكون الضامنَ في الفترات الانتقالية، كما حدث مع انتخابات العام 1954 وانتقال السلطة من هاشم الأتاسي إلى شكري القوتلي، وكما جرى بعد الانفصال حيث أعيد العمل به وأجريت انتخابات العام 1961 على أساسه.
واليوم، وفي ظل هذه المرحلة الانتقالية الحرجة، سيكون من الجائر تشكيل لجان معينة من الأعلى لصياغة دستور جديد للبلاد بعيداً عن أي رقابة شعبية وصيغة تمثيلية واسعة، وفي غياب جمعية تأسيسية منتخبة تستطيع أن تتداول في بعض القضايا الدستورية الشائكة من مثل مكانة الدين الإسلامي أو شكل نظام الحكم، وهل هو جمهوري برلماني يُنتخَب فيه الرئيس من البرلمان أم جمهوري رئاسي يُنتخَب الرئيس فيه مباشرة من الشعب. وكل الخوف أن يؤدي هذا الطريق في النهاية إلى المضي قدماً باتجاه بناء ديكتاتوريات جديدة، وانبعاث مظلوميات قديمة.
لقد دفع الشعب السوري أثماناً باهظة، قتلاً وسجناً وخطفاً وتشريداً، من أجل أن يستعيد حريته بيده، وسيكون من الجائر أن تحاول بعض القوى المسلحة باسم المشروعية الثورية مصادرة ثورته وإرادته الحرة. لا، لن تُسامحنا رزان زيتونة وسميرة الخليل، ولا يحيا الشربجي وغياث مطر، ولا أبو فرات وعبد القادر الصالح، ولا فدوى سليمان وعبد الباسط الساروت، ولا باسل شحادة وحسان حسان، ولا زكي كورديللو وعبد العزيز الخير، ولا مشعل التمو ورياض الترك، ولا كل المُعتقَلين والمُغيَّبين، إذا فرطنا نحن بدماء الشهداء وارتضينا أن يقودنا حاكمٌ فرد، واحدٌ أحد، بعيداً عن أي مُساءَلة أو مُحاسبة أو رقابة، وفي غياب أي دستور أو قانون وضعي أو مشروعية انتخابية.
موقع الجمهورية
نعيد نشر هذا المقال لأهميته (صفحات سورية)
—————————-
الشبكة السورية تدعو وسائل الإعلام للتوقف عن استضافة داعمي النظام المخلوع
2025.01.20
دعت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، وسائل الإعلام إلى التوقف عن تأجيج مشاعر الضحايا عبر استضافة داعمين لنظام الأسد المخلوع أو مبررين لجرائمه، مشيرة إلى أن الاعتذار وتعويض الضحايا والابتعاد عن الأضواء والمناصب العامة، خطوات يجب على المنتهكين تنفيذها لتعزيز السلم الأهلي.
وقالت الشبكة السورية في تقرير أصدرته أمس الأحد، إن بعض وسائل الإعلام استضافت عقب سقوط نظام الأسد، شخصيات متنوعة من فنانين ومثقفين ورجال دين، عُرفوا بدعمهم لنظام الأسد وتبريرهم لجرائمه، بل ودعوتهم الصريحة إلى زيادة القصف والقتل ضد المعارضين.
وأضافت أن تلك الاستضافات “جرت بدون أن تتخذ تلك الشخصيات أي خطوات تجاه ضحايا النظام، الذين يُقدّر عددهم بالملايين. كما فاقمت بعض المنصات الإعلامية الوضع عبر استضافة أفراد أنكروا وقوع هذه الجرائم أو حاولوا تبريرها، ما يؤدي إلى تأجيج مشاعر الضحايا ودفع بعضهم نحو الانتقام”.
وأوضحت أنه وفقاً لقاعدة بيانات الشَّبكة السورية، فقد ارتكب نظام الأسد انتهاكات جسيمة وصلت إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، واستمرت هذه الانتهاكات على مدى 14 عاماً. شملت بعض هذه الجرائم قتل ما لا يقل عن 203 آلاف مدني، من بينهم 23 ألف طفل، وإخفاء نحو 115 ألفاً آخرين قسراً، بينهم قرابة 8,500 سيدة.
إضافة إلى ذلك استُخدم نحو 82 ألف برميل متفجر لقصف المدن السورية. وقد وثَّقت الشَّبكة هذه الانتهاكات يومياً وأرست قاعدة بيانات تضم ملايين الحوادث الموثَّقة. كما حددت الشَّبكة أكثر من 16,200 فرد متورط في هذه الجرائم، منهم:
• 6,724 من أفراد القوات الرسمية، بما في ذلك الجيش وأجهزة الأمن.
• 9,476 من أفراد القوات الرديفة، التي تضم ميليشيات مساندة للنظام.
اقرأ أيضاً
مدخل سجن صيدنايا الذي كان يعرف باسم “مسلخ”
“الشبكة السورية” تدعو السلطات لحماية مسارح الجرائم في سوريا من الانتهاكات
إعادة الممتلكات المنهوبة وتقديم اعتذار
وشددت الشبكة في تقريرها على ضرورة إقامة مسار للعدالة الانتقالية في سوريا، يُحاسب بموجبه المسؤولون الرئيسون عن الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب. كما ينبغي أن تشمل المحاسبة داعمي النظام غير المتورطين مباشرةً في الجرائم الكبرى، سواء كانوا من الجهات الأمنية أو الطبقة السياسية والاقتصادية التي أيدت نظام الأسد. تعتبر العدالة الانتقالية ضرورة لضمان الانتقال من حقبة الدكتاتورية إلى الاستقرار واحترام حقوق الإنسان.
ومع أنَّ تشكيل لجنة العدالة الانتقالية قد يستغرق عاماً أو أكثر، إلا أنَّ هناك خطوات فورية يمكن لداعمي نظام الأسد البدء بها:
1. إعادة الممتلكات المنهوبة، بما في ذلك الأراضي والمنازل والمتاجر والسيارات، إلى أصحابها.
2. تقديم اعتذار علني مكتوب ومصور عبر المنصات الإعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي، يتضمن الاعتراف بالمسؤولية عن دعم نظام الأسد، مع تعهد بعدم تكرار تلك الأفعال.
3. تعويض الضحايا وذويهم مادياً ومعنوياً عن الأموال التي سرقت أو الابتزاز الذي تعرضوا له.
4. الإسهام في إعادة بناء المجتمعات المتضررة، وتمويل مبادرات الناجين والبرامج التعليمية لأسر الضحايا.
5. التطوع لتقديم خدمات مباشرة للضحايا وأسرهم.
6. الالتزام بعدم شغل أي مناصب قيادية في الحكومات السورية المستقبلية.
7. الامتناع عن الظهور في المقابلات الإعلامية أو المشاركة في أي فعاليات عامة قبل تنفيذ هذه الخطوات.
وبحسب الشبكة، فإن هذه التدابير تعد ضرورية لحماية السلم الأهلي، فضلاً عن كونها ضمانة لداعمي نظام الأسد من أي ردود فعل انتقامية محتملة. فالكثير من الضحايا قد لا يتمكنون من ضبط مشاعرهم وهم يشاهدون داعمي النظام ما زالوا يحتلون منازلهم أو يبررون الجرائم التي وقعت بحقِّهم.
منع موالي النظام من الظهور عبر وسائل الإعلام
يدّعي العديد من موالي نظام الأسد، وفق تقرير الشبكة، أنَّهم لم يكونوا على علم بمستوى الوحشية والبربرية التي ارتكبها النظام، على الرغم من الكم الهائل من التقارير الإعلامية والحقوقية التي توثق جرائمه. إلا أنَّ هذا الادعاء بالجهل، وبخاصة بعد سقوط النظام، لا يعفيهم أبداً من المسؤولية. لذا، ينبغي على هؤلاء الامتناع عن أي ظهور إعلامي أو ثقافي أو اجتماعي قبل تثقيف أنفسهم بشكل شامل عن الانتهاكات التي ارتكبها النظام الذي دعموه أو برروا جرائمه.
ولا يمكن تصنيف تبرير جرائم نظام الأسد ضمن نطاق حرية الرأي والتعبير، إذ يُعد ذلك انتهاكاً صارخاً لكرامة ملايين الضحايا. لذا، يجب العمل على إصدار قوانين تجرّم علناً تمجيد نظام الأسد أو تبرير أفعاله الوحشية.
وعلى الرغم من أنَّ خطابنا يركز بشكل أساسي على داعمي نظام الأسد، كونه المسؤول عن نحو 90 بالمئة من الانتهاكات، إلا أنَّ هذه التدابير يجب أن تُطبق على كافة مرتكبي الانتهاكات.
توصيات
ووجهت الشبكة توصيات إلى الحكومة السورية الجديدة، دعت فيها إلى:
• إصدار تعميم يحظر إنكار جرائم نظام الأسد أو تبريرها بأي شكل.
• إدراج تعليم وتوضيح جرائم الأسد بحقِّ الشعب السوري ضمن برامج الإعلام الحالية، والطلب من المدارس والجامعات تسليط الضوء عليها، لضمان توعية الأجيال بعواقب الاستبداد وأهمية الديمقراطية.
• التأكد من أنَّ أي شخصيات دعمت نظام الأسد قد نفذت جميع الخطوات المشار إليها سابقاً، قبل منحها أي دور في الأنشطة أو التعاون مع مؤسسات الدولة.
• إزالة جميع رموز نظام الأسد، بما في ذلك الصور والشعارات، ومعالجة المحتوى الإلكتروني الذي يروج لجرائمه أو يبررها.
• تخليد ذكرى ضحايا نظام الأسد عبر فعاليات وطنية ومعالم تذكارية.
• التعاون مع منظمات حقوق الإنسان السورية لنشر الوعي حول إرث النظام الوحشي.
• دعم المبادرات التي تعزز الحوار بين المجتمعات المنقسمة بسبب سنوات النزاع المسلح.
كما وجهت الشبكة توصيات إلى وسائل الإعلام، طلبت فيها:
• التوقف عن استضافة منكري جرائم نظام الأسد أو المبررين لها بأي صورة كانت.
• التزام المؤسسات الإعلامية بمعايير أخلاقية ترفض تلميع صورة المتورطين في الجرائم، وتعمل بدلاً من ذلك على تعزيز قيم العدالة والمساءلة. يجب أن تكون هذه المنصات شريكاً في عملية المحاسبة الشاملة، لا أداة للتطبيع مع مرتكبي الانتهاكات.
• إنتاج أفلام وبرامج توعوية توثق أهوال مراكز الاحتجاز، وتروي معاناة أسر الضحايا الذين قُتلوا أو اختفوا قسرياً، أو دُمّرت منازلهم، من أجل الحفاظ على الذاكرة الجماعية وتعزيز الوعي العام.
————————–
مَن هم سجناء صيدنايا الإسلاميون؟/ حسام جزماتي
2025.01.20
يسود اعتقاد بأن معتقلي سجن صيدنايا الإسلاميين، في سنوات قبيل الثورة، كانوا نوعين؛ قلة من عتاة المجاهدين المخضرمين العائدين من أفغانستان، وجمهور من الشبان قليلي التجربة العائدين من تجربة عاطفية متحمسة في العراق، شجعتهم عليها سلطات دمشق ثم بادرت إلى احتجازهم عند عبورهم الحدود وهم في طريق العودة.
وداخل “المختبر” المزعوم لصناعة الإرهاب في هذا السجن أتاحت المخابرات السورية للأولين أن يؤثروا في الأخيرين فيصلب عودهم في طريق الجهاد فكراً وسلوكاً، والحال أن ما سبق مجموعة من الأوهام المتراكبة التي يعضد بعضها بعضاً، وتتقوى بمدى ذيوعها حتى صارت في مصاف المسلّمات.
كمقدمة لا بد منها نستعرض تاريخ السلفية الجهادية في سوريا، فقد خلّفت “أحداث” الثمانينيات مئات من الشباب الإسلامي في خارج البلاد، ممن نجوا من التصفية والاعتقال، ووجدوا أنفسهم أمام خيارَي متابعة الحياة المعتادة؛ دراسة وعملاً وزواجاً، وهو ما فعله أكثرهم، أو الاستمرار في الخط الفدائي في “ساحة” أخرى كانت قد انفتحت في أفغانستان، وهو ما اختارته قلة منهم تابع أفراد منها حتى نشوء التيار السلفي الجهادي في أوساط المقاتلين العرب هناك، وأسهموا حتى تأسيس “القاعدة”.
خلال تلك السنوات، التي امتدت لعقدين، كانت سوريا تعيش في دوائر متعددة من التعقيم الأمني؛ ضد العمل السياسي عموماً والإسلامي منه بشكل خاص، وضد التيار السلفي فضلاً عن طبعته الجهادية، لكن ذلك كله لم يمنع أفراداً متناثرين في أنحاء البلاد من أن يجدوا طريقهم إلى أفغانستان، بتواتر غير ملحوظ ومن دون تفكير في العودة.
تغير هذا الوضع فجأة، كما في أرجاء العالم الإسلامي تقريباً، عندما ضربت الطائرات برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك في 11 أيلول/ سبتمبر 2001، مؤذنة ببزوغ نجم (أسامة بن لادن) كطبعة مزدوجة جديدة عن المجاهد القادم من الصحراء إلى الجبال، وعن المناضل الأممي ضد الغرب.
منذ ذلك الوقت لم تتوقف نقاشات مجموعات متفرقة من الشباب، في البيئات العربية السنّية السورية، عن تناول موضوع الجهاد، والاجتماع سراً لمشاهدة إصداراته الفيلمية، والبحث عن الطريق للالتحاق به، والذي كان يزداد صعوبة في ظل الحرب العالمية على الإرهاب، حتى أتاح الغزو الأميركي للعراق، بعد أقل من سنتين، فرصة أن يصبح الجهاد في متناول اليد.
وإذ تزامن ذلك مع تشجيع السلطات السورية، لأسبابها الخاصة بالطبع، على القتال في هذا البلد الشقيق المجاور؛ لم يعد مطلوباً من الشاب سوى أن يسافر، علناً في الغالب، إلى الحدود حتى ينخرط في العالم المشتهى للرصاص والدماء والإثخان في الأعداء.
لكن الواقع كفيل بتدمير كل المتخيلات، فقد سقطت بغداد في وقت قياسي، ووجد آلاف المتطوعين أنفسهم تائهين قيمياً وواقعياً، وأخذوا طريق العودة الخائب بعد زمن طال أو قصر، ولا سيما قبل تبلور فصائل المقاومة العراقية وإمكانية البقاء هناك ضمن الشبكات المحلية.
لكن “لفحة” الجهاد التي مست أرواح بعض هؤلاء العائدين، وخاصة من تلقى تدريباً على استعمال السلاح أو استخدمه بالفعل، حالت بينهم وبين العودة إلى وعثاء الحياة “الدنيا”، فأخذوا يتقاربون في مجموعات هدفت إلى تقديم الدعم اللوجستي ومتعدد الأشكال للساحة العراقية، وراودت بعضها الآخر أفكار ومخططات للعمل الداخلي ضد النظام.
في تلك المرحلة، التي بلغت ذروتها ربما بين عامي 2005 و2007، أخذت بعض هذه المجموعات بالتدريب والتسليح وأحياناً التنفيذ، في عمليات كان الإعلام الرسمي يعلن عنها من دون أن يصدّقه أحد بسبب تاريخه الطويل في الخديعة، في حين كان سجناء صيدنايا أكثر من عرفوا جدية هذه العمليات، لأن منفذيها كانوا يصلون إلى هذا السجن، بعد مسار التحقيق والتعذيب لدى المخابرات، ويُعرَفون بأسماء الدعاوى التي اعتقلوا بسببها ويروون وقائعها لزملائهم المعتقلين.
ومن هذه التُهم قضايا كانت تعدّ محض خرافات في الوسط السياسي والإعلامي والشعبي خارج الذاكرة الخاصة بهذا البناء، فمنها، مثلاً، الدعوى الأكبر عدداً لتنظيم “جند الشام”، و”دعوى الإذاعة” حين هاجم بعض اليافعين من ريف دمشق مبنى الإذاعة والتلفزيون أملاً في بث خطب إسلامية في عام 2006، و”دعوى القمة” عندما خطط شبان من حمص لتفجير مقر انعقاد القمة العربية المزمع عقدها في دمشق في سنة 2008، وعدة دعاوى باسم “القاعدة” يرتبط معظمها بالصلة مع تنظيم أبي مصعب الزرقاوي في العراق لا مع “القاعدة” الخراسانية.
ندرة من معتقلي سجن صيدنايا “الإسلامي”، أي من نزلائه في تلك المرحلة والذين قام عليهم مجتمع “الاستعصاء” الشهير في عام 2008؛ كانوا قد عرفوا أفغانستان، وندرة من كانت لهم أدوار شبه وازنة في العراق.
وإذا أردنا التعيين أكثر ربما يفيد ذكر ثلاثة أسماء لعبت أدواراً رئيسية في قيادة مرحلة الاستعصاء، كلٌّ في تياره بعد أن تمايز الجهاديون إلى مجموعات ثلاث، وهم أبو حذيفة الأردني وأبو خالد العراقي وأبو العباس الشامي.
فقد تزعم الأردني، إبراهيم عبد الظاهر، التيار المتوسط في السجن الذي عُدّ أميرَه في وقت ما، نتيجة لعلاقة كان يروي عنها مع الزرقاوي، من دون أن يظهر اسمه في الأدبيات الجهادية العراقية أو تبدو عليه، في سجن صيدنايا، علامات فارقة في القيادة أو حضور شخصي خاص، وقد أُعدم نتيجة لتجدد محاكمته بعد الاستعصاء لاتهامه بأنه أحد “رموز التمرد الذين كان لهم دور أساسي في أحداث الشغب والعصيان”.
أما العراقي، حسن فرحات، فقد تزعم التيار المتشدد بناء على ما وصف به من تصلب رغم بساطته الشخصية، لا اعتماداً على كاريزما أو علم، وهو تركماني من تلعفر، كحال بعض قيادات داعش، وقد قُتل في الاقتحام الأخير الذي أنهى الاستعصاء.
وفي حين أن الشامي، محمد أيمن أبو التوت، كان الأكثر علماً وخبرة بين الثلاثة وفي السجن على العموم؛ فإنه كان متهماً من خصومه بالنزوع إلى المسالمة والتفاوض وفق ميول إخوانية، والتهمة الأخيرة منقصة كبيرة في الجو السلفي الجهادي، وقد تزعم التيار الهادئ الذي يميل إلى الحلول الوسط، وبعد خروجه من السجن لعب دوراً مرجعياً في تأسيس حركة “أحرار الشام الإسلامية”، ثم اعتزل العمل العام قبل أعوام.
لم يحوِ سجن صيدنايا مرجعيات جهادية كبيرة؛ إمّا لأن أشخاصاً من هذا النوع لم يقعوا في أيدي المخابرات السورية، وهو الغالب، أو لأن مكانهم هو الفروع الأمنية إن وجدوا.
ولم يتعرض الشبان الصغار لتأثير ممنهج يختلف عن ذلك الذي كانوا يسيرون في تحصيله في ظرفهم المعتاد قبل السجن، وقد خرج بعضهم، وخاصة أولئك الذين اعتقلوا بتهم ثانوية كالتستر أو تصفح مواقع إسلامية محظورة على الإنترنت أو تداول السيديات الجهادية، كما دخلوا، عواماً في الحياة وفي الممات..
تلفزيون سوريا
——————————-
ما منصب أحمد الشرع؟/ وائل السواح
20.01.2025
صحيحة ومشروعة وضرورية كل التساؤلات حول مدى صدق توجه الشرع الجديد وما يصحبها من نقد وتدقيق وتشكّك، ولكن إغفالها ليس صحيحاً ولا مشروعاً، وبالتأكيد ليس ضرورياً.
انتصرت قوات أحمد الشرع على جيش بشار الأسد في وقت قياسي أدهش الجميع بمن فيهم الشرع والأسد، على الأرجح. ووجد الشرع نفسه يجلس في مكاتب الرئيس الفار ويتصرف بمقادير الأمور، كما كان سلفه يتصرف، فعيّن الحكومة، وهو يلتقي المندوبين والمبعوثين والوزراء، من دون أن يكون له – هو نفسه – صفة رسمية. فما منصب أحمد الشرع؟ وهل من الضروري أن تكون له صفة رسمية؟
حالات سابقة
عندما قام الانقلابيون في مصر بقيادة جمال عبد الناصر بثورتهم العسكرية على الملك فاروق في تموز/ يوليو 1952، سارعوا إلى تأسيس مجلس قيادة الثورة، وأسندوا رئاسته إلى أعلى رتبة عسكرية بين الضباط الأحرار، اللواء محمد نجيب. مثّل مجلس قيادة الثورة في مصر الهيئة الحاكمة الجديدة وتولّى زمام الحكم خلال المرحلة الانتقالية نحو النظام الجمهوري. وكان له دور بالغ الأهمية في صياغة المسار السياسي لمصر، إذ ساهم في تعزيز السلطة تحت قيادة عبد الناصر ووضع اللبنات الأساسية لدولة اشتراكية ذات طابع قومي عربي.
وكذا فعل البعثيون وحلفاؤهم إثر نجاح انقلابهم في آذار/ مارس 1963، حين اقتدوا بتجربة عبد الناصر في مصر، وأسسوا مجلس قيادة الثورة وأسندوا رئاسته إلى أعلى الضباط رتبة، وكان الناصري لؤي الأتاسي. اضطلع المجلس بمهمة ترسيخ السلطة وتطبيق أيديولوجية حزب البعث القائمة على الاشتراكية العربية والقومية، إذ أطلق حزمة من الإصلاحات الجذرية، شملت إعادة توزيع الأراضي، وتأميم القطاعات الصناعية الكبرى، وترسيخ نظام الحزب الواحد.
ونحا حزب البعث العراقي النحوَ نفسه، فأسسوا مجلساً بالاسم نفسه، ترأسه أحمد حسن البكر، وبرز كأعلى سلطة حاكمة عقب الانقلاب الذي قاده حزب البعث في 17 تموز/ يوليو من ذلك العام وأطاح حكومة عبد الرحمن عارف. وسرعان ما أصبح المجلس القوة المهيمنة في النظام البعثي، فتبنى المجلس سلسلة من الإصلاحات الكبرى، شملت تأميم الموارد النفطية، وإعادة توزيع الأراضي، والعمل على تحديث الاقتصاد والبنية التحتية في العراق. وكان أداة صدام حسين لتأسيس نظام استبدادي محكم استمر في ظل حكم البعث حتى عام 2003.
ولاية الفقيه
التجربة الإيرانية تقدم لنا مثالاً آخر. بعد ثورة شباط/ فبراير 1979، برز آية الله روح الله الخميني كقائد محوري للثورة التي أطاحت النظام الشاهنشاهي ووضعت حداً لقرون من الحكم الوراثي في إيران. ورغم تمتعه بسلطة استثنائية، اختار الخميني عدم تولي أي منصب حكومي رسمي، لإيمانه العميق بأولوية القيادة الدينية على المناصب السياسية.
تصوّر الخميني نفسه (ونصّبها) مرشداً روحياً ومهندساً للجمهورية الإسلامية، حيث مارس نفوذه من خلال مبدأ ولاية الفقيه، الذي أعطى رجال الدين السلطة العليا في الدولة، وفوّض المهام التنفيذية للمسؤولين الحكوميين، لضمان توافق القرارات السياسية مع المبادئ الإسلامية تحت إشرافه المباشر.
كان سبيل الخميني هذا يجسد رؤيته لدولة ثيوقراطية تتفوق فيها السلطة الدينية على الهياكل السياسية التقليدية، ما مكنه من توجيه مسار الإصلاحات الداخلية والسياسات الخارجية من دون قيود الإدارة اليومية. ولم تؤدِّ هذه الاستراتيجية إلى ترسيخ موقعه كمرجع أعلى لا يُنازع فحسب، بل ساهمت أيضاً في تشكيل الهوية الثورية لإيران وترسيخ مكانتها كدولة ذات طابع إسلامي متفرد.
فماذا عن الشرع؟
النظر في التجارب السالفة يعطينا الحق في التساؤل عن المنصب الذي يحتلّه رجل دمشق القوي الآن، أحمد الشرع، أو ذاك الذي يبتغيه لنفسه. الغموض الذي يحيط الشرع نفسه به يجعل جميع الاحتمالات مفتوحة. فالسوابق المصرية والسورية والعراقية قد تمهد لمأسسة انقلابية-ثورية يمكن أن تنتهي بتنصيب الشرع ديكتاتوراً مقبلاً لسوريا.
والمثال الإيراني مع الخلفية الدينية العميقة للشرع، قد يفتح طريقاً يبني فيه الشرع نظاماً يضع فيه نفسه فوق السلطات، وبالتالي يضمن استمرارية في الحكم، لأن منصب “المرشد” أو “القائد” لا يرتبط بفترة زمنية، لأنه ليس منصباً سياسياً أو حكومياً، بل هو مكانة فوق-سياسية وفوق-حكومية. وهو غير منتخب من الشعب، ويبقى حتى يموت صاحب المنصب أو يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
طريق ثالث
مع ذلك ثَمَّ طريق ثالث. حين انتفض السوريون ضد الحكم الدكتاتوري المافيوي الفاسد، كان هاجسهم تطلعاً غريزياً غير مؤدلج إلى الحرية والكرامة. وحين سقط نظام الأسد، كان التعبير الأولي للسوريين عن نفسهم عودة إلى التطلع القديم نحو الحرية والكرامة. وبالتالي، لم يسقط نهائياً احتمال أن تسير البلاد في ركاب انتقال ديمقراطي أو شبه ديمقراطي، يجعل من تداول السلطة وفصل السلطات وسيادة القانون الأطر العامة للدولة السورية.
لتحقيق ذلك، لا بد من أن يمارس السوريون الذين يؤمنون بتلازم الديمقراطية السياسية والمدنية الاجتماعية (ولنسمّ هذا الاتجاه اصطلاحاً المدنيقراطية ونسمي المؤمنين به مؤقتاً المدنيقراطيين) ضغطاً متواصلاً على الحكم الجديد لكي يحافظ على توازن دقيق وحرج، ولكن مطلوب، بين التيارات السورية الدينية والتيارات المدنيقراطية.
لا يمكن أن ننفي أو ننسى أن السيد الشرع جاء إلى السلطة على حصان إسلامي جامح. كانت كل الجهود الإقليمية انصبت لتقضي على الوجه المدنيقراطي للثورة السورية، وتبرز الوجه الإسلامي، وفيما دُفِع القليل على التعليم والنشاط المدني للمعارضة، دُفع الكثير لتسليح الفصائل الإسلامية الراديكالية. وكان أحمد الشرع – بصفته الفاتح أبي محمد – على رأس واحد من أكبر هذه الفصائل قوة وتنظيماً. ولا يمكن أيضاً أن ننسى أن قوة الفاتح كانت تعتمد على مدى تديّن محازبيه ومقاتليه.
ولكن عندما خلع الفاتح عمامته، خلع معها جزءاً من تطرفه الديني. والحق أن الرجل يتمتع بحس براغماتي عالٍ وذكاء حاد ومقدرة على استيعاب الظروف الموضوعية، وهو ما افتقر إليه ديكتاتور سوريا السابق الذي كان يعيش في دائرة مغلقة من الأوهام. وانتقل الشرع مع مسؤولياته الجديدة وانفتاحه على المنطقة والعالم من الفكر الضيق الذي كان يحكم عقلية الفاتح، إلى الفكر الرحب الذي يميز الرجال والنساء الذين يقفون على قمة الهرم فيرون – إذا ما رغبوا – الأمور من كل الزوايا.
ولا يمل الشرع من ترداد أن الثورة انتهت وأن سوريا انتقلت الآن من الثورة إلى الدولة. وكرجل دولة – لا كرجل فصيل إسلامي مسلّح – يحاول أن يتخلص من بعض أفكار الفصائل المسلحة وممارساتها. ومع العمامة واللباس الديني، تخلّى الشرع عن الخطاب القديم الراديكالي واستبدله بخطاب معتدل ومتوازن، وابتعد عن النهج العسكري للجماعة، متبنياً رؤية أكثر اعتدالاً تركز على الحوكمة. ولا تعوزنا الأمثلة لشرح ذلك، فقد اتخذ الزعيم الجديد جملة من الخطوات التي تدعم ما ذهبت إليه، فأعلن عن عزمه حلّ الميليشيات الطائفية ودمجها في جيش وطني موحّد، وتعهد بحماية حقوق الأقليات، واستضاف وفوداً عربية وأجنبية لمناقشة استقرار المنطقة وجهود التعاون، بدلاً من المواجهة، لإعادة الإعمار، ودعا الى الاستثمار الأجنبي في البنية التحتية الحيوية، مثل شبكات الطاقة وأنظمة إمدادات المياه، لخلق بيئة مواتية للتعافي الاقتصادي وخلق فرص العمل.
صحيحة ومشروعة وضرورية كل التساؤلات حول مدى صدق توجه الشرع الجديد وما يصحبها من نقد وتدقيق وتشكّك، ولكن إغفالها ليس صحيحاً ولا مشروعاً، وبالتأكيد ليس ضرورياً.
على أن براغماتية الشرع وواقعيته و”انفتاحه” لا تسايرها براغماتية وواقعية وانفتاح من قاعدته الشعبية والعسكرية. ولن يكون عسيراً على أي متصفح لوسائل التواصل الاجتماعي أن يتعثر بفيديو أو تعليق من أحد مناصري الشرع الذين لا يعجبهم كثيراً اعتداله وتردده في تطبيق “شرع الله”. وظَنِّي أن الرجل يتعرض لضغط كبير من قاعدته (الضيقة ربما) من السوريين وغير السوريين. سأسمّي هذا الضغط “الضغط من الأسفل،” وأرى أنه هو على الأرجح ما جعل الشرع يسند منصب وزير العدل إلى رجل أشرفَ بنفسه على قتل امرأتين علناً بتهم “أخلاقية،” ويصمت عن التسرع في القيام بتعديل في المناهج السورية من دون اختصاص أو دراسة، بل ويعين غير سوريين ضباطاً برتب عالية في الجيش السوري.
وأسس عدد لا يستهان به من الإسلاميين السوريين لجاناً لـ “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” كل على طريقته، وحاولوا فرض الحجاب على النساء وإغلاق البارات بالقوة أو بـ “النصح.” ولئن تدخلت قوات هيئة تحرير الشام الحاكمة اليوم لردع بعض هذه الحالات في دمشق مثلاً، فقد تغاضت عن حالات أخرى في أماكن أخرى من البلاد، وقد لا تفعل ذلك غداً.
يرغب هؤلاء وسواهم في أن يعلن الشرع سوريا الجديدة دولة إسلامية بلا رتوش ولا تجميل. ولا يستطيع الشرع أن يستمر في حكمه من دون دعم هؤلاء ومساندتهم، ولذلك سيكون لزاماً عليه أن يحتويهم ويستمع إليهم.
لكن ذلك قد يدفع بالرجل فعلاً إلى تلبية رغباتهم. فلا بدّ إذاً من وجود نوع آخر من الضغط يأتي من الطرف الآخر ليحافظ على اعتدال الشرع ووسطيته. سيأتي هذا الضغط من السوريين الليبراليين والعلمانيين والأقليات الدينية ودعاة المدنية والاعتدال وجزء لا يستهان به من السنّة المعتدلين. وسأسمي هذا الضغط “الضغط من الأعلى”.
للسوريين وغيرهم ممن يمارسون الضغط من الأسفل مصلحة عقائدية أو انتهازية قوية تجعلهم لا يتعبون من فرضها على الحكم الجديد. فإذا لم يكافئها ضغط لا يكل من الأعلى، فسيكون من شبه المؤكد أن ينحو الشرع نحو جماعته، ولا نحسبنّ لحظة أن الغرب سيمارس الضغط حتى النهاية نيابة عنا.
تتمتع جماعة الضغط من الأسفل بقوة وجودها في الداخل السوري وقربها العقائدي من الزعيم، ولها عليه دالّة القتال معه. في المقابل، جزء كبير من جماعة الضغط من الأعلى موجودون في الخارج، ولئن انتابت معظمهم رغبة عاطفية جامحة في العودة فوراً، إلا أنهم على الأرجح لم يعودوا إلا إلى زيارة من تبقى من أهلهم في البلاد. وهذا ما يجعل الإصرار، واجتراح سبل جديدة، واستخدام ما يمكن أن تتمتع به منظمات سورية في الخارج على الحكومات الغربية، والاستفادة من رأس المال السوري في الخارج وسيلة للضغط، أساليب لا غنى عنها لتعويض نقاط ضعفهم.
فرصة الشرع
في تمّوز/ يوليو 2016، كتبتُ في أعقاب الانقلاب الفاشل الذي حاول إطاحة حكم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، مقالاً في جريدة “الحياة”، قلت فيه إن إفشال الانقلاب جاء بدعم شعبي وسياسي وتعاون المعارضة التركية معه. وقلت أيضاً إن أردوغان كان أمام خيارين: إما أن يكون زعيماً لحزب العدالة والتنمية أو يكون زعيماً للأمة. إما أن يكون طرفاً في الصراع وبالتالي يتصرف كمنتصر صغير، أو يكون فوق الصراع ويتصرف كزعيم يريد توحيد الأمة وانتصار الديمقراطية النهائي على آمال العسكريين المتجددة في الانقلاب والسيطرة مجدداً على الحكم في تركيا.
واضح أن أردوغان فضل الخيار الأول، ما جعل شعبيته تنحدر ومكانته كزعيم تتضاءل. كان يمكن أن يكون المؤسس الثالث لتركيا الحديثة، بعد مصطفى كمال أتاتورك وتورغوت أوزال، ويكون مؤسس تركيا القرن الواحد والعشرين.
واليوم أطرح الخيارين نفسيهما.
أمام أحمد الشرع، خياران فإما أن يكون زعيم جماعة إسلامية، كبرت أو صغرت، ستُبقي سوريا في زاوية مهملة من العالم، وإما أن يكون الرجل الذي سيعيد سوريا إلى التاريخ ويعيد التاريخ إليها، ويؤسس جمهورية جديدة في سوريا، تقوم على أساس المواطنة والمساواة وحقوق الإنسان وتداول السلطة وسيادة القانون.
إذا اختار أن يكون خميني سوريا، فسينتهي بعد حين وسيفقد بريقه الذي منحه ثقة شريحة واسعة من السوريين، بمن فيهم ليبراليون وعلمانيون. وإذا اختار أن يكون أول رئيس منتخب لفترة محددة، فعليه أن يشجع على كتابة دستور مدني يتيح له الحكم سنوات، ثم تَؤول الأمور لغيره.
ومها يكن من أمر، فالشرع مدين للسوريين بأن يتحدث إليهم. واضح أن الشرع يخاطب الإعلام الغربي بلغة، ويتحدث إلى الإعلام العربي بما يرغب العرب في أن يسمعوه، ويتوجه إلى مناصريه بما يسرهم.
ولكن أين السوريون من ذلك كلّه؟ نحن – الشعب – نريد أن نسمع من الحاكم الفعلي لسوريا، ومنه مباشرة في خطاب إلى السوريين، لا الترك ولا الغرب ولا العرب ولا الإسلاميين. ونريده حديثاً مباشراً من العقل والقلب، من دون فلترة أو تزويق، فنسمع فيه رؤية الشرع الحقيقية عن مستقبل سوريا وقضايا الحرية والديمقراطية وسيادة القانون ومسائل الحريات العامة والمواطنة المتساوية ودور النساء، وغير ذاك.
نريد أن نعرف ماذا يقصد الشرع بالمؤتمر الوطني وما شروط المشاركة فيه، ولماذا تحتاج كتابة الدستور لسنوات والانتخابات لسنوات؟ وهل ستُجرى الانتخابات في ظل إشراف دولي أم لا، وكيف سيطبق مبدأ العدالة الانتقالية، وكيف سيبني الاقتصاد لتقف البلاد على رجليها وتنتفض كطائر الفينيق السوري، من الرماد.
وما ذلك علينا بكثير، ولا ذلك على الشرع بعسير.
درج
—————————
إسرائيل والجولان المحتل/ أحمد كامل
بعد سقوط الأسد.. تكتسب الجولان أهمية أكبر في العقلية الإسرائيلية
20/1/2025
في سبتمبر/أيلول 2011، وبعد قرابة 6 أشهر من اندلاع الثورة السورية، كتب “إفرايم إنبار”، أستاذ العلوم السياسية في جامعة “بار إيلان” الإسرائيلية، ورقة بحثية عن أهمية احتفاظ إسرائيل بالسيطرة على مرتفعات الجولان السورية، حرَّض خلالها قادة إسرائيل على رفض صيغة “الأرض مقابل السلام”، فيما يخص منطقة الجولان المُحتلة على وجه التحديد.
واعتبر “إنبار” أن المكسب السياسي من وراء هذه المقايضة سوف يكون محدودا لإسرائيل، قياسا بالوضع الراهن، المتمثل في احتلال الأراضي السورية، الذي عدَّه “إفرايم” مُفضَّلا عن أي بديل آخر، وأكثر أهمية من عقد معاهدة سلام مع أي نظام سوري.
وفي معرض تفسير وجهة نظره، أشار “إنبار” إلى أن السوريين لن يقدِّموا إلى إسرائيل أكثر من “سلام بارد”، في حالة تنازلها عن الجولان، على غرار السلام مع مصر، الذي تضمَّن وعدا رسميا بالامتناع عن استخدام القوة ضد إسرائيل، لكنه في الوقت ذاته اتسم بمستوى عالٍ من العداء الشعبي والعداء الإعلامي، وأبقى على صورة إسرائيل العدائية النمطية، مما أسهم في نقلها إلى الأجيال التالية.
وبجانب هذه العوامل، أشار “إنبار” إلى عامل الاضطراب السياسي الذي أبرزته “انتفاضات الربيع العربي”، التي تزامنت مع توقيت نشر ورقته، مشيرا إلى أن التحديات الداخلية التي تواجهها أغلب الأنظمة العربية، بما في ذلك نظام الأسد، تأتي في المقام الأول من قِبَل جماعات المعارضة الإسلامية المعادية لإسرائيل التي قد تُشكِّل خطرا عليها. وفي حين استبعد “إنبار” تمكين العناصر الليبرالية في سوريا على المدى القريب، رجَّح أنها لن تكون أيضا أكثر ميلا إلى المصالحة مع إسرائيل، في حالة تولّيها زمام السلطة في دمشق.
وبحسب رأيه، فإن اجتماع هذه الظروف يُسهِّل الانتقال من “السلام البارد” إلى الحرب في أي لحظة قادمة. ولذا، تبرز حاجة إسرائيل إلى إبقاء سيطرتها على مناطق حدودية دفاعية إستراتيجية مثل الجولان.
وبعد ساعات من انهيار نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول الماضي، بادرت إسرائيل بالتوسع داخل الجنوب السوري واقتحام المنطقة العازلة في الجولان التي جرى ترسيمها في اتفاق وقف الاشتباك بين سوريا وإسرائيل عام 1974، كما سيطرت على جبل الشيخ في أقصى الجنوب الغربي لسوريا المتاخم للحدود مع لبنان وإسرائيل، الذي يعطي الأخيرة أفضلية إستراتيجية واستخباراتية عالية، نظرا لارتفاعه الهائل وسهولة الوصول منه إلى المناطق المحيطة بما فيها دمشق.
وفي تطور أكثر حِدَّة، قتلت إسرائيل عنصرين من عناصر إدارة العمليات العسكرية وآخر مدنيا في 15 يناير/كانون الثاني الجاري جراء عملية قصف نفذته مسيّرة إسرائيلية استهدفت رتلا عسكريا تابعا لإدارة العمليات العسكرية في بلدة غدير البستان بريف القنيطرة جنوبي سوريا.
وفي ظل تلك التطورات التي تأتي في سياق مشهد أمني إقليمي معقد على إثر تطورات حرب طوفان الأقصى وتداعياتها الواسعة، ثم عملية “ردع العدوان” التي أطاحت بنظام الأسد، تكتسب الجولان أهمية مضاعفة، وتبرز الأسئلة حول الأبعاد الإستراتيجية للمنطقة ومآلات الصراع عليها.
الجولان.. أبعاد إستراتيجية
لطالما احتلت مرتفعات الجولان حيزا كبيرا من مناقشات الإستراتيجية السياسية والعسكرية في إسرائيل، حيث كان التساؤل الذي يتصدر هذه المناقشات بشكل دائم هو: “أي الخيارات أفضل لإسرائيل، سلام بدون جولان أم جولان بدون سلام؟”.
وقد طُرحت مسألة التخلي عن الجولان من جانب البعض داخل إسرائيل، باعتقاد أن تحقيق السلام مع دمشق سوف يبعد النظام السوري عن تحالفه الإستراتيجي مع إيران وحزب الله.
كما قلَّلت تلك الآراء من أهمية الجولان على المستوى العسكري، بدعوى أن الأسلحة المتقدمة التي يمتلكها الجيش الإسرائيلي باتت قادرة على تعويض تراجعه وراء هذه المرتفعات، وأن التخلي عن الجولان لن يُعرِّض إسرائيل لهجوم سوري مفاجئ يهدد وجودها، وأن أقصى أضراره المتوقعة تتمثل في تقليص بعض المزايا العسكرية، أو بحسب تعبير “دان هوريتز”، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة العبرية بالقدس، “ستكون مخاطرة في السياق العسكري العملياتي الضيق، ولكن ليس في السياق الإستراتيجي”.
لكن هذه الآراء لم تصمد أمام طوفان الاعتراض، الذي اعتبر التخلي عن الجولان مخاطرة عسكرية كبرى، من جهة أنه يوفر لإسرائيل العديد من المزايا الطوبوغرافية الحاسمة التي كان لها دور تاريخي في إبطاء الهجوم العسكري السوري المفاجئ في أكتوبر/تشرين الأول 1973، مما منح إسرائيل الوقت الكافي لاستدعاء تشكيلات الاحتياط ونشرها، إضافة إلى تلقي الدعم العسكري الأميركي مع تنفيذ حملة قصف إستراتيجي في العمق السوري، ما أدى في الأخير إلى إحباط الهجوم.
كما أن التخلي عن هذه المرتفعات يسمح بتشكيل نتوء غير قابل للدفاع عنه في منطقة الجليل الأعلى (إصبع الجليل)، وهي عبارة عن شريط ضيق بعرض 7 كيلومترات وبطول يبلغ 62 كيلومترا تقريبا، يقع شمال الأراضي الفلسطينية المحتلة بين جنوب لبنان والجولان، مما يزيد من فرص فصل آلاف المستوطنين الإسرائيليين الذين يقطنون هذه المنطقة واحتجازهم رهائن، في حالة وجود هجوم من قِبَل القوات السورية وحزب الله اللبناني.
ومن المنظور الجيوستراتيجي، تُحقِّق السيطرة على الجولان عدة مزايا، حيث دفعت الحدود بين سوريا وإسرائيل شرقا، حتى باتت تقع على طول خط تجمعات مائية في التلال الشرقية من الهضبة، بما يُشكِّل خطا دفاعيا طبيعيا أمام أي هجوم عسكري تقليدي، كما تفرض تضاريس المنطقة على الجانب المهاجم توجيه قواته في ممرات مختنقة بين التلال، مما قد يُمكِّن قوة دفاعية صغيرة من عرقلة الهجوم وصدّه لحين استقدام التعزيزات.
ومن جهة أخرى، تُشكِّل الجولان منصة طبيعية حاسمة في جمع المعلومات الاستخباراتية، وتحديدا في جبل الشيخ الذي يبلغ ارتفاعه نحو 2800 متر ويُمثِّل الحد الشمالي للجولان، ويوفر قدرة هائلة على مراقبة المنطقة كاملة، ويلعب دورا محوريا في مراقبة تحركات القوات السورية في دمشق وما حولها.
وقد أنشأت إسرائيل هناك في أوقات سابقة سلسلة من مواقع المراقبة والتنصت، وتعتبرها حيوية للغاية بحيث لا يمكن المساس بها، وبفضل هذه المواقع يمكن متابعة الأهداف في عمق الأراضي السورية، ومن ثم استخدام الذخائر الدقيقة الموجَّهة ضدها، وكذلك توفير فرص الإنذار المبكر في حالة الهجوم الوشيك.
وفي سياق أوسع، تعزز سيطرة إسرائيل على الجولان من أمن منطقة خليج حيفا الإستراتيجي على ساحل البحر المتوسط، عبر زيادة المسافة بينه وبين المواقع السورية لما يقرب من 90 كيلومترا، وهي المنطقة التي تعتبرها إسرائيل مركزا صناعيا مهما، إذ تضم أحد موانئها الرئيسية، وتُشكِّل جزءا من المثلث الإستراتيجي الحيوي (إلى جانب القدس وتل أبيب)، حيث تنتشر معظم البنية التحتية والسكان.
وباعتبار هذه المعطيات، ثمة اعتقاد منتشر على نطاق واسع بين الإسرائيليين مفاده أن الهدوء الذي يسود الجبهة السورية منذ عام 1974، رغم غياب معاهدة سلام مع دمشق، ورغم التوترات الإقليمية المتتابعة، لم يكن نتيجة فاعلية الدفاعات الإسرائيلية فحسب، بقدر ما كان نتيجة اقتراب القوات الإسرائيلية في الجولان من دمشق، حيث كان يفصل بينهما نحو 60 كيلومترا فقط -قبل التوغلات الأخيرة- مما يضع العاصمة السورية في متناول القوة الإسرائيلية ويوفر قدرة هائلة على الردع.
وفي حال انسحاب القوات الإسرائيلية من المنطقة سوف تُحرَم من هذه الوضعية الإستراتيجية المميزة، بل وستكون متمركزة في القاع على عمق 200 متر تحت سطح البحر، في مواجهة هضبة شديدة الانحدار ترتفع نحو 300 متر فوق سطحه، مما يجعل خياراتها الدفاعية تجاه أي عملية برية معادية معقدة للغاية.
علاوة على ذلك، يستفيد الاحتلال من موارد الجولان الطبيعية وأهمها المياه. وبحسب شركة المياه الوطنية الإسرائيلية “ميكوروت”، فإن ثلث إمدادات إسرائيل من المياه تأتي من الجولان، كما توفر 21% من إنتاج العنب في إسرائيل، ونحو 50% من إنتاج المياه المعدنية، إضافة إلى 40% من إنتاج لحوم البقر.
تُرجح هذه المعطيات أن إسرائيل لن تتخلى يوما ما عن الجولان طواعية، ويتأكد هذا الترجيح بعد النظر إلى سلسلة الأحداث التي أعقبت سقوط نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد، في 8 ديسمبر/كانون الأول الماضي، حيث نفذ جيش الاحتلال عمليات توغل على طول الشريط الحدودي، واستولى خلالها على أراضي المنطقة العازلة، وهي منطقة منزوعة السلاح بين سوريا وإسرائيل بموجب اتفاقية “فض الاشتباك” الموقَّعة عام 1974، حتى بات جيش الاحتلال على بُعد أقل من 25 كيلومترا من دمشق.
وقد بررت دولة الاحتلال عملها العسكري بأنه يأتي على خلفية تغيير الحكومة في دمشق، ما يعني أن ترتيبات وقف إطلاق النار قد انهارت، وأنها باتت بحاجة إلى تحييد التهديدات المحتملة التي تمثلها الحكومة الجديدة.
وفي حين وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، تقدُّم قواته شرقا بالإجراء الدفاعي المؤقت إلى حين التوصل إلى ترتيبات مناسبة، لكن مجلة “الإيكونوميست” البريطانية رصدت اختلافا في بيان نتنياهو الصادر باللغة العبرية، حيث لم يتضمن ذكر كلمة “المؤقت” على غرار البيان الصادر بالإنجليزية، مما يرجح أن الكلمة كانت موجَّهة بغرض تهدئة الرأي الدولي في الوقت الراهن، وأن ثمة نِيَّات أخرى يحتفظ بها رئيس الوزراء الإسرائيلي.
قرية صيدا الريفية التابعة لمحافظة القنيطرة. قرية عابدين الواقعة في منطقة حوض اليرموك بريف درعا الغربي. قرية معربة في منطقة حوض اليرموك بريف درعا الغربي. قمة جبل الشيخ في شمال الجولان. جباتا الخشب وصولا إلى حضر. مدينة البعث في وسط المنطقة العازلة. بلدة الحميدية غرب مدينة البعث. بلدتا كودنا وبرقية.
علاوة على ذلك، صادقت الحكومة الإسرائيلية بالإجماع، بعد نحو أسبوع من توغل قواتها في الجولان، على خطة مقترحة من قِبَل نتنياهو تضمنت تعزيز البناء الاستيطاني الإسرائيلي في هضبة الجولان بميزانية تزيد على 11 مليون دولار. وقال مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي إن الخطة تهدف إلى تشجيع النمو الديموغرافي في مستوطنات الجولان ومضاعفة عدد السكان هناك، في ضوء الحرب والجبهة الجديدة التي تُشكِّلها سوريا في الوقت الحالي.
يُذكر أن عدد السكان من اليهود في الجولان ارتفع بنحو 7 آلاف شخص ما بين عامي 1994-2014، فيما ازداد عدد السكان غير اليهود بنحو 11 ألف شخص خلال الفترة ذاتها. وإجمالا، بلغ عدد سكان الجولان في عام 2016 نحو 50 ألف نسمة، منهم نحو 22 ألف يهودي مقابل 27 ألف من غير اليهود، وهو ما تعتبره الحكومة الإسرائيلية معدل نمو سيئا وتعمل بقوة على تصحيحه.
تزعم إسرائيل أن مصلحتها الأساسية في سوريا هي منع الوجود العسكري الإيراني، وأن تدخلاتها تهدف إلى تحقيق ذلك الغرض. ومن ثم فإنها ترغب في إنشاء منطقة أمنية خالية من الأسلحة الثقيلة، والتخلص من البنية التحتية العسكرية الإيرانية داخل المنطقة العازلة، بهدف إحباط محاولات تجديد طُرق تهريب الأسلحة من إيران إلى حزب الله في جنوب لبنان عبر الأراضي السورية، بحسب ما صرّح به وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس.
ولكن ما يبدو حقيقة هو أن إسرائيل لا تأخذ هذه المزاعم على محمل الجد، إذ تدرك جيدا مدى التباعد بين الإدارة السورية الجديدة وطهران، على الأقل خلال الأمد القريب، وهو ما أكده أيضا زعيم حزب الله اللبناني، نعيم قاسم، الذي أشار إلى أن الحزب فقد طريق الإمداد العسكري عبر سوريا في هذه المرحلة.
ويعني ذلك أن ثمة أهدافا أخرى قد تكون وراء سلسلة الاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة على الأراضي السورية، خاصة أن إسرائيل لم تقم بتوغل مماثل خلال حقبة الرئيس المخلوع بشار الأسد، التي شهدت انتشارا إيرانيا واسعا داخل سوريا مع فعالية خطوط الإمداد لحزب الله طوال السنوات الماضية، وقد اكتفت إسرائيل في هذه الأوقات بتوجيه ضربات جوية إلى أهداف إيرانية محدودة داخل سوريا، من آنٍ إلى آخر.
ماذا تريد إسرائيل في سوريا؟
يتزامن الاعتداء الإسرائيلي على الأراضي السورية مع اقتراب بدء الولاية الثانية للرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي اعترف بسيادة إسرائيل على الجولان عام 2019 خلال فترته الرئاسية الأولى، بما يُرجِّح أن إقدام إسرائيل على اعتداء آخر على الأراضي السورية لم يتعزز فحسب بحالة الفوضى التي أعقبت سقوط النظام السوري، أو بإنهاك القدرات السورية إثر صراعها المرير مع نظام الأسد، بل أيضا بسبب وجود دعم كبير محتمل للاستيطان الإسرائيلي من جانب إدارة البيت الأبيض القادمة.
ويشير مايكل يونغ، مدير تحرير مركز مالكوم كير كارنيغي الشرق الأوسط، إلى أن إدارة ترامب سعت في ولايتها السابقة إلى فرض إطار جديد للعلاقات العربية – الإسرائيلية، ويُمثِّل اعتراف ترامب بشأن الجولان أحد أوجه هذا الإطار الذي يتضمن القبول بواقع جديد، ترفض فيه إسرائيل تقديم أي تنازلات أو اللجوء إلى مسارات التفاوض، بحيث لا يُشكِّل مبدأ “الأرض مقابل السلام” أية قيمة في المستقبل، وعوضا عنه سوف تستخدم إسرائيل قوتها العسكرية في المزيد من عمليات التوسع الدفاعي، بمعنى أن أمن إسرائيل صار يتحقق عبر الاستيلاء على المزيد من الأراضي العربية دون حاجة إلى تفاهمات مع دول الجوار.
في السياق ذاته، يرى تسفي هاوزر، رئيس لجنة الشؤون الخارجية والدفاع والعضو السابق في الكنيست الإسرائيلي، أن من مصلحة إسرائيل تفكيك أي قوة عسكرية معادية محتملة في جبهتها الشرقية في المستقبل، وأن انقسام الساحة السورية إلى كيانات سياسية عدة من شأنه تغيير موازين القوة بما يخدم بلاده، ففي هذا السيناريو لن تضطر إسرائيل إلى الدفاع عن نفسها ضد قوة عسكرية موحدة، تكرس كل مواردها لمهاجمة إسرائيل، بل ضد قوات أصغر منفصلة.
ويستعرض هاوزر شكل الحكم اللا مركزي في سوريا إبان فترة الانتداب الفرنسي، بعدما قُسِّمت البلاد إلى 6 دويلات، مشيرا إلى أن استحداث تقسيم مماثل في سوريا في الوقت الراهن سوف يغير التوازن الجيوستراتيجي على حدود إسرائيل الشمالية، في حين من الممكن أن تقبل بعض هذه الكيانات الجديدة بالشراكة مع إسرائيل، وربما ينشغل البقية بمواجهة العديد من الصراعات العِرقية أو الدينية في ساحة متعددة الجبهات، بحيث لا تتجه هذه القوى ضد إسرائيل.
وتتضمن أهداف إسرائيل من توغلها داخل الجولان، وتوجيه الضربات النوعية إلى المطارات السورية ومخازن الأسلحة الثقيلة، تجريد السلطة السورية القادمة من قدراتها العسكرية، بغرض ضمان تفوق إسرائيل العسكري على محيطها العربي والإسلامي، وهو الهدف ذو الأولوية الدائمة في العقيدة العسكرية الإسرائيلية.
كما قد تتضمن هذه الأهداف توسيع المساحة الاستيطانية عبر وضع النظام السوري القادم أمام أمر واقع، يتمثل في خسارة المزيد من أراضي الجولان، أو اكتساب أوراق تفاوضية يمكن تقديمها في سبيل الوصول إلى اتفاق سلام مستقبلي مع دمشق، دون التخلي عن الجولان بأكمله.
والخلاصة أنه بعد عقود طويلة من الهدوء في الجولان، حيث كانت توصف بأنها أشد جبهات إسرائيل هدوءا طوال عقود، لا يُرجح أن تستمر في الهدوء ذاته خلال السنوات القادمة. وفي ظل تجاذبات محلية وإقليمية تنتظر الشرق الأوسط في المستقبل القريب، وواقع جيوسياسي وأمني جديد قيد التشكل، ستكون الجولان واحدة من نقاطه الساخنة وبؤر التوتر المتصاعد والمستمر.
المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية
———————————————
صراع النفوذ في سوريا.. خلافات واشنطن وأنقرة ورهانات “قسد”/ علي تمي
2025.01.20
زار قائد القيادة المركزية الأميركية، الجنرال مايكل إيريك كوريلا، شمال شرقي سوريا والتقى بقيادات “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد).
ووفقاً للقيادة المركزية، هدفت الزيارة إلى تقييم الحملة المستمرة لهزيمة تنظيم الدولة (داعش)، بالإضافة إلى الاطلاع على الأوضاع في مخيم الهول الذي يضم الآلاف من النازحين وعائلات مقاتلي تنظيم الدولة، ويفهم منها ومن توقيتها، أنها تحمل في طياتها رسالة واضحة وصريحة إلى أنقرة ودمشق مفادها بأننا “لن نسلم هذا الملف لأحد”.
البارزاني يدخل على خط الوساطة بين أنقرة و”قسد”
في ظل تزايد التوترات، خاصة حول منطقة سد تشرين شرقي حلب، تحرّكت حكومة إقليم كردستان العراق لمحاولة لعب دور الوسيط بين تركيا و”قسد”، رغم أن أنقرة تعتبر الأخيرة امتداداً لـ”حزب العمال الكردستاني – PKK”، المصنف إرهابياً في تركيا وروسيا والعديد من الدول الأوروبية.
وبناءً عليه، زار رئيس حكومة الإقليم مسرور البارزاني أنقرة، حيث أجرى محادثات مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ووزير الخارجية هاكان فيدان حول مستقبل قسد والدور الكردي في سوريا.
بعد هذه الاجتماعات، أرسل البارزاني مبعوثه الخاص إلى الحسكة لدعوة مظلوم عبدي لزيارة أربيل، وخلال اللقاء، اقترح البارزاني تشكيل وفد كردي مشترك للتفاوض مع دمشق، ودمج قوات “بشمركة روج” مع “قسد”، بالإضافة إلى العمل على إعادة تفعيل عملية السلام في تركيا، إلا أن عبدي رفض الفكرة مفضلًا التعاون مع المجلس الوطني الكردي في إطار مدني، مع المحافظة على خصوصية مناطق سيطرته.
وتتمثل أبرز نقاط الخلاف بين واشنطن وأنقرة، في إصرار الأخيرة على تفكيك “قسد”، وإعادة إدارة مخيم الهول إلى الحكومة السورية الجديدة، مع نشر قوات حكومية في دمشق على حدودها الجنوبية، وهو ما ترفضه واشنطن بشدة، إذ تدعم الولايات المتحدة فكرة ضم “قسد” إلى الجيش السوري كفيلق عسكري، مع ضمان استقلالية مناطقها الإدارية.
سيناريوهات مفتوحة
وبحسب المعلومات المتوفرة، يستمر الدعم العسكري الأميركي والفرنسي لـ”قسد”، بما في ذلك تزويدها بصواريخ محمولة على الكتف لمواجهة الطائرات المسيرة.
وفي حين يسعى “الديك الفرنسي”، الذي خسر نفوذه في أفريقيا، إلى تعزيز وجوده في سوريا بالتعاون مع واشنطن، تجد تركيا اليوم نفسها أمام تحديات جديدة، وسط ترقبها عودة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، في 20 من الشهر الجاري، على أمل أن يغير سياسات واشنطن في سوريا لصالحها رأساً على عقب.
وبناءً على كل ما ورد، تحاول “قسد” اليوم المراوغة وكسب المزيد من الوقت من خلال إطلاق تصريحات متناقضة هنا وهناك، فتارةً تدعو إلى التفاوض مع دمشق من دون شروط مسبقة، وتارةً أخرى تطالب بحماية دولية من الولايات المتحدة وفرنسا لحدودها مع تركيا.
لكن أنقرة على ما يبدو تتابع هذه التحركات بحذر، وتعتبر رهان “قسد” على احتمالات التمرد في السويداء أو الساحل السوري ضد الحكومة المركزية في دمشق، فرصة لنقل التوازن لصالحها، محاولة محكوم عليها بالفشل، كما تراهن تركيا على رفض السوريين بالإجماع نموذج “الدولة داخل الدولة”، كما يحدث مع “حزب الله” في لبنان.
خلاصة القول، تراهن “قسد” اليوم على عامل الوقت وعلى التناقضات الدولية القائمة داخل سوريا، لكن التحولات الدراماتيكية التي شهدتها سوريا ولبنان أدت إلى ضعف “حزب العمال الكردستاني” وخسارة العقل المدبر له، وهم عائلة “الأسد”، ما قلل من فرص “قسد” في تحقيق الحكم الذاتي لمناطق سيطرتها.
ويتزامن ذلك مع وجود توجه عربي عام لدعم الحكومة السورية الجديدة، فإن أي محاولة لتقسيم سوريا ستصطدم بطبيعة الحال برفض الدول العربية من المحيط إلى الخليج، وبما فيها تركيا على وجه الخصوص، حتى لو أفضى ذلك إلى حرب مفتوحة مع داعمي حزب العمال الكردستاني.
أخيراً، يبدو أن تركيا تستعد لفرض معادلتها الخاصة على الأرض، سواء عبر المفاوضات أو العمليات العسكرية، دعماً للحكومة الجديدة في دمشق بكل إمكانياتها وقدراتها، وإن استمر هذا التعاون في المستقبل، لا شك أنه سيسهم في تقويض ومن ثم إسقاط العديد من المشاريع المخطط لها في المنطقة والتي تُطبخ على نار هادئة، وخاصة داخل سوريا.
تلفزيون سوريا
———————————–
حوارات (ﻋ)طرشانية.. في التكويع والكذب الأيديولوجيين/ حسام الدين درويش
2025.01.20
في فترة احتدام الصراعات السياسية، والنقاشات الأيديولوجية حامية الوطيس، قلما يكون للنقاشات المعرفية المتوازنة والرصينة حضور قويٌّ، وينطبق على معظم تلك النقاشات اسم “حوارات طرشانية”، بمعنى إن كل طرف من الأطراف المشاركة فيها يركز على ما يريد أن يقوله هو، من دون أن يكترث (كثيرًا) بالإنصات أو الاستماع إلى ما تريد الأطراف الأخرى المشاركة في النقاش، قوله. حتى عندما يحاول كل طرف الاستماع إلى ما تقوله الأطراف الأخرى لأخذه في الحسبان، في الرد عليها، يتخذ هذا الرد صيغة المجادلة التي تبتغي الإفحام والفوز بالضربة القاضية، أكثر من اتخاذه صيغة النقاش الذي يروم الإقناع وإظهار المعقولية الجزئية والنسبية لوجهة نظرٍ ما.
يمكن تسمية تلك النقاشات بـ “العطرشانية” –نسبةً إلى شخصية عطرشان التي أدتها الممثلة شكران مرتجى، في مسلسل “الخربة”– لأن عناوين تلك الحوارات ستكون “أمثال بنت ساعتها”، على الأرجح، ولأن النقاشات العطرشانية التي كانت عطرشان تجريها مع زوجها جوهر (محمد خير الجراح)، في المسلسل المذكور، تصلح لتكون أنموذجًا للحوارات الطرشانية، بين الطرشان. والجدير بالذكر أن عطرشان هو أحد أسماء عشبة مزهرة دائمة الخضرة. والأمل أن تكون النقاشات والحوارات الطرشانية عطرشانية بالمعنى الأخير للكلمة (أيضًا).
تهدف هذه السلسلة من الحوارات إلى عرض المضمون المعرفي لحجج الأطراف السياسية المختلفة، بطريقةٍ تسمح بفهمها ومناقشتها واتخاذ موقفٍ نقديٍّ و/ أو بناءٍ منها.
هل كوَّع الجولاني مع هيئته؟
1- الحوار الأول: “دا مستحيل، أبو محمد يميل …!”: هذه ثامن التكويعات/ المستحيلات
هو: الجولاني وهيئته يحملان فكر القاعدة، ولم يتغيرا، ولا يمكنهما أو ليس باستطاعتهما أن يتغيرا أصلًا.
هي: لكن أقوال الجولاني وأفعاله، في الماضي والحاضر، تشير إلى أن تغيرات كثيرة وكبيرة حصلت في هذه الأقوال والأفعال، وهذا يعني أن تغيرات مماثلة وربما أكبر وأهم منها، قد تحدث في المستقبل أيضًا.
هو: أنت موهومة، والجولاني سيكشر عن أنيابه القاعدية في كل فرصةٍ ممكنةٍ.
هي: قد أكون أنا كذلك، وقد يحصل ما تذكره فعلًا، لكن لا يمكن لأحد أن يعرف أو يثبت ذلك الآن. ومن يقوم بالجزم في هذا الشأن هو المخطئ، بالتأكيد، وهو الموهوم والواهم، على الأرجح.
2- الحوار الثاني: “مستحيل إيه اللي أنت جاي تقول عليه”: الجولاني كوّع تكويعة (شبه) كاملة!
هي: ينبغي نسيان ماضي الجولاني وهيئته، فقد تغيرا كليًّا، وسوف ينقلان سوريا إلى الديمقراطية والحريات والعدالة الاجتماعية.
هو: هذه استنتاجات من عندياتك. فحتى الجولاني وصحابته الأكارم لم يصرحوا بذلك، ولم يستخدموا حتى كلمة الديمقراطية وما شابهها في خطاباتهم.
هي: ومع ذلك، ثمة قرائن، بل أدلة كثيرة وكبيرة، على التغير الجذري المذكور.
هو: آمل ذلك، وإذا صدق ما تقولين، فهذا يعني أن الجولاني والهيئة قد كوعا فعلًا، وان تكويعتيهما أكبر من كل التكويعات التي حصلت بعد رحيل النظام الساقط. لكنني أظن أن مثل ذلك لن يحصل ويترسَّخ إلا بضغطٍ داخليٍّ وخارجيٍّ على سلطات الأمر الواقع والقوى النافذة.
في النيل من الجولاني/ أحمد الشرع، والدفاع عنه
3- الحوار الثالث: “لا سلام مع تسييس الإسلام: مع الجولاني سوريا ستؤسلم ولن تسلم”
هو: الجولاني وهيئته يحولان سوريا إلى دولةٍ ميليشياويةٍ دينيةٍ/ إسلاميةٍ شموليةٍ
هي: تبدو دائمًا جازمًا وواثقًا جدًّا من أحكامك، على الرغم من تكرار ثبوت خطئك أو خطئها في كثير من الأحيان في الفترة الأخيرة. فقد كنت تجزم أن عملية ردع العدوان ستكون كارثية النتائج على الشعب السوري، ولن تنجح في إسقاط نظام الأسد، وثبت خطؤك الكبير بالتأكيد. وكنت تؤكد أنه ولا يمكن أن يُسمح للجولاني والفصائل التي يقودها بالوصول إلى دمشق، وأنه في حال تم ذلك فستفضي إلى قيام حرب أهلية سورية (ثانية) … إلخ. وقد ثبت خطأ بعض هذه التوقعات او بالأحرى التنبؤات الجازمة وغيرها الكثير. وعلى الرغم من كل ذلك، أنت تستمر في إطلاق أحكام جديدة من دون أن تعتبر من أخطائك وتنبؤاتك الفاشلة الكثيرة والكبيرة.
هو: غير صحيح، أنا لم أطلق كل هذه الأحكام، بتلك الدرجة من الجزم التي تتحدثين عنها. وفي كل الأحوال أنا واثق كل الثقة، هذه المرة، أن الجولاني سيحول سوريا إلى دولة إسلامية شمولية، ولا ينكر هذا إلا غبي أو متواطئ.
هي: أصبحتَ تشبه الراعي الكذاب، فتكرار خطأ توقعاتك/ تنبؤاتك الجازمة السابقة يجعل من الصعب تصديق توقعاتك/ تنبؤاتك الجازمة اللاحقة، حتى لو صادف أن تحققت إحداها. وإذا كنت منغمسًا في توقعاتك والأيديولوجيا المتأسسة عليها إلى درجة أنك لم تستطع أن تفرح لسقوط الأسد لأنه حصل على يد أبرز أعدائك اللدودين (الإسلاميين)، فمن المرجح أنك لن تستطيع توقع إلا الكوارث منهم، وستكون توقعاتك أقرب إلى الأمنيات في كثير من الأحيان، لأن عدم تحققها يخالف أيديولوجيتك المقدسة، ويجعلك في موضعٍ مثيرٍ للشفقة والنفور معًا. وفي كل الأحوال، وانطلاقًا مما سبق، “كذب الأيديولوجيون، ولو صدقوا أو صدفوا أو صادفوا”.
4- الحوار الرابع: “حافظوا على الهيبة وإلا ستصابون بالخيبة: :بالروح بالدم نفديك يا قائد المسيرة”
هي: “الحفاظ على هيبة الدولة تكون بالمحافظة على هيبة القائد الذي يقود الدولة، وأي انتكاسة فيما سبق انتكاسة للدولة وللقائد. لذا، كل من يحاول النيل من السيد أحمد الشرع هو عدو ولو اختفى بين أسطر من النصيحة المسمومة. السيد الشرع ليس ملاكًا نازلًا من السماء، بل هو فرد منا تميز بالقدرة على جمع الفصائل تحت إمرته لتحرير سوريا من المجرمين. وهذه الميزة وحدها تكفيه أن نفديه بأرواحنا ليواصل المشوار. ومن يقول بغير هذا فهو العدو فاحذروهم! هذا الذي أقوله ليس تقديساً، بل هو حماية للدولة والشعب والقائد الحالي والذي يليه على نهجه (تعظيم المقام وليس الشخص)”.
هو: يتضمن هذا المنطق تخطئة أو تجريم كل اختلاف “معكم”، وتقديسًا للجولاني تحت اسم أو ذريعة حمايته وحماية الدولة والشعب. وهو يتطابق، شكلًا ومن حيث المبدأ، مع المنطق الأسدي الذي تزعمين أن الجولاني قد ساعد في التخلص منه. وإذا كنت تدعين إلى تبني هذا المنطق مع الجولاني، انطلاقًا من أنه استطاع جمع الفصائل تحت إمرته لتحرير سوريا من المجرمين، ينبغي التفكير في إمكانية أن يفضي التحرير المذكور إلى إحلال مجرمين جدد محل مجرمين قدامى، بدل التخلص من الإجرام ذاته والبنية المؤسسة له. وهذا ما يتخوف منه، بحق، كثيرون وكثيرات. وكلامك هذا يزيد أو يعزز من مشروعية أو معقولية تلك المخاوف، بدلًا من أن يساعد على تبديد تلك المخاوف وإظهار خطئها.
هي: تعبِّر انتقاداتكم للشرع عن نكرانٍ للجميل أو للمعروف الذي أنجزه الشرع مع الهيئة والفصائل، أو إنكارٍ لقيمة هذا الإنجاز المتمثل في تحرير سوريا وإنقاذها من الطغيان الأسدي الذي استمر لأكثر من نصف قرن وراح ضحيته مئات الآلاف بل ملايين من السوريات والسوريين؛ بل كانت سوريا كلها، دولةً ومجتمعًا وأفرادًا، ضحيةً له. ولئن شكرتم الشرع فسيزيدنكم، أما “إن كنتم جاحدين، وأكَّالين نكارين، فيا ويلنا منكم، ويا ويلكم منَّا”.
هو: الاعتراف بجميل الجولاني المتمثل في الإسهام في التخلص من الاستبداد الأسدي لا يكون بتأييد الممارسات الاستبدادية التي يمكن أن يقوم بها هو أو غيره. وينبغي ألا نقع في المفارقة المؤسفة الشائعة والمتمثلة في أن موقف بعض معارضي الاستبداد ليس ناتجًا عن رؤيةٍ رافضةٍ للاستبداد من حيث المبدأ، وإنما عن رؤيةٍ مرتبطة بهوية المستبد و/ أو المستبد به. ولهذا كنا نجد أن بعض معارضي صدام حسين “أسد السنة العراقي” هم، في الوقت نفسه، من محبي ومؤيدي حافظ/ بشار “الأسد العلوي السوري”. في حين أن الموقف المبدئي المنصف والمتوازن يقتضي معارضة هذين “الحيوانين/ الأسدين” وكل “الحيوانات الأسدية” المماثلة.
———————————
مي سكاف: الصباح ليس واحدا في كل الأمكنة/ عبدالحفيظ بن جلولي
اعتُبِرت فكرة «المشخصاتي» عنوانا للتمرد على المركز الاجتماعي للعائلة خصوصا في المشرق، لأنه لم يكن يُنظر للممثل على أنه فاعل اجتماعي، بل مجرد شخص استهواه هامش اللهو في الحياة فانحرف عن الخط الاجتماعي القويم، وقد يكون خلاف ذلك في المنطقة المغاربية لتزامن التمثيل مع فترة الاستعمار فكان أداة نضالية جلية المعالم. تغيرت النظرة للتمثيل مع بعض الحذر الاجتماعي، عندما يذكر الوسط الفني. يرتدي الممثل حقيقة قناعا ليؤدي دورا أو يتقمص شخصية ما، معبرا بذلك عن موقف اتجاه الحياة، وتلك كانت المهمة التي اعتنقتها الراحلة مي سكاف، باعتبارها الشخصية الفنية المناهضة للسائد والمتمردة على الهيمنة الاجتماعية والسياسية على الخصوص.
بين القناع والوجه الحقيقي:
تعتبر مي سكاف (1969-2018) واحدة من الممثلات اللواتي كان حضورهن أمام الكاميرا يشخصن الحالة الأكثر واقعية، في مواجهة تخييل الحركة ليتوافق حال الدور مع واقع الحياة، ولهذا لم تستطع أن تبقى على هامش ما يدور، فانخرطت كلية في ما يجب أن تكون عليه الشخصية المتقمصة من تفاعل مع عدسة التصوير لتنقل التعابير الأشد توافقا بين القناع والوجه الحقيقي.
لم تكن الكاميرا غواية أو هواية استبدت بكيانها. الكاميرا بالنسبة لمَيْ موقف من ذاتها أولا، ثم من الحياة باعتبارها مسارا متجددا من الانعطافات الحاسمة التي لا ينفع معها الحياد، فكل لقاءاتها التلفزيونية كانت عبارة عن بيانات شديدة اللهجة لإعلان إنسانيتها المناضلة، المناصرة لحق الإنسان في أن يعيش بكرامة.
درست الأدب الفرنسي في جامعة دمشق والتحقت بالتمثيل، حيث كرست جسدها ونظراتها للتعبير عن الرفض القاطع للهيمنة والواحدية، لم تكن حركات جسدها وهي تؤدي الأدوار سوى عينة من عالم مَيْ المتعدد لقول الحضور في المكان/ الوطن، وتحديد الموقع بدقة ليكون الموقف مرتكزا على أرضية صلبة من التناغم بين الذات وتوهجاتها المشخصة في ظل حركة الكاميرا، إنها الحالة المثلى لصداقة الكائن المتعدد الثابت في مواقفه، مع أضواء الكاميرا في حركتها بحثا عن جزئية فارقة في نظرة أو التفاتة أو اندماج عميق في حالة، وكأن الكاميرا غير موجودة، تلك هي الحالات الممكنة لارتباط مَيْ بالعين اللاقطة كفعل حيوي يومي لا بد من تأديته لتكتمل الحكاية في وجودية انصهر فيها القناع بالوجه، وأصبحا حالة من حالات الصدق الفني.
الصباح ليس واحدا في كل الأمكنة:
أعلنت عن موقفها بصراحة وبدت مستعدة لدفع الثمن، كانت متمسكة بالوطن سوريا والمكان دمشق، لكنها أجبرت على الخروج، فكانت الوجهة فرنسا، المنفى الذي لا يمكن أن يكون دمشق، لا يمكن أن يكون صباح الباعة وهم يعرضون خضروات الأرض الجميلة، وتاريخ المدينة الأموية العتيقة بأبنيتها وحاراتها وروائحها، لا يمكن أن تُفهم العلاقة مع المكان إلا في إطار التبادل المرآوي بين الذات وشكل المكان البدئي، حيث تعالقت الأنفاس وحملت ذرات التراب صورة الطفولة البريئة من كل انتماء سوى الانتماء للمبادئ والقيم والتماعات الضوء المنعكس على صباحات مشرقة بالأمل، فالصباح ليس واحدا في كل الأمكنة.
«لا أريد أن أموت خارج سوريا»، جملة لأول وهلة تبدو ذات صياغة سهلة ومعنى مباشرا، لكنها في حقيقة الأمر تحمل ثقلا مفهوميا وإنسانيا، فالموت هو دفنٌ في التراب، بمعنى تغييب الإنسان أو الكائن الحي، بينما الخارج هو الحياة، فخارج سوريا بمعنى من المعاني بالنسبة لمي سكاف هو القبر أو الموت، وحينما تموت فيه فهي تعلن فقدانها لتلك الاستمرارية في المكان، لأن سوريا بمعنى من المعاني هي مي سكاف بصيغة أخرى. مي تتحدث في مستوى من مستويات أنسنة المكان، فلا يمكن التفريق بين الجسد والتراب، لأننا من تراب الأمكنة التي ولدنا فيها وحين نعود نَحِن إلى تراب الميلاد، كي نشعر بدفء الرحيل ونحن نغادر غرباء إلى مرافئ مختلفة، مي سكاف تتحدث عن الموت/الحياة.
السوري أو التاريخ الحالم بالحياة:
ولأن سوريا لا يمكن أن تكون دون سوريين، فإن مي سكاف تعرف طبيعة السوري: «ما بينخاف من السوريين.. السوريون لن يكونوا في أي يوم من الأيام متطرفين، لا طبيعتهم تسمح بذلك ولا جغرافيتهم، تاريخهم يقول ذلك ويقول أكثر منه». حينما تجالس السوري تلمس عروق التاريخ وكيف ينبني حضارة، كيف يتحول آثارا تحكي طرائق عيش السوري عبر حقبه. تتكلم المدن العريقة كما مَيْ عن أمل وألم الإنسان التواق إلى العيش بكرامة، وكيف يتوافق مع بيئته ليقول فقط حكايته. تحدثت الإعلامية بروين حبيب في مقالها في «القدس العربي» عن أدب السجون، وأسِفت لارتباط أشرس سجنين بسوريا «بأسماء مدن لا تدل سوى على المحبة والحضارة»، فتدمر اقترن اسمها باسم الملكة العربية زنوبيا، ودير سيدة صيدنايا يأتي في المرتبة الثانية بعد كنيسة القيامة بالنسبة للمسيحيين، تلك هي حكاية السوري خارج منظومة الحجر على حريته، يروي علاقته بالجمال في تاريخياته المختلفة المرتبطة بالمبادئ وعراقة المدن، لهذا لا يُخاف عليه فعراقته التاريخية تؤهله ليندمج في مسار إنتاج الوعي والقيمة والمعنى حالما يكون على تماس مع كرامته، ولهذا نجد مَيْ وهي اليسارية، تقلل من «المخاوف المتنامية من دور الإسلاميين.. فهم ليسوا جميعهم متطرفين أو تكفيريين»، لأن السوري سينخرط في البناء حال انجلاء غمامة محو الإرادة الذي تعرض له عبر سنين. حلمت مي سكاف كثيرا بتلك الحالة التي سوف تتلبس السوري وهو يستعيد النفس الحالم بالحياة، برؤية سوريا في توهجات المقام الحلبي والخوخ والياسمين الدمشقيين والجمال الكامن في الإنسان الكادح، المحب والباحث عن سردية متناثرة في خطابات متعددة انصرمت من مي سكاف بكل عفوية اليقين في المستقبل، بأن سوريا سوف تعيش تعددها المعتاد في التاريخ وعلى مسرح الحياة الجمالي: «سيظهر سينمائيون وكتاب سيناريو ومصورون ورسامون ومنشدون جدد».
«الفنانة الحرة»: التناغم بين التمثيل والحياة
عانت مي سكاف من تجربة الاعتقال، أي السجن، فما معنى أن يُواجَه الفن بالقيد على الحرية؟ لا شك أن الفنان كائن يعيش على الحركة، إما حركة الجسد على الركح أو أمام الكاميرا كما هو الحال بالنسبة لمَيْ، أو حركة اليد على البياض، أو على قطعة الطين، أو حركة العقل والخيال وهو يبدع اللغة في تجلياتها السحرية، هذه الحركة حين تُعتقل تخلق حالة في وعي الفنان بالمقاومة، ولهذا كانت «السخرية» كفن أداة من أدوات المقاومة الاجتماعية في لحظة من لحظات التحول التاريخي، بما يخلق «انبثاقات متجددة للتاريخ» بتعبير محمد أركون، وهو ما لا يتحمله الوعي الواحد في رؤيته، فهو لا يرى سوى ذاته، ولهذا يبدو السجن بالنسبة له تحقيقا لتلك الواحدية، حيث يحجب صوت الآخر، ذلك الصوت الذي لا يرى تجلياته سوى في صدى الآخر، ولهذا اختارت مي سكاف المنفى مجبرة، وسماها السوريون «الفنانة الحرة».
لأن مي سكاف تؤمن بالحرية فإنها ساهمت في ترقية الذوق الجمالي للسوري الشاب الذي ربما فاتته فرصة في المعهد العالي للمسرح، فأسست معهد التياترو للتمثيل، وأشرفت عليه ودرست فيه كما روى تلميذها فادي الحسين. إن علاقة الفن بالحرية وطيدة تملأ شقوق الانفصال، التي قد تدمر الإنسان في ابتعاده عن عناصر الجمال في الكون، ولعل الفن كونه «نشاطا طوعيا أبدعه الإنسان»، كما جاءنا ذات صبيحة أستاذ الفلسفة العراقي الراحل عادل عبد الرحمن يردد هذا التعريف مندهشا لسماعه من أحد طلابه، هذه الدهشة هي التي يوجدها الفن كرعشة تَحْدُث لمرة واحدة، فتجعل قناع الممثل عنوانا لوجهه الحقيقي، لأنه أدى الدور بكل التناغم الذي يتطلبه الصدق الفني والنبوءة الحدثية على المسرح وخلف الكاميرا، فدور مَيْ في مسلسل «خان الحرير» كـ»امرأة قوية تقود احتجاجات» أو دورها في مسرحية «الموت والعذراء» للتشيلي أرييل دورفمان كـ»ناشطة ومعتقلة سابقة تلتقي من تعتقده سجانها ومغتصبها»، تكشف قوة الرؤية وجوهر الشخصية المتناوب بين التمثيل والحياة.
كاتب جزائري
————————-
ماذا بعد هزيمة المشروع الإيراني؟/ طوني فرنسيس
سعت طهران إلى إخراج أميركا من منطقة غرب آسيا فعادت الولايات المتحدة للإمساك بمفاصلها من لبنان إلى غزة
الاثنين 20 يناير 2025
فتح النار في غزة كان إيذاناً بالوصول إلى النتائج الهائلة التي نشهدها، فقد انطلقت إسرائيل ومعها الولايات المتحدة وغالبية القوى الكبرى في العالم في حرب مدمرة، قتلت وشردت مئات ألوف الفلسطينيين وأطاحت بأحلام المرشد علي خامنئي وكشفت أهدافه ونياته.
ارتبط النشاط الإيراني في المشرق العربي خلال العقد الأخير بشعار العمل على “طرد الأميركيين من غرب آسيا”، وانتهى العقد بطرد الإيرانيين وعزلهم وتنشيط الحضور الأميركي نفسه عسكرياً وسياسياً.
وعلى مدى العقود الأربعة من قيامها، بنتْ الدولة الخمينية تنظيماتها في لبنان والعراق واليمن وأرسلت جنودها وجنرالاتها إلى سوريا لدعم نظام بشار الأسد، ثم ابتدعت نظرية وحدة الساحات عشية عملية “طوفان الأقصى”، في محاولة ربط مباشر بين معركة تحرير فلسطين ومعركة إخراج الأميركيين من المنطقة، لكن نتائج هذه الجهود الإيرانية جاءت مخيبة وكارثية، مخيبة للمشروع الإيراني التوسعي، وكارثية للمجتمعات التي استهدفها ذلك المشروع، فلم يحصد العراق من التدخل الإيراني سوى تعميق الانقسام المذهبي وتعميم الفساد ونسف أسس الدولة التي يطمح إليها العراقيون، وأدى التدخل الإيراني في سوريا إلى تعميم المجازر والدمار وفرض تغييرات ديموغرافية على بلد عربي امتاز دائماً بتنوعه وعيشه المشترك، ومثل ذلك حصل في لبنان حين نسف التدخل الخميني كل احتمالات قيام المؤسسات بدورها في بلد تميّز باكراً بنظامه الديمقراطي البرلماني، وزج بالبلاد في سلسلة من الصراعات والحروب، وفي اليمن جرى توجيه الميليشيات الحوثية إلى خوض معارك إقليمية تغطي مسؤولية تلك الميليشيات في منع إتمام المصالحة الوطنية، وإخراج هذا البلد من نفق الفقر والدمار.
كل تلك الطموحات الإيرانية انتهت اليوم أو هي في بداية نهايتها، فلقد انهار نظام الأسد وفرّ الإيرانيون من سوريا وباتوا ممنوعين من دخولها، سوريا التي اعتبرها قادة إيرانيون المحافظة الإيرانية الـ 35، وقال الوزير الراحل حسين أمير عبداللهيان إن خسارتها تفوق في الخطورة خسارة إقليم خوزستان الإيراني الغني بالنفط والمواد الأولية، حيث طُرد الإيرانيون بعد أكثر من 40 عاماً من محاولاتهم التغلغل وبناء القواعد الصلبة فيها.
وفي مصادفة معبرة أن هذا الطرد جرى في اليوم التالي للضربة التي تلقتها إيران في لبنان، واضطر “حزب الله”، ممثلها فيه، على توقيع اتفاق ينهي في حال تنفيذه وجوده العسكري في لبنان، وانعكست تطورات البلدين سريعاً على العراق حيث جرى ضبط تحركات الميليشيات الموالية لطهران، ووضعت قضية إنهاء “الحشد الشعبي” قيد النقاش والبحث، بما في ذلك مع المرشد الإيراني علي خامنئي الذي يتمسك ببقاء الميليشيات في موازاة الدولة.
مسار التحولات هذا بدأ باكراً، فقد قاومت شعوب المنطقة التخريب الإيراني مثلما واجهت قبله الاحتلال الإسرائيلي، لكن الضربة القاصمة التي أصابت تطلعات وخطط إيران جاءت إثر اندفاع “حماس” في فتح معركة غزة، إذ كانت إيران هيأت لتلك اللحظة، مع نفيها علمها بالتوقيت، ولم تبخل عبر مسؤوليها ومحلليها في تحليل وشرح خلفيات “طوفان الأقصى” بوصفه تحركاً يهدف إلى أمور عدة، أولها الانتقام لاغتيال قاسم سليماني، وثانيها وقف عمليات السلام العربي – الإسرائيلي التي انطلقت مع عملية “اتفاقات إبراهام”، ومواجهة الموقف السعودي الذي اشترط لقيام السلام السير في عملية بناء الدولة الفلسطينية المستقلة، وثالثها نسف مشروع الممر الهندي – الأوروبي، ورابعها وضع نظرية “وحدة الساحات” موضع التنفيذ بقيادة “محور المقاومة” الذي تموله إيران، وخامسها بدء تنفيذ شعارات إزالة إسرائيل من الوجود وطرد الأميركيين من غرب آسيا.
فتح النار في غزة كان إيذاناً بالوصول إلى النتائج الهائلة التي نشهدها، فقد انطلقت إسرائيل ومعها الولايات المتحدة وغالبية القوى الكبرى في العالم في حرب مدمرة قتلت وشردت مئات ألوف الفلسطينيين، وأطاحت بأحلام المرشد علي خامنئي وكشفت أهدافه ونياته، وأوقعت الحرب الإسرائيلية المجنونة خسائر فادحة في الأذرع والأتباع، مخلفة الدمار والقتلى والجرحى على طول ساحل المتوسط الشرقي من غزة إلى بيروت، مروراً بأراضي فلسطين والجنوب والبقاع اللبنانيين، وصولاً إلى سوريا ساحلاً وداخلاً.
انتهت الحروب التي أعقبت يوم “الطوفان” باستعادة “الكيان” المحكوم بالزوال قوة الردع داخل فلسطين وخارجها وصولاً إلى إيران نفسها، والمعارك التي كان من أهدافها إخراج الأميركيين أفقياً، على قول الأمين العام السابق لـ “حزب الله” حسن نصرالله، أسفرت عن تعزيز الأميركيين حضورهم المباشر في المنطقة من العراق إلى سوريا ولبنان وأخيراً غزة، فالتسوية التي وافقت عليها إيران عبر حزبها في لبنان يشرف عليها جنرال أميركي، وهدنة غزة التي انطلقت متعثرة ترعاها أميركا ضمن ثلاثي يضم مصر وقطر، وفي لبنان وغزة تطوعت الولايات المتحدة لإعطاء ضمانات لإسرائيل تسمح لها باستخدام القوة لدى شعورها بالتهديد.
وفي الحال اللبنانية لم يخف أطراف اتفاق وقف الأعمال العدائية بين “حزب الله” وإسرائيل معرفتهم بتلك الضمانات، وفي حال اتفاق غزة كانت الضمانات الأميركية ممهورة بتوقيع رئيسين، جو بايدن ودونالد ترمب، واللذين “تعهدا لإسرائيل بأنهما سيوافقان على استئناف الحرب في حال خرق ‘حماس’ اتفاق وقف إطلاق النار أو تسلحت مجدداً أو استأنفت العمليات المسلحة في غزة”.
هذا التعهد الذي أكده مسؤولون أميركيون كبار لصحيفة “إسرائيل هيوم” وأعلنه نتنياهو يماثل في مضمونه رسالة التطمينات الأميركية لإسرائيل في شأن لبنان و”حزب الله”، والتي أتاحت وتتيح لإسرائيل مواصلة هجماتها في عمق الأراضي اللبنانية ضد أي تحرك لـ “حزب الله”، وهو ما يضع المهلة المحددة لتنفيذ الاتفاق والتي تنتهي أواخر يناير (كانون الثاني) الجاري في مهب الريح في حال لم يجر الالتزام بمضمون القرار رقم (1701) وإجراءاته من جانب الحزب المذكور.
قادت إدارة بايدن العمل من أجل اتفاقي غزة ولبنان، ولكن التوصل إليهما احتاج إلى ضغط مكثف من الرئيس المنتخب، فقد هدد ترمب بالجحيم في حال لم يجر التوصل إلى اتفاق في غزة، ووعد بالسلام في لبنان قبل أن يتولى منصبه، وفي موقع “فوكس نيوز” جاء أن تهديد ترمب بالجحيم “كان بمثابة رسالة واضحة ليس فقط لـ ‘حماس’ بل لجميع الجهات الفاعلة المارقة في الشرق الأوسط، ومثّل ذلك تجسيداً للرؤية الواضحة للإدارة المقبلة التي تبشر بفصل جديد في مستقبل هذه المنطقة المضطربة والمتقلبة”، والمستقبل الجديد يقوم على قاعدة “فرض السلام بالقوة”، وفي الرؤية الأميركية التي مورست خلال 466 يوماً من القتال في غزة ولبنان أن تهدئة تتحقق عبر تغيير تاريخي يحصل في الشرق الأوسط ويناقض تماماً رؤية خامنئي وأنصاره، فقد “عانت إيران ووكلاؤها من انتكاسات كبيرة”، وجرى تدمير “حماس” في غزة وإسقاط نظام الأسد في سوريا، أما في لبنان فانتخب رئيس للجمهورية ورئيس وزراء جديدين” كلاهما من خارج الصندوق الإيراني.
ترتبك القيادة الإيرانية في مواجهة انهيار مشروعها، ورئيسها مسعود بزشكيان يتعرض لهجمات أنصار خامنئي، ويتهمونه بممالاة الغرب فيما ينصرفون إلى الإشادة بالانتصارات “الإلهية” في لبنان وفلسطين، وآخر الهجمات التي تعرض لها بزشكيان جاءت على خلفية نفيه أن تكون إيران تسعى إلى الانتقام من ترمب بسبب قراره اغتيال سليماني، وصحيفة المرشد “كيهان” قالت له “أنت موظف مهمته تنفيذ إرادة خامنئي، لكن ذلك لم يمنع إيران من المسارعة إلى توقيع الاتفاقات الإستراتيجية مع روسيا عشية تنصيب ترمب للقول إن لطهران حلفاء أقوياء، لكن موسكو تعاملت ببرودة مع هذا الحدث، وقيل إن بوتين جعل بزشكيان ينتظره ساعة كاملة قبل الإيذان باستقباله في الكرملين، ولم تتضمن الاتفاقات بنداً دفاعياً كما في معاهدات وقعتها روسيا مع بيلاروس وكوريا الشمالية، وفوق ذلك تساءل المحلل الروسي أندريه أنتيكوف “إلى أي مدى ستتمكن روسيا من تنفيذ أحكام هذه المعاهدة، فلقد أصبحت إيران ضعيفة للغاية على خلفية الأحداث في غزة ولبنان وسوريا”.
والسؤال الروسي يستبطن رغبة بمعرفة ما سيجري لاحقاً مع ترمب، فروسيا أيضاً تنتظر ولا تراهن كثيراً على حلفاء من نوع إيران تتهمهم بأنهم فروا من سوريا من دون أن يخوضوا المعركة الحاسمة، والشرق الأوسط يتغيّر فعلاً بين مشروعين، واحد إيراني يُهزم وآخر إسرائيلي من دون أفق إذا واصل تجاهل الحقوق الفلسطينية الأساس، وبين المشروعين يطل ترمب ونظرته إلى فرض السلام بالقوة، وهو يعرف تماماً أن هذا السلام مطلب عربي صاغته مجموعة الدول العربية وأقرته في “قمة بيروت”، وكررت طرحه في “قمم الرياض”، وهو ما سيكون على الطاولة خلال الأسابيع والشهور المقبلة.
——————————
من ظلال الألم إلى فجر الحرية.. حكايات دمشق/ كاترين القنطار
2025.01.19
تدخل البلاد محملاً بثقل ذكريات سنين الغربة، وكأن حياتك بأكملها تُعرض أمام عينيك في شريطٍ لا ينتهي. تتوقف عند آخر الأيام التي قضيتها في سوريا، آخر اللحظات التي نقشها الوداع في ذاكرتك. تتذكر وجوه الأحبة، صوت خطواتك على طريق السفر، وأصدقاء تلك المرحلة الذين تقاسمت معهم الحلم والحزن. تسأل نفسك بصوت خافت: من بقي؟ من هاجر؟ من لا يزال يصارع الحياة، ومن غادرها بصمت؟
وأنت تقترب أكثر من دمشق، المدينة التي حملت عبق ماضيك ووجع حاضرها، تتجلى أمامك مشاهد لا تُنسى: دبابات مهجورة على أطراف الطريق، تركها الجنود يوم السقوط وهربوا. حواجز خاوية، ومعدات جيش النظام المنهار متناثرة كأنها شاهدة على فصولٍ خسرها الزمن. يتسلل إليك شعور غريب، مزيج من الحنين والحزن والرهبة، وكأن الأرض تروي لك قصة فقد ووجع لا تزال تفاصيلها حية.
صيدنايا كاترين
هنا دمشق
دخلنا دمشق… نعم، إنها دمشق. تلك المدينة التي لم نعد نجرؤ حتى على رؤيتها في أحلامنا، ها نحن الآن نلامس أرضها. مدينة الياسمين، كما يحب أبناؤها أن يسموها، تستقبلنا بوجهها الذي حمل أثقال الزمن. هرمت دمشق، وكأنها وجه امرأة عجوز حفرت الأيام تجاعيدها فيه، لكنها تبقى جميلة في عيوننا، ملاذًا دافئًا ينبض بالأمان والطيبة.
شاخت دمشق، نعم، لكنك تشعر وكأن الزمن نفسه قد نسيها، تخطّاها في سباق التقدم والتطور. قديمة هي بكل ما فيها: مبانيها التي صمدت في وجه العواصف، شوارعها التي شهدت ملايين القصص، سياراتها وحافلاتها التي تبدو وكأنها من زمن آخر، فنادقها التي ما زالت تقص حكايات الماضي. حتى أبسط تفاصيلها تنتمي إلى زمن بعيد.
ورغم كل هذا، نحن هنا، في دمشق. نراها بعين الحنين، نحبها كما هي، ونشعر بأننا عدنا إلى جزء من أنفسنا كان غائبًا.
أصدقاء الزمن العتيق
التقينا أصدقاء الماضي، تلك الوجوه التي لم تغب عن الذاكرة رغم غبار السنين. كانت دموع الفرح أول ما عبّر عن اللقاء، دموع تحمل في طياتها حنينًا لكل ما فقدناه وفرحًا بما استطعنا استعادته. وما إن تجف تلك الدموع حتى تنطلق الضحكات، تنساب بخفة مع الذكريات والمواقف التي لا تزال حيّة في قلوبنا.
أينما تسير، تستعيد شريط حياتك: تضحك حينًا على ذكرى عفوية، وتحزن حينًا آخر على ما لم يعد. كل زاوية تحمل قصة، كل طريق يحمل أثرًا. تشعر أن الزمن هنا يركض بسرعة غريبة، كأن الأيام تمضي بدقائق لا تعرف الساعات، وكأن دمشق تهمس لك بأن اللحظات الجميلة تظل دومًا قصيرة.
أصوات هذه المدينة
تُزعجك أصوات المولدات الكهربائية التي لا تهدأ، ورائحة البنزين والمازوت التي تمتزج مع الأكسجين، وكأن الهواء نفسه أصبح ثقيلاً على صدرك. في البداية تشعر بالاختناق، ثم شيئًا فشيئًا تعتاد هذه الأصوات وتلك الروائح، وكأن المدينة تفرض إيقاعها عليك.
الشام كاترين
التلوث هنا ليس مجرد تفاصيل عابرة؛ إنه لوحة سوداء تغطي كل شيء. المباني ارتدت لون السواد، والشوارع تروي حكايات إهمالها. جبل قاسيون، الذي كان يومًا أخضرًا شامخًا، يبدو الآن كظل خاوٍ بلا أشجاره، والمدينة نفسها تبدو قاحلة من كل ما ينبض بالحياة: أشجار قليلة، أضواء غائبة، وكأنها تغرق في ظلام دائم.
ليلاً ونهارًا، السواد هو سيد المكان. لا كهرباء تضفي حياة على هذا الظلام، والماء شحيح بالكاد يكفي، فلا تحلم بأكثر. حتى الإنترنت هنا يبدو وكأنه انعكاس للحال، بطيء ومحدود، كأنه يحذو حذو كل شيء في هذه المدينة، التي تعيش على حافة الزمن.
قديمة، حتى في أغانيها…
أكثر ما شدّني وأنا أجوب شوارعها هو ذلك الصوت العائد من التسعينات، أغاني الماضي التي لا تزال حاضرة في كل زاوية. تدخل إلى المطاعم فتأخذك ألحان “السود عيونه” أو “عيونو دار” إلى زمن المراهقة، ذلك الزمن الذي تحمله في ذاكرتك بتفاصيله المضحكة والمبهمة. وكأن المدينة تعيدك إلى تلك الأيام دون أن تطلب.
الشام كاترين
أما التكاسي، فتبدو وكأنها متحف متنقل، محافظة على أغانٍ تحمل روح الدبكة القديمة، وزينتها الحمراء التي لم تتغير. هناك تجد الجمل التي تحمل طرافة وبساطة الزمن الماضي، كـ*“لا تلحقني مخطوبة”* و*“محروسة من العين”*. كل شيء هنا يتحدث بلسان قديم، حتى الأغاني، وكأن دمشق تصر أن تبقى عالقة في زمن مضى، ترفض أن تترك ذكرياتها خلفها.
المعتقلون والمغيبون قسرا
لا يمكنك، ولو للحظة، أن تتجاهل ظل جرائم النظام الثقيلة التي خيمت على سوريا. هذا البلد الذي بدا وكأنه في العناية المشددة، على حافة الموت، يخنقه التراجع في كل الأصعدة. ومع ذلك، تجد صور المغيبين قسرًا والمعتقلين معلقة في ساحات وشوارع المدينة، تذكيرًا دائمًا بمن فقدنا. ورغم خلو السجون والمعتقلات من كثير من أرواحها، يبقى الأمل قيدًا يلتف حول قلوب الأهالي، ينتظرون خبراً، أي خبر، عن أحبتهم.
رافقت صديقي إلى سجن المزة العسكري، حيث كان معتقلاً قبل سنوات. ورغم ما نسمعه يوميًا من قصص عن هذه السجون، ورغم الصور واللقاءات مع الناجين الذين رووا لنا أهوالهم، شعرت بخوف لم أستطع قمعه عند دخولي. الممرات ضيقة، الزنازين متراصة بأبواب سوداء، والسقف عالٍ لكنه يخنق الروح. الروائح الكريهة التي ملأت المكان، رغم خلوه منذ شهر، بقيت شاهدة على ما مرّ فيه من معاناة.
عند الدخول، ترتجف. لا يمكنك أن تتخيل كيف يمكن لإنسان أن يعيش في هذه الزنازين. بقايا أغراض معتقلين سابقين متناثرة هنا وهناك، ذكريات محفورة على الجدران، وكلمات مكررة عن “الأم”، تلك الحاجة الملحة للحنان وسط هذا الجحيم. في كل زنزانة، تجد رزنامة مرسومة، محاولة بائسة لتتبع الأيام، لاحتضان الزمن الذي بات بلا معنى. ما لفت نظري هو غياب الحشرات؛ ربما لأن أي كائن حي لا يمكنه احتمال العيش في مكان كهذا.
كان هذا اليوم قاسيًا، لكنه ذكرى لا يمكننا نسيانها. لن ننسى ما عاناه المعتقلون، ولا ما دفعه هذا الشعب من دماء وأعمار ليتحرر من أغلال الظلم. لقد كان طريق الحرية مكللًا بالجراح، لكنه أثبت أن الروح الإنسانية قادرة على المقاومة، حتى في أحلك الظروف.
خرجنا من السجن وكأننا نهرب من كابوس ثقيل، من ماضٍ أليم لم نعد نريد التوقف عنده. أخذنا قرارًا عفويًا بالمشي في شوارع دمشق التي نحب، تلك الشوارع التي تحمل بين طياتها ذكرياتنا وأحلامنا.
رأينا وجوهًا مشرقة بين الشباب، محملة بالأمل، بنور يحكي عن إصرارهم على الحياة. كان هناك دافع كبير للعمل، وكأنهم يقولون للعالم: نحن هنا، نبني من جديد. فرق تطوعية منتشرة في كل زاوية، تعمل بلا توقف لتحسين الحياة، لإعادة روح هذه المدينة التي كادت تخنقها الأحزان.
قابلنا الكثير من المغتربين العائدين، وجوههم مفعمة بتفاؤل يشدك إليه. حديثهم عن الغد كان مختلفًا، مليئًا بالتخطيط والرغبة في العودة والاستقرار، وكأنهم يعيدون وصل ما انقطع، يحلمون ببلاد تحتضن الجميع.
أما مساءات دمشق، فهي حكاية أخرى. أغاني الثورة تملأ الأجواء، هتافات الشباب والشابات تنبض في الشوارع، تحمل كلماتها شعورًا لا يوصف. كأننا جميعًا لا نصدق أننا عبرنا الجسر، أن الشعب السوري قد أسقط النظام، وأننا أخيرًا نعيش كـ”سوريين أحرار”.
كانت دمشق، رغم كل شيء، تنبض بروح جديدة. روح تقول إن الماضي لم ينتهِ، لكنه لن يثنينا عن بناء مستقبل نريده، مستقبل صنعناه بأيدينا وبدفع أحلامنا التي لم تمت.
———————————-
مثقفون عرب وسوريون في مقهى الروضة/ أحمد جاسم الحسين
2025.01.20
ملامح وجهه الجدية، أقرب إلى العبوس، جمله القصيرة، صوته ذو النبرة العالية، تجعلك لا تخطئه إنْ مررت به، في مكان عام، لا يتحدث إلا وجمله محملة بحماس الرجولة، يقول لك: أتيت إلى دمشق لأدرس عام 1982 وكان الفرع الذي أتيح لي هو الصيدلة، ثم عدت إلى الأردن، ودرست في جامعاتها.
يحدثك عن ذكرياته مع سوريين، ويقول لك أنا بمعنى من المعاني: ابن الثورة السورية، فلسطيني الروح، أردني التشكل، عربي الوجدان.
بجلسة واحدة يكلف عشرين كاتباً للكتابة في منبر العربي الجديد، يعطيهم بطاقته، يهرب من التزامات مع الكُتاب، تحمّله مسؤوليات النشر الثابتة، عمله الطويل في الصحافة جعله يمشي على صراط مستقيم في توصيف الأشخاص، بمن فيهم زملاؤه، فالحياة علمته أن محرر اليوم قد يكون مدير الغد.
لا يريد أن يخسر أو يكسب أحداً، يعرف جيداً المادة التي تخدم منبره، والكاتب الذي لديه نص مختلف، متذمرٌ بدرجة كبيرة بخاصة ممن يراسله عبر الواتساب، قارئٌ مدمن من زمن الشوارب، وهو من أواخر المنتمين إلى زمان الكتاب الورقي.
صحفيٌّ نزق لكنه نزق صاحب المادة المحسوبة الكلمات، يكتب زاويته مرة واحدة، غير أن خبرة أربعين عاماً تمنعه من الوقوع في المنزلقات، تقرأ مادته التي تمشي على أسلاك ما يريد، أو ما يريدون، تريد أن تمسكه فيفلت من بين قوالبك برداء المهنية.
عَلَّمتْ الصحافة “أبا علي” المحافظة على مسافة أمان، غير أن مسافة الأمان تلك تكون طويلة بحيث تبعده عن معن البياري ذاك القديم الذي يعرفه أصدقاء عمان كما يعتب عدد منهم، وهو الذي تشكل في عدد من العواصم العربية صحفياً وإنساناً وكاتباً.
تسأله كيف وجدت دمشق: كأنني عشت فيها زمناً طويلاً، أليفة، ودافئة، يعاملك ناسها كأنك منهم، ويعرفونك إلى تفاصيلهم كأنك تستأنف جلسة الأمس، أحببت دمشق وسأعود إليها كلما وجدت إلى ذلك سبيلاً.
يعرب العيسى
يأخذ في الأحضان عشرين شخصاً على الأقل يومياً، وفي روايات أخرى عن أصدقاء لا يكرهونه: لا يمكنه العودة إلى البيت من دون أن يحقق ذلك ليحدث زوجته عن أولئك الأشخاص الذين يتعبونه بحبهم ومشاريعهم.
ولو قيل لك: إن روحَ صقر قد تلبست يعرب العيسى لوجدت أن الأمر يدخل في باب المعقول، فتناوله لليوميات السورية تجعله أقرب إلى ذلك.
من الصعب أن تعرف أنه من جذور علوية، لولا أن النظام السابق لم يضطره إلى ذلك للمحافظة على حياته طوراً أو إنقاذ أحد من أصدقائه تارة.
ابن صحراء يحمل ذاكرة بدوي أكل السمن العربي، في معلوماته، وعاش في بادية واضحة لا تشويش فيها، صحفيٌّ بالفطرة، ينقر من أطباق عديدة، فيه روح فارس عشيرة، وزعيم حزب يحب المناصرات و”المناصرين” طبعاً، إيجابيٌّ أكثر من فنجان قهوة بهيل لافت.
مشاريع يعرب لا تنتهي، يجمع فيها الأصدقاء والأحباب، مولدُ أفكار، يحدثك عن “المئذنة البيضاء” كما لو أنها مولود حمله في روحه، يحبُّ دمشق أكثر مما تحبه، يشرِّق خلف الرزق وهو مغرب، فيه كرم عربي، وشهامة لافتة، قد تجده بجانبك كل لحظة، لكن أحياناً لا تجده في لحظة شوق، تتصارع مواهبه فيمشي إلى الأمام ويبقى اسمه يعرب الذي يدندن العتابا، وقد يشغل نفسه أسبوعاً باحثاً عن أصل موال فراتي وكلماته.
لديه قدرة استثنائية على التكيّف من أقصى اليسار إلى أقصى الجنوب، حتى يظن أصدقاء يحبونه أنه ضائع الملامح، يجد في كل شخص ميزة ما؛ يمكنه تكبيرها إلى أقصى حد ممكن ليحبّ من أمامه، ولا يتردد في تعداد صفاتهم السلبية إن اقتضت الجلسة ذلك.
موسوعيٌ في معلوماته، مولعٌ بالحفر في ذكريات الأشخاص والأمكنة كي يشبع فضولاً لا ينتهي داخل نفسه، إذا ما ضاقت به السبل يدفعها إلى الأمام، مشكلته الرئيسية برأيي كثيرين أنه صديق للمترجم الإشكالي ثائر علي ديب.
كوليت بهنا
تقول لك كوليت: حان وقت اللجوء! أريد أن أرتاح، أخذت حصتي من التعب، حين بدأ اللاجئون يعودون من بلاد اللجوء، تلملم صديقة القطط تفاصيلها، حان دوركم، حفظنا ما نستطيع من ذاكرة المدينة، تسألها عن مشروع محدد: تقول لك وجودنا حفظ أشتاتاً من تفاصيل المدينة!
تساوت كثير من الأمكنة عند كوليت، منذ أن رحلت والدتها، تحدثك عن مشاعر قططها الذكور والإناث: لا تختلف طباع القطط عن طباع البشر كثيراً. ولأن لهن مكانة خاصة فمن السهل عليها أن تركب سيارتها فتذهب لإحضار الطعام لهن من لبنان، تنادي قططها وتتحدث معهن بصفتهن بشراً، تشتكي لهن من تفاصيل الحياة، يدور في مناخاتها طيف من خفر وحياء كأنها شخص بلا حياة شخصية، وربما قررت دفنها في عوالم بعيدة هناك، حيث لا أحد.
لا تجد في كوليت ما يستفزك، فقد علمتها الحياة أن التوازن يمكن أن يكون طريقة حياة، تسأل نفسك: هذه المرأة هي ذاتها التي تكتب تلك المشاهد الساخرة، فتجيبك بنبرة صوت لا تتغير: نعم هي ذي أنا!
تحدثك كوليت عن كل تفصيل من تفاصيل منزلها، وعن كل ركن فيه، غير أنها لا بد أن تشير إلى خصوصية إعدادها للقهوة وغليها، وإنْ مرتْ صبية حلوة لا تتردد بالقول: أنت صبية جميلة، ذات حضور جذاب وملامح متناسقة، وتتابع: نحن النساء لا نحب الرجال الوسيمين فحسب بل نحب جمال النساء كذلك.
لطيفةٌ لا تهوى الجعجعة، وإنْ وجدت أن الموقف سيكون فيه مواجهة ووجع رأس تتركه، تحدثك كوليت عن التفاصيل كامرأة سورية وعن الاستغناء كطريقة حياة. تحبُّ الأنوثة ولا تميل لأفكار كثير من النسويات، فيها خلطة حلبية ماردينة ديرية لبنانية، غير أنها أنثى من الشام تحب الدراما، وتكتبها، والمسرح والفن والقصة القصيرة، صحفيةٌ تهوى التقاط زوايها من عالم الحياة اليومية لكن بعد أن تدخلها إلى مختبرها الذاتي وتجاربها القرائية.
خليل صويلح
لو استطعتَ أن تصل إلى الطفل الموجود داخل خليل لأحببته، غير أن دمشق ولسعاتها جعلته يقمع ذلك الطفل طويلاً، لذلك قد يشعر كثيرون أن خليل صويلح عدواني، وربما أهون عليه -كما يقول أحدهم- أن يدفع ثمن الشاي والقهوة من جيبه وينسحب من الجلسة على أن يشيد بكاتب ما.
النزق سمة ملائمة له، وهو الذي يكره أن يحسب على شخص أو تيار أو حزب أو اتجاه، يشعر بحرية أكثر في مقاربة الحياة وظواهرها وكتابة مادته الصحفية إنْ بقي من دون التزامات شخصية.
يرى محبوه أن الستينيات جعلته يخاف أكثر من البرد ويصبح أقل حدة، لكن لا يمكن أن تقول عنه أنه متصالح مع ذاته أو مجتمعه أو ناسه، ولو كان لدينا هواة إطلاق ألقاب على الكتاب لكان أحد ألقابه “اللامنتمي السوري”.
قرى الشدادي في الحسكة، تقع في كوكب آخر، حين تسأله عن “هناك” تشعر أنها قرى مرمية على تخوم الصحراء من زمن قديم ولا ترغب بمفارقة قدرها، على العكس منه حيث تكمن فيه رغبة دفينة بمشيخة قبيلة، لكن من دون واجبات الشيخ أو اضطراره لتحمل كل غثيان أبناء القبيلة الذين يجلسون على طاولته في مقهى الروضة، يشتكون من عدم نشر نصوصهم، أو يندبون حظهم العاثر، في المدن التي لا تمنح فرصاً للموهوبين، يريدون مواساة طويلة لا يطيق عليها صبراً وهو الذي يهوى الجمل القصيرة اللاذعة، حيث يعيش الحياة نصاً.
لطيفٌ إنْ ارتاح لك، وما أصعب أن يرتاح خليل إلى شخص. لديه، وفقاً لأحد الذين يجلسون معه بشكل شبه يومي، قدرة استثنائية على التقاط أسوأ ما فيك، ليعرِّف الآخرين بك، لا مشكلة لدى خليل في معاداة أي أحد، عنده قدرة عالية على الاستغناء والبدء من جديد، ذلك تدريب طويل فرضته الحياة في المدن التي لا يوجد فها أصدقاء دائمون.
يمكنك أن تعرف به: روائي وشاعر وصحفي، لكن لن تنسى أنه بات اليوم من أقدم أصدقاء “مقهى الروضة” من الكتاب حيث يسكن بالقرب منها، وربما هو الكائن الوحيد الذي لا يغيب عنها يومياً إن لم يكن مسافراً، وهو الذي ينفر من التنقل والسفر حتى إلى أحياء دمشق المجاورة.
مخلصٌ خليل للنص الذي يكتبه، ويحب أن يعيشه لحظة بلحظة، منذ أن كان “وراقاً للحب”، تساعده مهنية اشتغل عليها طويلاً، وتنقذه حدة طباعه على التقاط المفارقات وتوظيفها في نصه.
لعله من أقرب الكتاب الذين تعبر نصوصهم عن شخصياتهم، وها هو “يختبر الندم” في بلاد دخلها بأحلام كبيرة، وطموحات تغييرية هائلة، وإذ بها تدفعه إلى عزلة شاسعة أقرب ما تكون إلى “عزلة الحلزون” الذي لن يستمر إن لم يجد يوماً ما يكتبه، أو ما يدفعه إلى الكتابة، أو ينقده ويعلق عليه، فالكتابة لديه لسعات كي لا يخلد للنوم الطويل والأصدقاء العابرين.
———————–
ترتيبات دمج الضباط المنشقين في الجيش السوري لا تبدد الهواجس/ محمد أمين
20 يناير 2025
واصلت وزارة الدفاع في حكومة تسيير الأعمال السورية بذل الجهود من أجل تشكيل الجيش السوري الوطني، الذي يضم الفصائل والتشكيلات التي قاتلت قوات النظام على مدى سنوات وصولاً إلى الثامن من ديسمبر/كانون الأول الماضي، حيث التقى وزير الدفاع مرهف أبو قصرة، السبت الماضي، لجنة عن الضباط المنشقين بهدف بحث دمج الضباط المنشقين في الجيش السوري الجديد.
وأعلنت الوزارة، أول من أمس السبت، أنها عقدت اجتماعات موسعة شملت أكثر من 60 تشكيلاً عسكرياً منذ بدء عملية تأسيس الجيش الوطني، مؤكدة أنه “اتُّفق على انخراط جميع التشكيلات العسكرية الحاضرة في الإدارة الجديدة”، مشيرة إلى أن وزير الدفاع مرهف أبو قصرة عقد 47 اجتماعاً موسعاً “شملت قادة وضباطاً من مختلف الفصائل، وأن المرحلة المقبلة هي مرحلة تثبيت الهيكلية”. وأوضحت أنه ستُعقد جلسات جديدة مع التشكيلات لتثبيت الهيكلية وتعيين القيادات “بعد انتهاء عمل اللجنة العليا لتنظيم بيانات القوات المسلحة”، موضحة أنه ستُشكَّل لجنة خاصة لصياغة النظام الداخلي لوزارة الدفاع.
دمج الضباط المنشقين في الجيش السوري
وفور تسلمها مقاليد الأمور في دمشق في 8 ديسمبر الماضي، باشرت الإدارة الجديدة وضع “خريطة طريق” لتأسيس الجيش السوري بعد انهيار الجيش السابق بشكل كامل. وتعمل وزارة الدفاع على حل جميع الفصائل والتشكيلات العسكرية ودمجها في هيكلية واحدة ضمن جيش واحد، بعيداً عن المحاصصة المناطقية أو الفصائلية. ويبدو أن الإدارة الجديدة تعوّل على دور واسع ومؤثر للضباط الذين انشقوا عن قوات النظام في السنوات الأولى من عمر الثورة، والمقدر عددهم بنحو ستة آلاف، بينهم من يحمل رتباً عسكرية رفيعة ومن مختلف صنوف القوات المسلحة، بهدف دمج الضباط المنشقين في الجيش السوري الجديد.
والتقى أبو قصرة، السبت الماضي، لجنة تمثل الضباط المنشقين، ضمت ثمانية منهم، أبرزهم العميد عبد الله الأسعد، والعقيد رياض الأسعد مؤسس الجيش السوري الحر. وفي حديث مع “العربي الجديد”، أوضح رياض الأسعد أنه “يمكن القول إن المرحلة التحضيرية لتشكيل البنية التنظيمية للجيش تقوم على أسس سليمة”، مضيفاً: “توضع الآن اللمسات الأخيرة قبل الدخول في المرحلة التنفيذية”. وبيّن أنه سيتم دمج الضباط المنشقين في الجيش السوري الجديد “على عدة مراحل، موضحاً أن الأولوية في المرحلة الأولى للضباط الذين يقودون الآن فصائل، ومن ثم ستُحدّد توصيفات بقية الضباط مع الأخذ بعين الاعتبار الفترة الزمنية التي انشقوا فيها عن قوات النظام المخلوع، ومكان وجودهم الآن. وأشار إلى أن بعض الضباط المنشقين لا يريد العودة إلى الخدمة، و”هؤلاء لهم ترتيبات مختلفة وخاصة لجهة تصفية أوضاعهم ومنحهم التعويضات المستحقة”.
وأبدى الأسعد تفاؤلاً وصفه بـ”الكبير” بتشكيل الجيش السوري الجديد خلال فترة زمنية قريبة، مشيراً إلى أن “الجميع متحمس للمشاركة في التأسيس للبنية التنظيمية القائمة وفق الأسس المتبعة في العالم لبناء الجيوش”. وأضاف: “نعمل على تشكيل جيش محترف مهني يعتمد على التقنيات الحديثة”. وأكد أنه سيجرى التعاون مع جميع الدول “بما فيها روسيا” من أجل بناء الجيش السوري الجديد، مشيراً إلى أنه “ربما في المستقبل، يُستعان بالسلاح الغربي، وناقشنا هذا الأمر مع وزير الدفاع”، مضيفاً: “جيش سورية القادم لن يعتمد على الكم كما كان يفعل النظام المخلوع، بل على النوع”.
مرهف أبو قصرة وعلي النعسان
وكان الضباط المنشقون عن قوات النظام المخلوع شكلوا، منتصف العام 2011، الجيش السوري الحر الذي أخذ على عاتقه الدفاع عن المتظاهرين في مختلف المدن السورية. وخاض هذا “الجيش” معارك مع جيش النظام المخلوع واستطاع السيطرة على مساحات كبيرة من الأرض، لا سيما في 2012، لكن سرعان ما ظهرت فصائل محلية شكلها مدنيون، وأخرى ذات توجه إسلامي متشدد، ما أدى إلى تراجع دور الجيش السوري الحر وطغيان الفصائلية المناطقية أو الدينية، وخاصة أن أبرز ضباطه إما قتلوا في المعارك، مثل العقيد يوسف الجادر المعروف بـ”أبو فرات”، أو أصيبوا مثل العقيد رياض الأسعد مؤسس هذا “الجيش”. وانقسم الضباط المنشقون إلى عدة فئات، الأولى ضمت أولئك الذين شكلوا فصائل مقاتلة، أو انخرطوا في فصائل، والثانية ضمت ضباطاً اختاروا الخروج من البلاد لاجئين، وخاصة في تركيا، والثالثة ضمت أولئك الذين يعملون في مهن مدنية.
هواجس الضباط المنشقين
ويبدو أن لدى الضباط المنشقين هواجس من استمرار تهميش دورهم في المرحلة المقبلة، وخاصة أن الإدارة الجديدة سارعت إلى منح رتب عسكرية لقادة في الفصائل، أغلبهم من المدنيين، ولأشخاص ليسوا سوريين، ولم تولِ الضباط المنشقين ما كانوا يتوقعونه من اهتمام. وبعد أيام قليلة من سقوط نظام بشار الأسد، أصدر عدد من الضباط المنشقين بياناً أعلنوا فيه عن استعدادهم لـ”وضع أنفسنا وخبراتنا العسكرية لإعادة تشكيل جيش سورية الحرة على أسس وطنية موحدة”. وأضاف البيان: “نمد أيدينا لكل القوى الوطنية الشريفة للعمل معاً من أجل تأسيس جيش قوي يعبر عن تطلعات السوريين نحو الحرية والعدالة”.
ورأى العميد مصطفى فرحات، وهو أحد الضباط المنشقين، أنه “حتى اليوم، لا يوجد تصور لدى الإدارة الجديدة، وحتى لدى الضباط المنشقين، عن موقعهم في الجيش السوري الجديد”، مضيفاً في حديث مع “العربي الجديد”: “أعتقد أن دمج الضباط المنشقين في الجيش السوري سيكون بشكل إفرادي للضباط”. وتابع: “لدينا تحديات كثيرة، فأغلب الأسلحة شبه مدمرة، وخاصة سلاح الجو، والإمكانات العسكرية مدمرة بشكل كامل”. وأعرب فرحات عن اعتقاده أن الإدارة الجديدة “لا يمكن أن تتجاوز الذين خدموا الدولة مدة طويلة”، مضيفاً: “أعتقد أن كل ضابط منشق في سن الخدمة قادر على العمل سيُستفاد منه. تجب الاستفادة حتى من الضباط الذين باتوا في سن التعاقد في إنشاء مراكز دراسات عسكرية لتقديم الاستشارات”.
من جانبه، رأى العقيد يوسف أبو عرة، وهو الناطق باسم “غرفة عمليات الجنوب”، في حديث مع “العربي الجديد”، أن “الأمور مبشرة” لجهة إشراك الضباط المنشقين في الجيش السوري ووزارة الدفاع “حسب ظروف المرحلة”، مضيفاً: “ننتظر صدور تعليمات واضحة بهذا الخصوص”.
وفي السياق نفسه، أعرب الباحث العسكري رشيد حوراني (وهو ضابط منشق)، في حديث مع “العربي الجديد”، عن اعتقاده أنه لن يُهمّش الضباط المنشقون في بنية وهيكلية الجيش السوري الجديد لأسباب متعددة. وقال: “هناك الآن عدد جيد من الضباط المنشقين ضمن الفصائل التي ستكون ضمن القوام الرئيس للجيش، فضلاً عن وجود اختصاصات تحتاج لتأهيل وتدريب كوادرها، كالدفاع الجوي والطيران، وهذه الوحدات بحاجة للضباط المنشقين. وأوضح أن عدداً من الضباط المنشقين “شارك في هيكلية وزارة الدفاع الجديدة، وسيُوسَّع عملهم مع الدخول في مرحلة تأسيس إدارات القيادة التي تخطط لبرامج الوحدات الميدانية، على غرار كل الجيوش، فهذه الخبرات لا يملكها إلا الضباط المنشقون”. وأضاف: “لدى الإدارة الجديدة الرغبة في تطوير الجيش السوري في ما يتعلق بالأسلحة الإستراتيجية، كالصواريخ والطيران، التي تحتاج إلى مختصين وخبرات لا تتوفر إلا لدى الضباط.
—————————
كل هذه المشكلات المعيشية في سورية/ سميرة المسالمة
20 يناير 2025
لا يمرّ يوم من دون أن تتلقّى السلطات، في مدن سورية وبلداتها وقراها، تقاريرَ عن حالات انفلات أمني، وانتشار سرقات وجريمة وأنشطة غير مشروعة، تبدو انعكاساً طبيعياً للفراغ الأمني، والانهيار الاقتصادي، والأوضاع الاجتماعية المتردّية، التي خلّفتها سنوات الصراع والحرب. وبديهي أن هذا الوضع يحمّل حكومة إدارة أحمد الشرع الجديدة مسؤوليات وتحدّيات مركّبة ومعقّدة في مختلف المجالات، إذ هي تحكم اليوم بلداً في حالة مريعة من الخراب، يشمل معظم قطاعاته الاقتصادية والإنتاجية والخدمية وبناه التحتية، مع مجتمع يرزح تحت وطأة الفقر، وندرة فرص العمل، وتفشّي البطالة، ما يجعل أغلبية العائلات السورية عاجزة عن تلبية احتياجاتها الأساسية.
وبحسب الإحصاءات، أكثر من 70% من سكّان سورية تحت خطّ الفقر، وأكثر من ربع هذا العدد يعيشون حالة فقر مدقع، ما يعني أن السلطة الحديدة تحكم مجتمعاً مدمَّراً، وبلداً منهوباً، وهو بالطبع مغاير لما نراه في شاشات التلفاز ووسائل التواصل الاجتماعي. لقد تجاوزت الأزمة الاقتصادية حدودها، لتتحوّل لأزمة اجتماعية تهدّد النسيج المجتمعي، خاصّة مع تدهور قيمة العملة، وتالياً القدرة الشرائية، وارتفاع معدّلات البطالة من نحو 13.5%، وفقاً لتقديرات منظّمة العمل الدولية لعام 2023، إلى أكثر من ذلك بكثير، ربّما هذا العام. وقد فاقم من ذلك كلّه تعمّد نظام الأسد إسقاط مؤسّسات الدولة، ونهب جزء كبير من مدّخراتها، ونشر الفوضى، قبل هروب بشّار الأسد إلى موسكو حاملاً معه ما استطاع حمله.
وهكذا، بعد اسقاط النظام فُتِحت أبواب السجون من دون تمييز بين معتقلي الرأي (الواجب تحريرهم)، والمدانين بجرائم وأحكام قضائية، ممّا سمح لمجرمين جنائيين مدانين بقضايا السرقة والسطو المسلّح بالعودة إلى نشاطاتهم الإجرامية، في ظلّ ظروف الفوضى الأمنية الحالية في بعض المدن والأحياء، وخاصّة في المدن الكبرى، مثل دمشق وحلب، في ظلّ ضمور واضح لجهاز الشرطة المدنية، بعد عملية إقصاء غير مدروسة للكثيرين منهم.
هنا يجدر الانتباه إلى ضرورة الاهتمام بإعادة تفعيل جهاز الشرطة المدنية أولوية قصوى، في ظلّ هذه الفوضى الأمنية الحالية، إذ يُعدّ هذا الجهاز مختلفاً في وظيفته عن الأجهزة الأمنية (المخابراتية) الأخرى، التي ارتبطت غالباً بالقمع، وانتهاك حقوق المواطنين. فجهاز الشرطة، بطبيعته المدنية، يمتلك معرفة دقيقة بملفّات المحكومين الجنائيين وسجلّاتهم، ممّا يجعله الأقدر على التصدّي لانتشار الجريمة المنظّمة والأنشطة غير المشروعة، وهذا لا يتناقض مع ضرورة إعادة تأهيل هذا الجهاز، وتزويده بالإمكانات اللازمة، وضمان استقلاليته عن الهيمنة الأمنية التقليدية، ما يساهم في استعادة ثقة المواطنين، وفي تعزيز الأمن المجتمعي. كما أن التركيز على دور الشرطة في حماية المدنيين بدلاً من مراقبتهم، يمكن أن يخلق بيئة أكثر استقراراً، ويعيد رتق النسيج الاجتماعي الممزّق.
يشير الواقع الحالي بذيوله الاقتصادية القاتمة إلى أن الفئات الأكثر تضرّراً هي الشباب، فزيادة معدّلات الجريمة والاضطرابات الاجتماعية غالباً ما تكون نتيجة مباشرة لغياب فرص العمل وانعدام الأمل، ما يعني أن حلّ المشكلة يتطلّب تأمين الحلّ الأمني من جهة، وهذا لن ينجح ما لم تُوفَّر للشباب فرصَ عملٍ تسدّ حاجاتهم من جهة أخرى، وهي مرتبطة بالأولى. أي إننا أمام تحدِّيَين متلازمَين لمنع الانزلاق التامّ نحو مجتمع منكوب بالكامل في ظلّ واقع اقتصادي واجتماعي هشّ. معالجة هذا الواقع المأساوي تتطلّب تبنّي رؤية شاملة تجمع بين الحلول الأمنية والاجتماعية والاقتصادية، فتأمين الاستقرار الأمني لن يتحقّق من دون معالجة جذور المشكلة الاقتصادية التي خلّفها النظام السابق، وتُعدّ العامل الرئيس في تفاقم الفوضى والجريمة. في هذا الإطار، تأتي أهمية وضع برامج تنموية تستهدف الشباب، باعتبارهم الفئة الأكثر تضرّراً، من خلال توفير فرص عمل حقيقية تتيح لهم بناء مستقبل أفضل، وتقلّل من خطر انخراطهم في الأنشطة غير المشروعة.
وهنا تكمن أيضاً أهمية الحديث عن التكتلات الاقتصادية التي ينشئها رجال الأعمال السوريون، إذ تلعب دوراً حيوياً في تسريع دوران عجلة الاقتصاد، من خلال استقطاب الاستثمارات، وإعادة تنشيط القطاعات الإنتاجية، مثل الزراعة، والصناعة، والخدمات، والتعليم، والتدريب المهني، لإعادة تأهيل القوى العاملة، وخلق مسارات جديدة للنمو الاقتصادي. يمكن لهذه التكتّلات أن توفّر فرصَ عملٍ عديدة، وتعيد الثقة تدريجياً إلى السوق المحلّية، كما أن تضافر جهود القطاع الخاص مع المبادرات الحكومية يمكن أن يساهم في خلق بيئة اقتصادية أكثر استقراراً، ويعزّز الأمل لدى الشباب في الحدّ من البطالة والاضطرابات الاجتماعية، وهذه الاستثمارات تحتاج بالطبع إلى أن تترافق مع تعزيز الشفافية، ومكافحة الفساد، وضمان عدالة توزيع الموارد لاستعادة الثقة بين المواطنين والمستثمرين والدولة.
في الإطار ذاته، يُفترَض تعزيز دور المغتربين السوريين، الذين يشكّلون شريحة مهمّة من القوى الاقتصادية، فهم يمتلكون خبراتٍ ورؤوسَ أموالٍ وعلاقاتٍ يمكن أن تساهم بشكل كبير في دعم الاقتصاد المحلّي، خاصّة إذا توفّرت لهم بيئة قانونية وتشريعية مشجّعة. فالتعاون بين المغتربين والتكتّلات المحلّية يمكن أن يؤدّي إلى شراكات مثمرة، تساهم في توفير فرص عمل، وتحقيق التنمية المستدامة. ومن المفيد الإشارة إلى أن التجارب الدولية أثبتت أن التكتلات والأحزاب والجمعيات يمكن أن تلعب دوراً محورياً في إعادة بناء المجتمعات بعد الحروب والثورات، منها على سبيل المثال ألمانيا، إذ ساهمت النقابات العمّالية والجمعيات الاقتصادية، بعد الحرب العالمية الثانية، في قيادة عملية إعادة الإعمار، وتحقيق ما عُرف بـ”المعجزة الاقتصادية”، لأن هذه التكتّلات لم تكن وسيلة لتنسيق الجهود بين مختلف القطاعات فقط، بل كانت أيضاً منصّة لإعادة بناء الثقة بين المواطنين والدولة. وقد حصل مثل ذلك في جنوب أفريقيا بعد انتهاء نظام الفصل العنصري، إذ استفادت من التعاون بين الأحزاب السياسية والجمعيات الأهلية لتعزيز المصالحة الوطنية، وتحقيق التنمية الاقتصادية. وهذه النماذج تؤكّد أن التكتّلات ليست مُجرَّد وسيلة للتغلّب على البطالة والفقر، بل هي وسيلة لبناء مجتمعٍ خالٍ من الجريمة أيضاً، فهل تنفتح الحكومة السورية على مستلزمات الاستثمار؟… سؤال تبقى إجابته رهن المستقبل القريب جدّاً.
العربي الجديد
——————————
السياسة الخارجية للإدارة السورية الجديدة/ عمر كوش
20 يناير 2025
بدأت تتّضح ملامح السياسة السورية الخارجية بعد الخلاص من نظام بشّار الأسد، قوامها رغبة الإدارة الجديدة في تأسيس علاقات إقليمية ودولية جديدة، تنهض على الاحترام المتبادل والمصالح المتقاطعة، وتأمل في أن يسهم المجتمع الدولي بمساعدتها في إعادة الأمن والاستقرار إلى سورية المدمّرة، التي يعاني غالبية سكّانها وطأة الفقر والتهميش وتبعات النزوح واللجوء. وعبّرت الإدارة الجديدة في أكثر من مناسبة عن أنها ستتّبع سياسةً متوازنةً في علاقاتها مع مختلف القوى الإقليمية والدولية، بما يضمن استقلالية القرار الوطني السوري، إضافة إلى إدراكها أهمّية تطبيع علاقات سورية مع دول الجوار والإقليم والعالم، فأرسلت رسائلَ طمأنةٍ عديدة إلى دول الجوار والعالم، تفيد بأن سورية لن تكون عامل عدم استقرار، بل ستسعى إلى تصفير المشكلات معها، وأنها لن تتّبع نهج تصدير الثورة، بل اعتبرت أن الثورة انتهت بسقوط النظام، وبدأت مرحلة الانتقال إلى بناء الدولة، التي تسعى إلى العيش في سلام ووفاق مع جوارها والعالم، لذلك من الأهمّية ألا تفوّت الدول العربية الفرصةَ في مساعدة الإدارة الجديدة على مختلف المستويات، السياسية والاقتصادية، وبما يساعد سورية لكي تتحوّل عاملَ استقرار في المنطقة ولا تنتج نظاماً يتعايش على الابتزاز وصنع الأزمات مع جواره، مثلما كان يفعل نظام الأسد.
المحدّد الأول للسياسة الخارجية للإدارة الجديدة هو تركيزها في السعي إلى عودة سورية إلى النظام العربي، لذلك أرسلت وفداً رفيع المستوى إلى كلّ من السعودية وقطر والإمارات والأردن، وفنّدت بذلك ما يشاع عن أنها واقعة في الحضن التركي، وأن ما جرى في سورية هو وراثة تركيا نفوذ النظام الإيراني فيها، بينما أثبتت توجهات الإدارة أنها تتمتّع باستقلالية ملحوظة عن الجار التركي، بالرغم من أن العلاقات مع تركيا تحظى بأهمّية كبيرة لديها، بالنظر إلى المواقف التركية المساندة لثورة الشعب السوري في ثورته، ودعمها لفصائل سورية مسلّحة خلال الحرب التي كان يشنّها نظام الأسد، وحليفيه الروسي والإيراني ضدّ الشعب السوري، خلال أكثر من 13 سنة، إضافة إلى إيوائها أكثر من ثلاثة ملايين لاجئ سوري في أراضيها. ومع ذلك، سارعت الإدارة الجديدة إلى تأكيد توجّهها العربي، بوصفه أولوية في سياستها الخارجية، الأمر الذي يُفسّر أن أوّل زيارة خارجية لوزير الخارجية أسعد الشيباني، والوفد المرافق له، كانت إلى الرياض، تلتها زياراته إلى الدوحة وأبوظبي وعمّان، ثمّ زار وفد برئاسة الشيباني تركيا التي كانت أوّل دولة أرسلت وزير خارجيتها هاكان فيدان إلى دمشق، وسبقتها زيارة رئيس استخباراتها إبراهيم كالن، إضافة إلى أنها كانت تهدّد بقيامها بعملية عسكرية ضدّ قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي تسيطر على مناطق في شمالي الجزيرة السورية، فيما سلكت الإدارة الجديدة طريق الحوار معها، بغية إدماجها في الجسد السوري، وفق مبدأ وحدة سورية أرضاً وشعباً، وسيادتها في كامل أراضيها. ويبدو أن المسؤولين الأتراك منحوا الإدارة الجديدة فرصةً كي تتولّى أمر “قسد”، وكلّ مخرجات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سورية، كما أن الإدارة الجديدة لم تمنح الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، الذي يتّخذ اسطنبول مقرّاً له، أيَّ خصوصية في التعامل معه، بل طالبته بحلّ نفسه. وكذلك الأمر في ما يخص حكومة الائتلاف المؤقّتة، التي اضطرّت إلى تسليم المعابر الحدودية مع تركيا إلى الإدارة الجديدة.
المحدد الثاني للسياسة الخارجية الجديدة هو القطع مع سياسة المحاور التي كان يتّبعها نظام الأسد، وأفضت إلى تغلغل النظام الإيراني في مختلف تفاصيل الدولة السورية، وإلى سعي روسيا إلى تحويل سورية قاعدةً متقدّمة لها في الشرق الأوسط، وإطلالة هامّة على البحر الأبيض المتوسّط، فيما اختلفت الأمور جذرياً بعد إسقاط نظام الأسد. ولعلّ من أولى نتائج إسقاط نظام الأسد الاحتضان العربي والدولي للتحوّل الذي حدث، وعبّر عن بروز تدفّق دولي وعربي كبير إلى دمشق، التي باتت قبلة لوفود عربية وأجنبية، حيث اختلفت حساباتها ما بين دعم الشعب السوري وإدارته الجديدة من دون اشتراطات وإملاءات، وبين دول طرحت شروطها العلنية التي تصل حدّ التدخّل في الشأن الداخلي والمساس بالسيادة السورية، ولا يغيب عن ذلك مطامح النفوذ وتثبيته والحفاظ عليه، كما لا تغيب عن هذه الوفود حسابات دولها المرتبطة بالتنافس وتثبيت الحضور. والملاحظ أن الحراك السياسي لمعظم دول الخليج العربي نحو دمشق يستدعي إلى الذاكرة إمكانية إعادة إنتاج منظومة جديدة للتعاون والتكامل الإقليمي ما بين دول المنطقة، بما يشمل دول الخليج وتركيا وسورية الجديدة. ويُبنى الحديث عن منظومة تعاون جديدة على إدراك معظم الدول العربية أهمّية سورية، وضرورة دعمها للتعافي وإعادة إعمار ما دمّره نظام الأسد، وعدم تركها وحدها مثلما فعلت مع العراق بعد الغزو الأميركي عام 2003. ومع ذلك، ما تزال بعض الدول العربية تبدي توجسها من الإدارة الجديدة، فلم تبادر إلى دعمها، لأن هاجس الخوف يسكنها، وتتخوّف من أن تستلهم شعوبها النموذج السوري في التغيير.
تكمن حيثيات السياسة الخارجية للإدارة الجديدة في حاجتها إلى اعتراف دولي، نظراً إلى أهمية ذلك في اكتساب شرعية خارجية، في ظلّ مشهد دولي وإقليمي معقّد حول سورية، ولم تتفكّك عُقدُه برحيل النظام، إضافة إلى أنها تولي أهميةً لانخراط سورية في محيطها العربي، وللحاجة الملحّة إلى دور الدول العربية من أجل تذليل التحدّيات والعقبات الكثيرة التي تواجهها في المرحلة الانتقالية، ويسكنها الدافع بألا يُختصر دورها في الدعم الإنساني والاقتصادي، بل أن يتجاوزه إلى الدعم السياسي، خاصّة العمل من أجل رفع العقوبات الأميركية والأوروبية المفروضة على سورية.
وعلى المستوى الدولي، سارعت الولايات المتحدة إلى التعامل بإيجابية مع التغيير الحاصل في سورية، لأن السلطة الجديدة أسقطت نظام الأسد الذي حوّل سورية منطقةَ نفوذ للنظامين الإيراني والروسي، ومن ثم تخلّصت الولايات المتحدة من هذين المنافسين لها من دون أن تقوم بأيّ فعل عسكري. وقد تجاوزت الولايات المتحدة التصنيفات التي وضعتها للفصائل التي تقود الإدارة السورية الجديدة، فأرسلت وفودها الدبلوماسية إلى دمشق، وكذلك فعلت كلّ من فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وأوكرانيا، وأبدت دول الغرب استعدادها للتعاون المشروط مع الإدارة الجديدة، فصرّح مسؤولون غربيون أنهم يراقبون الأفعال التي ستقوم بها، فيما لم تتأخّر الإدارة الأميركية في توجيه رسالة حسن نيّة إلى سورية الجديدة، تمثّلت برفع جزئي ومؤقّت للعقوبات الاقتصادية على سورية، في انتظار رفعها العقوبات على الدولة السورية وقطاعاتها الحيوية.
لن تكون السياسة الخارجية منفصلةً عن سياستها الداخلية التي تواجه تحدّيات كثيرة، وتتطلّب مؤسّسات تمثيلية جامعة، بما يسهم في تشكيل هُويَّة سياسية جامعة، ويجعل نموذج التغيير في سورية ينهض نحو تأسيس دولة تعاقدية مدنية ذات طابع إسلامي منفتح. وليس الطريق للوصول إلى ذلك كلّه مفروشاً بالورود أمام الإدارة الجديدة.
————————-
شرق أوسط ديمقراطي/ أنور الهواري
20 يناير 2025
عرفت بعض بلدان الشرق الأوسط، في النصف الأول من القرن العشرين، ديمقراطياتٍ تجريبيةً محدودةً تحت سقف الانتدابَين الفرنسي والبريطاني في سورية ولبنان وفلسطين والعراق ومصر والسودان. كانت هذه البلدان فاقدةً للحرّية، لكن الشعوب تمتَّعت بألوان من الحرّيات والحقوق المدنية، أراد بها الاستعمار كسب مودّة بعض الطبقات العُليا، سواء الموالية أو المتعاونة، ثمّ تخفيف روح الحميّة القومية لدى الطبقات الوسيطة الناشئة. في ظلال هذه المقادير المحدودة من الحرّيات عرفت بلادنا التنظيمات الحديثة من أحزاب ونقابات وجمعيات أهلية، كما عرفت أساليبَ الانتخابات التعدّدية، والصحافة والكتابة والأدب الحديث، وقد تزامن ذلك كلّه مع عدّة تحوّلات: تحديث أنماط الإنتاج، وتعليم على النمط الأوروبي، وجيوش على النموذج الأوروبي، ونخب حديثة، إمّا تلقّت التعليم في أوروبا وإمّا حظيت بتعليم أوروبي داخل بلدانها إذ تأسّست مدارس عليا حديثة، ثمّ جامعات، وكانت كلّيات الحقوق مدارس للعلم وللوطنية، ولتأهيل نخب وطنية تقاوم الاستعمار، وفي الوقت ذاته تتبنّى القيم الأوروبية في الحكم والإدارة والثقافة وتنظيم المجتمع.
كانت هذه الديمقراطية الاستعمارية في النصف الأول من القرن العشرين وراء الازدهار الثقافي والفكري والسياسي المؤقّت، الذي يمثّل نقطةَ الاستنارة المضيئة في تاريخنا المعاصر، لكن بمُجرَّد أن رحل الاستعمار، انكشف غطاء الستر عن ديمقراطيته، وفقدت كافلها وضامنها، وتجلّت بعده غريبة الدار وغير ذات جذور في مجتمع شرقي تتجذّر فيه البنية التحتية للطغيان والاستبداد، وباتت الأحزاب والنقابات والجمعيات غير مؤهّلة إلى إدارة توافق وطني جامع ومستقرّ، وحافظ للقواسم المشتركة، ويصون مصالح الجميع من طغيان الجميع، واهتزت زوارق الوطنية الوليدة تحت موجات من الانقلابات العسكرية في العراق وسورية ومصر والسودان، وأُزيلت الطبقات القديمة إزالة كاملة، وهي التي تمرّنت على الكفاح الديمقراطي في عهود الانتداب الأوروبي، ونشأت عسكريات، المعتدل منها في ديكتاتوريته كان يقتدي بنموذج جمال عبد الناصر، ومن ذهب منها إلى آخر مدىً للديكتاتورية كان يجد قدوته في جوزيف ستالين، إذ تحوّلت الثورة البلشفية بيديه نموذجاً مثالياً للدولة المتوحّشة. البعث في العراق، ثمّ سورية، في أوّل عهده كان على مقربة من ديكتاتورية ناصر المعتدلة، ثمّ تطور كلاهما بعد ذلك صوب ديكتاتورية النموذج الستاليني الوحشية.
في ظلّ الديكتاتوريات العسكرية، المعتدلة منها والمتطرّفة، كان تبرير الديكتاتورية يقوم على عدة مقولات: أن الحقوق الاجتماعية والاقتصادية (أو العدل الاجتماعي) لها الأولوية على الحقوق السياسية، وما في معناها من حرّيات فردية وعامّة وحقوق مدنية، ثمّ حماية الثورة، وهي كناية عن حماية نظام الحكم، فلها الأولوية القصوى ولو اقتضى ذلك العسف بحقوق المواطنين كلّهم أو بعضهم، فذلك مبرّر بالنظر إلى المصالح العُليا للبلاد، ثمّ أن للديكتاتوريات العسكرية وحدها الحقَّ في هندسة التنظيم السياسي، سواء في حزب واحد أو حزب طليعي متحالف مع أحزاب صغيرة، أو زحام من أحزاب صغيرة قليل منها جادّ وأكثرها من صنائع الأجهزة القمعية. وعلى هذا الأساس، تشكّلت طبقات سياسية أقرب إلى بيروقراطية مستأنسة في آلة الديكتاتورية، وخلت الساحات من نماذج ذات استقلال وتملك بعضاً من روح المبادرة مثل تلك التي كانت في عهود الاحتلال، ثمّ صادرت الديكتاتوريات حرّيات التفكير والتعبير، إلا في إطار ما تبادر هي بطرحه من أيديولوجيات أو مواثيق أو أوراق تعتبرها مرشداً للدولة والمجتمع، وفي الغالب كانت تقرّرها في المدارس والجامعات في فصول التربية الوطنية. وذلك كلّه جرى في مناخَين، أولهما مناخ الحرب الباردة وصراع السوفييت والأميركيين على النفوذ في الشرق الأوسط، ثمّ مناخ النظام الدولي غير المستقرّ وغير المتوازن بعد سقوط الاتحاد السوفييتي عند مطلع العقد الأخير من القرن العشرين. ولم تكن مصادفة أن يبدأ مسلسل تساقط الديكتاتوريات العسكرية العربية من ذلك التاريخ، فمنذ سقوط “بعث” العراق (2003)، أي بعد عقد كامل أو يزيد قليلاً على سقوط الاتحاد السوفييتي، سقط “بعث” سورية (2024)، أي بعد ثلاثة عقود على سقوط الاتحاد السوفييتي، وتكون الحرب الباردة قد انحسمت بصفة قاطعة في الشرق الأوسط، ويكون نصر الغرب على الشرق قد اكتمل. ولذا، ليس من المصادفة أن يكون مغزى سقوط “بعث” سورية هزيمة للروس ومعهم حلفاؤهم الإيرانيون، مثلما هو في الوقت ذاته انتصار لحلف شمال الأطلسي (ناتو) بالدرجة الأولى، انتصارٌ رأس الحربة فيه تركيا، وريثة الصراع ذي القرون الخمسة مع إيران الشيعية، كما هي وريثة صراع ثلاثة قرون مع روسيا الأرثوذكسية.
حسمت تركيا الوجهة التي يؤمّها الشرق الأوسط في الأجل المنظور، وجهة فيها مزيج من علمانية الدولة الأتاتوركية، مع حقّ الأفراد في حرّيات الاعتقاد وممارسة الأديان، وردع الدولة عن اقتحام الحرّيات الفردية والحقوق المدنية، وبناء الدولة الوطنية مع استصحاب روح توسّعية مأذون بها من أميركا وأوروبا. للمرّة الأولى منذ تأسيس تركيا الحديثة بيد كمال أتاتورك قبل مائة عام تكون تركيا محظوظةً بمثل هذه الصورة، ومدعوّةً من داخل الإقليم ومن خارجه إلى إعادة هندسة الشرق الأوسط مع مطلع الربع الثاني من القرن الحادي والعشرين. قبل مائة عام كانت تركيا تفلت بجلدها من التلاشي عقب انهيار إمبراطورية عثمانية عمّرت التاريخ سبعة قرون، كانت تركيا تلملم جراحها التي لم تنجح في تضميدها منذ بدأت الانحدار مع مطلع القرن الثامن عشر، اليوم عادت تركيا لتسلّم الشام الذي انسحبت منه أمام زحف الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الأولى. قبل مائة عام كان الانتداب الأوروبي على الشام، اليوم يعود الانتداب التركي على الشام برضا وترحيب، وربّما بتكليف وتفويض من أوروبا وأميركا.
تحصد تركيا نجاح العلمانية الأتاتوركية التي صوّبت أعين تركيا صوب القبلة الأوروبية، ثمّ أضاف إليها خلفاء أتاتورك من التعديلات ما أنجز المصالحة التاريخية بين العلمانية والإسلام، ثمّ تطوّعت أميركا لاحتضان هذا النموذج ودعمت نجاحه، وضغطت على أوروبا لتكفّ عن حزازاتها القديمة مع تركيا. صحيح لم تفتح أوروبا عضوية اتحادها أمام تركيا، لكنّها تعطي كثيراً لتحوّل تركيا نحو ديمقراطية مستقرّة لا تقع تحت رحمة العسكر، مع علمانية لا تقع في صدام مع عقائد الشعب التركي. تركيا اليوم هي الأكثر تأهيلاً لتكون النموذج في إعادة بناء الدولة الوطنية في الشرق الأوسط.
قبل أن تقع ثورات الربيع العربي، كانت لدى أميركا وأوروبا تفاهمات قريبة من ذلك النموذج الذي شيّدوه في تركيا، حيث بشّرت دوائرُ كثيرةٌ نافذةٌ، سواء في أميركا أو في أوروبا، بدور كبير للإسلاميين في مصر وتونس واليمن في حكم بلدانهم عقب سقوط الديكتاتوريات، التي أيقن الغرب أن إصلاحها مستحيل، وأن بقاءها يحول دون شرق أوسط جديد، وأن فسادها واستبدادها يؤذي صورة أميركا وأوروبا في أعين الشعوب، وقد كان، إذ وقفت أميركا وأوروبا وراء حقّ الإسلاميين في الاعتراف بهم داخل الشرعية السياسية، ثمّ حقّهم في تأسيس أحزاب علنية، ثمّ حقّهم في خوض الانتخابات للمنافسة على المناصب، ثمّ حقّهم في تسليمهم السلطة لفوزهم بالأغلبية. وقد كان بالفعل، لكن لم تنجح تجربتهم كما سبق أن نجحت تركيا أردوغان.
نجح أردوغان (قبل جدارته القيادية وبعدها) بفضل العلمانية الأتاتوركية، التي حفظت الدولة الوطنية الحديثة من الانتكاس إلى أصولية ماضوية متخلّفة، علمانية أتاتورك تطوّرت لتنفتح على الديمقراطية، ثمّ لتنفتح على الدين، ثمّ تواصل التوازن بين تعلّقها بالغرب والعودة إلى الانفتاح على الشرق. مصر وتونس فيهما علمانية جمال عبد الناصر والحبيب بورقيبة، وكلتاهما اقتفت أثر علمانية أتاتورك، مع سماحة من علمانية عبد الناصر مع الدين، لكن العلمانيتَين لم يكن لهما انفتاح على الديمقراطية. في الحالة المصرية، ومع صعود الإسلاميين السلطة، لم تكن المشكلة في غياب قدر معقول من علمانية الدولة، فالدولة المصرية الحديثة منذ نهضت ركائزها بيد محمّد علي باشا، عند مطلع القرن التاسع عشر، هي دولة علمانية من دون ضجيج أيديولوجي، علمانية عملية هادفة ومنتجة ومثمرة. كانت المشكلة في عقلية الإسلاميين المصريين، لم يكن لديهم تفهّم عملي لجدوى العلمانية، ولم يكن لديهم تفهّم صحيح لطبيعة الدولة المصرية، كانوا غرباء طارئين عليها بالمعنى الفكري، كما كانت غريبةً عليهم بدهاليزها المستكينة في الأعماق، وكانوا كياناً طافياً فوق السطح الظاهر محجوباً عن العمق الحقيقي، لم يستوعبوها ولم تستوعبهم، فلم يغيّروها ولم تغيّرهم، كان اللقاء عجولاً، وكان الفراق محتوماً. فازوا عبر انتخابات حديثة، لكن دخلوها بروح قديمة، روح غزو وفتح وغنيمة.
على العكس من ذلك، جاءت لمسات أردوغان في سورية. وصلت هيئة تحرير الشام إلى السلطة على ظهور الدبّابات، وليس الانتخابات، ولكن حين تكلّمت لم تتكلم كما فعل الإخوان المسلمون بروح الغزو والفتح والغنيمة، بل تكلّمت بروح الديمقراطية التركية العلمانية، روح التوافق والتفاهم من دون نبرة الاستعلاء والغرور والفوقية التي شابت أداء الإسلاميين في الموجة الأولى من صعودهم عقب ثورات الربيع العربي.
في اللحظات الأولى من سقوط الديكتاتورية في دمشق، وقع استقطاب حادّ في مصر، استبشر “الإخوان” باستعادة الفردوس الذي فقدوه، وبكى القوميون العرب سقوط عاصمة الممانعة والمقاومة، لكن كلا الطرفَين أدركا سريعاً أن الإسلاموية والقومية (في أذهان الأجيال الجديدة) لم يعد لها البريق الذي كان لها في القرن العشرين، فالأجيال الجديدة لم تعد تنظر بعين الرضا إلى فكرٍ ديني يقوم على التضحية بالإنسان، كما لا تنظر بعين الاحترام إلى قومية تهدر كرامة الإنسان تحت أيّ مبرّر كان، والفكرتان الإسلاموية والقومية هما شيء من تراث القرن العشرين فقط، وهما معاً كانا من أسباب فشل الموجة الأولى من ثورات الربيع العربي، التي تكالب عليها شيوخ وعواجيز من مخلّفات وأطلال وبقايا تيّارات ومدارس الفكر والعمل السياسي العربي في القرن العشرين.
الحكام الجدد في دمشق شباب من مواليد الثمانينيّات من القرن العشرين، وهم إعلان دخول العرب عتبات القرن الحادي والعشرين، تماماً مثلما كانت التدفّقات الأولى من الشباب الثائر يوم انطلقت ثورات الربيع العربي. نحن أمام شرق أوسط يخرج من أقفاص القرن العشرين: قفص الديكتاتورية وقفص الأيديولوجيا وقفص الشيخوخة.
————————————–
العودة المأمولة، ولكن؟/ سلوى زكزك
19 يناير 2025
شكّلت أفواج العائدين والعائدات إلى سورية مشهدًا احتفاليًّا يحتاج إلى لغة خاصّة وإلى توصيفات لم يكتبها أحد من قبل، ربّما لأنه لم يعشها أو لم يرها أحد من قبل بهذه الطريقة المميّزة، النوعيّة، والجديدة تمامًا، أو ربّما وببساطة بالغة قد تكون قد حصلت من قبل لكن لم يصوّرها أحد، أو أنّ وسائل التواصل الاجتماعي لم تكن متاحة لتتويج هذه العودة كما تستحقّ. شكّلت حالة العودة هذه واقعًا جديدًا، عصيًّا على التوقّع، مفرحًا ومبكيًا في الوقت نفسه، لكنّه مثير للأسئلة جرّاء الدهشة الكبيرة، مثير للتفاعل، والأهمّ أنّه تحوّل إلى مشهد جماعيّ وكأنّه جزء رئيس من مشهد النصر وزوال نظام الطغيان.
العودة الحاصلة والتي تتكرّر يوميًّا تمتلك حيويّة مميّزة تليق بالخلاص، البيوت المهدّمة كانت تنتظر، الأهل والأصدقاء، الأسرّة الفارغة والقدور المهملة والأهل الذين باتوا عُجزاً ومثقلين بالتعب والمرض والغياب، كلّهم كانوا ينتظرون الأحبّة. حتى القبور ابتلّت عروقها واستقبلت العائدين بالنواح والشوق ومرارة الفقد والرغبة المطلقة بالتصديق، تصديق أنّ معانقة ضريح أو لمس تراب قبر ابن أو أب أو أمّ أو حتى صديق بات فعلًا ممكنًا، بات مؤكّدًا توفّر مكان في الوطن المأمول، كي يذرف السوريّون والسوريّات دموع الشوق والحبّ والنصر فيه.
بات للموت وقع مختلف بعد النصر الكبير! لذلك يتحوّل موت والد صديقة عائدة أثناء وجودها في مطار بيروت إلى فاجعة مضاعفة، رحيل الأب وعجزها عن توديعه ورؤيته حيًّا بفارق سويعات معدودة! شكّلوا حزنًا بليغًا وعظيمًا يجعل من الموت خسارات متعدّدة وليست مجرّد وداع ورحيل شخص غال. باتت العودة بحدّ ذاتها ألمًا مضاعفًا حين تموت أمّ فور انتهاء ولديها من شراء بطاقات العودة إلى دمشق، هو الموت يصير غصّات متلاحقة لأنّه جاء في اللحظة الفارقة ما بين خسارة الوطن التي تحوّلت إلى يقين ثابت وكأنّه لن يعود أبدًا، وما بين صدمة وجوديّة أعادته من حيث لم يتوقّع أحد وفي وقت عبر بدهشة الحلم وارتعاش الولادة من جديد، بل وسهّلت إمكانيّة اكتسابه والعودة إليه من جديد.
تتوارد الصور وكأنّها مقدّمات لملاحم متعدّدة ومتفرّقة! طالما كنّا نقول إنّ الفلسطينيّين، وبحكم صراعاتهم الطويلة مع الاحتلال ومع العذاب والقهر المديد، قد طوّروا وعمّموا سيلًا هادرًا من اللغة الوطنيّة والسرديّات العامّة الفريدة المشبعة بالمعاني العميقة وبالإرادة النابضة النبيلة المميّزة، لكنّ السوريّين اليوم يفصحون عن مكنونات لغتهم الجديدة، عن فصاحة التشرّد والاغتراب وفقدان الأمل، نعم، وعبر عودتهم وزياراتهم ووقع خطاهم واحتفالاتهم، يسطّر السوريّون أبجديّة جديدة، غزيرة، حنونة، مبكية ومفرحة، أبجديّة انتصاريّة رغم دموع الفراق، انتصاريّة رغم العودة إلى البيوت المهدّمة وكأنّها مجرّد رفات معدّ للمقابر فقط.
تتوارد الصور وفيديوهات اللقاءات وكأنّها سجّادة بارعة ترمّم قطبها المخفيّة، سجّادة أضاع حائكها إبرته الصلبة الماهرة القادرة على شدّ الخيوط إلى بعضها بحبّ يكفي للأبد، وبمتانة ومهارة فريدة كي تحمي هذا الحبّ.
تفوّقت العودة المأمولة على كلّ المحاولات المحمومة للفرار، وكلّ تجارب الهجرة السابقة، ليس بالعدد، بل بالعاطفة الغامرة، بالأمنيات الجميلة، بالأحلام الممتدّة من الخراب وحتى اكتمال البنيان! الروابط هنا صور، بعضها مهتزّ بفعل رجفة الشوق، وبعضها خائف من فرط الحبّ.
صارت الصورة قاموسًا لغويًّا جديدًا، والكلّ راغب في الإفصاح وفي عرض الصور والتقاطها لتعميم السرديّة السوريّة الجديدة.
على ضفّة الشوق، ينتظر سوريّون كثر، يترقّبون العودة بقلق وحذر، يدقّقون في احتماليّتها، يقيسون فكرة العودة بميزان الصائغ، الذي يهمّه إنجاز قطعة جميلة ومربحة في الوقت نفسه، والربح هنا يعني المستقبل لا القيمة النقديّة المباشرة.
يبدو أنّنا لا نختبر علاقتنا بالوطن حين نخسره فقط! بل حين نستعيده أيضًا. هذه الاستعادة التي فجّرت أنهارًا من الحبّ وسيولًا من الصور.
——————————–
تمرين القامشلي/ صبحي حديدي
تحديث 20 كانون الثاني 2025
بعد غياب قسري عن سوريا، بلدي، بلغ 38 سنة؛ أعود إلى مَواطن الشمال الشرقي، حيث مدينة القامشلي: مسقط رأسي، وحاضنة الطفولة، وفضاء تشكّلِ الوعي السياسي والفكري والجمالي، ومستقرّ ذاكرة عميقة الغور إنسانياً ولغوياً وبصرياً. ولست أعود إلا بفضل السوريين من الشهداء والمفقودين والغرقى والمهجّرين، وثائري انتفاضة آذار (مارس) 2011 على اختلاف ساحاتهم وأدواتهم وتضحياتهم؛ ممّن تقاسموا فضل، وفضيلة، انهيار نظام “الحركة التصحيحية”، مجرم الحرب الأسد الأب مثل وريثه.
وأجدني، كما في كلّ مناسبة تخصّ القامشلي، أستعيد صورة للمدينة لا أظنها تشبه أياً من المدن السورية: موطن كريم لأقوام من العرب والكرد واليزيديين والأرمن والسريان والآشوريين، فضلاً عن البدو الرحّل والعشائر المستوطنة؛ الأمر الذي استدعى تعدّدية أخرى كريمة، ثقافية وأنثروبولوجية، على صعيد اللغات والأديان والمذاهب والتراثات والأساطير. وكانت علاقة البشر مع المواسم الزراعية قد مكّنت المنطقة من أنساق تميّز شتى تفرّدها عن بقية أرجاء سوريا. وهذه تبدأ من واقع ديموغرافي ثنائي التركيب: الوافدون الذين قَدِموا من مناطق الداخل السوري، بحثاً عن العمل الموسمي ثم استقرّوا؛ والمهاجرون الذين هاجروا من تركيا والعراق وأرمينيا هرباً من الاضطهاد العرقي أو السياسي.
شخصياً، كنت أتكلم الكردية مع أصدقائي في المدرسة والشارع، رغم أنني لست كردياً؛ وأرطن ببعض السريانية، وبعض الآشورية، وأفهم الكثير ممّا يُقال أمامي باللغة الأرمنية؛ وكذلك كانت تفعل والدتي المتحدرة من منطقة الحسينية، على ضفاف الفرات الشرقي من محافظة دير الزور. وفي سنوات الصبا كنّا، نحن المسلمين الفتية، نستضيف أصدقاءنا المسيحيين (على اختلاف طوائفهم وإثنياتهم) في مسجد المدينة الكبير، حيث يجري الاحتفال بعيد المولد النبوي، وتُوزّع صُرَر السكاكر والملبّس والنوغا. وفي المقابل، كانوا يستضيفوننا حين تأزف احتفالات عيد الميلاد، فندخل كنائسهم لا كالغرباء أبداً، ويحدث أن نشارك في بعض شعائرهم، ونأكل ممّا يأكلون، ونشرب أيضاً!
لكنّ مختلف حكومات حزب البعث، منذ تسلمه السلطة سنة 1963، تكفّلت بالإجهاز على الكثير من أخلاقيات التعدّد الراقية تلك، أو رسّخت نقائضها عن سابق قصد معتمَد وتخطيط منهجي؛ ضمن سياستَين متكاملتين: ممارسة العديد والمزيد من أشكال التمييز ضدّ الكرد؛ واللعب على حساسيات طائفية ومذهبية بين المسلم والمسيحي، أو حتى بين المسلم والمسلم، وإيقاظ ما كان منها خاملاً نائماً، وإحياء ما اندثر وانطوى. لم يكن غريباً، والحال هذه، أن تشهد القامشلي انتفاضة شعبية في آذار من العام 2004، كانت النذير الأهمّ، والأبكر نسبياً في عهد بشار الأسد، على احتمالات التحرّك الجماهيري المناهض للسلطة، وديناميات الاحتجاج السياسي ـ الاجتماعي في الجوهر، حتى إذا كان مضمونه المباشر يخصّ حقوق شريحة محددة من المواطنين، الكرد؛ في محافظات الشمال الشرقي عموماً، ومنطقة “الجزيرة” بصفة خاصة.
وهذه بقاع تعرّضت على الدوام للإهمال والحرمان ومعاملة الدرجة الثالثة، رغم أنها “أهراء سوريا” على نحو أو آخر، وفيها تتمركز ثروات البلاد ومواردها الأساسية: النفط، والحبوب، والأقطان، في محافظة الحسكة؛ والنفط، في دير الزور؛ والكهرباء وسدّ الفرات، في الرقّة. وإذا كان التمييز البيّن يقع على مواطني هذه المحافظات الشمالية، بالمقارنة مع سواهم في محافظات أخرى، فإنّ التمييز الذي يعاني منه المواطنون الكرد أشدّ وأبعد أثراً، وهو بلغ ويبلغ مستوى التجريد من الجنسية والحرمان تالياً من حقوق التعليم وتسجيل الولادات الجديدة والسفر، إلى جانب التحريم شبه التامّ المفروض على الحقوق الثقافية والسياسية الأساسية.
وعلى سبيل المثال، والمقارنة، توفرت في مدينة القامشلي مدارس خاصة تدرّس اللغة السريانية، وأخرى تدرّس اللغة الأرمنية؛ ولكنّ المواطن الكردي لم يكن ممنوعاً من هذا الحقّ الطبيعي فحسب، بل إنّ احتفال الكرد بأبرز أعيادهم، النيروز، كان يحتاج دائماً إلى إذن خاص من السلطات الأمنية، وينتهي غالباً بتقييد وتضييق أو حظر تامّ. وقد يقول قائل إن أجهزة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، تمارس اليوم سياسات إدارة ذاتية تسلطية على عرب المنطقة وكردها في آن معاً، ذهب بعضها إلى مستويات فاضحة من التعاون مع النظام السوري، وتستقوي اليوم بالقوات العسكرية الأمريكية المنتشرة في الشمال. وهذا واقع فعلي لا يُنكر، وإنْ كان يحتاج دائماً إلى تأطير خلاصاته بمنأى عن التعميم والفرضيات الجاهزة والتنميطات المسبقة؛ خاصة أنّ ما بعد 8 كانون الأوّل (يناير) 2024 يستدعي النظر في سياقات أوسع نطاقاً وتعقيداً، كانت وتظلّ اليوم خلف صعود “قسد” أو تمكينها.
أهذه السطور، إذن، شهادة عن القامشلي مطعون في صدقيتها؟ لا أجدني أتردد في الإجابة بالنفي، لأنّ الشهادة في خصوصية هذه المدينة محطّ إجماع واسع لدى كلّ مَن أقام فيها، وكذلك لدى سواد أعظم من السوريين الذين لا يعرفون عنها إلا ما سمعوه من زائريها وأهلها.
وكما كانت انتفاضة القامشلي تمريناً مبكراً، في ضمير شعب متعطش إلى الحرّية، وفي حسابات سلطة لا ترتكز إلا على الاستبداد والفساد؛ فإنّ تكوين المدينة الفريدة يمكن أن يصبح اليوم تمريناً يستشرف صورة سوريا الأجمل: حيث التعدّد قوّة، والاختلاف اغتناء، والوطن للجميع.
القدس العربي
——————
استباقاً لخطط ترامب: فرصة لسوريا ودور للبنان/ منير الربيع
الإثنين 2025/01/20
يترقب العالم ومنطقة الشرق الأوسط لسياسة واستراتيجية الرئيس الأميركي دونالد ترامب ما بعد دخوله إلى البيت الأبيض. استبق ترامب تسلّمه للسلطة في الحديث عن مؤشرات كثيرة، منها ما يتصل بتغيير الخرائط، عندما عبّر عن رغبة في ضم قناة بنما، وجزيرة غرينلاند، وجعل كندا الولاية الـ51 من الولايات المتحدة الأميركية، بالإضافة إلى حديثه عن المكسيك. أما في الشرق الأوسط، فهو تحدّث أكثر من مرة عن سعيه إلى إحلال السلام ووقف الحروب. وذلك لا يعني التلاقي مع تطلعات شعوب هذه المنطقة في الوصول إلى الرخاء أو الرفاه، بل إن منظور ترامب إلى السلام يقوم على حسابات الصفقات والمصالح والمردود الاقتصادي والتفرغ لمواجهة الصين. رغبة ترامب بوقف الحروب هي التي شكّلت ضغوطاً على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لوقف الحرب على غزة، وبالقوة المعنوية التي “تمتّع” بها ترامب توقفت الحرب الإسرائيلية على لبنان، وسارع المسؤولون إلى إنجاز الانتخابات الرئاسية اللبنانية استباقاً لدخوله إلى البيت الأبيض، فيما كانت سوريا تشهد تحولاً كبيراً بسقوط النظام السوري وتصدر هيئة تحرير الشام للمشهد.
التجربة السورية
دول كثيرة تسارع إلى تعزيز نفوذها في منطقة الشرق الأوسط قبيل وصول ترامب، كما هو الحال بالنسبة إلى تركيا، التي عززت من موقعها في سوريا وستخوض مفاوضات شاقة مع الأميركيين بشأن الوضع الكردي ووضع شمال شرق سوريا. وكما نجحت أنقرة في توسيع هامش نفوذها ومصالحها، يبرز اهتمام عربي بالتقدم أكثر باتجاه سوريا، وسط معلومات أصبحت مؤكدة عن الاستعداد للانخراط أكثر في مشاريع كثيرة سياسياً، اقتصادياً، واستثمارياً، مع الإشارة إلى أن مسؤولين عرب نقلوا مواقف واضحة إلى القيادة السورية الجديدة، بأن هناك فرصة حقيقية لنجاح هذه التجربة مع توفير كل الظروف الملائمة لتحقيق الانتقال السياسي السلس، مع استعدادت عربية لتوفير المساعدات اللازمة لسوريا على مستوى الكهرباء، والمصرف المركزي، ومجالات الطاقة، بالإضافة إلى الدخول في استثمارات وإعداد برامج تدريب لإعادة بناء المؤسسات. وسط حديث عن اهتمام سعودي جدي بالملف السوري ووجود نية للتعاون مع الإدارة الجديدة وإعطائها الوقت للتعلم من التجارب والأخطاء، على الرغم من الضعف الكبير في كوادر الإدارة الجديدة والأخطاء التي ترتكب.
دور لبنان
في هذا السياق، يحضر الاهتمام الأردني الإستثنائي في سوريا، من خلال التنسيق مع دول عربية عديدة. يطمح الأردن لأن يكون قاعدة أساسية لإعادة الإعمار، وأن يكون المكان الذي تتجمع فيه الشركات الدولية الكبرى لإطلاق مشروع إعادة الإعمار في سوريا، علماً أن لبنان هو الذي كان يطمح لأن يكون قاعدة أساسية لإعادة الإعمار في سوريا، وهو الذي دخل ورشة سياسية جديدة بعد إنجاز الانتخابات الرئاسية وبانتظار تشكيل الحكومة الجديدة. لكن سوريا تتقدم في سلّم الأولويات بالنسبة إلى دول المنطقة، نظراً لموقعها، ومساحتها، باعتبارها الدولة المركزية في الربط مع أوروبا والخليج، ولذلك فإن الاهتمامات تتركز على تعزيز الروابط التجارية لخلق جسور ما بين هذه الدول، وهنا يكمن تحدّ أساسي لدى لبنان في كيفية تعزيز الروابط مع سوريا، ومعها مع الدول العربية الأخرى.
ففي حال انتظام سوريا، ستحوز هي على الاهتمام الأكبر، بينما لبنان سيكون أمام تحدي انتظار اهتمام الخارج، ما يفرض عليه السعي في سبيل استقطاب هذا الاهتمام، وذلك من خلال ريادة الدور وقيادته باتجاه سوريا. بمعنى أوضح، لبنان بحاجة الى اختراع دور لنفسه، كساحة تلاقي وتعايش يتم العمل على تعميمها في المنطقة، وخصوصاً في سوريا، التي تخرج من حرب شنيعة وتسعى إلى إعادة تكريس مفهوم الوحدة الوطنية والتعايش، وتحصل المكونات المختلفة على حقوقها السياسية. هذا الدور يمكن للبنان إعادة بنائه على قاعدة تحوله إلى نموذج فريد ومتجدد في منطقة المشرق العربي، قابل للتصدير إلى الخارج، وأن يضطّلع بلعب دور الوساطة في حل الكثير من النزاعات.
في استراتيجية ترامب تجاه المنطقة، والتي يلخصها بأنه يريد إنهاء الحروب، ويسعى إلى تحقيق السلام، فإن الضغوط ستتزايد على كل دول المنطقة لدفعها إلى “السلام مع إسرائيل” وفتح الطريق أمام طرق الاستثمار والتجارة وممرات الطاقة، بما يتلاءم مع المصلحة الأميركية العليا على المستوى العالمي. ومن هنا لا بد من توقع المزيد من الضغوط في المعاني السياسية أو الاقتصادية، ليس على دول المشرق فقط بل على إيران وعلى دول الخليج أيضاً، في سبيل رسم الملامح التي تريدها الولايات المتحدة الأميركية.
المدن
——————————–
رقابة الأجيال القادمة/ سلام الكواكبي
الإثنين 2025/01/20
منذ عدة عقود، نظمّت مع فنانين فرنسيين عرضًا مسرحيًا في كاتدرائية سمعان العامودي شمال مدينة حلب لرائعة الكاتب الفرنسي “جان راسين” المعنونة “بيرينيس”. أثناء التحضيرات للعرض في هذا الموقع الأثري الجميل، زارتني جحافل رجال الأمن الموكلة بمراقبة النشاطات الثقافية، محلية كانت أم أجنبية. كان همّ الجميع ألا يكون في النص أية إشارة ذات صبغة سياسية أو جنسية. ودفعني هذا لتقمّص دور المعلّم عارضًا لتاريخ كتابة العمل (1670) ولمضمونه الدرامي الذي يعرض لقصة حب “عذري” بين الامبراطور “تيتوس” والملكة “بيرينيس” ببساطة شعرية وعمق نفسي. وبنهاية اللقاء/التحقيق، قدمت لهم بطاقة دعوة، فرفضها الجميع، لأنني وحسب تعليقهم قلت إن لا جنس فيها، فالأمر لا يستحق إذًا عناء الحضور. وفي مناسبة أخرى، قمت بتنظيم عرض فيلم “امرأة فرنسية” لمرة واحدة في حلب. وكان الشريط السينمائي لم يُعرض على الرقابة لملكيته للمركز الثقافي الفرنسي. حضر العنصر الأمني وطلب الجلوس بقرب آلة العرض ليتدخل في حالة وقوع أي مشهدٍ غير مقبول. وعندما همّ البطل بتقبيل البطلة، ظهرت على الشاشة راحة يدٍ وسمع الحضور صراخًا وعويلاً من غرفة العرض. فالرقيب الرعديد، لم يجد طريقة لحماية الأخلاق الحميدة إلا بوضع راحته أمام عدسة العرض ليصاب بحروق من الدرجة الثالثة.
تعيش الدول التي تحكمها أنظمة ديكتاتورية في ظل رقابة شديدة على كل أنواع الإنتاج الفكري والإعلامي والثقافي. ويصل خوف بعض موظفي الرقابة الذين يعيشون في ظل أعتى الأنظمة الاستبدادية إلى درجة أنهم يمارسون رقابة على أقوال ونصوص لم ترد فيها أيًّا من المحرمات المنصوص عليها أمنيًا وسلطويًا، ولكنهم يتفادون مسبقًا عواقب وقوعهم ضحايا لاجتهادات مفاجئة يمكن لها أن تودي برؤوسهم وظيفيًا أو جسديًا. ومن سخرية القدر، أن كثيرًا من الشاغلين في الرقابة على الإنتاج الفكري والثقافي والفني هم من أولاد أبا جهل ومن شابههم. وللتغطية على مقدار جهلهم البنيوي، والذي يودي بهم غالبًا إلى عدم فهم المقصود مما يعبر تحت أعينهم وألسنتهم وأقدامهم، فهم يمزقون بعملية استباقية الصفحات أو يمنعون طباعة النصوص أو إنتاج الأعمال التي لا ترقى في انحدار مستوى خطابها إلى حضيض ثقافتهم وإلى ضحالة معرفتهم. منفذين “جريمتهم” تحت شعار “لا من شاف ولا من دري”.
الرقابة تكون على أنواع، وتتمايز حسب الثقافات وطبيعة الأنظمة. وغالبًا ما تتنكّر بلبوس تستند إلى معايير أخلاقية، أو اجتماعية، أو دينية، أو سياسية، أو قانونية. فتكون حينًا أخلاقية عندما تدّعي حماية المجتمع مما تعتبره منافيًا للقيم وللأخلاق العامة. وفي هذا الإطار، تُبيح لنفسها هامشًا عريضًا للاجتهاد في التصنيف وفي الاعتبار مهما ابتعدت في اجتهادها عن المبادئ الأخلاقية فعلاً وعن القيم. وتكون الرقابة دينية، بمعزلٍ عن الرقابة الأخلاقية، لتمايز تفسير المفهومين لدى أصحاب الحل والعقد. فاعتبار الإساءة إلى الدين يعطي المجال واسعًا للاستفاضة وللتشميل حتى من دون أي رادعٍ ومن دون أي منطق. وقد تكون الرقابة سياسية، حيث تمنع الأعمال والنصوص التي يعتبر الرقيب بأنها تُسيء بصورة أو بأخرى لمن اختاره وعيّنه في موقعه كنظام حكم، بعيدًا عن مفهوم “الصالح العام” الغريب على كل مستبد ومُستبدٍّ به راضٍ عن وظيفته كمستبدٍّ صغير. ومن جهة أخرى، فبعض المجتمعات تمارس رقابة مجتمعية مرتبطة بما يتفق عليه العقل الجمعي على أنها تقاليد وأعراف محلية. وليس بالضرورة أن تجد لها تبريرًا مقنعًا. وهناك الرقابة العسكرية التي تحمي معلومات يتم تقدير خطورة نشرها من جانب السلطة العسكرية. وهي تقتضي تجنّب الإشارة إلى مواقع حساسة أو التهكّم على مؤسسات الجيش والأمن. عدا ما يتعلق بتموضع القوات، التي تشترك في منع الإفصاح عنها كل أنواع الأنظمة، تبقى مسألة التهكم مباحة في الأنظمة الديمقراطية. وأخيرًا، ومن أسوأ أنواع الرقابة وأشدّها إيلامًا لمن امتطى صهوة القلم، تبقى الرقابة الذاتية التي يمارسها بحق إنتاجه وذلك تحسّبًا لردود فعل السلطة أو المجتمع.
استنادًا إلى ما سبق، هل يمكن أن نخلص إلى أن مهنة الرقيب محصورٌ أداؤها في إطار الأنظمة المستبدة؟ أظن بأن الإجابة بنعم تصحّ فيما إذا كان المقصود هو ذاك الموظف الخاضع لإدارة المستبد والمنفّذ لقوانينه الزجرية. أما في الدول “الديمقراطية” فلا يوجد الرقيب كصفة وظيفية. بالمقابل، تُمارس الرقابة بطرق أكثر خبثًا، وأعظم تأثيرًا، وأقل وقاحةً. ولهذه الرقابة أساليب عدّة ليست هيمنة رأس المال وتوجيهات أصحابه أولها، وليست خضوع مختلف القطاعات التي تنتج فكرًا وفنًا وثقافة، لدفتر شروط، ليس مالياً فحسب، بل وسياسي محلي أو إقليمي أو دولي، آخرها. كما لم يساعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي في تحرير إنتاج الفن والفكر والمعرفة من سلطة الرقابة الذكية في الدول الديمقراطية، بل على العكس، فقد تحوّلت الرقابة من سعيٍ إلى منع انتشارٍ لملف ما، إلى نشرٍ عشوائيٍ ومكثّف لمنتجٍ يركب موجة حرية التعبير لنشر الأكاذيب أو تشويه الفكر سعيًا لمحاربة المنطق والحقيقة. إنها رقابة الأجيال القادمة.
——————————
ما الذي ننتظره من مسلسلات رمضان 2025 في سوريا؟/ علاء الدين العالم
20.01.2025
ربما سيكون الموسم التلفزيوني السوري في رمضان المقبل، هو الأكثر حماسة وتسلية، لا لكونه الموسم الرمضاني الأول بعد السقوط النظام، بل لأن كل الأعمال التي صورت أو لا تزال تصوّر في سوريا هي أعمال كتبت وأخرجت وأنتجت في أيام نظام الأسد الأخيرة.
قبل يومين، أُسدلَ الستار على حفل Joy awards في العاصمة السعودية الرياض، المهرجان الذي أصبح علامة عربية بارزة في السنوات الخمس الأخيرة. من كل البلدان العربية والعالمية، حجّ الفنانون إلى القبلة الفنية الجديدة، إلا إن حضور الممثلين السوريين كان مميزاً، ليس بسبب سقوط النظام منذ شهر، بل لكثافة الحضور.
حضر الممثلون السوريون في غالبيتهم الحفل، لا بل وصل الحضور السوري إلى مخرجين منفّذين ومدرّبي ممثلين، الى درجة كان بالإمكان إحصاء الممثلين السوريين الغائبين عن المهرجان وليس الحاضرين!!
المفارقة في حضور الممثلين السوريين بهذه الكثافة هي في كم الأعمال السورية المرشّحة والحاضرة في المهرجان، والتي تمثلت بعمل واحد فقط، وهو مسلسل “ولاد بديعة”، وحضور متفرّق في أعمال الدراما المعربة التي تندرج تحت نوع الأعمال المشتركة Pan Arab (سوريون ولبنانيون)، حتى أن جائزة أفضل ممثل التي حصدها الممثل السوري سامر اسماعيل كانت عن دوره في مسلسل “العميل” المُعرب وليس عن دوره في “ولاد بديعة” الذي حصدت مخرجته رشا شربتجي جائزة أفضل مخرج/ة!
يدفع ذلك كله، وتحديداً مع لحظة سقوط النظام، إلى الوقوف أمام الدراما التلفزيونية التي أُنتجت في خضم الثورة السورية، ماذا قالت؟ وكيف قالته؟ وهل فعلاً كانت على مستوى الحدث السوري؟ وهل ما زال التلفزيون يسكن بيت السوريين وعقولهم؟
الدراما التلفزيونية كجزء من المنظومة أم من النظام؟
القول عن الدراما التلفزيونية إنها جزء من النظام البائد هو قول لا يأخذ بالحسبان العلاقة المعقّدة بين المسلسلات التلفزيونية والمجتمع السوري. هذا النوع من العمل الفني استحال في سوريا إلى أسلوب حياة يومية.
كان المسلسل التلفزيوني هو مرجع أخلاقي ومعرفي وسياسي في المجتمع السوري. لا بل إن الصناعة الدرامية التلفزيونية ولّدت خلال عقود، توتراً مع القطاعات الثقافية والفنية الأخرى في سوريا، حيث طغى حضور الفن التلفزيوني على باقي الفنون، لعلَّ العلاقة المتوتّرة بين العاملين في التلفزيون والعاملين في القطاعات الفنية والثقافية الأخرى تُرَدُّ إلى سيطرة التلفزيون المطلقة على الحياة السورية، والاستيلاء على المفردات وعلى آليات التفكير والتلقّي وتعميم قيم الربح المادي التي فُرضت على المسرح والسينما، البعيدين عن شرط الربح المادي، حسب تعبير المسرحي والأكاديمي زياد عدوان في مقالته “حين يصبح المسلسل السوري هو العمل، ما العمل؟”.
كونها كانت في هذا المقام، توقّع الجمهور السوري أن تنفجر الدراما كما هو حال واقعه المشتعل. فهي إذ قدمت نفسها كمرآة للواقع والتاريخ والمجتمع، كانت هي الماكينة الأولى التي انتظرها السوريون.
وعلى عكس ما سبق، ففيما انطلقت السينما السورية بكل الاتجاهات، وتحديداً الوثائقية، واستمر العمل المسرحي السوري في سوريا ولبنان وكان نشطاً في أوروبا، عجزت الدراما التلفزيونية عن الانفصال عن النظام والابتعاد عنه في سنوات الثوران.
وتحوّلت الصناعة التي غذاها النظام لسنوات، والدعم الذي قدمه، إلى دين في رقبة هذه الصناعة الفنية، وعقبة جدية في محاولة الانفصال عن النظام. والميزة التي حصل عليها العمل التلفزيوني عبر عشرات السنوات غدت مسؤولية، وصار السؤال منذ موسم 2012، ماذا ستقول الدراما التلفزيونية السورية اليوم في خضم الثورة والانفجار؟
هل أنتجت الثورة دراما تلفزيونيّة فاعلة؟
تحتاج الإجابة عن السؤال السابق الى أبحاث ودراسات، لكن في إشارة سريعة، يمكن فرز الأعمال التلفزيونية السورية في هذه الحقبة إلى ثلاثة مجالات وفي كل مجال أنواع مختلفة (كوميديا، تراجيديا، تاريخي…الخ)، الأول هو الأعمال التي قامت ضمن بروباغندا سياسية واضحة، كأعمال نجدة أنزور وجود سعيد، من جهة النظام الأسدي. وكذلك بعض المحاولات المعدودة من جهة دراما المعارضة إن أمكن تسميتها بذلك، كعملَي “وجوه وأماكن” و”ابتسم أيها الجنرال”.
أما النوع الثاني، فهو الأعمال التي خاطرت في مُشاكلة الواقع، وحاولت أن تحاكيه كما فعلت الأعمال الاجتماعية الكبرى في الدراما السورية قبل الثورة، وهذا النوع من الأعمال وقع في مفارقة مستحيلة، مشاكلة الواقع من دون مشاكلة النظام، وهو أشبه بالكلام من دون الكلام.
أما النوع الثالث، فهو الذي نسف الواقع بالكامل، إما عبر نكران حال سوريا والمنطقة، وتقديم واقع موازٍ، سواء في الهروب الى الخلف (كما هي حال دراما البيئة الشامية والتاريخية) أو أنه فضل الهروب الى مكان آخر، أي المسلسلات التي صُورت خارج سوريا، وكان السقف فيها أعلى، وتمكنت من مقاربة الواقع بتحرر محدود من النظام، كما حال الأعمال الاجتماعية السورية التي صُوِّرت في بيروت ومنها (العراب، قلم حمرة، الولادة من الخاصرة 3، غدا نلتقي).
بين هذه المستويات الإجرائية الثلاثة، تتوزع الأعمال الدرامية السورية، وتختلف بتنوّعها. لكن هل بقيت الدراما السورية غير مؤثرة ولم تعد عاملاً في حركة المجتمع والتأثير فيه؟ الإجابة بالطبع لا. بقي التلفزيون مؤثراً وفاعلاً، ولنأخذ على سبيل المثال أشهر المسلسلات في الحقبة هذه، وهو مسلسل “الهيبة” في أجزائه الخمسة، من إخراج سامر البرقاوي وبطولة تيم حسن ومجموعة من الكتاب. بدأت سلسلة “الهيبة” عام 2017، ومن جزئها الأول عملت على تكريس العصابات والعمل المسلّح الخارج عن القانون، وقدمت تجار المخدرات على أنهم أبطال يحمون مناطقهم وعائلاتهم، ووطدت مفهوم الشرف/العِرض وعملت على تمرير العقلية العشائرية القبلية كمرجعية أخلاقية.
إلا أن أسوأ ما قدمته السلسلة، هو تمرير صورة البطل الفحل، جبل شيخ الجبل، الرجل الذي بدّل نساءه في أجزاء العمل كما بدل أعداءه. ورغم أن شخصية رجل العصابات (سكسي) حاضرة في التلفزيون والسينما منذ عقود، إلا أن خطورة شخصية (جبل) أنها أتت في وقت ازدهار صورة (الفحل الشبيح) في المجتمع السوري واللبناني. ولم تُقدم الشخصية على أنها شخصية خطيرة وفوضوية، على العكس تماماً، بُنيت على اعتبارها مرجعاً وقدوة لجيل كامل من (الجبال)!
إذاً، الدراما التلفزيونية خطيرة، وفاعلة جداً في المجتمع، لكن هل رافقها نقد وقراءات نقدية؟ رغم أنها حاضرة في حياة السوريين ويومياتهم منذ الستينات، ونشطت في التسعينات، لم ينشأ نقد جدي للدراما التلفزيونية إلا في عام 2009، مع تأسيس ملحق (تشرين دراما). قبل ذلك، كان النقد الدرامي التلفزيوني محصوراً في مقالات متفرقة وأسماء صحافية محددة في صفحات المنوعات في الجرائد المحلية والعربية. انفجرت الثورة السورية، أغلق ملحق تشرين دراما عام 2012، هل توقف النقد التلفزيوني في سوريا؟ وهل استمرت المقالات النقدية في دراما سنين النار والموت؟
واحدة من الإجابات الأولية عن غياب النقد التلفزيوني، هي ميوعة الاصطلاحات النقدية في الحقل الدرامي التلفزيوني، على عكس السينما والمسرح. يكفي لنا أن ننظر كيف احتكرت الدراما التلفزيونية كلمة (الدراما) في سوريا، وأزيحت من معناها الواسع لتشير فقط الى الدراما التلفزيونية! أو كيف تم تصدير النجم التلفزيوني، كمثقف وسياسي وعالم اجتماع أحياناً.
التحول الذي أصاب الاصطلاحات، تجاوز النقد حتى وصل إلى اللغة اليومية للسوريين، وذلك ما أشار إليه الشاعر الراحل أمجد ناصر، حينما عبر عن اندهاشه من استخدام السوريين كلمة (العمل) في إشارة فقط الى العمل التلفزيوني، (فإن قال الممثل أو الكاتب أو المخرج لدي “عمل”، فالمقصود بذلك هو المسلسل التلفزيوني حصرياً. أما السينما والمسرح، فيٌطلق عليهما السينما والمسرح).
إلا أن هذا لم يمنع الناقد التلفزيوني من الكتابة، لا بل إن هناك أبحاثاً وكتباً نقدية قرأت الدراما السورية وفككت عناصرها ورصدت أثرها. منها مثلاً كتب الناقد التلفزيوني، وصاحب تجربة ملحق تشرين دراما، ماهر منصور (نقد الدراما التلفزيونية، دراما النار والقلق) أو ملفات نقدية عملت عليها بعض المواقع الصحافية السورية (الجمهورية.نت، حكاية ما انحكت…). لكن هل تُقرأ هذه المقالات والكتب، وهل يقرأها صناع الدراما وممثلوها؟ هل يناقشونها؟ هل يقرأها الجمهور؟ هل هي مؤثرة؟ غالباً لا، بل على رغم أن بعض المقالات كانت شرسة نقدياً، ومكتوبة بحد السكين، إلا أنها لم تنشئ، في 13 عاماً، سجالات تذكر بين المبدع والناقد، أو بين المتلقي والمادة النقدية.
هناك صحافة فنية، وهي مختلفة عن النقد الفني، مهما لبس أصحابها لبوس النقاد، منصات ومواقع فنية عدة، عملت على مدار سنوات على تغطية الدراما التلفزيونية، تغطية صحافية قائمة على عبارات فضفاضة من مثيل (حقق نجاحاً واسعاً، أثار جدلاً كبيراً…) من دون أي قراءة نقدية أو حكم قيمي إلا بالإيجاب والانبهار والإعجاب بالفن والفنان، وبذلك هي صحافة تسويقية أكثر مما هي صحافة نقدية. وتأكد ذلك بعدما رفد هذه الصحافة وعززها عشرات اليوتيوبرز والتيك توكرز بانطباعاتهم الشخصية حول المسلسلات المعروضة والتي تقدم على أنها وجبة نقدية خفيفة.
دراما رمضان 2025
ربما سيكون الموسم التلفزيوني السوري في رمضان المقبل، هو الأكثر حماسة وتسلية، لا لكونه الموسم الرمضاني الأول بعد السقوط النظام، بل لأن كل الأعمال التي صورت أو لا تزال تصوّر في سوريا هي أعمال كتبت وأخرجت وأنتجت في أيام نظام الأسد الأخيرة.
وبحسب طبيعة الصناعة الدرامية، حيث لا مجال إنتاجياً للتوقف، استمرت شركات الإنتاج في تصوير أعمالها، وعادت كاميرات المسلسلات الى التصوير بعد توقف قصير إبان السقوط، لذلك سيلتقي المشاهد مع دراما تلفزيونية سورية خاصة جداً، كُتبت وصُورت بعهد، وستعرض في عهد آخر.
لا مبالغة في القول إن المتلقي للدراما السورية اليوم، وتحديدا المتلقي السوري بعد السقوط، هو متلقي متربص إن أمكننا تسميته في ذلك. متلقي يحمل خزان صور قاسية وهائلة مازالت طازجة في رأسه. لن يكن هينا على العمل الدرامي مشاكلة الواقع ومحاكاته في هذه الحالة الةخاصة.
مثلا، ستشير عناوين مثل “تحت الأرض”، وهو من إخراج مضر ابراهيم وبطولة مكسيم خليل، و”تحت سابع أرض” من تأليف عمر أبو سعدة وإخراج سامر برقاوي، إلى المعتقلات والأقبية التي اكتُشفت مع السقوط الكبير. هل هذه الأعمال عن المعتقلات حقاً؟ هل ستعدّل أو عُدلت لتتكلم عن المعتقلات؟ هل سيتكلم مسلسل “البطل” من إخراج الليث حجو، عن سقوط مفهوم البطل وصعوده في الأيام السورية الماضية؟ وما هي التعديلات التي سيجريها فريق العمل ليواكب الزمن اليومي المنفجر؟ وهل ستنفع أي تعديلات درامتورجية مرتجلة في مراوغة متلقٍّ حاذق، ومترع بالصورة والدراما الحقيقية.
عام 2000، وفي اليوم الأخير من رمضان، عُرضت الحلقة الأخيرة من المسلسل السوري “الخوالي”، إخراج بسام الملا، وهو من أوائل المسلسلات التي أطلقت ما اصطلح عليه لاحقاً بدراما البيئة الشامية.
في الحلقة الأخيرة، يقتاد العثمانيون بطل العمل (نصار ابن عريبي/ بسام كوسا) للإعدام كونه ثائراً. على حافة الموت، وعلى أبواب المشنقة، تنظر خطيبة نصار (لطفية/أمل عرفة) بعينيها تجاهه، فإذ به يشير إليها لتغطي وجهها الذي كشفته أمام الناس. تغطي لطفية وجهها، يبتسم نصار، ويبتسم الجمهور السوري، ويهيئ نفسه للموت سعيداً قبل أن ينقذه ثوار الغوطة. ستعاد اللقطة ذاتها بعد 24 عاماً، لكن ليس في الدراما بل في الواقع، واقعٌ أسسته هذه الدراما وشاركت في نسج شبكة قيمه ومرجعيته.
– كاتب ومسرحي فلسطيني سوري
درج
—————————
مثقفو سوريا: بلادنا “قارة” مبدعين مستقبلها مرهون بالغنى والتنوع/ وسام كنعان
مع كثرة التحديات التي تواجهها الإدارة الجديدة، من توحيد الصف وضبط الأمن وضمان السلم الأهلي، يبدو للبعض أن الشأن الثقافي قد لا يحتل الصدارة ضمن قائمة الأولويات حاليا (شترستوك)
20/1/2025
دمشق- خلال الأسابيع القليلة الماضية، كانت الإدارة السورية الجديدة تحت منظار المجتمع الدولي والدول الكبرى، التي تراقب بعين وتترك فرصة استشعار الأمر الواقع بعين ثانية من خلال وفود دبلوماسية رفيعة تزور دمشق بكثافة عالية كما لم يحدث منذ 14 عاما، في حين تعود تلك الوفود لتطلق تصريحات متعاقبة تنضوي على كثير من المخاوف وتضيء بدون أدنى مواربة على المطارح التي لابد من العناية بها، حتى تتمكن بلادها من التعاون مع هذه الإدارة.
ومع كثرة التحديات التي تواجهها الإدارة الجديدة، من توحيد الصف وضبط الأمن وضمان السلم الأهلي، يبدو للبعض أن الشأن الثقافي لا يحتل الصدارة ضمن قائمة الأولويات. لكن وجهة النظر المحقة تلك لا تلغي إطلاقا ضرورة العناية بالشأن الثقافي، والشغل العميق على فكرة البناء انطلاقا من الثقافة، باعتبار أن صوت المثقفين والفنانين والمبدعين عموما ضامن للتعايش السلمي، ويحفز فكرة التشاركية في مجتمع متعدد ومتنوع بطريقة مربكة.
جالت الجزيرة نت على مجموعة من أهم المثقفين السوريين لتسجل انطباعهم الأولي ومن ثم رؤيتهم حول ما ينتظر سوريا، وكيف يستشعرون القادم من أيام البلاد بمنطوقها الجديد.
البداية كانت مع الشاعر السوري هاني نديم الذي يشبّه المرحلة “بمحطة لقارب بين ضفتين يعاني ما يعانيه” ويضيف: “بعد الخروج من غرفة العمليات وانتزاع ورم هائل الخباثة، سوف تختل برمجة الجسد قليلا إلى أن يستعيد إحساسه بنهايات أطرافه وجرحه الذي يبرد ويصبح من الماضي”.
يشرح نديم ويستطرد بالقول: “نحن في مرحلة حرجة من الاختلال والقلاقل والأخطاء، التي سوف يأخذها المذعور ويطير بها، كما سيأخذها ذوو المآرب والغايات والرافضون للوضع الجديد. لهذا علينا بالتؤدة والهدوء إلى أن نصل إلى دولة ومؤسسات وشكل حكم مؤطر”.
أما عن شكل الحكم القادم، فيحسم صاحب ديوان “نحات الرياح” أمره بأنه: “لن يكون في سوريا ولن ينجح إلا بالمدنية والتعددية؛ طالما أننا أمام دولة فيها من الأعراق والإثنيات والمذاهب والأحزاب والأفكار ما يصعب تشكيله في لون واحد.. هذه التعددية هي ثراءٌ مجتمعي وثقافي هائل، وهو رأسمال البلاد على الدوام، لذلك لا بد من العدل والمساواة بين الجميع، وهذا من بديهيات الثورة وسبب قيامها. أنصح باستثمار العقول والكفاءات السورية الوطنية دون النظر إلى خلفياتهم الأيدلوجية، فما من دولة ناجحة في العالم إلا وتستثمر في تنوع ثقافاتها وثرائها، وأجزم أنه لو تم إيلاء الأمر للأكثر كفاءة فضمن كل قطاع في سوريا، فإننا سنصل إلى مصاف العالمية بظرف سنوات، لأن سوريا دولة عباقرة وقارة من المبدعين كما كان يقول الراحل أنسي الحاج”.
خليل صويلح: هناك فرصة استثنائية لصناعة سوريا جديدة تحتضن الجميع من دون ثأر وضغائن وأمراض (مواقع التواصل)
من ناحيته، يجد الروائي خليل صويلح أن إشارات الاستفهام هي عنوان هذه المرحلة ويقول في تصريحه للجزيرة نت: “نعيش مناخا ضبابيا يصعب تعيين درجة الحرارة فيه، فبهجة تهاوي حقبة الطغيان تضعنا أمام أسئلة الغد: هل سنعانق سوريا المشتهاة أم نغرق في مستنقع الصراعات على الحكم؟ هذه بلاد انقلابات أكثر منها واحة للديمقراطية، فلكلٍ خريطته وتضاريسه وتطلعاته وأوهامه في مستقبل الدولة”.
ويرى صويلح أن “المواطنة هي الملاذ للطمأنينة، وإلا فإن ما يمكن أن يكون جنة دنيوية سيتحول إلى جحيم عابر للأزمنة بذرائع لا نهائية. سنحزن كثيرا في حال جررنا البلاد كذبيحة أو غنيمة نحو أفكار مغلقة على غيبيات تاريخية. هناك فرصة استثنائية لصناعة سوريا جديدة تحتضن الجميع من دون ثأر وضغائن وأمراض. نحن نتأرجح بين لعنة الجغرافيا والأفق الحضاري لهذه البلاد التي تشبه الجنة”.
طي صفحة الأسد
من ناحيته، تحرر الصحفي والروائي يعرب العيسى لدى سقوط النظام من منع السفر المفروض عليه واستنشق مثل كثيرين هواء جديدا، أما عن قراءته للمستقبل فيرى أن: “أفضل فترات سوريا وازدهارها، كانت حينما أدركت تنوعها، في حين كانت الفترات السيئة حينما حاول أحدهم أن يفرض على البلاد إيقاعا واحدا. نحن الآن أمام مرحلة تحول كبرى ونُعتبر في حقبة الفراغ، وبعد إزالة الصخرة التي كانت تحجب الأفق لا يعني أننا أمام مستقبل وردي. سوريا المأمولة بحاجة إلى مساهمة من الجميع، والمهمة الأكبر تقع على السوريين، لا على الإدارة الحالية فقط، ويجب أن يتم العمل على جميع القطاعات. الطريق ليس سهلا، سنمر بعقبات وسنختلف، وستحاول دول إعاقتنا، لكن يجب أن نجابه كل ذلك”.
أما عن رؤيته الشخصية للمستقبل، فيقول أنه يوجد معنيان للرؤية الشخصية: المأمول والمتوقع: “إذ أتمنى عل المستوى الأول لبلادي أن تطوي صفحة عائلة الأسد للأبد، وننظر إلى المستقبل فقط، ونصل إلى دولة المواطنة والديمقراطية، ويعيش الجميع بشكل متساوٍ”. وعن المتوقع، يشرح كاتب رواية “المئذنة البيضاء” بالقول: “أمامنا كثير من الصعاب والوقت والجهد لنصل إلى الحلم الذي نريد، لأن بين أيدينا بلدا مدمرا اقتصاديا وعسكريا، ومجتمعه متشظ ويخاف من بعضه، وجزء منه مهجر لا يعرف متى سيعود، وإذا عاد كيف سيعيش”.
Voir cette publication sur Instagram
Une publication partagée par الجزيرة نت | ثقافة (@aljazeeraculture)
كل ذلك يجعل العيسى يخلص إلى نتيجة شخصية مفادها ثقته بالسوريين ووعيهم وإحساس المسؤولية العالي الذي ظهر عندهم فجأة بمجرد سقوط النظام: “ربما لو كان شعب آخر لقلت إننا سنحتاج إلى عشرات السنين كي نجتاز هذه المرحلة، لكن حالة الوعي التي ألمسها عند السوريين مطمئنة، لأن الوقت سيكون أقصر ولسنوات معدودة”.
على ضفة موازية، لا يوفر هذا الصحفي الإشكالي نصائحه بغاية التركيز وتكريس الإيجابيات، ويفصح بأنه “خلال السنوات الماضية، أنجز عديد من السوريين دراسات ورؤى وأبحاثا، بناء على خبرات بلدان سابقة واستشارات خبراء، وأنجزوا عبر مؤسسات دولية ومراكز أبحاث وبالتعاون مع منظمات وخبراء سوريين في اختصاصات مختلفة أفكارا وروئ كثيرة. كلها كانت تفكر بسوريا ما بعد الأسد. ربما تكون العودة إلى هذه الأفكار، لأنها خرجت من عقول سورية تفكر بمصلحة بلدها، يمكن البناء عليها لأنها ستختصر علينا الكثير من الوقت بدءا من موضوع الدستور وانتهاء بموضوع التعافي الاقتصادي أو إعادة الإعمار”.
بدوره، يتفق النحات الشهير مصطفى علي مع مواطنيه حول فكرة أن إدارة البلاد لا يمكن أن تعتمد إلا على غنى سوريا وتنوعها المثير، ويضيف في حديثه معنا أن “سوريا ستقوى حتما بوعي أفرادها ومشاركتهم الفعالة من خلال الحوار البناء، واحترام الآراء المختلفة، وتحقيق العدالة والمساواة بين أفراد المجتمع”.
ومن هذه الفكرة تحديدا يضيء على: “أهمية الفرد في بناء المجتمع ودوره في إحداث التغيير نحو مستقبل أفضل، حيث يسهم في ترسيخ مبادئ العدالة والحرية الشخصية، مما يشكل الأساس لبناء مجتمع متماسك. ولا بد أن تتجلى أهمية الفرد أيضا من خلال رؤيته الإبداعية على المستويات الفكرية والفنية والثقافية، إذ نرتقي بفضل ما يقدمه المفكرون من حلول مبتكرة وما يجترحه المبدعون من حلول سيكون لها دور محوري في تحقيق التغيير والانطلاق نحو الطموحات، وذلك من خلال إتاحة المجال للمبادرات الفردية التي تسعى إلى بناء مجتمع متقدم ومتطلع نحو المستقبل”.
المصدر : الجزيرة
————————————-
خطة ترمب للانسحاب من سوريا والعراق/ كارولين روز
الاستراتيجية العسكرية في البلدين من منظور خبرة ترمب السابقة
آخر تحديث 05 يناير 2025
أصبح دونالد ترمب اليوم الرئيسَ المنتخب للولايات المتحدة، بعد فوزه الساحق في الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة. ومن الطبيعي أن يثير صعوده إلى السلطة الكثير من التساؤلات حول شكل رئاسته ورؤيته للسياسة الخارجية.
ولعل أحد المواضيع التي لا تزال غامضة في سياسته الخارجية هو كيف ستتعامل إدارة ترمب مع الوجود العسكري المستمر للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وخاصة فيما يتعلق بالمهام المرتبطة بـ”عملية العزم الصلب” التي يقوم بها التحالف العالمي لهزيمة “داعش” في العراق وشمال شرقي سوريا. وفي أغسطس/آب الماضي، أعلنت إدارة بايدن عن إنهاء تدريجي لمهمة مكافحة “داعش” وجدول زمني للانسحاب الجزئي للقوات الأميركية بحلول نهاية عام 2026.
وتوفر الفترة الأولى من رئاسة ترمب نظرة- وإن كانت محدودة- حول كيفية تعامله مع الاستراتيجية العسكرية الأميركية في العراق وسوريا. وخلال إدارته السابقة، بقيت القوات الأميركية منتشرة ضمن عملية العزم الصلب، إلا أن نهج ترمب اتسم بكونه عسيرا على التنبؤ. ففي ديسمبر/كانون الأول 2018، أعلن عن انسحاب كامل من سوريا، ثم جرى التراجع عنه جزئيا لاحقا. ومع ذلك، قامت إدارته بتقليص عدد القوات من 2000 إلى 900 جندي في سوريا، وأذنت بخفض القوات بنسبة 50 في المئة من 5000 إلى 2500 جندي في العراق، كما أشرفت على نقل السيطرة على ثماني قواعد عسكرية في المنطقة.
ويزيد من تعقيد الوضع تأثير الهجمات المدعومة من تركيا في شمال شرقي سوريا، والتي قد تمارس ضغوطا إضافية على الموقف الأميركي وتدفع ترمب إلى التفكير في الانسحاب. ومع ذلك، قد يكون العامل الحاسم لاستمرار الوجود العسكري الأميركي هو تأثير الفريق الاستشاري الجديد لترمب. فالتعيينات الأخيرة في الإدارة وقيادات الوكالات والمناصب الدبلوماسية تشمل شخصيات أبدت شكوكا أو انتقادات صريحة لمهمة مكافحة “داعش” في العراق وسوريا. وقد يشير هذا النهج الأكثر انعزالية من الفريق الاستشاري إلى تغيير كبير في السياسة الأميركية، مما قد يؤدي إلى تقليص الوجود العسكري في المنطقة.
تاريخ الانسحابات
لا يعتبر الانسحاب العسكري في الشرق الأوسط أمرا جديدا على ترمب. فعلى الرغم من حملة “الضغط الأقصى” التي شنتها إدارته الأولى ضد إيران- حيث كان الوجود الأميركي في العراق وسوريا قوة توازن رئيسة في مواجهة الوكلاء المتحالفين مع إيران- فقد بادر ترمب إلى اتخاذ قرارات بالانسحاب الجزئي والكامل في مناسبات عدة.
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2019، أعلن ترمب الانسحاب الفوري لجميع القوات الأميركية البالغ عددها 900 جندي من شمال شرقي سوريا، ولكن القرار أثار ردود فعل عنيفة بين المستشارين الرئيسين في وزارتي الخارجية والدفاع الأميركيتين، واستقال عدد من كبار المسؤولين مثل وزير الدفاع جيمس ماتيس والمشرف على التحالف العالمي لهزيمة “داعش”، بريت ماكغورك. وبالنتيجة، كان الرحيل السريع للقوات الأميركية من المواقع الاستراتيجية بالقرب من كوباني وسيرين وتل بيدر والمناطق المحيطة بحلب والرقة، سببا في خلق مساحة لهجوم تركي ضد شركاء “عملية العزم الصلب” الذين تُركوا بمفردهم كي يدافعوا عن أنفسهم. وبعد ثلاثة أيام فقط من إعلان الانسحاب، شنت القوات التركية هجمات جوية وبرية على “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، التي تعتبرها تركيا منظمة إرهابية مرتبطة بـ”وحدات حماية الشعب”(YPG).وكانت للانسحاب الأميركي والهجوم التركي الناتج عنه آثار جانبية إضافية، ما أدى إلى خلق فراغ في السيطرة استغله النظام السوري والميليشيات المتحالفة مع إيران للتحرك إلى المناطق المتنازع عليها، وفي الوقت نفسه شهدنا ظهورا جديدا لـ”داعش” على مستوى منخفض.
وفي حين تراجعت إدارة ترمب عن إعلان الانسحاب بعد جدل كبير، مع إعادة تمركز القوات الأميركية الموجودة في العراق ونقلها إلى شمال شرقي سوريا، فمن الجدير ذكره أن إدارته اتخذت قرار الانسحاب وهي تدرك جيدا الفراغ الذي سيخلفه ذلك الانسحاب. وفي جلسة إحاطة البنتاغون في 15 أكتوبر/تشرين الأول، صرح وزير الدفاع مارك تي إسبر بأن القوات الأميركية لن تدافع عن شركائها الأكراد في “عملية العزم المتأصل”، حتى إنه صرح بأن الولايات المتحدة لديها توقعات موثوقة بأن القوات التركية سوف تضم أراضي في الشمال الشرقي وأن “قوات سوريا الديمقراطية” سوف تسعى إلى التوصل لاتفاق مع خصومها (النظام السوري وروسيا). وترمب نفسه غرد بأنه من “الذكاء” الانسحاب واغتنام الفرصة لاتخاذ موقف الحياد قائلا: “أولئك الذين زجوا بنا عن طريق الخطأ في حروب الشرق الأوسط ما زالوا يدفعون من أجل القتال. ليس لديهم أي فكرة عن القرار السيئ الذي اتخذوه. لماذا لا يطلبون إعلان الحرب؟”.
وفي العراق، حافظ ترمب على تموضع قواته حتى الأشهر الأولى من عام 2020، إلى أن قتلت الولايات المتحدة قائد “الحرس الثوري” الإيراني قاسم سليماني وقائد “كتائب حزب الله العراقية” أبو مهدي المهندس. وأدى انتقام إيران ووكلائها من الميليشيات ضد الولايات المتحدة إلى مواجهة عسكرية كبيرة مع جنود أميركيين، حيث أسفرت ضربة واحدة على قاعدة عين الأسد الجوية عن إصابة 109 من الجنود الأميركيين بإصابات دماغية رضية. وفي الأسابيع التي تلت، خفضت إدارة ترمب بهدوء، وبشكل تدريجي، الوجود الأميركي في جميع أنحاء العراق. حيث نقلت قوات “عملية العزم المتأصل” أكثر من ثماني قواعد- بعضها كانت في مواقع استراتيجية مثل قاعدة القائم، على طول الحدود السورية العراقية- إلى قوات الأمن العراقية والكردية. ونتيجة لذلك، تغير أيضا عدد القوات المتمركزة في العراق، حيث انخفض من 5000 إلى 2500.
وعلى الرغم من أن عملية انسحاب ترمب في العراق جرت بشكل تدريجي أكثر مما حدث في سوريا، فقد أشارت إلى أن ترمب يرى في فك ارتباط الولايات المتحدة بالشرق الأوسط ضرورة واضحة- بغض النظر عن التداعيات والآثار المترتبة عليها. ومع ذلك، كان هناك الكثير من القوى الفاعلة في إدارة ترمب الأولى، نجحت في مواجهة الانسحاب الكامل. وعمل لاعبون رئيسون مثل بريت ماكغورك، والجنرال جوزيف فوتيل، وجون كيلي، وهربرت ماكماستر، والجنرال مارك ميلي، من بين آخرين، دورا كبيرا في لحظات مختلفة لنصحه بالعدول عن الانسحابات المفاجئة من العراق وسوريا التي كانت ستتسبب في زعزعة الاستقرار. وإضافة إلى ذلك، كان هناك رد فعل عنيف من الكونغرس، خصوصا داخل مجلس الشيوخ الذي يقوده الجمهوريون، في أعقاب إعلان ترمب على “تويتر” وفيه يأمر بانسحاب القوات من سوريا خلال 30 يوما.
اختيارات الإدارة
مع تشكيل إدارة ترمب الثانية، ألقت اختياراته وتعليقات حلفائه السياسيين بعض الضوء على كيفية التعامل مع الأمر اعتبارا من عام 2025. وخلال مقابلة مع تاكر كارلسون، أدلى روبرت ف. كينيدي جونيور بتعليقات تشير إلى أن ترمب يريد إخراج القوات من سوريا. وبحسب ما ورد فقد رسم ترمب خريطة دقيقة للشرق الأوسط وحدد قوام القوات في كل دولة.
ووفقا لكينيدي، كان ترمب يخشى أن تصبح القوات الأميركية على الحدود السورية التركية “وقودا للمدافع” في حال نشوب صراع بين سوريا وتركيا. وزعم كينيدي أن ترمب كان قادرا على الوقوف في وجه المجمع الصناعي العسكري الذي “يريد حربا دائمة”. كما أشارت شخصيات رئيسة أخرى تحيط بترمب إلى مواقف مماثلة، فأيد نائب الرئيس المنتخب جيه دي فانس، بصفته عضوا في مجلس الشيوخ، سحب القوات من الشرق الأوسط، ويتضح ذلك من خلال رعايته لقرارين تشريعيين في عام 2023.
وكان الأول قرارا مشتركا يأمر بإنهاء الانتشار غير القانوني للقوات الأميركية في سوريا. والثاني، قانون الحروب الأبدية الذي ألغى تفويض عام 2001 لاستخدام القوة العسكرية. وفي انتقاد لما وصفه بـ”مغامرة المحافظين الجدد”، عرّف فانس الجانب الرئيس للسياسة الخارجية لترمب الذي يمكن إيجازه بأنه “لا يمكنك إرسال قوات أميركا إلا إذا كان يتوجب عليك ذلك حقا”. ودعا إلى تدخلات محدودة عندما تكون عمليات النشر مطلوبة. ومثل رئيسه، فإن فانس مؤيد قوي لإسرائيل، الذي شعر سابقا بأنه “خُدع” بعد القرارات السابقة بالانسحاب، على الرغم من أنه أشار أيضا إلى أن مصالح الولايات المتحدة وإسرائيل لن تتوافق دائما، مشيرا إلى معارضته للحرب في العراق.
إن بيت هيغسيث، أحد أكثر تعيينات ترمب إثارة للجدل كوزير للدفاع، لديه آراء محدودة للغاية في السياسة الخارجية. وإن فائدة هيغسيث لترمب- وهو “تعيين ولاء” واضح- تتجلى بشكل أفضل من خلال سلوكه خلال مقابلة في الأول من يناير/كانون الثاني 2019. حيث رمش هيغسيث وأومأ برأسه بينما كان ترمب يتحدث عن “إعادة قواتنا الشابة إلى الوطن”، و”الحروب التي لا تنتهي” وكيف انتصر على “داعش”. كل ما قاله هيغسيث هو أن هزيمة “داعش” كانت “إنجازاً مهماً بالتأكيد”. كما قدم ادعاء غير مثبت خلال بث بدأ اعتبارا من 27 ديسمبر 2018، بأن القادة العسكريين والقوات كانوا يؤيدون القرارات التي اتخذها ترمب في سوريا والعراق.
أما تولسي غابارد التي اختارها ترمب لمنصب مدير الاستخبارات الوطنية، فقد كوفئت على تأييدها لمواقفه، مع العلم بأنها من أشد المعارضين للتدخل في شؤون الدول الأخرى. ومع ذلك، فالتعليقات التي صرحت بها والتي تبدو مثل ترديد للدعاية الروسية أثارت قلق مجتمع الاستخبارات. حيث التقت غابارد بشكل مثير للجدل مع بشار الأسد بعد أن قطعت الولايات المتحدة علاقاتها الدبلوماسية معه، ثم كررت في وقت لاحق إنكار روسيا لمسؤولية الأسد عن الهجمات بالأسلحة الكيماوية. ثم جاءت لاحقا معارضة غابارد غير المفاجئة للتدخل الأميركي في سوريا، ودعت إلى حق السوريين في تقرير مستقبلهم. وفي الوقت الذي انتقدت فيه تعامل ترمب مع الانسحاب من سوريا، كررت مرة أخرى مطالبتها بانسحاب الجيش الأميركي من العراق وسوريا خلال حملتها الرئاسية عام 2020.
غير أن أحد الاختيارات الوزارية الرئيسة، وهو ماركو روبيو، يعتبر ثقلا موازنا في مواجهة الكثير من المستشارين الذين يدعمون بحماسة فك الارتباط الأميركي مع الشرق الأوسط. ففي أكتوبر 2019، انضم روبيو إلى مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين والديمقراطيين في انتقاد خطة ترمب للانسحاب، ووصف هذه الخطوة على “تويتر” بأنها “خطأ فادح ستكون له تداعيات تتجاوز سوريا”. كما انحاز روبيو لصالح حملة “الضغط الأقصى” ضد إيران وشركائها مثل نظام الأسد، من خلال الحفاظ على الوجود العسكري الأميركي في المنطقة كقوة توازن في مواجهة طهران. وتعتمد هذه الاستراتيجية على الحفاظ على فرقة من القوات الأميركية- مهما كانت صغيرة- متمركزة في العراق وسوريا كأداة ضغط بيد واشنطن. ومن المرجح أن يعارض روبيو الانسحاب المفاجئ والكامل، ومع ذلك، من المحتمل أن يكون كمن يغرد خارج السرب، حيث تطغى على صوته الأصوات داخل حكومة ترمب وإدارته بشكل عام التي تنتقد الاستمرار في المشاركة العسكرية بالشرق الأوسط.
إن دخول المشهد السوري في فصل جديد– في أعقاب الهجوم الخاطف الذي أعاد رسم خطوط المعركة الرئيسة في البلاد في غضون أيام قليلة– واحتمال شن هجوم أكبر بدعم من تركيا ضد شركاء التحالف الأميركي، “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) التي يقودها الأكراد، يزيد من تعقيد موقف واشنطن. في حين احتفظت إدارة بايدن بقواتها المكونة من نحو 900 جندي أميركي في شمال شرقي سوريا، فمن المرجح أن تعيد إدارة ترمب تقييم موقفها بشكل جذري. ولا يعود السبب إلى سجل ترمب الحافل بتأييد الانسحاب العسكري فقط، إنما بسبب أصوات المستشارين المتزايدة التي تدعو إلى فك الارتباط الأميركي في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، وليس في سوريا فحسب.
وكما كانت الحال مع إدارة ترمب الأولى، فإن تحليل اختيارات ترمب الاستشارية ومحاولة “قراءة الفنجان” في سياساته السابقة لن يقدم الكثير للتنبؤ الناجح بما هو قادم فيما يخص القوات الأميركية المتمركزة في العراق وسوريا، ناهيك عن السياسة الخارجية للمنطقة الأوسع. ومع ذلك، يبدو جليا أنه وبالرغم من بعض الاختلافات الأيديولوجية داخل دائرة مستشاري ترمب، فمن المرجح أن الولايات المتحدة تتجه نحو انسحاب سريع وكامل في كل من العراق وسوريا. ما يضع نهاية لمهمة مكافحة “داعش” ويقدم مساحة جديدة للجهات الفاعلة المحلية، مثل إيران وروسيا والنظام السوري، للاستفادة منها في أعقاب انسحابها.
المجلة
————————-
الكويت وسوريا… تاريخ واستثمارات وشجون تنتظر حكم القانون/ عامر ذياب التميمي
خسارة نصف قرن… وفسحة أمل لتعويض ما ضاع خلال حكم الأسدين
آخر تحديث 20 يناير 2025
أثار سقوط نظام الحكم الديكتاتوري المستبد في سوريا الشجون حول العلاقات بين سوريا والكويت. معلوم أن الكويتيين يتمتعون بعلاقات مميزة مع سوريا ومنذ زمن طويل. اعتاد الكثيرون على زيارة سوريا في الصيف منذ خمسينات القرن الماضي ومنهم من اشترى شققاً ومنازل في دمشق وبلودان والزبداني، والبعض اختار حلب، وآخرون ذهبوا أبعد من ذلك واقتنوا مساكن في اللاذقية وكسب.
ما دفعني الى كتابة هذا المقال هي الذاكرة التي أعادتني إلى ما قبل خمسين عاما. في بداية 1975 انتقلت من عملي في الإدارة المركزية للإحصاء في الكويت التابعة لمجلس التخطيط، آنذاك، إلى العمل في المجموعة الاستثمارية العقارية الكويتية التي تأسست بمعرفة الراحل عبد الرحمن سالم العتيقي، وزير المالية آنذاك، بعد الصدمة النفطية الأولى، لإدارة استثمارات عقارية في عدد من الدول العربية نيابة عن الحكومة الكويتية. تأسست المجموعة بالشراكة بين وزارة المالية، حيث لم تكن الهيئة العامة للاستثمار قد تأسست بعد، وعدد من الشركات العقارية الكويتية. ترأس مجلس إدارتها الراحل أحمد علي الدعيج الذي شغل منصب المدير العام لمجلس التخطيط قبل ذلك. عرض عليَّ الدعيج وعلى زملاء آخرين الانتقال للعمل معه في المجموعة. وهكذا بدأت الزيارات إلى مصر وسوريا واليمن وتونس والمغرب والأردن بحثا عن فرص الاستثمار العقاري.
انطلقنا إلى دمشق في عام 1975 بوفد برئاسة الدعيج، ومدير المجموعة في ذلك الوقت الراحل عبد اللطيف خالد الحمد، ودخلنا في رحلة مفاوضات مع المسؤولين الاقتصاديين في الحكومة السورية. كان الهدف في سوريا أن تقوم المجموعة بالنيابة عن الحكومة الكويتية باستثمار 200 مليون دولار في مشاريع عقارية وسياحية بشرط قيام الإدارة السورية بتحديد أفضل المواقع في دمشق وحلب واللاذقية وغيرها من مدن سورية، يمكن أن تمثل حصصا عينية للجانب السوري في هذه المشاريع.
استثمارات وطموحات كويتية قابلتها عراقيل سورية
كذلك كان الهدف أن تقوم المجموعة ببناء مساكن شعبية لصالح المواطنين السوريين في المناطق التي يحددها الجانب السوري. لم تسر المفاوضات على ما يرام وتعثرت نتيجة للمطالب غير الواقعية التي تقدم بها الجانب السوري. لم تتعطل أعمال المجموعة في سوريا، وإن لم تكن على مستوى الطموحات التي قدم لأجلها الكويتيون إلى سوريا. لكن على الرغم من ذلك، أقيمت بعض المشاريع في سوريا بأموال كويتية. فقد سبق المجموعة الاستثمارية العقارية الكويتية عدد من رجال الأعمال الذين تحمسوا للاستثمار في سوريا بدوافع نزعاتهم القومية ورغبتهم بتوظيف الأموال في الدول العربية. كان من أبرز هؤلاء المستثمرين الراحل عبد الرزاق زيد الخالد الذي أقدم على إقامة مبنى كبير في وسط العاصمة دمشق. لم ينل الخالد نتائج استثماره العقاري في سوريا حيث دخل في نزاعات مع السلطات هناك. وتم الاستيلاء على العقار الذي تحول في ثمانينات القرن الماضي إلى فندق “الشام” مملوكا من شركة سورية.
وظف كثير من الكويتيين أموالا في مشاريع صغيرة في سوريا لكنهم لم يجنوا ثمارا. تأسست شركات عدة للاستثمار منها الشركة الكويتية السورية القابضة في عام 2002 وهي استهدفت الاستثمار في مختلف القطاعات وبأدوات استثمارية مختلفة، ومنها تملك الأسهم في الشركات السورية أو القيام باستثمارات مباشرة. وقد بلغ رأس مال الشركة 30 مليون دينار كويتي، أو نحو 100 مليون دولار، وأدرجت في سوق الكويت للأوراق المالية. واجهت هذه الشركة مشاكل مالية وهيكلية خلال السنوات الأخيرة، مما عرضها لوقف أعمالها بعد نشوب النزاع الأهلي في سوريا في عام 2011.
أ.ف.ب أ.ف.ب
صور جوية لمنازل تم بناؤها للنازحين بالقرب من بلدة قباسين السورية الواقعة شمال شرق مدينة الباب على بعد نحو 30 كيلومترا من حلب في 28 مايو 2024.
ومما لا شك فيه، أن العديد من الأنشطة الاقتصادية في سوريا تعرضت للانهيار أو التراجع الشديد خلال هذه الفترة العصيبة التي مرت بها البلاد، وشكلت الأوضاع السياسية الصعبة عبئا على أعمال مختلف القطاعات والشركات القائمة، سواء كانت مملوكة من سوريين أو غيرهم.
ما هي آفاق العلاقات الكويتية السورية المستقبلية؟
لكن ما هي آفاق العلاقات الاقتصادية بين الكويت وسوريا خلال السنوات المقبلة؟ لا بد من التعرف الى معالم الاقتصاد السوري والفرص الاستثمارية الملائمة التي يمكن المستثمرين الكويتيين وغيرهم ولوجها والانتفاع بها في مختلف القطاعات الاقتصادية في البلاد. أشار تقرير للبنك الدولي إلى أن الناتج المحلي الإجمالي في سوريا كان 67,5 مليار دولار في عام 2011 أي في العام الذي بدأت فيه حركة التمرد على النظام، لكن هذا الناتج انكمش إلى 8,9 مليارات دولار فقط في عام 2023.
تراجعت الليرة السورية حيث كان سعر الصرف 54,5 ليرة للدولار وحاليا يعادل الدولار 13,000 ليرة، ومن هنا يمكن احتساب مدى تدهور قيمة الاستثمارات الأجنبية في سوريا التي وظفت قبل عام 2011.
في مقابل ذلك، هناك ميزات في سوريا قد لا تكون متوافرة في دول عربية أو نامية أخرى. لا يزيد عدد سكان سوريا حاليا على 23 مليون نسمة، ويتميز السوريون بالمبادرة في الأعمال والمهنية، وهناك طبقة رجال الأعمال الذين امتهنوا العديد من الأنشطة وتوارثوها منذ زمن بعيد.
حكم القانون وعدالة القضاء أولا
كانت سوريا بلدا معتمدا على آليات السوق والمبادرات الخاصة وتأسس فيها العديد من الشركات العائلية والخاصة قبل الوحدة المصرية السورية في عام 1958 وقبل عمليات التأميم ومصادرة الملكية الخاصة. كان من أهــم الشركات “الشركة الخماسية”، التي أسستها عام 1945 خمس عائلات في دمشق. كان الاسم الرسمي للشركة “الشركة التجارية الصناعية المتحدة المساهمة المقفلة” في دمشق، “الخماسية” للغزل والنسيج والصباغة والطباعة والتجهيز، وقد حدد رأس مال الشركة بـ10 ملايين ليرة سورية. بعد الوحدة المصرية السورية تم تأميم الشركة في عام 1961 أسوة بالشركات المماثلة في مصر والتي عملت أيضا في صناعة النسيج.
تعرفت الكويت الى السوريين الذين عملوا في الكويت وكثيرون منهم امتهنوا التجارة والأعمال الحرة بدلا من التوظف في الدوائر الحكومية. شارك الكويتيون عددا من رجال الأعمال السوريين في أنشطة داخل الكويت وانتعشت أعمالهم بفضل المهنية وحسن الاتقان لدى هؤلاء السوريين.
لا شك أن سوريا الآن في حاجة إلى إعادة إعمار، وهناك العديد من المؤسسات الصناعية والسياحية والعقارية والخدمية التي تتطلب الترميم وتوظيف رؤوس أموال مناسبة لإعادة تشغيلها وإحياء أعمالها وتمكينها من توفير فرص عمل للمواطنين السوريين. وفي تقديري أن الكويت، إذا أرادت أن تدعم الاقتصاد السوري، يجب أن تدعم المبادرات الخاصة وتعزز الشراكة بين القطاع الخاص الكويتي والقطاع الخاص السوري بعيدا من البيروقراطية الحكومية ومعوقاتها. في طبيعة الحال، فإن إمكان توظيف الأموال في سوريا يقترن باستقرار الأوضاع السياسية والأمنية وتوفر قوانين محفزة للاستثمار وتحفظ حقوق الملكية وتؤدي إلى استقرار سعر صرف العملة الوطنية. غني عن البيان أن الكويتيين يتطلعون إلى نظام قانوني وقضائي عادل في سوريا لحماية استثماراتهم وممتلكاتهم الخاصة وإعادة الحقوق التي سلبت خلال السنوات المنصرمة.
وزير خارجية #الكويت من #دمشق: أمن وسلامة #سوريا جزء لا يتجزأ من أمن الخليج#الشرق_للأخبار #الشرق_سوريا pic.twitter.com/DiuHWpkNn8
— الشرق للأخبار – سوريا (@AsharqNewsSYR) December 30, 2024
هناك علاقات اجتماعية مميزة بين السوريين والكويتيين تأصلت خلال القرن الماضي، وتعززت المصاهرة بين العائلات في البلدين. كذلك أمضى كثير من الكويتيين سنوات الدراسة في سوريا حيث التحق الطلبة بمعهد المعلمين منذ بداية ستينات القرن الماضي.
يضاف إلى ذلك أن السوريين ساهموا في النهضة التعليمية حيث عمل المدرسون في تعليم أبناء الكويت في مدارس التعليم الأساسي منذ خمسينات القرن الماضي وساهم عدد آخر في تعليم طلبة جامعة الكويت منذ افتتاحها في عام 1966. لا بد من البناء على هذه العلاقات لتطوير علاقات أكثر إيجابية تحفز على الاستثمار المباشر وخلق الشراكات المفيدة في القطاعات الحيوية التي تتميز بالجودة في الاقتصاد السوري. وقد تشهد السنوات المقبلة علاقات اقتصادية مفيدة بين البلدين.
المجلة
————————
الشرق الأوسط الذي سيجده ترمب/ إبراهيم حميدي
تحديات هائلة وفرص نادرة للمساهمة في صوغ الهيكل الإقليمي
آخر تحديث 20 يناير 2025
لن يجد الرئيس الأميركي دونالد ترمب لدى تسلمه منصبه الاثنين، منطقة الشرق الأوسط كما تركها عند مغادرته البيت الأبيض في 2021. في السنوات الأربع الماضية، خصوصا في 2024، حصلت تغييرات هائلة على القضايا الرئيسة في الشرق الأوسط. لا شك أن بعض التغييرات الكبيرة كانت مدفوعة بالاستعداد لمجيء “ترمب الثاني” وخططه التي عبر عنها أكثر من مرة.
لعل أوضح تعبير على ذلك، كان اتفاق غزة بين إسرائيل و”حماس”. صحيح أن الظروف قد نضجت لعقد اتفاق تبادل الأسرى بعد أكثر من 15 شهرا على الحرب وجولات كثيرة من المفاوضات، لكن تهديدات ترمب وتلويحه بـ”الجحيم” وضرورة إنجاز اتفاق قبل بدء ولايته الرئاسية ساهمت في إعطاء الدفعة الأخيرة لإقناع كل من بنيامين نتنياهو و”حماس” على القبول بأقل مما كان كل منهما يطالب به.
يستطيع كل منهما تحمل التنازلات والتحديات الداخلية. لكنهما لا يستطيعان تحمل غضب ترمب ودفع ثمن تهديداته وتصرفاته غير المتوقعة. التحدي الآن، هو إقناع فريق الرئيس الأميركي الجديد-القديم، كلا من إسرائيل و”حماس” للاجتماع بعد أسبوعين وبدء مفاوضات الانتقال إلى المرحلة الثانية من الصفقة بعد 42 يوما من بدء المرحلة الأولى، بما يتضمن تبادلا كاملا للأسرى وانسحاب إسرائيل من قطاع غزة ووقفا دائما للنار.
الانتقال من المسار الأمني إلى السياسي مهم. نجاح هذه الجهود يفتح الطريق لمسار يتعلق بالقضية الفلسطينية وفق المبادرة السعودية- الدولية لـ”حل الدولتين” لتحقيق سلسلة من الخطوات تتضمن الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية. ولا شك أن هذا المسار بدوره يفتح أفقا لعلاقات إقليمية وشرق أوسط جديد، كان ترمب قد عبّر أكثر من مرة عن الاهتمام بلعب دور في صياغته، ضمن طموحاته في العالم لتخليد اسمه في التاريخ (بما في ذلك عقد تسوية في أوكرانيا)… ونيل “جائزة نوبل للسلام”.
يمكن وضع الانقلاب الكبير في سوريا ولبنان ضمن المشهد الإقليمي. هزيمة “حزب الله” واغتيال قياداته بما في ذلك حسن نصرالله، سحب من إيران ورقة إقليمية كبيرة، لكن الضربة الأكبر لنفوذ طهران كانت بسقوط بشار الأسد. فالنظام السوري كان الجسر الذي يربط “الهلال الإيراني”، كحديقة خلفية للعراق والنفوذ الأميركي فيه، وخط إمداد للبنان والاشتباك الإسرائيلي في جنوبه، ومقر ومستقر لفصائل فلسطينية مدعومة من “الحرس”.
في “قصر بعبدا” اللبناني و”قصر الشعب” السوري، قيادات معارضة لطهران، أو على الأقل لا تدور في الفلك الإيراني ولا تأخذ أوامرها من “المرشد” علي خامنئي. ولا شك أن هذه الخسائر الاستراتيجية هي الأكبر لإيران في السنوات الماضية، وستكون ضمن حسابات ترمب ومستشاريه. ستتأرجح العلاقة بين عودة “ترمب الثاني” إلى سياسات “ترمب الأول” باتباع “الضغط الأقصى” ضد إيران بما في ذلك احتمال إعطاء ضوء أخضر لنتنياهو لتوجيه ضربة قاضية للبرنامج النووي، وبين فتح الباب أمام عقد صفقة مع إيران الضعيفة في سياق ترتيبات لهيكلية الشرق الأوسط الجديد.
سيجد ترمب إيران ضعيفة وسيجد تركيا توسع نفوذها في سوريا والإقليم. هناك علاقة جيدة بينه وبين رجب طيب أردوغان، وهذا ما يقلق الأكراد السوريين واحتمال “خيانتهم” كما حصل في نهاية 2019 عندما فتح قراره بسحب بعض قواته من شرق الفرات، الباب أمام تركيا وحلفائها لتقطيع أوصال الكيان الكردي شرق الفرات.
عندما غادر “ترمب الأول” البيت الأبيض قبل أربع سنوات، كانت هناك الاتفاقات الإبراهمية وانقسامات إقليمية في الشرق الأوسط. وعندما يدخل “ترمب الثاني” سيجد تقاطعات إقليمية كثيرة، عربية– عربية، وعربية- تركية، وعربية– إيرانية، سيجد تفاهمات على ركام حروب كبيرة في سوريا ولبنان وغزة.
هذا ليس كل شيء في منطقتنا. هناك شرق أوسط آخر. في الخليج هناك نهضة اقتصادية. الرياض ماضية في اصلاحاتها وقفزاتها، و”رؤية 2030″ حققت الكثير من أهدافها. السعودية تستضيف القمم العربية والاسلامية وتلعب دورها القيادي وتطرح المبادرات الدبلوماسية في أبرز الملفات من سوريا الى قضية فلسطين، والسودان حيث احتدمت “حرب الجنرالين”.
شرق أوسط متعدد لايمكن الهروب منه، فيه تحديات هائلة وفرص نادرة لصوغ الهيكل الإقليمي الجديد وتغيير مسار التاريخ. لايمكن لهذه المنطقة إلا أن تكون موجودة على طاولة ترمب.
المجلة
——————————
في تفسير التغيير المفاجئ بسوريا ولبنان/ ماجد كيالي
التغيير السوري واللبناني توازى مع تعمق حالة الاستعصاء الفلسطيني
آخر تحديث 19 يناير 2025
ما حصل في سوريا ولبنان هو بمثابة انقلاب تاريخي كبير ومفاجئ، فهو لا يقف عند حدود التغيير السياسي المتمثل في إسقاط النظام في البلدين المذكورين، فقط، على أهمية ذلك، خاصة بالنسبة للسوريين الذين حكمهم وتحكّم بهم، جملة وتفصيلا، نظام الأسد المافيوي (الأب والابن)، لـ55 عاما، وإنما لأنه غيّر الخريطة السياسية للشرق الأوسط، أيضا، بشكل جذري، إذ إنه أنهى أو جرف دفعة واحدة نفوذ النظام الإيراني في المشرق العربي، ما يشمل بمفاعيله على الأرجح العراق عاجلا أم آجلا.
ثمة مسائل عدة تميّز عملية التغيير الهائلة التي حصلت في سوريا، والتي كانت مقدمة لازمة للتغيير في لبنان، إذ أنجزت بطريقة سلسة وناعمة وهادئة، على خلاف معظم التجارب التاريخية، وضمنها تجربة “الربيع العربي”، بنأيها عن العنف، على أية خلفية كانت، طائفية أو هوياتية أو ثأرية، والذي لم يكن أكثر المتفائلين يتوقع حدوثه، بالنظر لثقل المرحلة الماضية، مع الظلم والسحق والتهميش الرهيب، الذي اتسم به نظام الاستبداد “الأسدي” الشامل.
طبعا، لم يسلم الأمر من مشاعر تشفٍ، وارتكابات، مؤسفة ومحزنة ومؤلمة، لكن تلك الحالات لم تعبر، من الناحية العملية، وفي الحياة المجتمعية، عن روح جمعية عند السوريين، ولا عن توجهات الجهة التي استلمت السلطة. وبالطبع، فإن تلك المشاعر والارتكابات لم تغط الشعور بالارتياح لدى معظم السوريين- كما اللبنانيين- بالخلاص من النظام السابق، وإن شاب ذلك بعض القلق الناجم عن عدم التيقن مما سيأتي؛ بالقياس للتجارب المريرة السابقة.
من جهة أخرى، وللتذكير، فإن التغيير الحاصل في سوريا، بالسهولة التي تم بها، والتي بينت العطب المعشعش بالنظام، تؤكد أن ذلك كان يمكن أن يحصل قبل عشرة أعوام، أي منذ اندلاع الثورة السورية (2011)، الأمر الذي لو تم لجنّب السوريين الأثمان الباهظة والمؤلمة التي دفعوها، وضمنها مشاعر الخوف والكراهية إزاء الآخر التي أشعلها النظام.
يستنتج من ذلك أن نظام الأسد لم يسقط قبل ذلك بفضل سببين، أولهما، التدخل العسكري الخارجي لصالحه، من قبل النظام الإيراني وميليشياته الطائفية المسلحة على الأرض، وفي مقدمتها “حزب الله” اللبناني، ومن قبل الجيش الروسي عبر سلاح الجو بقدراته التدميرية، أي إن النظامين الإيراني والروسي كانا شريكي النظام في التوحش، من دون أي تحفظ، ما تسبب في تشريد ملايين السوريين، داخل بلدهم وخارجه، وتدمير عمرانه وبناه التحتية.
أما السبب الثاني، فيتمثل في ممانعة الإدارات الأميركية السماح بذلك، أو عدم تمكين السوريين من ذلك، لارتهانها، ومراهنتها، سياسيا على مسألتين، الأولى، ارتباط السياسة الأميركية، في أغلب الأحوال، بما تريده إسرائيل في الشرق الأوسط، إذ هي التي كبحت أي توجه عند الإدارة الأميركية باتجاه التخلص من النظام، باعتبار أن النظام الذي تعرفه، وتثق في سياساته، أفضل من النظام الذي لا تعرفه، بواقع أنه لم تطلق رصاصة واحدة على إسرائيل من الجبهة السورية، منذ نصف قرن، عدا عن أن وجود نظام من طبيعة نظام الأسد تجعله في مشكلة دائمة مع شعبه، وهذا وضع مريح لإسرائيل. والثانية، أن الإدارات الأميركية، ومعها إسرائيل، كانت تراهن، منذ حرب الخليج الثانية (2003) على الاستثمار في سياسات إيران التدخلية في البلدان العربية، وبخاصة في المشرق العربي واليمن، وهي السياسات التي أدت إلى تقويض بنى الدولة والمجتمع، على خلفية طائفية ومذهبية، مع دعم ميليشيات مسلحة، وكل ذلك مع توظيف القضية الفلسطينية لإضفاء شرعية على تلك السياسات، ما أفاد إسرائيل وأضر بقضية فلسطين، كما أضر بإجماعات السوريين واللبنانيين والعراقيين.
في لبنان، أيضا، فإن التغيير السياسي الكبير، الذي تم التعبير عنه بانتخاب رئيس وتكليف للجمهورية رئيس حكومة جديد، من خارج الطبقة السياسية السائدة، كان يفترض أن ينجز مع الهبة الشعبية في مارس/آذار (2005)، أي بعد إخراج الجيش السوري من لبنان، إلا أن ذلك تأخر، منذ ذلك الحين، بسبب نفوذ النظامين السوري والإيراني، في ذلك البلد، إذ سرعان ما تم توكيل “حزب الله” بذلك، بحيث بات بمثابة دولة داخل دولة، والأحرى فوق الدولة، سياسيا واقتصاديا وخدماتيا وعسكريا. ومرة ثانية كان يفترض بالتغيير اللبناني أن ينجز مع انتفاضة 2019-2021 في لبنان، التي أتت ضد النظام القائم على الفساد والطائفية، وضمن الموجة الثانية لـ”الربيع العربي”، لكن المشكلة ظلت تتمثل بهيمنة النظام الإيراني، وتاليا بوجود ميليشيا “حزب الله” كسلطة استطاعت قمع تلك الانتفاضة وقتها.
ما يمكن لفت الانتباه إليه هنا، أيضا، أن التغيير السوري واللبناني، الذي كسر حالة الاستعصاء السياسي في بلدان المشرق العربي، توازى، بشكل عكسي، مع تعمق حالة الاستعصاء في الوضع الفلسطيني. وفي الواقع فإن عملية “طوفان الأقصى”، التي بادرت إليها “حماس”، على شكل حرب كجيش لجيش، وجدت فيها إسرائيل فرصتها لشن حرب إبادة ضد الفلسطينيين، بخاصة في غزة، وفي مناطق في لبنان، ما أدى إلى تعزيز هيمنتها على الفلسطينيين من النهر إلى البحر، وتقويض القدرات العسكرية لحركة “حماس” و”حزب الله”.
لكن تلك العملية التي فاجأت إسرائيل، وشكلت ضربة قوية لها، سياسيا وأمنيا، أدت إلى انتهاء الرهان الأميركي والإسرائيلي على الاستثمار في سياسات النظام الإيراني، أيضا، بمعنى أن عملية “الطوفان” كانت بمثابة القابلة التي ولّدت كل التغييرات التالية، وضمنه الحسم أميركيا وإسرائيليا بمسألة تقويض نفوذ إيران في المنطقة.
بديهي أن تضحيات ونضالات السوريين واللبنانيين، على مدار نصف قرن، وخاصة في العقد الماضي، لعبت دورا أساسيا في إضعاف النظام السوري، وعزله والحط من شرعيته ومكانته، لكنها لم تكف لوحدها لإسقاطه، كما أن مثل تلك النضالات والتضحيات، لم تمكن الفلسطينيين من تحقيق بعض آمالهم، في صراعهم المديد والمكلف والصعب ضد إسرائيل.
والفكرة أن العامل الدولي يلعب دورا أساسيا، وتأسيسيا، في بلداننا، كعامل داخلي، سيما مع وجود إسرائيل، باعتبارها ليست مجرد دولة وإنما، أيضا، بمثابة وضع دولي في الشرق الأوسط، فحتى تركيا ما كان يمكن لها أن تدعم التغيير السوري، بالشكل الذي حصل فيه، لولا تغير السياسة الأميركية باتجاه الانتهاء من النفوذ الإيراني ومن نظام الأسد، بحيث تكامل الشرطان الذاتي والموضوعي، لتشكيل اللازم والكافي للتغيير سورياً ولبنانياً.
وبالطبع فإن ذلك الحسم ليس له علاقة بمحاباة الولايات المتحدة لشعب سوريا أو لبنان، وإنما بانتهاء استثمارها في سياسات إيران، وسعيها تقويض نفوذها، لصالح تعزيز مكانة إسرائيل وضمان أمنها واستقرارها، وتالياً لوضع حد لتدخلات الحوثيين في ممرات التجارة الدولية، وإعادة هندسة الشرق الأوسط. وللتذكير فإن الولايات المتحدة هي التي أسهمت في تعزيز نفوذ إيران في المنطقة، بتسليمها العراق (2003) عبر ميليشياتها الطائفية المسلحة، وسكتت عن تعاظم نفوذها في سوريا، وقبلها في لبنان، ثم هي لم تفعل شيئا للسوريين، الذين عانوا من نظام الفساد والاستبداد والكبتاغون، والذي كان يقتلهم ويشردهم ويخرب عمرانهم بالبراميل المتفجرة وبالصواريخ وبالكيماوي، طوال 13 عاما، بمشاركة إيرانية وروسية.
المهم، أن الوضع الداخلي، والقوة اللازمة سورياً ولبنانياً، التقيا أو تقاطعا في اللحظة المناسبة مع الحسم الدولي.
المجلة
———————-
إحاطة حول المحددات الأساسية في بناء السياسة الخارجية السورية/ حسن الشاغل
2025.01.20
السياسة الخارجية، هي مجموعة السلوكيات والمبادئ والأدوات التي تصنعها الدولة لإدارة علاقاتها مع دول المنظومة الدولية، بما يحقّق مصالحها ويحفظ أمنها القومي.
وتصنع السياسة الخارجية استناداً على ما تمتلكه الدولة من مقومات وقدرات مادية ومعنوية، وكل سياسة خارجية تمارسها الدولة في المنظومة الدولية يقابلها رد فعل على البيئة الداخلية للدولة، لاسيما بما يرتبط بالأمن والاستقرار والتنمية الاقتصادية والنمو.
ونشاط السياسة الخارجية للدولة عادة ما يكون مقروناً بعدد من المعايير، منها ما يرتبط بما تمتلك الدولة من موارد وقدرات مادية استراتيجية مثل الموارد الطبيعية والقوة العسكرية ومساحة وموقع الدولة وعدد السكان.
وهذه القدرات إذا توفرت في الدولة تسمح لها بممارسة سياسة نشطة انعكاساً للقدرات المالية التي ستتوفر لها، كما أن توجهات ومنهج صناع القرار والسياسة يلعب دوراً محورياً في نشاط سياسة الدولة، وبالنظر إلى الدولة السورية التي تتشكل بعد سقوط نظام بشار الأسد نجد أن صناعة سياستها الخارجية ستقوم على العوامل الاساسية التالية:
أولاً: عامل بناء القوة الاقتصادية
تلعب القوة الاقتصادية والمالية دوراً كبيراً في بناء وصناعة السياسة الخارجية للدولة، فبناء اقتصاد قوي ليس هدفه تحقيق الرفاه والنمو وتحسين الظروف المعيشية للسكان فقط، على الرغم من أهميته، بل يتعدى ذلك بكثير ليشمل تطوير وبناء القدرات العسكرية التي هي عماد سياسة الدولة الخارجية.
وتسهم القوة المالية للدولة في نشاط السياسة الخارجية وأدواتها عبر رصد ميزانية لدعم مصالح الدولة خارجياً من خلال استخدام المساعدات الإنسانية والمنح المالية وتقديم القروض لبعض الدول والجهات لكسب تأييدهم في قضايا دولية معينة ولصناعة النفوذ، بمعنى أم القوة المالية تسهم في تعزيز أدوات القوة الصلبة والناعمة للدولة.
كذلك تسمح القوة المالية في توظيف المال في إدارة الصراعات الخارجية عبر فرض العقوبات الاقتصادية بهدف إرغام دولة ما للتنازل عن شيء أو لتغيير سلوكها، أو يعطي الدولة القدرة على تحمل العقوبات والضغط الخارجي وعدم التنازل عن مصالحها.
وبناءً عليه، يصنف عامل القوة الاقتصادية والمالية للدولة العامل الأبرز في صناعة السياسة الخارجية، وإذا ما أسقطنا العامل الاقتصادي على صناعة السياسة الخارجية الجديدة لسوريا، نجد تأثيره سيكون ضعيفاً على المدى المتوسط، فالقوة المالية للدولة السورية تكاد تكون معدومة في الوقت الحالي، وعليه فإن السياسة الخارجية السورية وأدواتها لن تكون فعالة بالمستوى الذي يسمح للدولة أن تمارس دوراً فعالاً ونشطاً وحاسماً في المنظومة الدولية.
فالقدرة المالية لتمويل الدخول في صراع أو تنافس عبر استخدام القوة الصلبة، أو أدوات القوة الناعمة غير متوفرة، وهذا ما سيدفع الدولة إلى تبني سياسات توافقية ودبلوماسية مع كل الأطراف الدولية بما يبعد الدولة عن أي صراع، بل ستجنح الدولة لبناء علاقات قائمة على المنفعة المادية التي تسهم في بناء الدولة على المدى المتوسط والطويل.
ثانياً: عامل القوة العسكرية
يصنف منظري النظرية الواقعية في العلاقات الدولية القوة العسكرية على أنها العامل الأساسي في سياسة الدولة الخارجية، ويرجعون ذلك إلى طبيعة فهمهم للنظام الدولي على أنه تنافسي، وأن عدم اليقين من سلوكيات الدول تؤدي في كثير من الأحيان لحصول نزاع بين الدول المتنافسة والصاعدة ويدفعها لاستخدام القوة العسكرية في سياستها الخارجية.
ويرى الواقعيون أن الدولة يجب أن تحافظ على ذاتها من خلال القوة العسكرية لأن هناك دولاً محتملة قد يحاولون القضاء عليها في أي وقت، وهذا يعني أن الدول ستعتمد بشكل كبير على الاستراتيجية العسكرية لتمارس قدرتها على الإكراه المسلح لدعم سياساتها الخارجية.
وبحسب النظرية الواقعية الجديدة فإن الدول الضعيفة تكون عرضة لعدم الاستقرار بسبب الفوضى في بيئة العلاقات الدولية التي تسودها حالة من عدم اليقين وضعفها الشديد ودورها المحدود في النظام الدولي.
ويرى الواقعيون أن امتلاك القوة والتأثير في السياسة العالمية يعتمد في المقام الأول على امتلاك الموارد المادية التي توفر للدولة نفوذاً كبيراً وفي مقدمتها القوة العسكرية كأحد الأدوات المهمة في صناعة السياسة الخارجية، والتي قد تستخدم كوسيلة ضغط من أجل الحصول على تنازلات واعتماد شروط تسوية مقبولة أو لفرض التفاوض على ضد دول آخر.
ويعد امتلاك تقنيات عسكرية وأنظمة أسلحة متطورة ميزة نوعية في دعم سياسة الدولة الخارجية. وغالباً ما يتم استخدام القوة العسكرية ضد الدول التي تشكل تهديداً مباشراً لسياسات الدولة أو بقائها.
وبإسقاط عامل القوة العسكرية على صناعة السياسة الخارجية السورية نجدها ستكون محدودة إذا ما بقيت على ما هي عليه بعد سنوات من الحرب، وبعد تعرض السلاح السوري لضربات إسرائيلية في ليلة سقوط بشار الأسد.
وإعادة بناء القدرات العسكرية يحتاج إلى سنوات طويلة، وأموال طائلة غير متوفرة في الوقت الحالي، كما أن ضعف القوة العسكرية لسوريا سيفقدها من قوة الردع تجاه الدول الأخرى.
وخلال فترة اعادة بناء القوة العسكرية لا بد للإدارة الجديدة من العمل على بناء العقيدة العسكرية للجيش، كما من المهم تجنب الصراعات، لأن أي استخدام للقوة الصلبة ضد الدولة السورية سيكون له عواقب سلبية كبيرة على الأوضاع الداخلية.
ثالثاً: العامل الديمغرافي (الموقع الجيوسياسي وعدد السكان)
وفقاً لمنظري النظرية الواقعية يعتبر عدد السكان أحد العوامل المهمة في قوة الدولة، لما له من ميزات يضيفها للدولة، لاسيما في دعم اقتصاد الدولة وقوتها العسكرية. فالدول تعتمد في مسيرة تنميتها الاقتصادية على توفر أعداد كبيرة من العمالة الماهرة والمختصين.
ويعد العامل الجغرافي وموقع الدولة من العوامل الاستراتيجية التي تنعكس على صناعة السياسة الخارجية للدولة وصنع القرار، فالدول الحبيسة على سبيل المثال تحركاتها الخارجية تكاد تكون معدومة، لأنها تكون مرهونة لدول أخرى لممارسة عملية التبادل التجاري والتواصل مع الأسواق العالمية، في حين أن الدول التي تتموضع على موقع استراتيجي هام على طرق التجارة البرية والبحرية سيسمح لها بممارسة سياسة خارجية أكثر نشاطاً وفعالية.
ومن هذا المنطلق، تتموضع سوريا على موقع جيوسياسي يسمح لها أن تكون عقدة لطرق التجارة الدولية البرية والبحرية، فهي تعد صلة الوصل بين قارة آسيا وأوروبا برياً وبحرياً، وبين أسواق الخليج العربي وتركيا ودول الاتحاد الأوروبي.
ولا بد من الحكومة السورية المستقبلية أن تستغل موقع البلاد لأن تكون جزءًا من مشاريع طرق التجارة الدولية، لاسيما فيما يتعلق بطريق الهندي الشرق أوسطي الأوروبي وطريق الحرير، وسواحل شرق المتوسط السورية قد تكون بمنزلة نقطة انطلاق مهمة للمشروعين الهندي الشرق أوسطي وطريق الحرير.
وسيوفر الموقع الجيوسياسي ارتباط سوريا بمصالح اقتصادية دولية، ويسمح لها مستقبلاً بالتحرك في دائرة أوسع في سياستها الخارجية إقليمياً ودولياً.
رابعاً: عامل التحالفات الدولية
التحالف هو الالتزام بالمساعدة العسكرية المتبادلة بين دولتين أو أكثر ذات سيادة، وتحدث التحالفات عندما تطور الدول سياساتها بالتعاون الوثيق مع دولة أخرى لتحقيق أهداف أمنية مشتركة.
وتلعب التحالفات دوراً محورياً في العلاقات الدولية حيث تعتبر استراتيجية مهمة في السياسة الخارجية للدول من حيث حماية الأمن الوطني وضمان التوازن، ويتم تشكيل التحالفات بين دولتين أو أكثر لمواجهة خصم مشترك.
وتتوقع الدول من حلفائها تقديم المساعدة عسكرياً ودبلوماسياً في أوقات الصراع، وقد يكون التحالف رسمياً أو غير رسمي، ومن المهم معرفته، أن كل القوى على جميع المستويات تحتاج إلى تشكيل تحالفات في مرحلة ما.
وتدخل الدول الضعيفة في تحالفات عندما تحتاج إلى الحماية ضد الدول الإقليمية أو حتى دولة كبيرة، ومن الممكن أيضاً أن تدخل الدول القوية في تحالفات لمواجهة دول قوية أخرى، بعبارة أخرى، تنضم الدول إلى تحالف للحفاظ على توازن القوى.
وتميل الدول إلى تشكيل التحالفات من أجل حماية سيادة بلادها، وتحقيق المصالح، وضمان الأمن، وتتنوع التحالفات في كثير من النواحي، وذلك بحسب الظروف التي يتشكل فيها التحالف، ونوع الالتزام الذي ينشأ عنه التحالف، ودرجة ونطاق التعاون، كما تعكس أيضاً الأيديولوجية، وهكذا، فإن كل دولة تهدف إلى تحديد الدولة التي ستتحالف معها في سياستها الخارجية.
وبإسقاط عامل التحالفات على سوريا، فقد لجأ النظام السوري السابق إلى ربط الدولة بتحالفات عسكرية مع روسيا على أساس العقيدة العسكرية والتكنولوجية التي تبنتها سوريا سابقاً والتي كانت قائمة على منهج المحور الشرقي، في حين أن التحالف مع إيران كان أيديولوجياً، والذي كان له انعكاسات سلبية على علاقات سوريا مع محيطها العربي الأصيل.
وعلى مستوى سوريا الجديدة، فهي تمتلك مجال واسع لبناء التحالفات التي تعبر عن مصالحها الداخلية الأمنية والعسكرية بالدرجة الأولى، ومن المتوقع أن تتبنى الدولة سياسة خارجية لبناء تحالفات مع المحيط العربي وفي مقدمتهم السعودية وقطر، وإقليمياً مع الدولة التركية، وقد تتطور هذه التحالفات لينتج عنها توقيع اتفاقيات دفاع مشترك، بحكم أن هناك تلاقي بين سوريا والدول الثلاثة في المجال الأمني والعسكري والاقتصادي الإقليمي.
تلفزيون سوريا
——————————————-
هل يجب سن قانون يحاسب من ينكر جرائم حرب نظام الأسد بحق السوريين؟/ عبد الناصر القادري
2025.01.20
تعيش سوريا اليوم مرحلة جديدة كلياً بعد انتصار الثورة السورية على حكم النظام الذي استمر 54 عاماً في عهد حافظ ونجله المخلوع بشار الأسد اللذين ارتكبا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق الشعب السوري التي ترقى إلى مصاف جرائم “الإبادة الجماعية”، خصوصاً خلال الـ 14 عاماً الماضية، في الوقت الذي تجد من يسعى لإنكارها أو نفي حدوثها، رغم الشهادات المثبتة والأدلة على وقوعها.
ويعمل بعض فلول النظام المخلوع الذين يظهرون على قنوات الإعلام أو عبر حساباتهم الرسمية على مواقع التواصل، كل جهدهم لوضع كل الأطراف العسكرية في سلة واحدة، ومحاولة خداع المجتمع السوري بأن القادم سيكون شبيهاً بالماضي، رغم الفظائع التي خرجت على وسائل الإعلام في سجون النظام ومعتقلاته، وليس سجن صيدنايا إلا واحداً من مئات ارتكب فيها أشنع عمليات تعذيب المعتقلين والمختفين قسرياً.
وارتكبت قوات النظام السوري بقيادة بشار حافظ الأسد كل أنواع الجرائم مستخدمة جميع الأسلحة المحرمة دولياً بما في ذلك السلاح الكيماوي والفوسفور الأبيض وصواريخ السكود والبراميل المتفجرة، إلى جانب عمليات التهجير القسري لإحداث تغيير ديموغرافي بعد دك المدن على رؤوس أصحابها.
ويتساءل ناشطون سوريون في جلساتهم السياسية المستمرة بعد سقوط النظام عن إمكانية سن قانون سوري يقضي بتجريم ومحاسبة من ينكر وقوع جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب ترقى بمجملها إلى جريمة إبادة جماعية ضد الشعب السوري من قبل النظام المخلوع وبدعم مباشر من إيران وروسيا.
كما يطالبون بسن قانون يمنع تمجيد الرئيس المخلوع باعتباره قائد منظومة ارتكبت جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية عن سبق تخطيط وإصرار وترصد.
كيف يرى سوريون إصدار قانون من هذا النوع؟
واستطلع موقع تلفزيون سوريا آراء السوريين في دمشق وريفها وعبر نموذج إلكتروني في عينة شملت 9 آلاف شخص شملت مختلف الشرائح العمرية والفكرية، ضمن السؤال المحدد “هل أنت مع سن قانون لتجريم من ينكر الإبادة الجماعية في سوريا؟”.
وكانت النتيجة أن أكثر من 96.7% منهم قالوا إنهم يؤيدون سن قانون لتجريم من ينكر وجود جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية تصل إلى حد الإبادة الجماعية، و2.4% لا يؤيدون، و0.9% أجابوا بأنهم لا يؤيدون ولا يرفضون ذلك.
ويعد إنكار حدوث جرائم بحق الشعب السوري على يد روسيا وإيران ونظام الأسد رفضاً أو تجاهلاً للوقائع والأدلة التي تشير إلى تورط هذه الأطراف في ارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان أو جرائم حرب ترقى بمجملها لارتكاب “إبادة جماعية” بحق مواطنين سوريين.
ويشمل هذا الإنكار إما التقليل من حجم الجرائم أو نفيها بشكل كامل، بالرغم من وجود شهادات ودلائل موثوقة من منظمات حقوق الإنسان الدولية والمحلية، إلى جانب شهادات من نجا.
والتحقيق في حدوث هذه الجرائم هو جزء من عملية توثيق وتحميل المسؤولية التي يمكن أن تؤدي إلى مساءلة قانونية دولية بحق النظام الذي زج بالجيش والقوات المسلحة لاستهداف الشعب بدءاً من إطلاق الرصاص العشوائي والقصف الممنهج وتدمير المدن، وليس انتهاءً بحملات المداهمة والاعتقال لملايين السوريين.
في المقابل، يؤدي إنكار هذه الجرائم الموصوفة بحق السوريين، إلى إهانة الضحايا وذويهم والإساءة لدمائهم التي سالت في سبيل حرية السوريين وانعتاقهم من الاستبداد، وإعاقة لمبدأ العدالة والمحاسبة ودعوة لإفلات المجرمين من العقاب.
لماذا يجب أن يكون هناك قانون لتجريم إنكار المحرقة السورية؟
وفي الحديث عن أهمية سن قانون لتجريم من ينكر الجرائم المرتكبة في سوريا: قال مدير مؤسسة الذاكرة السورية، الباحث عبد الرحمن الحاج، إن “إصدار قانون يجرم إنكار الإبادة السورية ضرورة، لأنه جزء من العدالة للضحايا والاعتراف بأنهم ضحايا، لا يجب أن يكون الضحايا ضحايا مرتين، مرة بوقوع الجريمة، ومرة بإنكارها”.
وأضاف الحاج في حديث مع موقع “تلفزيون سوريا” أنه “يفضل أن يكون القانون جزءاً من الإعلان الدستوري، وأن يكون يضمن كمادة دستورية في الدستور الدائم”.
ويرى الحاج أن دعم عودة نظام الأسد أو تأييده أو رفع رموزه هو جريمة بمنزلة موافقة على ممارسة جرائم إبادة ضد الإنسانية.
وأشار إلى أنه يوجد أمثلة دولية فمثلا “سبق وأن اعتمدت الأمم المتحدة قراراً يدين إنكار الهولوكوست في 26 من كانون الثاني 2007. وأعلنت الجمعية العامة أن الإنكار “يعادل الموافقة على الإبادة الجماعية في كل أشكالها”، واعتمد الاتحاد الأوروبي قراراً إطارياً بشأن مكافحة العنصرية وكراهية الأجانب (2008/913/JHA). يدعو فيه الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي للتأكيد على أن من ينكر محرقة اليهود يجب أن يعاقب بموجب القانون”.
هل هي جرائم ضد الإنسانية أم جرائم إبادة جماعية؟
من جانبه، قال المحامي والحقوقي السوري زهير مارديني، إن “مصطلح الإبادة الجماعية يُستخدم بشكل عاطفي إعلامياً ومن بعض عدد لابأس به من المتصدين للشأن الحقوقي حَسني النية لتوصيف ما جرت ممارسته من آلة النظام العسكرية والأمنية ضد المكوّن الديموغرافي الأكبر في سوريا، لكن التعريف الواضح لهذا المصطلح وفقاً للاتفاقية الناظمة له وهي (اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها عام 1948) هو التالي: أي فعل يرتكب بقصد تدمير، كلياً أو جزئياً، جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية بصفتها هذه.
ووفقاً لهذا المعيار الدقيق فإنه لم يتم توصيف وجود هذه الجريمة إلا ضد المكون الإيزيدي في سوريا والعراق، وهنا غير خافٍ أن عتبة إثبات هذا التوصيف على ممارسات النظام أمام القضاء المختلط والدولي في قصف المدن وتهجير أهلها عالية وشاقّة قياساً باللجوء إلى التوصيف الأكثر اتساقاً وأقل إرهاقاً في الإثبات مستقبلاً في هذا الشأن وبالتالي ستكون أكثر جدوى في المحاسبة”.
وأوضح مارديني في حديث مع موقع “تلفزيون سوريا” أنه “هنا يجب التمييز وسلوك الطريق القانوني الأجدى مبدئياً والمتناسب مع مشاريع السلم الأهلي التي ستظهر بلا شك بين مكونات الشعب السوري، وإن كان ذلك لا يمنع من تكريم الضحايا وتعويض ذويهم وإقامة النُصب والمناسبات السنوية للتذكير بمأساتهم على غرار ما جرى في البوسنة والهرسك”.
وتابع أنه “أخذاً بالاعتبار خصوصية الحالة السورية على اعتبار أن تراتبية اتخاذ القرار الأمني والعسكري ذات لون طائفي محدد فإنه من الأجدى للسلم الأهلي مستقبلاً أن تنخرط الطائفة المعنية بإجراءات تسمح لها بأن تكون مقبولة مجتمعياً بعد سقوط النظام، كتقديم بيانات الاعتذار وتسليم المتورطين بأعمال القتل المباشر وغيرها من التي سنفرد لها مباحثات بالتعاون معكم مستقبلاً”.
وأكمل مارديني أن “تعريف الجرائم ضد الإنسانية وفقاً لنظام روما الأساسي 1998 بأنها: هجوم واسع النطاق أو منهجي ضد أي مجموعة من السكان المدنيين. وهذا يبدو جلياً وغير مختلف عليه وفقاً للتصريحات والدعاية الرسمية للنظام الحاكم وشخوص ضباطه وإعلامييه وحقوقييه المُستعارين على الشاشات، بحيث كان يتبنى رواية الدفاع عن المكونات السورية كافة ويؤكد عليها في كل مناسبة بشكل فجّ، وهو لا شك قد احتاط جيداً بنصيحة بطانته من هؤلاء المُستزلمين للتهرب من هذا التوصيف أمام الرأي العام العالمي، وهم بذلك يتحملون المسؤولية ولايمكن لهم التهرّب من المحاسبة أو الاستبعاد وفقاً لتراتبية درجات المسؤولية في العدالة الانتقالية المتوجب تطبيقها بعيد سقوط النظام الحالي في سوريا”.
ما فائدة وجود قانون يجرم من ينكر جرائم النظام على مستقبل سوريا؟
وخلال استطلاع الرأي في شوارع دمشق، سألنا بعض من التقينا بهم عن فائدة وجود قوانين كهذه في سوريا المستقبل، ويمكن إجمال ذلك بـ:
منع الإساءات المستقبلية: إنكار الجرائم يمكن أن يُفهم على أنه تبرير لاستمرار الانتهاكات أو تمهيد لارتكابها مجدداً. تجريم الإنكار قد يحد من هذه التجاوزات ويقلل من فرص تكرارها في المستقبل.
الحفاظ على الذاكرة التاريخية: إنكار الجرائم يمكن أن يؤدي إلى تشويه التاريخ أو تغييره، وهو ما قد يتسبب في تجاهل معاناة الضحايا ويمنع الأجيال القادمة من التعلم من تلك الأخطاء.
حماية حقوق الضحايا: تجريم الإنكار يمكن أن يسهم في تقديم الاعتراف الرسمي بمعاناة الضحايا وتكريمهم، ويؤكد على أن حقوق الإنسان يجب أن تحظى بالاحترام الكامل.
العدالة والمساءلة: إنكار الجرائم يعوق الجهود القانونية لتحقيق العدالة، سواء من خلال المحاكم الدولية أو في إطار إجراءات محاسبة محلية ودولية. تجريم الإنكار قد يعزز من ثقافة المساءلة.
لكن من المهم أن يكون التشريع المرتبط بتجريم الإنكار متوازناً مع حقوق حرية التعبير، مع مراعاة أن أي قانون يجب أن يضمن عدم الاستخدام التعسفي أو القمعي للحد من النقاشات القانونية والتاريخية المعقولة.
وأخيراً، ما أبرز الجرائم التي ارتكبها النظام بحق السوريين ولا يمكن إنكارها أو تجاهلها أو مسحها من ذاكرة الضحايا؟
بين عامي (2011 – 2024) ارتكب النظام السوري (المخلوع) بدعم من إيران وحزب الله وروسيا، الكثير من الجرائم والانتهاكات من أبرزها بحسب توثيق الشبكة السورية لحقوق الإنسان:
1. القتل خارج نطاق القانون
وثَّقت الشَّبكة مقتل ما لا يقل عن 202 ألف مدني على يد قوات النظام الذي يقوده بشار الأسد، بينهم 23,058 طفلاً و12,010 سيدات.
2. الإخفاء القسري
تشمل قاعدة بيانات الشَّبكة ما لا يقل عن 96,321 حالة اختفاء قسري على يد قوات النظام، بينهم 2,329 طفلاً و5,742 سيدة.
3. الوفيات بسبب التعذيب
سجلنا وفاة ما لا يقل عن 15,102 من الأشخاص تحت التعذيب على يد قوات نظام بشار الأسد، بينهم 190 طفلاً و95 سيدة.
4. حصيلة استخدام أربعة أنواع من الأسلحة المدمرة
-البراميل المتفجرة
منذ تموز/يوليو 2012، ألقت طائرات نظام بشار الأسد ما لا يقل عن 81,916 برميلاً متفجراً.
تسببت هذه البراميل في مقتل 11,087 مدنياً، بينهم 1,821 طفلاً و1,780 سيدة.
-الأسلحة الكيميائية
تم توثيق 217 هجوماً كيميائياً نفذه نظام بشار الأسد.
أسفرت هذه الهجمات عن مقتل 1,514 شخصاً، منهم 1,413 مدنياً، بينهم 214 طفلاً و262 سيدة، إضافة إلى إصابة 11,080 شخصاً.
-الذخائر العنقودية
تم توثيق 252 هجوماً بذخائر عنقودية نفّذتها قوات نظام بشار الأسد.
أدى ذلك إلى مقتل 835 شخصاً، بينهم 337 طفلاً و191 سيدة.
-الأسلحة الحارقة
سُجّل ما لا يقل عن 51 هجوماً بأسلحة حارقة استهدفت مناطق مدنيَّة منذ آذار/مارس 2011.
5. التشريد القسري
أدت الانتهاكات الواسعة إلى نزوح نحو 6.8 ملايين سوري داخلياً.
تشريد قرابة 7 ملايين لاجئ، بحسب المفوضية العليا لشؤون اللاجئين.
تلفزيون سوريا
———————————–
هل سيعود السوريون؟/ رشا عمران
20 يناير 2025
لم أذهب بعد إلى سورية، ما زالت جنسيتي السورية تعيقني عن تحقيق هذا الحلم الذي لطالما حلمت به منذ غادرتها قبل أكثر من ثلاثة عشر عامًا، ولطالما واريته وأنكرته طيلة كل تلك الأعوام. ليس لدي إقامة حيث أنا الآن، ولو غادرت لن أتمكن من العودة إلي بيتي وحياتي التي تسير بإيقاع يتناسب مع وضعي الصحي والنفسي، أو لأقل إنني تمكنت من موازنة إيقاع حياتي مع وضعي الصحي والنفسي. لكنني أحلم باللحظة التي أكون فيها في دمشق، وهذا الحلم يدفعني إلى ترك كل ما لدي الآن والعودة النهائية إلى سورية، غير أن العقل يلجم هذا الاندفاع ويوقفه: أنا في الستين من عمري، ولدي مشاكل صحية في القلب، أتناول كمية كبيرة من الأدوية، مصدر دخلي الوحيد هو الكتابة التي تحتاج إلى هدوء واستقرار، وإلى توافر شروط لوجستية مناسبة، والحقيقة أن حالتي كلها تحتاج إلي توافر شروط لوجستية مناسبة. لا أملك أي شيء في سورية، لا بيت، ولا أرض، ولا مال، ولا عائلة، ولا أصدقاء، ولا شيء، عائلتي وأصدقائي كلهم في الخارج. إن اتبعت قلبي وقررت العودة النهائية فسوف أبدأ من الصفر من جديد. سوف أبحث عن منزل للإيجار، وسوف أقوم بفرشه، وسوف أخوض تجربة البحث عن أصدقاء جدد، سوف أؤسس حياة كاملة وأنا في هذه السن، وفي وضع صحي لا يساعد على خوض مغامرات نفسية جديدة. لحسن الحظ أن عقلي لا يزال يفكر بشكل منطقي، أو ربما هو التقدم في السن ما يجعلنا أكثر حكمة، وأكثر قدرة على التفكير العقلاني، ويحد من اندفاعاتنا العاطفية المسببة للتوتر النفسي الذي ينصحني الأطباء بالابتعاد عنه قدر الإمكان، حماية لقلبي من التلف من جديد. لكن فعلًا أنا أرغب بأن أذهب إلى سورية لأرى إن كنت سوف أتمكن من العيش فيها.
يشكل موضوع عودة السوريين جميعًا إلى سورية، حاليًا، سؤالًا مهمًا مطروحًا بقوة. سورية اليوم تحتاج جميع من غادرها، فمن ظلوا في الداخل خلال سنوات الموت والحرب عانوا بما يكفي لجعل قواهم خائرة وعاجزة عن المساهمة وحدهم في إعادة بناء البلد والمجتمع سريعًا؛ يحتاجون أولًا لالتقاط أنفاسهم وتأمين أبسط متطلبات حياتهم قبل أن يكونوا مطالبين بالمساهمة في إعادة بناء سورية. هذا لا يعني طبعًا أن من خرجوا من سورية وغادروها كانوا يعيشون في نعيم، لكنهم على الأقل عاشوا في شروط معيشية يومية أقل قسوة بكثير، لم يعانوا من البرد، ولا من الظلام الناتج عن انقطاع متواصل للكهرباء، لم يربكهم نقص الأدوية، ولا غياب المنظومة الصحية، لم يجوعوا، لم يعانوا الخوف من إبداء آرائهم بخصوص أي شيء، لم يخشوا الاعتقال، لم يحرم أولادهم من التعليم، لم يصابوا بمتلازمة الحرب كما حصل مع من بقي في الداخل. أزمات من خرجوا مختلفة، تتعلق بالقدرة على الاندماج في المجتمعات الجديدة، وتعلم لغات تلك المجتمعات، والاصطدام بثقافات مغايرة، والدخول في سوق العمل. إضافة طبعًا إلى الحنين. ورغم قسوة هذا، لكنه يبقى في إطار المكابدات، من دون أن يعطل العيش والحياة اليومية، إلا لمن ازداد لديه الاضطراب النفسي، ولم يتمكن من العيش الطبيعي، فلجأ إلى وسائل تحميه من فيض الذاكرة، فكان الإدمان الذي أودى بحياة كثير من الشباب في المجتمعات الجديدة. هو إحدى تلك الطرق للنسيان، مثله مثل دخول مصحات نفسية للعلاج. كانت أربعة عشر عامًا قاسية لأولئك الذين لم يتركوا وسيلة إلا واختبروها في محاولاتهم لإثبات وجودهم، والعراك اليومي مع الحياة للتغلب على عراقيلها. هذا كله سوف يعيق عودة كثيرين إلى سورية للبدء من جديد في بلد مدمر ومنهك وعجوز تنخر مفاصله أمراض الاستبداد والحرب، كالطائفية والطبقية والمناطقية والفساد والانتهازية والوصولية. ولسوء الحظ، فإن هذه الأمراض لم يتمكن كثر ممن غادر سورية من الشفاء منها، لا سيما أمراض كالطائفية والانتهازية التي ازدهرت أكثر مع وسائل التواصل، حيث الشعبوية هي ملكة الموقف وسيدته.
وعودة هؤلاء إلى سورية لن تكون في صالح بناء دولة حديثة، بل ربما سوف تزيد في تفكيكها، وقد تسهم في تكريس خطاب كراهية سيقابل بخطاب كراهية مضاد. ما تحتاجه سورية هو التخلص من هذا الخطاب سريعًا، للبدء في بناء دولة عادلة، ووطن يتسع لجميع أبنائه.
يعيق روتين الورق والإجراءات الإدارية والإقامات، في معظم دول اللجوء، عودة السوريين إلى سورية، معظم من عادوا بعد التحرير هم حملة الجنسيات الجديدة، هؤلاء مرتاحون من حيث إجراءات الخروج والعودة، وأيضًا من حيث وجود إدارات رسمية تكترث لأمرهم فيما لو ساءت الأوضاع الأمنية في سورية. سوف تقوم حكوماتهم الجديدة بحمايتهم. لكن باقي سورييي الخارج لا يملكون هذا الامتياز، عودتهم تعني حرمان معظمهم من إقاماتهم الحالية، ومن جنسياتهم المستقبلية، وتعني أنه إن حدثت مشكلات أمنية في سورية فلن يتمكنوا من مغادرتها. تعني أيضًا أنهم سوف يكونون تحت ضغط نفسي شديد يجعل منهم عاطلين عن الفعل الإيجابي. وفي المقلب الآخر، هنالك سوريون مرتبطون بوظائف في مجتمعاتهم الجديدة، أو لديهم أولاد في المدارس وأسسوا حيوات جديدة حيث هم، لن يكون من السهل عليهم التخلي عن كل ذلك من أجل العودة إلى سورية للمساهمة في بنائها من جديد، وليست عادلة محاولات جعلهم يشعرون بالذنب لأنهم لا يلقون كل شيء خلفهم ويعودون إلى بلد مدمر لا توجد فيه أبسط مقومات الحياة الطبيعية.
ما ذنب من بقي في الداخل؟ ومن هم الذين سوف يعيدون بناء سورية؟ وهل سيتمكن السوريون في الداخل وحدهم من الوقوف في وجه محاولات أدلجة سورية وصبغها بلون واحد لا يشبه غالبية المجتمع السوري؟ وهل سوف يترك السوريون لهيئة تحرير الشام ومؤيديها أن تستفرد بالسيطرة على سورية وتغيير ذاكرتها ووجدانها المعتدل؟ سوريو الداخل يحتاجون، كما أسلفنا، لالتقاط أنفاسهم، وللإحساس بالقليل من الأمان أن أوضاعهم المعيشية سوف تتحسن، لا يمكن لمحتاج، أو ذي فاقة، أن يساهم في أي تغيير، أو تعديل مسار، هذا أمر لا جدال فيه. هذا ما يجعل من الطبقة المتوسطة في أي مجتمع هي الحامل لعملية التغيير السياسي، أو الاقتصادي. في سورية، لا يوجد اليوم طبقة متوسطة، طبقتها المتوسطة تشكلت في بلاد اللجوء والمجتمعات الجديدة، ليس فقط بالمعنى الاقتصادي، بل بالمعنى القيمي. أما في الداخل، فلم تعد هنالك سوى طبقتين: طبقة مسحوقة، وطبقة أثرياء الحرب الجدد، والأثرياء الجدد إما فروا مع رئيسهم، أو ظلوا في سورية يطبلون للحاكم الجديد، ويبصمون له على ما يفعل؛ هؤلاء عبيد مصالحهم، لا تهمهم الأوطان ولا المستقبل، ولا يمكن التعويل عليهم في تعديل المسار المقترح للبلد. ما هو الحل إذًا، وكيف سيتم إنقاذ سورية، خصوصًا أنها مثقلة حاليًا بمرض الطائفية الذي يجعله انعدام الأمن قنبلة موقوتة لا تتوقف عن إصدار إنذارات يومية عن انفجار وشيك قد تتفوق عواقبه على ما حدث خلال العقد الماضي. الخلاص الحقيقي لسورية لن يتحقق بغير وجود أبنائها جميعًا، وهذا ما يبدو مستحيلًا حاليًا. فمن عاد إلى سورية عاد بمنطق الزائر المثقل بحنين يحتاج أن يتخفف منه. هذا الزائر سوف تتغاضى بصيرته عن رؤية الخراب الكامن، ولن ينتبه كثيرًا إلى حقيقة ما يحدث، هو أيضًا عاد بزهو المنتصر، والزهو يحجب الحقائق “عين المنتصر عن كل عيب كليلة”. قلة فقط ممن عادوا استطاعوا رؤية عمق المأساة التي تعيشها سورية، وكتبوا عنها وحولها. لا أتحدث هنا عن الأزمات المعيشية والدمار اللوجستي، بل عن الدمار المجتمعي، وعن الانقسام الشاقولي الذي يبدأ وينتهي في بؤرة الطائفية والمذهبية وخطابها عالي النبرة المنذر بانفجارات لا تحمد عقباها.
سأعترف، وأقيس الأمر على نفسي حين أفكر في موضوع عودة السوريين، أنه لن يكون سهلًا لي أن أبدأ بداية جديدة في سورية، ولن يكون سهلًا علي احتمال الظروف القاسية التي يعيش تحت نيرها سوريو الداخل، أعرف أن هذا جانب أناني، وغير منصف لمن في الداخل، لكنني لم أختر هذا، لم أخرج من سورية ترفًا ولا برغبة، خرجت مجبرة، وبطلب رسمي، ومثلي مثل مئات الآلاف من السوريين عانيت بما يكفي كي أتمكن من مقاومة انهيارات نفسية وجسدية، ولم أعد أمتلك وقتًا كافيًا في حياتي للصمود من جديد. وأظن أن معظم سوريي الخارج يفكرون بطريقتي نفسها، حتى لو أنكروا ذلك. وأعترف أنني أعيش صراعًا كبيرًا هذه الأيام، ولا أظنه سوف يحسم لصالح عودة نهائية إلى سورية. لكن هل سأكتفي بهذا، أم ثمة حلول وسطية يمكن لمثلي البحث عنها، والبدء بها، كي نشعر أننا نفعل بعض ما علينا تجاه سورية؟ أظن نعم، هنالك مبادرات كثيرة يمكن البدء بها، ثقافية وسياسية وفكرية وفنية، هنالك الكثير مما يمكن فعله حتى لو لم ننقل حياتنا إلى سورية، لا تعدم الشعوب طرق بناء أوطانها من جديد بعد حروب طاحنة، والسوريون في الداخل والخارج لن يركنوا إلى ظروفهم الحالية ويقفوا عندها، لن يمنع انهيار الظروف المعيشية سوريي الداخل من اجتراح مبادرات وطنية، هم بدأوا بهذا بالفعل منذ اللحظة الأولى، ولن يقف سوريو الخارج مكتوفي الأيدي، بل سوف يبادرون لفعل كل ما يلزم، وهم أيضًا بدأوا بذلك. وليست زيارات بعضهم إلى سورية لمجرد الزيارة والتقاط الصور، بل قد تكون محاولات للبدء بتشكيل مجتمع مدني حقيقي بين الداخل والخارج يتمكن، على الأقل، من منع سحب سورية لتكون نسخة عن دول فاشلة لا وجود فيها لا للتنمية ولا للعدالة الاجتماعية.
ضفة ثالثة
——————————
ملاحظات
Nedal Malouf
المؤكد بالنسبة لي اليوم .. ان ما نمر به هو مرحلة انتقالية وانا اسميها مرحلة تهيئة ( ترويض ) لكل الاطراف ذات الرؤوس الحامية .. ليكونوا اكثر قبولا لما بعدها ..
انصح بان ننظر الى ما يجري اليوم على انها نوع من الكوميديا السوداء ..
ضرورة لكشف مكامن الضعف واظهار المخاوف المخبأة وادراك حجم التحديات الكبيرة القادمة..
هي ضرورية حتى ندرك حقيقة واقعنا اليوم .. ونكون جاهزين لتقديم تنازلات ..حتى تكون كل الاطراف جاهزة لتقديم تنازلات في المرحلة القادمة ..
ما يجري اليوم هو نموذج ( واقعي ) لنعتبر .. ولندرك اهمية المشاركة وتقبل الاخر .. ليدرك كل طرف بان هناك تعديل ربما سيطرأ على رؤيته وان يأخذ رؤى الاخرين بعين الاعتبار .. والا سيكون البديل سيء للغاية ( على شاكلة الواقع الذي نعيشه اليوم ) ..
ستشاهدون في الاسابيع القليلة القادمة مشاهد من اللامعقول ، استفزازات ، تشبيح ، ترهيب .. الخ .. هذا صحيح .. ولكن ربما اذا نظرنا الى ما يجري من باب انها فترة مؤقتة .. لازمة لترتيب بعض الاوضاع الداخلية والاقليمية والدولية للبدء في تنفيذ الخطة المنشودة لبناء سوريا الجديدة ..
سنتعايش مع الواقع اليوم بشكل افضل .. وربما نساعد ان تمر هذه الفترة على خير ..
ما استطيع ان اؤكده بحسب رؤيتي لما ستكون عليه الامور في المستقبل القريب .. بان هذا المستقبل لن يشبه على الاطلاق ما نعيشه اليوم ..
سندخل في مرحلة وضع اسس الدولة السورية الجديدة بشكل واقعي يستند على ما عايشناه في هذه المرحلة الانتقالية وعلى تجربتنا المريرة طوال السنوات الماضية .. حتى نقتنع بان “ان زمن اول تحول”
وان سوريا الجديدة لن تكون باي شكل من الاشكال نموذجا للمزرعة التي ادارتها عائلة الاسد على مدى اكثر من نصف قرن من الزمن ..
الفيس بوك
—————————-
ملاحظات
Marya Zarif
بعضكم يعلم أنني ابنة عائلة مسيحية برجوازية ميسورة الحال من حلب، وأنني ابنة وحفيدة تجار، وابنة طبيبة هي أمي.
ويعلم بعضكم أيضاً أنني عشت طفولة ومراهقة مليئتين بالتناقضات، بين الامتيازات والتهميش، بين الحرية والاضطهاد، وقضيت أغلب سنوات مراهقتي، وحتى بلوغي سن الثامنة عشرة، في معاناة شديدة، جسدياً ونفسياً.
لن أتوسع في الحديث عن ذلك الآن، فهذا موضوع حديث آخر.
أتذكر فقط أن تلك السنوات كانت مؤلمة للغاية جسدياً، ولكنها كانت أكثر قسوة نفسياً. فقد كانت اختلافاتي سبباً في توجيه أصابع الاتهام ونظرات الاستغراب نحوي في بيئة تعيش في ترف وتملأها الامتيازات. تعرضت لتعليقات مخزية من الكبار، وقاسية من الأطفال. عانيت من التهميش الذي أخشاه حتى اليوم، ولم أحظَ قط، أو نادراً جداً، باستثناء مرة واحدة، حيث قالت والدة أعز أصدقائي له: “أنظر كم هي شجاعة”، ولم أشعر أبداً بتقبل تام لما كنت أعيشه. ومع الوقت، أصبح ذلك الألم مصدر قوتي الأصدق، وأيضاً نقطة ضعفي الأكبر.
كان والدي آنذاك قد بدأ العمل في تجارة الرافعات. كان يشتريها ويؤجرها ويبيعها. وكان والدي دائماً صاحب أفكار عديدة، وكان لديه موظف مخلص يعمل لديه في أمور مختلفة. وخلال فترة عمله في الرافعات، كان صالح يعمل كحارس للمرآب.
كان صالح رجلاً في بداية الخمسينيات من عمره، بطنه مستدير، ووجهه متعب، وعيناه إحداهما حَوْلاء. كان دائماً يرتدي جلباباً رمادياً مغبراً وصندلاً بالياً. كان أحياناً يأتي إلى البيت ليُسلّم أشياء للعائلة، فتبعثه أمي إلى المطبخ، أو تضع له الخادمة شيئاً يأكله.
كنت أحب التواجد في المطبخ، فقد كنت أشعر أن الحياة الحقيقية تدور هناك.
وفي يوم اقتربت من المطبخ، كان يوماً شاقاً في المدرسة، ويومًا حاراً، وكانت مشداتي الصلبة قد تسببت لي بنوبة إكزيما جديدة. ألقيت حقيبتي المدرسية على الأرض واتجهت نحو المطبخ، فوجدت صالح والخادمة يهمسان.
اقتربت أكثر ورأيت صالح يمسح دموعه قائلاً: “ماريا صغيرة جداً ، ومع ذلك تعاني كثيراً …يا حرام طفلة .”
منذ ذلك اليوم، ومرّت أيام كثيرة مشابهة له بعد ذلك، أدركت أن الحضارة هي القدرة على التعاطف، والتواصل، والحب. هذا صالح العجوز، الذي لم يكن أحد يكترث له، والذي لم يكن يعرف القراءة، استطاع أن يتواصل مع قلب طفلة لم يكن لها أي شيء مشترك معه، وهي التي كانت تملك كل شيء، بينما كان أطفاله لا يملكون شيئاً.
ومن أجل صالح وأطفاله، أحمل سوريا إلى العالم اليوم.
الفيس بوك
——————————
السعودية وسوريا الجديدة… نفوذ يتزايد ودور حاسم يُنتظر/ عبد الغني دياب
الاثنين 20 يناير 2025
في الأول من كانون الثاني/ يناير 2025، وصل وفد سوري يضم وزيرَي الخارجية والدفاع في الحكومة الانتقالية الجديدة إلى العاصمة السعودية الرياض، لتكون المملكة أول وجهة عربية لحكّام “سوريا الجديدة”. بعدها بأيام قليلة، استضافت الرياض مؤتمراً بمشاركات عربية ودولية، لبحث مستقبل سوريا، وتزامن مع تصريحات عن إيجابية العلاقات بين البلدين من مسؤولين في كل منهما.
اللافت للانتباه في مسار التقارب بين دمشق والرياض، أنّ الحضور السعودي في المشهد السوري، يأتي في أعقاب متغيّرات واسعة شهدتها المنطقة، يصفها الباحث المصري محمد سليمان، زميل برنامج الأمن القومي في “معهد أبحاث السياسة الخارجية” الأمريكي، بأنها أشبه بـ”سقوط جدار برلين في العام 1989، من حيث التبعات التي لا تتوقّف عند إعادة رسم خريطة سوريا فحسب؛ بل قد تُعيد تعريف ديناميكيات القوة في الشرق الأوسط، لا سيّما بعد أن أصبحت طموحات إيران في حالة يُرثى لها، وتفكّك مشروعها الإقليمي”.
عواقب عميقة الأثر
في مقال له نشره المعهد الأمريكي، يقول سليمان، إنّ سقوط نظام الأسد سوف يُخلِّف عواقب عميقةً على المنطقة في السنوات المقبلة، لافتاً إلى أنّ دول الخليج، وكذلك الولايات المتحدة، أصبحت تمتلك نفوذاً جديداً، مالياً ودبلوماسياً، داخل سوريا، ما قد يخوّله التأثير بشكلٍ فاعل في العملية السياسية في سوريا الجديدة.
وبخصوص الدور الذي يمكن أن تلعبه السعودية في المشهد السوري، يقول الباحث المصري المتخصص في الشؤون العربية، الدكتور مختار الغباشى، الأمين العام لمركز الفارابي للدراسات السياسية، إنّ المملكة تستطيع أن تستحوذ على نفوذ كبير في الساحة السورية، وهي قادرة على ملء الفراغ الذي خلّفه الانسحاب الإيراني من البلاد، منبّهاً إلى أنّ الرياض لديها من الإمكانيات ما يؤهّلها لأكثر حتّى من وراثة تركة إيران في سوريا، بل قد تتخطّى دور تركيا في الساحة السورية.
المكانة الدينية والقدرات المالية تعززان الحضور السعودي
يضيف الغباشي، لرصيف22، أنّ المملكة تتمتّع بمكانة أدبية ودينية في العالم العربي والإسلامي، وليس لدى السوريين وحدهم، كما أنها تمتلك مقومات ماليةً تستطيع من خلالها أن تعوّض سوريا أو غيرها وتغنيها عن حاجتها إلى أطراف إقليمية وأطراف دولية أخرى، ولديها شبكة علاقات إستراتيجية تربطها بالولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والكثير من الدول الغربية أيضاً.
ويصف الباحث المصري ما حدث في سوريا في كانون الأول/ ديسمبر 2024، بأنّه حدث تاريخي صعب تكراره، مشيراً إلى أنّ الانسحاب الإيراني خلّف فراغاً كبيراً، ويجب على القوى العربية الإقليمية أن تسعى لملء هذا الفراغ سريعاً، عادّاً أنّ الرياض تسعى إلى لعب هذا الدور بالفعل، وأنها قد تعزّز جهودها في هذا السياق بمزيد من الخطوات في المستقبل القريب، خاصةً إذا لم تركّز على من يتصدر المشهد في سوريا.
طهران خسرت جل نفوذها
وبخصوص صراع النفوذ الإيراني السعودي في المنطقة، يشرح الغباشي، أن “طهران الآن موجوعة، بعدما خسرت نفوذها إلى حد كبير في لبنان، وخسرته كليّاً في سوريا، خاصةً أن مسؤوليها كانوا حتّى وقت قريب يتفاخرون بأنه لا يمكن حل أي مشكلة في العواصم العربية الأربع (بيروت ودمشق وبغداد وصنعاء)، إلا عبر إيران”، مشدّداً على أنّ طهران “تكبّدت خسارة جيو-سياسيةً كبيرةً”.
ينبّه الغباشي، أيضاً، إلى أنّ لبنان الآن يختار رئيسه ورئيس حكومته بعيداً عن التدخلات الإيرانية، كما أنّ طهران لم يعد لها موطىء قدم في الساحة السورية، لأنّ الحكام الجدد في دمشق لديهم موقف معادٍ لإيران، لافتاً إلى أنّ تدخّل السعودية ربما يخدم الأمن القومي العربي في ظل صراع النفوذ الحالي على سوريا.
يتّفق معه الباحث الأردني الخبير في العلاقات الدولية، حازم سالم الضمور، مدير “مركز ستراتيجكس للدراسات والبحوث الإستراتيجية”، إذ يرى أنّ السعودية تستطيع لعب أكثر الأدوار أهميةً في المشهد السوري، وهو يعدّها “الدولة العربية الأولى المرشحة لذلك بحكم مكانتها الإقليمية والدولية”، مضيفاً أنّ من بين الأدوار المنوط بالرياض القيام بها، إعادة سوريا إلى المحيط العربي والدولي، وضمان توازن علاقاتها المستقبلية مع تركيا.
في تصريحات لرصيف22، يقول الضمور، إنّ أهم دور يمكن أن تلعبه السعودية في الساحة السورية، المساعدة في إعادة بناء دولة المؤسسات السورية على أسس جديدة، ومنع تقسيم البلاد، وعودة اللاجئين والمساعدة في تأهيلهم، وإنهاء ملف التدخّل في شؤون الدول العربية الأخرى، خاصةً لبنان، فضلاً عن إمكانية إحياء ملف المفاوضات السلمية على قاعدة المبادرة العربية للسلام، بحيث تُشكّل سوريا الجديدة جزءاً منه، بالإضافة إلى المساعدة في رفع العقوبات الاقتصادية السابقة عنها.
ضبط الحدود ومنع المواجهة مع إسرائيل
وعلى المستوى الاقتصادي، يتوقع الباحث الأردني أن تكون المشاركة السعودية فاعلةً في عملية إعادة الإعمار، وتأهيل الاقتصاد السوري، ودمجه في الاقتصادات العربية والإقليمية والدولية. كما أنها تستطيع، على المستوى الأمني، المساهمة في ضبط الحدود السورية مع الدول المحيطة، وعلى نحوٍ خاص مع الأردن، من أجل القضاء على ظاهرة تهريب المخدرات والسلاح، ونزع فتيل المواجهات المسلّحة مع إسرائيل، ومنع تحول سوريا إلى قاعدة للمجموعات المسلحة العابرة للحدود.
ويرى الضمور، أنّ ملء السعودية للفراغ الحاصل جرّاء الانسحاب الإيراني “سلوك طبيعي”، ويكاد أن يكون “تحصيل حاصل”، حيث أنّ الدور الإيراني في سوريا شكل تحدّياً للإجماع العربي والمصالح القومية العربية، كما أنّ سعي الرياض في هذا الملف يعزّز من الحضور العربي الإقليمي في موازاة الأدوار الإيرانية والتركية والإسرائيلية، مشيراً إلى أنّ السعودية قادرة على فعل ذلك، لكن تلك القدرة وحدها لا تكفي، حيث تحتاج إلى قبول سوري، وتعاون عربي، وتفاهمات إقليمية ودولية.
وعلى الرغم من النظرة الإيجابية إلى العلاقات السورية السعودية في مرحلة ما بعد الأسد، إلا أنّ الضمور، يرى أنّ الرياض ربما تراقب في هدوء الأداء العام في دمشق، خصوصاً في ظل التخوّفات من شكل الإدارة الانتقالية الحالية وخلفيتها الجهادية وسجلها الإجرامي القديم، مشيراً إلى أنه لن يُسمح بتحويل سوريا إلى “أفغانستان جديدة”، لاختلاف الوضع وأهمية موقعها الإستراتيجي، ولأنه في حال سيطرت مجموعات أصولية مسلحة، والتي عادةً ما تتبع تنظيمات إرهابيةً مثل “القاعدة”، عليها فإنّ ذلك تكون له تبعات خطيرة على الأمن الإقليمي، وأيضاً على العلاقات مع دول الجوار. ويستشهد للتدليل على ذلك، بواقعة المصري أحمد المنصور، الذي حارب في صفوف فصائل المعارضة السورية المسلحة ثم انتهز فرصة إسقاط نظام الأسد وأعلن عن تأسيس تنظيم مضاد للحكومة المصرية قبل أن يتم توقيفه.
قلق من الإسلام السياسي
وعلى عكس هذه التوقّعات الإيجابية، ترى وحدة الدراسات السياسية في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، في مقال حديث لها، أنّ السعودية قد تتبنّى نهجاً أكثر حذراً، في تعاملها مع الإدارة السورية الجديدة، خاصةً أن هيئة تحرير الشام كانت في طليعة الجهود الأخيرة التي أطاحت بنظام الأسد، ويتصدّر قادتها المشهد السياسي في البلاد الآن، وهو ما قد يسمح بعودة تيار الإسلام السياسي، لحكم البلد الذي يُعد من أهم دول المنطقة.
وتشير الوحدة إلى أنّ السعودية تدرك مدى أهمية سوريا المستقرة والموحّدة، لذا فإنها ستدعم الحفاظ على الاستقرار الإقليمي، وتعزيز نهاية النفوذ الإيراني، وضمان عدم تحوّل سوريا إلى منصة لإثارة عدم الاستقرار الإقليمي، أو منصة لتصدير نموذج إسلامي يهدد استقرار الأنظمة العربية الأخرى، مؤكدةً أنّ الترحيب السعودي بما حدث في دمشق يشير إلى الرغبة في لعب دور محوري في تشكيل مستقبل سوريا.
وبعيداً عن إيران التي انسحبت من المشهد السوري راهناً، يبرز الدور التركي أيضاً، حيث تسعى أنقرة هي الأخرى إلى استغلال حالة الفراغ لتوسيع دائرة نفوذها عبر حلفائها في الداخل السوري، وهو ما قد يصطدم مع أي دور عربي في المستقبل، وهو أحد السيناريوهات المحتملة، وفقاً لجوزيه بيلايو، المدير المساعد لمبادرة سكوكروفت للأمن في الشرق الأوسط التابعة للمجلس الأطلسي.
في مقال له، يلفت بيلايو، إلى أنّ الأنظمة الخليجية كانت قد بدأت التطبيع مع نظام الأسد، ولدى سقوطه تُركت دول الخليج خالية الوفاض، إلا أنّه على الرغم من ذلك توجد فرصة هائلة لتوحيد القوى وممارسة نفوذ كبير -سياسي ومالي- في مستقبل سوريا، لا سيّما إذا ما نجحت في التكيّف مع الدور التركي المتزايد في البلاد.
وينبّه إلى أنّ هذه التحرّكات الخليجية تشكّل إشارةً إيجابيةً إلى أنّ الدول التي طبّعت مع الأسد من المرجح أن تتعامل بشكل عملي مع حقائق سوريا الجديدة، لافتاً إلى أنّ أنقرة قد ترحّب بدور عربي في سوريا كونها لا تستطيع وحدها تحمّل فاتورة إعادة إعمارها، مردفاً أن التعاون مع دول الخليج من شأنه أن يجلب الشرعية والموارد المالية الأساسية لجهود إعادة الإعمار.
مخاوف من الصعود التركي و”عودة إيرانية”
إلى ذلك، يرى الباحث في برنامج الأمن القومي في معهد أبحاث السياسة الخارجية الأمريكي، محمد صالح، أنّ البعد الإقليمي للصراع السوري معقّد للغاية، حيث تتنافس العديد من الأطراف على النفوذ في البلاد، وفي مقدمتها تركيا التي تبرز باعتبارها المستفيد الرئيسي من سقوط الأسد، وكذلك دول الخليج التي سارعت إلى التواصل مع السلطة الانتقالية في دمشق.
ويضيف، في مقال له، أنّ المملكة والإمارات والأردن، تنظر بقلق إلى صعود تركيا في سوريا، لا سيّما إذا ما رُبِط ذلك بطموحات العثمانية الجديدة، وصعود جماعات الإسلام السياسي. وبما أنّ تركيا تفتقر إلى الوسائل المالية لتمويل إعادة إعمار سوريا، فإنّ دول الخليج، بمواردها المالية الهائلة، تضع نفسها لاعباً رئيسياً في هذا المضمار.
كما يتخوّف الباحث من محاولات طهران استعادة نفوذها في سوريا من خلال تواجدها على طول الحدود العراقية السورية، لافتاً إلى أنّ وجود فصائل من الحشد الشعبي الموالية لإيران على طول الحدود البالغ طولها 600 كيلومتر، قد يوفّر لطهران مساحةً للمناورة في سوريا على الرغم من النكسات الأخيرة.
رصيف 22
———————————
=====================