سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعمن ذاكرة صفحات سورية

كيف “سرق الغرب الديمقراطية من العرب :المؤتمر العربي السوري عام 1020 ” ملف من اعداد موقع “صفحات سورية”

كيف سرق الغرب الديمقراطية من العرب :المؤتمر العربي السوري عام 1920 وتدمير تحالفه الليبرالي الإسلامي التاريخي

(HOW THE WEST STOLE DEMOCRACY FROM THE ARABS :The Syrian Arab Congress of 1920 and the Destruction of Its Historic Liberal-Islamic Alliance)

كتاب :” كيف سرق الغرب الديمقراطية من العرب: المؤتمر العربي السوري عام 1920 وتدمير تحالفه الليبرالي الإسلامي التاريخي ” الصادر سنة 1920م للمؤرخة إليزابيث ف. تومسون (Elizabeth F. Thompson) التي تعمل أستاذة كرسي محمد فارسي للسلام الإسلامي في كلية الخدمة الدولية بالجامعة الأميركية (بواشنطن) والمختصة بدراسة الشرق الأوسط يقدم صورة غير نمطية للفكر الغربي عن  العالم العربي  حيث ترى مؤلفة الكتاب أن العرب عرفوا تجربة ديمقراطية مميزة تجسدت في سوريا، وبالضبط في الثامن من مارس/آذار 1920، حيث أصدر البرلمان السوري إعلان الاستقلال باسم الشعوب الناطقة بالعربية القاطنة في سوريا الكبرى (التي تضم اليوم لبنان وسوريا والأردن وفلسطين).  حيث انضم العرب في الحرب العالمية الأولى، -والسوريون بالتأكيد من بينهم- إلى الحلفاء في حربهم ضد الدولة العثمانية، كما احتضنوا مبادئ ويلسون للحرية، وكان إعلان استقلال سوريا -حسب رؤية المؤرخة -متوافقا مع قيم المساواة والحرية، وسعت سوريا بذلك إلى كسب مكان لها داخل “المجتمع الدولي” إلى جانب بولندا وتشيكوسلوفاكيا ودول قومية أخرى نالت استقلالها وتمكنت من تأسيس دولة حديثة.

وتدلل  إليزابيث ف. تومسون (Elizabeth F. Thompson) على رأيها هذا بإسقاط الضوء على دور الشيخ رشيد رضا ناشر المجلة الإسلامية “المنار”، الذي ترأس البرلمان السوري عام 1920. هذا البرلمان الذي صادق على دستور لـ”ملكية برلمانية مدنية”، وكان معظم نوابه من سياسيي العصر العثماني، ممن دعموا الثورة الدستورية العثمانية عام 1908. وقد عد هذا الدستور محاولة لإحياء الحكومة الدستورية بعد فترة الحكم العسكري الذي قامت به تركيا الفتاة 1913-1918. كما كان هذا الدستور أيضا نسخة مختلفة جذريا عن الدستور العثماني، ويتجلى ذلك في مجموعة من النقاط منها أنه  منح سلطة أكبر للهيئة التشريعية في حين قلل سلطة الملك، كما أن سلطات الملك فيصل حينئذ كانت مستمدة من البرلمان السوري ولم تستند إلى شرعية الدم أو الدين.كما ألغى  أي ربط بالإسلام باعتباره دينا للدولة أو مصدرا للتشريع، وكان الأمر الملزم للملك فيصل هو احترام “الشرائع الدينية” فقط، وكتب رضا وآخرون في عام 1920 أنهم يسعون إلى المساواة الكاملة بين جميع المواطنين، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية. فضلا عن ذلك، اعتقد رضا أن هناك حاجة إلى تشريع علماني بخصوص الأمور المرتبطة بالمصلحة العامة، وعلى عكس الإسلاميين الذين تلوه لم يكن رضا يعتقد أن الشريعة الإسلامية تشمل جميع مجالات القانون.

ووفقا للكاتبة فقد كان الدستور السوري لعام 1920 أكثر الدساتير ديمقراطية في العالم العربي على الإطلاق؛ من حيث احتوائه على حزمة من الحقوق، والوعود بحماية حق التعبير والتجمع والرأي والتعليم والملكية الخاصة، وتوسيع نطاق الاقتراع ليشمل كل الذكور الذين تبلغ أعمارهم 20 ربيعا فما فوق. وفي هذه التجربة كادت النساء تحصل على حق التصويت، إذ أيّدت أغلبية أعضاء البرلمان حق المرأة في التصويت، لكن المعارضة الشديدة التي أبداها المحافظون أجبرت البرلمان السوري على تأجيل هذه المسألة. وكذلك ساوى بين المسلمين والمسيحيين وبقية الأطياف الدينية؛ ولم يتجلّ ذلك فقط بعدم النص على الإسلام في الدستور على أنه دين للدولة (الدستور كان يوصي بإسلام الملك فقط)، ولكن أيضا من خلال ضمان مقاعد في الهيئات التشريعية لغير المسلمين. وكانت الهيئة التشريعية مستقلة عن السلطة التنفيذية؛ حيث لم يكن من الممكن للملك حل المجلس التشريعي إلا في حالات الطوارئ القصوى، وكان رئيس الوزراء مسؤولا أمام الهيئة التشريعية بدل أن يكون مسؤولا أمام الملك كما تبين الكاتبة بأن الدولة السورية اتسمت بلا مركزية؛ حيث تمتعت فيها المحافظات باستقلالية كبيرة تنتخب مجالسها التشريعية مستقلة عن دمشق

وتخلص  إليزابيث ف. تومسون (Elizabeth F. Thompson) أن  الاحتلال  الفرنسي  لدمشق عام 1920 هو المسؤول عن تقويض الدعم الشعبي لليبرالية؛ فقد فقد السوريون بسببه إيمانهم بالليبرالية باعتبارها ضامنا للحقوق العالمية للإنسان. فبعد فرض الانتداب على سوريا ولبنان والعراق وفلسطين وشرق الأردن، أصبحت الليبرالية أيديولوجية النخب التي تعاونت مع البريطانيين والفرنسيين فقط.

وبالتالي تعتقد المؤرخة في كتابها أن  رشيد رضا قدد حقق في عشرينيات القرن الـ20 الغاية التي سعى إليها العرب عبر انتفاضاتهم عام 2011؛ المتمثلة في الديمقراطية، و أنجز ذلك بفعل تعاونه مع الفقهاء بدل قمعهم. وفي الواقع، التناقض بين سوريا وتركيا مذهل جدًّا، ففي الوقت الذي لم يعد السوريون ينظرون فيه إلى الإسلام على أنه دين للدولة وفق مقاربة توافقية انتظم فيها الفقهاء في عام 1920، فإن تعامل مصطفى كمال (أتاتورك) مع الإسلام في ظل جمهورية تركيا كان قائما على قمعه وصدامه مع الزعامات الدينية بتركيا.

وترى المؤلفة في كتابها أن الغرب استنكر مجهودات سوريا في تأسيس تجربة ديمقراطية ليبيرالية داخل المنطقة العربية. حيث أجهض تجربة سوريا الديمقراطية الرائدة حينئذ. ولم يدمروا فقط المملكة العربية السورية بوصفها دولة؛ ولكن سعو أيضا إلى تدمير الديمقراطية في المنطقة العربية جمعاء؛ إذ أثبتت الحكومة التي أسّست في دمشق أن العرب تمتعوا بالقدرة التامة على حكم أنفسهم بطريقة ديمقراطية حديثة، وهو ما شكل تهديدا للإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية. حيث أن ذلك من شأنه أن  يبرهن على أن سبب احتلالهم للعرب والمسلمين (وشعوب آسيا وأفريقيا الأخرى) قائم على فرضية خاطئة مفادها أن غير الأوروبيين ليسوا مؤهلين لحكم أنفسهم وفق منهج ديمقراطي. وعليه تواطأ البريطانيون والفرنسيون بغية رفض مطالب السوريين الرامية إلى امتلاك الحق نفسه والقدرة السياسية ذاتها على غرار التشيك وبولندا ويوغوسلافيا، باعتبارها دولا حصلت على استقلالها في مؤتمر باريس للسلام.

وتؤكد المؤرخة أن السوريين نظروا لأنفسهم على أنهم أناس متحضرون يتمتعون بخبرة سياسية حقيقية كمواطنين داخل السلطنة العثمانية؛ إذ انتُخِب ممثلون لهم في البرلمان العثماني وشغلوا مناصب مهمة ضمن جهاز الحكم والبيروقراطية داخل الدولة العثمانية. وعليه فقد صدموا من نظرة الأوروبيين إليهم، وسعيهم لمحاولة وضعهم تحت نظام انتداب داخل عصبة الأمم، وجعلهم على قدم المساواة مع رعايا الإمبراطورية الألمانية في أفريقيا والمحيط الهادي، الذين لم يعرفوا وجود جهاز دولة من قبل، على عكس السوريين الذي عاشوا داخل دولة حديثة مثل الدولة العثمانية.كما تحاجج المؤلفة في كتابها على أن البريطانيين والفرنسيين لجؤوا إلى مقاربة عنصرية لتسويغ احتلالهم سوريا الكبرى والعراق بعد الحرب العالمية الأولى. لقد جادلوا بأن العرب المسلمين اتسموا بالتعصب الديني، وأن ذلك تجلى في استباحتهم لدماء المسيحيين العرب على غرار مذبحة الأتراك ضد المسيحيين الأرمن. كانت مساعي الملك فيصل ترمي إلى دحض هذا الادّعاء في باريس، مؤكدا أن المسلمين والمسيحيين العرب واليهود تعايشوا بسلام مدة طويلة.

لقد برهنت المؤرخة في كتابها من خلال ما أوردته من أدلة دامغة على أن  ما حدث عام 1920 كان حقا “لحظة ديمقراطية” في دمشق؛ تظاهرت فيها حشود شعبية غفيرة مؤيدة للبرلمان السوري وإعلانه الاستقلال. إذ تمتع التيار الليبرالي بقاعدة دعم شعبية واسعة، ووعد البرلمان السوري بوضع دستور يمكن اعتباره “سلاحا مدنيا” ضد الاستعمار. وقد أثبت السوريون بذلك جدارتهم وتحضرهم لالتجائهم إلى المقاربة التشريعية بدل استخدامهم السلاح (وهي استراتيجية جيدة بحكم أن السوريين لم يملكوا جيشا على عكس مصطفى كمال). وزعم المؤتمر أن تشكيل حكومة دستورية سيكسب سوريا حقها الدولي في تقرير المصير وامتلاكها عضوية بين الدول المتحضرة التي شكلت عصبة الأمم.

وتصل  إليزابيث ف. تومسون في نهاية كتابتها إلى نتيجة نهائية مفادها أن  تدمير التجربة الديمقراطية في سوريا عام 1920 وكذلك تعاون النخب الليبرالية السورية مع الفرنسيين والبريطانيين هو ما مهد لتشكل الجماعات السياسية الإسلامية داخل شرائح واسعة في سوريا؛ حيث أدارت الليبرالية النخبوية ظهرها للمساواة والحقوق الاجتماعية، في حين قام القادة الإسلاميون الذين دعموا مؤتمر 1920 بمعارضة النخب العلمانية في عشرينيات القرن الماضي وثلاثينياته

——————————–

لتحميل بحثا مهما  عن “كيف سرق الغرب الديمقراطية من العرب”

كيف سرق الغرب الديمقراطية من العرب

———————————

اليزابيت تومسون في: «كيف سرق الغرب الديمقراطية من العرب»: هل الاعتماد على مبادرات القيادة الأمريكية الحالية سيكون مجديا؟/ سمير ناصيف

غالبية الخبراء في شؤون الشرق الأوسط يدركون الدور السلبي الذي لعبته بريطانيا وفرنسا في مطلع القرن العشرين، وخصوصاً بعد الحرب العالمية الأولى، لمنع نشوء دولة عربية مستقلة تعتنق المبادئ الديمقراطية في سوريا بقيادة الأمير فيصل، نجل الشريف حسين، حليفهما الرئيسي في المنطقة، الذي قلَبَ الأمور لمصلحتهما ضد ألمانيا وحلفائها في تلك الحرب مقابل وعدٍ من بريطانيا بالموافقة على نشوء ما سمي الدولة العربية السورية الكبرى.

ولدى دخول الأمير فيصل الهاشمي إلى دمشق عام 1918 وبدء إنشاء دولة سوريا الكبرى تراجع الحليفان الفرنسي والبريطاني عن الوعد وجرى تعطيل إمكانية تحقيقه.

إلا أن الأمر اللافت في كتاب المؤرخة الأمريكية اليزابيت. ف. تومسون بعنوان «كيف سرق الغرب الديمقراطية من العرب» هو مدى تركيزها وتوضيحها للدور الأمريكي «الإيجابي» لمواقف الرئيس الأمريكي الراحل وودرو ويلسون في محاولة معارضة الدور التعطيلي الاستعماري لمحاولات إنشاء مثل تلك الدولة في سوريا، ومدى سعيه لوصول الديمقراطية بشكل يتوافق مع المبادئ الأخلاقية المعتمدة في بعض دول الغرب إلى دول العالم الأخرى، من خلال نجاح التجربة الديمقراطية في دولة سوريا الحرة بقيادة الأمير فيصل. وبالتالي، يمكن الاستنتاج عبر هذا الكتاب الغني بالمعلومات التاريخية المفيدة والموثقة بأن أمريكا في عهد ويلسون كانت تحبذ تعاون القيادات العلمانية مع القيادات الدينية الإسلامية لإنشاء مثل هذه الدولة في العالم العربي، ولكن الاستعمار الفرنسي والبريطاني فضّلَ تعطيل ذلك المشروع خشية من تهديده مصالح الدولتين الاقتصادية وعملية فرض هيمنتهما على ثروات المنطقة الطبيعية وتحقيق ما وعدتا به في اتفاقية «سايكس ـ بيكو» و«وعد بلفور».

فعندما أعلن الأمير فيصل استقلال دولة سوريا من جانب مجلس شعبها في 8 آذار (مارس) 1920 وتنصيبه ملكاً، رفضت الدولتان الاستعماريتان ذلك وفرضتا بالقوة العسكرية مشروع انتداب في سوريا ولبنان والعراق وفلسطين بحجة عدم استعداد العرب لتقرير مصيرهم آنذاك. وفشلت الولايات المتحدة والوفود والبعثات التي أرسلتها إلى مؤتمري فرساي في باريس في أواخر عام 1918 وسان ريمو في إيطاليا في عام 1920 في منع هيمنة فرنسا وبريطانيا على القرار، لأن أمريكا في تلك المرحلة لم تكن تملك القوة العسكرية والسياسية لفرض موقفها.

-تومسون-سمير-ناصيف

اليزابيت تومسون إستاذة في تاريخ الشرق الأوسط الحديث في القسم المخصص لقوات الخدمات الدولية العامة في الجامعة الأمريكية في الولايات المتحدة، عاشت فترة في سوريا وأجرت أبحاثاً معمقة هناك وأهدت كتابها هذا إلى الشعب السوري وإلى ثوراته السابقة واللاحقة التي سعت (برأيها) وتسعى نحو الديمقراطية والاستقلال الفعلي.

تؤكد في مقدمة كتابها ان مجلس الشعب السوري عندما أطلق دستوره الديمقراطي في عام 1920 وأعلن استقلال سوريا كان يتحدث عن استقلال «سوريا الكبرى» التي تضم سوريا ولبنان والأردن وفلسطين وأنه استوحى بعض قيم هذه المبادرة من النقاط الأربع عشرة، الواردة في إعلان الرئيس وودرو ويلسون في تفسيره لأهداف دخول أمريكا في الحرب العالمية الأولى.

وقد حضرَ ويلسون مؤتمر فرساي في باريس الذي صدرت قراراته في مطلع عام 1919 محاولا التبشير بالسلام في العالم، بعد أربعة أعوام من المذابح، بينما كان القادة البريطانيون والفرنسيون الذين حضروا (حسب المؤلفة) في واردٍ آخر، ألا وهو تنفيذ التقسيم الجغرافي للمنطقة وتقديم الوعود الكاذبة للأمير فيصل ولمشروع الدولة العربية تحت قيادته. وقدّم الرئيس الأمريكي ويلسون بعض التنازلات لدول «التحالف» الاستعمارية (برأي تومسون) من أجل تأمين دعمهم لمشروع «عصبة الأمم» الذي كان في طور إنطلاقه من أجل ضبط عدم وقوع الحروب المدمرة في المستقبل. وتركيز هذا المشروع كان على الاستقلال وتقرير المصير لشعوب العالم. وقد أرسل ويلسون بعثة «كرين ـ كينغ» إلى سوريا لاستطلاع رأي الشعب السوري حول هذا الموضوع في عام 1919 ولكن إصابة الرئيس الأمريكي بجلطة في تلك السنة أثرت سلباً على مشروعه ما سهل الغزو العسكري الفرنسي لسوريا عام 1920 وخصوصاً بفضل تواطؤ بريطانيا معها مقابل تنازل فرنسي عن هيمنة بريطانيا في العراق وفلسطين.

وتؤكد المؤلفة ان القيادتين الفرنسية والبريطانية آنذاك استخدمتا «مشروع عصبة الأمم» لتبرير احتلالهما وانتدابهما المفروضين بالقوة على سوريا وباقي المناطق التي كانت تحت حكم الدولة العثمانية ولمواجهة الاحتجاجات الشعبية التي انطلقت ضد المشاريع الاستعمارية. وبالتالي، تحول مشروع الأمير فيصل التوحيدي بين العلمانيين والإسلاميين الديمقراطيين إلى مشروع انقسام قطفت ثماره النخب العسكرية الديكتاتورية التي حكمت معظم دول المنطقة منذ أربعينيات القرن الماضي وحتى الساعة.

وتشير تومسون إلى ان أبحاثها التي تمخضَ عنها هذا الكتاب ساهمت في فهمها «الربيع العربي» في المنطقة حالياً، فالتعاون بين رجال الدين على شاكلة رجل الدين الإصلاحي رشيد رضا، الذي كان رئيساً لمجلس الشعب في سوريا عام 1920 مع القياديين العلمانيين والمحافظين في دمشق، جرى إجهاضه مثلما يجري إجهاض مثل هذا التعاون حالياً بهدف بث الانقسام بين العلمانيين والإسلاميين في شتى أنحاء العالم العربي والإسلامي.

من أهم فصول هذا الكتاب، الفصل الحادي عشر، حيث تتحدث تومسون عن «تطويق» مبادئ الرئيس وودرو ويلسون من قِبَل بريطانيا وفرنسا وحلفائهما وعن شن الصحف الفرنسية والبريطانية آنذاك حملة تشهير لمشروع الأمير فيصل العربي، خلال وبعد مؤتمر سان ريمو فيما حاولت جهات أمريكية إعلامية وأكاديمية دعم مشروع فيصل وبينها عائلة رئيس «الكلية السورية البروتستانتية في بيروت» (لاحقاً الجامعة الأمريكية) هوارد بلس. فقد مَثَل وشهد هوارد بلس أمام الكونغرس الأمريكي داعماً مشروع تقرير المصير في الدولة السورية الناشئة (وذلك عام 1919) فيما كتبَ شقيقه فردريك جونز بلس مقالات في صحيفة «نيويورك تايمز» لدعم المشروع السوري وعبّر عن ثقته بأن الأمير فيصل سيُنشئ دولة عصرية ديمقراطية في المنطقة.

كما وقف الحزب الاشتراكي الفرنسي ضد مشاريع قيادة بلاده من الأحزاب الاستعمارية المحافظة وعلى رأسها رئيس الوزراء (الذي أصبح رئيساً للجمهورية عام 1920) الكسندر ميليران، ورئيس الوزراء جورج كليمنصو (الذي خضع لمشاريع نظيره البريطاني لويد جورج بعدما حاول طرح مشروع تفاوضي لسوريا) والمسؤول الفرنسي في وزارة الخارجية روبير لاكيه الذي عطّل أي مبادرات تفاوضية مع دولة الأمير فيصل العربية والجنرال هنري غورو الذي قاد الغزو الفرنسي لسوريا وعملية احتلال دمشق عام 1920.

صعوبة المشكلة للرئيس وودرو ويلسون كانت أن الكونغرس الأمريكي الذي أصبحت أكثريته من الجمهوريين، (بينما هو من الحزب الديمقراطي) رفض في تصويت 19 آذار (مارس) 1920 الاتفاقية التي وُقّعت في فرساي، والتي قدمت الوعود (التي تبين انها كاذبة لاحقاً) بدعم الدولة السورية العربية الجديدة بقيادة فيصل.

كما حولت بريطانيا (حسب المؤلفة) طبيعة «عصبة الأمم» إلى مجموعة دول تتخذ قراراتها السيادية بدلاً مما رغب فيه ويلسون بان تكون أداة دولية ضابطة ومانعة للحروب. (ص 183)

كما كان روبرت لانسينغ (وزير الخارجية في حكومة ويلسون) قد أشار إلى رئيسه بان مشروع انتداب الدول العظمى الكبرى المنتصرة في الحرب لم يحدد هوية الجهة التي تمسك فعلياً بالسلطة في الدول المنتدب عليها، وهذا إخفاق خطير وكبير، إذ ظلت فرنسا (الاتفاق مع بريطانيا) تستخدم هذا الغموض المشروع كحجة للهيمنة على نظام دولة الأمير فيصل العربية والأنظمة الأخرى التي فُرضَ الانتداب عليها.

بالتالي، طرح اللورد كيرزون (المسؤول البريطاني) بالاتفاق مع الجهات الفرنسية المؤيدة لاستمرار الهيمنة الفرنسية ـ البريطانية تساؤلات حول الاعتراف بسلطة الأمير فيصل كملك على سوريا، وشكك البريطانيون والفرنسيون بقرار الاستقلال السوري في آذار (مارس) 1920 معتبرينه سبباً مبرراً للمواجهة العسكرية الفرنسية مع الدولة السورية الوطنية وهزيمتها عسكرياً واغتيال مناضليها وقادتها الميدانيين. الواقع (برأي المؤلفة) أن فرنسا وبريطانيا كانتا تطبقان اتفاقية «سايكس بيكو» و«وعد بلفور» من وراء ظهر الرئيس الأمريكي ويلسون وقيادته.

وتقول انه في أول نيسان (ابريل) 1920 وجّه الأمير فيصل رسالة إلى الرئيس ويلسون ناشده فيها بمساعدة سوريا على الخروج من المأزق الذي وضُعت فيه، ولكن ويلسون لم يستطع الاستجابة لمطالبه، فقد أدت إصابة الرئيس الأمريكي بالجلطة إلى وضع ملف «لجنة كرين ـ كينع» على الرفوف وخصوصاً بعد مناسبة تصويت الكونغرس الأمريكي ضد مقترحات ويلسون حول حق تقرير المصير وتطويق مبادراته الديمقراطية في «مشروع عصبة الأمم».

وحاول مساعدو الأمير فيصل (وبينهم معاونه اللبناني رستم حيدر) الاتصال باللورد كيرزون (المسؤول في وزارة الخارجية البريطانية) لتعديل الموقف البريطاني من الدولة السورية لكون فرنسا ربطت اعترافها بفيصل بموافقة بريطانيا. ولكن هذه المبادرات لم تحقق أي نتائج وخصوصاً بعدما أصبح القرار الفرنسي بيد الرئيس ميليران. (ص 187). ورأي ميليران أن «نظاماً عسكرياً تتحكم به قوة أجنبية أصبح مفروضاً في سوريا». ولم تعارض بريطانيا هذا الموقف الفرنسي المنحاز بشدة برغم استمرار الحديث مع مندوبي الأمير فيصل غير المؤدي إلى نتيجة.

وكل ذلك كان يجري قبل أيام من انعقاد مؤتمر سان ريمو في منتصف وأواخر نيسان (ابريل) 1920.

ولسوء الحظ، توفي هوارد بلس خلال تلك الفترة ونعاه كبار قادة سوريا كأحد أصدقاء الدولة العربية السورية في أمريكا (حسب المؤلفة) وخسرت دولة سوريا مؤيداً بارزاً لها. كما لم يحضر الأمير فيصل مؤتمر سان ريمو، ورفض الشريف حسين (والده) أي صلات من جانب عائلته مع ذلك المؤتمر. ولم يعد لمن حضروا من الجانب العربي أي صفة رسمية. كما ركزت أجندة المؤتمر على قضية التهديد التركي للأرمن وقضايا إخرى متعلقة بتقسيم الثروة النفطية العربية بين الدول الكبرى الاستعمارية. وطُرح موضوع «وعد بلفور» للبحث فأكد اللورد كيرزون على استمرار التمسك بوعد بريطانيا لليهود بإقامة دولة لهم في فلسطين (ص 192). كما عارض كيرزون حضور الأمير فيصل حتى بعد اتخاذ المؤتمر قراراته بشأن إنشاء الدولة اليهودية في فلسطين خشية من استخدام فيصل «السلبي» لهذه القضية. (ص 193).

وتقول الكاتبة ان الصهاينة احتفلوا بقرارات مؤتمر سان ريمو، كما احتفلت فرنسا بترجيح القرار لمواقفها في الشأن السوري، علماً بان الحاخام صموئيل وايز كان قد ساهم (حسب قولها) في تسهيل حدوث مقابلة غير مثمرة جرت في كانون الثاني (يناير) عام 1919 بين الأمير فيصل مع الرئيس ويلسون، والتقى الأمير فيصل بعدها مع حاييم وايزمان، أحد كبار قادة الحركة الصهيونية العالمية. واعتبرت الكاتبة ان دوافع الأمير فيصل آنذاك كانت لامكان ربط اعتراف الولايات المتحدة بالدولة السورية العربية باعترافها المتوقع بإقامة دولة يهودية في فلسطين. أما تريث ويلسون في مقابلة فيصل (قبل ضوء وايز الأخضر) فكان لإرضاء اللوبي الصهيوني المؤيد (منذ ذلك الحين) للحزب الديمقراطي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية وانتخابات الكونغرس الأمريكي.

والسؤال الآن، هل هناك تشابه لما يمكن أن يحدث حالياً بين القيادات الفلسطينية والعربية مع رئاسة جوزف بايدن للولايات المتحدة الأمريكية؟ أي هل أن الاعتماد على مبادرات القيادة الأمريكية الديمقراطية الحالية سيكون مجدياً أو مشابهاً لاعتماد العرب سابقاً على قيادة الرئيس وودرو ويلسون الديمقراطية والليبرالية؟ وهل سيذهبون إلى التفاوض مع خصومهم الذي ربما قد لا يؤدي إلى نتيجة في مصلحتهم، أو هل سيقومون بخيارات أخرى؟

Elizabeth F. Thompson: «How the West Stole Democracy from the Arabs»

Grove Press, London 2020

466 pages.

القدس العربي

————————-

مؤلفة أميركية تحاول الإجابة عن سؤال القرن الماضي.. كيف سرق الغرب الديمقراطية من العرب؟/ عمران عبد الله

في 8 مارس/آذار 1920، أصدر “المؤتمر السوري العام” إعلان الاستقلال باسم الشعوب التي تتحدث العربية وتعيش في سوريا الكبرى، والتي تضم دول لبنان وسوريا والأردن وفلسطين، وخلال الحرب العالمية الأولى قاتل العديد من العرب السوريين مع قوات الحلفاء، ما ساهم في وضع نهاية للحرب.

وصدر حديثا عن منشورات أتلانتيك لعام 2020 كتاب “كيف سرق الغرب الديمقراطية من العرب: المؤتمر العربي السوري لعام 1920 وتدمير التحالف التاريخي الليبرالي-الإسلامي” للمؤلفة والأكاديمية الأميركية إليزابيث طومسون.

واعتبرت طومسون في كتابها الذي أهدته ”إلى كل السوريين“ أن كثيرا من النخب العربية في بلاد الشام اعتنقت قبل قرن من الزمان مبادئ الرئيس الأميركي وودرو ويلسون في “الحرية وحق تقرير المصير للدول الكبرى والصغرى على حد سواء، وضمان الاستقلال على أساس الحقوق المتساوية، ونبذ سياسة الغزو والاستعمار”.

وكان المؤتمر السوري قد وضع بالفعل دستور ملكية برلمانية ديمقراطية يمكن أن تكون نظيرا لبولندا وتشيكوسلوفاكيا ودول أخرى استقلت عن الإمبراطوريات الروسية والنمساوية والعثمانية التي هزمت في الحرب العالمية الأولى، لكن فرنسا ودولا غربية أخرى اجتمعت في مؤتمر باريس للسلام عام 1919 وكان لها رأي آخر.

الديمقراطية العربية

ويروي كتاب المؤرخة وأستاذة تاريخ الشرق الأوسط الحديث في الجامعة الأميركية، قصة لحظة محورية في تاريخ العالم الحديث، عندما أصبحت الديمقراطية التمثيلية خيارا سياسيا للعرب، بينما اعتبرها الغرب تهديدا لمصالحه الاستعمارية وتعمد تضييعها.

وصدرت المؤلفة الكتاب بخريطتين إحداهما للأراضي التي اعتبرها الأمير فيصل “بلاد الشام” أو سوريا الطبيعية عام 1919، وتضمنت القدس وحيفا وطرابلس وبيروت ودمشق ودرعا وعمان وحمص وحلب والرقة ودير الزور والجوف، وفي الخريطة الثانية عرضت تقسيم الأراضي الذي رعته بريطانيا وفرنسا لبلاد الشام والعراق في يوليو/تموز 1922 في عصبة الأمم، وهو التقسيم الذي يكاد يتطابق مع الوضع الحالي لبلاد سوريا والعراق ولبنان والأراضي الفلسطينية.

يحكي الكتاب قصة المؤتمر العربي السوري لعام 1920، الذي صاغ وصدّق على ما وصفته بالدستور الأكثر ديمقراطية حتى الآن في العالم العربي المستوحى من المبادئ الـ 14 للرئيس الأميركي وودرو ويلسون (1846-1924).

ومتأثرا بالخوف من الاحتلال من قبل فرنسا، شكّل المجلس السوري تحالفا تاريخيا بين الليبراليين والقادة المسلمين المحافظين، باسم الحرية والمساواة وبمباركة رجال الدين المسلمين.

وتجادل طومسون بأن المستعمرين الأوروبيين خشوا أن تهدد الديمقراطية العربية حكمهم في شمال أفريقيا وسهولة وصولهم إلى النفط في العراق والخليج، لذلك قرر قادة مؤتمر باريس للسلام، بالتعاون مع عصبة الأمم الجديدة، تدمير “النظام الديمقراطي” الوليد في دمشق.

وتتابع المؤلفة معتبرة أن احتلال فرنسا لسوريا أدى إلى تشويه سمعة الليبرالية في العالم العربي، وفي ظل هذه الظروف، انفصلت النخب العلمانية والإسلامية عن بعضها بعضا وانقسمت، ما رسخ استقطابا سياسيا حادا بين الإسلاميين والليبراليين استمر في إضعاف النضال ضد الدكتاتورية بعد قرن من الزمان في زمن الربيع العربي وما بعده.

إلهام الواقع

وفي حوارها مع موقع جدلية قالت طومسون إنها قررت الشروع في الكتاب في أغسطس/آب 2013 بالتزامن مع “مذبحة الإخوان المسلمين في القاهرة التي أصبحت علامة مميزة لنهاية التحالف الثوري بين الإسلاميين والليبراليين العلمانيين، والمسلمين والمسيحيين، الذي حشد ميدان التحرير وأسقط الدكتاتور حسني مبارك”. وبعد ذلك تحولت الانتفاضة السورية ضد بشار الأسد لحرب أهلية، على حد تعبيرها.

وقارنت المؤلفة بين انهيار هذا التحالف بين الإسلاميين والعلمانيين، وبين ما حدث عام 1920 عندما اتحد القادة الدينيون والعلمانيون واتفقوا على استبدال نظام ديمقراطي جديد بالحكم العثماني لسوريا، بحسب وصفها.

رفض غربي

وتقول المؤلفة إن البريطانيين دعموا القوميين العرب في انتفاضة “قومية” ضد الحكم التركي، سعيا لبناء دولة مستقلة، وفي أكتوبر/تشرين الثاني 1918، دخل الأمير فيصل وضابط المخابرات البريطاني لورنس وقادة عرب دمشق، حيث أعلنوا حكومة دستورية في سوريا الكبرى المستقلة.

وفي العام التالي، وفي مؤتمر باريس للسلام، حصل فيصل على دعم الرئيس الأميركي ويلسون الذي أرسل لجنة أميركية إلى سوريا لتقصي تطلعات شعبها السياسية، ومع ذلك، فإن قادة الحلفاء الآخرين في باريس -وفي وقت لاحق مؤتمر سان ريمو- انتقدوا الديمقراطية العربية، واعتبروها تهديدًا لحكمهم الاستعماري.

وفي 8 مارس/آذار 1920، أعلن المؤتمر العربي السوري الاستقلال وتوّج فيصل ملكا بـ “ملكية تمثيلية”، ودعم رجل الدين والمفكر الإسلامي رشيد رضا هذا الخيار، وقاد الجمعية التأسيسية لتحقيق المساواة بين جميع المواطنين، بما في ذلك غير المسلمين، بموجب شرعية كاملة من الحقوق، بحسب المؤلفة.

لكن فرنسا وبريطانيا رفضتا الاعتراف بحكومة دمشق وبدلا من ذلك فرضتا نظام انتداب على المحافظات العربية في الدولة العثمانية المهزومة في الحرب، بحجة أن العرب لم يكونوا مستعدين بعد للحكم الذاتي.

وبموجب هذا الانتداب، غزا الفرنسيون سوريا في أبريل/نيسان 1920، وسحقوا الحكومة العربية، وأرسلوا قادة المؤتمر السوري العام إلى المنفى، وتم تدمير الائتلاف الهش المشكل من تحالف “الحداثيين العلمانيين والإصلاحيين الإسلاميين” الذين ربما يكونون قد أسسوا الديمقراطية الأولى في العالم العربي بحسب تعبير الكتاب.

دهشة وتعجب

وفي حوارها مع “جدلية” قالت المؤلفة إن كتابها يعد مساهمة في المناقشات التاريخية حول ضعف الديمقراطية وتأثير الحرب العالمية الأولى في الشرق الأوسط، ويتحدى الروايات الاستعمارية التي لا تزال سائدة والتي تلقي باللوم على الثقافة المحلية في الدكتاتورية والعنف السياسي وقمع الأقليات، عبر إظهار كيف قوّض الفرنسيون والبريطانيون عمدا برنامجا سياسيا شعبيا للتسامح والمساواة وسيادة القانون.

وتعتبر طومسون أن الكتاب هو مساهمتها الثالثة في الجهود لفهم الطرق التي شكّل بها الحكم الاستعماري المؤسسات والأعراف السياسية في العالم العربي المشرقي، وكيف “أدى التدخل الأجنبي إلى دق إسفين بين الأحزاب العلمانية والدينية، ما أضعف المعارضة الديمقراطية للدكتاتورية العربية منذ ذلك الحين”.

وتناقش المؤلف كيف نظر البريطانيون والفرنسيون إلى العرب في ذلك الوقت، وكيف كانوا -العرب- منظمين سياسيا رغم سنوات الحرب والمجاعة والحرمان من الأدوات الأساسية اللازمة لبناء وتأمين دولة مستقلة.

وتعبر المؤلفة عن اندهاشها من أن أعضاء الجمعيات العربية في دمشق قرؤوا مبادئ الرئيس الأميركي ويلسون وتبنوها، كما عبرت في الحوار عن دهشتها كذلك من مساهمة الشيخ رشيد رضا خلال وجوده بدمشق في صياغة دستور ديمقراطي ودوره المركزي في هذه الحركة المدنية التي تبنت توجهات مدنية مختلفة عن أفكار “سحق الطبقة الدينية” التي حدثت بالحقبة الأتاتوركية في تركيا خلال وقت لاحق، بحسب تعبير المؤلفة.

المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية

——————————

تجربة متقدمة.. كيف كتب السوريون دستورهم الأوّل عام 1920؟/ باسل المحمد

2025.01.20

في 13 تموز/ يوليو 1920، تم اعتماد أول دستور لسوريا، في ظل الدولة الملكية بقيادة الملك فيصل بن الحسين، التي أٌسّست عقب انهيار الدولة العثمانية وانسحاب جيوشها من بلاد الشام.

وقد جاء هذا الدستور بعد عدة جولات للمؤتمر السوري العام الذي أوكل إليه الأمير فيصل، عام 1919، مهمة إنجاز أول دستور لسوريا بحدودها الطبيعية في ذلك الوقت، والتي كانت تضم (سوريا، والأردن، ولبنان، وفلسطين).

شكّل هذا الدستور تجربة متقدمة جداً في ذلك الوقت من خلال معالجة قضايا حساسة وجوهرية مثل العلاقة بين الدين والدولة، والهوية والمواطنة، وقضايا المرأة، والأقليات، وهذا مادفع المؤرّخة الأميركية إليزابيث ف. تومبسون في كتابها “كيف سرق الغرب الديمقراطية من العرب؟” للقول بأنّ القوات الفرنسية التي احتلّت دمشق كانت مكلَّفةً بالسيطرة على مقرّ المؤتمر السوري ومصادرة كلّ ما فيه من وثائق، بهدف تغييب هذه التجربة الرائدة في وعي السوريّين.

تتشابه اليوم إلى حدٍ كبير اللحظة التاريخية التي يعيشها السوريون بعد سقوط نظام الأسد (مع اختلاف الفواعل المؤثرة داخلياَ وخارجياً وجغرافياً) مع تلك الفترة قبل ما يزيد على 100 عام، من حيث سعي السوريين إلى بناء دولة جديدة قائمة على أسس المواطنة والتشاركية، والتي يشكل كتابة دستور شامل يحفظ حقوق وحريات كل السوريين على اختلاف طوائفهم وأعراقهم لبنة الأساس في بناء “سوريا الجديدة”.

ولعلّ ما يفيد في إنجاز هذه المهمة بهذا التوقيت هو دراسة التجارب السابقة التي خاضها السوريين في عملية كتابة الدساتير، لا سيما الدستور الأوّل عام 1920، للتعرف على الصعوبات والتحديات التي واجهتهم من جهة، وكيف عالجوا مواضيع عادت للظهور مجدداً على الساحة السورية مثل الأقليات وحقوق المرأة والتشاركية من جهة أخرى؟

آباء سوريا الدستوريون

شارك في كتابة الدستور الأوّل لسوريا بحدودها الطبيعية في ذلك الوقت نخبة مثّلت مختلف الانتماءات الدينية والعرقية والجغرافية، أما بالنسبة لتسمية “الآباء الدستوريون” فتعود إلى الباحث محمد جمال باروت، للدلالة على النواب أو المندوبين الممثلين للأمة السورية في مناطقها الثلاث الداخلية (الخاضعة للحكم العربي)، والساحلية (الخاضعة للفرنسيين)، والجنوبية (الخاضعة للإنكليز)، والذين تشكّلت منهم أول هيئة تشريعية منتخبة في تاريخ سوريا الحديث اتخذت اسم “المؤتمر السوري العام 1919” في دمشق، والذي أعلن بدوره استقلال المملكة السورية العربية.

وقد بادر هذا المؤتمر إلى تشكيل لجنة خاصة من أعضائه لوضع مشروع أوّل دستور للبلاد، وضمت اللجنة العديد من خريجي المدارس العليا العثمانية والأوربية والخبراء المختصين بالحقوق والشريعة والإدارة، حيث تألفت من (هاشم الأتاسي، سعد الله الجابري، الشيخ عبدالقادر الكيلاني، وصفي الأتاسي، إبراهيم الهادي، سعيد حيدر، عثمان سلطان، الشيخ عبد العظيم الطرابلسي، نيودور أنطاكي،عزة دروزة)، وقد انتخبت في جلستها الأولى هاشم الأتاسي رئيساً، وعزة دروزة سكرتيراً، بحسب ما يذكر أستاذ القانون الدولي إبراهيم الدراجي في كتابه “الآباء الدستوريون”.

وعن هذه النخبة التي كتبت الدستور، يذكر الدراجي في كتابه أن أعضاء اللجنة درسوا الكثير من دساتير الدول المتقدمة، واستعانوا بكتب الحقوق التركية والفرنسية، وتمكنوا خلال فترة قصيرة من صياغته.

ويصف الشيخ محمد رشيد رضا، أحد أعضاء المؤتمر، في مذكراته المعنونة بـ”رحلتان إلى سورية”، اللجنة التي وضعت الدستور بقوله: “وكان فيه -أي المؤتمر- العدد الكافي من دارسي علم الحقوق وأصول القوانين ومن ذوي الإلمام بالشريعة الإسلامية ومن الأذكياء المتعلمين في مدارس الدول العثمانية أو بعض المدارس الأجنبية فكان بذلك كفؤًا لوضع القانون الأساسي للبلاد”.

دولة دينية أم علمانية؟

تذكر المراجع التاريخية أن جلسات المؤتمر السوري، العام 1919، شهدت نقاشاً موسعاً حول علمانية الدولة أم إسلاميتها، وتضيف المراجع أن “بعض أعضاء المؤتمر اقترح في هذه الجلسة أن ينص قرار المؤتمر على أن حكومة سوريا المتحدة لا دينية (لاييك)، وانقسم أعضاء المؤتمر حول هذا فوافق بعضهم وعارضه آخرون مقترحين أن ينص فيه على أنها حكومة عربية إسلامية ودينها الرسمي الإسلام”.

إلا أنه بالعودة إلى المادة الأولى لهذا الدستور نجد مايلي: أنّ حكومة المملكة السورية هي “حكومة ملكية مدنية نيابية، عاصمتها دمشق الشّام ودين ملكها الإسلام”، وهي الإشارة الوحيدة للدين الإسلامي في هذا الدستور.

المفارقة في هذا السياق تأتي من انتخاب الشّيخ رشيد رضا، رئيساً للمؤتمر السوري لمناقشة مواد الدستور قبل تبنيه، وهو أحد رموز السلفية في سوريا، وفد جاء إلى هذا المنصب الرفيع خلفاً لهاشم الأتاسي، الذي أصبح رئيساً للحكومة، مطلع أيار 1920.

وهنا اكتمل التناقض الرهيب، لجنة دستورية “علمانية” أو غير دينية، فيها مسلمون ومسيحيون، تناقش مسودة دستور ملكي، داخل مجلس نواب مختلط يترأسه رجل دين سلفي.

إلا أنه وبالرغم من خلفيته الدينية، لم يعترض الشيخ رضا على “المادة 13” من الدستور، التي نصّت على حرية المعتقد والأديان، ولم يصرّ على أن تكون الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع في المملكة السورية الوليدة.

في ضرورات عقد مؤتمر وطني للحوار

في ضرورات عقد مؤتمر وطني للحوار

وقد دافع عن هذا الموقف أمام المحافظين، قائلاً: إنه يسحب الذريعة من الدول الأوروبية للتدخل في شؤون سوريا مستقبلاً بحجّة حماية الأقليات، كما حدث في دمشق بعد أحداث الفتنة بين المسلمين والمسيحيين عام 1860.

وتعليقاً على هذه النقطة يقول د. إبراهيم الدراجي في حديثه لـ موقع تلفزيون سوريا، إنّ تلك الفترة شهدت نوعاً من الخلاف والنقاش الجريء حول موضوع الطابع الديني للدولة، وحتى عندما تم النص على أن الإسلام هو دين الملك فكان الملك عبارة عن “سلطة محدودة”، لأنّ الحكومة كانت مدنية برلمانية.

ويتابع الدراجي أن الشيخ رشيد رضا أثار في محاضر جلسات كتابة الدستور موضوع “دولة لا دينية”، ولكن تم استخدام كلمة “مدنية” لكي لا يتم فهمها على أنها دولة ملحدة.

كيف عالج الدستور مواضيع المواطنة والأقليات والمرأة؟

إلى جانب تميزه في ذلك الوقت بإرساء قواعد لدولة مدنية ديمقراطية، أقرّ الدستور السوري في تلك الفترة نظام حكم لامركزي لضمان تمثيل الأقلّيات وتمكينها من الحكم المحلّي في مناطقه، فقد قسّم البلاد إلى مقاطعات وحدّد مساحة وعدد سكّان كلّ مقاطعة في الحدّ الأدنى، وجعل البرلمان يتألّف من غرفتين: مجلس النواب ومجلس الشيوخ الذي يعيّن رأسُ الدولة نصفَ أعضائه، ويُنتخَب النصفُ الآخر في المقاطعات، وجعل لكلّ مقاطعة مجلساً منتخباً وحكومة محلّية.

وقد أخذ الدستور بالشكل “الاتحادي” للدولة، وبالنظام الملكي النيابي (البرلماني)، وقد حصر الملك في الأكبر فالأكبر من أبناء الملك الأول، في حين أشار إلى أن المملكة السورية تتألف من (مقاطعات) ذات وحدة سياسية لا تتجزأ، ودمشق هي العاصمة، والعربية هي اللغة الرسمية.

كذلك صاغ دستور المؤتمر السوري الأول مفهوم المواطن بغض النظر عن أي تحديد ديني أو اثني له، فهو أطلق اسم سوري على جميع أفراد المملكة السورية العربية (المادة 10)، فالمواطن السوري هو كل فرد من أهل المملكة السورية العربية، وليس من يتكلم العربية فقط.

إلى جانب ذلك ناقش المؤتمر حرية المرأة وحقها في التعلم والعمل، كما ناقش أيضا أحقّيّة المرأة في الانتخاب، وكاد أن يقرّ ذلك الحق في الدستور، أي قبل فرنسا ذاتها التي لم تقر مثل هذا الحق حتى عام 1944، لولا خشية بعض الأعضاء من أن يمنح ذلك فرصة لتأليب الشارع على أعضاء المؤتمر، في الوقت الذي تكشّفت لهم أطماع الدول الاستعماريّة التي قد تحول دون استقلال البلاد السوريّة.

وفي الربط بين الحاضر الذي تعيشه سوريا وبين الماضي، خاصة في ظل تأكيد العديد من الوفود الأوروبية والأميركية على موضوع الأقليات والمرأة، يوضّح الحقوقي غزوان قرنفل أن السوريين في ذلك الوقت -وعلى الرغم من اتساع الجغرافيا بحدود سوريا الطبيعية- استطاعوا رغم الخلافات أن ينسجموا ويتوافقوا على صيغة لدولة مدنية ديمقراطية، إذ لم يكن الخلاف المذهبي أو الديني عامل مفجر للخلافات بينهم بخلاف اللحظة الراهنة.

وعليه يرى قرنفل في حديثه لـ موقع تلفزيون سوريا، ضرورة التأكيد على مبادئ المواطنة ودولة القانون لأنّها وحدها من تنزع فتيل أي انفجار في سوريا، فالسوري -يضيف قرنفل- الذي لا يجد لنفسه حقوق متساوية مع السوري الآخر سيلوذ بطائفته، أو بقوميته أو بمذهبه ليحصل حقوقه من خلال هذه الكتلة المذهبية أو الكتلة القومية، بينما لو تكلمنا بدولة مواطنة أو قانون فسنجد الكثير من الشركاء من الطوائف والمذاهب والأقليات والأديان.

ضرورة الاستفادة من التجارب الدستورية

قد يكون كتابة دستور وطني جامع من أبرز المهمات التي ستواجه السوريين بعد سقوط نظام بشار الأسد، لذا يرى أستاذ القانون الدولي إبراهيم الدراجي أنه يُفترض باللجنة المختصّة التي ستتولّى وضع الدستور الجديد أن تأخذ بعين الاعتبار هذا الإرث الدستوري الغني لسوريا، ابتداءً من أفضل دستور عربي وُضع في 1920 حتى دستور 1950، الذي اعتُبر إنجازاً مهمّاً في وقته، وأن تضمن آلية التصويت عليه مشاركة غالبية السوريّين.

ويرى باحثون بالشأن القانوني أن دستور 1950 (كل الدساتير التي جاءت بعده كانت نتيجة انقلاب عسكري)، يعد من أفضل الدساتير التي كتبت في سوريا لأنه ضَمِنَ الحياة السياسية الديمقراطية، ويمكن اعتباره مرجعاً يتم البناء عليه مع بعض التعديلات بحيث تضمن المساواة بين السوريين كافة بمختلف قومياتهم وطوائفهم ومذاهبهم.

إلى جانب ذلك يشير الحقوقي قرنفل إلى ضرورة الوعي لأهمية اللحظة الراهنة بالنسبة للسوريين، الذين يجدون أنفسهم اليوم أمام استحقاق عقد مؤتمر وطني واضح في هويته ونقاشاته، يشارك فيه الجميع من دون إقصاء لأحد، وينتج عنه لجنة تعنى بكتابة دستور متقدم ينال ثقة السوريين.

————————–

هكذا سرق الغرب الديمقراطية من العرب/ سلام الكواكبي

مع أنها زارت سوريا مراراً إلا أنني لم أحظ بفرصة لقاء المؤرخة إليزابيت تومسون إلا أثناء زيارة لها إلى باريس للبحث في أرشيف وزارة الخارجية الفرنسية. حينها كانت في مرحلة الإعداد لتحرير كتابها الصادر حديثاً تحت عنوان “كيف سرق الغرب الديمقراطية من العرب”. وقد سمح لي هذا اللقاء بالتعرف، من خلال سردها العلمي الموثّق، إلى كثير من تفاصيل تلك المرحلة من تاريخ سوريا والمنطقة عموماً. وهي الحقبة التي عرفت نهاية سيطرة العثمانيين على المنطقة وبروز أحلام التحرر وبناء الدولة الوطنية العربية التي صدّق الثائرون العرب على الباب العالي بأن الغرب يرغب فعلاً في مساعدتهم لتحقيقها.

وفي هذا اللقاء عرفت بقصة الدستور الذي طلب الأمير فيصل من الشيخ رشيد رضا أن يضع مشروعاً له، وحيث لم ترد فيه إشارة إلى الإسلام إلا كونه دين رأس الدولة، مما أثار غضب المشايخ الذين احتجوا لرضا الذي أوضح موقفه بجملة واضحة لا لبس فيها يكاد جُلُّ تلامذته يرفضون تكرارها اليوم وإن كررت أمامهم فلهم ألف أسلوب للتشكيك بمصداقيتها وبأن رضا نفسه هو الذي قالها. تكتفي هذه الجملة بالتالي: “تم تكليفي بإعداد دستور للسوريين، وهم من المسلمين والمسيحيين واليهود. فهل تريدون مني إعداد دستور للمسلمين فقط؟”.

منذ أسبوعين، استضفت الكاتبة في محاضرة عبر الشبكة العنكبوتية التي صارت وسيلة المعرفة الأكثر تداولاً في مرحلة الجائحة ويبدو أنها ستستمر حتى في الفترة التي ستلي. وقد قدّمت المؤرخة الأميركية شديدة التعلّق بالشام عموماً، والتي تتقن العربية والفرنسية، خلال هذه المحاضرة الافتراضية عرضاً لأهم محاور كتابها الجديد الذي يدخل في إطار سلسلة من البحوث المعمّقة التي تتناول فيها بدايات نشوء الوعي السياسي الليبرالي في بلاد الشام. وتركّز الحوار في نقطة مفصلية دفعت بها إلى اختيار هذا العنوان التحريضي الذي يمكن أن يصطدم به أحدنا ويعتبره مبالغةً أو أن يعتبره من ضمن “نظرية المؤامرة” والميل الشرقي لتحميل الآخرين مصائبنا.

فالمرحلة التي اقتربت خلالها النخب السياسية الليبرالية نسبياً تمشياً مع ظروف المنطقة من النخب السياسية الإسلامية كانت متميّزة للغاية. فالليبراليون كانوا غير إقصائيين وكانوا متصالحين مع طبيعة تكوين مجتمعاتهم وينشدون مع ذلك الخروج من المرحلة التي كان الدين فيها مطية للمستبد والتي تعاون خلالها رجل السلطة مع رجل الدين في سبيل اخضاع الشعب وثرواته لرغبات المستبد. كما أن تلك المرحلة من تاريخ بلاد الشام عرفت دوراً متميّزاً لرجال دين تنويريين ونهضويين تركوا أثراً طيباً في التعريف بدور الدين في الحياة الدنيا. وقد وصل بعضهم، كعبد الرحمن الكواكبي، إلى الدفع بضرورة فصل الدين عن الدنيا، ورفع وصاية السياسة عن الدين والدين عن السياسة. أما الآخرين، كما رشيد رضا، فقد قارب الموضوع كما أوردت بطريقة مختلفة، مما أدى إلى أن ينشط جدال حام بينه وبين الكواكبي دون أن يفسد هذ الخلاف علاقة الصداقة والاحترام التي تربطهما. وفي دليل حضاري على الانفتاح الفكري، فقد نشر رضا في مجلته “المنار” كثيراً مما كتبه الكواكبي نقداً لفكره. وقد توّج رضا أداءه الراقي بأن كتب نعياً شديد الدفء بحق الكواكبي بعد استشهاده سنة 1902.

وشهدت هذه المرحلة حوارات هادئة عقدت بين إسلاميين إلى جانب ليبراليين من مختلف الأديان كان يجمعهم هدف واحد وهو بناء الدولة الوطنية الديمقراطية. فقد آمن إسلاميو تلكم المرحلة بأن الديمقراطية هي جزء من الحل، فاقتربوا إلى مسافة ضئيلة جداً مما اقتنع به ليبراليو هذه المرحلة المتأثرين بفلسفة الأنوار وبالتيار الإصلاحي في المراحل الأخيرة من حياة الرجل المريض في الآستانة. وباستعراض الصور الفوتوغرافية التي نقلت لقطات عن اجتماعات أهل بلاد الشام والتي توّجت بمؤتمر 1920، فمن الطبيعي بمكان أن نجد أنها تجمع أصحاب العمائم إلى جانب أصحاب الطرابيش إلى جانب حاسري الرؤوس ممن حملوا فكراً تقدمياً بمعايير المرحلة الزمنية التي عبروا من خلالها.

جاء الغرب بمشروع الانتدابات على المنطقة والتي أدت إلى إجهاض مشروع الدولة العربية وإلى نشوء دولة إسرائيل. وقد برر الفرنسيون والانكليز سيطرتهم على بلاد الشام بأن شعوبها بحاجة إلى المساعدة بعد قرون الاحتلال العثماني لترتقي بمستوى الوعي السياسي الذي يمكنها من إدارة شؤونها بنفسها. فابتعد الإسلاميون نحو مزيد من الراديكالية وتراجع الليبراليون الذين كانوا يحملون مشروعاً تنويرياً كان يوصم بقربه من الغرب، لتتصدر المشهد أحزاب تبنت الخطاب الوطني التحرري والتقدمي، والتي سرعان ما وصل بعضها إلى الحكم بعد استقلال البلاد وأمعنوا فساداً واستبداداً في البلاد وفي العباد.

هل التاريخ يكرر نفسه؟ لا إيمان لي كبير بهذه العبارة ولكنني أفضل القول بأن الإنسان في أدائه يمكن أن يُعيد انتاج التاريخ. وبالتالي، فقد شهدت فترة ماضية قريبة سبقت الربيع العربي، منصات حوارية جمعت في جنباتها إسلاميين وليبراليين متنوعين، سرعان ما أجهضت بسبب رغبة خارجية في إيصالها الى طريق مسدود وتضعضع المسؤولية المحلية في انجاحها وتراجع أطرافها عن التوافق حينما بدا أن الحكم قد اقترب من المنال. وما دعم الغرب أو جزء من الغرب الحالي للثورات المضادة ولعودة الديكتاتوريات في مصر وفي ليبيا وسواها، إلا إعادة إنتاج لعقلية الانتداب الثقافوية التي اعتبرت حينها بأن شعوب المنطقة غير مؤهلة للحكم الديمقراطي.

——————————–

حوار مع المؤرخة إليزابيث ف. تومسون حول كتابها “كيف سرق الغرب الديمقراطية من العرب؟

عثمان أمكور

تقول المؤرخة تومسون إن البريطانيين والفرنسيين لجؤوا إلى مقاربة عنصرية لتسويغ احتلالهم سوريا الكبرى والعراق بعد الحرب العالمية الأولى، لقد جادلوا بأن العرب المسلمين اتسموا بالتعصب الديني وأن ذلك تجلى في استباحتهم دماء المسيحيين العرب على غرار مذبحة الأتراك ضد المسيحيين الأرمن.

مؤرخة إليزابيث ف. تومسون (Elizabeth F. Thompson) ؛ وهي مؤرخة بارزة مختصة بالشرق الأوسط الحديث وهي أستاذة كرسي محمد فارسي للسلام الإسلامي في كلية الخدمة الدولية بالجامعة الأمريكية

المؤرخة والأكاديمية إليزابيث ف. تومسون مختصة بالشرق الأوسط الحديث وهي أستاذة كرسي محمد فارسي للسلام الإسلامي في كلية الخدمة الدولية بالجامعة الأميركية (مواقع التواصل)

غالبا ما تجنح النظرة المعهودة عن وضع الديمقراطية في الأوطان العربية إلى عدّ العرب غير مؤهلين للديمقراطية والحداثة السياسية، وهي نظرة دعمها موقف المستشرقين النمطي من المنطقة العربية والإسلامية عموما.

ولكن المؤرخة إليزابيث ف. تومسون (Elizabeth F. Thompson) التي تعمل أستاذة كرسي محمد فارسي للسلام الإسلامي في كلية الخدمة الدولية بالجامعة الأميركية (بواشنطن) والمختصة بدراسة بالشرق الأوسط الحديث تقدم صورة مغايرة لتلك الصورة النمطية، في كتابها المهم الصادر سنة 2020 المعنون بـ”كيف سرق الغرب الديمقراطية من العرب :المؤتمر العربي السوري عام 1920 وتدمير تحالفه الليبرالي الإسلامي التاريخي” (HOW THE WEST STOLE DEMOCRACY FROM THE ARABS :The Syrian Arab Congress of 1920 and the Destruction of Its Historic Liberal-Islamic Alliance).

ترى تومسون أن العرب عرفوا تجربة ديمقراطية مميزة تجسدت في سوريا، وبالضبط في الثامن من مارس/آذار 1920، إذ أصدر البرلمان السوري إعلان الاستقلال باسم الشعوب الناطقة بالعربية القاطنة في سوريا الكبرى (التي تضم اليوم لبنان وسوريا والأردن وفلسطين).

وخلال الحرب العالمية الأولى، انضم السوريون العرب إلى الحلفاء في حربهم ضد الدولة العثمانية، كما احتضنوا مبادئ ويلسون للحرية، وكان إعلان استقلال سوريا حسب رؤية المؤرخة متوافقا مع قيم المساواة والحرية، وسعت سوريا بذلك إلى كسب مكان لها داخل “المجتمع الدولي” إلى جانب بولندا وتشيكوسلوفاكيا ودول قومية أخرى نالت استقلالها وتمكنت من تأسيس دولة حديثة.

وترى المؤلفة في كتابها أن الغرب استنكر مجهودات سوريا في تأسيس تجربة ديمقراطية ليبيرالية داخل المنطقة العربية. ويستكشف حوار الجزيرة نت مع المؤرخة إليزابيث ف. تومسون مضامين كتابها القيم، محاولا فهم دور رشيد رضا في تشكيل تجربة سوريا الديمقراطية، وكيف أجهض الغرب الاستعماري تجربة سوريا الديمقراطية الرائدة حينئذ، ويعرض لأبرز الدروس المستفادة اليوم من هذه التجربة التاريخية المهمة، فإلى الحوار:

غلاف كتاب how the west stole democracy from the arabs

الأكاديمية والمؤرخة الأميركية إليزابيث تومسون تعدّ الغرب مسؤولًا عن إخفاق الديمقراطية على الساحة العربية (مواقع التواصل الاجتماعي)

    في كتابك قدمت صورة غير معهودة لرشيد رضا صاحب “المنار” وعلاقته بالدولة العربية في سوريا، فذهبت إلى أنه مرن مع التصور المدني للدور الذي يمكن أن تجسده سوريا بوصفها دولة مستقلة، كيف ذلك؟

ما أدهشني وألهمني لكتابة هذا الكتاب هو الشيخ رشيد رضا ناشر المجلة الإسلامية “المنار”، الذي ترأس البرلمان السوري وذلك عام 1920. فتحت إشرافه صادق البرلمان السوري على دستور لـ”ملكية برلمانية مدنية”، وكان معظم نواب البرلمان السوري من سياسيي العصر العثماني، ممن دعموا الثورة الدستورية العثمانية عام 1908. وهنا يجب أن ينظر إلى الدستور السوري لعام 1920 على أنه محاولة لإحياء الحكومة الدستورية بعد فترة الحكم العسكري الذي قامت به تركيا الفتاة 1913-1918.

ومع ذلك، كان دستور 1920 أيضا نسخة مختلفة جذريا عن الدستور العثماني، ويتجلى ذلك في مجموعة من النقاط؛ أولا، منح دستور 1920 سلطة أكبر للهيئة التشريعية في حين قلل سلطة الملك، كما أن سلطات الملك فيصل حينئذ كانت مستمدة من البرلمان السوري ولم تستند إلى شرعية الدم أو الدين.

ثانيا، ألغى الدستور أي ربط بالإسلام باعتباره دينا للدولة أو مصدرا للتشريع، وكان الأمر الملزم للملك فيصل هو احترام “الشرائع الدينية” فقط، وكتب رضا وآخرون في عام 1920 أنهم يسعون إلى المساواة الكاملة بين جميع المواطنين، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية. وفضلا عن ذلك، اعتقد رضا أن هناك حاجة إلى تشريع علماني بخصوص الأمور المرتبطة بالمصلحة العامة، وعلى عكس الإسلاميين الذين تلوه لم يكن رضا يعتقد أن الشريعة الإسلامية تشمل جميع مجالات القانون.

أدركت من خلال دراستي أن رشيد رضا قد حقق في عشرينيات القرن الـ20 الغاية التي سعى إليها العرب عبر انتفاضاتهم عام 2011؛ المتمثلة في الديمقراطية، وقد أنجز رشيد رضا ذلك بفعل تعاونه مع الفقهاء بدل قمعهم. وفي الواقع، التناقض بين سوريا وتركيا مذهل جدًّا، ففي الوقت الذي لم يعد السوريون ينظرون فيه إلى الإسلام على أنه دين للدولة وفق مقاربة توافقية انتظم فيها الفقهاء في عام 1920، فإن تعامل مصطفى كمال (أتاتورك) مع الإسلام في ظل جمهورية تركيا كان قائما على قمعه وصدامه مع الزعامات الدينية بتركيا.

واليوم، بعد هزيمة الربيع العربي والإقصاء الذي واجهته جماعة الإخوان المسلمين، من المفيد التفكير في تجربة عام 1920 على أنها “طريق ممكن”، وهو ما يجعلنا نطرح سؤالًا من قبيل: هل يمكن أن يلهم عبرها إسلام رشيد رضا الليبرالي المتمثل في دستور 1920 نوعا جديدا من السياسة الإسلامية اليوم؟

    في كتابك أكدت زيف الادّعاء الفرنسي والبريطاني الرامي إلى إظهار سوريا على أنها منطقة غير متحضرة، وبيّنت أن هذا الأمر ما هو إلا تسويغ يمهد احتلالهم للدول العربية بما فيها سوريا، كيف ذلك؟ وهل حقا كان دافعهم إلى هذا الموقف عنصريا؟

يجادل النصف الثاني من الكتاب بأن الأوروبيين لم يدمروا فقط المملكة العربية السورية بوصفها دولة؛ وهي سردية متداولة عند العديد من المؤرخين، ولكن الأوروبيين سعو أيضا إلى تدمير الديمقراطية في المنطقة العربية جمعاء؛ إذ أثبتت الحكومة التي أسّست في دمشق أن العرب تمتعوا بالقدرة التامة على حكم أنفسهم بطريقة ديمقراطية حديثة، وهو ما شكل تهديدا للإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية.

فالتجربة السورية دحضت ادّعاء القوى الإمبريالية التي كانت تزعم أن سبب احتلالهم للعرب والمسلمين (وشعوب آسيا وأفريقيا الأخرى) قائم على فرضية خاطئة مفادها أن غير الأوروبيين ليسوا مؤهلين لحكم أنفسهم وفق منهج ديمقراطي.

تواطأ البريطانيون والفرنسيون بغية رفض مطالب السوريين الرامية إلى امتلاك الحق نفسه والقدرة السياسية ذاتها على غرار التشيك وبولندا ويوغوسلافيا، باعتبارها دولا حصلت على استقلالها في مؤتمر باريس للسلام.

نظر السوريون إلى أنفسهم على أنهم أناس متحضرون يتمتعون بخبرة سياسية حقيقية كمواطنين داخل السلطنة العثمانية؛ إذ انتُخِب ممثلون لهم في البرلمان العثماني وشغلوا مناصب مهمة ضمن جهاز الحكم والبيروقراطية داخل الدولة العثمانية.

صدم السوريون بنظرة الأوروبيين إليهم، وسعيهم لمحاولة وضعهم تحت نظام انتداب داخل عصبة الأمم، وجعلهم على قدم المساواة مع رعايا الإمبراطورية الألمانية في أفريقيا والمحيط الهادي، الذين لم يعرفوا وجود جهاز دولة من قبل، على عكس السوريين الذي عاشوا داخل دولة حديثة مثل الدولة العثمانية.

أنا أحاجج في كتابي بأن البريطانيين والفرنسيين لجؤوا إلى مقاربة عنصرية لتسويغ احتلالهم سوريا الكبرى والعراق بعد الحرب العالمية الأولى. لقد جادلوا بأن العرب المسلمين اتسموا بالتعصب الديني، وأن ذلك تجلى في استباحتهم لدماء المسيحيين العرب على غرار مذبحة الأتراك ضد المسيحيين الأرمن. كانت مساعي الملك فيصل ترمي إلى دحض هذا الادّعاء في باريس، مؤكدا أن المسلمين والمسيحيين العرب واليهود تعايشوا بسلام مدة طويلة.

    أشرت إلى كون ما حدث عام 1920م هو لحظة ديمقراطية ليبيرالية نادرة الحدوث في الوطن العربي أجهز عليها الاحتلال الأوروبي، ما أبرز سمات تلك اللحظة الديمقراطية في سوريا؟ وكيف تم القضاء عليها؟

أعتقد أن ما حدث عام 1920 كان حقا “لحظة ديمقراطية” في دمشق؛ تظاهرت فيها حشود شعبية غفيرة مؤيدة للبرلمان السوري وإعلانه الاستقلال. تمتع التيار الليبرالي بقاعدة دعم شعبية واسعة، ووعد البرلمان السوري بوضع دستور يمكن اعتباره “سلاحا مدنيا” ضد الاستعمار.

أثبت السوريون بذلك جدارتهم وتحضرهم لالتجائهم إلى المقاربة التشريعية بدل استخدامهم السلاح (وهي إستراتيجية جيدة بحكم أن السوريين لم يملكوا جيشا على عكس مصطفى كمال). وزعم المؤتمر أن تشكيل حكومة دستورية سيكسب سوريا حقها الدولي في تقرير المصير وامتلاكها عضوية بين الدول المتحضرة التي شكلت عصبة الأمم.

كان الدستور السوري لعام 1920 أكثر الدساتير ديمقراطية في العالم العربي على الإطلاق؛ احتوى على حزمة من الحقوق، ووعد بحماية حق التعبير والتجمع والرأي والتعليم والملكية الخاصة، واتسع نطاق الاقتراع ليشمل كل الذكور الذين تبلغ أعمارهم 20 ربيعا فما فوق. وفي هذه التجربة كادت النساء تحصل على حق التصويت، إذ أيّدت أغلبية أعضاء البرلمان حق المرأة في التصويت، لكن المعارضة الشديدة التي أبداها المحافظون أجبرت البرلمان السوري على تأجيل هذه المسألة.

تم إقرار المساواة بين المسلمين والمسيحيين وبقية الأطياف الدينية؛ ولم يتجلّ ذلك فقط بعدم النص على الإسلام في الدستور على أنه دين للدولة (الدستور كان يوصي بإسلام الملك فقط)، ولكن أيضا من خلال ضمان مقاعد في الهيئات التشريعية لغير المسلمين. وكانت الهيئة التشريعية مستقلة عن السلطة التنفيذية؛ حيث لم يكن من الممكن للملك حل المجلس التشريعي إلا في حالات الطوارئ القصوى، وكان رئيس الوزراء مسؤولا أمام الهيئة التشريعية بدل أن يكون مسؤولا أمام الملك.

أخيرا، كانت الدولة السورية لا مركزية؛ تمتعت فيها المحافظات باستقلالية كبيرة تنتخب مجالسها التشريعية مستقلة عن دمشق.

ولكن احتلال فرنسا لدمشق عام 1920 قوّض الدعم الشعبي لليبرالية؛ وبسبب الاحتلال الفرنسي فقد السوريون إيمانهم بالليبرالية باعتبارها ضامنا للحقوق العالمية للإنسان في عام 1920. فبعد فرض الانتداب في سوريا ولبنان والعراق وفلسطين وشرق الأردن، أصبحت الليبرالية أيديولوجية النخب التي تعاونت مع البريطانيين والفرنسيين فقط.

أنا أزعم أن تدمير التجربة الديمقراطية في سوريا عام 1920 وكذلك تعاون النخب الليبرالية السورية مع الفرنسيين والبريطانيين هو ما مهد لتشكل الجماعات السياسية الإسلامية داخل شرائح واسعة في سوريا؛ حيث أدارت الليبرالية النخبوية ظهرها للمساواة والحقوق الاجتماعية، في حين قام القادة الإسلاميون الذين دعموا مؤتمر 1920 بمعارضة النخب العلمانية في عشرينيات القرن الماضي وثلاثينياته.

    كيف يمكن لسوريا اليوم أن تتعلم من دروس التاريخ؟ هل تظهر هذه التجربة التاريخية أن هناك إمكانية لتحقيق الديمقراطية داخل سوريا؟

الدروس المستفادة مما شهدته سوريا سنة 1920 أقسمه إلى شقين؛ الشق الأول أريد أن أقول فيه إنه لا يوجد شيء في الثقافة السورية/العربية يعيق تحقق الديمقراطية؛ ومرد الافتقار إلى الديمقراطية يعود أساسا إلى العوائق السياسية، ولا سيما ما خلفته فرنسا فقد كان كارثة على سوريا تجسدت أساسا في تأسيس دولة أمنية ورثتها النخبة السياسية والعسكرية في سوريا بعد عام 1946.

أما الشق الثاني فيتمثل في ضعف المعارضة الديمقراطية للاستبداد بسبب الانقسام بين الأطياف العلمانية ونظيرتها الإسلامية، وهذه المقابلة بين ما هو إسلامي ومدني مستحدثة وليست متجذرة طبيعيا أو ضروريا في الثقافة السورية/العربية.

هذا الانقسام حدث كردة فعل لمنع أوروبا الحكم الذاتي وتدميرها تجربة الديمقراطية في 1919-1920 في سوريا.

والدرس المستفاد هنا هو ضرورة فهم أن النقاش الدائر بشأن تعارض الديمقراطية مع الإسلام ليس إلا إرثا استعماريا يقوم على افتراضات وقراءة خاطئة للتاريخ. آمل أن يسمح هذا الفهم التاريخي لجيل جديد “بالتفكير خارج الصندوق”، وبناء تحالف ديمقراطي أقوى في المستقبل.

المصدر : الجزيرة

————————–

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى