سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسة

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 22 كانون الثاني 2025

حرية إلى الأبد: كل المقالات والتحليلات والحوارات التي تناولت انتصار الثورة السورية اعتبارا من 08 كانون الأول، ملاحقة يومية دون توقف تجدها في الرابط التالي:

سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

———————————–

من التحرر إلى الحرية: معوقات مؤتمر الحوار الوطني/ محمد صبرا

2025.01.21

أنجزت الثورة السورية، الخطوة الأولى اللازمة والضرورية من أجل الوصول إلى الحرية، وهي خطوة التحرر من الاستعباد والاستبداد بإسقاط نظام المجرم الهارب، لكن عملية الوصول إلى الحرية ليست ميكانيكية بمعنى أن التحرر لا يفضي بالضرورة إلى الحرية لاختلاف المجال والفواعل بين الحالتين، فإذا كان التحرر هو فعل جماعي تقوم به مجموعة من الناس

“فئة- طبقة” ويهدف إلى كسر أغلال الاستبداد، وفتح المجال العام أمام تشكيل حكومة جديدة غير تلك التي كانت تهدر الحقوق وتستعبد الناس، فإن الحرية هي التجسيد القانوني والحقوقي للأفراد في الدولة التي سيتم تشكيلها في مرحلة ما بعد التحرر، أي إنها التعبير عن التعاقد الفردي مع الدولة والذي يتيح -من خلال هذا التعاقد المعبر عنه برابطة المواطنة- للفرد التمتع بكل الحقوق السياسية والاقتصادية والثقافية في الدولة، وتحمل الواجبات التي ينظمها القانون.

في التجارب التاريخية المختلفة للشعوب رأينا أن عملية الانتقال من التحرر إلى الحرية  ليست عملية مضمونة، حيث أفرزت بعض التجارب أنظمة حكم أشد قسوة واستبدادا من الأنظمة التي أطاحت بها ثورات شعبية أو حركات تمرد وانقلابات، ولذلك نشدد أن ما تعيشه سوريا الآن يمثل حالة فريدة وفرصة تاريخية لإعادة تشكيل الاجتماع السياسي السوري من خلال المؤتمر العام للحوار الوطني، وهذه الفرصة لم تتح للسوريين منذ قرن مضى أو يزيد قليلا، عندما اجتمعوا في المؤتمر السوري العام الأول في عام 1918، وبالتالي فإن فكرة الاستعجال بالذهاب لمؤتمر حوار وطني من دون التحضير الجيد له، ومن دون أن يكون الوسط الإجرائي والموضوعي الذي سيعقد فيه هذا المؤتمر منضبطاً، ومحدداً بشكل واضح، سيمثل مغامرة أو لنقل مقامرة في هذه الفرصة التاريخية، والتي قد لا تتكرر إلا بعد عقود طويلة، سيرافقها بالضرورة الكثير من الآلام والتضحيات.

إشكالية النقاش السوري الحالي بين تحرر الجماعة وحرية الفرد

ينتمي أغلب النقاش السياسي السوري الحالي، إلى حقل التحرر ولم ينتقل إلى الحديث عن الحرية، فالجماعات السورية (وسنستخدم مصطلح الجماعات كبديل عن الطوائف والإثنيات، لأن مفهوم الطائفة أو القوم هو مفهوم اجتماعي يحيل للعلوم الاجتماعية، بينما فضلنا استخدام مصطلح الجماعة نتيجة محاولات تحويل الطوائف إلى هويات سياسية لها مطالب خاصة تتجاوز مطلب حرية ممارسة الشعائر الدينية إلى مطالب بإدارة مناطق جغرافية معينة، وكذلك في الجماعات القومية التي تجاوزت مطالب الهوية الثقافية واللغوية المختلفة إلى مطالب تتعلق بتقسيم الثروة والسلطة)، إذاً الجماعات السورية المختلفة تتحدث جميعها في إطار التحرر مع إهدار كامل للحديث عن الحرية، فالجماعة السنية ترى أنها أنجزت الثورة وحققت تحررها الكامل من نظام حكم وحشي اضطهدها وقتل وعذب وهجر الملايين من أبنائها، وبالتالي فإن عملية التحرر هذه، أي الإطاحة بالنظام المجرم، يكفي بحد ذاته للقول إن الثورة أنجزت ما عليها، وإنها في وضع قد وصلت فيه إلى ما تريد، في المقابل فإن الجماعات الأخرى مثل الجماعة المسيحية والدرزية والعلوية إضافة إلى الجماعة الكردية، يطالبون بضمانات ليس بصفتهم أفراداً مواطنين في الدولة الجديدة التي ستنتج بعد الثورة، بل بصفتهم جماعات ذات هوية مختلفة، بل وذات نمط حياة مختلف، بحسب تعبير شيخ عقل طائفة الدروز، وبحسب تعبير بعض آباء الكنيسة، والإشكالية هنا أن الخطاب الذي تقدمه الإدارة السورية الانتقالية بقيادة أحمد الشرع يعزز مثل هذا المناخ، حيث تحدث الشرع في أكثر من مناسبة عن ضمان حقوق الأقليات، وأن نمط حياتهم لن يُمس، كذلك فإن الضغوط الغربية وتحديداً الأوروبية تعزز مثل هذا المناخ عند الحديث عن حقوق الأقليات وعن ضرورة مشاركة الجميع في قيادة المرحلة الانتقالية، والجميع هنا لا تعني الأفراد، بل تعني الجماعات الدينية والعرقية.

ضمن هذا المناخ فإن الحوار الوطني الذي تتم الدعوة إليه سيكون عبارة عن حوار بين جماعات متمايزة عن بعضها البعض، وليس بين أفرادٍ يسعون إلى تنظيم اجتماعهم السياسي عبر إقرار لوائح قانونية تصون وتضمن حرياتهم كأفراد في دولة واحدة تكون لكل مواطنيها، وتستغرق كل مصالحهم وتجيب على كل هواجسهم.

سينتج الحوار بين الجماعات بالضرورة نظاماً هشاً قائماً على توافقات مرحلية لن تمنع تجدد ظاهرة الاستبداد، ولا سيما أن كل جماعة تحاول أن تفكر بمنطق انعزالي عن الجماعات الأخرى، بحيث لا يهمها ما يحدث في الفضاء العام ما دامت الدولة الجديدة ستؤمن فضاءها الخاص كجماعة، أو كما يطالب البعض “بأن نحكم مناطقنا بأنفسنا”.

مؤتمر الحوار الوطني كأساس لبناء الحرية

لا يكفي أن نتحدث بشكل عام وبجمل مكررة حول أهمية مؤتمر الحوار الوطني، وأنه سيكون الأساس في بناء الدولة الوطنية، من دون أن نحدد العوائق التي تعوق وصول هذا المؤتمر للأهداف المرجوة منه، ومن دون تحديد هذه الأهداف التي يجب تحقيقها من خلاله.

معوقات مؤتمر الحوار الوطني

هناك معوقات كثيرة ما تزال تشكل إما عائقاً أمام انعقاد المؤتمر بحد ذاته، أو أنها تشكل مخاطر حقيقية على جدية هذا المؤتمر وقدرته على الوصول لأهدافه المتمثلة في إعادة إنتاج النظام السياسي في سوريا، ومن أهم هذه العوائق:

• انتشار السلاح بكثافة سواء بين الأفراد أو مع “الفصائل العسكرية بغض النظر عن توجهها”، لأن أي عملية حوار تحت ظل السلاح ستبقى محفوفة بالمخاطر المتمثلة في إمكانية انزلاق الوضع في سوريا نحو العنف، وقد يقول قائل إن مؤتمر الحوار الوطني ضروري لنزع سلاح المجموعات المسلحة، لكن هنا تثور أيضا مخاوف من أن الجماعات المختلفة ستستقوي بالسلاح لفرض رؤيتها ومطالبها، فوجود السلاح بحد ذاته يمثل إغراء كبيرا لهذه الجماعات لتشديد ما تريد وللتعامل مع الفضاء العام بمنطق أننا “نستطيع”، وقد سمعنا خلال الأيام الماضية، تصريحات لأطراف مختلفة تتحدث عن رفض إلقاء السلاح إلا بعد تحقق شروط معينة، وهذا يعني أن بعض الأطراف ترى في السلاح نوعا من الضمانة لفرض مطالبها، ما يُخرج مؤتمر الحوار بحد ذاته عن مضمونه وهدفه، باعتباره مؤتمرا تأسيسيا لإعادة إنتاج النظام السياسي بعيدا عن منطق التغلب والقوة والعنف، كذلك فإن وجود السلاح بحد ذاته، يلغي الفرد لصالح الجماعة، لأنه سيقع فريسة تفاهمات ومحاصصات بين جماعات مختلفة، وهو ما حدث في العراق، حيث حصلت الجماعات المختلفة على حقوقها دستورياً لكن الفرد العراقي سواء كان شيعياً أو سنياً أو كردياً وقع ضحية قيادات هذه الجماعات والأطراف التي تدعي تمثيلها.

• عدم وجود لجنة تحضيرية، تتمتع بالشفافية والتنوع والكفاءة، والتنوع الذي نتحدث عنه ليس تنوعاً طائفياً أو عرقياً أو مذهبياً، بل التنوع في التيارات السياسية الكبرى في سوريا، سواء التيارات المحافظة أو القومية أو الليبرالية أو اليسارية، وهنا لا نتحدث عن قوى سياسية بعينها بل عن تيارات كبرى، بحيث إنه لا يشترط لمن يتبنى الفكر المحافظ أو الليبرالي أن يكون عضواً في أي جماعة سياسية، والتنوع في اللجنة التحضيرية هو ضمانة أساسية، لنجاح المؤتمر، ولضمان عدم احتكار الإدارة الانتقالية للمؤتمر وعدم التحكم بمخرجاته.

• عدم وجود إطار إجرائي يضبط عملية الحوار الوطني، ويحدد آلياته، وهذا الإطار الإجرائي ضروري أن يتم إنجازه كعملية سابقة لانعقاد المؤتمر، بحيث يكون لدى أعضاء المؤتمر رؤية واضحة لمعايير التمثيل والعضوية في المؤتمر، وآليات النقاش ونظام التصويت وكيفية فض النزاعات، وآليات حسم الخلافات على القضايا الكبرى، سواء في داخل المؤتمر أو عبر الاحتكام لإرادة المواطنين، والإطار الإجرائي المناسب يجب أن تضعه اللجنة التحضيرية للمؤتمر وأن تعرضه للنقاش العام قبل فترة مناسبة لانعقاده.

ختاما فإن كل ما يدور من حديث عن انعقاد مؤتمر الحوار الوطني وأنه سيضم عددا كبيرا من السوريين، لا يصب في الهدف الأساسي، فجمع آلاف الناس أو مئات منهم في مكان واحد لا يعني بالضرورة أن هذا الاجتماع يمثل حوارا وطنياً، فالذهاب إلى مؤتمر من دون تحديد الهدف الأساسي له، ومن دون وجود لجنة تحضيرية متنوعة وشفافة، ومن دون تحديد لائحة إجرائية واضحة تحكم عملية التمثيل والمخرجات وكيفية فض النزاعات وطرق حسم الخلافات يعني أننا نذهب إلى المجهول، ولا سيما في ظل وجود السلاح وفي ظل استقواء البعض بهذا السلاح لفرض شروطه ومطالبه.

تلفزيون سوريا

————————–

لماذا تحتاج سورية خطّة انتقال سريعاً؟/ مروان قبلان

22 يناير 2025

رغم مرور أكثر من ستة أسابيع على سقوط نظام الأسد، والارتياح العام الذي قابل به العالم التغيير في سورية (مع الإقرار بوجود هواجس وتحفظات لدى أطراف إقليمية ودولية عديدة)، ما زالت السلطة الجديدة في دمشق لا تملك تصوّراً واضحاً عن كيفية إدارة المرحلة الانتقالية، أو أنها، حال وجوده، لا تشارك السوريين به، والعالم. أهمية تقديم رؤية واضحة الآن للمرحلة الانتقالية تتأتى من أن الكثير يتوقّف على ذلك. فمن جهة، يشكّل وجود خطة انتقال واقعية، شاملة، وقابلة للتنفيذ، مصدر طمأنينة للعالم الذي سيقرّر، بناء عليه، ما إذا كان سيساعد الانتقال أو يعرقله، بما في ذلك، خصوصاً، الاعتراف بالنظام الجديد، رفع العقوبات، تقديم المساعدات، وكبح جماح التدخلات الخارجية المحتملة خلال المراحل الانتقالية. ومن جهة أخرى، وهذا الأهم، ربما، أن وجود مثل هذا التصوّر يعني بروز مسار واضح ينخرط فيه السوريون في بناء وطنهم بكل طاقتهم، وصولاً إلى مستوى طموحاتهم. يشكّل وجود هذه الرؤية، بهذا المعنى، الفرق بين أن نذهب باتجاه دولة قوية مزدهرة أو التحوّل إلى ثقب أسود في المنطقة، وساحة فوضى عارمة تشجع على التدخّلات الخارجية، تؤدّي، في نهاية المطاف، إلى تفتيت البلد، وهذا أكبر تهديد تواجهه سورية في المدى المنظور، وفق ما دلّت عليه تجارب الآخرين.

خلال الثورات أو الصراعات الداخلية، تتراجع القدرات الدفاعية للدول، مرحليّاً، بسبب عمليات التطهير التي تقوم بها قوى النظام الجديد لتكريس سلطتها، وتطاول قوى النظام القديم وفلوله. هذا الضعف الظاهر في قوة الدولة، محلّ الثورة، يؤثر عادة في موازين القوى في النظام الإقليمي أو الدولي (في حال كانت الدولة مركزية فيه). ويحدُث التدخّل الأجنبي هنا لأنه يوفر “فرصة سانحة” لسببين:

أولهما، أن الدول الأخرى تفسّر ضعفَ الدولة الثورية غالباً بأنه فرصة لتحسين مواقعها تجاهها، إما بالاستيلاء على أراضٍ متنازع عليها، أو من خلال السعي للحصول على تنازلات دبلوماسية منها في لحظة ضعف. وهذا تحديداً ما تحاول إسرائيل فعله في الجنوب السوري عبر احتلال أراض سورية جديدة، قد تحتفظ بها، أو قد تستخدمها لاحقاً أداة تفاوض للحصول على إقرار من النظام الجديد في دمشق بشرعية احتلالها الأراضي التي سيطرت عليها في مرحلة سابقة (1967). تركيا أيضا تسعى إلى انتزاع تنازلات من دمشق في لحظة ضعف، من خلال إلحاحها على ترسيم الحدود البحرية معها في هذه المرحلة تحديداً، عسى أن تظفر بمناطق يُتوقع وجود ثروات باطنية فيها، وقد لا يكون ممكناً الحصول عليها في ظروفٍ مغايرة.

ثانياً، يمكن للثورات الاجتماعية أن تؤدّي إلى زيادة التنافس بين الدول الأخرى لتحسين مواقعها في النظام الإقليمي تجاه بعضها بعضاً. وقد يحدث ذلك بالاستفادة من عدم الاستقرار داخل دولة ثالثة لتغيير موازين القوى لصالح دولة معينة (مثل إقامة نظام صديق في الدولة الثورية أو معارضة إطاحة نظام صديق)، أو/ومنع الدول المنافسة من القيام بالأمر عينه. هنا، ومع احتدام حدّة التنافس بين تركيا وإسرائيل في ظل الفراغ الناشئ عن ضعف الدولة السورية، قد تعمد إسرائيل إلى التدخّل لمنع قيام نظام مركزي قوي صديق لتركيا في دمشق، إذا رأت فيه تداعيات سلبية على مصالحها.

في ظروف مغايرة، قد تتحرّك بعض الدول المجاورة، بداعي الخوف من تعاظم القدرات المحتملة للدولة الثورية، إن هي نجحت في تحقيق الاستقرار الداخلي بعد الثورة، وتهاجمها، فالدولة الثورية تملك عادة قدرات أكبر، ويمكنها حشد موارد أكثر مما كان عليه الحال في ظل النظام القديم. ويتيح حشد الطاقات، وتماسك نخبة الحكم الجديدة، وتفعيل بيروقراطية الدولة، وإحياء الروح المشتركة للأمة، لأنظمة ما بعد الثورة ممارسة درجة أكبر من الضبط والسيطرة على المجتمع. يثير هذا الوضع قلق البلدان المجاورة، ويقودها، في بعض الأحيان، إلى التحرّك على نحو استباقي لمهاجمة الدولة الثورية، قبل أن تستقر الأوضاع فيها. وهذا ما فعلته إسرائيل مباشرة عقب سقوط نظام الأسد، بغرض إضعاف سورية وصولاً إلى تفتيتها. ويمكن تجنّب هذه المخاطر كليّاً أو جزئيّاً عبر رؤية انتقال سياسي معلنة وواضحة تستنهض سريعاً قوة الدولة، تمنع الفراغ، وتسدّ الباب امام التدخلات الخارجية المدمّرة.

العربي الجديد

——————————-

المخاض السوري… كعب آخيل وطني/ علي العبدالله

22 يناير 2025

تواجه سورية في مخاضها الجديد معادلة مركّبة شديدة التعقيد، تنذر بمخاطر جسيمة على الصعيدين المحلي والإقليمي. أطراف المعادلة هيئة تحرير الشام وحلفاؤها، فصائل سلفية التوجّه، قوى المعارضة، الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، وهيئة التفاوض بمنصّاتها المتعدّدة والمتعارضة، وبقايا التنسيقيات، ومنظمات المجتمع المدني، والأحزاب السياسية، اليسارية والقومية، بالإضافة إلى جهات قومية ومذهبية تستبطن تحقيق خلاص خاصِّ بها بتبنّي الاتحادية أو اللامركزية الموسّعة، وفصائل مسلحة تريد الاحتفاظ بتشكيلاتها وأسلحتها داخل وزارة الدفاع. وشعبٌ تعب من الحروب والظروف الحياتية القاسية والمدمرة. هذا بالإضافة إلى تنافس إقليمي ودولي على إدارة المخاض والتحكّم به ودفعه في مسارات لتحقيق أهداف دول كثيرة متعاونة في ملفات ومتنافسة ومتعارضة في أخرى، ما زاد في تعقيد الموقف جاعلاً تحقيق الانتقال السياسي والأمن والاستقرار أكثر صعوبة.

تنطوي المعادلة على تضارب في التوجّهات والخيارات والمصالح، حيث لهيئة تحرير الشام، وحلفائها، رؤاها وتصوراتها وأهدافها، لم تعلن عنها بشكل واضح وكامل، لكنها بدأت تمرّرها على دفعاتٍ عبر قرارات وزارية وتعيينات إدارية وعسكرية نفذت معظمها وكرّستها، مع أنها لم تحظ بشرعية وطنية، نفّذت على خلفية امتلاك الهيئة، وحلفائها، عناصر قوة لفرض أمر واقع يناسبها من دون الاعتداد بالشرعية الوطنية، وذلك لأنها تعتبره، الأمر الواقع، نتيجة منطقية لنجاحها في إسقاط النظام، من جهة، ولأن ميزان القوى يميل لصالحها، من جهة ثانية. في حين يطرح الطرف الثاني رؤى مختلفة إلى درجة التناقض، أساسها الديمقراطية، بما تستدعيه من تعدّدية سياسية وحرّيات عامة وخاصة واحترام حقوق الإنسان وتداول على السلطة عبر صناديق الاقتراع، والعلمانية، والمواطنة، مدخلاً لإنصاف مكونات المجتمع، مع شعور عارم بالغُبن على خلفية أنها تعرّضت لخسارة دورها ومكانتها، بسبب اختطاف الهيئة ثورة الحرية والكرامة، وهي ليست جزءاً أصيلاً منها، وتوظيفها ورقة تحقيق هدف الثورة بإسقاط النظام للتفرد بالحكم، حيث جاء إعلانها (الهيئة) نهاية الثورة، وكل ما أرتبط بها من أطر ومؤسّسات سياسية وإدارية، مباشراً وصريحاً، وتنفيذها جزءاً من رؤاها وتصوراتها وأهدافها، من دون التفاتٍ للرأي العام الوطني.

لقد حققت الهيئة، وحلفاؤها، هدف الشعب السوري، وجهات عربية وإقليمية ودولية عديدة، بإسقاطها النظام البائد بكل قواه ومرتكزاته وشبكة علاقاته وارتباطاته، خاصة مع إيران، لكنها ذهبت بعيداً في تجاهل السياق العام للحدث ومقدّماته، ثورة شعبية وقوى سياسية واجتماعية تحمّلت عبء مواجهة قاسية ودامية استمرّت سنوات دفعت فيها أثماناً باهظة، بشرياً ومادياً، عبر بسط سيطرتها على البلاد وملء الفراغ السياسي والإداري، برجالها ورجال حلفائها، وكأن ليس لما حصل قبل إسقاط النظام قيمة أو اعتبار. الطريف أن التعيينات، والتي ينفرد أحمد الشرع في تقريرها، تجري على قاعدة الولاء لا الكفاءة، من تعيين رئيس أركان مدني للجيش المزمع تشكيله ومنحه رتبة لواء، في العُرف العسكري لا يتولى رئاسة الأركان إلا جنرال ترقّى في العمل العسكري وكسب خبرات كبيرة وخضع لدورات أركان عديدة؛ لأن دوره قيادة الجيش والتخطيط له زمن الحرب والسلم. وتعيين رئيس لمحكمة النقض، التي توصف بمحكمة القانون، من خارج سلك القضاء، مدرّس للتربية الدينية، لا يمتلك مؤهلات النظر في قانونية المحاكمات التي ستُعرض عليه، وتعيين حامل شهادة ابتدائية رئيساً للقصر العدلي في حمص، وظيفة غير معروفة سابقاً كأنها ابتُدعت لإرضاء هذا الشخص، وتجاهل حساسية موضوع إشراك العائلة في السلطة عبر تعيين شقيق قائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع، ماهر، وزيراً للصحة، وتعيين صهره مديراً عاماً للجمارك، ما أثار التندر: خلصنا من بيت الأسد أجونا بيت الشرع. ناهيك عن تصرف وزارة الهيئة في البلد بوصفها سلطة كاملة الصلاحيات، تعدّل في برامج التعليم وتحدّد طبيعة النظام الاقتصادي، وتشكّل جيشاً سورياً جديداً، وتمنح رتباً عسكرية عليا لأجانب، تمهيداً لاحتلالهم موقعاً قيادياً في الجيش الجديد، وتفصل موظفين حكوميين من وظائفهم، مع أنها سلطة تصريف أعمال إلى حين تشكيل سلطة انتقالية.

وهذا بالإضافة إلى العمل على صياغة الفضاء السياسي بما يخدم تصوّر هيئة تحرير الشام لطبيعة النظام السياسي، حيث بدأت باختبار إمكانية تنظيم مؤتمر حوار وطني ذي طابع اجتماعي بدعوة شخصيات للمشاركة بوصفهم أفراداً أو ممثلين لطوائف أو عشائر، ما يعني إبعاد الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني عن المشاركة، بحيث تكون هي القوة الوحيدة المنظّمة في المؤتمر، ما يتيح لها فرض تصوّراتها وخياراتها. وهو ما تضمّنته بعض تصريحات الشرع، خاصة حديثه عن عقد بين الدولة والطوائف، حتى بدا وكأنه يأخذ باليسرى ما يقدّمه باليمنى، ويؤكّد تقديرات وانطباعات سوريين كثر عن عمل الهيئة لتحقيق أهدافها الخاصة وتنفيذ رؤيتها وتصوّرها لسورية المستقبل وعدم ارتباطها بأهداف ثورة الحرية والكرامة.

ليس الوضع على الضفّة الأخرى، ضفة القوى السياسية والمدنية، أفضل حالاً، تتصرّف هذه القوى وكأنها ما زالت في مواجهة النظام البائد، تكرّر الطروحات نفسها وترفع الشعارات التي رفعتها منذ عقود، وكأنها غير مدركةٍ طبيعة ما حصل في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024، أو لم تستوعب طبيعة التغيير الذي حصل وطبيعة السلطة الجديدة بعقيدتها ومشروعها السياسي، أو غير واعية باللحظة السياسية وميزان القوى غير المؤاتي وطبيعة الموقف العام، تكرّر خطابها المعادي للإسلام السياسي، تكرّر خطابها في هذا المجال، مع أنها ترى وتلمس أن الجهات الخارجية التي حاولت استرضاءها بالتناغم معها في معاداة الإسلام السياسي لم تتوقف عند هذه القضية في تعاطيها مع السلطة الجديدة ذات الخلفية السلفية، طالما رضيت هذه الأخيرة الالتزام بتحقيق مطالب معيّنة.

كان الخطاب المعادي للإسلام السياسي لدى أحزاب وقوى سياسية سطحياً ومصلحياً، باستثناء بعض الحالات العلمانية الفجّة والمنفصلة عن الواقع، فاللحظة السياسية تستدعي إعادة نظر في الموقف من الإسلام السياسي، والإقرار بحقّه في التنافس على السلطة، مثل كل التيارات الفكرية والسياسية، على أن يتم ذلك عبر صناديق الاقتراع، والعمل على تأسيس خطاب سياسي جديد، يلحظ هذا الحق ويبحث عن أسس ومرتكزات للتعايش والتعاون، عبر التخلّي عن مطالب غير واقعية وغير شعبية، كالعلمانية، إما باختيار صيغة مرنة من العلمانية، كما هو الحال في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، أو تبنّي اقتراح محمد عابد الجابري (رحمه الله)، باستبدال العقلانية بالعلمانية، فالتعاطي مع الموقف الراهن بحاجةٍ إلى إدراك الموقف العام، حيث غالبية الشعب لا تشاركها موقفها من الإسلام السياسي، وأنها، غالبية الشعب، منهكة وتبحث عن استراحة قد تكون طويلة، ولن يسعدها أو يحرّك نوازعها للعمل من أجل التغيير أي خطاب، مهما كان محتواه، بل ستجد فيه تهديداً لمصالحها في الأمن والاستقرار، وسترضى بقليلٍ من المنافع والخدمات تقدّمها السلطة الجديدة، طالما جاءت مصحوبة بالأمن والاستقرار. لذا لن ترى في أي صدام مع السلطة الجديدة وجاهة أو منطقاً، حتى لو كانت كذلك، وستنظر إلى أي تحرّك في هذا الاتجاه بسلبية شديدة.

عكست المواقف المعلنة للطرفين تمسّك كلٍّ منهما برؤاه وتصوراته وأهدافه، ما يثير هواجس المجتمع ومخاوفه من ذهابهما نحو قطيعة ومفاصلة مأساوية تدمّر الإنجاز الأسطوري: إسقاط النظام، فالعمل السياسي في الساحة السورية يعتمد تقليدياً قاعدة “كل شيء أو لا شيء”. وهذا جعل “الهيئة” تنفّذ رؤاها وتصوراتها من دون انتظار مؤتمر الحوار الوطني ونتائجه وخياراته؛ وجعل القوى السياسية والمدنية تعترض وتكرّر مواقفها وطلباتها التقليدية؛ بعضها يأمل بفشل “الهيئة” حتى لو أضر ذلك بالوضع العام؛ والخيار المنطقي في هذه اللحظة هو تدوير الزوايا.

لا خيار سوى الذهاب إلى مساومات وحلول وسط توافق فيه كل الأطراف على تنازلات وتعديلات في مواقفها ومطالبها. وعليه، على السلطة الجديدة تبنّي سياسات بدلالة المصلحة العامة لا بدلالة مصلحة حزبية أو فئوية، وأن تكون أولويتها تحقيق الأمن والاستقرار في الداخل، وذلك عبر الانفتاح على السوريين، كل السوريين بأديانهم ومذاهبهم وقومياتهم وانتماءاتهم الفكرية والسياسية والحزبية من دون تمييز. وهنا لا يكفي التسامح مع المكونات الدينية والمذهبية والقومية، فالتسامح ينطوي على رفض مضمر للمتسامح معه مع غضّ نظر عن طبيعته، فالقضية الرئيسية هي الاعتراف بحقوق أفرادها باعتبارهم مواطنين متساوين، يشاركون في تقرير مستقبل البلاد، والتأسيس لمناخ يفتح على استعادة الإحساس بالانتماء المشترك عبر التأكيد على العدالة والمساواة في المواطنة وفي الحقوق والواجبات وإطلاق الحريات العامة والخاصة، حرّية الرأي والتعبير وتأسيس الأحزاب والنقابات والمنظمات والجمعيات، وعبر تشكل هيئة حكم انتقالية وصولاً إلى وضع دستور جديد وإجراء انتخابات نيابية ورئاسية حرّة ونزيهة، خاصة وحكومة الإنقاذ في إدلب ليست مؤهلة لإدارة دولة بحجم سورية، فهيكلها صغير، أقلّ من سبعة آلاف موظف، والهيئة ليست حركة جماهيرية، بحيث يمكنها الاعتماد على حضورها في القطاعات المهنية وفي الطبقة الوسطى.

هناك عجز هائل في القوى والموارد البشرية. وقد تجلى ذلك في التعيينات التي جرت وممارسات الوزراء، فالانفتاح والتصرّف بدلالة الوطن وتحقيق العدل والمساواة بين المواطنين، وتنفيذ خطّة مدروسة للعدالة الانتقالية مدخل مضمون لاستعادة الوحدة الوطنية ولاكتساب الشرعية السياسية والاجتماعية وتوظيفها في الردّ على مطالب الخارج، كما علي هيئة تحرير الشام الإعلان عن التمسّك بالقانون الدولي والشرعية الدولية مدخلاً ومفتاحاً للتفاعل والتعاون مع جميع الدول، لكسب ثقتها ودفعها إلى المشاركة في تذليل العقبات والصعوبات أمام عملية الإقلاع الوطني وعملية إعادة الإعمار. وعلى الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني إعادة النظر في خطابها السياسي وتصوّراتها بحيث تلحظ طبيعة اللحظة السياسية ومقتضياتها، وأن تكون أولوياتها إنجاح المرحلة الانتقالية وتحقيق الأمن والاستقرار عبر الانخراط مع “الهيئة” في حوار سياسي عميق، مباشر وغير مباشر، وعبر الضغط السياسي والاجتماعي من أجل تصويب الممارسة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والعمل على إنجاز استحقاقات المرحلة الانتقالية عبر المشاركة بالسلطة بكل مستوياتها، ما يستدعي تثقيل دورها وتعزيز مطالبها، عبر بناء وإعادة بناء الأحزاب ومنظمّات المجتمع المدني، من نقابات عمّالية وفلاحية ومهنية وفنية وشبابية ونسائية، والتعاون والتنسيق في ما بينها. وهذا مع تجاوز الانقسام الديني والمذهبي والقومي في بنيتها، وذلك عبر فتح المجال أمام الجميع للانخراط في هذه المنظمّات ونشاطاتها الخاصة والعامة.

تلعب الإيجابية والتشاركية من كلا الطرفين دوراً مهماً في إنجاح الانتقال السياسي بسلاسة، لأنها تساعد على تهدئة الأجواء ولجم دعاة التشدّد واحتواء محاولات الاستئثار والتفرّد والخلافات الداخلية بين الفصائل والقوى السياسية والاجتماعية، ما يجنّب المرحلة الانتقالية وقوع صراعات جانبية بين الفصائل، بذريعة الإصلاح وتصحيح المسيرة وتوفير الأمن والاستقرار الذي فشلت السلطة الجديدة في توفيرهما، ويقطع الطريق على التدخّلات الخارجية ومشاريعها للتحكم بالمرحلة الانتقالية.

العربي الجديد

——————————-

ابتزاز سياسي أم فرصة للتعافي.. ندوة في دمشق تناقش إعادة تقييم العقوبات على سوريا/ حنين عمران

2025.01.21

عقد المنتدى السوري ندوة بعنوان “إعادة تقييم العقوبات على سوريا: تحقيق التوازن بين المساءلة والتعافي والانتقال السياسي”، في قاعة “إشبيليا” في فندق شيراتون دمشق.

وقاد الندوة، الباحث الاقتصادي كرم الشعار، والباحث في العلوم السياسية جمال منصور، والمحامية زهرة البرازي مدير البرامج في البرنامج السوري للتطوير القانوني.

تضمنت الندوة مناقشة العقوبات على سوريا من حيث تصنيفها ونوعها، ودور الشعب السوري في إعادة تقييم العقوبات أو حتى المساهمة في فرض عقوبات جديدة على بعض الشخصيات المرتبطة بالنظام المخلوع، وأهمية العقوبات التي أسهمت في تهالك النظام المخلوع خلال السنوات الماضية وإعادة تقييمها للتخلص منها بعد سقوطه.

“لدينا القدرة والدافع وعلينا الواجب”

تضمنت الندوة تأكيدات على دور السوريين في المرحلة الحالية كما كان لهم كبير الدور قبل سقوط النظام لفرض العقوبات ولا سيما دورهم في قانون قيصر، أما الآن وبعد سقوط النظام؛ فللسوريين دور كبير في الدفع نحو إعادة تقييم هذه العقوبات والنظر فيها من قبل الولايات المتحدة الأميركية والدول الأجنبية، وبالتالي المطالبة برفعها بأسرع ما يمكن.

أكد الدكتور جمال منصور، على دور المبادرات الفردية ولا سيما بعد زوال حالة القمع التي كان يفرضها النظام على أي مشاركة سياسية للسوريين، كما تحدثت زهرة البرازي عن إمكانية تقديم السوريين للمساعدة في مواقعهم كمواطنين من خلال تقديم معلومات حول الشخصيات المرتبطة بالنظام المخلوع وأماكن إيداع أموالهم وثرواتهم التي جمعوها من خلال ارتباطهم بسلطة الأسد البائدة، كما ذكرت برازي قصصاً عن دور بعض السوريين في المساهمة بإلحاق العقوبات بنظام الأسد عبر المعلومات التي أدلوا بها والوثائق التي قدموها.

كيفية تصنيف العقوبات على سوريا

تحدث الباحث كرم الشعار عن كون العقوبات المفروضة على سوريا تنقسم إلى عقوبات قطاعية أحادية الجانب، وعقوبات مُستهدِفة أو فردية، وبناءً على هذا التقسيم يمكن معرفة آليات رفع هذه العقوبات المشروطة وغير المشروطة.

وعبّر الشعار، في الندوة، عن إيمانه بالرفع غير المشروط للعقوبات ولا سيما العقوبات القطاعية أحادية الجانب، ويتضمن ذلك فهم أن بعض العقوبات المفروضة على مؤسسات أو شركات أو قطاعات كاملة، إنما هي تؤثر سلبياً في القطاع بأكمله وبالتالي زيادة العبء على الاقتصاد وتضرر بعض الاستثمارات.

وتعرّف العقوبات أحادية الجانب بأنها العقوبات التي يتم إقرارها من قبل دولة تجاه أخرى خارج إطار الأمم المتحدة أو مجلس الأمن.

أما العقوبات القطاعية فهي العقوبات التي تحظر أنشطة معينة مثل البيع والشراء أو التصدير أو المساهمة في صناعات أو قطاعات معينة مثل: التكنولوجيا والاتصالات، النفط والغاز، شبكات الكهرباء.

يُشار إلى أنّ العقوبات الأولية الأميركية التي كانت مفروضة على النظام المخلوع هي الأشد؛ إذ حظرت هذه العقوبات جميع العلاقات التجارية والمالية بين أميركا وسوريا مع استثناء لفئات معينة من المساعدات الإنسانية مثل الغذاء والدواء، إلى جانب حظر استخدام النظام المالي الأميركي من قبل البنوك والشركات الأجنبية لمعالجة المعاملات المتعلقة بسوريا.

وفي عام 2019 فرضت عقوبات ثانوية بموجب قانون “قيصر” لحظر فئات معينة من التجارة مع دول ثالثة.

النظام المخلوع كان “ميتاً سريرياً”

وصف الباحث كرم الشعار النظام البائد بالميت سريرياً؛ مشيراً إلى دور العقوبات التي فرضت عليه في إهلاكه اقتصادياً وهو عامل مهم في سقوطه. أما السنوات الماضية التي استطاع فيها البقاء في سدة الحكم فكانت بسبب ملء خزائنه من تجارة الممنوعات والعمل الميليشياوي الذي قامت به أجهزته، ولا سيما من خلال تجارة “الكبتاغون”.

يصف الشعار رأس النظام المخلوع برئيس العصابة الكبتاغونية الذي تخلصت منه ومن شرّه الدول المحيطة من دون استثناء، لا السوريين فقط؛ لذا صار من الضروري إعادة النظر في العقوبات المفروضة على سوريا ومحاولة رفعها لكون مسببها ذهب من دون رجعة.

أهمية رفع العقوبات عن القطاع المصرفي

وتشمل العقوبات على سوريا المؤسسات الحكومية ومصرف سوريا المركزي وشركات الاتصالات؛ فالعقوبات القطاعية المفروضة من الاتحاد الأوروبي تمنع استيراد وتصدير وبيع المعدات الإلكترونية والتجهيزات التكنولوجية وتفرض القيود على استيراد وتصدير المعادن الثمينة والذهب، وتجميد الأصول لهيئات مثل مصرف سوريا المركزي. كما تقيّد هذه العقوبات الاستثمارات والتأمين وإعادة التأمين في سوريا، وتحدّ من قدرة البنوك على العمل في الاتحاد الأوروبي.

وقد أوضح الدكتور جمال منصور خطورة بقاء بعض العقوبات القطاعية التي صارت ذات قيمة سلبية في الوقت الحالي بعد سقوط النظام المخلوع لكونها تعرقل عمل قطاعات كاملة ولا سيما تلك المفروضة على القطاع المصرفي. ومن جانبه تحدّث كرم الشعار عن تقييد بعض الاستثمارات ولا سيما الخليجية منها وذلك بسبب العقوبات المفروضة على سوريا، وهنا تكمن أهمية رفع العقوبات القطاعية أحادية الجانب ومنها تلك المفروضة على القطاع المصرفي، بسرعة ومن دون شروط.

مخاوف من الابتزاز السياسي

من المسائل الشائكة التي يتم الحديث عنها عند مناقشة العقوبات على سوريا وآليات دفع عجلة رفعها أو تعليق بعضها إلى الأمام، هي مسألة “الابتزاز السياسي” التي قد تلوّح بها بعض الدول في وجه السوريين، وهي متعلقة باشتراط رفع العقوبات بتنازلات سياسية جسيمة.

يأتي من ضمن الشروط التي تثير قلق السوريين والباحثين الاقتصاديين، بشرط الاعتراف بالوجود الإسرائيلي على الأراضي السورية مقابل نيل رضا إدارة ترامب ومن ثَمَّ قبولها برفع العقوبات، أو الشرط المرتبط بخروج القواعد الروسية من سوريا في مقابل تزمت روسيا، أو شرط الأمن القومي التركي مقابل رفع العقوبات، وبالتالي ترسيخ وجود القوات التركية في الشمال السوري.

وتأتي هذه الشروط من ضمن محاولات بعض الدول الأجنبية “الاستقواء” على السوريين كما وصفها كرم الشعار، الذي نوّه أن العقوبات كانت موجهة لإضعاف نظام وردعه عن استخدام العنف والإبادة ضد شعبه، أما الآن فصار لزاماً إعادة النظر في أهداف العقوبات ومبررات الإبقاء عليها وموجبات رفعها أو تعليقها، بربطها بالواقع الحالي للسوريين.

وتحدّث الشعار بدوره عن كون العلاقة مع الغرب “علاقة إشكالية” وتحمل مآزق أخلاقية للسوريين؛ لسببين أساسيين: أولهما ما خلقه النظام السوري وبعض الكيانات التي نشطت على الأرض السورية من تصورات حول السوريين وطريقة التعامل معهم وحتى كيفية التعاطف معهم. وثاني الأسباب هو كيفية تعاملنا كسوريين مع دول أيدت المجازر بحق الفلسطينيين؛ فكيف يمكن مقاطعة مصالحنا من دون المساس بقدسية القضية الفلسطينية؟ كما أشار الشعار إلى ضرورة الحذر من ابتزازنا بالجولان.

العقوبات المرتبطة بالتشكيلات الإسلامية

فرض مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ما أسماه بـ “إجراءات مكافحة الإرهاب” على بعض الجماعات المسلحة التي نشطت على الأراضي السورية خلال سنوات الحرب، وألزم مجلس الأمن الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بالامتثال لهذه الإجراءات التي تشمل تجميد أصول وحظر التمويل ودعم الأنشطة المرتبطة بتلك الجماعات، وتخضع “هيئة تحرير الشام” لهذه الإجراءات.

وفي مداخلة للإعلامي وائل التميمي خلال الندوة، تساءل إذا ما كانت العقوبات المفروضة على هيئة تحرير الشام هي عقوبات تشمل أفراداً أم الكيان بكامله؟ وهل تسقط العقوبات بحلّ الهيئة؟

وقد أجاب الشعار بأن العقوبات مفروضة على هيئة تحرير الشام كمنظمة وعلى أعضائها كعقوبات على الأفراد أيضاً؛ لذلك فإن حلّ الهيئة لا يعني إسقاط العقوبات عن أفرادها.

يشار إلى أن الولايات المتحدة الأميركية أصدرت في السادس من كانون الثاني الجاري إعفاءً من العقوبات على المعاملات مع المؤسسات السورية لمدة 6 أشهر عقب سقوط النظام، لتسهيل وصول المساعدات الإنسانية إلى سوريا. وقد سمي هذا الإعفاء بـ “الترخيص العام” الذي شمل قطاعات الكهرباء والمياه والطاقة والصرف الصحي والمستشفيات والمدارس، ويسمح بإجراء معاملات دولية مع الإدارة الجديدة حتى لو كان أحد أفرادها مصنفاً على لوائح الإرهاب، بشرط ألا تشمل هذه المعاملات وكالات عسكرية أو استخبارية. وأوضحت الخزانة الأميركية أن عقوبات واشنطن على الأسد وهيئة تحرير الشام والكيانات المرتبطة بهما لا تزال مستمرة بغض النظر عن “الترخيص العام” الذي يُعد استثناءً إنسانياً لصالح السوريين في المرحلة الانتقالية.

تلفزيون سوريا

———————————–

من الثورة إلى بناء الدولة.. هل ينجو أحمد الشرع من النقد؟/ علي سفر

2025.01.21

بعد مرور 40 يوماً على هروب بشار الأسد، ودخول البلاد مرحلة جديدة، تُطرح على قائد الإدارة الجديدة أحمد الشرع أسئلة أساسية مهمة جداً، بالنسبة لفئاتٍ سوريةٍ واسعةٍ، ولا سيما بعد إعلانه أن زمن الثورة قد انتهى ليبدأ زمن بناء الدولة.

غالبيةَ المؤيدين للسلطة الجديدة، وربما بسبب نشوةِ الانتصارِ المديدةِ، لا يُميزون بين نقدِ الثورةِ ونقدِ مسارِ بناء الدولة، ويعتبرون أن أيَّ نقدٍ موجَّهٍ للسلطة الجديدة هو نقدٌ للمنتصرين، مبنيٌّ على كراهيةٍ مسبقةٍ تجاه الصورةِ النمطيةِ للجهاديين الإسلاميين. ما يؤدي في المحصلة إلى تخويفِ المنتقدين وحشرِهم في زاويةِ اتهامٍ مسبقٍ بأنهم “فلولٌ” للنظامِ البائدِ أو أيتامُه!

لا يرى المدافعون عن السلطةِ الجديدةِ بعجرها وبجرها السياقَ التعدديَّ للآخرين، بل يعتبرونهم طرفاً متحداً ضدَّ هيئةِ تحريرِ الشام. بينما يشير واقعُ الحالِ إلى وجودِ نقاطٍ أو بؤرٍ خلافيةٍ كثيرةٍ بين من يحكمون الآن دون سندٍ قانونيٍّ أو دستوريٍّ، وبين تياراتٍ معارضةٍ أخرى، كانت لها أدوارها في مواجهة نظام الاستبداد المندحر.

المشكلة الآن ليست في هذا الجدال، فهو محصلةٌ لواقعٍ تختفي فيه توضيحاتُ السلطة بشأنِ ما تعتقده وما تنوي فعلَه. كما أنه نتاجٌ لفترةٍ طويلةٍ من غيابِ مفهومِ القانونِ في أذهانِ كثيرٍ ممن يحملون السلاح، فيعالجون القضايا التي تؤرقهم، وفقَ نزعاتِهم الشخصيةِ بدلاً من الاحتكامِ إلى العدالة.

الثابت في المعادلةِ المفروضةِ على السوريين حالياً هو أن هناك وقتاً لا بد أن يمر، طالما أن الجهودَ تُكرَّس لترسيخِ الأمنِ، ونزعِ السلاحِ المنفلتِ، وحلِّ الفصائلِ المسلحةِ، وإعادةِ سيطرةِ الدولةِ على كلِّ أدواتِ العنف.

ومع ذلك، هناك عنفٌ آخرُ يتعرض له الجميع، ويتمثل في الحديثِ عن انتهاكاتٍ كثيرةٍ تحدث على الأرض. والعنفُ هنا لا يقتصر على حيثياتِ الانتهاكاتِ ذاتها، بل يشمل انعكاساتِها على عقولِ السوريين الذين كانوا وما زالوا يأملون تجاوزَ المنعطفِ الحادِّ بأقلِّ الخسائر.

إلى جانبِ ذلك، هناك فئاتٌ مجتمعيةٌ دينيةٌ وطائفيةٌ تكتفي بموقعِ المتلقي وتُظهر خوفَها، ولا يبدو أنها ترغب في اتخاذِ مواقفَ قد تؤدي لاحقاً إلى تعرضها لسياساتٍ قمعيةٍ. هذه الفئاتُ تُحدث تشويشاً كبيراً في المشهدِ، إذ تضع هواجسَها في مقدمته، مما يبدد الجهودَ المبذولةَ لإصلاحِ الحياةِ السوريةِ، ويترك فراغاً نتيجةَ تأخرِ تلبيةِ مطالبِها بالسرعةِ المطلوبة.

ما جرى خلال الفترةِ الماضيةِ، ورغم الاحتفالِ العامِّ برحيلِ نظامِ البراميلِ، أحدث رضوضاً نفسيةً لدى شرائحَ من الجمهور. وقد ارتفعت أصواتُ منتقدةُ بشدةٍ، تركز على طريقةِ عملِ الإدارةِ الجديدةِ في مسارِ بناء الدولة، بعد أن طوت الإدارةُ نفسها مسارَ الثورة.

وفي هذا السياقِ، يبدو من غيرِ المنطقيِّ الدفاعُ عن أحمد الشرع ومن معه، استناداً إلى المرجعيةِ الثورية، مع تجاهلِ حقيقةِ أن استحقاقاتِ الواقعِ الحاليِّ تتطلب معالجةَ المشكلات المتراكمة، بدلاً من التمسكِ بالشعاراتِ الرنانةِ أو الأغنياتِ الثوريةِ في الاحتفالات.

بل إن أهم ما يمكن له أن يسهم في توجيهها نحو الأفضل، إنما هو النقد اليومي لأداء من تم تكليفهم بالعمل، على حل المشكلات المتراكمة، كما أن التذكير الدائم بالخطوات المتوقعة، لإدارة المرحلة الانتقالية، كتسليمِ شؤونِ تصريفِ الأعمالِ لفئاتٍ تكنوقراطيةٍ، والشروعِ في الحوارِ مع القوى السياسيةِ والمدنيةِ، وانعقادِ المؤتمرِ الوطنيِّ لتحديدِ شكلِ الدولةِ السوريةِ المستقبلية. هذا التذكيرُ لا يعني فرضَ اشتراطاتٍ قسريةٍ على السلطة، بل يُعد استجابةً لقرارِها بالمضيِّ نحو بناءِ الدولةِ، وتأكيدًا من المجتمعِ على مبدأ التشاركيةِ في صنعِ المستقبل.

كلُّ ما سبق قد يبدو طبيعياً، لولا الخلفيةُ الدمويةُ التي خلفتها جرائمُ نظامِ الأسدِ بحقِّ السوريين.

هذه الخلفيةُ تفرض على الجميعِ ضرورةَ مناقشةِ مسار العدالةِ الانتقاليةِ، وما تستلزمه من محاسبةِ كلِّ من شارك مادياً أو معنوياً في الجرائمِ ضدَّ الشعب.

في هذا السياقِ، يظهر خلافٌ مع جمهورٍ واسعٍ من الثوار، الذين كانوا يأملون أن تبدأ السلطةُ الجديدةُ فورَ سيطرتها بآلياتِ المحاسبةِ، وتطهيرِ المؤسساتِ من مؤيدي الأسد، لا سيما الذين أسهموا في تنفيذِ السياسةِ الأمنيةِ الدمويةِ ضدَّ المعارضين. كما أن غيابَ الخطابِ المباشرِ تجاه أهالي الضحايا عزز فرضيةَ وجودِ عقليةٍ إداريةٍ لا ترى حاجةً ملحةً لمقاربةِ هذه المطالب.

لكن، مهلاً، وقبل أن تذهبَ الكلماتُ هنا في اتجاهٍ واحد، أليس من غير المنصف أن يتم قذف كلّ هذه القضايا في وجه إدارة الشرع ومطالبتها بالاستجابة لها، بينما هي تعمل من أجل قضايا كبيرةٍ جداً كلمّ السلاح وإنهاء الفصائلية كما مرَّ معنا سابقاً، بالإضافة إلى تصحيحِ الوضعِ الداخلي عبر فرض سلطةِ الدولة على كل أراضي الجمهورية العربية السورية، واستعادة الدولة لمواردِ السوريين من نفطٍ وغاز، وتأمين المال لخزينة الدولة التي أفرغها بشار الأسد قبل هروبه، وكذلك بناء علاقاتٍ عربيةٍ وإقليميةٍ ودوليةٍ على أسسٍ تراعي مصالح الوطن، وتدفع باتجاه إنهاء التوغلات الإسرائيلية شرق خطّ وقف إطلاق النار في الجولان، والعودة إلى أساسيات اتفاقية عام 1974؟

الإجابةُ عن هذا السؤال تحتاج إلى نبضٍ عمليٍّ، يشرعُ في تغيير حال الإدارة من وضعية المتملكِ للقرار وفق انتصارٍ جاء كمحصلةٍ لسياق ثورةٍ مديدةٍ، إلى وضعية صانعِ التغيير وفقَ مبدأ التشاركية. فكما نشاهدُ جحافلَ الشباب السوريِّ وهم يقومون بأعمالٍ تطوعيةٍ تهدفُ إلى تحسين شروط حياة السوريين، يمكنُ تصور وجود ورشةٍ سياسيةٍ عملاقةٍ، تمسكُ فيها إراداتُ الجميع بجسد العربة وهي تعبرُ المنعطفَ، كي لا تدفعها القوةُ النابذةُ بعيداً وتتحطم!

تلفزيون سوريا

—————————–

إلى تأسيس ثقافة الذكرى في سورية/ سوسن جميل حسن

22 يناير 2025

التقى المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم أحمد خان، الجمعة الفائت، قائد الإدارة السورية الجديدة، أحمد الشرع في دمشق، بدعوة من الإدارة لبحث سبل التعاون في مجال المساءلة عن الجرائم المرتكبة في سورية. وكان قبله المفوض السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك قد زار دمشق، وناقش مع الشرع الفرص والتحدّيات أمام سورية الجديدة، وشدّد على ضرورة ترسيخ حقوق الإنسان في كل العمليات، كي يتمكن الجميع من العيش أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق. وأكد أهمية السعي إلى تضميد الجراح وبناء الثقة والتماسك الاجتماعي وإصلاح المؤسّسات.

الزيارتان مهمتان وتحملان رسالة إلى الشعب السوري والعالم، لكن بالتوازي، من حيث الأهمية، أن نعرف أنه لا تبنى دولة من دون بناء مجتمع، وإلّا تحوّلت إلى هيكلٍ تتحكّم فيه سلطة مستبدّة مهما طال بها الزمن سوف تسقط ويكون سقوطها مدوّياً، يترك وراءه الخراب والفوضى.

هذا ما كان في التاريخ، وما نعيشه الآن في الحالة السورية، فسقوط نظام عائلة الأسد ترك إرثًا من المشكلات المتجذّرة في بنية المجتمع، وخراباً كبيراً في مؤسسات الدولة، وترهلاً ونخراً في أجهزتها، فمن أين يمكن البدء في البناء كي يكون بناء صحيحاً قادراً على الصمود من دون أن ينهار بطريقة أخرى؟

تقف مشكلات ضخمة في وجه الإدارة الجديدة، قد يكون أهمها في سلم الأولويات اليوم تأمين الحياة المعيشية للشعب بعد معاناة عقد ونصف العقد من الحرمان والفاقة وانعدام أبسط حقوقه في الحياة، لكن هذا المجتمع المكلوم يحتاج، في الوقت نفسه، إلى جبر الخواطر خطوة أولى في إنعاش الإحساس بالوجود وإنعاش الكرامة المنتهكة طوال عقود من حكم نظام قمعي شمولي، عمل على مسخ الفرد السوري إلى الحد الذي يبقيه حاضراً لخدمة مصالحه وعرشه فحسب.

سقوط النظام أسّس لحالة وعي مفاجئة لدى الناس، وعي بوجودهم وتفقد كيانهم، واكتشفوا معه حرّيتهم التي ثاروا من أجلها فقوبلوا بالعنف والقتل. لكنهم، في الوقت نفسه، مع فائض الحرّية التي أطاشتهم، نرى شريحة منهم تركوا لمشاعرهم ونزعاتهم التي ترعرعت في الزوايا المظلمة من نفوسهم، والحالة الثأرية التي أضمروها في صدورهم، بسبب ما عاشوه واختبروه في السنوات الحارقة، تركوا لها عنان الحرية، فانفلتت من دون لجام لدى شرائح متنوّعة وعديدة، إن كان في الواقع الحقيقي أو الافتراضي، فعلت خطابات التحريض والفتنة والثأرية والإقصاء والتعصّب بمختلف أشكاله، زادتها حدّة ورجعاً مدوّياً الحرية الفردية التي تمنحها وسائل التواصل الاجتماعي.

ما تشهده سورية الحالية من علو نبرة هذه الخطابات، وبعض الممارسات التي تصنّف فردية، بينما تزداد وتتوسع، يحتاج إلى تدخل سريع والبدء بخطة عمل يطّلع عليها الشعب تشكل خريطة طريق في الوصول إلى مجتمع يتعافى، قد تطول مرحلة تعافيه، إنما تكون واعدة.

لا يمكن البدء بالمعافاة من دون المضي في التأسيس لثقافة الذكرى، بعد أن يكون العمل على فهم الماضي والتصالح معه قد ترسّخ نيّة حقيقية لدى السلطة والمجتمع. هذا يحتاج، ليس إلى العدالة الانتقالية، على أهميتها، فحسب، بل يحتاج إلى العدالة بمفهومها العام، العدالة اللحظية التي تردع المرتكب وتحمي الحقوق الفردية والجماعية.

تشمل العدالة الانتقالية ثلاثة أطراف، الضحية أولاً التي يعدّ حقها من أهم الأولويات، والمرتكب الذي عليه الخضوع إلى محاكمة علنية أمام الشعب توضح فيها بالأدلة والبراهين لائحة الاتهام، والحق العام، فما ارتكب في سنوات الحرب في سورية من جرائم فردية وجماعية استهدف المجتمع، ملكيته، كرامته، بنيانه، هويته، وغيرها، فليس من حق أحد التسامح بمفرده أو غض النظر عنها.

الخطوة الأولى في درب العدالة الانتقالية صعبة ودقيقة وحسّاسة ومؤثرة، إذ سوف تحكم سير العدالة مستقبلاً، وهذه تبدأ من جمع الأدلة والوثائق، وحمايتها، وحماية الشواهد المادية بمختلف أشكالها، فقد شاهدنا كيف تبعثرت الوثائق والمستندات والسجلات في لحظة انفعالية قصوى لحظة فتح السجون والمعتقلات، صارت في مهب الريح وفي الأوحال بعد أن أشبعتها الأيدي المتلهفة فرداً وثنياً وتقليباً، عدا ما سرق منها، أو رمي في الحاويات. بعض الدوائر الحكومية التي تضم أرشيفاً مهمّاً يضم كثيراً من تجاوزات النظام وفساده، كالهجرة والجوازات، أو بعض القصور العدلية ومديريات الأحوال المدنية. القصور التي شغلتها العائلة الساقطة، وهي من أهم الشواهد المادية على كره هذه العائلة الشعب، وعيشها على حساب نسغه الحياتي، فتحت وتركت للنهب أيضاً، معامل الكبتاغون المتناثرة على بقع كثيرة من جغرافيا سورية، فروع الأمن وأرشيفها، يمكن عدّ كثير من هذه التصرفات.

تلعب المواجهة مع الحرب والاستبداد والجرائم ذات الدوافع الأيديولوجية والظلم السياسي وإحياء ذكرى ضحايا الاضطهاد دوراً مهما في ثقافة الذكرى. كما أن ثقافة الذكرى تؤسس لحالة أكثر سلامة في المجتمع، فكلما كانت جرائم الماضي واضحة، والضحايا موضع تقدير واهتمام لحقوقها، زادت احتمالية استقرار المجتمع.

إذا كان الشعب السوري، الخارج من حمأته المديدة، غير مدركٍ قيمة هذه الأدلة، فإن على الإدارة الجديدة أن تنتبه، منذ البداية، إلى هذا الأمر بالغ الأهمية، وتضع له خطة أمنية لا تقل شأناً عن الأمن المجتمعي الذي يعد ضرورة ملحة. ما يعزي بعض الشيء أن هناك شريحة من الشباب والشابات المدركين أهمية التوثيق، يعملون بمفردهم، ومن دون دعم أو عمل مؤسّساتي، على تجميع الوثائق المبعثرة حول السجون والفروع الأمنية وحمايتها، وهذه نقطة تُحسب لهم على الرغم من جسامة المهمة، وهناك في المقابل أفراد يتصرّفون، أو تصرّفوا من دون أي حد من المعرفة بخطورة أعمالهم، وبدوافع توصف بالجهل، إذا اعتمدنا النية الحسنة، فقاموا بفعل يؤدّي إلى طمس بعض الشواهد التاريخية، كما فعلوا في مقر أحد الفروع الأمنية في اللاذقية بما اعتبروه “تبييض السجون”.

ما الضير في أن نستفيد من تجارب الشعوب؟ لقد واجهت ألمانيا ماضيها مرّتين في القرن العشرين، ماضي الحقبة النازية، وماضي نظام شمولي استخباري في ألمانيا الشرقية بعد سقوط الجدار وإعادة توحيد الألمانيتين. اليوم، وبعد 80 عاماً على نهاية الحرب العالمية الثانية التي خلفت وراءها ألمانيا مهدّمة عمرانيّاً واقتصادياً ومجتمعياً، وتحت ظل أربعة احتلالات أدت فيما بعد إلى تقسيمها، ما زالت الجهات الرسمية مع منظمات مجتمع مدني تعمل على توثيق الماضي وتعزيز ثقافة الذكرى، فعدا اللوحات المعدنية التي يصادفها المارّون في الشوارع، على الأرصفة والجدران التي توثق بالأسماء والتواريخ ضحايا النازية، هناك معسكرات الاعتقال والمحارق التي تركت، كما هي، شاهدة على أبشع مرحلة من تاريخ ألمانيا، وهناك النصُب التذكارية، والأرشيف المنظّم والأفلام الوثائقية والسرديات من شهود عيان وناجين، عدا أرشيف ستازي، جهاز أمن الدولة في ألمانيا الديمقراطية، الذي عمل موظفوه قبل لحظة سقوط الجدار على إتلافه بتقطيعه بالآلات، أو بتمزيقه عندما لم تعُد تلبي، لكن الشعب الألماني التوّاق إلى الحرية والخلاص من النظام القمعي هرع إلى جمع المزق التي تقدّر بعشرات الأطنان، وشكل فريقاً، جلّه من النساء، يعمل على إعادة ترميمه مثل لعبة “البازل”، عدا كل تلك الأعمال، ما زالوا ينقبون ويعتمدون على الحفريات في أماكن الإعدامات وفي معسكرات الاعتقال والسجون، حريصين على كل أثر مادّي يجدونه، حتى لو كان ملعقة أكلها الزمن والغبار، لو كان مزقة ورق مكتوب عليها كلمات، لو كان قطعة قماش مهترئة، بكل حرص يتعاملون معها ويعيدون إليها قدرتها على الصمود كي تنصف الضحايا، وتدعم سردية الماضي التي أدرجت في مناهج التعليم أيضاً، كي تتعرف الأجيال الجديدة إلى ماضيها وماضي آبائها وأجدادها، ومن أجل ترسيخ ثقافة الذكرى وعبرة التاريخ في نفوسهم.

من المفيد لسورية الجديدة أن تبقى السجون على حالها التي وجدوها عليها لحظة الحقيقة، لحظة سقوط الديكتاتورية، هي جزء من ذاكرة يجب الحفاظ عليها شواهدَ ماديةً، تصون حقّ الضحايا وتدين نظام الإجرام في الوقت نفسه، وهي ملهمة للثقافة والإبداع في شتى أنواع الفنون والمنتج الثقافي للشعب، ويمكن أن تشكل جانباً مهمّاً للسياحة، فالقضية السورية تعد من القضايا التي شغلت العالم، شعوباً وأنظمة، ونظامها يشكل نموذجاً خاصّاً من ديكتاتوريات العالم، قد يثير فضول علماء النفس والاجتماع والسياسة والاقتصاد والقانون وكثيرين.

في ألمانيا كان انهيار الاقتصاد وتفكك هياكل الدولة أكبر المشكلات التي واجهتها السلطات الجديدة للتعامل مع الحياة اليومية للسكان. كان تأمين وجود المرء هو محور تركيز الناس. وكان الاهتمام بالتعامل مع الماضي الاشتراكي الوطني منخفضاً في المقابل بين السكان. لكنهم سرعان ما أدركوا أهميته واشتغلوا وفق الهدف الذي وضعوه. يحصل اليوم في سورية ما يشبه هذه الحالة، فالمشكلات كبيرة أمام السلطة الجديدة، وعليها قبل كل شيء زرع الثقة في نفوس كل شرائح المجتمع، كي يكون داعماً لها في أهدافها المفترض أن تعلنها بكل وضوح وشفافية، أهداف يفترض أن تسير بالتوازي، مع بقاء العمل على ثقافة الذكرى حاضراً في برنامجها.

العربي الجديد

—————————-

الخوف من ثورة سورية مضادّة/ حيّان جابر

21 يناير 2025

يلحظ متابع الشأن السوري تصاعد الأصوات المتخوّفة من مستقبل سورية، التي يمكن تقسيمها بين ثلاث مخاوف، أولها؛ التخوّف من عودة الصراع الداخلي المسلّح، تحت عناوين وأسباب مختلفة، معظمها يعكس استمرار الصراع الدولي والإقليمي على سورية، كما في تدخّل النظام الإماراتي المخرّب دائماً ودوماً (للأسف!). ثانياً، التخوّف من هيمنة هيئة تحرير الشام على المشهد السوري، وتمكّنها من تأسيس نظامٍ استبدادي جديدٍ، يحاكي نظام الأسد، أو على الأقلّ يحاكي نظام الهيئة القائمة في شمال سورية، بدعمٍ إقليمي ودولي. ثالثاً؛ التخوّف من نموذج عبد الفتّاح السيسي، أو النموذج المصري، أي التخوّف من أن يؤدّي نقض حكومة الأمر الواقع الحالي، والاحتجاج عليها، إلى تسرّب قوى النظام السابق ضمن الحركة الاحتجاجية والانقلاب عليها لاحقاً، بغرض إعادة سيطرة بنى وقوى النظام القديم ذاته.

بداية؛ لا بدّ من التأكيد على منطقية المخاوف السابقة، بل ربّما سواها أيضاً، إذ لكلٍّ من هذه المخاوف أسبابه ودلالاته ونماذجه المعاصرة. لكن علينا قبل الدخول في التفاصيل التأكيد على صلابة الشعب السوري، تلك الصلابة التي منعت هزيمة الثورة السورية (من المبكّر جدّاً الحديث عن انتصار الثورة)، رغم كلّ العنف والإجرام المُرتكَب من قبل الأسد وسواه من مؤيّديه غالباً، وأحياناً من بعض معارضيه كذلك، فلولا صلابة الشعب السوري لنجحت محاولات تعويم نظام الأسد. هذه الصلابة هي القاعدة الصلبة التي يمكن الاتّكال عليها، والاطمئنان إلى قدرة السوريين في إفشال محاولات الثورة المضادّة كلّها، ومن ثمّ قدرتهم على استكمال الثورة (بمفاهيمها الشاملة) عاجلاً أم آجلاً.

في ما يتعلّق بالتخوف من عودة/ استمرار التدخّل الخارجي في الشأن السوري، وخصوصاً التخوّف من التدخّل الإماراتي والأميركي والإيراني والروسي، وبدرجة ما التركي، نجد أنّ التدخّلات الخارجية في الشأن السوري لم تتوقّف لحظة واحدة حتّى الآن، كما في اجتياح الاحتلال الصهيوني المستمرّ الأراضي السورية، بموافقة ودعمٍ أميركي بالحدّ الأدنى، أو من خلال استمرار قوى الاحتلال الخارجي الأميركي في شمال سورية، أو في استمرار السعي التركي لحلٍّ أمني وعسكري للقضية الكردية، أو في تصاعد نشاط المجموعات العسكرية المحسوبة على نظام الأسد الساقط، مع تزايد التسريبات عن الدعم الإماراتي وأحياناً الإيراني لبعضها.

من هنا، نلحظ أن صمت الشعب السوري عن تجاوزات حكومة الأمر الواقع الحالية في سورية، لم يحمِ سورية من التدخّلات الخارجية أو يحدّ منها حتّى، بل (للأسف!) يعتقد الكاتب أن صمته يشجّع تلك الأطراف على مزيدٍ من التدخّل، في ظلّ الفراغ السوري الهائل (صمت شعبي وانشغال الهيئة وحكومتها)، فالهيئة منهكة بشؤون السيطرة الداخلية، من الملفّات الاقتصادية والسياسية والثقافية إلى الملفّ الأمني الشائك (فرض السيطرة الأمنية على فصائل المعارضة المسلّحة وسواها)، مع العلم أن الهيئة لم تنجح في فرض السيطرة الأمنية المطلقة شمال سورية في المرحلة السابقة، استناداً إلى الحلّ العسكري والأمني فقط، ما يجب اعتباره مؤشّراً على استحالة فرضه بالأدوات والآليات ذاتها اليوم.

من هنا، يعتقد الكاتب أنّ سياسات منع الرقابة الإعلامية والشعبية في المسائل الموصوفة بالأمنية، أمرٌ فادحٌ، ويفتح الباب أمام منحيَين خطيرَين قد يفجّر أحدهما استقرار سورية، أولهما؛ باب الثأر الشخصي والتجاوزات الفردية، المدفوعة عاطفياً، أي غريزة الانتقام المنفلت من أي ضابط، الذي لا يطاول المتورّطين بالدم السوري فقط، بل قد يطاول أنواعاً مختلفة من الاعتداءات، منها اعتداءاتٌ بسيطة، بل وأحياناً افتراضية غير مثبتة أو مشكوكٌ فيها. في حين يتمثّل المنحى الثاني في تسلّل التدخّل الخارجي في ثنايا الملفّات الأمنية، عبر عشرات الوسائل، منها شراء الذمم والولاءات، وإثارة الخلافات والانقسامات، والدعاية والتحريض، ونشر الأكاذيب المحرّضة طائفياً وقومياً، وأحياناً عشائرياً.

أمّا التخوّف من هيمنة الهيئة أو حكومة الأمر الواقع الحالية، فهو تخوفٌ مشروعٌ طبعاً، لا يتطلّب تجاوزه استعادة لدور الشعب السوري الرقابي فقط، بل والسياسي أيضاً، وهنا لا بدّ من التأكيد على أهمّية عودة محاولات التنظيم المجتمعي والسياسي التي كانت في بداية الثورة السورية، بل ومسارعة الخُطا لتأسيسها وتمتينها وتطويرها هذه المرّة، قبل تصاعد التدخّل الخارجي، وقبل تمكّن حكومة الأمر الواقع من فرض قيودها الأمنية الصارمة، المؤسّسة لنظامٍ استبدادي جديدٍ.

في حين يعتقد الكاتب أنّ التخوّف من النموذج المصري أو نموذج السيسي هو أقلّ المخاوف احتمالية، رغم انتشاره الواسع، ورغم بعض المظاهر السورية التي تحرّض لخوف السوريين من هذا النموذج، كما في تصالح حكومة الأمر الواقع السورية الحالية مع بعض رموز نظام الأسد الطائفيين أو الاقتصاديين، وربّما العسكريين والأمنيين. فعلى الرغم من ذلك علينا التمعّن في الفروق الكبيرة والعديدة بين النموذجين السوري والمصري، خصوصاً ما يتعلّق ببنية النظام الحاكم، إذ مثّل هروب بشّار الأسد سقوطاً كاملاً لمجل نظامه، تماماً كما حصل (ويحصل) في جميع النماذج المماثلة، التي لم يسعَ نظام الحكم فيها إلى حلولٍ وسطية، تضمن الحفاظ على مؤسّسات الدولة (وأحياناً حماية رموز النظام أو بعضها). كما نلحظ أيضاً أن بنية نظام الأسد، أو بالأصحّ عصابته، بسيطة ومكشوفة أمام الجميع، لذا لم يكن في سورية دولة عميقة أصلاً، على عكس النظام المصري، الذي حذّر بعضهم من خطر دولته العميقة منذ اللحظات الأولى لتنحّي حسني مبارك، إذ رعت الدولة العميقة المصرية تغيير واجهة النظام المصري في 2011، وتحالفت/ تقاربت لاحقاً مع مجمل قوى الثورة المصرية، ومع جماعة الإخوان المسلمين، قبل أن تنقلب عليهما معاً، بعد انقلاب “الإخوان” على قوى الثورة وتحالفاتهم السياسية التي أوصلتهم أصلاً إلى سُدَّة الحكم.

لكن ورغم استبعاد الكاتب هذا الاحتمال، فإن مسار حماية سورية منه يتطلّب من السوريين عكس ما يروّجه أصحاب هذه المخاوف، أي تفعيل الرقابة الشعبية السورية، وتفعيل دور الشعب السوري السياسي، لأنّ عودة النظام القديم تحتاج إلى عودة سلطة رموزه (أو بعضهم) ونفوذهم، كما تتطلّب عودة سلطة رموز نظام الأسد (أو بعضها) ونفوذها رعاية حكومة الأمر الواقع الحالية وحمايتها، وعليه فإن منع ارتكاب حكومة الأمر الواقع الحالية (حكومة الهيئة) مثل هذه الخطيئة، يتطلّب رقابة الشعب السوري ومتابعته، وعودة دوره السياسي المنظّم والواعي.

خلاصة القول؛ بينما جميع المخاوف السورية مشروعة، وخطر الثورة المضادّة قائمٌ من دون أي شك، فإن ضمان حرّية سورية ومضيّها في طريق بنائها وتطوّرها الوحيد هو شعبها وفاعليته لا العكس.

العربي الجديد

—————————-

سيناريو قصير لانفصال كردي عن سوريا/ عمر قدور

الثلاثاء 2025/01/21

نفترض في هذا السيناريو أن يلاقي أحلام نسبة وازنة من الأكراد في إقامة دولة مستقلة، وأنه من الجهة الأخرى يلاقي إقراراً من بقية السوريين بأحقية تلك الأحلام، أو على الأقل باستحالة العيش المشترك. على ذلك نفترض حدوث اجتماع بين ممثّل عن الأكراد وممثّل عن الحكومة المركزية، لينتهي ببيان “طال انتظاره” يعلن فيه الطرفان اتفاقهما على قيام دولة كردية، وعلى أن أياً من الطرفين لن تكون له مطالبة مستقبلية ضمن حدود الطرف الآخر.

كانت أخبار السيناريو الانفصالي “المفترض” قد وصلت أنقرة، فتوالت تصريحات مسؤوليها المنددة بالنوايا الانفصالية، واتفقوا جميعاً على التهديد بعواقب وخيمة، فيما إذا وضع الانفصال قيد التنفيذ. قسم أيضاً من أحزاب المعارضة التركية شارك الحكومة تنديدها وتهديداتها، والبعض من زعماء المعارضة أعلن أن التصدي لهذا الخطر الوجودي على الأمن القومي التركي يستدعي إنشاء غرفة طوارئ وحكومة وحدة وطنية.

أما ردود الأفعال الإقليمية والدولية فلم تكن مشجّعة، فمع التهديدات الإيرانية بالتدخل لإيقاف الانفصال احتشدت ميليشيات عراقية على الحدود مع سوريا، بينما دعت الجامعة العربية إلى اجتماع طارئ بعد أسبوع. الناطق باسم البيت الأبيض عبّر عن قلق بلاده ورفضها اتخاذ إجراءات أحادية من أي طرف أو أطراف، بينما اتهم الناطق باسم الكرملين واشنطن بسعيها إلى إثارة الفوضى من خلال دعمها الضمني لانفصال الأكراد، أما الناطقة باسم المفوّضية الأوروبية فأعلنت عن دعم الاتحاد المبدئي لحقوق الشعوب في تقرير مصيرها، وحذّرت من التسبب بأزمة إنسانية.

في هذه الظروف، وما أن أُعلن رسمياً عن الانفصال حتى بدأت القوات التركية قصف كافة أراضي الدولة الكردية الوليدة. وأعلن وزير الدفاع التركي أن بلاده لا تستهدف الأكراد الذين هم بمثابة أشقاء، بل تستهدف الانفصاليين، وأن قواته لن تتراجع حتى تحقيق هدفها بالقضاء على آخر “انفصالي إرهابي”. هكذا لن تكترث أنقرة بالدعوات إلى الهدوء التي تصدر من هنا أو هناك، وسيستمر زخم القصف التركي على نحو يذكّر بما حدث في غزة، وسرعان ما ستأتي الأخبار عن توغل للقوات التركية بين تكذيب وتصديق من الأكراد أنفسهم، ليُعلنَ رسمياً عن سيطرة القوات الغازية على كافة الأراضي، وليخرجَ ناطق رسمي تركي بالإعلان عن أن بلاده لا تطمع بالأراضي التي يجب أن تعود إلى سوريا مستقبلاً، بعد ضمانات كافية بألا تهدد الأمن القومي التركي مجدداً.

إذاً، بموجب السيناريو نفسه، انتهت مغامرة الدولة الكردية بأسرع من المتوقع، وصارت مصدر حسرة بعد أن كانت حلماً جميلاً. إلا أن تخيّل حدوث ذلك لا يخلو من فائدة سياسية اليوم، خصوصاً مع تصاعد التوتر بين فصائل تابعة لأنقرة في الشمال السوري وقوات قسد التي تسيطر على مناطق واسعة شرق الفرات، وما رافق ذلك من حملات على وسائل التواصل الاجتماعي صارت معتادة بكل ما تحمله من سوء وتسميم للأجواء المسممة أصلاً بين عرب سوريا وأكرادها.

السيناريو الذي وضعناه هو متخيَّل وواقعي معاً؛ المتخيَّل فيه أن انفصالاً ودياً من هذا القبيل لن يحدث، أما الواقعي فهو أنه إذا حدث سيُواجَه برد فعل تركي مماثل لما ذُكر أو أعنف. بصريح العبارة، انفصال الأكراد أو عدم انفصالهم عن سوريا لا تحكمه تطلعاتهم، ولا تحكمه موازين القوى في سوريا أيضاً، بل هو محكوم أولاً وثانياً بالجار الأكبر “التركي” الذي لا يسمح ولن يسمح بذلك.

الخلاصة، التي لا تريد نسبة كبيرة من العرب والأكراد الإقرار بها، هي أن قراراً بتغيير الخرائط ليس في متناول أيٍّ من الطرفين، ولا رهن باختلافهما أو اتفاقهما. وواقعياً لا معنى لاتهام العرب الأكراد بأنهم انفصاليين، طالما بقي القرار خارج إرادة العرب والأكراد، ولا معنى أيضاً للردود المبدئية الكردية التي تنص على حق الأكراد بإقامة الدولة، ما دام هذا الحق معطّلاً بقوة تفوق قوة الأكراد في عموم الإقليم. لا وظيفة يؤديها هذا الجدل بين الطرفين في السياسة، إلا إذا كان تجاهل الواقع لإذكاء الاقتتال بينهما.

الواقعية السياسية شيء آخر غير ما هو صواب من وجهة النظر هذه أو تلك، ولا تستتبع بالضرورة الاستسلام التام للواقع. ومن الواقعية الاعتراف بأن سقف الحل الكردي ضمن سوريا لا يقرره عموم السوريين، بمن فيهم الأكراد، وعلى أطراف أية طاولة تفاوض فيما بينهم سيكون الشبح التركي ماثلاً بشروطه التي تتجاوز مبدأ الحل إلى تفاصيله. بعبارة صريحة أيضاً، لا يستطيع الحكم في دمشق، الآن ومن قبل وفي المدى المنظور، القبول مثلاً بفيدرالية تمنح الأكراد حق الاحتفاظ بقوات كردية محلية.

أما عن التدخل التركي في الشؤون السورية، فهذا مكتوب في الصراع السوري الذي بدأ عام 2011، ثم أصبح حرباً داخلية. ففي التجارب المعروفة، كلما حدثت صراعات شبيهة كانت وصفةً لتدخل الجار الأكبر. لنا في تدخل الأسد في لبنان عام 1976 مثال من بين الأمثلة السيئة، وكذلك التدخل الإيراني في العراق الذي لم يستدعِه إسقاط صدام بقدر ما استفاد من أعمال العنف الطائفية التي اندلعت إثر سقوطه. عبر العالم، هناك الكثير من الأمثلة المشابهة، والتعاطي مع الجار الأكبر لا يُختصر بمنطق العمالة كما يصوِّره أعداؤه، مع أن العمالة والارتزاق حاضران هنا وهناك بطبيعة الحال.

مرة أخرى، فهْمُ الواقع لا يقتضي الاستسلام له بالمطلق، لكنه بالتأكيد يُغني عن إنكاره. من مظاهر الإنكار السورية أن نسبة كبيرة من العرب والأكراد يتبادلون الخطابات النارية، وكأن تقرير مصيرهم ومصير سوريا بأيديهم حقاً، وصاروا جاهزين لحربهم المقدّسة!

يلزم الكثير الكثير من التواضع ليعترف السوريون جميعاً بأنهم ضعفاء جداً، وبأن بلدهم ليس قوة عظمى إقليمية، ولن يكون كذلك خلال عشرات السنين المقبلة. وهم الآن لا يملكون زمام أمورهم داخل بلدهم، ولن يقرروا بمفردهم حتى شكل الدولة السورية الجديدة. التواضع لا يلغي حقهم في تحسين شروطهم، بل هو حق لهم بمثابة الواجب، إذا توفرت النية لاسترجاع قرارهم المستقل يوماً ما.

وأول ما تقتضيه الحصافة هو التخلي عن العنتريات الفارغة، وأن يكفّ الطرفان عن الجدل فيما لا قرار لهما فيه. هكذا يمكن، مثلاً، البحث في المستوى الواقعي من اللامركزية بموجب الظروف الحالية، ويمكن الاستئناس حتى بوضع الأكراد في تركيا بحيث لا يفرض الجار التركي منسوباً أدنى لحقوق الأكراد في سوريا عمّا لديه في بلده. ورغم أن التبعية غير محببة عموماً، فلا بأس بالقول أن تركيا جار كبير ورائد بالنسبة لسوريا على العديد من المستويات، ومنها القضية الكردية التي سيكون حلها ديموقراطياً في تركيا بمثابة دليل للحل في سوريا، لا العكس بكل تأكيد.

المدن

————————

ماذا خسرت القومية العربية بسقوط رمزها الفاشي؟/ بهي الدين حسن

22 يناير 2025

هرب الرئيس السوري السابق بشّار الأسد بالطائرة بسيناريو مشابه لهروب الرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي من تونس، بعد انتفاضة الشعب التونسي التي تواصلت على حكمه الاستبدادي لنحو أربعة أسابيع، وامتناع الجيش عن الدفاع عن حكمه. كانت لهذا الحدث التونسي آثار زلزالية في العالم العربي، وخاصة مصر، التي انتفضت بعد 11 يوما. خلال 18 يوما تالية كان الجيش الطامع في تعزيز تمترسه في حكم مصر قد أقنع حسني مبارك بالتنحّي وتسليم السلطة لمجلسه العسكري. لكن ما جرى في سورية قد تكون له آثار هائلة، ربما تتجاوز في تأثيراتها ما جرى في موجتي الربيع العربي الأولى والثانية. ليس فقط بسبب الأهمية المركزية التاريخية لهذا البلد في منطقة المشرق العربي، ولكن أيضا لأن العالم العربي كله يمرّ بأزمة كبرى أعمق مما كان عليه الحال في بداية انطلاق الموجة الأولى من الربيع العربي.

لم تبدأ هذه الأزمة عشية الربيع العربي عام 2011، لكنها أزمة فشل ممتدّة بدأت منذ عدّة عقود، بعدما ضلت دول المنطقة طريقها بعد أن تحرّرت من الاستعمار الأجنبي في منتصف القرن الماضي. بدلاً من استكمال استقلالها بإطلاق طاقات شعوبها، مجتمعات وأفراداً، نحو البناء والنهوض الاقتصادي، مثلما نجحت في ذلك عدة دول في آسيا وأميركا اللاتينية وأفريقيا، سقطت أغلبية الدول العربية المستقلة في قبضة حكّام مستبدّين واصلوا سياسات ذات طابع استعماري على النحو الذي برهن عليه أكاديميون عرب بارزون. بل اعتزم بعض هؤلاء الحكام توريث الحكم في نظم جمهورية لأبنائهم؛ في مصر حسني مبارك، ويمن علي عبد الله صالح، وليبيا معمّر القذافي، وعراق صدّام حسين. وقد أثمر ذلك المخطّط في سورية بتوريث حافظ الأسد الحكم لنجله بشّار، بعد وفاة ابنه الأكبر في حادث طريق، وكان قد جرى إعداد الأخير بالفعل لوراثة المنصب.

رغم ذلك كله، ظلّت سورية “الأسدية” دائما قبلة قيادات التيار القومي العروبي ورموزه، ورمزاً في بيانات صادرة عن منابرهم القُطرية والإقليمية والفلسطينية “للصمود والتصدّي” ضد الإمبريالية وإسرائيل، رغم أن الأسديْن كانا دائما حجر الزاوية في مخطّطات تحطيم منظّمة التحرير الفلسطينية، وشقها سياسياً ودعم النزاعات المسلحة بداخلها، واغتيال بعض أبرز حلفائها، مثل قائد الحركة الوطنية اللبنانية كمال جنبلاط. بينما تمتّعت حدود سورية مع إسرائيل بسلام استثنائي لنصف قرن (في غياب اتفاق سلام مشابه للاتفاقيات التي أبرمتها مصر والأردن)، رغم استمرار احتلال الجولان ثم ضمه من دون رصاصة واحدة. وعندما تمكّن النظام البعثي من الحصول على أسلحة الحرب الكيماوية ومعدّاتها المميتة، استخدمها للمرّة الأولى والأخيرة ضد الشعب السوري المطالب بالحرية.

بعد أكثر من نصف قرن من انفراد حزب البعث وعائلة الأسدين بحكم سورية بأبشع الوسائل بمشاركة جيوش أجنبية ومليشيات مرتزقة متعدّدة الجنسيات، وقتل نحو نصف مليون سوري وتشريد ملايين آخرين في أرجاء العالم، وإبقاء 90% من السوريين تحت مستوى الفقر، وصعود الدولة إلى موقع أهم تاجر لمخدّر الكبتاغون في العالم، اكتفى حزب البعث ببيان قصير يعلن فيه وقف نشاطه، من دون أن يقدّم تفسيراً للحدث القُطري والقومي الجلل. بينما توالت التقارير عن كيفية تبخّر جيش الصمود والتصدّي، وكيف تبارى الضباط، اقتداء بالرئيس الهارب، في بعض الوحدات العسكرية في نهب محتوياتها، قبل أن يعتزلوا في منازلهم. لم نقرأ أيضاً اعتذاراً جادّاً أو تحليلاً معمّقاً من منابر التيار القومي العروبي ورموزه لهذا الزلزال الذي تتجاوز آثاره ذلك البلد التعيس بحكّامه وقطاع كان مؤثّراً من سياسييه.

سقوط الطبعة الفاشية الأخيرة من التيار القومي العربي هو نتيجة منطقية لمراهنة قيادات ذلك التيار على المؤامرات والانقلابات العسكرية منذ وقت مبكّر للصعود إلى الحكم باستلهام النمط الناصري المصري، وتغلغل عمق ازدراء الشعب وانعدام الأمل بقدراته رغم التغنّي الديماغوجي بعبقريته الفذّة في الخطاب السياسي المستمد من الخطاب النازي الألماني. والاحتفاء المظهري بملكية عامة زائفة للشعب، رغم أن الدولة كلها جرت خصخصتها لحساب الطاغية الملهم والأجهزة الأمنية الحارسة لحكمه المنفرد.

سقوط الرمز الفاشي الأخير للتيار القومي العروبي يجب أن يكون مناسبةً للتأمّل العميق من المفكرين في العالم العربي، وخاصة الذين يعتبرون أنفسهم منتمين لهذا التيار، ولو من دون وجود رابط تنظيمي مباشر. قد يكون أحد بواعث هذا التأمّل أيضاً البحث في سبل إحياء التيار وفقاً لفكرته المؤسّسة، بعد تطهيرها من أدرانه السرطانية المشتقة من الفاشية، وخاصة الأدران ذات الطابع العنصري المعادي للقوميات الأخرى في العالم العربي وخارجه. إن ميلاد تيار قومي عربي ديمقراطي إنساني منفتح على حقوق البشر وغير عنصري، بل منفتحٌ على العالم، يسعى إلى أوسع وأعمق تضامن عربي، يرتكز على مصالح شعوب المنطقة وإرادتها الحرّة سيكون مساهمة هائلة في طي صفحة مؤلمة، وفي حفز نخبٍ سياسيةٍ أخرى على مراجعات مماثلة، وربما حافز للتحرّك نحو سوق عربية مشتركة. بدون مثل هذه المراجعات يصعب تصوّر تقدم هذه المنطقة من العالم خطوات ملموسة إلى الأمام، برغم التأثيرات الإيجابية المحتملة في المشرق العربي لسقوط قلعة الفاشية في سورية.

العربي الجديد

—————————

انتكاسة “نحن” في خطاب حكمت الهجري/ أيمن مراد

21 يناير 2025

على مدى قرابة عام ونصف العام من حراك السويداء في سورية قبل سقوط نظام بشّار الأسد، استطاع الرئيس الروحي لطائفة الموحّدين الدروز، الشيخ حكمت الهجري، أن يقدّم خطاباً وطنياً متوازناً إلى حدّ مقبول، كانت سورية كلّها حاضرة في مطالب هذا الخطاب، فقد كانت “نا” الدالة على الجماعة فيه تُحيل إلى السوريين كلّهم، ويحيل فيه الضمير “نحن” إلى الشعب السوري، لكنّه وبعد سقوط النظام تغيّرت دلالات هذين الضميرين في خطابات الهجري في وسائل الإعلام، فأصبحا يشيران إلى أبناء محافظة السويداء، ولأن هذه المحافظة تتكوّن من أغلبية درزية ساحقة، ولأن الشيخ الهجري هو الرئيس الروحي للطائفة، فإن دلالة “نحن” هنا هي دلالة تشير إلى طائفة بعينها هي طائفة الموحّدين الدروز. اختلاف الدلالة وتحوّلها من دلالة تشير إلى عموم السوريين إلى دلالةً تشير إلى طائفة بعينها، هو انتكاس في الخطاب الوطني، يدلّل على مجموعة واسعة من المخاوف التي لا بدّ لنا من الوقوف عليها لمعرفة ما لها وما عليها.

وممّا يُؤخذ على دلالة “نحن” تلك، أنها تكرّس النفس الطائفي، فالحالة الطائفية في سورية هي أمر واقع، ونكرانها أو التعامي عنها لا ينفي واقعيتها، والمدخل الأول لتجاوز الطائفية وبناء دولة المواطنة هو الخطاب الوطني المتجاوز لكلّ ما يحيل على الطائفية، فكلّ خطاب يحيل (ولو من بعيد) على الطائفية سيكرّسها، ويجعل منها لبنة أساسية في النظام السياسي المنشود، وبالتالي سيكون النظام السياسي نظام محاصصة طائفية، وبالنظر لموقع الشيخ الهجري رئيساً روحياً لطائفة، فهو لا يستطيع أن يكون وزيراً أو رئيساً أو نائباً في البرلمان، أي أنه لا يمكنه أن يكون إلا رئيساً روحياً، وبالتالي فهو يسعى لمزيد من الصلاحيات لرئاسته الروحية تتمثّل في حصر تسمية الوزراء والنواب والمسؤولين (الذين سيكونون من السويداء) به شخصياً، وهذا لن يكون متاحاً له، إلا إن استطاع تكتيل الدروز كتلةً طائفية، ما يعني أنه سيحتكر القرار السياسي للسويداء بشخصه، وهذا أسّ الطائفية والمحاصصة الطائفية.

كما تكرّس دلالة “نحن” عند الهجري علمانيةً موتورةً متحالفةً مع أقلّيات طائفية ضدّ الإسلام عموماً، وضد الإسلام السياسي بشكل خاص. والعلمانية الموتورة في سورية هي خطيرة كخطر الإسلام السياسي الجهادي، ذلك أنها علمانية عدائية ضدّ فئة واسعة من الطيف السوري، وقد رأينا تلك الوفود التي زارت (وما زالت) تزور الشيخ الهجري مشيدةً بمواقفه، فأيّ علمانية، وأيّ علمانيين هؤلاء الذين يرفضون الإسلام السياسي، لكنّهم يهلّلون لرئيس روحي لطائفة، إن تحالفاً كهذا سيدغدغ أحلام الهجري في تكتيل الدروز كتلةً طائفيةً يستفرد بقرارهم من جهة، وسيدغدغ أحلام ومخاوف هؤلاء العلمانيين، من جهة ثانية، في التخلّص من الإسلام السياسي وهيئة تحرير الشام، أو على أقلّ تقدير إضعافها وإرباكها، وهذا أمر خطير جدّاً إن صحّت هذه القراءة، فهو سيدفع الهجري لوضع طائفته في عداء مباشر مع السُنّة، وسيجعل العلمانيين الذين استقووا بالأقلّيات مأسورين لخطاب أقلوي، وبالتالي فالخيارات المتاحة ستصبح إمّا إسلاماً سياسياً على طريقة هيئة تحرير الشام، أو تحالفاً أقلّوياً علمانياً يذهب باتجاه المحاصصة الطائفية، والغائب في كلا الخيارين هو دولة المواطنة ومقولة الشعب الواحد.

وفيها أيضا تكريس الريبة والحذر بين السوريين، فمُجرَّد الانتكاس من الخطاب الوطني إلى الخطاب الفئوي، يثير الريبة والحذر، فمن حقّ السوريين أن يتساءلوا: لماذا انتكس الخطاب إلى هذه الصيغة الأقلّوية الفئوية في مرحلة نحن فيها بأمسّ الحاجة إلى تكريس خطاب وطني عام؟ ولا يخفى على أحد أن هناك فرقاً كبيراً بين أن يعمل السوريون لبناء دولتهم تحت وطأة الحذر من بعضهم، وبين أن يعملوا وهم متأكّدون وواثقون بعضهم ببعض.

لا حاجة للقول إن سلوك الحكومة المؤقّتة، وبعض قراراتها، هي أيضاً مثار ريبة وحذر، وإن إصرارها على تسويق نفسها بهذه الطريقة التي تذكّر السوريين بالإسلام الجهادي التكفيري سيساهم بشكل قوي في دفع العلمانيين للتحالف مع الأقلّيات، وإن تحالفاً كهذا إن حدث، فسيلقى دعماً من بعض الدول، وحينها سنصبح أمام تصدّعات اجتماعية قابلة للتكريس والتعميق وغير قابلة لجسر الهوّة في ما بينها، وهذا أخطر ما قد يتعرّض له السوريون، فالمطلوب الآن من السوريين جسر الهوّة في ما بينهم، ليتمكّنوا من بناء دولتهم الوطنية، وهذا يحتاج إلى مزيد من الثقة والتعاون والحوار الهادئ، لكنّه يحتاج أولاً إلى إنجازات حقيقية للحكومة المؤقّتة تتمثّل بتفعيل دور الشرطة لتحقيق الأمن، وتفعيل الضابطة العدلية والقضاء، وبناء المؤسّسة العسكرية بناءً وطنياً، ويحتاج منها أيضاً إعلاناً واضحاً لرؤيتها للمرحلة وخطّتها للتعامل مع الملفّات المتعلّقة بهذه المرحلة المؤقّتة، وهذا ما لم نشهده.

العربي الجديد

——————————-

سلامة الاجتماع السوري تضمن العمران المستدام/ عبد الباسط سيدا

21 يناير 2025

مسألة تجاوز كوارث التدمير الوظيفي التي حرص بشّار الأسد الهارب، بوحي من والده الذي أورثه “الجمهورية”، على إحداثها في النسيج المجتمعي الوطني السوري على غاية من الصعوبة، إن لم نقل شبه مستحيلة التحقّق، فهي تتطلّب وقتاً طويلاً للمعالجة المتأنيّة بعيدة النظر، يقوم بها أناس يؤمنون بالمشروع الوطني السوري القابل للحياة، أناس في مقدورهم التسامي فوق الجراح والخطاب الجارح، والقطع مع الأحكام المسبقة المثيرة للفتن والاشمئزاز. فمن دون ترميم هذا النسيج وإعادة بنائه سنكون أمام تقسيم واقعي (حتى وإن لم يكن رسمياً) في سورية، أو سنكون أمام وضع متخم بالصواعق المفجّرة القادرة على إلحاق أفدح الخسائر بالنسيج المعني الهشّ نتيجة عقود من التعبئة والتجييش، وارتكاب أشكال الاستبداد والجرائم كلّها، بما فيها المجازر التي كانت قبل الثورة السورية وأثناءها، بغية إرهاب الناس، وثنيهم عن المطالبة بحقوقهم المشروعة.

هناك حديث كثير اليوم حول مسألة إعادة الإعمار في سورية بعد سقوط سلطة آل الأسد المستبدّة الفاسدة المُفسِدة وهروب بشّار، إلى جانب الفِكَر التي تطرح بكثافةٍ من أجل معالجة الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يعيشها السوريون في جميع الأماكن. غير أن مسألة ترميم النسيج المجتمعي الوطني السوري لا تقل أهميةً عن مسألة إعادة بناء العمران، بل سابقة عليها.

فإعادة بناء النسيج المذكور بصورة سليمة، ليكون محصّناً في مواجهة سائر الجهود التخريبية، سواء الداخلية منها أو الخارجية، التي ترمي إلى استغلال تنوّع المجتمع السوري، والجروح العميقة التي أحدثها الحكم المافياوي البائد فيه، مقدّمةٌ ضروريةٌ لا غنىً عنها لأيّ استقرار مجتمعي يحتاجه العمران أكثر من أيّ شيء آخر.

ولعلّ من المناسب هنا أن أذكّر في هذا السياق، أنني التقيت في بداية الثورة السورية عام 2011 بصديق علوي من المطّلعين على الأوضاع في الساحل السوري بدقّة وحكمة، ومن الخبراء في تحليل سياسات سلطة آل الأسد وخلفياتها، ومن المناهضين لها في الوقت ذاته، وأثناء الحديث حول ما ينتظر سورية، طرحت عليه سؤالاً صريحاً مباشراً: كيف هي الأوضاع ضمن الطائفة؟ وذلك لقناعتي بأهمية هذا الموضوع، وضرورة التعامل معه بصبر وبعد نظر، إذا كانت لدينا النيّة للمحافظة على سورية موحّدة، فأيّ حديث عن وحدة سورية من دون طمأنة سائر مكوّناتها، سيكون مُجرَّد حديث مجاملاتي شعاراتي، لن يؤدّي إلى نتيجة ملموسة في أرض الواقع لصالح السوريين.

أجابني الصديق: “ألتقي من حين إلى آخر بالعقلاء ضمن الطائفة، وهم يؤكّدون باستمرار أنه ليس من مصلحتنا أن نكون إلى جانب إيران ضدّ العرب الذين نحن جزء منهم. فقد فرضت هذه السلطة على الطائفة وضعية التبعية لإيران، وذلك لغايات تخصّها، ولكنّ المشكلة تكمن في عامّة الناس وأنصاف المتعلّمين، الذين أقنعتهم السلطة الأسدية بأن زوالها سيؤدّي إلى ارتكاب المجازر في حقّهم، فهؤلاء سيبقون مع السلطة حتى آخر رمق. لذلك لا بدّ أن يتركّز العمل من أجل إقناع هؤلاء بعدم صحّة مزاعم السلطة، وأن مصلحتهم متماهية مع مصلحة سائر السوريين، وهي تكمن في التخلّص من هذه السلطة”. ومرّت الأعوام، وتحوّلت الثورة السلمية إلى العسكرة تحت ضغط توحّش السلطة، الذي كان أصلاً بناء على المخطّطات التي كان قد توافق عليها الأسد مع راعيه الإيراني، الذي كان يرى في سورية الركن الأساس في مشروعه التوسّعي الممتدّ من حدود أفغانستان إلى شواطئ المتوسّط، فقد قرّر بشّار عدم الاستجابة لمطالب السوريين، بل اعتمد أسلوب استخدام أقصى درجات القسوة معهم.

ومع العسكرة تزايد نفوذ الإسلاميين والفصائل الإسلامية، وذلك لضعف وتفتّت القوى السياسية السورية المعارضة الأخرى، من ديمقراطية وليبرالية وعلمانية، وحتى وطنية. وهذه القوى أصلاً كانت ضعيفةً منذ أيّام حافظ الأسد، الذي كان قد تمكّن من تدجين قسم كبير منها ضمن إطار الجبهة الوطنية التقدّمية، التي شكّلها عام 1972. ومن بين أسباب ضعف القوى أو الاتجاهات المعنية اعتمادها في خطابها نزعةً تبشيريةً تمحورت حول تجارب الآخرين، وتجاهلها في الوقت ذاته خصوصية مجتمعها، بل كانت تمارس أحياناً صيغةً من صيغ السلوكية الفوقية مع وسطها الشعبي، الذي كان من المفروض أن يكون حاضتنها وسندها.

كما أن الخلافات الشخصية، والنزعات النرجسية بين المعارضين السوريين خارج إطار القوى الاسلامية، أدّت بصورة مستمرّة إلى تكريس الانشقاقات وتقسيم الصفوف، في وقت كان الوضع يلزم الجميع بترك الخلافات كلّها جانباً، وتركيز الجهود. هذا في حين أن القوى الإسلامية رغم خلافاتها التقليدية (مثل الخلافات بين الإخوان المسلمين والسلفيين، والخلاف بين السلفيين والمتصوّفة، والخلافات البينية بين السلفيين أنفسهم، والإخوان أنفسهم) استطاعت توحيد صفوفها، وتشكيل كثير من الجمعيات الخاصّة بالشباب والمرأة والإغاثة وغير ذلك. وما ساعدها استخدامها المساجد والجمعيات، وغيرها من أماكن للاجتماع، واستمرّ “الإخوان” في هذا الأسلوب بعد انتقالهم إلى خارج البلاد، لا سيّما بعد الضربة القوية التي تلقّوها في سورية في بداية ثمانينيّات القرن المنصرم، ومن ثمّ إصدار حافظ الأسد فرمانه القرقوشي الذي كان يقضي بإعدام كلّ من تثبت علاقته التنظيمية مع حركة الإخوان المسلمين. هذا، في حين أن القوى المعارضة الأخرى كانت مشغولةً بخلافاتها البينية والشخصية، وبخطابها الأيديولوجي الذي غالباً ما كان يستخدم لغةً تنظيريةً متخمةً بالمصطلحات، التي ربّما كانت تنمّ عن وعي وثقافة، ولكنّها على الصعيد الواقعي كانت قليلةَ الإنتاج.

واليوم، لعلّنا لا نأتي بجديد إذا قلنا إن سورية تعيش راهناً مرحلةً بالغة الحساسية والتعقيد، تتقاطع في أوجه عدة منها مع تلك التي عاشتها في بدايات تاسيسها دولةً حديثةَ التكوين بعد الحرب العالمية الأولى. فسورية اليوم خارجة من دائرة سطوة الحكم البعثي، الذي استمرّ أكثر من ستّة عقود، امتدّ فيها الحكم الأسدي في مدى 54 عاماً، وقد شهدت هذه الفترة الطويلة باستمرار صراعات عنيفة بين أطراف الحكم، وغالباً ما كانت تلك الصراعات تأخذ بعداً طائفياً، هذا في حين أن القيادات المنتمية إلى الغالبية السُنّية كانت، إمّا مبعدة أو مهمّشة من جانب الحزب المذكور، وفي معظم الأحيان كانت تُعتمَد ديكوراً، أو مُجرَّد واجهة ترويجية توحي بتمثيل الحزب المعني مختلف الطوائف السورية. ومن المعروف عن الحزب نفسه أنه اتّخذ من الأيديولوجية القوموية العنصرية عقيدته التعبوية، فالكلّ في سورية بموجب هذه العقيدة هم عرب، ومن يصرّ على انتمائه القومي يطرد من “الوطني العربي”. وهكذا غدت المكوّنات القومية السورية غير العربية بموجب عقيدة “البعث” عرباً، أمّا الكرد، الذين قسّمتهم اتفاقيات بعد الحرب العالمية الأولى، وتلك التي كانت قبلها، فكانت لهم خصوصيتهم التي حالت دون تمكّن “البعث” من إلغائها، فكانت السياسة الاضطهادية المزدوجة التي تمثّلت في التهم والأحكام السلبية، والسياسات العنصرية، التي تجلّت في العديد من المشاريع والإجراءات التمييزية، إلى جانب الحرمان من أبسط الحقوق المشروعة.

سورية اليوم بأشدّ الحاجة إلى القطع مع المنظومة المفهومية التي رسّخها حزب البعث في أذهان كثيرين من السوريين، بمن فيهم النخب السياسية من مختلف التوجّهات. فالقطع مع الاستبداد لن يكون كاملاً ما لم يكن قطعاً مبرماً مع مسوّغاته النظرية وشعاراته التضليلية. كما أن الحكم على الطوائف الدينية أو المذهبية لا يمكن أن يكون (ولا يجوز أن يكون) من خلال تصرّفات وجرائم بعض أعضاء تلك الطوائف، ومحاولاتهم استغلال الطائفة لصالح مشاريعهم الانتهازية التسلطية.

وفي هذا السياق، لا بدّ من التوقّف بكلّ جدية أمام ما يقال عن الانتهاكات والأعمال الانتقامية، والتصرّفات الاستفزازية التي تحدث هنا وهناك؛ وذلك بغية التحقّق من صحّة ما يُروّج، والردّ بالمنطق والحجّة على الشائعات ومزاعم فلول السلطة الأسدية، أو حتى بعض القوى الخارجية، ووضع حدّ لتلك الانتهاكات إن وجدت، واعتماد الصيغة المناسبة ضمن إطار القانون للتعامل معها.

السوريون بمكوّناتهم كلّها يحتاجون إلى الطمأنة بعهود مكتوبة، وإجراءات تعزّز الثقة في الأرض، وهذا لن يتحقّق من دون مصالحة وطنية حقيقية وليست مُجرَّد مصالحة مجاملاتية، أو تطمينات عامّة لا تكفي لتهدئة الناس، ولا تمنحهم شعور الثقة بالمستقبل. المطلوب مصالحةٌ تُكلَّف بها لجان حريصة على شعبها ووطنها، لجان تشرف عليها شخصيات تمتلك المصداقية والوزن في الساحة الوطنية السورية، شخصيات قادرة على التواصل مع الجميع بثقة ومن دون أيّ عقد، وتحرص على تبديد الهواجس عبر اعتماد آليات واضحة لقمع المخالفات وتطويق الفتن.

وفي موازاة المصالحة الوطنية، ينتظر السوريون بفارغ الصبر تطبيق العدالة الانتقالية بحقّ الذين أجرموا في حقّ السوريين، وأسهموا بصورة مباشرة أو غير مباشرة في عمليات القتل والمجازر التي ارتكبتها السلطة البائدة في مختلف المناطق السورية. وحتى تكون هذه العملية سليمةً، وتكون عادلةً بعيدةً كلّ البعد عن الانتقام الأعمى، لا بدّ أن تكون شفّافة، وأمام المحاكم المختصّة، وبحضور المحامين، وحتى ممثّلي المنظّمات الحقوقية الوطنية والعربية والدولية.

ما حدث في سورية أمر كبير؛ وفرح السوريين بالنصر كبير لا يعادله شيء. لذلك، من الضروري أن يكون هناك حرص من الجميع على استمرارية هذا الفرح، وعدم تحويله أتراحاً جديدةً تضاف إلى تلك التي عانى منها السوريون كثيراً، وذلك يكون عبر مصالحة وطنية راسخة تكون رافعة أمينة للنهوض بالعمران.

العربي الجديد

—————————–

سوريا بعد الاستبداد: هل يكفي صندوق الاقتراع لتحقيق الديمقراطية؟/ ليث العمري

21/1/2025

رائج/ سوريا/ بمشاركة 1300 متطوع.. انطلاق حملة “رجعنا يا شام” لـ “إعادة الحياة إلى شوارع دمشق”

الكاتب: الديمقراطية ليست مجرد عملية تصويت بل هي منظومة متكاملة من القيم والمؤسسات والممارسات (الصحافة السورية)

في بلدٍ أثقلته خطوات الجنود، تتلاقى الآن أرواح منهكة بأمواج أمل فجرٍ جديد!. يقف السوريون اليوم على مفترق طرق بعد التحرر من نظام استبدادي دام لعقود. هذه المرحلة تمثّل فرصة ذهبية لإعادة بناء وطن يسوده العدل والسلام، لكنها تكشف أيضًا عن تحديات كبيرة في مسيرة بناء دولة ديمقراطية مستقرة.

هذا التحرر يضعُنا أمام تحديات جسيمة، تتطلب التفكير العميق في مدى كفاية صندوق الاقتراع وحده لبناء وطنٍ يسوده السلام والعدل، وفي أهمية تأسيس بيئة مؤسسية وسياسية متينة لضمان نجاح المسار الديمقراطي.

من المغالطة الاعتقاد بأن الانتقال نحو الديمقراطية يقتصر على إجراء انتخابات حرة، أو إفساح المجال لتعددية سياسية شكلية؛ فالديمقراطية عملية معقدة تتطلب توافر شروط مؤسسية واجتماعية وسياسية.

وقد يبدو من المغري، بعد انهيار نظام السارق وتحرير البلاد، أن نهرع نحو انتخابات فورية، لكن التجارب المقارنة أثبتت أن هذا التحوّل الفجائي قد يقود إلى نتائج عكسية، بل وقد يمهّد الطريق لعودة الاستبداد بثوبٍ جديد.

الديمقراطية ليست مجرد صندوق اقتراع

الديمقراطية ليست مجرد عملية تصويت، بل هي منظومة متكاملة من القيم والمؤسسات والممارسات؛ فهي تحتاج إلى بيئة سياسية ومجتمعية قادرة على استيعاب التوترات وإدارتها بفاعلية.

في سوريا اليوم، تبرز هذه الصعوبات بوضوح، إذ إن الدولة التي اعتمدت لعقود على أجهزة أمنية وعسكرية، مُسيَّرة لخدمة النظام لا المجتمع، انهارت مؤسساتها الأساسية، وهذا الفراغ الهيكلي يجعل من الصعب بناء نظام ديمقراطي مستقر.

في ظل الطابع الشخصاني للنظام السابق، لم تتوفر مؤسسات مستقلة ومحترفة، مثل القضاء والجيش والشرطة والإعلام، مما قد يُعتبر دعائم أساسية لأي دولة ديمقراطية. هذا الانهيار المؤسسي يعني أن البدء بانتخابات قبل تأسيس بنية مؤسسية سليمة هو وصفة للفوضى، وليس للديمقراطية.

تعقيدات النسيج الاجتماعي

يزيد من تعقيد المشهد السوري التداخلُ الطائفي والعرقي الذي عمّقته سنوات الحرب؛ وإن تحقيق توافق وطني وحوار شامل في فترة قصيرة يعد تحديًا هائلًا. بدون آليات فعّالة لبناء الثقة وترسيخ العدالة الانتقالية، قد تتحول الانتخابات إلى ساحة صراع تزيد من الانقسامات بدلًا من جسرها.

إطلاق عملية انتخابية دون بناء أرضية من الثقة والتفاهم قد يحوّل الانتخابات إلى معركة سياسية شرسة؛ حيث تتنافس الأطراف المتصارعة بدلًا من أن تتقارب، وبدلًا من تقريب وجهات النظر تصبح الانتخابات أداة لتعميق الشروخ المجتمعية.

الواقع الأمني الهش والتدخلات الخارجية

لا يمكن تجاهل الواقع الأمني الهش في سوريا، حيث ينتشر السلاح، ويفتقر المجتمع إلى سلطة مركزية تحتكر استخدام القوة بشكل شرعي؛ وهذا الوضع الأمني يُعرقل أي محاولات جادة لتأسيس نظام ديمقراطي. أضف إلى ذلك التدخلات الخارجية، التي جعلت سوريا ساحة لتقاطع المصالح الإقليمية والدولية.

هذه التدخلات لن تختفي مع سقوط النظام، بل قد تزداد حدتها، ما يؤدي إلى دعم قوى خارجية لنخب أو فصائل معينة؛ والنتيجة ديمقراطية مُشوَّهة تحت وصاية خارجية، تجعل العملية برمتها هشّة، ومعرّضة للانهيار في أي لحظة.

تجارب عربية سابقة: دروس يجب التعلم منها

أثبتت تجارب دول عربية أخرى أن الاستعجال في إجراء الانتخابات، دون بناء مؤسسات قوية وتوافق سياسي، يُضاعف مخاطر الانزلاق إلى الفوضى. في الحالة السورية المعقدة، يحتاج المسار الانتقالي إلى نهج تدريجي يركّز على:

    بناء مؤسسات مستقلة وقوية، كالجيش والقضاء والشرطة.

    حوار وطني شامل، يضمن مشاركة جميع المكونات السورية.

    تحقيق العدالة الانتقالية، لضمان المحاسبة وبناء الثقة.

    صياغة دستور جديد يضمن حقوق الجميع، ويوفّر أساسًا قانونيًا متينًا للدولة.

الديمقراطية ليست شعارًا بل مسارًا طويلًا

إن الانتقال السريع نحو الديمقراطية، دون توفير الظروف المناسبة، ينطوي على مخاطر جسيمة قد تعيدنا إلى الاستبداد، أو تُدخلنا في دوامة الفوضى.

بناء دولة عادلة ومستقرة يتطلب عملية تحضيرية طويلة، تشمل إعادة هيكلة المؤسسات، واستعادة الثقة الاجتماعية، وإطلاق برامج للتوعية السياسية وبناء القدرات المدنية.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

مدون، طالب حقوق بجامعة إيراسموس روتردام

————————————

7 محاور فاصلة ستؤثر على نجاح التحول في سوريا/ أحمد العطاونة

تحديث 22 كانون الثاني 2025

7 محاور فاصلة ستؤثر على نجاح التحول في سوريا لسوريا مكانة خاصة في فكر ووجدان كل عربي، سواء كان علمانيًا، أو قوميًا، أو إسلاميًا أو أيًا ما يصنف أحد نفسه، ذلك أن لكل منهم تاريخَه في هذا البلد، فإمبراطوريتهم الأولى “الدولة الأموية” كان مركزها الشام، وأفكارهم وحركاتهم القومية واليسارية الوطنية والإسلامية والشعر والفنون كان للشام مساهمة مميزة فيها.

وقد كانت ثورة الشعب السوري الأخيرة مصدر إلهام للكثيرين منهم. لذلك وغيره ظهر اهتمام واضح بعد سقوط نظام الأسد بمستقبل سوريا، وما يمكن أن يكون عليه شكل الحكم فيها.

تلاقت آراء الجميع على حق الشعب السوري في الحرية والكرامة، وعبروا عن أملهم بأن يتمكن الشعب السوري من بناء دولة الحقوق والحريات، والسيادة الوطنية، والإرادة الشعبية.

غير أن التباين حول المستقبل، والمخاوف من توجّهات المكونات السياسية والاجتماعية، سرعان ما طفت إلى السطح. وفتح النقاش حول سوريا المستقبل وطبيعة وهوية الدولة فيها، وسارع العلمانيون السوريون والعرب إلى المطالبة بدولة علمانية، فيما رأى الإسلاميون بأن هوية الثوار وغالبية الشعب السوري واضحة، وأن إسلامية هوية الدولة هي أمر واقع.

هذا التباين يحتّم على كل المكونات السياسية، الإسلامية منها والعلمانية، المحافظة والليبرالية أن تتصرف بمسؤولية عالية، وأن تتعظ بالتجاذب المشابه الذي حدث في غير دولة ومكان.

ولعل من المفيد في هذه اللحظة الوقوف على بعض القضايا التي ستؤثر على التحول في سوريا ومستقبلها السياسي، بعد نجاح ثورتها في إسقاط نظام الأسد، والأمل في نجاحها في بناء الدولة التي يرنو لها السوريون والعرب.

أولًا: كبح جماح التطرف

ينبغي أن يدرك العلمانيون والإسلاميون أنهم لا يمتلكون الحقيقة المطلقة، وما لديهم من أفكار ومناهج وطرق حول الحكم وإدارة شؤون الناس وإقامة الدول، هي تجارب بشرية نسبية الصواب، وهي في الحالة السورية فقيرة إلى التجربة ولم تختبر بعد، وهو ما يستدعي التواضع في طرح الأفكار والمقاربات.

وفي ظل محدودية المعرفة والتجربة والخبرة لدى الجميع، فإن التسامح مع الآخر وما لديه من أفكار، وإعطاء الفرصة الكافية لاختبار ما لديه من ادعاءات، أمر ذو أهمية قصوى، بل لا مفرَّ منه.

وليكن التأثير المتبادل على المناهج والأفكار والأداء بالوسائل الحضارية والقانونية، ولنطور تجربتنا الخاصة بالتدافع والتنافس والنقد الإيجابي. فلا يحق للعلمانيين اليوم أن يطالبوا إسلاميًا وصل إلى الحكم عن طريق الثورة أن يطبق ما لديهم من أفكار، ويقصي ذاته وفكره.

كما لا بدّ للإسلامي، وهو في سدة الحكم، أن يعطي الآخرين المساحة والفرصة الكافية ليعرضوا على الناس ما لديهم من أفكار وقيم، ويكون الشعب هو الحكم على الأداء.

لقد قامت الثورة ابتداء لمنح الناس حريتهم كاملة، والحرية هي القيمة العليا التي تحرك الناس من أجلها، وهي المبرر الذي منح الثورة شرعيّتها، وعليه فإن إعطاء الجماهير حرية المفاضلة بين البرامج والأحزاب والجماعات، هو حق وواجب.

ولا ينبغي لأي طرف كان أن يدّعي الوصاية على الشعب كونه يعتقد أنه يمتلك الحقيقة، أو الأصلح والأصوب للشعب ومستقبله. إن قبول الآخر كما هو شرط التعددية والعمل السياسي، وأي محاولة لنفي الآخر، تعني إعادة إنتاج نظام الاستبداد بحُلة جديدة.

ثانيًا: الحذر من الوقوع في فخّ ادّعاء التفرد والاستثنائية

يجب الاستفادة من تجارب الربيع العربي، ومحاولات التغيير خلال العقد الماضي، وإبداء الجدية في العمل مع الجميع، والاستفادة من كل الطاقات، وعدم الإقصاء، وتحصين الداخل بمكوناته المختلفة من التدخلات الخارجية، والاصطفافات الإقليمية.

فقد كان التفرد والتفرق والانتهازية، والأحكام المسبقة، والفجور في الخصومة السياسية، والاستعجال في قطف الثمار المتوقعة أو المتوهمة، كل ذلك بموازاة قلة الخبرة والتجربة السياسية التي عانى منها الجميع، كنتيجة منطقية للعيش في ظل الدولة الشمولية لعقود طويلة، مَقاتِل قضت على الكثير من الفرص التي لاحت أمام شعوب المنطقة للانتقال إلى حقبة تاريخية جديدة، والتخلّص من الاستبداد والفساد والجهل.

ثالثًا: التسرّع والاستعجال في قطف الثمار

“الكعكة السورية” لم تنضج بعد، ويحيط بها مخاطر هائلة، داخلية وخارجية. هذه المخاطر تدعو إلى الحرص ابتداءً على إنجاح التجربة واستقرار البلد وإعادة بنائه، ومن ثم فليدخل الجميع إلى حلبة المنافسة المشروعة على الحكم والنفوذ والمكانة، التي لا ينبغي أن يكون لأحد القدرة على منحها سوى الشعب السوري، صاحب الحق الحصري في منح الشرعية ونزعها.

هذه القضية تعني الجميع، لكن الفصيل الحاكم اليوم “جبهة تحرير الشام” أو الإسلاميون هم المعني الأول بها. فالوقوع في فخ الرغبة في الاستئثار والهيمنة وتهميش الآخرين سيكون مدخلًا لتقويض التجربة، ويفتح الباب لكل المتربصين والخائفين للتدخل السلبي في البلد.

رابعًا: الغرب المنافق

بالاستناد إلى تاريخ الدول الغربية الطويل في التعامل مع قضايا العالم الثالث، وبأخذ العبرة من مواقفها تجاه دول الربيع العربي، فإن الغرب، في غالبيته العظمى، منافق ومعادٍ للتغيير في منطقتنا، ولا يدعم حرية الشعوب وامتلاكها إرادتها الحرة، وهو داعم بكل قوة للاستبداد والأنظمة الشمولية.

وكل ما يردده من شعارات حول الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان، إنما هي سلسلة لا تتوقف من الأكاذيب. وهو لا ينظر لمنطقتنا ودولها إلا في إطار المصالح والأهداف والمشاريع الإمبريالية.

وعليه فلا ينبغي انتظار الدعم من أي من الدول الغربية، بل لا بد من الوعي بأهدافها وسياساتها، ووضع الخطط وتهيئة الذات للتصدي لأدوارها التخريبية. وملفات تدخلها الفجة حاضرة دومًا: المرأة، والأقليات، وحرية التعبير إلخ، وهي قضايا في غاية الأهمية والحساسية، وعلينا في العالم العربي والإسلامي أن ننتج فلسفتنا ومفاهيمنا وقيمنا وآلياتنا الخاصة في التعامل معها والتي تعبر عن قيمنا ومفاهيمنا القادرة على إنتاج مقاربات حضارية ومنصفة وعادلة للتعامل مع هذه القضايا وغيرها.

خامسًا: الاستقواء بالغرب

هذا السلوك هو وصفة قاتلة للتغيير، ولمن يقدم عليه أيضًا؛ إذ غالبًا ما تستقوي بعض الجهات المحلية من مؤسسات وأقليات بالدول الغربية تحت ستار الدفاع عن الحقوق الأساسية كحقوق المرأة والأقليات، وهو ما يفتح الباب واسعًا على التدخل الخارجي، السلبي غالبًا، ويعقد المشهد الداخلي، ويزيد من حالة العداء والاستقطاب.

الأطراف المرشّحة لذلك في الحالة السورية هي بالأساس القوى العلمانية وقوى المجتمع المدني والأقليات، وبعضها بالفعل يتحرك الآن تحت الحماية الخارجية، والبعض الآخر يحاول استجلابها.

ولعل المثال الأهم الذي ينبغي أن يشكل عبرة لكل المستقوين بالخارج هو نظام الأسد ذاته الذي لم يستند يومًا في شرعيته لشعبه، واعتمد وبالذات خلال سنوات الثورة على الدعم الأجنبي، ولعل نهايته الدراماتيكية تشكل درسًا لكل من يبحث عن شرعية حكم أو مشاركة بعيدًا عن الإرادة الوطنية الشعبية.

سادسًا: إسرائيل

هذه الدولة بوصفها أداة إمبريالية وكيانًا استعماريًا استيطانيًا غريبًا عن المنطقة وتاريخها وهويتها الثقافية والسياسية، هي عدو الجميع في سوريا وعموم المنطقة، حتى وإن طبّع معها من طبع، وصادقها من صادق، فالشعوب تدرك جيدًا أن لا عدوَّ مشتركًا لها في المنطقة سوى إسرائيل، وعليه فالبحث عن حماية أو تعزيز نفوذ بالتعاون معها، أو الاعتماد عليها، هو جريمة لا ينبغي لأحد أن يقترفها.

وبالذات عندما ندرك أن التصور الإسرائيلي المعلن لسوريا الجديدة هو التقسيم، ودعم إنشاء كيانات متعددة في البلاد، مدعومة من الولايات المتحدة الأميركية ودول أخرى، وهو تصور ينسجم مع رؤية قائمة على إعادة تفتيت المنطقة، وبناء كيانات وأنظمة الأقليات، كي تنفي إسرائيل عن نفسها صفة الشذوذ بوصفها جزءًا من منطقة قائمة على فكرة كيانات ودول الأقليات.

سابعًا: هوية الدولة

المشترك الذي ينبغي العمل وفقه والإصرار على تحقيقه هو بناء دولة مدنية تعددية تضمن الحريات للجميع، وترعى حقوق جميع المواطنين بوصفها دولة مواطنة، توفر لكل أبنائها الأمن والرعاية والفرص المتساوية.

إن مدنية الدولة، التي تشكل نقيضًا للاستبداد والحكم العسكري والشمولي، هي قضية مشتركة في الفكر الإسلامي والوطني والعلماني. ولا ينبغي أن تشكل هوية الدولة أزمة داخلية، كما أن أية محاولة لبناء نظام سياسي مغاير، ستشكل مدخلًا للكثير من القوى الداخلية والخارجية لتعطيل التجربة، وقد تقود إلى تمزيق سوريا والحيلولة دون تعافيها وانتقالها لمرحلة جديدة.

ولا شك أن العبء الأكبر في هذه القضية يقع على عاتق من يتولون زمام الأمور اليوم، ومن يمتلكون النصيب الأكبر من القوة، ويسيطرون على مقاليد السياسة والجغرافيا، فنجاح السيد أحمد الشرع وفريقه في التعامل مع هذه القضية أمر حاسم في عبور سوريا الآمن نحو المستقبل.

إنّ الانزلاق إلى حالة من الاشتباك أو التصادم السياسي أو العسكري يعني الفشل الحتمي، وإن الاغترار بالقوة والإمكانات المحلية يشكل خطرًا لا يقل عن الاستقواء بالخارج لجلب الدعم.

لا شك أن جميع المكونات السياسية والاجتماعية السورية أمام اختبار تاريخي، فإما أن تنجح في تقديم مصلحة بلدها وشعبها ومستقبلها وتدفع باتجاه نجاح هذه المحطة التاريخية الفاصلة، أو أن تقدم مصالحها الضيقة فتجني على التجربة وتفوت اللحظة التاريخية، كما حدث في أكثر من دولة عربية.

ولا بد أن مختلف الأطراف في سوريا يدركون أن شعوب المنطقة ومكوناتها السياسية ينظرون إلى سوريا، وينتظرون منها أن تقدم لهم تجربة ناجحة تفتح لهم باب الأمل من جديد، وهو ما يضاعف من المسؤولية الملقاة على عاتقهم.

الجزيرة

————————–

سوريا الجديدة: التحديات الأمنية وتطلعات المستقبل/ حسن النيفي

2025.01.22

لبثت لهفةُ السوريين إلى الحرية في نفوسهم طوال سنواتٍ عديدة، بل كادت أن تتحوّل إلى غصّة موجعة نتيجة الإحباطات الكثيرة التي استحكمت بمفاصل الثورة. ولكن، ما إن هبّت عليها نسائم الثامن من شهر كانون الأول الماضي، حتى تحوّلت إلى شعلة لاهبة يعمّ وهجها سائر البلاد السورية.

ولا شك أن حرص السوريين على استمرار توهّجها يجعلهم في عجلة من أمرهم على استكمال مسيرة التحرير، وذلك من خلال ما تشهده الأوساط السورية في داخل البلاد وخارجها من حراك مجتمعي، وندوات، وحوارات، ولقاءات رسمية وغير رسمية، وكذلك من خلال نشاط حكومي وعربي ودولي يهدف إلى إنضاج رؤى وتصوّرات وبرامج يمكن أن تسهم بعبور سوريا إلى ضفة الأمان.

ولكن، على الرغم من ذلك، فإن هذه اللهفة المشتعلة ما تزال مُهدّدةً بالانطفاء ما لم تحظَ بالحصانة المطلوبة، إذ لا يمكن تجاهل ولا إنكار كثرة الأفواه التي تحاول النفخ على تلك الشعلة بهدف إخمادها، ونعني بذلك جملةً من المخاطر الفعلية الداخلية التي لم تبرح الأرض السورية بعد.

استحقاقات أمنية راهنة

ولعل في طليعة هذه المخاطر تلك التي تحول دون استتباب نعمة الأمان، التي ربما تكون الهاجس الأول للسوريين، إذ ما يزال شطرٌ كبير من الجغرافيا السورية خارج سيطرة الحكومة، بل ربما يكون هذا الشطر هو الجزء الأهم – اقتصادياً وأمنياً – بدءاً من الأطراف الجنوبية الشرقية لمدينة منبج، مروراً بالرقة وريف دير الزور ومحافظة الحسكة.

فتلك المساحات تشهد حرباً بلا هوادة بين قوات قسد وفصائل الجيش الوطني، يسقط من جرّائها عشرات الضحايا كل يوم، فضلاً عن حالات النزوح لسكان تلك المناطق هرباً من جحيم الحرب. وعلى الرغم ممّا يرشح عن أنباء حول مفاوضات تجريها قسد مع الحكومة الحالية في دمشق، إلّا أن ما يشهده الواقع الفعلي يوحي بمزيد من التصعيد من خلال حرص كل طرف على بسط نفوذه والإمساك بالأرض كمسارٍ ميداني موازٍ لمسار المفاوضات.

وما لا يمكن تجاهله أو إغفال خطورته أيضاً هو استمرار أعداد كبيرة من عناصر قوات نظام الأسد وميليشياته وفلول جيشه رفضها الانصياع لإرادة الدولة وتسليم السلاح الذي بحوزتها، بل ما تزال أعداد من هؤلاء مستعصيةً، سواء بين المدنيين في المدن والبلدات أو في شعاب الجبال ببعض القرى والبلدات. ولا شك أن استمرارها يجسّد تهديداً مباشراً لأمن المواطنين وعملهم ومصادر أرزاقهم، فضلاً عمّا يلازم تلك الفلول من مخابئ لإنتاج المخدّرات التي ما تزال تتكشّف يوماً بعد يوم، سواءٌ في مقار الفرقة الرابعة التي كان يتزعمها ماهر، شقيق الرئيس المخلوع، أو في أماكن تموضع ميليشيات إيران الطائفية ومشتقاتها اللبنانية والعراقية.

ولعل ما يفاقم من خطورة فلول النظام المستعصية والمارقة هو أنها أصبحت الرصيد الذي تراهن عليه إيران للنيل من المنجز التحرّري الذي حققه السوريون من جهة، وكذلك للثأر عن هزيمتها على الأرض السورية بعد نصف قرن من تحكّمها بالعلاقة العضوية مع الدولة الأسدية من جهة أخرى.

بل يمكن القول إن إيران، التي طردها ثوار سوريا من الأبواب العريضة، تريد الالتفاف لتتسلّل من الشبابيك. ولعل الأخبار المتواترة عن تزويد طهران لقوات قسد بالطائرات المسيّرة إنما تأتي في سياق سعي إيران إلى الانتقام من السوريين عبرَ حرمانهم من حالة الأمان التي طالما تطلّعوا إليها.

ولا يمكن، بحال من الأحوال، التقليل من شأن التردّد والتلكؤ الذي تبديه بعض الفصائل العسكرية، وفصائل الجنوب على وجه التحديد، من عدم رغبتها بحل نفسها وانخراطها في وزارة الدفاع التي تزمع الحكومة الراهنة تشكيلها أو إعادة هيكلتها، وذلك حرصاً منها، أو من قادتها، على تحقيق مكتسبات أو ميّزات ربما تكون ذات صلة بمناصب أو بمفاصل القيادة والمسؤولية.

وغير بعيد عن هذا المنحى في التردّد والتلكؤ، هو الخطاب الذي تصدّره للرأي العام بعض الزعامات الدينية أو العرقية، بذريعة ضرورة الحصول على ضمانات تكفل حقوقها، وهي في الواقع لا تخفي رغبةً دفينة بالانفصال عن الدولة السورية، الأمر الذي شجّعت عليه ومهّدت له دعوة وزير خارجية الكيان الصهيوني، جدعون ساعر، منذ ما قبل سقوط نظام الأسد.

في التعويل على الضامن الخارجي

لا ريب أن مجمل التحديات الأمنية المشار إليها أعلاه تجسّد استحقاقات كبيرة ومهمة تستوجب المواجهة. وهذه المواجهة لن تكون على عاتق السلطة الراهنة فحسب، بل ينبغي أن تُحشد لها جهود عموم السوريين، باعتبار هذه العملية استكمالاً لمشروع التحرير، مما يوجب على الجميع الخروج من المراوحة في المكان والاستنقاع في بوتقة التخوّفات والوساوس التي لن تُنتجَ إلّا التردّد، في الوقت الذي ينبغي فيه استثمار تلك الفرصة التي لا يمكن التفريط بها بحال من الأحوال.

قد يبدو من نافل القول أن التحفّظات التي تبديها كثير من الشرائح المجتمعية السورية يمكن تفهّمها، بل ربما بدت كثير من المخاوف أمراً مشروعاً إن كان ذلك كله يجري في سياق الانشغال بمستقبل البلاد والحرص على نظافة ونقاء العملية التحررية وسلاستها، وحرصها على تجنّب إراقة الدماء وتحاشي الدخول إلى الفوضى. وكذلك يمكن تفهّم ارتفاع نبرة الإحساس النقدي وضرورة أن تبقى الأنظار شاخصة تجاه سلوك السلطة بغية تقييمه وتقويمه والاعتراض عليه أو التنديد به أو تأييده.

ولكن، ما لا يمكن تفهّمه أو الركون إليه أن تتحوّل تلك التحفظات والمخاوف المشروعة إلى أجندة يهدّد أصحابها باللجوء إلى الخارج إن لم تجرِ وتيرة التغيير وفقاً لرؤاهم أو تصوّراتهم. فتلك مسألة أخرى، إذ لا يخفى أن أصواتاً بدأت بالارتفاع، منها ما يطالب بأن تجري العملية السياسية في البلاد، وما تتضمنه من استحقاقات كالدستور، وتشكيل حكومة انتقالية، وانتخابات، وما إلى ذلك، وفقاً للقرار 2254. إذ يرى أصحاب هذا المذهب أن الدور الأممي في تنفيذ القرار المذكور هو الضامن لحقوق السوريين.

ولعل المفارقة المحزنة في هذا الطرح، هو أن القرار المشار إليه صدر في كانون الأول من العام 2015، وعلى مدى تسع سنوات من صدوره لم يكن ضامناً لقطرة دم واحدة لأي مواطن سوري، وكذلك لم يكن ضامناً للإفراج عن معتقل واحد من بين عشرات الآلاف من المعتقلين السوريين في سجون الأسد. كما أن الإشراف الأممي المفترض على هذا القرار لم يستطع إلزام نظام الأسد بأي شكل من أشكال المساهمة الفعّالة في العملية السياسية.

ولعل السؤال الأكثر إلحاحاً: إذا كان القرار الأممي 2254، الذي وُجد ليكون عاصماً لدماء السوريين وداعياً للإفراج عن معتقليهم، وسبيلاً لإيجاد حل سياسي عادل لقضيتهم، قد أخفق أيما إخفاق فيما وُضع لأجله، فهل يمكن أن يكون ضامناً موثوقاً به لمستقبلهم؟

ما هو ثابتٌ وشديد النصوع أن زوال الطغيان الأسدي لم يتحقق بفعل أي قرار أممي، وإنما تحقق بمبادرة ثورية وطنية أطاحت به. وهي بهذا قد أزاحت العقبة الأكبر والأشدّ استعصاءً في طريق التغيير، وأولى بهذه المبادرة أن تبقى ضمن حيّزها الوطني، وأن تُثمر بجهود ومساعٍ وطنية، دون وصاية خارجية انتظر منها السوريون الكثير ولم يحصدوا إلّا الخيبة.

تلفزيون سوريا

————————————

هل نحن باتجاه ديكتاتورية “دينية” مؤيدة بشعبية جارفة؟/ إياد الجعفري

2025.01.22

هل نقف اليوم في سوريا على عتبة التأسيس لمرحلة استبداد جديدة، بخلفية دينية هذه المرة؟ لا بد أن هذا السؤال يُؤرق شريحة واسعة من السوريين، خاصةً أولئك الذين شاركوا في النضال ضد نظام الأسد، بطرق وأشكال مختلفة، طوال عقد ونيف من حياتهم، وذلك على أمل الوصول إلى نظام حكم ديمقراطي رشيد في بلادهم. واليوم، يواجه كثير منهم حملات شرسة تستهدفهم كلما أدلوا بدلوهم في انتقاد بعض سياسات أو قرارات أو إجراءات الإدارة السياسية الجديدة الحاكمة في دمشق.

تتجلى هذه الحملات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ولا يمكن رصد انعكاسات جدّية لها على الأرض حتى الساعة. وفي الـ”سوشال ميديا”، ازداد انخراط السوريين بصورة كبيرة جداً، وأصبحوا في غالبيتهم يدلُون بدلوهم في كل صغيرة وكبيرة. وهذه ظاهرة صحية، لولا الشراسة التي يتلقاها منتقدو الإدارة الجديدة، والتي تصل إلى حد التخوين لناشطين عُرفوا لسنوات طويلة على أنهم من مناوئي نظام الأسد المخلوع.

توحي تلك الحملات “الافتراضية” بجملة ملاحظات: الأولى، وجود شعبية كبيرة لأحمد الشرع، الحاكم الفعلي لمعظم التراب السوري اليوم. ثاني الملاحظات، الخلفية الدينية لأصحاب تلك الحملات، وانحيازهم الجلّي للتيار الإسلامي القابع في سدة السلطة اليوم. أما ثالث تلك الملاحظات، فهو بروز شعارات شعبوية، من قبيل “من يحرر يقرر”، و”نحن الأغلبية نشكل 80% من الشعب”.. إلخ.

لكن تعبير تلك الحملات عن نفسها عبر “السوشال ميديا” يدفع للتشكيك في مدى تعبيرها عن اتجاهات السوريين الفعلية على الأرض. فإلى أي حد يمكن الاطمئنان إلى تمثيل “العالم الافتراضي” لاتجاهات السوريين ومواقفهم السياسية اليوم؟ يصبح هذا السؤال ملحاً أكثر على صعيد العلاقة بين الدين والسياسة في سوريا المستقبل، بصورة تدفعنا للتساؤل: هل نحن حقاً باتجاه ديكتاتورية مغلّفة، هذه المرة، بالأيدولوجية الدينية؟

قد تبدو الإجابة على الأسئلة السابقة عصية على التحري الموضوعي في الوقت الراهن، إذ يتطلب ذلك أبحاثاً ميدانية تستند إلى الاستبيان، وتحتاج إلى الوقت والجهد البحثي الرصين لاستكشاف مدى اقتراب تعبيرات السوريين “الافتراضية” من واقعهم. لكن في الوقت نفسه، يمكننا الاستناد إلى تجارب بحثية قريبة قد تعطينا مؤشرات يمكن الركون إلى بعضها في تصور مشهد أقرب إلى الواقع الموضوعي اليوم.

من تلك التجارب البحثية التي يمكن الاستفادة منها، دراسة صدرت عن منظمة “اليوم التالي”، المعنية بدعم الانتقال الديمقراطي في سوريا. الدراسة التي حملت عنوان “أنماط التدين السوري والقضايا المدنية والسياسية” صدرت في تشرين الأول 2022، واستندت إلى الاستبيان لجمع البيانات عبر عينة مؤلفة من 2860 مفردة بحثية، شملت سبع مناطق، منها إدلب وأريافها (كانت خاضعة لحكومة الإنقاذ – أحمد الشرع)، وشمالي حلب (المؤقتة)، ومناطق سيطرة النظام المخلوع، ومناطق سيطرة “قسد”.

وشمل الاستبيان 23 سؤالاً، وحرص معدّوه على توزيع أفراد العينة المختارة بما يتناسب مع تنوع السوريين الطائفي والعرقي والديني، وكذلك العمري والجندري، والتعليمي. واستهدف الاستبيان التحري عن دور الدين في تشكيل موقف السوريين حيال السياسة وتصورهم لسوريا المستقبل.

وبالاستناد إلى نتائج الاستبيان، يمكن فرز جملة معطيات إيجابية مفاجئة إلى حد ما، وأخرى متوقعة وترسّخ التصور القائم اليوم. ولنبدأ بالصنف الأول من المعطيات: إذ أظهرت غالبية العينة، بنسبة تصل إلى نحو 75%، انفتاحها حيال الآخر المختلف عنها في سوريا. كما أظهرت غالبية ساحقة، بنسبة 91%، تأييدها لمبدأ المساواة تحت سقف القانون لجميع أتباع الأديان والطوائف. ورفضت غالبيتهم، بنسبة 58%، مبدأ المحاصصة الدينية والطائفية في الممارسة السياسية. وأيدت غالبية العينة، بنسبة 75%، حق جميع الأديان والطوائف بالقيام بشعائرها بحرية. وذهب 71% منهم إلى أن نمط التدين ودرجاته هي مسألة شخصية.

لكن إلى جانب المعطيات الإيجابية إلى حد ما، كانت هناك معطيات متوقعة. إذ أيّد نحو 51% أن يكون رجال الدين مكوّناً أساسياً في مؤسسات الدولة. وهي إشارة خطيرة، لكن لا يجب اعتمادها من دون ملاحظة الارتباك الجلي في اختيارات أفراد العينة، من جراء الفوضى والتعقيد الذي عاشوه خلال الفترة ما بين 2011 والعام 2022. إذ تشير نتائج الاستبيان بشكل جلي إلى فقدان ثقة السوريين بنخبهم السياسية بصورة عامة.

ويمكن أن نلحظ ذلك في إجاباتهم بخصوص مرجعياتهم السياسية، إذ يظهر نكوص جلي باتجاه المنظومات الأولية. فقد قال 52% منهم إن مرجعيته هي شخصيات موثوقة من محيطه المحلي، وأشار نحو 41% إلى دور رجال الدين في تشكيل مرجعيته، فيما كان دور الأحزاب السياسية لا يتجاوز 12%. وإن كان يمكن لحظ تأثير للمفكرين السياسيين بنسبة 41%، أي أن هناك دوراً لمؤثرين متخصصين في هذا المجال، وهذه إيجابية يمكن البناء عليها.

وقد أقر أفراد العينة بازدياد دور الدين في الحياة اليومية للسوريين، وازدياد دور رجال الدين في السياسة، وطغيان الهوية الدينية على الوطنية والقومية، وارتداد نسبة كبيرة من السوريين إلى انتماءاتهم الطائفية. لكن في المقابل، يمكن رصد معطيات تخفف من سلبية هذه المؤشرات. فأفراد العينة لم يقدموا أي سلطة أمر واقع (في حينها) أو جسماً سياسياً أو دينياً، بوصفه يعبّر عنهم ولو بالحد الأدنى. إذ حظيت حكومة الإنقاذ في إدلب (تحرير الشام) بنسبة تأييد 7.3% فقط، في حين حصلت “المؤقتة” بشمالي حلب على نسبة تأييد 14.1%. بينما حصل النظام المخلوع على نسبة تأييد لا تتجاوز 16%. أما “داعش” فحصلت على تأييد بنسبة 0.7%. في حين حصل الإخوان المسلمون على نسبة 5.5%. وكان أعلى الأجسام السياسية تأييداً هو المجلس الإسلامي السوري (أسامة الرفاعي) بنسبة 18.9%.

وهكذا، لم يقترب أي من الأجسام السياسية والدينية التي كانت قائمة قبل سنتين في سوريا من نسبة تمثيل مقبولة لدى أفراد العينة. وهو أمر يمكن القياس عليه اليوم. فحكومة الإنقاذ، التي كانت قائمة في إدلب، تحكم بصورة كبيرة معظم التراب السوري اليوم. ورغم الشعبية الجارفة لها في العالم الافتراضي للسوريين، إلا أنها لم تكن تحظى بنسبة تأييد حقيقية من جانبهم، على أرض الواقع، قبل هذا التاريخ بسنتين فقط. مما يجعل أداءها في الفترة القادمة خاضعاً لميزان التقييم الحاد من جانب الشارع السوري المترقب اليوم.

وتأييدهم لها غير مبني على البعد الديني، بقدر ما هو مبني على أدائها الخدمي وتأثيرها على حياتهم المعيشية. أما على المدى الزمني الأبعد، فهناك مؤشر ملفت للغاية، خرج به الاستبيان المشار إليه، متعلق بنوع الاتجاه السياسي الذي يؤيده السوريون على صعيد الأحزاب السياسية. إذ أيد 32% من أفراد العينة الاتجاه الديمقراطي الليبرالي، و20.2% أيد التوجه القومي، فيما أيد 17.2% منهم فقط التوجه الديني.

وإن أردنا تقييم ما تعنيه النتائج أعلاه، وإسقاطها على مستقبل السوريين في ضوء التطورات الأخيرة بعد سقوط النظام المخلوع، يمكن القول إننا قد نكون في المدى الزمني القريب أمام موجة “أسلمة” مرتفعة للممارسة السياسية. لكن هذه الموجة ستكون معرّضة للتقييم الحاد، وربما الردة الشعبية عنها، على مدى زمني أبعد، إن لم ينجح الإسلاميون في تحقيق تطلعات السوريين المعيشية والخدمية، مرفقة بعدم التدخل في أنماط تدينهم ودرجاته.

تلفزيون سوريا

————————————-

عرض فيلم “ممنوع” تأسيسٌ لحياة سورية جديدة/ نديم جرجوره

22 يناير 2025

عرضُ أفلامٍ سورية في دمشق، بعد سنين من المنع والرفض والإقصاء، جزءٌ من تفعيل حياةٍ يُشوّهها نظامٌ أسدي في 54 عاماً، بل يقضي على مفاصلها الحيوية. هذان التشويه والإقصاء يتمثّلان أيضاً، إلى الفعل المُباشر لكلّ منهما، في أشكال أخرى من حياةٍ، ثقافية وفنية تحديداً، تنعكس في مهرجانات ومعارض واحتفالاتٍ، تتلاءم مع تفكيرٍ سلطوي يُلمِّع صورته، ويُخفِّف من ثقل الجُرم الأسديّ. فالحياة المنشودة، في الثقافة والفنون (وغيرها أيضاً)، ترتكز على إتاحة حيّز كبير لاشتغالاتٍ مختلفة، لن تكون كلّها بالضرورة متوافقة ومفردات الإبداع والابتكار والجماليات، فتناقضات كهذه صحّية، ومن يُشاهد ويقرأ ويتابع ويسمع يُفترض به أنْ يُدرك الفرق بين كلّ ما يُقدَّم إليه، بتنويعاتٍ شتّى، لا أنْ يُكتفَى بتقديم صنفٍ واحدٍ توافق عليه سلطة حاكمة بالقمع والتغييب والتهجير والنفي.

في المُقدَّم سابقاً بعض المُفيد، الذي يستحيل إنكار حضوره في المشهدين الثقافي والفني، في سورية “الأسد”، رغم أنّ وسائل التقديم وأمكنته غير باهرةٍ، شكلاً على الأقلّ. فصالات سينمائية معطوبة منذ زمنٍ، ودور نشر عاملة في البلد غير مُبدعةٍ في تصميمٍ وطباعة، ومهرجانات (سينمائية ومسرحية وموسيقية) تحتاج إلى تأهيل جذري. هذه أمثلة معلومة في بلدٍ منكوبٍ بجُرم أسديّ، مُتداول (الجرم) سابقاً، وإنْ بحذر ونُدرة، والتمنّيات وفيرة بأنْ يُكشَف المُخبّأ، رغم ثقل جراحه، في المقبل من الأوقات.

عرض “نجوم النهار” (1988) لأسامة محمد و”الرقيب الخالد” (2014) لزياد كلثوم في دمشق احتفاءٌ متعدّد الجوانب. فإلى كونه حقّاً، يتأخّر تحقيقه زمناً، يكتسب العرض حيوية تتزامن وشيءٍ من حيوية الشارع السوري، غداة فرار بشّار الأسد (ليلة 7 ـ 8 ديسمبر/كانون الأول 2024)، مع أنّ تساؤلات جمّة تُطرح حول آلية عمل “الإدارة” الجديدة للبلد. والعرض، إذْ يستقطب أناساً يتوقون إلى مشاهدة نتاجٍ يعكس بعض واقعٍ، يُتوقّع أنْ يؤسِّس مرحلةً، وإنْ تكن مؤقّتة، تشهد عروض أفلام أخرى، مُنجزة زمن القمع الأسديّ، ولحظة “الثورة السورية”، المدنية والسلمية، قبل تحويلها إلى حربٍ ضد شعب وبلد واجتماع وعمارة، وأنْ تحثّ هذه العروض على نقاشٍ مطلوب، عن المعروض أولاً، وعن موقع السينما في لحظة الانقلاب ـ الانتقال تلك، المليئة بتحدّيات عيشٍ وعلاقات وتأمّل واشتغال، من أجل بلدٍ يجب أنْ يكون “سورية” فقط.

والفيلمان، اللذان يجهدان في تفكيك آليات واقع سوريّ، يكشفان، إلى حساسية سينمائية في بناء درامي ومقاربة جمالية، قسوة حياة في اجتماع ذكوري قروي وعلاقة أبناء الريف بالمدينة، وغيرها من مسائل مرتبطة بهذا ومفتوحة على وقائع حياةٍ سورية (نجوم النهار)، وتطرح سؤال السينما (تصوير فيلمٍ عن تصوير فيلمٍ آخر، سيكون “سلّم إلى دمشق” لمحمد ملص، 2013)، عبر بحثٍ بصريّ في معنى الخدمة العسكرية الإلزامية، خاصة في بدايات “الثورة اليتيمة” (عنوان كتاب لزياد ماجد، 2013)، قبل نحرها الأسديّ (الرقيب الخالد).

عرض الفيلمين في دمشق قبل أيامٍ خطوة مطلوبة، في بلدٍ يريد نهوضاً حقيقياً من موته، وينشد خلاصاً من خرابه.

العربي الجديد

——————————

السوريون والسياسة… عن الحياة في “منفى البلاد”/ نجيب نصير

22 يناير 2025

يعرف السوريون بأنهم شعب مسيّس، أو بالأحرى يحكي في السياسة كثيرًا، ولكن هذا التعريف يبدو واهيًا، فمقوّمات التسيس أو الحكي في السياسة، وليس العمل بها، بعيدة كل البعد برأيي عن متناول السوري العادي، فمنذ عام 1958، أي منذ الوحدة المصرية- السورية، ألغيت السياسة من حياة السوريين، وصار الإلغاء شرطًا لازمًا للاتفاق على الوحدة، بين اللادولتين بالمعنى التقني للكلمة، وذلك عبر تعهد السوريين بحل كافة الأحزاب، وترافق ذلك مع إعلان أحكام الطوارئ (العرفية)، كي تستطيع السلطة مراقبة أي حراك سياسي، بدون حسيب من أي جهة محلية، أو من آليات “الدولة” نفسها، واستمرت الأحكام العرفية منذ ذلك التاريخ، حتى 2011/10/15، إلا فترة بسيطة بين 1961 و1963، حصل فيها انقلاب البعث، لتعود الأحكام العرفية مرة أخرى، وإن كانت ألغيت بعد 2011 حيث برر الدستور وقتها ما سمي قانون الإرهاب، وهو في الواقع حكم عرفي بشكل عملي، يستثنى فيه استعمال المحاكم المدنية، أو حتى قوات الشرطة المدنية في الاعتقال والتحقيق والسجون.

في عود على بدء، لم يعرف السوريون من السياسة إلا التضحيات والنضالات، ولم تعرف التحزبات السرية سوى الالتزام بالأمل الثوري الذي سوف يوصلهم إلى نصر ما، تعرفه فقط اجتماعاتهم السرية، وجولات الهروب والتخفي، ومن ثم إما إلى اللجوء والاغتراب، أو إلى زنزانات الاختفاء القسري، ويعرف السوري تمامًا، أنه متى تم تسجيل اسمه على ورقة في أي جهاز من أجهزة المخابرات، فإن الأمر لن ينتهي طوال عمره، حتى لو ابتعد عن السياسة لاحقًا.

اليوم يحصد السوريون ثمن ابتعادهم عن السياسة، فلا يوجد الآن سوى الخراب، خراب العمران، وخراب التفكير المؤسس للمجتمع والدولة، وتقوقع عقليتهم في دائرة العداء السياسي، وتراجع فكرة الخصومة (المنافسة) السياسية، فما كان معروضًا عليهم ولسنوات طويلة هو مجرد حديد ونار، وعليهم التعامل على هذا الأساس الجنائي، مع واقع يحتاج إلى دولة مفهومة وقادرة على التفاهم مع الناس، الذين من واجبهم أن يراقبوا أداءها حفاظًا على حقوقهم ومصالحهم، التي هي الركن الأساسي لوجودهم في البلاد.

الدولة، أو أية دولة حقيقية بالمعنى المعاصر للكلمة، هي حكومة ومعارضة، والاثنان مكلفان بصيانة الدولة، لا يحتكر أحد الوطنية راميًا الآخر بالخيانة العظمى دفعة واحدة، والأمم والشعوب تعيش في ظلال دولها على هذا الأساس، بلا حديد ونار رغم شدة التنافس والخصومة بين التيارات السياسية التي تضغط بواسطة جمهورها على حكومتها لتنفيذ ما هو أفضل للمصالح المجتمعية، وهذه ليست بوصفة سحرية، ولا أحجية من أحاجي الزمان، فالدولة هي تكنولوجيات إدارة المجتمعات وصيانتها من التراجع إلى ما قبل المجتمع، والتكنولوجيات باردة ومحايدة وعلى مسافة واحدة من الجميع، لذلك من مصلحتها صيانة إرادة الناس، حتى تبقي المجتمع حيًا وقادرًا على الإنتاج وبالتالي الإستمرار كدولة وليس مجرد سلطة، وهنا بالضبط ما يكمن الآن في الخراب السوري الذي أشرنا إليه، وهنا بالضبط نرى آليات التخلف وهي تعمل على مصادرة إرادة أعضاء المجتمع بحجة تمثيلهم جبرًا، وهنا بالضبط يظهر إنفلات العنف “الثوري” إذ لا طريقة للفهم والتفاهم، مع جهة لا تحاور إلا بالعنف، الذي أصبح تعريفًا وحيدًا “للدولة”، على أساس احتكارها للعنف، فانقلب التعريف حتى صار من يمتلك العنف هو “دولة”، وهذا ما قاله أحد الأساتذة الجامعيين البعثيين في إحدى جرائد الحكومة أثناء ربيع دمشق، قال: لقد وصلنا إلى الحكم بالدم، فمن أراد الحكم عليه أن يريق الدماء. 

هكذا انقطع السوري عن السياسة، فلا مظاهرات مطلبية، ولا أحزاب، ولا نشاطات خيرية أو ثقافية، يقوم بها متطوعو التحزب أو العمل المدني، بناء على قناعاتهم الناتجة عن الجدل التنافسي بين الأفكار والبرامج السياسية الذي خلق تصورًا تقدميًا قد يفيد في الارتقاء بالدولة، وفي تنفيذ هذا التصور هناك إلغاء لفكرة الأقليات، تلك الفكرة المتخلفة عن الممارسة  المجتمعية، والخارجة عن مفهوم السياسة وممارستها، وبها ينحرف السوري عن التفكير السياسي المعرفي، فمفهوم الأقلية والأكثرية هو مفهوم سياسي حصرًا، وتعميمه على الأديان والطوائف والمذاهب، والإثنيات، والفولكلوريات، هو خطأ شنيع ناتج عن الحرمان من السياسة، وتشوه في مفاهيم الحقوق والواجبات، وكذلك هو ابتعاد حقيقي عن صياغة العقد الاجتماعي الضروري لإقامة دولة، إذ لا يمكن حدوث المجتمع في ظروف انقسامية إلى هذا الحد والحجم، وكلمة “أقليات” هي كلمة مضادة لمفهوم الوطن الذي يتأسس على مواطنين متعاقدين على قدم المساواة، وهذا التعاقد، هو أساس الفعل السياسي بين الناس، وهو فعل إيجابي بالضرورة، وواجب على كل متعاقد، وفي الحالة السورية الجديدة، ظهر هذا الغياب لهذه الثقافة الحقوقية الموحِدة لصفوف المجتمع، وطافت على السطح فقاقيع التسمم السياسي، الذي يتم اختصاره بالإنتقامات والعقوبات التي تراكم الآلام والأحقاد.

لقد شبع السوريون من الترويض بالحسنى أو بالتهديد، أو بالعنف الفيزيائي المباشر، سئموا هذا النوع من التربية، التي لا تفضي إلى وطن، بغض النظر إذا كان زعيمًا، دستوريًا، أو بلا دستور، أو بدستور يمكن التلاعب فيه وبالقوانين الناتجة عنه، لأن السوريين لديهم رأي سياسي، مقاصده معلنة، تطلب تمثيلها في صناعة القرار، وهذا لا يمكن وصفه بالعداء، أو الخيانة، أو الإرتباط بالخارج، هذه التهم الجزافية، تجعل من الشعب نفسه قيمة جزافية، يمتنع عن المشاركة بالحياة، في حين أنه يرفض مجرد العيش للعيش، ويأمل بالحصول على مؤسسات مجربة في العالم أجمع، وليست لغزًا يصعب تفكيكه، فللبرلمان شغل مؤثر يظهر في أداء الدولة والحكومة، وليس مكانًا للبصم على قرارات رئيس الدولة، وفصل السلطات ضروري للحياة البشرية، كي تتم المراقبة والمحاسبة على سياسات لا تحترم الحق بالحياة أو الكرامة البشرية، وهذان البندان ساقطان عند الجماعة السياسية السورية، وهذا ما أدى إلى امتناع التنمية عن الفعل التنموي، نظرًا لأن هذه التنمية ليست من شغله هو كمواطن كامل الأهلية الحقوقية، التي تتضمن التأثير الفعال في التوجهات التنموية، فلم تشمل التنمية القطاع السياسي، مما أدى إلى امتناع التنمية في بقية القطاعات، وهذا الكلام ينطبق على النوعية أيضًًا، أو هو بالأساس عن النوعية، فلا يعني شيئًا في معيار التنمية أن تبنى آلاف المدارس، إذا كانت نوعيتها ونوعية التعليم سقيمة، ولا تتناسب مع القيم العصرية للأداء المجتمعي.

اليوم على السوري العودة إلى السياسة، عبر تأسيس كيانات مدنية من أحزاب وجمعيات، ونقابات واتحادات، وكل ما يمت للعمل المجتمعي بصلة، فتسريع إقامة المجتمع عبر تحفيز الناس على إعلان إرادتها، هو من سيولد دولة ترعى إنتاج مجتمعها، وتوزع ثرواته بمساواة وعدالة، وهذا لن يتم بالحديد والنار، بل بالتنمية المجتمعية الفعلية، ولن يتم رفع الشعارات وتقديسها، بل بفعل المعرفة التي فات السوري أشواط كثيرة منها، ولن يتم بتأبيد السلطة وتقديسها، بل بتداولها واعتبار رجالاتها أناسًا دنيويين يعيشون معهم بين قوسي معايير الخطأ والصواب؛ فالسوريون يستحقون ذلك، وصمتهم لم يعد يجدي، فقد صمتوا لأكثر من نصف قرن، وكانت النتائج على أشكال الخراب المتنوعة. عليهم أن يبادروا لاستبدال الكلاشينكوف بالسياسة، والنقد والانتقاد وحتى السخرية من الخطابات والوعود المبجلة، هذا بدلًا من الانصياع للشعارات وتأكيدات التأبيد للحاكم. ربما من حقهم أن يجربوا بنية سياسية دون اقتتال أو دماء، حيث تبدو الحرية غاية بحد  ذاتها، ممارسة للشعور بالحياة والكرامة، فما حصل عليه السوريون في وقت الترويض المديد، يجعلهم يفكرون بالسياسة كغالب ومغلوب، وعليهم تغيير هذه النتيجة، لصالح الانتصار للمصالح المجتمعية التي تحقق مصالح أفراد المجتمع جميعهم. إنها فرصة ذهبية لتغيير مستقبلهم بإرادتهم ولصالحهم. وأخشى ما أخشاه، هو أن تستمر ذهنية من يتزوج أمي أناديه يا عمي؛ عندها يكون امتناع السياسة بين الناس والدولة بمثابة إزهاق حق من حقوقهم مرة أخرى، وساعتها تصح مقولة: “كما تكونوا يُولّى عليكم”.

ضفة ثالثة

—————————-

حين تذكرنا الصور بأننا نجونا صدفة/ علي سفر

الأربعاء 2025/01/22

في وقت ما، نشرتُ هنا في المدن مقالاً حمل عنوان “جغرافيا الرعب في ذاكرة الدم السورية” عن تموضع المقرات الأمنية الأسدية في صفحة جغرافية دمشق، حيث يظهر من خلال ملاحظات المشاهد الذي يعبر الشوارع والساحات، أن هذه الأمكنة أشبه بثآليل غير حميدة، لا تشوه منظر المدينة فقط، بل تترسخ في الحدقات، وتؤذي، حتى يكاد المرء ينزّ في داخله خوفاً، من أن يقوده أحد ما، نحو جوف المجهول وراء ما يراه.

لم يدخل جميع السوريين إلى المعتقلات، لكنهم كلهم عاشوا إلى هذه اللحظة هذا الإحساس الرهيب، في أن ينتهي مصيرهم هناك إثر وشاية من مخبر أو من حاسد، أو من طامع في المكاسب!

كيف حدث أن جرى تعميم الخوف الصلد هذا؟ وكيف صار لدى كل سوري صرة جاهزة في عمق نفسيته، مملوءة بأنواع الرعب المتوقع وغير المتوقع، الذي سيواجهه حين يعتقله العنصر، أو تذهب به الدورية الأمنية.

لا حاجة هنا لاستعادة الخلاصات عن طرائق الأنظمة التسلطية، في بث الخوف منها، من أجل تثبيت سلطتها، لأن آليات السيطرة في زمن الانكشاف الكبير هذا، صارت واضحة، وتكاد لم تعد تجدي، أمام توسع فضاءات الحريات، وتمدد مفاهيم حقوق الإنسان حول العالم، وربما صار توجُهُ أي سلطة نحو استعادة ميراث الديكتاتوريات البائدة مفضوحاً، إلى درجة اعتباره ملمحاً كوميدياً، لشدة سذاجة من يستخدمونه.

لكن الفاجعة التي يصنعها فينا وجود الإجرام الأسدي، تأتي من أن هذا النموذج كان استثنائياً، في هضمه لطرائق الآخرين في قتل الإنسان، ففي الوعي الأمني السوري، ستمر بك صورة عبد الحميد السراج، الذي قادر سنوات الوحدة مع مصر بالحديد والنار وتذويب أجساد المعارضين بالأسيد كما فعلوا بالشيوعي فرج الله الحلو، وأيضاً ملامح الأدوات النازية لدى جهاز “الغستابو” ووريثها الألماني الشرقي “الستازي”، وقبلهما “الكي جي بي” الروسي، وأيضاً ملامح تأتي من كوريا الشمالية والصين، وآخرين في الغرب والجنوب!

طيلة عشرات السنين، تراكمت أدوات تفكيك الإنسان السوري، بالمعنى النفسي إلى خوف ورعب وتقية، ومساومات شتى، في سبيل النجاة، من المصير المجهول الذي يقبع خلف الثألولة الأمنية، التي يمر بها مرغماً، ليس في دمشق وحدها، بل في كل بقعة هنا، ففي كل مدينة سورية، ثمة فرع للأمن العسكري وفرع لشعبة الأمن السياسي وآخر لإدارة أمن الدولة ومساحة مشابهة للمخابرات الجوية.

وفي زمن الثورة صار لكل واحد من الفرع وفروع الفروع حواجز خاصة، تحمل نسغ إرهاب البشر، إلى الطرق المحلية والوطنية، وزادت الفرقة الرابعة التي تتبع ماهر الأسد طين القذارة بلة، حيث صار الحاجز يحمل طابعاً مافيوياً، يمكن للواقفين فيه، أن يجروا العابرين، إلى مجاهل ثكناتهم البغيضة، إن لم يدفعوا الإتاوات المطلوبة.

الآن، وبحسب التقارير التي يخرج بها زملاء من الصحف والمواقع والفضائيات، ينكشف مشهد المجهول، الذي رسخ عقوداً من الزمن، وراء أمكنة الخوف والرعب! فيشاهد السوري المهاجع والزنازين القذرة، التي عاش فيها المعتقلون طيلة 14 سنة من زمن الثورة، وعشرات السنين قبل هذا الحدث المفصلي في تاريخ مل شيء في البلاد، وعبر كاميرات تنقل فوضى غرف التحقيق ووثائق المحققين، يمكن لأي منا أن يستعيد ما جرى معه، حين تم استدعاؤه إلى الفرع لسبب ما، ويتذكر ملامح صف الضابط الذي يسأله، ويسترجع نبضات قلبه المرتاع، وهو ينتظر قرار الضابط المسؤول، بعد أن يطلع على محضر التحقيق، فإن كانت أمه قد دعت له بالتوفيق فعلاً، كما يقال في الموروث الشعبي السوري، فإنه سيخرج من قفص الرعب، وإن كانت الدعوات قد ضلت طريقها، فإنه سيسقط في الجوف، حيث ستطحنه معدة الآلة الدموية، وسيصبح مصيره مؤجلاً، كما جرى مع مئات الآلاف، ممن لم يعرف في أي أرض انتهت عظامهم.

كان من الصعب عليّ وأنا أكتب عن الأمكنة المرعبة في دمشق أن أقود القارئ الذي لا يدري، إلى الممرات المعتمة في الأقبية، وإلى هذه اللحظة مازلت أواجه المعوقات في أن أشرح طبيعة الخوف، الذي لم أشف منه، رغم هروبي بعد عامين من بدء الثورة، خوفاً من أن يتم توقيفي، بعد أن صار منع السفر أمر اعتقال!

تقدمُ الصديقة بيسان الشيخ في تقريرها المصور في صحيفة الشرق الأوسط تفاصيل عن فرع سرية المداهمة أو الـ215، أو ما سماه السوريون الناجون فرعاً للموت، وتأخذني إلى المكان، الذي حُقق معي فيه عن نشاط ما قمت به في مبنى التلفزيون، خلال السنة الأولى للثورة.

لم أكن وحدي، وحدث أن المحقق الشاب الذي رأى ملفاً كبيراً أمامه، قدّر أن الثرثرات المدونة فيه ليست ذات أهمية، فهي أعمال تطوعية لبعض المخبرين، لكن الأمور المهمة من نوع الإغاثة والتمويل والمشاركة في المظاهرات غائبة، ولهذا كان الأفضل وبحسب توقعاتي لتقديراته، أن يتركني طالما أن منع السفر يجعلني تحت اليد.

يقول لي زميل ذهب إلى التحقيق ذاته إننا “ناجون بالصدفة”، وأشاركه الاستنتاج المرعب، حين أتذكر أنه بعد شهر وأكثر من ذلك التحقيق، استشرس جمع المخبرين في مبنى التلفزيون، وقرروا بمشاركة عناصر الفرع، الذين يتولون حماية المكان، أن يطهروه من كافة العاملين، الذين يُشك بأنهم يدعمون الثورة، ويؤيدون الجيش الحر، فاعتُقل العشرات، ونجا البعض، في منحة إلهية لكي يرووا ما حدث، في تلك الزنازين، واختفى أثر من جانبهم الحظ، والقدرة البدنية، حيث يؤدي سوء الهواء، والجراثيم والضغط النفسي الهائل والعتمة، والعذاب الجسدي إلى اضمحلال الإنسان ليصبح مجرد كائن، أو ماكينة حية تتهاوى، فيفصل صاحبها، كما يقول الناجون وهم يعنون بذلك انتهاء القدرة العقلية على العمل، وبما يؤشر إلى اقتراب الضحية من الموت.

أسأل أحد الناجين عن هشام موصلي فني المونتاج الدرامي، الذي تشاجر مع أحد المخبرين في “جزيرة المونتاج”، حين قال أن جيش النظام نهب بيته، ما أثار حنق المُخرج المخبر الذي ادعى بالمقابل أن من فعل ذلك هي العصابات المسلحة، وحين لم يتراجع هشام عن قوله، جاء عناصر الفرع واقتادوه إلى السرية، وهناك بعد أيام، أصيب بجلطة وقضى.

نحن نرى الجوف المرعب الآن، الكاميرات تستبيحه، وتُظهر كل ما فيه، قذارة الجدران والبطانيات الممتلئة بالجراثيم والميكروبات، الأبواب الحديدية.

وحدها الأوراق، والبطاقات الشخصية، ودفاتر العائلة، ورخص القيادة، وجوازات سفر كل من اعتقل هنا، ولم يخرج! هي ما يشي بأن ثمة أرواح ماتزال عالقة هنا، لا لتخيف من يأتون لزيارة الأقبية، كما لو أننا في فيلم رعب سينمائي، بل لتذكّر بأن ما جرى يجب ألا يُنسى، وألا يُترك دون أن يدون في سجلات العدالة الأرضية، بعدما غابت الحكاية وقتاً مديداً، بانتظار عدالة السماء.

المدن

————————————–

نفط شرق الفرات بعد الحرب السورية: نعمة أم نقمة؟/ هاني عضاضة

الثلاثاء 2025/01/21

كانت سوريا تنتج حوالي 400 ألف برميل يوميًا من النفط الخام في عام 2011، مع احتياطات تبلغ نحو 2.5 مليار برميل، بعد أن وصلت القدرة الإنتاجية في أفضل حالاتها إلى 600 ألف برميل يوميًا. وكانت الدول الأوروبية تستورد سنويًا ما لا تقل قيمته عن 3 مليارات دولار. أما احتياطات الغاز فبلغت 8.5 تريليون قدم مكعب، مع إنتاج يومي وصل إلى 316 مليار قدم مكعب وفقًا لموقع Oil Price.

تأثرت إمدادات النفط والغاز بشكل كبير خلال الحرب التي استمرت نحو 14 عامًا. تعرضت البنى التحتية لأضرار جسيمة نتيجة القصف والتخريب المتعمد، وفقدت المنشآت مواردها البشرية، وفرضت الميليشيات الضرائب على الصهاريج النفطية وواجهت الجهات الفاعلة في السوق قيودًا على حركتها. استمر الإنتاج في الانخفاض حتى سقوط نظام الأسد، وتحول ما تبقى منه لدعم تسليح الأطراف المتصارعة، فارتفعت أسعار المنتجات النفطية مقابل انخفاض القدرة الشرائية للسوريين، فيما انتشرت السوق السوداء، خصوصاً في مناطق سيطرة النظام السابق، وتوسعت خطوط تهريب النفط خارج سوريا، خصوصًا في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وفصائل المعارضة. ساهمت العقوبات الاقتصادية التي فرضت على القطاع في تعزيز السوق السوداء، إلى جانب انهيار نظام إدارة الجودة وتحديد أسعار متفاوتة للمنتجات النفطية.

أدى هذا التدهور إلى تغييرات كبيرة في طبيعة الجهات الفاعلة في السوق، خصوصاً مع تعزيز كل من إيران وروسيا استثماراتهما من خلال دخول عدد أكبر من الشركات المتخصصة. ورغم تغير المشهد بعد سقوط النظام، لا يزال الوضع كما هو في مناطق سيطرة “قسد” شرق الفرات، حيث تسيطر على الجزء الأكبر من الإنتاج بالتعاون مع القوات الأميركية التي أنشأت قواعد عسكرية في معظم الحقول. ويتميز هذا الوضع بالضبابية بسبب عدم توفر إحصاءات دقيقة حول حجم الإنتاج والتجارة.

الاحتياطات: مبالغات وأفخاخ

تُعتبر احتياطات النفط والغاز السورية ضئيلة مقارنة بالدول النفطية الأخرى. فهي كافية لتلبية الاحتياجات المحلية، لكنها لا تكفي لتحقيق فائض كبير يمكن تصديره بشكل مستدام. وبالتالي، لن تلعب دورًا كبيرًا في النهوض الاقتصادي كما هو متوقع في مرحلة ما بعد الحرب، خصوصاً عند النظر إلى حجم الدمار الذي لحق بالاقتصاد السوري.

أشار مستشار تحرير “منصة الطاقة”، الدكتور أنس الحجي، في إحدى مقابلاته الصحفية إلى أن “الاحتياطات المتاحة لا تتساوى مع ما يمكن استخراجه”، وأن هناك “مبالغات كثيرة بشأن وجود احتياطات ضخمة من النفط والغاز، مما قد يؤدي إلى تقليص المساعدات الخارجية بحجة وجود ثروة نفطية يمكن للسوريين الاعتماد عليها”. وشدّد الحجي على ضرورة “الفصل بين ما هو متوقع من الثروة النفطية وبين إيرادات الدولة بشكل كامل، إلى حين تقييم الوضع النفطي استنادًا إلى دراسات جديدة”.

الظاهر من الأمور هو أن الولايات المتحدة والدول الأوروبية تستخدم ورقة النفط والغاز بحجة تسليم الحقول الواقعة تحت سيطرة “قسد”، للضغط على الحكومة السورية المؤقتة، وأي حكومة لاحقة ينتجها مؤتمر الحوار الوطني الموعود الذي تأخر انعقاده، للتخلي عن حق الشعب السوري في الحصول على الدعم الدولي اللازم لإعادة إعمار البلاد، بخاصة مع الزيادة التي شهدها عدد القوات الأميركية المتواجدة على الأراضي السورية، حيث ارتفع من 900 في عام 2020 إلى 2000 في عام 2024، وذلك بحسب وزارة الدفاع الأميركية بذريعة “زيادة التهديدات”، في ظل تشبث الحكومة السورية المؤقتة في دمشق باسترجاع كل الموارد. تبدو هذه القضية كفخ مزدوج يستهدف كلًا من “قسد” والحكومة الجديدة في دمشق في آنٍ واحد، على الرغم من الجهود الغربية المبذولة لإقامة توافق سياسي بين الطرفين، وحاجة سكان شرق الفرات للقوات الأميركية لمنع توسع العدوان التركي.

الحقول شرق الفرات

يُقدَّر أن حوالي 70 في المئة من إجمالي احتياطات النفط والغاز في سوريا تقع في مناطق سيطرة “قسد” في محافظتي دير الزور والحسكة، منذ عام 2017، بعد أن كان تنظيم “داعش” يسيطر على 80 في المئة منها عام 2015، محققًا أرباحًا تصل إلى 1.5 مليون دولار أميركي يوميًا. أشار الناطق باسم وزارة الدفاع الأميركية جوناثان هوفمان، في عام 2019 إلى أن أرباح هذه الحقول ستعود إلى “قسد”، والتي بلغت أرباحها الشهرية، وفقًا لموقع Oil Price  عام 2019 حوالي 10 ملايين دولار. ويعود هذا الفارق بين أرباح “داعش” وأرباح “قسد” إلى الدمار الكبير الذي لحق بالمنشآت، خصوصاً في محافظة دير الزور، بالإضافة إلى استرجاع نظام الأسد بعض الحقول في محافظتي الرقة ودير الزور. ومن أكبر حقول النفط والغاز في مناطق شرق الفرات:

1) حقل العمر النفطي في ريف دير الزور الشرقي، بقدرة إنتاجية قصوى 29 مليون برميل سنويًا قبل عام 2011، قبل أن تنخفض إلى 2.74 مليون برميل سنويًا بحسب تقديرات “فايننشال تايمز” عام 2016. توقّف إنتاجه في فترات متقطعة من الحرب بسبب القصف والتخريب، سواء من قبل الفصائل السورية المتحاربة أو من قبل الميليشيات الموالية لإيران في العراق التي استهدفت القاعدة العسكرية الأميركية المتواجدة فيه، وهي من كبرى القواعد الأميركية في سوريا وتضم سجنًا ومهابطاً للطيران المسيّر والمروحي. ويحتوي الحقل على احتياطات كبيرة من النفط الخام تصل إلى 760 مليون برميل كما تشير دراسة بعنوان “حقل العمر يتغلب على أزمة منتصف العمر” عام 2008.

2) حقل التنك النفطي في ريف دير الزور الشرقي، بقدرة إنتاجية قصوى 40 ألف برميل يوميًا وفقًا لتقديرات موقع Oil Price عام 2018، أي 14.6 مليون برميل سنويًا. وقد أنشئت في المدينة العمالية التابعة له قاعدة عسكرية للقوات الأميركية، تضم حوالي 50 عنصرًا وعددًا من الطائرات المروحية. كان إنتاج هذا الحقل يمثل حوالي 40 في المئة من إجمالي الإنتاج النفطي في سوريا قبل عام 2011، وقد تعرّض إنتاجه بعد سيطرة “قسد” عليه عام 2017 للإعاقة عدة مرات بسبب هجمات متكررة من تنظيم “داعش”.

3) حقل كونوكو للغاز شمال شرق دير الزور، ويضم أكبر معمل للغاز في سوريا أنشأته شركة “كونوكو فيليبس” الأميركية عام 2001 بمواصفات حديثة. تبلغ قدرته الإنتاجية 4.7 مليار متر مكعب سنويًا، ويُساهم في تلبية احتياجات الغاز المنزلي والكهرباء المحلية وإنتاج الأسمدة والأمونيا. وقد أنشأت القوات الأميركية المتواجدة في سوريا قاعدة عسكرية لحماية الحقل، بالتنسيق مع “قسد”، تضم عشرات الجنود الأميركيين.

4) مجمع حقول الجبسة للنفط والغاز في ريف الحسكة الجنوبي، بقدرة إنتاج قصوى للغاز تبلغ 1.095 مليار متر مكعب سنويًا. يُساهم الحقل أيضًا في تلبية الاحتياجات المحلية من الغاز والكهرباء إلى جانب حقل كونوكو، ويبلغ مجموع إنتاج الحقلين معًا حوالي 53 في المئة من إجمالي إنتاج الغاز في سوريا. نفطيًا، أظهرت دراسة بعنوان “النفط في سوريا، بين الإرهاب والديكتاتورية” عام 2016 أن إنتاج الحقل تحت سيطرة تنظيم “داعش” بلغ 3500 برميل يوميًا عام 2015، أي 1.277 مليون برميل في السنة، دون إحصاءات رسمية متاحة. وأنشئت قاعدة عسكرية أميركية كبيرة في منطقة الشدادي على مقربة منه تضم مهابط للطيران المسيّر والمروحي، ويعمل فيها أكثر من 350 عنصرًا.

5) مجمع حقول رميلان للنفط والغاز في ريف المالكية شمال الحسكة، ويُعتبر من أكثر حقول الحسكة إنتاجًا، حيث يحتوي على حوالي 1332 بئرًا نفطيًا وأكثر من 25 بئراً للغاز. انخفض إنتاجه اليومي منتصف عام 2014 إلى حوالي نحو 15 ألف برميل، أي 5.475 مليون برميل سنويًا، بعد أن بلغ أقصى معدل له بنحو 165 ألف برميل يوميًا، وفقًا لدراسة بعنوان “دمار قطاع الطاقة في سوريا خلال الحرب 2011-2020”. كما تقع جنوب شرق مدينة رميلان قاعدة عسكرية أميركية كبيرة تضم أكثر من 500 عنصر.

6) مجمع حقول السويدية للنفط والغاز في ريف المالكية شمال الحسكة، ويضم احتياطات كبيرة لا يتم استثمار الجزء الأكبر منها، رغم عدم وجود تقديرات رسمية حولها بعد. بلغت قدرته الإنتاجية القصوى قبل عام 2011 حوالي 104400 برميل يوميًا، أي 38.1 مليون برميل سنويًا، وفقًا لـ “معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى”، وكان يلبي نسبة كبيرة من الاحتياجات المحلية، قبل أن ينخفض إلى أقل من 7 آلاف برميل يوميًا بحسب منصة الطاقة المتخصصة. تعرضت منشآته لأضرار كبيرة نتيجة القصف التركي في عامي 2023 و2024. ويضم نحو 25 بئرًا تحتوي على كميات ضخمة من الغاز، ويُنتج معمله نصف مليون متر مكعب من الغاز يوميًا.

حصة “قسد” ودور الولايات المتحدة

في حديث خاص إلى “المدن”، أشار الصحافي المختص في الشؤون الكُردية والسورية، شيروان إبراهيم، إلى أنه “لا وجود لإحصاءات رسمية حول إنتاج واحتياطات النفط والغاز منذ سنوات طويلة”، وأنه “لا وجود لشركات كُردية موقعة على عقود نفطية للتنقيب أو الاستخراج، وينحصر دور تلك الشركات في القطاعات الخدماتية المتصلة بقطاع الطاقة فقط”. وأضاف أنه بحسب “المعلومات الواردة، فإن حصة “قسد” من أرباح النفط والغاز منذ بداية سيطرتها على الحقول حتى الآن تتراوح بين 10 إلى 20 في المئة فقط، وهي تختلف من سنة إلى أخرى بحسب المتغيرات الجيوسياسية والعسكرية”، وأن “النسبة الأكبر من الأرباح تستخدم لتغطية التكاليف العسكرية ورواتب الإدارة الذاتية”.

وأكد إبراهيم أن “كل الدول والقوى التي تدخلت في الشأن السوري كان لها نصيب من النفط السوري، بما في ذلك الفصائل المعارضة”. وقال إن “حصة إيران وتركيا كانت تصل عبر إقليم كُردستان العراق، من معبر سيمالكا عبر أنبوب نفطي”، وأن إقليم كُردستان العراق كان “يلعب دور الوساطة التجارية على عكس ما كان يُشاع من أن النفط كان يتم سرقته من قبل قسد”، وأن المشرف الرئيسي على عملية التوزيع النفطية منذ 2014 حتى الآن هي الولايات المتحدة”.

وبعد سؤاله حول خطوط تهريب النفط من مناطق “قسد”، قال إبراهيم إن “العلاقة مع نظام الأسد كانت مقبولة في فترة سيطرة “وحدات حماية الشعب”، أي قبل تشكيل “قوات سوريا الديمقراطية”، والنسبة الأكبر من النفط كانت تعود للنظام. لكن بعد مجيء القوات الأميركية، تغيرت الجغرافيا النفطية. وكانت حصة النظام من النفط تذهب عبر شركات حسام القاطرجي، الذي اغتالته إسرائيل منذ أشهر، لكنه كان مجرد وسيط تجاري”.

أما حصة المعارضة السورية، فقد كانت القوافل تذهب شرقًا عبر معبر عون الدادات، ومن تلك المناطق التابعة للجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا، وحكومة الإنقاذ في إدلب، كان يُهرَّب قسم من النفط إلى داخل تركيا”.

أما في ما يخص المفاوضات الجارية بين “قسد” والإدارة الانتقالية، فأكد إبراهيم أنه، وبموجب اتفاقيات سوتشي وأستانا، قد “تم الاتفاق على المحاصصات النفطية، لكن النسب ما زالت مجهولة”. وأشار إلى أن “القرار الحاسم مرتبط بإرادة الولايات المتحدة، وأن “قسد” مهمتها فقط إدارة وحماية الحقول”. لكنه أوضح أن “القرار الأميركي يرتبط أيضًا بمستويات أخرى إلى جانب ملف النفط والغاز، منها الحرب مع تنظيم “داعش”، وسجناء “داعش” وخصوصاً في سجن غويران، وعائلات مقاتلي “داعش” في المخيمات ولاسيما في مخيم الهول، والاشتراط أن أي تحالف عسكري مع “قسد” في مناطق الوجود الأميركي لا يمكن أن يحصل سوى بموافقة أميركية”. وأوضح في هذا السياق أن “الأميركيين هم الذين يضغطون في قضية منع حل “قسد”، فالولايات المتحدة تعتبر وجود هؤلاء ضروريًا لتحقيق الاستقرار الأمني لحماية الاستثمارات الأجنبية في سوريا على المدى الطويل.

المدن

——————————

من الطوق إلى الأطواق: سوريات رفضن الوصاية/ هبة عز الدين

21.01.2025

الطريق إلى الحرية لم يكن يوماً سهلاً، خاصة للنساء اللواتي يرفضن الوصاية بكافة أشكالها، سواء كانت سياسية، دينية، أو مجتمعية. وما دامت الأصوات النسوية الحرة موجودة، وما دامت الأقلام تكتب عن تلك الأطواق الخفية، سيظل هناك أمل في كسرها نهائياً. لكن حتى ذلك اليوم، سنبقى نواجه أطواقاً جديدة، كلما ظننا أننا تحررنا من سابقاتها.

قالت لي مرة صديقة من السودان وهي تبتسم بمزيج من الجد والمرارة “أنت قاتلة للبهجة، لأنك ببساطة لا تشاركين في هذا الفرح، من دون أن ترفعي راية النقد في وجهه”.

ربما تكون صديقتي على حق، لكن كيف يمكن التعامل مع البهجة الزائفة التي تُبنى على حساب كرامة النساء وأحلامهن، في مجتمع يعامل النساء كورود ناعمة، تُسقى بالمديح وتُزين بها الموائد، لكنه في الوقت ذاته، لا يأبه إن سقطت هذه الورود في أعراسه ومهرجاناته، ويدوس عليها في لحظة نشوة الفرح والدبكة.

أقنعت نفسي بأنه أن تكوني امرأة ناقدة أو قاتلة للبهجة، يعني أن تختاري دوراً لا ترحب به شرائح واسعة في المجتمع، ممن يفضلون المرأة التي تصفق في الزوايا، وتبتسم في صمت، وتقبل بما يُمنح لها من فتات الحقوق، باعتباره كرماً عظيماً. وربما في نهاية الأمر، لا يتعلق الأمر بقتل البهجة، بقدر ما يتعلق بإعادة تعريف الفرح الحقيقي. الفرح الذي لا يُقصي أحداً، ولا يُبنى على استغلال أحد. الفرح الذي يعترف بكل إنسان، بما يحمله من هموم وأحلام، ويمنحه المساحة ليكون نفسه، من دون أقنعة ومن دون خضوع. الفرح الذي لا يلغي تاريخاً و سرديات محقة، مبنية على آلام من تبنوها، و أحياناً صنعوها بأنفسهم.

هل تريدين حقاً أن تكوني تلك التي تنشر البهجة الساذجة؟ أم تريدين أن تكوني من يصنع فرحاً حقيقياً يليق بمن حملن على أكتافهن أعباء الصمت الطويل؟ هذا هو السؤال الذي تركته لي صديقتي منذ سنوات ولعله لا يزال بلا إجابة.

في خضم الثورة السورية وما تبعها من صراعات سياسية واجتماعية، لم تكن معركة النساء السوريات مجرد صراع من أجل إسقاط نظام مستبد فقط، بل كانت أيضاً معركة يومية ضد طوق ذكوري يحيط بهن من كل جانب. الطوق الذي يرمز إلى محاولات تقييدهن وتحديد أدوارهن، سواء كان ذلك في ساحات المظاهرات، أو في أروقة السياسة الدولية.

الطوق في المظاهرات و المجتمع المدني و السياسة

كان الطوق في المظاهرات التي سارت في الثورة ضد الأسد، يتجسد في مجموعة من الرجال الذين يمسكون بأيدي بعضهم بعضاً، ويحيطون بالنساء تحت شعار حمايتهن من التحرش، أو تسهيل هروبهن في حال اقتحام قوات الأمن المكان. وبرغم النوايا الحسنة الظاهرة لهذه الخطوة، إلا أن العديد من النساء رفضن هذا الطوق، لأنه يمارس عليهن نوعاً من الوصاية، وكأن وجودهن في الساحة مشروط بحماية الذكور لهن، ولم يكن مستغرباً أن تسمع صوت إحدى المتظاهرات تقول: “ما بدخل جوا الطوق”. 

وفي بعض المناطق كان ذلك الطوق مجموعة من المتظاهرين الرجال، يقفون في الصفوف الأمامية للمظاهرات ويصرخون: الحرائر لورا، أي أن تقف النساء في الصفوف الخلفية حماية لهن من القنص، أو إطلاق النار المباشرة من قبل الأمن السوري، وعلى غرار رافضات الطوق، أصر بعض النساء على الوقوف في الصفوف الأمامية، وقلن مراراً: “ما منرجع لورا”.

لم يكن رفض الطوق و”الورا” مجرد عناد عابر؛ بل كان تعبيراً عن رفض النساء السوريات، أن يُختزل وجودهن في الثورة بدور الضحايا، أو من يحتاج إلى الحماية. كان إصرارهن على الوجود خارج الطوق، رغم المخاطر، إعلاناً واضحاً بأنهن شريكات كاملات في النضال، لا يطلبن الإذن ولا يقبلن التقييد.

لم يقتصر الطوق على المظاهرات، بل امتد إلى المجتمع المدني، حيث أصبح العديد من المبادرات النسوية/ النسائية في المناطق المحررة، وفي الخارج، يخضع لإملاءات مموليها أو الأجندات الدولية، التي غالباً ما تفصل بين النساء والواقع السياسي.

تلك المبادرات التي كان يُفترض بها أن تكون منبراً حراً للنساء السوريات، تحولت في بعض الأحيان إلى إطار مُقيد، لا يسمح للنساء بالتعبير عن آرائهن بشكل كامل. في كثير من اللقاءات، كان يُطلب من النساء التركيز على القضايا الإنسانية فقط، من دون التطرق إلى الاستبداد، أو الانتهاكات المستمرة من قبل النظام، وكان من اللافت أن يتم تصوير النساء في هذه اللقاءات، كأنهن الطرف المحايد الذي يجب أن يلعب دور الوسيط بين الأطراف المتنازعة، في حين أنهن في الواقع كن ضحايا مباشرات للعنف والقمع.

وفي الوقت الذي كانت فيه بعض المبادرات تُستخدم كأدوات سياسية لإظهار “التنوع والشمولية” أمام المجتمع الدولي، كانت النساء اللواتي يرفضن هذه القيود، يُقصين أو تُهمش أصواتهن. وعلى الرغم من ذلك، استمر العديد من النساء السوريات في تحدي هذه القيود، وأصررن على أن يكن جزءاً من الحراك السياسي والمجتمعي، من دون أن يُفرض عليهن الطوق، سواء كان ذلك في شكل وصاية سياسية، أو أجندات دولية تخدم مصالح محددة.

هذا الطوق الجديد الذي فرضته بعض الجهات الفاعلة في المجتمع المدني، لم يكن أقل قسوة من الطوق الذي واجهته النساء في ساحات المظاهرات، فالهدف في الحالتين كان واضحاً: الحد من تأثير النساء، وجعلهن مجرد رموز شكلية تُستخدم عند الحاجة، من دون السماح لهن بالتصدر والمشاركة الفعلية في صنع القرار.

ومع تقدم الوقت، وتحول الثورة إلى صراع سياسي معقد، ظهر شكل آخر من الطوق، لكن هذه المرة كان في ساحات السياسة والمفاوضات. أصبح يُطلب من النساء أن يجتمعن ككتلة واحدة، بلا اختلافات، بلا تناقضات، وكأنهن مجرد رمز موحد يُستخدم في الصور التذكارية والاجتماعات الرسمية.

أصبح يُفرض عليهن أن يتفقن لمجرد أنهن نساء، من دون اعتبار لاختلاف الرؤى السياسية أو الانتماءات الثورية، ولم تكن وكالات الأمم المتحدة بريئة من تلك الأجندة، فما زلت أذكر اجتماعاً من تحضير إحدى وكالاتهن في بيروت، حيث جمعن المواليات المهللات للقتل، مع أمهات الضحايا وأخواتهن، برغم أن آلة القتل كانت مستمرة، وطُلب منهن أن يحببن بعضهن بعضاً، ويلعبن دور حمامة السلام، وكأن الصقور؛ أي الرجال، يحلّقون في سرب، والنساء؛ الحمائم، في سرب آخر تماماً.

ضريبة الخروج من الطوق

مع إصرار العديد من النساء السوريات على رفض الطوق بكل أشكاله، بدأت حملات تشويه ممنهجة تستهدف هؤلاء النساء الناشطات. لم يكن التشويه مجرد انتقادات عابرة؛ بل اتخذ أشكالاً منظمة تهدف إلى إقصائهن وتحييدهن عن المشهد العام، سواء في المظاهرات أو في المجتمع المدني والسياسي.

استخدمت هذه الحملات التحريض الديني، حيث تم استهداف بعض الناشطات من قبل جهات دينية متشددة، اتهمتهن بالخروج عن “الدين”، والترويج لأفكار غربية تهدف إلى تفكيك المجتمع، ووصل الأمر إلى استخدام المنابر الدينية للتحريض المباشر ضدهن، ونشر صور مفبركة ومعلومات مضللة، تهدف إلى تقويض مصداقيتهن، وجعلهن يظهرن بمظهر غير أخلاقي، أو متآمر مع جهات خارجية.

هدفت كل تلك الحملات إلى إسكات الأصوات الناقدة، ودفع النساء إلى التراجع عن مواقفهن والانسحاب من المشهد العام، وتقويض مصداقيتهن أمام المجتمع المحلي والدولي، مما يضعف من تأثيرهن وقدرتهن على حشد الدعم، كما سعت إلى إعادة فرض السيطرة الذكورية، من خلال إجبار النساء على العودة إلى أدوارهن التقليدية كمتابعات وداعمات فقط، وليس كصانعات للقرار وشريكات في النضال.

 – ناشطة نسوية سورية

درج

——————————

طائفيّة افتراضيّة” خلفها حسابات داعمة لإيران في سوريا

مجتمع التحقق العربي

21.01.2025

لعبت حسابات وصفحات على وتر التأجيج الطائفي بين السنة – الأكثر انتشاراً في سوريا- والعلويين، سواء  عبر الإيحاء بوقوع أعمال انتقامية، أو من خلال استخدام الطائفية وسيلة لمهاجمة السلطة الحالية في البلاد.

اجتاحت الشبكات الاجتماعية موجة من المعلومات المضلّلة، يرافقها خطاب طائفي مكثّف في سوريا، خلال الأسابيع التي تلت إطاحة نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد.

عملت صفحات وحسابات، ترتبط في غالبيتها بالقوى الداعمة لإيران في المنطقة، على تأجيج النزعة الطائفية وبثّ المخاوف بين أبناء الطائفة العلوية – التي ينتمي إليها الأسد، وكانت تسيطر على معظم الشؤون العسكرية والأمنية – من أعمال انتقامية قد تنفّذها عناصر الإدارة الحالية للبلاد.

وتشير تقارير إلى أن نسبة العلويين في سوريا تتراوح بين 10 و15 في المئة من إجمالي عدد السكان، وتتركز غالبيتهم في شمال غربي البلاد، لا سيما اللاذقية وقرى الساحل ومدنه.

ونقلت وسائل إعلام دولية؛ مثل “فرانس 24” وهيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي“، روايات عدد من السوريين العلويين عن مضايقات تعرضوا لها، وعبّروا عن مخاوفهم من التهميش، وتحميلهم مسؤولية ما فعله الأسد، وقالوا إنهم عانوا مثل بقية الشعب السوري إبان فترة حكمه.

منذ رحيل النظام في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، إلى منتصف كانون الثاني/ يناير 2025، كان العلويون محل اهتمام ونقاش كبير على مواقع التواصل الاجتماعي؛ وهو ما توضحه إحصاءات Meltwater بوجود أكثر من 217 ألف تدوينة، تحتوي على كلمة “العلويين”، أو تدور حولهم في منصة “إكس”.

حصلت المنشورات المرتبطة بكلمة “العلويين” على منصة “إكس”، على أكثر من 115 مليون مشاهدة، ووصلت إلى نطاق رؤية محتمل إضافي بلغ 201 مليون مشاهدة.

كما أثارت النقاشات بشأن هذه الطائفة أكثر من 1.424 مليون تفاعل، تضمنت إعجابات، وإعادة مشاركات (ريتويت/ريبوست) وردوداً، وتعليقات مقتبسة، بمعدل يومي يصل إلى 36 ألف تفاعل.

فترات النشاط وطبيعة التفاعلات حول كلمة “العلويين” – Meltwater

حسابات وصفحات

لعبت حسابات وصفحات على وتر التأجيج الطائفي بين السنة – الأكثر انتشاراً في سوريا- والعلويين، سواء  عبر الإيحاء بوقوع أعمال انتقامية، أو من خلال استخدام الطائفية وسيلة لمهاجمة السلطة الحالية في البلاد.

تنقسم غالبية الحسابات والصفحات المنخرطة بصورة منظمة في إثارة الطائفية إلى نوعين رئيسيين؛ فمنها حسابات تقدّم نفسها كجهات سورية معنية بشؤون العلويين، وتنشر بشكل مكثف منشورات تتضمن شائعات أو معلومات غير موثوقة وغير مدعومة بأدلة.

 بعض هذه الحسابات يُظهر انحيازاً واضحاً للنظام السابق من خلال وضع صور للرئيس السابق، والمشاركة في دعايته السياسية خلال سنوات الحرب الأهلية، في حين أن بعضها الآخر حديث الإنشاء ويبدو أنه مخصّص لهذا الغرض.

أما النوع الثاني من الحسابات، فيحمل طابعاً عابراً للحدود، ويعكس محتواها جهوداً مستمرة لمهاجمة الإدارة الحالية في سوريا وخلفيات قادتها. تسعى هذه الحسابات إلى تضخيم الروايات السلبية عن السلطة، مع التركيز على الترويج لوجود انتهاكات طائفية، واستخدام ذلك أداة للتحريض والتأجيج.

تحتوي المساحات التعريفية لهذه الحسابات على صور لقادة ومسؤولين إيرانيين، وشعارات ولقطات لقادة المجموعات الإقليمية المرتبطة بطهران؛ مثل: “حزب الله” اللبناني، والفصائل العراقية الشيعية، والحوثيين في اليمن.

يمتد الوجود الافتراضي لصفحات النوع الأول إلى منصات اجتماعية عدة، وينشط بعضها باللغتين العربية والإنكليزية.

يحمل بعض هذه الصفحات أسماءً باعتبارها ناطقة باسم العلويين أو الأقليات في سوريا؛ مثل: قناة سوريا اليوم، علويون، النهضة العلوية، مرصد الأقليات السوري، المركز الوطني لتوثيق الانتهاكات في سوريا، مصياف الآن، السوريون حول العالم، سوريا، Syria Witness، سوريا إلى أين؟، Longas International.  

أُنشئت غالبية هذه الصفحات في فترات زمنية متقاربة خلال شهر كانون الأول/ ديسمبر 2024، تحديداً في أيام 16، 17، 21، و25 من هذا الشهر. وتُظهر هذه الصفحات نمطاً مشتركاً يتمثل في تبادل المنشورات التي تركز على مزاعم بحدوث انتهاكات، أو تدعو إلى تقسيم سوريا.

وكان لافتاً أن هذه الصفحات تحدد في مساحاتها التعريفية أماكن إدارتها، سواء داخل سوريا أو في دول أخرى، في حين تكشف خاصية الشفافية في “فيسبوك”، أن الأشخاص الذين يديرونها يقيمون في دول أخرى. أما بعض الصفحات الأخرى، فلا تقدم أي معلومات توضح موقع نشاطها أو إدارتها.

على سبيل المثال، تُعلن صفحة “سوريا إلى أين؟” أنها صادرة من دمشق، لكنها لا تُظهر عبر خاصية الشفافية مكان نشاطها، لكن الصفحة تقوم بشكل متكرر بوسم صفحة أخرى تحمل اسم Longas International، التي يذكر القائمون عليها أنها مستقرة في تورنتو في كندا. ومع ذلك، تُظهر خاصية الشفافية أن الصفحة تديرها فعلياً ثلاثة حسابات موجودة في إندونيسيا.

وبالمثل، ذكرت صفحة المركز الوطني لتوثيق الانتهاكات في سوريا أنها تُدار من سويسرا، لكن خاصية الشفافية على “فيسبوك” أوضحت أن إدارتها تتم عبر حسابين موجودين في فرنسا.

أما صفحة “السوريون حول العالم”، التي أُنشئت في 10 أيار/ مايو 2014، فقد نشطت في إثارة الطائفية ومهاجمة الإدارة الحالية، وانخرطت هذه الصفحة سابقاً في الدعاية السياسية لبشار الأسد منذ المراحل المبكرة للأزمة السورية.

يدير صفحة “السوريون حول العالم” شخص يدعى باسل الوجيهي من ثلاثة أماكن مجهولة، حسب ما أظهرت خاصية الشفافية على موقع “فيسبوك”. فيما أظهر بحث أعمق أجريناه، أن هناك ثلاث دول محتملة قد تكون مقر نشاطه، هي فرنسا وألمانيا والسويد، وذلك بناءً على بيانات مكتبة إعلانات شركة “ميتا” الممولة، المالكة لـ”فيسبوك”.

توصلنا إلى ذلك عبر مطالعة بيانات ست نسخ من إعلان واحد مولته الصفحة على فترات زمنية ممتدة من بداية العام الماضي، حتى 13 كانون الثاني/ يناير 2024. وتحدد خاصية الشفافية في “فيسبوك” صفحة “السوريون حول العالم” بأنها تنشر إعلانات ممولة على صلة بالسياسة.

ولدى الصفحة إعلانان في حالة نشطة منذ إطلاقهما في 11 و15 كانون الثاني/ يناير؛ أحدهما يدافع عن بشار الأسد ويدعو له بالنصر، والثاني يهاجم من سماهم “بهائم الإرهاب الإسلامي ومن تبعهم بإجرام من بهائم الأخضر”، في إشارة إلى فصائل المعارضة التي أطاحت الرئيس السابق.

في عام 2012، أطلق الوجيهي حملة تحت عنوان “أسود سوريا تكافح الفساد وتدعم الاقتصاد السوري”، ونقلت وكالة الأنباء السورية الرسمية تصريحات له في ذلك الوقت.

في يوم سقوط نظام الأسد، غيّر الوجيهي اسم صفحة حملته إلى “معاً نبني اقتصاد سوريا”، وبدّل صورتها التعريفية إلى علم الثورة السورية، ومع ذلك، بقيت صورتان لبشار الأسد على الصفحة.

وسبق أن أطلق الوجيهي “الحملة العالمية لدعم الليرة السورية” في آب/ أغسطس 2011، ونشط في ترويجها في مجموعات تضم أنصار الرئيس السابق.

ولا يعطي الوجيهي المزيد من المعلومات عنه في حساباته الرئيسية على الشبكات الاجتماعية، في حين يوفر حساب له على موقع “بيت”، النظير العربي لموقع الوظائف “لينكدان”، لمحة عن الرجل.

وفقاً لحسابه، يمتلك الوجيهي خبرة تتجاوز الـ38 عاماً في مجال إدارة الأعمال والتسويق الرقمي، وأسس عام 2008 وكالة إعلانية في المملكة العربية السعودية، اسمها MarketLines Corp.

ودرس الوجيهي ريادة الأعمال في كلية الملك سعود منتصف التسعينات، وحصل على درجة الماجستير في كلية كينغ كوليدج في لندن عام 2005.

وتشير بيانات قناته في “يوتيوب” إلى أنها تدار من الولايات المتحدة.

معلومات مُضلّلة

منذ رحيل الأسد عن السلطة وفراره إلى روسيا، وضعت المنشورات اليومية المتعلقة بالانتهاكات المزعومة بحق العلويين، منصات تدقيق المعلومات والباحثين، في حالة تأهب مستمر، للتأكد من صحة ما يتم تداوله في وسائل التواصل الاجتماعي.

وكان هناك انتشار واسع النطاق لمقاطع فيديو قديمة، بعضها يعود إلى سنوات الأزمة السورية، أو بعيدة عن السياق السوري، فيما كان بعضها مقتطعاً من سياقه.

ولعب النوع الثاني من الحسابات – الذي أشرنا إليه أعلاه – دوراً لافتاً في الضخ المتواصل للمعلومات المُضللة. وعلى الرغم من أن الحسابات بدت وكأنها تغرد وحدها، لكن طبيعة محتواها تشير إلى وجود تنسيق، ومحرك واحد يقف وراءها.

وربما تركت إيران بشار الأسد في مواجهة تقدّم فصائل المعارضة إلى دمشق حتى فراره من البلاد، لكن حسابات اعتادت المشاركة في حملات إلكترونية مُعبرة عن مصالحها والمجموعات المسلحة الموالية لها في المنطقة، كانت حاضرة في موجة التضليل المرتبطة بسوريا منذ رحيل الأسد.

على سبيل المثال، نشر حساب الكاتب والمحلل السياسي حسين الديراني مقاطع فيديو مضللة عدة عن وضع العلويين بعد رحيل الأسد.

يضع الديراني في حسابه صورة تعريفية التُقطت له أثناء مصافحته وزير الخارجية الإيراني السابق أمير عبد اللهيان، وعادة ما تنقل وسائل الإعلام الإيرانية واللبنانية القريبة من “حزب الله” تصريحات الديراني .

في 14 كانون الثاني/ يناير 2025، نشر الديراني مقطع فيديو زعم أنه يظهر في “سوريا الجديدة القديمة” لحظة إطلاق “مرتزقة هيئة تحرير الشام” – التي كان يقودها قائد الإدارة الحالية في سوريا أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) – النار على أطفال من الطائفة العلوية. وادّعى أن الفيديو صُوِّر في مناطق الساحل السوري العلوية، ومع ذلك، تبين أن الفيديو من العراق وصُوِّر عام 2019.

في التوقيت نفسه، نشرت المقطع حسابات تضع صورة الأمين العام السابق لـ”حزب الله” حسن نصرالله، وصوراً للمرشد الإيراني علي خامنئي، وزعيم الحوثيين عبدالملك الحوثي. 

من بين أبرز المعلومات المضللة الرائجة في الأسابيع الأخيرة، كانت الحديث عن إغلاق كنائس من عناصر إدارة العمليات العسكرية؛ فقد روّجت صفحات منشورات تفيد بـ”إغلاق كنيسة آيا صوفيا في مدينة السقيلبية في ريف محافظة حماة بشكل نهائي بعد تهديد القائمين عليها”، إلا أن هذا الادعاء ثبت عدم صحته، وهو ما دعمته منصة “تأكد” السورية المتخصصة في التحقق من المعلومات.

تحريض وكراهية ودعوات للتقسيم

حملت المنشورات، وبخاصة على “فيسبوك” الذي يعد الأكثر شيوعاً في سوريا، خطاب كراهية، وتحريضاً ضد مختلف أطياف الشعب السوري.

بنت الصفحات منشوراتها التحريضية على أحداث وفيديوهات مقتطعة من سياقها أو غير مكتملة المعلومات، مثل مزاعم “حرق مقام السيد أبي عبد الله الحسين بن حمدان الخصيبي” في حلب، مع ظهور قتلى قربه في مقطع فيديو تم ترويجه على أنه وقع منتصف الشهر الحالي.

فيما قال بيان لوزارة الداخلية السورية: “نؤكد أن الفيديو المنتشر هو فيديو قديم يعود لفترة تحرير مدينة حلب أقدمت عليه مجموعات مجهولة، وأن أجهزتنا تعمل ليل نهار على حفظ الأملاك والمواقع الدينية، الهدف من إعادة نشر هكذا مقاطع هو إثارة الفتنة بين أبناء الشعب السوري، في هذه المرحلة الحساسة التي تمر بها سوريا”.

في وقت أثارت صفحات الجدل بشأن الحادثة المزعومة، واستدعت عبارات تحريضية منسوبة إلى فصائل المعارضة، واستخدامها مدخلاً للتضخيم، والتسويق لطلب الحماية الدولية للأقليات.

من بين العبارات التي تم استدعاؤها: “شرطة نصيرية، صبراً يا علوية، بالذبح جيناكم بلا اتفاقية، المسيحية ع بيروت والعلوية ع التابوت، يا إيران جني جني بدو يحكمنا سني”.

وروّجت منشورات أخرى للصدام، منها “نصيحة لمن بيده الأمر: لا تجبروا الساحل على محاربتكم لأنكم ستخسرون… لا أحد قادر على محاربة الجبال!! الساحل هو كل علوي على كامل التراب السوري، وكل علوي في سوريا هو الساحل”.

وعملت صفحات؛ مثل “علويون، المركز الوطني لتوثيق الانتهاكات في سوريا، المرصد العربي لحقوق الإنسان”، على تنشيط وسوم بعينها، تدّعي أن هناك “إبادة للعلويين”، وتدعو إلى إنقاذهم، وعدم اضطهادهم.  #AlawiteGenocide، #StopAlawitePersecution، #SaveAlawites، #EndAlawiteDiscrimination، #JusticeForAlawites.

جمعت هذه الوسوم 1000 تدوينة على الأقل، ونُشرت منشوراتها بالعربية والتركية والإنجليزية، وصدرت من نحو 600 حساب، كان بعضها يضع صورة بشار الأسد، ومن أبرزها:

@YourmediaAgenc, @Syria4Syrians1, @NPC_Assasin, @R6914472180696, Tarih: 31/12/2024, @claire3679892, @AdhamHano22177, @Maudedebeauvoir, @__VOT___, @klcMesutklc.

كما دعت بعض المنشورات إلى تقسيم سوريا، مع التركيز على أن تكون مناطق الساحل السوري، التي تتمركز فيها الطائفة العلوية، جزءاً من هذا التقسيم. واستُشهد ببعض المطالبات بالاستقلال؛ مثل إقليم كتالونيا في إسبانيا واسكتلندا. وكتبت صفحات: “لن نقبل إلا بالتقسيم… العلويون في اضطهاد منظم وإبادة مقصودة، حالهم كحال المسيحيين”.

درج

———————————–

هل يقرأ أحمد الشرع “رسائل” العلويين ؟/ مكسيم عثمان

22.01.2025

تنوّعت مطالب العلويين بين الدعوة إلى الحوار وإيجاد حلول أمنية ووضع خطة استراتيجية لعدالة انتقالية للعسكريين والأمنيين، أقلها فرز المتورطين عن العسكريين الذين لم يمارسوا جرائم، بل حتى إنهم لم يقاوموا “الهيئة” وسلموا سلاحهم، وإيجاد حل للبطالة في الساحل.

على نحو مفاجئ، خطف قيادي عسكري سابق في جيش النظام السوري، كان قد عمل مع سهيل الحسن، مجموعة عسكرية تابعة ل”هيئة تحرير الشام” أثناء قيامها بتمشيط ريف جبلة.

في غضون ساعات، ظهر فيديو للمجموعة المخطوفة، حيث أُجبر الجنود التابعون ل”الهيئة” على الركوع، وتبيّن أن جميعهم ينتمون إلى إدلب وريفها. بدا سؤال الخاطفين للمخطوفين ذا دلالة واضحة، إذ ترافق مع تهديد يحمل معاني عميقة: “لقد أتوا لإذلالنا”.

تزامن هذا الحدث مع موجة غضب عارمة اجتاحت وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تصاعدت الهجمات اللفظية ضد الخاطفين ومن ينتمون إلى الطائفة العلوية، وأُرفقت بصور وتهديدات طالت سكان الساحل.

 إثر ذلك، أُغلق العديد من الأبواب في الساحل، وسط تصاعد المخاوف من اندلاع جديد لما يُسمى بـ”الحرب الطائفية”، وليلاً شهدت اللاذقية مظاهرات تدعو إلى  الوحدة الوطنية، تخللها صيحات تشتم العلويين في شوارع صليبة، إلا أن “الهيئة” خلال ساعة واحدة هددت المتظاهرين الطائفيين، الذين انفكت عنهم المظاهرة الكبيرة، وامتلأ “الفيس بوك” بالاعترض على ما حدث، لكن نوازع الحرب الطائفية غير الممكنة أصلاً، عادت سريعاً لتتصدر مشهد الرعب في الساحل وعموم سوريا.

بعد ساعات قليلة من خطف الشبان، وصلت قوات “الهيئة” إلى موقع الحادثة، حيث قام الخاطف بتفجير نفسه بحسب مقاتلي “الهيئة”، بعد أن أردى في الكمين ثلاثة منهم. ومع ذلك، تمكنت “الهيئة” من القبض على أفراد المجموعة المسلحة الباقين، وتم تسليم الأسرى السبعة بأمان إلى مناطقهم، مما ساهم في تهدئة التوتر مؤقتاً.

“رسائل العلويين”

وسط هذه الأحداث، برزت “دبلوماسية الرسائل” كوسيلة للتواصل، حيث ظهر “أدب مظلومية رسائلي” بين العلويين وقيادة “الهيئة”، وانتشرت فيديوهات وبيانات تحمل أدعية طويلة مسجوعة، واستشهادات قرآنية، مع زخرفة لغوية متقنة، قادها مشايخ علويون في محاولة للتوسط لدى “الهيئة” للاستماع إلى مطالبهم.

تنوّعت مطالب العلويين بين الدعوة إلى الحوار وإيجاد حلول أمنية ووضع خطة استراتيجية لعدالة انتقالية للعسكريين والأمنيين، أقلها فرز المتورطين عن العسكريين الذين لم يمارسوا جرائم، بل حتى إنهم لم يقاوموا “الهيئة” وسلموا سلاحهم، وإيجاد حل للبطالة في الساحل.

 لكن قيادة “الهيئة” بدت وكأنها لا تستجيب، وكأن هذا “الأدب الرسائلي” قد كُتب عليه أن يُتجاهل. فلا يكفي تخلف وقروسطية المفهوم الدبلوماسي الرسائلي، بل إنه لا يصل أبداً إلى المتلقي المفترض!

يبدو أيضاً أن “الهيئة” تعمل وفق آليات لا تأخذ في الاعتبار الجوانب الاجتماعية أو السياسية. خصوصاً أن المطالبة بالعدالة الانتقالية سيصيب الفصائل التي أصبحت جيشاً، ولا رصد حقوقي أو قانوني منظم لمخلفات النظام القمعية، وفصل بنية الدولة العميقة عن الدولة بوصفها جهازاً بيروقراطياً، هدف الوصول إليه هو الوصول إلى تأمين الحياة، لا ممارسة الجريمة، كما يغيب العمل الاجتماعي عن تأسيس هيئات للسلم المدني بشكل واضح ومنظم.

في أبسط معايير الحماية والتواصل السياسي، كان على “الهيئة” قبل حل الموضوع أمنياً مع مسلحي النظام، أن تُعيد النظر في ما  أصبح متداولاً في السياق السوري.

إذ أصبح الكثيرون يستخدمون خطاباً رمزياً محاكين النظام السابق، فإن كان المزاح متجسداً بقسوة في نبرة حرف القاف وبعض الكلمات التي تُحاكي سلوك الأجهزة الأمنية سابقاً، نحن اليوم أمام مصطلحات مرعبة للعلويين ومضحكة للبعض الآخر ومستهلكة مزاحاً، مصطلحات مثل “طالعين الفصائل عليهم”، “إجتكم الهيئة”، و”جاييكم الأمن العام”، تحمل دلالات مزدوجة؛ مصطلحات “مازحة”، وتعكس سلوك الفصائل العسكرية التي تصف نفسها بـ”محرري سوريا”، تجاه العلويين.

 في أحد خطابات شيوخ العلوية، جاء طلب واضح “الهيئة” بأن لا يرسلوا “الملثمين”. لماذا يرتدي عناصر “الهيئة” اللثام؟ ممَ يُفترض أن نخاف؟ ولماذا لم يعتذر أحد عن إهانة القرداحة وأرياف العلويين؟ وفي الجريمة التي مر عليها أسبوع في منطقة عين الشرقية وقتل خلالها ثلاثة شبان من عائلة واحدة، احتج الأهالي بهدوء تام، وطلبوا فقط إخراج الأجانب من اللاذقية.

بات الكثيرون في خوف من رؤية الملثمين، خاصة أولئك الذين يتحدثون الفصحى بصرامة. هذا الخوف، الذي يمكن وصفه ب”فوبيا الملثم”، ينبع من ارتباط صورة الملثم بالجريمة، وبذكريات الحرب الطويلة التي شكلت ذاكرة السوريين من خلال تفاصيل وفيديوهات قتل مروعة.

فما بالك بالعلويين الذين وجدوا أنفسهم خلال سياق الحرب في طرف النظام، الذي استغل الطائفة بشدة، ليأتي الغالب ويعاملهم كمغلوبين، إذ يشعر العلويون بأنهم خارج أطر الدولة، حيث يغيب الإحساس بالحماية القانونية أو المؤسساتية. حتى في المجتمع السني والمسيحي في اللاذقية، هناك صدى واضح للخوف من “الفصائل الغريبة”.

خرج المحافظ في اللاذقية بعد قتل الشبان الثلاثة للقاء المشايخ والأعيان، واستمع إلى رسالة طويلة وُجهت إلى أحمد الشرع، وباتت الرسائل تُشبه أدب الرحلات، وصف الحال، ومحاولة تأسيس مقاربة للوضع.

من هم الفلول؟

 يهاجم الإعلام العربي ومنصات “يوتيوب” و”تيك توك” توصيفياً بعض المناطق، حيث تُذكر المناطق العلوية بوصفها أمكنة للفلول، فيما يعكس هذا الخطاب سياسة التنميط المكاني، التي تربط أماكن أو مجتمعات بعينها بسمات سلبية أو انتماءات سياسية محددة.

ولدرء شبهة الطائفية في التعامل مع هذا التوصيف، يجري نشر فيديوهات ومقاطع عنيفة، توثق استهداف شخصيات سُنية، تُوصف بأنها فلول للنظام، مثل رئيس بلدية دُمر، الذي أُطلقت النار عليه وقُتل بطريقة بشعة تضمنت الذبح والضرب بالعصي والأحجار من قبل جماهير دُمر. هذه المشاهد أُرفقت بسردية تدّعي أنها دليل على عدم الطائفية، في محاولة لتبرير العنف الموجه ضد الفلول.

لكن ما يحدث في الواقع يعكس التبرير الجماهيري للعنف، حيث يُقبل العنف باعتباره وسيلة مشروعة لتحقيق العدالة خارج إطار القانون. ومع تصاعد هذا النمط، يتحول إلى إرهاب العدالة الشعبية المُبررة، حيث يتم استخدام العنف ضد أفراد أو جماعات تحت غطاء تحقيق العدالة أو الانتقام، وكأن المشاركة في العنف هو مسؤولية جمعية.

 لا بد من الإشارة أيضاً أنه يجري تصوير مقاتلي “الهيئة” في عقول الكثيرين، وكأنهم أبطال التدخل السريع في الأزمات مثل سوبرمان أو باتمان، لكن الواقع يعكس فجوة كبيرة بين هذا التصور وقدرة “الهيئة” الفعلية على استيعاب الامتداد الجغرافي، وتعقيد المشكلات الاقتصادية والاجتماعية. اتساع وتعقيد  يجعلان من المستحيل تنفيذ المهام اليومية من دون مساعدة هيكل دولة فعّال أو البدء بإنشائه، بما يشمل إعادة تشكيل الشرطة وقوى الأمن الداخلي وتغيير القيادات.

من يحكمنا؟

في خضم هذا المشهد، يتعزز اغتراب الهوية السورية، حيث بات السوريون، سنة وعلويين ومسيحيين، يفتقدون ممكنات قبول واقع تصرفات الأسلمة التي تُرعب المجتمع. هذه التصرفات تبرز تناقضاً إدراكياً ومعرفياً واجتماعياً في الإجابة عن أسئلة جوهرية: ممن نحن محكومون؟ وإلى أين نتوجه؟ وأين نعمل؟ خصوصاً أن أحمد الشرع، لم يخاطب السوريين إلى الآن، بل اكتفى بالوفود الدولية والمؤثرين والشعراء… الخ، وخطبة قصيرة في المسجد الأموي في دمشق!

القلق وراء سؤال “من يحكمنا” يأتي بعد انكشاف بعض الفصائل التي  تتبنى مبدأ شرعياً دينياً غريباً عن المجتمع السوري، وعابراً لتركيبته الاجتماعية والثقافية. في الوقت ذاته، يدور في الأفق نزاع على الشرعية بين الفصائل المتنافسة، حيث يبدو أن إصدار فتوى، أو إعلان قانون، أو خروج ممثل للنظام الجديد بأي شكل، أصبح وسيلة لإضفاء شرعية على تصرفات لا تعكس بناء دولة،أو على الأقل تعكس تخبطاً في إدارتها وبنائها، من دون الحديث عن الأطر الشرعية ل”التحرير” ودور المجاهدين فيه، الذين من المفترض أن يتحولوا إلى جنود في جيش نظامي، ما زالت أيديولوجيته غامضة.

في هذا السياق، تُطرح تساؤلات عن غياب المواقف الحازمة والإجراءات التي تعالج هذه التصرفات. هل يستطيع أي نظام جديد أن يوجه رسالة واضحة إلإعلاميين؟ أو أن يتخذ خطوات حاسمة لبناء دولة تحفظ الهوية السورية، بدلاً من أن تغرق في فوضى أيديولوجية تُمزق نسيجها الاجتماعي؟.

درج

—————————–

أن يقتل السوريّون واللبنانيّون عجولَهم الذهبيّة الثلاثة…/ حازم صاغية

22 يناير 2025 م

إذا تمكّن السوريّون واللبنانيّون من الإقلاع واستكمال إنجازاتهم الأخيرة، وهي «إذا» كبيرة، كان عليهم كنس منظومة وعي. والتصدّي الثقافيّ للمهمّة تلك شرط لا بدّ منه لنجاح مستقرّ ومستدام.

وبذا يكون المجتمعان قد باشرا القطع مع الحقبة التي افتتحتها الناصريّة ثمّ البعثيّة في المشرق العربيّ، والتي تأدّى عنها الإمساك بعنق المجتمعين وخنق الاحتمالات التي بدت، لدى نيل الاستقلال، قائمة وممكنة.

والعجل الذهبيّ الأوّل هو الانقلاب العسكريّ الذي استولى على سوريّا وعانى لبنان تأثيراته وانعكاساته. فالانقلاب قبل أن يكون إطاحة طبقة لطبقة، ومن دون أن يكون انتقالاً من سياسة لا تحرّر فلسطين إلى سياسة تحرّرها، كان إعداماً لطريقة حياة تحتلّ الحرّيّة موقعاً فيها، ويكون فيها القصور والخطأ قابلين للنقاش العامّ، وتالياً للتصحيح وربّما الحلّ.

وكان التوجّه إلى بلدان المعسكر السوفياتيّ قد أحكم الإطباق على المجتمع السوريّ. فعبر دعم النظام البعثيّ بالأسلحة والتدريب والعقيدة العسكريّة والخبرة الاستخباريّة، فضلاً عن الحماية عبر فيتّو مجلس الأمن، أعطي النظام المذكور، بوصفه «وطنيّاً» و»تقدّميّاً» كما قالت موسكو وأتباعها في المنطقة، أنياباً أقوى لقضم لحم السوريّين.

والاتّعاظ بتلك التجربة إنّما يعزّز الحذر الشديد من لغة تصم سياسيّي العهد القديم وأحزابه بالفساد، وترمي الإعلام ببلبلة الرأي العامّ، وتلقي على الاستعمار مسؤوليّة عيوبنا ونواقصنا، وتستحوذ على الاقتصاد والمبادرة الحرّة. وهذا ليس مردّه إلى أنّ سياسيّي العهد القديم مبرّأون من الفساد، أو أنّ الإعلام لا يبلبل الرأي العامّ، أو أنّ الاستعمار فاضل وماجد، أو أنّ ما يفعله الأثرياء هو دائماً مُنتج ونافع، بل إلى حقيقة أنّ دأب الانقلابيّين وهدفهم الفعليّ إلغاءُ الإعلام، ونشر فساد يفوق فساد السياسيّين القدامى من دون إخضاعه للنقاش والمحاسبة، وتمكين قدرة السلطة باستيلائها على المال والموارد في استبدادها بالسكّان، فضلاً عن فرض استعمار داخليّ هو أسوأ ألف مرّة من الاستعمار الخارجيّ.

والاتّعاظ بالتجربة إيّاها يحضّ أيضاً على التشدّد في مبدأ فصل الجيش عن السياسة، وتعزيز المناعة الشعبيّة ضدّ تدخّل العسكريّين فيها، من دون الانخداع بشعارات كتحرير فلسطين أو إقامة مجتمع عادل ونقيّ أو باقي الذرائع التي لطالما استُخدمت في تبرير الانقلاب العسكريّ.

أمّا العجل الذهبيّ الثاني فالحرب الأهليّة التي طحنت لبنان، وشكّلت سلاحاً أساسيّاً في يد آل الأسد لتمكين قبضتهم على السوريّين. صحيح أنّ أحداً لا يمتدح الحرب الأهليّة باسمها الصريح، لكنّ تلك الحرب تدبّ في الجسد الوطنيّ مع كلّ إصرار على حقّ مطلق لا يعبأ بنظرة الشركاء في الوطن، ومع كلّ امتهان لثقافة فرعيّة تحملها جماعة من الجماعات، أكثريّةً كانت أو أقلّيّة، ومع كلّ تشهير وتخوين ينزلان بمن يرى رأياً يخالف رأي المتمسّكين بالحقّ المطلق المزعوم. فما تُحدثه الحرب الأهليّة ليس «انهياراً جميلاً» ولا «خراباً عظيماً»، كما رأى بعض الشعراء، بل هو تدمير عميق للنفوس لا يسهل علاجها بعده، وهذا فضلاً عن الموت الذي يضرب البشر والتصدّع الذي يستهدف الاقتصاد والتردّي الذي يصيب الصحّة والتعليم.

وبدوره فالعجل الذهبيّ الثالث هو المقاومة التي تحكّمَ نظامها غير المعلن باللبنانيّين، قبل أن يمارس احتلالاً لسوريّا ويضلع في قتل السوريّين. وقوّة المقاومة وسحرها إنّما ينبعان من كونها محطّة تلاقٍ بين الوعي الحديث الذي يجيزها كحقّ في مواجهة احتلال، والوعي القديم الذي يقرنها بالشجاعة والرجولة والكرامة وباقي القيم المشابهة وفق تأويل بدائيّ لها. وبفعل تلك المواصفات التي تُعزى إليها، تغدو حروبها مبرّرة بغضّ النظر عن مدى استنادها إلى توازن قوى ملائم أو إلى إجماع شعبيّ. فالكلّ ينبغي، باسماً ومتفائلاً، أن يستبشر خيراً بها وبحروبها، ولو تأدّى عن ذلك انهيار الاجتماع والاقتصاد ومقوّمات الحياة جملة وتفصيلاً.

والحقّ أنّ المقاومة كما عرفناها، وكما عرفتها شعوب أخرى سوانا، لا تعدو كونها اجتماعاً بين ميليشيا فئويّة وحرب أهليّة مقنّعة واقتصاد تهريب ومخدّرات. وهي، مثلها مثل الانقلاب العسكريّ والحرب الأهليّة، تؤكّد على امتلاك حقّ مطلق ينبغي أن تتأسّس عليه ديكتاتوريّة فاضلة، معلنة أو خفيّة، وإلاّ ففوضى بلا حدود. كذلك هي مثلهما، تذهب إلى أنّ صاحب الحقّ لا ينال حقّه إلاّ بالعنف، فيما العنف وحده وسيلة حلّ النزاعات.

وبشيء من التصرّف في استعادة الرواية التوراتيّة، قد تكون عودة موسى من جبل سيناء مستبعدة، وربّما مؤجّلة، لكنّ المؤكّد أنّ مواجهة السوريّين واللبنانيّين لعجولهم الذهبيّة الثلاثة تسرّع تلك العودة أو ما يعادلها.

الشرق الأوسط

—————————

الأدب السوري مترجمًا.. كيف شوّهت “سياسات الهوية” السردية السورية/ أمل بوشارب

22/1/2025

اقترب منّي مدفوعا على الأرجح بمكان ميلادي المسجل على البيوغرافيا المطبوعة على أغلفة كتبي بالإيطالية: “دمشق”.. وبعد التأكد من انفضاض جميع القراء من حولنا وانتهاء جلسة التوقيع، عرّفني بنفسه وطرح علي سؤاله المباشر دون الكثير من المقدمات: هل صحيح ما يقال عن (النظام) في سوريا؟

حصل ذلك قبل حوالي 6 سنوات خلال حفل الوحدة “Festà dell’Unità” في تورينو، وهي واحدة من أهم التظاهرات الثقافية في إيطاليا، وقد كنتُ مدعوة لندوة مخصصة عن أدب الثريلر رفقة عدد من الكتاب والفنانين الإيطاليين. والحقيقة أن هذه نوعية من الدعوات لا توجه عادة للكتاب العرب في الغرب والذين يشاركون عامة في الحوار العام ضمن اختصاص الحرب والإرهاب، والنسوية مقابل الذكورية (فرع الكاتبات)، أو المثلية والكويرية (فرع النضال الحقوقي). إلا أنني كنت من جهتي واضحة مع دور نشري الإيطالية بكوني غير مستعدة لحضور أي لقاء عام لا يكون محوره فنيا صرفا بعيدا عن كل هذه

والأمر يعود لكوني “ابنة البلد”، وأعلم أن القارئ الإيطالي يدرك تمام الإدراك أنه ما من كاتب في الغرب يُمنح منصة للحديث في السياسة والأيديولوجيا دون أن يكون وراءه “سيد” يمول خرجاته يطلقون عليه باللفظ الإيطالي اسم: Padrone  (بادروني). ومن هنا أتى شعار شهير لصحيفة إيطالية كبرى هي “إل فاتو كوتيديانو”: صحافة بلا “بادروني”. ومفردة “بادروني” بالمناسبة من نفس عائلة Padrino بادرينو(العرّاب)!

واعتقادي أنه لا يجري على الأغلب إطلاع الكاتب العربي لدى حضور ندوات أوروبية بدعوة من مترجميه عن هوية “البادروني” الذي يقف وراء تمويل رحلته، ويتم الاكتفاء بإخباره عادة عن جمعيات مدنية تنظم الحدث الثقافي الذي يحضُره، لتقديم انطباع يوحي بأننا أمام مهرجان شعبي ممول “من الأسفل” بالتعبير الإيطالي (أي من الجماهير وليس “من فوق” أي من طرف السّاسة).

ولكن بالتأكيد ما من عاقل من شأنه أن يصدق أن أي جمعية أهلية في العالم تعيش على تبرعات الأفراد، بل إن أحدث الإحصائيات الإيطالية تتحدث عن “انحسار كبير ومطرّد للتبرع للجمعيات الأهلية” والسبب “تراجع الثقة في منظمات القطاع الثالث” كما ورد في تقرير لصحيفة” تورينو كروناكا” نُشر بتاريخ 21 ديسمبر/كانون الأول الماضي، حيث أكد رئيس “المعهد الإيطالي للتبرع” أن واحدا من بين كل إيطاليَين “لا يثق في هذه المؤسسات”، لذا فهو لا يتبرع لها أساسا حتى إن اقتُطع المبلغ من ضرائبه، مما يجعل تمويل المنظمات المدنية يكاد يأتي بالكامل من جهات مؤسساتية تصب في برامج ثقافية تضمَن الترويج لسردياتها وتوجهها الأيديولوجي.

وعملية تمويه خطوط تمويل المهرجانات الثقافية في أوروبا (والتي يسهل تتبعها ولا تخفى على المواطن الغربي) غالبا ما تنطلي على الكاتب العربي غير المعتاد على هذه الديناميكية السلطوية المركّبة في تحريك العمل الثقافي، وهو من يجلس عادة في الندوات العربية وصورة الزعيم معلقة مباشرة فوق رأسه (ليفهم القاصي والداني دون كبير عناء هوية عرّاب الجلسة)، بينما في أوروبا يجد الكاتب العربي نفسه يُلقي بعضا من ندواته في بارات رخيصة تفوح منها رائحة العطن، للإيغال في إيهامه بقربه من الجماهير الشعبية، على الرغم من أنه يدرك يقينا أنّ مسوغ نقله للسوق الأوروبية يعود لأسباب سياسية أيديولوجية، ولكنه يجلس مع ذلك قبالة جمهور فضولي ينظر إليه بشفقة صادقة، وهو يتكلم عن الحروب الأهلية والذكورية والكويرية.

سماسرة الأدب العربي في أوروبا

وعادة ما يكون الجمهور الأوروبي ممتنا فعلا لرؤية مخلوق أسمر لطيف يرتدي ثياب البشر أتاهم من وراء البحار للحديث بلغة عصرية، تماما كمن يشاهد عرضا لطيفا في السيرك، يحصل بعده السّائس/المترجم على مكافأته المادية مباشرة من المنظمين ضمن المهرجانات الكبرى، أما في إطلالات “البارات” والمكتبات الصغيرة فغالبا ما تكون المكافأة غير مباشرة، أي أنها تأتي من الجامعة التي ينتمي إليها المترجم.

وقد أقرّت أقسام الدراسات الاستعرابية في إيطاليا، قبل سنوات قليلة، ما يطلق عليه نشاطات “القطاع الثالث” ضمن سلم تنقيط الأساتذة، وذلك يعني أن إخراج الترجمات والدراسات العربية -من أسوار الجامعة إلى فضاء التقديم بالمكتبات والمهرجانات والمعارض (أو بتعبير أدق فضاء البيع والشراء)- يساهم مباشرة في رفع رتبة الأستاذ الجامعي المترجم.

وأما الكُتاب الذين يجري استدعاؤهم لرفع الدرجة المهنية للمستعربين (ومعها راتبهم الشهري) فتقتصر مكافأتهم عادة على التأشيرة، و”سيلفيهات” ظريفة أمام معالم المدينة الشهيرة، والأهم من ذلك ما يعتقد الكاتب العربي أنه ترويج يحظى به في السوق الأوروبية يوهمه بأنه تحول إلى كاتب عالمي.

والحقيقة هي أن القارئ الغربي لا يعتبر الكُتاب القادمين مع سماسرة الأدب العربي في أوروبا سوى وكلاء بيع لأكاذيب وسرديات زائفة ممولة من جهات لا تحظى أساسا باحترامهم، فيجد الأوروبي نفسه مضطر دوما للبحث على الحقيقة بعيدا عن آلة الكذب التي غدت مكشوفة بالنسبة له.

مهمة الأدب يفترض أن تكون أداة الكاتب النبيلة ليدلف بانسيابية من خلالها إلى النفس البشرية ويفهم نوازع الشر فيها (بيكسلز)

“على هؤلاء أن يتوقفوا عن الكذب” هذا ما قاله لي بصراحة فرانتشيسكو بورغونوفو، وهو واحد من أبرز صحفيي إيطاليا المعاصرين مشيرا للمستعربين الذين وصفهم بـ”مدعي الطيبة”. وقبله، فاعل ثقافي إيطالي وجّه لي -على هامش التحضير لإحدى الندوات بخصوص الأدب العربي- سؤالا مربكا “.. هل تقول هذه الشاعرة الحقيقة أم أنها تكذب؟” هكذا ببساطة.

والواقع أن سرديات الأدباء السوريين التي أتت محفوفة في السنوات الأخيرة بالكثير من جهات التمويل السلطوية الأوروبية (والمرتبطة بالجامعات والمنظمات غير الحكومية ذات التمويل المؤسساتي) جعلت الكثير من القراء الإيطاليين يشككون في سردية الثورة السورية من أساسها. والمفزع في كل هذا هو كيفية تحول صوت الأديب العربي الذي يفترض أن يكون صوت الشعوب إلى صوت الكذب في نسخته المترجمة؟ والجواب يكمن في الخطاب الأيديولوجي، والحديث هنا تحديدا عن “سياسات الهوية” Identity politics.

فما الذي يعنيه أدب يركز على ثيمة “اضطهاد الأقليات” في بلد كان رئيسه ينتمي لواحدة من أصغر الأقليات في المنطقة، بل في العالم بأسره، ولكنه حكم مع ذلك شعبا ينتمي إلى الأغلبية طيلة عقود، وبالحديد والنار؟ وما الذي يعنيه التباكي من الذكورية في بلد كانت مرجعية نظامه العقائدية هي الماركسية؟

وما الذي يعنيه التحذير من خطر “أسلمة” سوريا في حين أن الفئة المستباحة كانت هي نفسها المسلمة؟ كيف يمكن تركيب هذه العناصر مع بعضها على نظرية “سياسات الهوية” دون أن يقع الكاتب في تناقض صارخ مع كل خطوة يخطوها، ودون أن يتوقع أن يتهمه القارئ الأوروبي بفبركة سرديته ويضعه في خانة “دجالي الفكر”؟

وهل هذا يعني أن السردية السورية كانت ضحية عملية تشويش وتشويه ممنهجة في أوروبا طيلة سنوات الثورة، قادها “مدّعو الطيبة” بتعبير بورغونوفو، من خلال دفعها إلى زوايا ميتة؟ أم أننا حيال ظاهرة كسل فكري لمثقفين اختاروا الاستكانة لأيديولوجيا مستوردة بدل نحت سرديتهم بمفردات تحترم تاريخ وخصوصية بلدهم الحضارية، والأسوأ من كل هذا الحياد هو مهمة الأدب الذي يفترض أن يكون أداة الكاتب النبيلة ليدلف بانسيابية من خلالها إلى النفس البشرية ويفهم نوازع الشر فيها بعيدا عن ضرورة سلخ نظريات أيديولوجية “على الموضة” لا تنتمي للتكوين الثقافي لمجتمعه من أجل صياغة خطاب يتواءم مع السرديات الرائجة.

سردية الثورة

والحقيقة أن ما لا يعرفه الكاتب العربي هو أن الوعي الشعبي الأوروبي بالقضايا العربية أكبر بكثير مما يتخيل. وهنا يحذر الصحفي الإيطالي الكبير “فولفيو غريمالدي” على قناة “بيوبلو” -في حوار أُجري معه بتاريخ 14 ديسمبر/كانون الأول 2024- المشاهدين من فخ الوقوع في سرديات “سياسات الهوية” الملفقة على الواقع السوري، مؤكدا أن “المنطقة العربية منطقة إستراتيجية طالما أراد الغرب تفتيتها”. ونبّه غريمالدي من ورقة الأقليات الذين سمى إحداها “رجال أميركا في سوريا الذين قد ترغب الولايات المتحدة في تحويلهم إلى كيان وظيفي آخر في المنطقة يشبه الكيان الصهيوني”. وليس بعيدا عن كل هذا يرى الإيطاليون مستعربيهم يشتغلون طيلة سنوات على ترجمة أدبيات “الأقليات المتأمركة” والترويج المحموم لخطاباتها حول المنطقة العربية ضمن جميع الفضاءات الثقافية المتاحة.

لذا فأول ما ينبغي أن يبدأ الكاتب العربي بمعرفته عن القارئ الغربي أنه ليس بالسذاجة التي يتصورها، أو يخاله وعاءً فارغا ينتظر ملأه بأي سردية يتم تركيبها كيفما اتفق، ذلك أن فجوات السرديات المهلهلة لا تسدها حالات البكاء على المسرح وأجواء الانهيارات العاطفية التي تتخلل تقديمات المترجمين الإيطاليين لكتابهم وشعرائهم العرب. إنها مشهديات لا تدغدغ مشاعر أحد بقدر ما تثير شعور التقزز لدى الأوروبي من حالة استعراضية هزيلة تشبه تماما التقرير الذي سجلته مراسلة قناة “سي إن إن” بعد سقوط النظام السوري، والذي ادعت فيه أنها حررت معتقلا سوريا من سجون النظام ليتبين لاحقا أن المشهد كان تمثيليا، والأسوأ أن “المعتقل” المزعوم ضابط في فرع المخابرات الجوية.

ولعل ما لا يعرفه الكاتب العربي أيضا أن الجمهور الغربي قد سئم من كم الزيف الذي يحف كل السرديات التي أصبحت تقدم له، وقد بات للأسف أبرز المتهمين بالتواطؤ معها. لذا قد يكون من المفيد في هذا السياق التذكير برسالةٍ كتبها جورجيو أغامبين، وهو واحد من أبرز الفلاسفة الإيطاليين وفلاسفة الغرب في التاريخ المعاصر، تحدث فيها عن السعي المحموم لتدجين المثقفين في الغرب، وبشاعة الانصياع لصناع السرديات الزائفة.

لكن الأبشع من ذلك الادعاء بعدم معرفة ما يحصل في أروقة صناعة الكذب والاستمرار في طاعة أوامر “السادة”: وفي الوضع الكئيب الذي نعيشه، ثمة أحيانا أخبار جيدة. أحدها بالنسبة لي هو قرار ما يسمى بكبريات الصحف عدم مراجعة كتبي أو مجرد ذكر اسمي بأي شكل من الأشكال.

والواقع أن ظهور اسمي على تلك الصفحات من شأنه أن يزعجني، لذا لا يسعني سوى أن أكون ممتنًا للصحفيين على قرارهم هذا. ولكن عندما يعود المؤرخون في يوم من الأيام للتحقيق في الماضي، ستظهر وسائل الإعلام في طليعة المتواطئين. تماما كما حدث خلال 20 عامًا من حكم الفاشية، كانوا بلا شك يعرفون ولكنهم يطيعون أوامر سادتهم.. ليختم صاحب “الإنسان المستباح” رسالته التي وقّعها بتاريخ 12 سبتمبر/أيلول 2022، بسؤال مرير: “لماذا صمتوا؟ لماذا أطاعوا؟”.

وهكذا جرى عزل فيلسوف عملاق بحجم أغامبين من النقاش العام لمجرد تعارض رؤيته مع السرديات المهيمنة، في حين أن سرديات الكتاب الغثة والمستلة من نظريات اجتماعية مرقّعة على الواقع العربي تُدرّس ضمن مقررات الأدب والحضارة العربية في الجامعات الأوربية، وتُمنح أيضا الجوائز المتنوعة، وكل ذلك لإنتاج تاريخ ملفّق لشعوب المنطقة. ليغدو الأدب العربي مترجمًا أداة المستعمرين الجدد في تزييف الوعي وصناعة تاريخ مفبرك لأوطان لا يزالون يحلمون باستباحتها.

المصدر : الجزيرة

——————————————–

لقاء السلم الأهلي في حمص: محاولات مُتأرجحة بين الأمل والتوجّس/ منى رافع

21-01-2025

        تعيشُ مدينة حمص احتفالات متواصلة بسقوط النظام، وبعودة بعض المهجَّرين بعد غياب طويل. رغم الفرح والتفاؤل، تسود المدينة «فوضى منظمة» تشمل غياب شرطة المرور وازدحام الشوارع وعدم الالتزام بقوانين السير، بالإضافة لانتشار البسطات والبائعين المتجولين في شوارعها الرئيسية. التعاملُ مع الاحتقان الطائفي يشبه المشي في حقل ألغام، حيث تتباين الروايات وتكثر المظلوميات.

        بعد سقوط النظام، كنتُ وآخرين نترقّبُ الإعلانات عن فعاليات للمشاركة فيها، وعند قراءتي عن اجتماع للسلم الأهلي في 15 كانون الأول (ديسمبر)، عقدت العزم على حضوره. وقد أعلنت عن هذا الاجتماع ونظّمته «مجموعة السلم الأهلي» التي تضم مدنيين معارضين من مختلف الطوائف والانتماءات، وأكّدت ديما العلي، إحدى المنسقات، أن المجموعة تهتم بالعدالة والحريات، وأن الاجتماع جاء بسبب الوضع الحسّاس في حمص وأهمية الاستجابة السريعة لتخفيف الاحتقان.

         كان من المفاجئ أن يُعقَد الاجتماع في فندق السفير، الذي كان يشبه الثكنة العسكرية سابقاً، ولكن هذه المرة، دخلنا الفندق لنجد في استقبالنا ابتسامات وجوه المنظمين السعيدة والمترقّبة. كان الحضور من مُختلَف الأعمار والانتماءات، لكن الفئة الشبابية كانت قليلة جداً مقارنة بغلبة النخبة الأكاديمية، ودون وجود ممثلين عن السلطة الجديدة. علمُ الثورة وصورة الساعة الجديدة كانا أول ما رأيناه عند الدخول.

        حضر الاجتماع  حوالي 150 شخصاً، وكان عبارة عن جلسة حوارية تناولت مواضيع مثل تعزيز السلم الأهلي والأمان المجتمعي ودور الشباب والنساء وبناء دولة المواطنة. جاء هذا اللقاء بعد أن شهدت مدينة حمص، بعد سقوط النظام بفترة وجيزة، حالات شبه يومية من الخطف أو القتل في الأحياء ذات الكثافة العلوية، مثل النزهة والحضارة والزهرة ووادي الذهب. كثيرٌ من هذه الحوادث تبدو غامضة أو ذات طابع ثأري، وقد استمرّت رغم عملية تمشيط الأحياء المذكورة التي قامت بها قوات تابعة لإدارة العمليات العسكرية، والتي انتهت بالقبض على مئات الأفراد وإقامة حواجز في داخل بعض هذه الأحياء ومداخلها، وإغلاق بعضها الآخر بمتاريس لفصلها عن بعضها. كل ذلك، جعل أصابع الاتهام تتجه نحو قوات الإدارة نفسها، رغم نفي الأخيرة صلتها بتلك الحوادث. تقول بنان، وهي موظفة ثلاثينية تسكن مع أسرتها في منطقة الزهرة: «كل ما يحدث يبدو غامضاً وغير مفهوم، مَن يقوم بعمليات الخطف والقتل إن لم تكن قوات الهيئة؟ ولماذا لا يجمعون السلاح من أيدي الجميع وليس من أيدينا فقط؟ ولماذا لا يسمحون بتشكيل لجان أهلية مُشترَكة لحماية المدنيين؟»؛ لكن الأجوبة على تلك الأسئلة تبدو صعبة، وغالباً لن تعجب من يسألها.

        «تم توجيه دعوات حضور الاجتماع إلى أشخاص لديهم تاريخ نضالي، من معتقلين سابقين ووجهاء، وفئات متنوعة من الذكور والإناث ممن يهتمون بهويتهم السورية»، بحسب ديما علي. كما ضمَّ الاجتماع ممثلين عن منظمة الخوذ البيضاء، وتم توجيه الدعوة للمحافظ والإدارة الجديدة لكنهم لم يلبوا الدعوة.

        «الهوية» والإرث الثقيل

        بدأ الاجتماع بالمحور الأول حسب جدول الأعمال الذي وُزِّعَ على كل الحاضرين، والذي يتحدث عن «تعزيز السلم الأهلي، الشفافية، لغة الخطاب»، تحدث خلاله النائب السابق في مجلس الشعب، شحادة ميهوب، عن أن «التحديات التي تواجهها حمص مرتبطة بالإرث الثقيل الذي خلّفه النظام البائد. وبناء على كل ذلك لا بدّ من التركيز على القيم السورية التي توحدنا كسوريين مثل السعي للكرامة والحرية، ورفض جميع أشكال الثأر الشخصي الذي يؤدي إلى تعميق الجراح».

        كما تحدّثت لينا الوفائي ضمن هذا المحور لتؤكد أنّ «الأساس هو تشكيل هوية وطنية، حيث أن النظام السابق كان قد سرق هوية سوريا، أما الآن فنحن نستعيد هويتنا السورية، كما أننا نحتاج لتشكيل هويتنا الجامعة، ولا يوجد تَعارُض بين هويتنا الفرعية التي تخص محيطنا الضيق وبين هويتنا السورية. كذلك بحاجة إلى عقد اجتماعي جديد، وكتابة دستور يعبر عن كل السوريين».

        في فقرة النقاش المفتوح، سأل أحد الحضور إن تمّت دعوة أحد من الهيئة (يقصد الإدارة الجديدة في دمشق)، لأنه يجب «شرعنة» هذه الاجتماعات بوجودهم. كما أن محامياً من الحاضرين، والذي عَرَّفَ عن نفسه بأن «النظام المجرم قتل والده»، قال إننا «يمكن أن نخطب هنا لساعات، لكن لماذا القضاء متوقف منذ خمسين يوماً؟ وكيف يحصل أنَّ دولة بلا شرطة منذ خمسين يوماً؟»، وقال إننا «نحتاج لإجراءات على الأرض» وإن «هناك أحداثاً مهمة حصلت مؤخراً أولها تشكيل مجلس علوي لا يمثلنا» بحسب قوله. أضاف أيضاً أن «الخطاب الطائفي يشكل جريمة»، وأنه «خائف على أطفاله من تعديل المناهج». تابع الرجل وهو يصرخ بأنه: «يجب أن نقف أمام المرآة ونحاكم أنفسنا أولاً».

        وكانت ملصقات قد انتشرت في جميع أحياء حمص تدعو لارتداء اللباس الشرعي، بالإضافة إلى ملصقات أخرى تُحذّر من سب الذات الإلهية وما يترتب عنها، كما أن الخوف جعل بعض النساء العلويات يرتدين الحجاب، أو يرتدين قبعة ووشاحاً لإخفاء شعورهنّ. تقول بنان وهي تغطي شعرها بالقبعة إن عناصر الحواجز في حيهم يحسبون زوجها سنيّاً لأن بطاقة هويته تقول إنه من ريف دمشق، وإنها عندما كانت جالسة إلى جواره في السيارة وشعرها ظاهر، تَوجّه أحد العناصر بالسؤال إلى زوجها على الحاجز: «مين هالحريمة اللي معك؟»، ما جعلها ترتدي ما يغطي رأسها تفادياً لأي مشكلة. كانت تضع القبعة والوشاح لتغطي شعرها بخجل، وقالت إنّ بعض السيدات لاموها على قيامها بذلك لكنها تريد السلامة ببساطة.

        حمص وين رايحة؟

        المحور التالي للاجتماع كان حول الأمان المجتمعي؛ نزعُ السلاح ومعالجة الانتهاكات. قال المهندس أمير الملحم إن «امتلاك السلاح من شأنه أن يهدد السلم الأهلي، وبأنه من المفروض جمع السلاح من المجموعات والأفراد بحيث يكون ذلك بطريقة ترغيبية». وقال المحامي أسامة جندي في مداخلته: «يجب علينا كسوريين أن نُدرك حساسية المرحلة في سوريا، وأن نذهب مجتمعين لبناء الدولة الوطنية لكي يشعر الناس أنها دولتهم، وبأنه يجب الحفاظ على بنية الدولة».

        أما المهندس تمام السهلة فقال إننا «نختبئ خلف إصبعنا إذا لم نقل إن هناك توزيعاً طائفياً في الأحياء. يجب مشاركة الأهالي جميعاً من كل الطوائف من أجل سحب السلاح، وأن نعترف بأنه يتم السؤال على الحواجز: إنت سني أو علوي؟».

        وبالفعل كثيراً ما يقوم عناصر الحواجز في حمص بسؤال الناس عن طوائفهم، وقد وقعت حادثة في حمص حينما مرّ بعض الشبان من أحد الأحياء المختلطة على حاجز وتم سؤالهم عن طائفتهم فقالوا إنهم من السنّة، وعندما نظر العنصر إلى هوياتهم عرف أنهم علويون، فتعرضوا للضرب قبل أن يُترَكوا في حالهم.

        أضاف أحد الحاضرين مشاركاً في النقاش ضمن هذا المحور: «يجب ألا نسكت على خطأ من عناصر محسوبة على الثورة، ويجب التعويل على السلطة الجديدة لتعزيز السلم الأهلي لأن المجتمع متعب، كما أن هناك مسألة عدم التجانس في القوى الأمنية، وأنه من الخطورة أن يتم تسريح عمال وموظفين قبل أن يجدوا لهم منفذاً يسترزقون منه».

        وفي لقائه مع الجمهورية.نت قال الصحفي أندريه ديب، وهو مدير مكتب سوريا الحدث في حمص، إن «هذه الجلسات ضرورية في حمص، ويجب على الإدارة الجديدة أن تكون حاضرة في هذه الاجتماعات ليكونوا على ‘خلطة بالناس’ وكل فئات المجتمع الحمصي». وقالت المحامية مها شلاش للجمهورية.نت أيضاً إنها «حضرت عن طريق تسجيل اسمها على رابط الدعوة للاجتماع»، وإنّ «الذي جذبها للحضور عنوان اللقاء». وأضافت المحامية سعاد الكردي، وهي أيضاً من اللواتي حضرنَ عن طريق رابط الدعوة: «نريد سوريا لكل السوريين، نحتاج أن نكون يداً واحدة، وأن نتعاون لنبني سوريا، وأن نضع القوانين بأيدينا، وأن نُشارك ببناء الوطن لأنه ‘تعبنا كتير’».

        أما عيسى بدران، وهو مدير جمعية كريم الخيرية، فقد قال لنا في لقاء إنّ هناك «تشابكاً» في الآراء بين أهالي المدينة: «في هذا الحوار أُحب أن أكون مستمعاً كي أعرف حمص ‘وين رايحة’، وهل الناس الموجودون قادرون أن يؤثروا بأفكارهم على الواقع. الكلمة هي التي تؤثر، لأنها أقوى من الرصاصة».

        عبد المنعم صطيف وندى الراشد كانا حاضرين كممثلين عن الخوذ البيضاء في الاجتماع، وهما حمصيان مُهجَّران إلى إدلب منذ سنوات. قال عبد المنعم صطيف للجمهورية.نت إنه «يجب أن نبقى يداً واحدة»، وإنهم «اجتمعوا مع فرق تطوعية من كل الطوائف»، وإنه هنا «لأنه يريد أن يرى ما هو الإطار الذي ستعمل عليه مجموعة السلم الأهلي»، يريد أن يرى ما سيُطرَح، وما هي النتائج التي ستصدر عنهم، وقال إنه «على يقين بأن العدالة ستتحقق».

        وفي كلمة وجَّهتها ندى الشيخ عثمان للحاضرين، وهي من المنسقين للّقاء وناشطة مدنية ومعتقلة سابقة، قالت: «نحن هنا لأننا نؤمن أن ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا، وأنه لا بد أن نعمل بصدق وإخلاص كي لا تتكرر المآسي».

        الجمهورية.نت التقت مطر حسين، وهو طالب في المعهد العالي للفنون المسرحية وأحد الأعضاء المؤسسين لمجموعة السلم الأهلي في حمص، حيث قال إنه «لا يوجد أي صوت شبابي واضح، والخسارة المشتركة لهذا الجيل -يقصد جيل الألفينات- هي فقدان الطفولة». وأضاف: «سقطت صورة الشباب التي رسمها النظام، والآن صار بإمكان الناس رؤية إعلان لجلسة حوارية»، مؤكداً أن الاجتماع جاء نتيجة تصوّر لكيفية تعزيز السلم الأهلي للمدينة التي «يجب أن يكون بين أهلها جسور تواصل».

        الصبر، التريُّث، الوقت

        جاءت مداخلة الدكتور لامع الدروبي مختلفة عن البقية، إذ دعا أهالي حمص من كل المكونات إلى التحلي بالصبر قليلاً: «نحتاج للصبر حتى نصل إلى السلم الأهلي الذي ننتظره جميعاً»، وأضاف أن «حالة حقن الدماء التي حصلت في حمص أبهرت العالم، لذلك يجب أن ننظر إلى الجزء الممتلئ من الكأس ونبارك للقيادة الجديدة». وتابع قائلاً عن الأمن العام: «لم يَرِد أي اتصال للأمن العام ولم يستجيبوا له، وما يدهشني أن هذه الحالة وليدة شهر، وهنا أقف وأدعو وأقول إن سوريا لجميع السوريين، وهذا ما لمسناه من النظام الجديد، لذا لنتريث قليلاً ونعطي الإدارة الجديدة بعض الوقت».

        تحدثت الجمهورية.نت أيضاً إلى محمد أحمد، مسؤول تجمُّع العمل الشبابي في حمص، والتجمّع كما وصفه هو حركة سلمية ميدانية. قال أحمد إن «لدينا مشكلة في موضوع الوعي»، وإن «الشباب قبل الثامن من ديسمبر كان همهم الأول السفر»، كما تحدث عن تخوفه من جيش كامل من العاطلين عن العمل.

        كذلك تحدث المحامي عاصم الملحم قائلاً إن «مفهوم المواطنة حديث النشأة، والسلطات الحالية لديها شرعية ثورية جاءت من دموع الأمهات والمعتقلين والثكالى والشهداء، ومن هذا المنطلق لا يحق لها أن تُصدر قرارات دون استشارة المجتمع الأهلي»، مؤكداً أن «المجتمع السوري قلبَ صفحة النظام، لكنه بحاجة مدِّ يد من الإدارة الجديدة».

        في نهاية الاجتماع، سمعتُ في الخارج رجلاً يصرخ، وقد تَجمَّعَ الناس حوله ليعرفوا ما القصة. كان الرجل يصرخ بعدة أمور منها اتهامه للحاضرين بأنهم «ثورة مضادة»، قائلاً إنه لولا شباب ردع العدوان «ما كنا هون»، و«نحن عم ندمر بلدنا بهالطريقة». حاول الناس التحاور معه، لكنه لم يهدأ وأدار ظهره ومشى بعيداً.

        لمحتُ رجلاً يُدخّن ويتابع ما يحدث. سألته عن رأيه بالاجتماع بشكل عام، فقال إن «البلد تحتاج أن نبنيها برموش العين»، وإن «ما حصل نصرٌ لكل السوريين»، مضيفاً أن «الشيء الذي نطمح له هو توزيع عادل للثروة، نريد دولة مؤسساتية، وبرلماناً حراً وحقيقياً بغض النظر عمّن ينجح في صندوق الاقتراع». قال أيضاً إنه يتفق إلى حدٍّ ما مع الشخص الذي كان يصرخ، فليس من المعقول خلال شهر أن ننتقل من حالة إلى حالة، مضيفاً أن جزءاً من الحاضرين كانوا مع النظام، وكلُّ منهم حاضرٌ و«شيطانه تحت باطه» حسب تعبيره: «نحن بدنا خبز وسلم وحرية، وأهم شيء هو تأمين العدالة للناس».

        التعطُّش لإعلاء الصوت

        يمكن بسهولة لحظُ رغبة الجميع بالتحدّث وتعطُّشهم لإيصال أصواتهم خلال الاجتماع، الأمر الذي ليس مُستغرَباً بطبيعة الحال؛ لأول مرة منذ سنوات يُعقَد اجتماعٌ في حمص حول مواضيع هامة تتطلب حضور ممثلين عن السلطات للمشاركة الفعالة مع المجتمع الأهلي. تتبادر أسئلة حول فاعلية هذه الاجتماعات ومدى تمثيلها للناس وتأثيرها على الأرض، وحول مفهوم «السلم الأهلي» وأهميته لبناء الدولة التي تحتاج إلى الأمان والاستقرار والانتعاش الاقتصادي والديمقراطية.

        بالنظر إلى تجارب شعوب أخرى عاشت ظروفاً مشابهة لظروفنا، مثل رواندا، نجد أنها احتاجت إلى عشر سنوات للوصول إلى حالة الاستقرار الكامل. وحمص اليوم ما زالت تحمل في ذاكرتها ثارات بين أهالي بعض الأحياء؛ الجروح العميقة لم تُشفَ بعد، وهذه عوائق أمام تحقيق السلم الأهلي. تعيش المدينة وضعاً هشّاً هو أقرب للفوضى المُنظَّمة كما ذكرت آنفاً، لكن دون تسلط النظام القديم ومراقبته، ويبدو أن الوقت وحده جدير بحسم النقاط الخلافية ورأب الصدوع الكثيرة بين فئات المجتمع الحمصي.

موقع الجمهورية

———————————-

كيف تُدار جرمانا بعد سقوط الأسد: التحولات الاجتماعية والسياسية في المدينة منذ الثامن من كانون الأول/ تمام صيموعة

20-01-2025

        في جرمانا، المدينة المُحاذية لدمشق، بدا وكأنَّ سقوط النظام لم يُغيّر كثيراً من حركة الشوارع أو نبض الحياة. الحُفَر القديمة التي تَقطَعُ الطرقَ العامة ما زالت هناك، تُعيد تشكيل الطين الذي يغطي طرقاتها كلما هطلت الأمطار. مياه الصرف الصحي التي تنبعث من أعطال متكررة تُواصل تقطيع الطرقات كأسراب النمل، وأضواء فلاشات الهواتف المحمولة لا تزال تُرشِدُ الخطوات لتجنب السقوط في الحفر أو التلوث ببرك المياه الراكدة.

        بسطات الوقود المنتشرة على أطراف الطرقات، التي تبيع البنزين اللبناني بعيار 95 أوكتان، لم تغادر مواقعها. حتى الباعة لم يتغيروا كثيراً، سوى أن ملامحهم أصبحت أكثر مدنية؛ غابت العَبسة الأمنية عن وجوههم، وخلعوا الجاكيت العسكري الذي كانوا يرتدونه فوق البيجاما. بات منظرهم الآن عادياً، بلا هيبة السلطة التي كانت تظهر عليهم في السابق.

        الساحة التي عُرفت يوماً باسم «ساحة الرئيس» أصبحت الآن تحمل اسم «ساحة الكرامة»، واختفت منها دورية الشرطة التي كانت تُشرف على كل صغيرة وكبيرة.

        سيارات الدفع الرباعي التي ملأت شوارع جرمانا خلال السنوات العشر الماضية، بموديلاتها الفخمة ونُمرها القادمة من بغداد وبيروت، كانت تُعرَف بين الأهالي باسم «سيارات الحزب» في إشارة إلى حزب الله. اليوم، عادت السيارات بموديلاتها المألوفة نفسها، وبزجاجها المظلل الذي يُخفي الركاب، لكن النمر تغيّرت، كما تغيّرت اللهجات. اللهجة اللبنانية أو العراقية التي اعتدنا سماعها من السائقين استُبدلت باللهجة السورية، وغالباً ما تأتي من الشمال، من إدلب أو الرقة أو حلب. ومع ذلك، بقيت تلك الأسئلة البدائية التي تكشف الغربة: «هل هذه جرمانا؟ كيف أخرج من هنا إلى دمشق؟». في الأيام القليلة الماضية، درجَ بين الناس وصفُ مُضلِّلٌ لتلك السيارات بأنها «سيارات الهيئة» نسبة «لهيئة تحرير الشام»، لكن يوماً بعد يوم بدأ هذا الوصف يتأنسن، فهؤلاء ليسوا سوى مدنيين يزورون أقاربهم، أو صحفيين جاءوا من الشمال لتوثيق الحكايات، وبعضهم مقاتلون يلتقون بأسرهم بعد سنوات طويلة من الفراق. لحظات اللقاء مليئة بالعناق والقبلات، وأضواء كاميرات الهواتف تلتقط المشهد، وكأنها تحفظ هذه اللحظات للأبد.

        رغم أن جرمانا، التي قد يفوق تعداد سكانها مليوني نسمة بحسب تقديرات لجنة العمل الأهلي في المدينة، تضمّ خليطاً من الطوائف والأعراق، وتُلقَّبُ باعتزاز من قبل عائلاتها التقليدية بـ«سوريا الصُغرى»، فإنها ظلت بمعزل عن الانتشار المكثف لعناصر السلطة الجديدة كما حدث في دمشق والمناطق المحيطة بها. مع ذلك، استطاعت المدينة الحفاظ على هدوءٍ نسبي، وكأنها تتنفس بتأنٍ وسطَ ضجيج التحوُّلات الكبرى.

        لكن السؤال يبقى: كيف تُدار مدينة بهذا التنوع، وبهذه الفوضوية، بحيث تتمكن من مواصلة الحياة والعمل، رغم القصور الوظيفي لسلطة جديدة لا تزال تتلمس خطواتها الأولى؟

        استعادة السيطرة

        منذ انطلاق عملية «ردع العدوان» في 27 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، بدأ الناس في المدينة مثلهم مثل باقي السوريين، يتابعون ما يحدث في الشمال.

        في الخامس من كانون الأول (ديسمبر)، كان المشهد في جرمانا يعكس حالة من القلق والترقب بعد سقوط مدينة حماة. أعضاء مجلس المدينة، الذين عيّنهم النظام السابق، قرروا في تلك اللحظة أن يسلكوا الطريق التقليدي في طلب الدعم. كان الخيار بالنسبة لهم: طلب مساعدة الهيئة الروحية للطائفة الدرزية، التي تُعتبر القوة الاجتماعية الأكبر في المدينة. سعى المجلس إلى ضمان دعم الهيئة في حال حدوث أي طارئ، معتقدين أن ذلك قد يكون السبيل الوحيد للحفاظ على استقرار المدينة.

        لكن الهيئة الروحية الذي كانت دائماً صاحبة الكلمة الفصل في الأمور الاجتماعية والأهلية، دعت بدورها إلى اجتماع طارئ مع عائلات المدينة لمناقشة الوضع المتأزم. وفي هذا اللقاء، كانت الأجواء مشحونة بالقلق والاعتراضات. كان الجميع يُدركون أن الأحداث قد تخرج عن السيطرة، لكن لم يكن هناك توافق على كيفية التصرف. انتهى الاجتماع بلا قرار حاسم، وكأنَّ المدينة كانت عالقة بين اتخاذ خطوة جريئة أو الانتظار في مكانها حتى تمر العاصفة.

        عدم التوصُّل إلى قرار حاسم بشأن كيفية التعامل مع ما سيحدث انعكس بسرعة على شوارع جرمانا، المدينة التي لا تنام. في مساء ذلك اليوم، قرر كثيرون أن يغلقوا محلاتهم مبكراً، حوالي الساعة السابعة، وكأنهم جميعاً يشعرون بتغيُّر غامض في الهواء. كل شيء كان هادئاً، لكن الهواجس كانت تُسيطر على الجميع. عيونهم تُراقب شاشات هواتفهم، يتنقّلون بين الأخبار القادمة من الشمال، تلك التي اجتاحت وسائل التواصل الاجتماعي بسرعة تاركة وراءها شعوراً من القلق العميق.

        كانت المخاوف تتزايد: هل ستكون معركة دمشق القادمة دامية؟ هل ستتحول هذه المدينة، التي طالما احتفظت بهويتها المستقلة، إلى متراس يتحصّن فيه النظام؟ هل سيعود مسلسل قذائف الهاون الذي كانت تطال شوارعها وتخترق جدران بيوتها خلال سنوات الحرب؟

        في السابع من كانون الأول، قبيلَ سقوط النظام بيوم واحد، كانت المدينة تغرق في حالة من الرعب. ضغطٌ نفسيٌ غير مرئي كان يلاحق كل من يخطو في شوارع جرمانا. في الطوابير الطويلة أمام محلات المواد الغذائية كانت الوجوه مليئة بالقلق، وكانت الأيدي تمسك بما تستطيع من أكياس صغيرة من الأرز أو الطحين. كان الجميع يسعون لتأمين القليل ممّا قد يعينهم على النجاة في الأيام القادمة، حيث كانت الأجواء مشحونة بالخوف من المجهول.

        عند الساعة الثالثة ظهراً، قررت مجموعة من الشبان الذين عجزوا عن تحمل حالة الخوف والانتظار، أن يكسروا الصمت؛ كانت لديهم فكرة واحدة، أن يُعبّروا عن موقفهم تجاه ما يحدث في المدينة. كانت الطريقة الوحيدة التي تُمكِّنهم من إعلان هذا الموقف دون الدخول في مواجهة عسكرية هي تحطيم الصنم الذي كان يهيمن على ساحة «الرئيس»، وهو تمثال حافظ الأسد الأب الذي بقي جاثماً على قلب المدينة لسنوات.

        كان سقوط التمثال بمثابة كسر للقيد الذي علقت المدينة في حلقاته؛ لحظة تاريخية تعلن عن موقف صريح وجلي بعد أيام من الحذر والتردد. لقد كانت تلك اللحظة بالنسبة لجرمانا بداية مرحلة جديدة، مرحلة تَخلَّصت فيها المدينة من خوفها الذي ظل يلاحقها مثل ظل ثقيل. مع سقوط التمثال، اختفت دورية الشرطة التي كانت تراقب الساحة، وكأن المدينة قد انتزعت جزءاً من قبضتها الأمنية الثقيلة.

        بُعيدَ سقوط التمثال، سارعت الهيئة الروحية في جرمانا إلى نشر سياراتها في أرجاء المدينة، وقد أُذيعت عبر مكبرات الصوت دعوات للتهدئة. كانت تلك الكلمات التي أُطلقت تبثّ شيئاً من الأمان، وتحاول الحفاظ على هدوء المدينة طالبةً من الناس الالتزام بالسكينة وعدم الانجرار وراء مشاعر الهلع والخوف.

        بعد ساعات قليلة من سقوط التمثال، بدأ المشهد في جرمانا يأخذ منحىً أكثر تنظيماً. تم تشكيل غرفة عمليات مشتركة تضمّ شباب المدينة المسلحين، وكان العماد الأكبر فيها حركة «رجال الكرامة» التي يقع مجلسها العسكري في السويداء.

        جمعَ هذا التحالف الجديد بين المدينتين رغم المسافة الجغرافية التي تفصلهما، ليبرز تَداخُل النَسَب والخارطة الدينية كعامل قوي في صياغة المواقف المشتركة.

        الشيخ أبو فهد حيدر، أحد قادة غرفة العمليات وقائد حركة «رجال الكرامة» في جرمانا، تحدَّثَ للجمهورية.نت: «عند الساعة الحادية عشرة ليلًا، مع توالي الأخبار بتداعي حصون النظام، بدأت غرفة العمليات المشتركة عملها بشكل فعلي، وضمت مجموعات مختلفة من شباب جرمانا، من ضمنها مقاتلوا حركة رجال الكرامة، إضافة إلى عناصر من الدفاع الوطني السابقين، الذين لم يتورطوا في القتال خارج حدود المدينة. كانت أولوياتنا واضحة؛ تأمين المؤسسات الرسمية في المدينة وضمان استمرار عملها».

        وأشار الشيخ حيدر إلى أن غرفة العمليات سارعت إلى نشر عناصرها أمام المرافق الحيوية، من فرن الخبز إلى المحاكم، ومن المالية إلى مديريات الكهرباء والمياه. كان الهدف الأساسي حماية هذه المؤسسات من أي محاولة للفوضى أو النهب، خاصة في ظل الوضع المتوتر. كما أُعلِنَ أن المخفر الرئيسي في المدينة قد تم تسليمه لغرفة العمليات، ليصبح تحت إدارتها المباشرة. كانت هذه التحركات تعبيراً عن محاولة استعادة السيطرة على زمام الأمور في المدينة، وسط حالة من الغموض بشأن ما قد تحمله الساعات المقبلة.

        كانت معظم المفارز الأمنية في جرمانا قد خلت من عناصرها مع تَصاعُد الأحداث، باستثناء مدرسة أمن الدولة الواقعة في الناحية الشمالية الشرقية من المدينة، تلك التي تفصل جرمانا عن الغوطة. يقول الشيخ أبو فهد حيدر: «قمنا بتطويق المدرسة وطلبنا من الضابط المسؤول تسليمها. أجرى الضابط عدة اتصالات، وبعدها أَذِنَ لنا بالدخول».

        المدرسة، التي تمتد على مساحة خمسة كيلومترات، كانت أشبه بحصن مُغلق. تتألف من ثلاثة طوابق، وهي مقر لتدريب ضباط الأمن والاستخبارات. عند دخولها، واجه أفراد غرفة العمليات مشهداً صادماً. كانت المدرسة تعجّ بالعبوات الناسفة، وداخل غُرَفها وُجدت صفوف مجهزة بمقاعد ولوحات تعليمية مخصصة لتدريب الضباط على صناعة العبوات وتمويه السيارات وتفخيخها. لكن المفاجأة الكبرى، كما يروي الشيخ حيدر، كانت في العثور على خمس عشرة غرفة ممتلئة بالأسلحة الكيمياوية. بعد أيام، تم التواصل مع فريق الخوذ البيضاء الذي قام بعمليات نقل هذه الأسلحة.

        بعد فحص المكان، تقرَّرَ إغلاق المدرسة على الفور وتسليم مفتاحها إلى الهيئة الدينية في المدينة لضمان حماية الموقع. نُشرت مجموعة من العناصر حول المدرسة لمنع أي هجوم محتمل، وأصبحت المدرسة رمزاً آخر للانتقال الذي كانت تشهده جرمانا في تلك اللحظات.

        بينما كانت هذه التحركات تجري، ظل معظم سكان المدينة ملتزمين بيوتهم، عيونهم ملتصقة بشاشات هواتفهم، تتابع الأخبار المتسارعة التي كانت وسائل التواصل الاجتماعي تضخُّها بلا توقف. فصائل المعارضة كانت تقترب أكثر فأكثر من العاصمة، تلتهم الأراضي واحدة تلو الأخرى. بعد أن كان سقوط تمثال حافظ الأسد في جرمانا أول تعبير عن تغيير أوضاع المدينة، بات الجميع يترقبون الإعلان الرسمي للسقوط.

        الفراغ المؤسساتي

        جاء الفجر ليعلن عن يوم جديد في جرمانا، يومٌ اختلف عن كل ما قبله. بدا سقوط النظام وكأنه انكسارٌ في الزمان؛ المحلات مغلقة، لكن الشوارع تعجُّ بالناس. كان الفضاء العام الذي طالما خنقته القيود يستعيد شيئاً من روحه. الخوف تلاشى من الزوايا، وكأن المدينة تُحاول التنفّس أخيراً.

        وسط هذه الفوضى الهادئة، برزت الهيئة الروحية لتضبطَ نبض المدينة، واتكأت على لجنة العمل الأهلي التي كانت قد تأسست في الشهر الثالث من العام الماضي. لكن سقوط النظام غيّرَ قواعد اللعبة، فاللجنة التي كانت مجرد قناة لنقل الشكاوى ومتابعة إصلاح أعطال المياه أو الكهرباء، أصبحت فجأة الجهاز التنفيذي الجديد. وبين عشية وضحاها، وجدت اللجنة نفسها تتحمّل مسؤولية الإشراف على المدينة، فدخلت إلى المؤسسات الرسمية وأزالت صور بشار الأسد وشعارات النظام السابق، وقامت بتلحيم أبوابها لمنع الدخول إليها.

        لم يكن صباح يوم السقوط خالياً من الفوضى أو الغليان. وسط الهدوء الظاهري الذي خيَّمَ على جرمانا، تسلَّلَ عدد من الأشخاص إلى مفرزة الأمن العسكري بجانب الفرن الآلي. هناك، وسط أوراق السجلات، اندلعت النيران التي لم تكن مجرد ألسنة لهب عابرة، بل رمزية لحرق ذاكرة طويلة من الخوف والوشايات.

        كانت الشائعات أسرعَ من النار، وراحت تملأ المدينة باتهامات متبادلة. همس البعض أن هؤلاء المتسللين لم يكونوا سوى شبان من المدينة نفسها، متورطين في الماضي القريب كمخبرين للنظام السابق. حُمِّلَت النيران رمزيةً لمحاولة يائسة لإخفاء الجرائم التي ارتكبوها كأعين النظام وآذان له في أحياء المدينة.

        ورغم هذه الحادثة، بدا المشهد العام أكثر تماسكاً مما توقعه الكثيرون. المؤسسات العامة، التي كانت لسنوات تحت رحمة قبضة أمنية مُشدَّدة، خرجت من هذا الزلزال السياسي دون أن تُمَسّ. لم تُخرَّب المدارس، ولم تُنهَب المستودعات داخل المدينة باستثناء مفرزة الأمن العسكري التي كان نهبها بمثابة فصل درامي منفصل، يحمل ثقله في الذاكرة الجماعية لجرمانا.

        بعيداً عن مركز جرمانا، وعلى الطريق المؤدي إلى بلدة شبعا، كانت المستودعات الكبرى تقف شاهدة على فوضى السقوط. مستودعات الهلال الأحمر كانت أولى الضحايا، حيث تعرضت للنهب بمجرد أن بدأت السلطة القديمة تتهاوى، كأنما كل شيء خارج حدود المدينة بات مُباحاً.

        هذا المشهد أثار قلق أصحاب المستودعات في المنطقة، ودفعهم إلى التحرك بسرعة.

        شركة لاميرا، المعروفة باستيراد المشروبات الكحولية، لم تنتظر طويلاً. في اليوم الأول للسقوط، بدأت عربات النقل التابعة لها بالعمل بلا توقف، تنقل حمولات الصناديق من المشروبات إلى داخل مدينة جرمانا. كان القرار وقائياً؛ المدينة، رغم التغيرات التي اجتاحت المشهد، بدت ملاذاً أكثر أماناً من الطريق المفتوح للنهب والتحطيم.

        في مساء اليوم التالي للسقوط زار وفدٌ من السلطة الجديدة الهيئةَ الروحية في جرمانا، كان الاجتماع تعارفياً، أَعلنَ فيها مبعوث السلطة الجديدة أنه بحاجة للتعاون مع الهيئات المحلية لإدارة شؤون المدينة.

        لم ينتشر الأمن العام التابع للسلطة الجديدة في المدينة، ولم يَقُم بأي مداهمات طوال الأيام الأولى للسقوط، وتطوَّعَ عدد من الموظفين السابقين للعمل في المخفر، لكتابة الضبوط بشأن الذين يتم إلقاء القبض عليهم أثناء محاولة السرقات، فيما يتداور شبان المدينة حمايةَ مداخلها وشوارعها الرئيسية تحت إشراف غرفة العمليات في جرمانا.

        بعد مرور 24 ساعة على إعلان سقوط النظام، بدأت الحركة تعود تدريجياً إلى شوارع جرمانا، وكأن المدينة كانت تتنفس مجدداً بعد فترة من الجمود. المعارضون الذين ظلوا بعيدين عن النشاط العام في الفترة السابقة بدأوا في عقد اجتماعات لبحث التوجهات القادمة، في محاولة لإعادة تنظيم صفوفهم والتخطيط للمرحلة المقبلة.

        لكن هذا النشاط السياسي والاجتماعي الذي بدأ يطل برأسه لم يكن منفصلاً عن الواقع الصعب الذي كانت المدينة تعيشه. تردَّتْ الخدمات بشكل واضح، فمع استمرار انقطاع الكهرباء وتفاقُم مشكلة الطاقة، كانت المدينة تغرق في ظلام دامس لساعات طويلة. الشوارع امتلأت بأكياس القمامة التي تراكمت حول المكبات، فيما كانت الروائح الكريهة تملأ الأجواء. ومع إغلاق معظم المؤسسات الرسمية، ظلَّ الفرن يعمل بكامل طاقته لتوفير الخبز، في حين كان الموظفون في شركات الكهرباء والهاتف يتواجدون بنظام الدوام الجزئي.

        أما المدارس في المدينة فقد كانت نسبة تواجد الطلاب والمعلمين فيها منخفضة مع إصدار وزارة التربية تأجيلاً للامتحانات إلى 15 الشهر الحالي. في حين تم حلُّ مجلس المدينة التابع للنظام القديم، وتشكيلُ  مجلس محلي مكون من أسماء تَحظى بتوافقية مجتمعية، معظم أعضائه من أبناء عائلات المدينة الأصلية الدروز، إضافة إلى تسمية سيدة وشاب من الطائفة المسيحية.

        كانت مهمة المجلس هي إدارة أمور المدينة بشكل مؤقت، ولكن بعد مرور شهر لم تأتِ الموافقة على الأسماء لبدء التعاون الرسمي من محافظة ريف دمشق التي تتبع لها جرمانا، ليبقى المجلس البلدي الذي عينته المدينة مُعلَّقاً. هكذا تحولت لجنة العمل الأهلي إلى أداة تنفيذية للهيئة الروحية، التي تدير المدينة بالتعاون مع السلطات الحالية.

        منذ 21 كانون الأول بدأت بوادر التنظيم تظهر، وذلك مع قيام لجنة العمل الأهلي في المدينة بانتخاب لجنة حقوقية، ضمّت 13 محامياً من أبناء المدينة بينهم سيدتان، للإشراف على العمل داخل جرمانا. كانت هذه الخطوة بدايةً لتشكيل هيكل إداري جديد يدير شؤون المدينة، رغم الوضع المعقد والتحديات الكبيرة.

        في لقاء مع الجمهورية.نت، تحدَّثَ سالم المغربي، أحد أعضاء لجنة العمل الأهلي في جرمانا، عن التحديات التي تواجه المدينة في ظل الفراغ المؤسساتي الذي نشأ بعد سقوط النظام. بدأ المغربي حديثه بالتأكيد على أن أكبر الهموم التي كانت تواجههم هي الحفاظ على عمل فرن الخبز، الذي يُعَدُّ من أهم الخدمات الأساسية. وقال: «احتفظنا بإدارة المخبز وسعينا لإقامة تواصلات مع كوادر التموين لضمان استمرار الحصول على الخبز بشكل مستمر».

        أما النقطة الثانية التي كانت تشكل عبئاً على اللجنة فكانت معالجة ملف القمامة. مع إغلاق المكبّات اليت كان يتم نقل النفايات إليها خارج المدينة، حاولت اللجنة معالجة الوضع بترتيب تبرع من أحد سكان المدينة بقطعة أرض لاستخدامها كمَطمر مؤقت للنفايات، ورغم التحديات التي فرضتها الظروف، كانت الجهود تزداد من أجل إبقاء المدينة نظيفة ولو جزئياً.

        يقول المغربي إن مخصصات بلدية جرمانا من الوقود كانت قد وصلت في الفترة السابقة إلى 23 ألف ليتر شهرياً، وهي موزعة على العديد من المؤسسات العامة. أما الآن، فقد قامت الإدارة الجديدة بصرف 1700 ليتر فقط، وهو ما لم يكن كافيًا لتلبية احتياجات المدينة: «اعتمدنا على التبرعات المالية من المغتربين لشراء الوقود اللازم لتشغيل الآليات الأساسية ودفع أجور العمال اليومية لتسيير الخدمات الرئيسية».

        وفي ختام حديثه، أشار المغربي إلى أن اللجنة قابلت العديد من الشخصيات التابعة للسلطة الجديدة، وأخذت وعداً بزيادة الاهتمام بالمؤسسات الرسمية في المدينة. ومع ذلك، أكد أن الدعم الذي تم تلقيه حتى الآن لم يكن كافياً ولم يرتقِ إلى سدِّ حتى ربع حاجة المدينة من الخدمات الأساسية.

        في العشرين من شهر كانون الثاني الجاري، خطت السلطة الجديدة خطوة إضافية في محاولتها لترسيخ حضورها الإداري في جرمانا، حيث تسلمت مديرية الناحية رسمياً. جاء هذا التطور بعد مشاورات استمرت لأسابيع، وبتنسيق مباشر مع الهيئة الروحية للمدينة، التي كانت ولا تزال الفاعل الأكثر تأثيراً في إدارة شؤونها منذ سقوط النظام.

        رافقت تسليم المديرية مجموعة ضابطة شرطية مؤلفة من 15 عنصراً، تولت مسؤولية ضبط الأمن في المدينة. هذا التشكيل الشرطي المحدود، الذي تم تشكيله بناءً على طلب الهيئة الروحية، يعكس حالة التوازن الدقيق الذي تسعى جرمانا إلى تحقيقه بين إدارة محلية تُمثّل التنوع المجتمعي الكبير للمدينة، وبين سلطة مركزية ما زالت تحاول إيجاد موطئ قدم لها في المشهد الجديد.

        كان هذا التسليم بمثابة مؤشر على التحول التدريجي نحو إعادة بناء مؤسسات الدولة. وإن بدا ذلك بطيئاً ومتردداً، لكنه في الوقت نفسه يُعيد التأكيد على نفوذ القوى المحلية.

        الوجه المدني

        في الجمعة الأولى بعد سقوط النظام، شهدت جرمانا حدثًا بارزاً عبّرَ عن تحول جديد في الحياة المدنية داخل المدينة. أعلن التجمع المدني في جرمانا عن نفسه من خلال وقفة احتجاجية نظمت في أحد ساحاتها، جامعاً تحت مظلته عددًا من نشطاء المدينة، الذين كانوا رواداً للملتقيات الثقافية التي نشطت بشكل غير مرخص في زمن الحكم السابق.

        التجمع المدني في جرمانا، الذي قدَّمَ نفسه ككيان عابر للطوائف والمذاهب، أكَّدَ في بيانه أنه يسعى لبناء دولة مدنية تحتضن جميع أبنائها بعيداً عن الاعتبارات الدينية والطائفية. في هذا السياق، التقت الجمهورية.نت سلمان كاتبة، أحد مؤسسي التجمع، الذي أوضح أهدافهم: «هدفنا في هذه المرحلة هو تأسيس جسم مدني يطالب بإقامة نظام مدني يكون الأساسُ فيه الانتماءَ للوطن، لا للطائفة أو الدين. ننطلق من جرمانا، ونسعى للتعاون مع كل التيارات المدنية في سوريا لتحقيق هذا الهدف».

        يرى كاتبة أن الطائفية والمُحاصصات التي تُطرَح كحلول للمرحلة الانتقالية تحمل في طياتها خطراً كبيراً: «هذه الوصفات قد تؤدي إلى تكريس الانقسام أو تحويل المجتمع إلى ساحة مُحاصصة دائمة، مما يُبعد الكفاءات عن مواقعها الحقيقية، ويترك رجال الدين يمسكون بزمام الأمور، وهو ما يتعارض مع فكرة الدولة المدنية التي نَنشدُها».

        كان هذا الإعلان بمثابة صرخة مدنية في وجه تاريخ طويل من الإقصاء، وشكَّلَ إشارة واضحة إلى أن سقوط النظام لم يكن مجرد تغيير سياسي، بل لحظة لإعادة التفكير في أُسس العيش المشترك ومستقبل البلاد.

        فتحَ سقوط النظام باباً جديداً لمدينة جرمانا، باباً طالما ظل مغلقاً بقفل الخوف والصمت. في 20 من الشهر الماضي، شهدت المدينة حدثاً لم يكن ممكناً في زمن النظام السابق. أقيم موقف عزاء جماعي لضحايا التعذيب من أبناء المدينة، أولئك الذين اختفوا في أقبية سجون الأسد، حيث لم يُسمَح لذويهم حتى باستلام جثامينهم. أسماء المعتقلين، التي كان مجرد ذكرها يُعَد تهمة، خرجت للعلن، مكتوبة على لوحات حملها ذووهم الذين ارتدوا السواد واستقبلوا الأهالي لتلقي العزاء.

        الحدث لم يكن مجرد عزاء، بل كان إعلاناً رمزياً عن كسر قيود الصمت. صور الضحايا التي كانت تُخفى خوفاً، ظهرت أخيراً لتروي قصص أصحابها. الأمهات والآباء، الذين حملوا أحزانهم لسنوات، وقفوا يتلقون التعازي من أهالي المدينة، بينما تتقاطع الدموع مع كلمات العزاء التي كانت تخرج من القلوب.

        مع انتهاء العزاء، لم تنتهِ المشاعر التي غمرت المدينة. خرج المعزون إلى شوارعها، رددوا شعارات تمجد أبناءهم الذين غيبهم نظام الأسد الابن، ورفعوا صورهم لتكون شاهدة على الجراح التي لم تندمل بعد.

        رغم الحراك الحيوي الذي يشهده الشارع المدني في جرمانا، لا تزال المرأة تعاني من ضعف في تمثيلها داخل التشكيلات المدنية والسياسية الناشئة بعد سقوط النظام. سلمى الصياد، عضوة الحركة السياسية النسوية ومديرة منظمة جرمانا، ألقت الضوء على هذه القضية في حديثها للجمهورية.نت؛ تقول: «على الرغم من زيادة مشاركة النساء في الحياة العامة بعد سقوط النظام، إلا أن تمثيلهنَّ في الهيئات والتشكيلات المدنية لا يزال محدوداً. إذا نظرنا إلى التشكيلات المدنية التي ظهرت مؤخراً، نجد أن وجود المرأة فيها غالباً ما يكون شكلياً، بعيداً عن التأثير الفعلي على صُنع القرار». وأضافت أن الدور الذي لعبته المرأة خلال السنوات الماضية كان جوهرياً، خصوصاً في المجال الاقتصادي، حيث أصبحت الكثير من النساء معيلات رئيسيات للعائلات في ظل الظروف الصعبة. و«رغم ذلك، فإن هذا الدور الأساسي لم ينعكس بوضوح في الهيئات المدنية الجديدة».

        أعربت الصياد عن مخاوفها من أن السلطة الحالية، التي تتشكل بشكل كبير من حكومة ذات لون واحد، لا تسمح بتمثيل حقيقي للمرأة، ما يحد من فرصها في المشاركة الفاعلة: «المطلوب الآن هو أن تأخذ المرأة زمام المبادرة لتوسيع مشاركتها، وأن تدعمها التشكيلات المدنية لتحقيق تمثيل حقيقي يعكس حجم التضحيات والأدوار التي قدمتها في الماضي».

        رغم نجاح جرمانا في التماسك وإدارة شؤونها ذاتياً حتى الآن، إلا أن غياب طاقم خدمي رسمي يضع المدينة على حافة أزمة قد تتفاقم مع استمرار التردي في الخدمات الأساسية. هذا الوضع يُضيف ضغطاً جديداً على السكان الذين يواجهون تحديات يومية لإبقاء المدينة واقفة على قدميها. في الوقت ذاته، تظل المخاوف قائمة من توجُّهات السلطة الحاكمة في دمشق، التي تعتمد على الصبغة الواحدة في التعيينات حتى الآن، مما يعزز الهواجس بشأن تهميش الكفاءات وتفاقم الانقسامات، ليبقى مستقبل المدينة مُعلَّقاً بين إرادة سكانها وسلوكيات القوى المهيمنة.

موقع الجمهورية

————————–

دريد لحام في معطف الدغري: صورة الفنان في ظلال السلطة/ نبيل محمد

22-01-2025

        قد يكون من غير المجدي مواجهة أي فنان سوري، سواء كان بحجم دريد لحّام أو أقل من ذلك، بتاريخ تصريحاته ومواقفه السياسيّة خلال فترة استشراس النظام في قمع السوريين وارتكاب كبرى المجازر بحق شعبه. خاصّة وأن اللحظة الراهنة تتطلّب النظرَ إلى الأمام لا الخلف، بما أنَّ النظر إلى الخلف لا يورّث إلا الأحقاد، أو ربما يولّد عقبات في وجه مستقبل يُرتجى أن يكون، على أقل تقدير، أقل قتامة من الماضي البغيض. لكن وقفة مع دريد لحّام تبدو ضروريّة في معرض البحث عن النموذج البراغماتي الخالص، ذلك القادر على صياغة خطاب شعبوي يحاول من خلاله كسب كل الأطراف، حتى وإن كان هذا الكسب لن يقدّم للفنان أي شيء ينتظره، ولعلّ فناناً بحجم وسن دريد لحّام اليوم لا ينتظر مزيداً من الشهرة أو أدوار البطولة.

        لم يوفّر لحّام الفرصة يوماً في أي حوار أو تصريح، وإن كانت مدته دقائق قليلة، لصياغة جمل مرنة قابلة للاستخدام في المستقبل أياً كان شكله، وقابلة في الوقت نفسه لتكون الأوضح والأكثر قبولاً لدى الطبقة السياسية الحاكمة، بل لتكون أداة دعائية خالصة منتمية لشكل ومضمون الدعاية التي كان يمارسها النظام. في الوقت الذي كان النظام يتّبع أسلوب الفصل بين الرأس والأطراف، وتبرئة القيادة من الممارسات الفاسدة، كان لحّام أول من فرّق بين النظام كدولة والنظام كأفراد، بل ونقل هذا المفهوم إلى أدنى قاع في الخطاب الشعبوي، ليقول إن الفساد ليس نتاجاً للطبقة السياسية، بل تحوّل ليكون ابن ثقافة المجتمع، بمعنى أن التغيير لا يبدأ من رأس الهرم. وعندما انتقل النظام إلى مراحل وأشكال مختلفة من الدعاية تتماشى مع الراهن الجيوسياسي الذي كان يعيشه، حضَر لحّام بقوّة مطوراً الدعاية بما يتماشى مع ما يريده النظام تماماً، منتقلاً من صياغة المشكلة على أنها انقسام في المجتمع، اشتغلت عليه وأنتجتهُ المعارضة، لتصبح المعارضة بذلك فعل خيانة وطنيّة مأجور، إلى مرحلة دعم «البوط» العسكري وما تبعه من أدوات دعائية أخرى كان للنجم دوراً ريادياً في تسويقها.

        وبالتوازي مع كل هذه الأدوار، لم يهمل دريد دوره الأساسي والراسخ في المخيّلة الجمعيّة السورية كـ«غوار الطوشة»، ليرمي في كل حوار كلمة هنا وأخرى هناك، تتضمن نقداً كوميدياً، أو ما يظهر على أنه جرأة في مواجهة القمع، فيقول إنه «يكره المخابرات» أو «يخاف من السلطة» أو «يحتمي برأس النظام من مخابراته»، وغيرها من الجمل التي كان يعلم تمام العلم أن لها زمناً مناسباً للاستثمار، وقد جاء هذا الزمن بالفعل، فأصبحت تلك الكلمات تمثّل موقف الفنان الحقيقي في مواجهة الديكتاتورية، مع القليل من إعادة الصياغة التي يتيحها الجانب الموارب والمرن للّغة، والذي يكون عادة الفنانون الذين يجيدون لعب الأدوار كدريد لحّام أكثر من يتقن استخدامه.

        من خلال عمليّة رصد تشمل أشهر حوارات ومواقع ظهور دريد لحّام خلال السنوات الماضية، وأيضاً من خلال مشاهدة ظهوره الأخير على شاشة العربية معلناً براءته من أي شيء مرتبط بالنظام، يمكن لمس قدرة الفنان النموذجيّة على عدم قطع شعرة معاوية مع أي طرف على الصعيد الشعبي. يدرك لحّام تماماً من هو جمهوره، ويدرك نوعيّة الخطاب الذي يؤثّر بهذا الجمهور، فيكفي أن يقول: لو كنتُ تماديتُ في انتقاد النظام «لكنتم الآن تُخرِجون عظامي من سجن صيدنايا»، ليمحو بلا شك آثاماً سجّلها في حقّه جزء من جمهوره، الجزء الذي ينبهر بالصورة والكلمة، وكم هي فظيعة صور صيدنايا! وكذا كلمة «عظامي»! وكَم يعرف فنانٌ ذو تجربة طويلة وعميقة مثل دريد لحام آلية استثمار الصورة والكلمة في اللحظات التاريخية! وما سقوط النظام السوري سوى لحظة استثمار، كهزيمة حزيران أو حرب تشرين أو اجتياح بيروت أو احتلال العراق، بالنسبة لفنان يتقن حرفة تطويع الحدث في تكوين الجماهيرية، أو على الأقل حماية تلك الجماهيرية من وطأة السياسة.

        في التاريخ الإنساني أمثلة شتّى تُثبِت مدى جدليّة العلاقة بين الفن والسياسة، وبشكل خاص المعضلة الأخلاقية في الفن خلال حكم الديكتاتوريّات، وهو ما لا يمكن الحكم عليه بنظرة أحاديّة مجرّدة، أي بالقول إن الفن إما أن يدعم الديكتاتورية أو يقف ضدّها، فحتى تاريخه ليس هناك موقف واحد واضح تجاه ريتشارد شتراوس مثلاً، وقد ترأس غرفة موسيقى الرايخ في أعتى مراحل هتلر ديكتاتوريةً، وينحو غالبية النقّاد إلى أنه كان يحمي نفسه وأفراداً يهوداً في أسرته من بطش النازيّة، فيما لم تستطع ليني ريفنستال، وهي واحدة من أهم صناع السينما في التاريخ، محو تاريخها في دعم الدعاية النازيّة، رغم أنها حاولت ذلك مدة تزيد عن 50 عامأً بعد سقوط النازيّة. بقيت أفلام ريفنستال الأولى راسخة في الذاكرة الجمعيّة الألمانية، وبقي الثابت أمام مدى صعوبة تحديد آليات مسيرة المحكمة الشعبية التي ينسجها الجمهور للفنان، أن الصمت أقل وطأة بكثير من التبرير، حتى وإن لحق ذلك التبرير اعتذاراً، وفي حالة دريد لحّام وكثيرين من أنصار نظام الأسد البائد، لم يُقدَّم هذا الاعتذار أصلاً.

        في الفن بعد 2011 نحا دريد لحّام نحو أدوار تتناسب مع سنّه وموقفه وتجربته، أغلبها تُقدّم قيم الوطنيّة والحكمة ومواجهة الفتن وما إلى ذلك، لكنها أيضاً تنتمي، كغالبية المنتج الدرامي والسينمائي السوري داخل سوريا بعد 2011، إلى السطحيّة غير ذات الأثر، محاصرة بإيديولوجية ومفاهيم لم تنفع معها محاولات المخرجين والفنيين في رفع التعفّن عنها، وعليه فإن الموقف السياسي المعلن للحّام كان ذا أثر في مسيرته وتاريخه، أكثر بمراحل من الأدوار التي قدّمها خلال تلك الفترة، والتي لا تؤثر كثيراً على خزينة ثريّة في تاريخ الممثل الكبير الذي يحتفل قريباً بعيد ميلاده الواحد والتسعين.

        لم يلتزم دريد لحّام يوماً بقاعدة أو قيمة واحدة، كان كل شيء دائماً خاضعاً للظرف، سواء على الصعيد الواقعي الذي يحضر فيه من خلال مواقفه وتصريحاته المباشرة، أو حتى من الناحية الفنيّة. فإن كانت الأولى قد أدّت إلى عواقب سلبيّة على الصعيد الجماهيري، عواقب يحاول جاهداً التخفيف من سلبيتها وكأنه يمر بتسوية وضع، إلا أن الثانية تحسب له كفنّان، وخاصة تلك النقلة الكبيرة التي خطى فيها في مطلع التسعينات، حين قرر أن الطبيعية «ناتشرلزم» (naturalism) ستكون أداة جديدة يمكنه من خلالها تأدية دور كامل، وهي نقلة نوعيّة بالنسبة لممثل تاريخه الفني قائم أصلاً على الصنعة والمبالغة واختلاق الأدوات. كانت أبرز وأهم أدوار لحّام في تلك النقلة هي شخصية «ابراهيم الدغري» في مسلسل الدغري بكاميرا هيثم حقّي، وهو واحد من أجود ما قدمته الصناعة التلفزيونية السورية في تسعينات القرن الماضي. في ذاك العمل اتخذ لحّام أسلوباً لم يكن أبداً واحداً من أدواته الفنية لا على المسرح ولا في التلفزيون، فـ«منهجيّة» ستانسلافسكي أصلاً، بمختلف قيمها، لم تكن يوماً ذات اعتبار في منتج الفنان سابقاً، وبنجاح لحّام في «الدغري» أصبح هذا الأسلوب واحداً من أدواته التي كررها في عدد من الأعمال اللاحقة، لكنها لم تؤت أوكلَها كما كانت في «الدغري». المميز والجريء في الدغري أن لحّام حين قرر أن يكون طبيعياً، قرر لعب دور شخصية منحطّة، وهي شخصية مقتبسة من رواية زوبك للتركي عزيز نيسين، والتي تلخّص مزيج الانتهازيّة والذكاء والتسلّق والتعطّش للسلطة والثروة، شخصيّة تمارس الكذب اليومي، وقادرة رغم انكشاف أمرها أمام الجموع على استمرار القيادة والتأثير. في الدغري أثبت لحّام أنه الرقم الأصعب في تاريخ الدراما السورية في أداء الشخصية الانتهازيّة، هذا بلا شك يصب في مصلحته، فهو في النهاية وقبل كل شيء، ممثل. ولكن المؤسف أن ذاكرة ناقد يتابع دريد لحّام على الشاشات اليوم، لا يمكنها أن تستحضر إلا أداء ذلك الفنان الاستثنائي لتلك الشخصية الاستثنائية.

موقع الجمهورية

——————————

في “سوريا الحرة”.. هل تتخلص الصحفيات من مخاوفهنّ؟/ لميس حسين

22-يناير-2025

“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا”.

إذا أُتيح لك في يوم ما زيارة كلية القانون في جامعة هارفارد.. فستجد هذه الآية من سورة النساء، محفورة على الحائط المخصص لأهم العبارات التي قيلت عن العدالة في تاريخ البشرية.

تلك هي العدالة ذاتها التي تسعى إليها نساء سوريا اليوم، سوريا الحرة بلا مظالم، سوريا بنساء غير منقوصات أو مبتورات أو مقيدات، بنساء لا يدفعن ثمن الكلمة حتى قبل قولها.

مخاوف من إغلاق وسائل إعلام

تعيش العديد من الصحفيات في سوريا مخاوفًا من إغلاق وسائل الإعلام التي يعملن بها، وهو خوف مشروع بعد توقف العديد من المؤسسات عن العمل على اختلاف المبررات، فمنها من ينتظر تصاريح العمل، ومنها من يصعب عليه تأمين التمويل اللازم للاستمرار، ومنها من فضل البقاء في ركن قَصِّي كمتابع للتطورات.

وعلى اختلاف الأسباب فالنتيجة واحدة، صحفيات يعشن القلق اليومي من أي يكون كل يوم هو اليوم الأخير للمؤسسة التي ينتمون إليها، ما يعني توقفهن عن العمل الصحفي لفترة قد تطول أو تقصر.

المذيعة “هدى” العاملة في إحدى الإذاعات المحلية، أكدت ازدياد مخاوفها مع توقف العمل في الإذاعة لأكثر من أسبوعين، مؤكدة أنه وعلى الرغم من عودة الوسيلة للعمل لكنها لم تشعر حتى الآن بالأمان الوظيفي الذي يضمن استمرارها.

الإقصاء المؤقت لمن لا ذنب له

“إقصاء بدون وجه حق”، بهذه الكلمات عبرت صحفية في وزارة الإعلام عن استيائها من صدور قرار إقصاء مؤقت بحق عدد من العاملين في الوزارة، وتابعت بالقول: ” تم إخبارنا بأن نذهب لجمع أغراضنا بعد منحنا إجازة مأجورة لمدة شهر بدون معرفة الأسباب”.

حالة الصحفية “ميسون” هي واحدة من عشرات حالات الإقصاء المؤقت التي تشهدها الوزارات في سوريا، الأمر الذي زاد من مخاوف الصحفيات اللواتي يواجهن بطبيعة الحال تمييزًا سلبيًا، حيث تعتبر سياسة التهميش معتادة في مجتمعات ذكورية بحتة، لتجد الصحفيات أنفسهن معرضات لتحديات كبيرة ضمن عملهن الصحفي، ناهيك عن التحدي الأكبر المتمثل بكونهن صحفيات فقط، في مجتمع يضع غالبًا العديد من العوائق لعمل النساء في الإعلام.

مساءلة الإعلاميين

بيّنت الصحفية المستقلة نسرين علاء الدين لـ “الترا صوت” وجود خوف كبير لدى الصحفيات من آلية التعامل معهن، قائلة: ” أنا كنت شاهدة على الطلب من بعض الصحفيات البقاء في منازلهن حاليًا، وبالنسبة لي فإن عدم وجود قوانين واضحة تقود العملية الإعلامية بسوريا وتنظمها يزيد من حالة القلق لدي، وخاصة مع انتشار موضوع مساءلة ومحاسبة الإعلاميين بعد فترة قصيرة من سقوط النظام السابق، وأنا لا أقصد هنا فقط العاملين في مناطق الحكومة المركزية سابقًا، بل الصحفيين من جميع المناطق، وفقها.

صحفيات الشمال السوري

يعتبر العمل الصحفي في مناطق الشمال السوري معقدًا وحساسًا للغاية، ويمثل بالنسبة للنساء تحديًا لا يقل أهمية عن تحديات استمرار العيش، أو التحديات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

والآن بعد سقوط النظام السابق، زادت فرص خروجهن من الحدود المحلية، بعد سنوات من خوف التواجد في مناطق جنوب سوريا أو غربها، حيث تؤكد الصحفية “جمانة” لـ”الترا صوت” أن “الأمل ازداد الآن بالحصول على حرية أكبر ضمن العمل الصحفي، إذ كانت التغطيات الميدانية تقتصر على الصحفيين من الرجال فقط، فيما يتم تخصيص المرأة بشؤون المجتمع والطفل، إضافة للتضييق من قبل السلطات أو المجتمع في مناطقنا، وعدم قبوله لعمل النساء في الإعلام، ما اضطر العديدات منا للعمل في الخفاء أو الانتقال لأعمال أكثر أمانًا”، وفقها.

فيما اعتبرت الإعلامية “سوسن” أن “مخاوف العمل الصحفي لا تقتصر على مناطق الشمال، بل هي ملازمة للمرأة في كل مكان لعدم تقبل حرية عملهن بدون قيود حتى الآن”.

طوق النجاة عبر الأسماء المستعارة

سنوات خوف من الاعتقال والملاحقة وكذلك الضغوط الاجتماعية بالنسبة للصحفيات، دفعتهن لارتداء طوق النجاة من خلال الأسماء المستعارة، حيث تقول الصحفية “وفاء” إنها شعرت على مر سنوات بالظلم لعدم قدرتها على حجز اسم لها في عالم الصحافة، بسبب استخدامها اسمًا مستعارًا يضمن حمايتها، وكذلك قدرتها على العمل مع وسائل إعلام خارجية تضمن لها لقمة العيش، وتتابع بالقول لـ”الترا صوت”: ” أستمر حتى الآن حتى بعد سقوط النظام بالكتابة باسم مستعار، فلا يوجد أي جهة تضمن لنا حقوقنا كصحفيات”، مؤكدة أن حالها من حال الكثير من زميلاتها الصحفيات اللواتي يتأملن صدور قرارات من الحكومة السورية الحالية تضمن لهن العمل الصحفي في العلن.

العنف الرقمي

يطول الابتزاز الإلكتروني غالبية العاملات في الصحافة، نظرًا لإمكانية إخفاء الفاعل لهويته عبر طرق إلكترونية ملتوية، ما يجعل الصحفيات أقل قدرة على مواجهة مثل هذه التهديدات، فهن غالبًا لا تجدن أية مساندة سواء من المقربين أو من الوسيلة الإعلامية التي تعملن بها.

واليوم مع “انتشار تصفية الحسابات وبعض الحالات الفردية في هذا السياق”، تقول الإعلامية ندى لـ”الترا صوت”: “أخاف دائمًا من الابتزاز الإلكتروني لي ولعائلتي عند نشري لأي مادة صحفية، فأنا أنشر على مسؤوليتي”، وتتابع: “يجب أن يكون هناك إجراءات صارمة في الدستور الجديد تضمن حمايتنا كصحفيين وصحفيات من العنف الرقمي بكل أشكاله”.

التعاقد الحر

اعتادت الصحفيات في سوريا على قلة الفرص المتاحة لهن، واقتصارها معظم الوقت على التعاقد المؤقت والعمل المستقل، أي يتقاضين أجرًا شهريًا مقابل تقديم عدد من المواد أو أجرًا على المادة الواحدة، الأمر الذي يخضع في غالبية الأحيان لهوى المؤسسة ومعاييرها في اختيار الصحفيين والمواد المنتقاة.

“يختاروننا بحساسية في معظم عقود العمل”، تقول الصحفية “كفاح” العاملة وفق عقد سنوي ضمن صحيفة محلية، وتشير إلى أن اختيار الصحفيات للعمل الدائم يخضع لمعايير انتقائية بسبب ارتباطها بالأسرة وذهابها في إجازات أمومة، واليوم تزداد هذه المخاوف من عدم قبولنا في عقود طويلة، بسبب اقتصار العمل الصحفي على عدد من المؤسسات، ولكنها تطلق العنان لأملها بأن تصبح سوريا وجهة لوسائل الإعلام العربية والعالمية، بعد سقوط النظام السابق ما يعني ازدياد فرص العمل الصحفي.

التنظيم النقابي أساس في حماية الصحفيات

في سياق متصل، قال عضو المجلس المركزي لاتحاد الصحفيين السوريين مصطفى المقداد لـ “الترا صوت” إن مخاوف الصحفيات تعتبر مشروعة من الناحية الشكلية، “في ظل ضبابية الموقف القادم للعهد الجديد الذي يبدو أنه لا يعتمد بشكل كبير على تشغيل النساء”، موضحًا وجود مبررات للممارسات التي تزيد من مخاوفهن، مثل إعطاء إجازة ثلاثة أشهر لعدد من الصحفيات، والتي تعتبر محاولة من الإدارة الجديدة لبناء إعلام وفق أسس مختلفة، تحتاج لدراسات متناهية الدقة بسبب الاختلاف الكبير بين عقلية الإعلام الحكومي السابقة والحالية، وفقًا لتعبيره.

وبيّن المقداد أن هذه الدراسات تحتاج لحوارات مع صحفيين متمرسين وعلى دراية بأهمية عمل الصحفيات سابقًا ومشاركتهن الفعالة، وأضاف أن الأمر يتعلق بـ”الإبقاء على أعداد معقولة من الموظفين، في ظل التضخم الكبير الذي عانت منه وسائل الإعلام في السابق”، مشيرًا إلى أن قدرة الصحفيات أنفسهن على إثبات حضورهن في كافة المجالات الإعلامية تعتبر العامل الأقوى والأقدر لضمان استمرار عملهن في وسائل الإعلام.

وذكر المقداد أن وجود تنظيم نقابي صحفي سيكون الداعم الأكبر لعمل الصحفيين والصحفيات كافة، وخاصة وسط حالة التنافس الإيجابي بين الإعلاميين مستقبلًا، فالإعلام لن يقتصر على الحكومي فقط، بل سيكون للإعلام الخاص أيضًا التأثير الكبير في التحرك الإعلامي خلال السنوات القادمة.

سنوات عجاف في سوريا، جعلت من ” الضلع القاصر” ضلعًا لا يلين، سنوات كانت فيها المرأة السورية وخاصة الصحفية ركيزة أساسية لما بقي من البلاد وصمد. واليوم، ومع ازدياد مخاوف استمرار التهميش الاجتماعي والسياسي، وعدم التمثيل العادل في أماكن صنع القرار، يقترب المؤتمر الوطني حيث ستتضح معه مواقف الحكومة، ومدى جديتها في مساندة المرأة وتمكينها في عملية بناء سوريا الجديدة. فهل سيتحول الخطاب لفعل، وهل سيُقطَعُ رأس الخوف الذي يظهر شبحًا أمام كل امرأة ترفض الاستكانة والصمت؟

الترا صوت

————————–

دمشق في يومٍ مغـَبّر/ فدوى العبود

22-يناير-2025

تستيقظين متعبة، فحيويتك بدّدها كابوس ليلي، هاوية تحاولين الخروج منها، وفجأة تجدين نفسك عالقة فيها، تنقلب الهاوية إلى حي عشوائي، تبحثين عن بيتك فيه، في الكابوس أخبرتك صديقتك التي أهدتك عصارات ألوان خلابة أنك فنانة تشكيلية تبحث عن مرسم، تطمرين ألوانك في حفرة ترابية خوفًا من اللصوص، لكن أحدهم داسها فانبثقت كالحمم من باطن الأرض، وامتزجت فمنحت الأرض لون اليباس.

أمامك أشياء كثيرة يتوجب عليك القيام بها، وككل السوريين: ملاحقة الحياة بدل عيشها.

تعترفين أنك تقدمت خطوة صغيرة على أسلافك الذين كانوا يسيرون حفاة فوق الأرض القاسية، وبخلافهم ها أنتِ، ترتدين حذاءً وتقفين لساعات طويلة في صف دراسي.

كانوا يبيعون منتوجاتهم وأنتِ تبيعين أفكار غيرك بثمن زهيد. الحرية عند جان بول سارتر، قوانين العقل عند ديكارت، العقد الاجتماعي عند هوبز.

تلاميذك الذين أفقدتهم الحرب الثقة بكل قيمة يصرخون مع سوزان ميلوش: “نحن لا نشعر بضرورة أية أخلاقيات أو مبادئ، لا عقيدة ولا دين. ليس لدينا أي استعداد للبحث في الأخلاقيات”، فبماذا تفيدهم الحرية عند جان بول سارتر في واقع استبدادي! وما نفع قوانين العقل عند ديكارت، في واقع بلا عقل، كأن ترى مدرسًا بحذاء مهترئ. وآخر لم يكمل تعليمه بسيارة شبح سوداء. وكيف يقنعهم هوبز بعقده الاجتماعي في واقع تسيطر عليه القبلية.

ثمة تحذيرات من الخروج في العاصفة، لكن الراحة لا تناسب أمثالك. لا خبز لإعداد السندويتشات، ابنتك تقف للنافذة وتنصحك، “ماما، لا تذهبي للدوام إنه يوم أغبر”.

كتلة غبار تحطّ فوق دمشق، سحابة حمراء، غبار كثيف قاهر ومقهور يحجب الحياة عنها ويفسد هواءها، غبار يؤذي مرضاها ويمرّض أصحّاءها. تتنهدين قائلةً: “أغبرٌ جدًّا”.

على بعد أمتار من المخابز الخاصة، حيث الخبز الاكسترا والدونات، والخبز المحلى على الطريقة الفرنسية والكيك الذي أشعل ثورة الجياع تقع كوة مصفرّة حيث الرغيف الذي تفوح منه حموضة الخميرة الزائفة: “إنه خبزك”.

تتسلين في طريق العودة بالتشابهات، القط الذي كان نمرًا، ها هو يعتلي الحاوية برأس متسخة وشفتين مشققتين، تسألينه: لو بقيت في الغابة أما كان أشرف لك أيها القط /النمر

ودون سابق إنذار يجيبك: ليتني مت.

تجدين شجرة فتقفين في ظلها، الشمس تزداد ضراوة، الخبز ينثُّ حموضة، صباح بدون خبز طازج هو فاشل ولا شك.

العاصفة الغبارية التي أخذت تنمو في السماء كشجرة. تفكرين لو استطعت أن أحظى بعطلة ليوم واحد فقط. تنظرين لأعلى لرؤية هذه القبة ولا شيء سوى الغبار.

أول بوادر فشل يومك بدأت باحتجاج أحد التلاميذ طالباً طي وحدة الحرية: “ما بدنا حرية”.

يثير الضحك والترقب في الفصل، مجرد تخيل هذه النظرات يوقعك في القلق، تتحدثين بهدوء: “سنتناول الحرية كمفهوم فلسفي”.

يتغير الوضع ويتململ التلميذ، ترفعين حاجبك بزهو معلنةً انتصارك.

تفكرين أن الحرية كلمة جوفاء بحد ذاتها، وما يهم التمسك بأدنى حدود إنسانيتك، يمكنك الوقوف في طابور ولكن أن تقف كإنسان.

ينتهي اليوم المدرسي، يتزاحم الطلبة على الباب ويدوسون أقدام أساتذتهم، النقود معك لا تكفي لركوب الحافلة، يمكن قطع المسافة مشيًا حتى مدرسة ابنتك، القبة الحرارية لا تخيفك.

كنت في صغرك تخافين قبابًا أخرى صنعها الجهل.

أثبتت الأيام: أن من جد لم يجد، والعلم ليس نورًا بل فقرًا مدقعًا، والشر له جولات وجولته أخيرة ونهائية.

في 2010 وجِّه لكِ سؤال عن الحب؟ لم تعرف أن السؤال سيكون فخًا يدفع ثمنه من راتبك وكبريائك: ما هو الحب؟

كان درسًا عن العاطفة. والتلميذة كانت تقصد الحب الأيروتيكي، طلبتِ إليها الوقوف:

ـ الحب تجربة قد تنجح وقد تفشل.

– إذًا هي دعوة لتجرب بناتنا الحب: “هذا ما صرح به أحد الآباء بحضور مفتش تربوي”.

قدموا معروضًا بك وكأنك قطعت عنهم الماء أو الكهرباء والغذاء.

بعد ذلك قرّبت المديرة عيني الضفدع من وجهك، وقالت بأنفاس كريهة: تجنبي المواضيع الإشكالية.

لم تخبر يومها عيني الضفدع تلك، أن الفتاة التي تسببت لك بالأذى تتجول برفقة أحدهم في الشارع الخلفي للمدرسة.

ذات يوم اقتربت من التلميذة وسألتها: من أين لك هذه القدرة على الازدواجية؟

الحرارة ترتفع ودماغك يكاد يذوب. لا بأس، على الأقل سيتبدّد النصف الذي يتعبك.

يبدو أن الحرارة أذابت ركبتيك وها هي تنهي ما تبقى من قلبك، تصلين مدرسة ابنتك:

قفي بثبات كما يفترض بالأمهات القويات.

في الطريق، تقبض عجوز تشبه ساحرات ديكنز بيدها على ذراع ابنتك الغضة وتقول بصوت مرتعش: “استري جسدك يا بنتي فالله سيحرقك بالنار”.

تمضي وهي تترنح من ألم مفاصلها وتدمدم بكلمات غير مفهومة وفي الباص يدير السائق إبرة المذياع: راياتك بالعالي يا سوريا.

يديرها مرات ويثبتها على حديث محلل سياسي يكرر كل دقيقتين: “نحن السوريون”.

أحصيتِ له مالا يقل عن خمسين كلمة “سوريون”. باقي كلامه لم يكن مفهومًا؛ ما زال عليك أن تعبري الهوّة التي تركها كابوس الأمس، تشدين على يد ابنتك وتمسحين برفق مكان أصابع العجوز.

يجب أن تعودي كاملة من هذا السفر الطويل، ينفتح قميصك قليلاً فتغلقينه لأن الركاب ينظرون نحوك بعيني العجوز.

تفكرين من جديد: في الحاوية التي تندلق منها القمامة، في طفل بقدمين حافيتين ومعدة جائعة، ولا يلفتهم إلا زرٌّ منسي!

الصيدلانية تخبرك بارتفاع أدوية الغدة والفيتامينات، فتتخلين عن الدواء. تصلين باب البيت، فتجدين جارتك التي تلد كل تسعة أشهر تتكوم في ظل شجيرة عنب مع ستة صغار، شاحبة ومتعبة تستفسرين عن حالها تجيب بابتسامة مهزومة: تردف معزية نفسها: يأتي وتأتي رزقته معه.

مئة سيوران وثلاثة ألاف صموئيل بيكيت لن يستطيعوا إقناع هذه الشعوب أن أكبر خطيئة في الحياة هي الولادة.

مالك المنزل يخبرك أن الإيجار ارتفع ضعفين، ينظر نحوك مواربة وأمام صمته المريب تصمتين بدورك.

تتأكدين من إغلاق الباب الذي تواصلين إغلاقه في الأحلام والكوابيس خوفًا من الحرب والرصاص والموتى الأحياء الذين يتجولون ببنادق مذخّره، بأحكام جاهزة.

تقترب العاصفة الغبارية من النوافذ بينما تعلن الأرصاد الجوية: الجو مغبرّ قليلًا وسماء دمشق صافية نتمنى لكم ليلة هانئة. تضع ابنتك حقيبتها وتغسل وجهها ويديها وهي تقول: ياله من يوم أغبر! وتقصد مغبرّ.

تتبادر لذهنك عبارة لسيوران ” أودُّ أن أكون حرًّا …حرًّا بجنون كمولود ميت”.

أغبر يا ماما أليس كذلك؟ “تقول ابنتك”،

أغبرٌ جدًا… جدًا…. إنه يومٌ أغبر…

دمشق قبل سقوط النظام

الترا صوت

———————————

نريد وطناً يشبه الحديقة/ رشا عمران

الأربعاء 22 يناير 2025

قبل أيام كنت في ندوة لمناقشة كتاب صدر حديثاً في القاهرة، التقيت فيها بمجموعة من الأصدقاء والمعارف ممن لم أرهم منذ مدة طويلة. طبعاً، أخذت سوريا الحيّز الأكبر من الأحاديث التي تبادلتها معهم، مباركات برحيل الطاغية وأسئلة عن وضع السوريين في مصر وأسئلة أخرى حول خططي الشخصية. إحدى المعارف قالت لي: “لا أعرف، هل أبارك لك أم أقدم التعازي؟”. أجبتها بهدوء: “مهما كان القادم سيئاً فلن يكون ولا للحظة أسوأ مما كان”. هذه السيدة تنتمي إلى مجموعة من المثقفين المصريين والعرب المصدّقين لشعار “سوريا قلب العروبة النابض”، هذا الشعار الذي استخدمه هؤلاء للتغاضي أو لتبرير كل جرائم الأسد ضد السوريين، وكأن الشعب السوري لا قيمة له مقابل أن يبقى شعار العروبة ومقاومة إسرائيل موجوداً، رغم أن النظام السوري لم يقم بأي فعل ضد إسرائيل طيلة عقود من الزمن.

كنت أعلم أن التعزية التي تريد تلك السيدة تقديمها لي تأتي من تلك الخلفية، رغم أنها تعلم موقفي جيداً من نظام الأسد، لكن العماء الإيديولوجي الذي تعيش به كان يمنعها من رؤية فرحي بخلاص سوريا مما ابتلت فيه منذ أكثر من خمسين عاماً.

اندهشت السيدة من ردّي عليها، وسألتني: “ألست خائفة من سيطرة الإرهابيين على سوريا؟!”. فكّرت بالمجازر التي ارتكبت في سوريا منذ ثمانينيات القرن الماضي وحتى يومنا هذا، فكّرت بسوريا المدمرة لوجستياً ومجتمعياً وخدمياً، بالبراميل المتفجرة وهي تسقط فوق رؤوس السوريين، بالمجازر الجماعية التي ارتكبت في البيضا والحولة وكرم الزيتون، بمئات الجهاديين الذين أفرج عنهم نظام الأسد واحتفظ في معتقلاته بالمدنيين والمتعلمين والمثقفين، فكّرت بمئات آلاف المفقودين والمغيبين، بالمقابر الجماعية التي ما تزال تكتشف بالمدن السورية حتى الآن، فكرت بسجن صيدنايا والسجون الملحقة بالأفرع الأمنية وتلك المنتشرة في كل مكان من سوريا البائسة، فكّرت بسوريا البائسة التي تهجر من شعبها ملايين، عاش بعضهم في خيم بأسوأ الظروف الإنسانية وأكثرها انحطاطاً، وغرق بعضهم في البحر وهم يحاولون الوصول إلى بلاد آمنة، ووصل بعضهم إلى تلك البلاد ولم يتمكنوا من الاندماج، فأصابتهم العلل والأمراض الجسدية والنفسية.

فكّرت بمن بقي في داخل سوريا وعاش الفقر والفاقة والظلام والبرد والجوع والحزن والقهر والقمع، فكّرت بآلاف صور الشباب المعلقة علي جدران المدن والبلدات والقرى في الساحل السوري، نعوات لمن ماتوا كي يحتفظ الأسد بمنصبه وبقدرته على تجريف سوريا من كل خيراتها، فكّرت بكل هذا الإجرام الذي كان يعرض على الهواء مباشرة ويراه العالم أجمع، وظل صامتاً لمدة أربعة عشر عاماً لم يكن للسوريين فيها أية قيمة ولم يكن لسوريا، سليلة أقدم حضارات البشر، أية قيمة، ثم التفت نحو السيدة وسألتها: “هل يمكن أن تشرحي لي ما هو الإرهاب قبل أن أجيبك إن كنت خائفة أم لا”؟.

هل أنا خائفة؟ لم يكن لي يوماً حق في وطني. منذ تفتح وعيي على العالم وأنا أنتقل من مكان إلى آخر، لم يكن لدى عائلتي (التي تنتمي بيولوجياً للمذهب العلوي وتنحدر من ريف الساحل السوري) بيتاً ملكاً لها في دمشق حيث عمل والدي. كنا ننتقل من بيت مستأجر إلى آخر، حتى حين غادرت منزل والدي واخترت حياتي الشخصية لم يتغير أي شيء علي. لم أتمكن يوماً من شراء بيت ولو صغير، لم يكن دخلي يتيح لي ذلك، حتى البيت الذي كان يحق لي أن أمتلكه أخذوه، قال لي يومها أحد الأصدقاء: “احكي قصتك لأي ضابط أمن بيرجّعلك البيت وفوقه حبة مسك، إنت علوية معقول ما بتعرفي حدا؟”؛ ربما كنت أعرف الكثير لكنني لم ألجأ لأي أحد يوماً من أجل شأن شخصي. كنت أريد حقي كمواطنة وليس كعلوية؛ لم يكن الوطن لمواطنيه، لم يكن الوطن للسوريين الذين لم ينظر إليهم أحد بوصفهم مواطنين يوماً، وحدها الثورة عام 2011 أعادت هذا الأمل لولا أن ما رسخه استبداد آل الأسد كان قد ترسّخ في المجتمع فرفض كثر المطالبة بالمواطنة وفضلوا البقاء رعايا في مزرعة آل الأسد، ووصلنا إلى ما وصلنا إليه.

هل أنا خائفة؟! منذ خروجي من سوريا في أول عام 2012 وأنا أبحث عن مكان لي في هذا العالم، قضيت سنوات وأنا في المكان وخارجه، في الانتماء وخارجه، كما لو أنني أعيش في نفق لا أستطيع عبوره إلى جهة الضوء ولا أتمكن من العودة. كان علي أن أبني وطناً وحياة وتفاصيل، أبني؟!! في الحقيقة أنا استعرت كل ذلك. استعرت الوطن واستعرت صداقات واستعرت حياة، وارتديت كل ذلك كما لو أنه ثوب جديد لا أعرف إن كان يناسبني، أردته أن يناسبني.

“إن التأقلم ليس تقليداً، بل هو قوة المقاومة والاستيعاب”، يقول غاندي. كنت أحاول أن أتأقلم لأستمر في العيش، لأقاوم أثر قوة الفقد والخيبة، لأقاوم ذلك الموت الذي كان يعيش معي كما لو أنه رفيق سكني. هكذا في وسط النفق اخترعت نوافذ، ورأيت الضوء يغمر وجهي لكن قلبي كان يثقل، يوماً بعد يوم تحوّل إلى صخرة حتى أصابه العطب، بينما روحي كانت أكثر هشاشة من ورقة شجر يابسة، ومشاعري كانت تحتاج دائماً لعكازات تستند إليها كي لا تتعثر أو تتوه.

تخيلوا امرأة خمسينية تبحث عن عكازات لأحاسيسها كي لا تسقط في هاوية الموت. حين يفقد المرء وطنه يفقد معه انتماءه، لن تعوضه أوطان مستعارة، ثمة ما سيبقى ناقصاً، ذلك أن الروح تبقى تائهة لا مستقر لها؛ حين يعود الوطن تهدأ الروح وتستكين.

كان حالي هو حال السوريين جميعاً. صحونا ذات يوم واكتشفنا أن ما كنا نظنه وطناً لم يكن سوى مزرعة لآخرين، وحين حاولنا كسر ذلك وتفكيكه، تم كسرنا نحن وقطعت آخر الروابط مع فكرة الوطن. لم يعد ثمة احتمالات لبحث الفكرة. كل شيء ثابت ومغلق وصامت، تماماً كما لو أنه مقبرة. هل دخلتم يوماً ما مقبرة في الظلام؟ هل اختبرتم ذلك الإطباق على الرئتين الذي يخلفه هول الثبات في مقبرة ليلية؟

تلك كانت حالنا مع “سوريا الأسد”. اسألوا أي سوري الآن عن مشاعره قبل الثامن من ديسمبر، أي سوري ممن لا يرتعدون خوفاً (ثمة سوريون يرتجفون من الخوف الآن، سوريون كانوا يعتقدون أنهم حراس تلك المزرعة بكل ما للحارس من مزايا تافهة)، اسألوه عن كتمة الثبات في المقبرة، عن الجدران المصمتة، عن دوائر الخوف المتداخلة حتى التوهان. سيقول لكم أي سوري لقد بدأنا نتنفس، دعونا نلتقط أنفاسنا ونبتهج قليلاً بتخفّف رئاتنا من الثقل، افرحوا معنا إن استطعتم، أو ابكوا معنا، فنحن نبكي الآن عن ستين عاماً من القهر والخوف. نبكي عقوداً من ضرب رؤوسنا وأجسادنا بالجدران المصمتة، نريد أولاً أن نرى ابتسامتنا تتدحرج على الطرقات في سوريا، نريدها أن تسبق دموعنا، نريد أن نوضب لحياتنا الجديدة، أن نجهز حقائب العودة، أن نقول وداعاً لذلك الرحيل الطويل. كانت بلادنا مقبرة. ولم يكن أمامنا أي احتمال.

هل أنا خائفة؟ نعم خائفة ومثلي ملايين السوريين. ذلك أن حرية الموتى مرعبة، حرية فاقدي الأمل، حرية المحكومين بحكم مؤبد، خائفون من الفوضى من الانتقام من الطائفية من التطرف من العودة من الحياة، خائفون من كل شيء، لكن خوفنا اليوم مفتوح على احتمالات متعددة، خوف محفز ومثمر، كانت سوريا مقبرة ونحن سنحاول اليوم أن نحولها إلى حديقة إن استطعنا.

رصيف 22

————————–

ميثاق النسيان أم عدالة الذاكرة؟… أي تجربة إسبانية ستختارها سوريا؟/ د. رزان ملش

الأربعاء 22 يناير 2025

كان لقاءً في منزل أندلسي الطراز في إشبيلية جمعني مع ماريا، صديقتي الإسبانية. وأثناء بحثنا عن بقعة ضوء دافئة نركن إليها لنكمل حديثنا عن السياسة والدين والقضايا النسوية، باغتُّها بسؤال فرضه عليّ سقوط نظام الأسد في سوريا في كانون الأول/ديسمبر 2024، عن ذكرياتها حول حقبة فرانشيسكو فرانكو المريرة. كانت محاولتي هذه تهدف إلى رسم سيناريو لمستقبل هذا البلد المنهك على الضفة الأخرى من المتوسط، مستنداً إلى تجربة إسبانيا، التي لا تشترك مع سوريا في تاريخها الأموّي فقط، بل أيضاً في تجربة الديكتاتورية والحرب الأهلية، وما كان لها من تأثير عميق على الهوية.

ماريا، السخية في حديثها ووصفاتها الشهية، لم تبخل عليّ بإجابة صادقة حين قالت إن هناك عرفاً اجتماعياً ضمنياً يفرض عدم التطرّق إلى الحرب الأهلية الإسبانية، تلك الحرب التي استمرت ثلاث سنوات عجاف، من 1936 إلى 1939، وراح ضحيتها ما يقرب من مليوني شخص بين قتيل وجريح ومفقود.

ومع ذلك، تحمل ماريا ذكريات عن الأثر العميق الذي تركته هذه الحرب على عائلتها. فقد شاهد والداها فصولاً مؤلمة من هذه المأساة. كما تتذكر ماريا بوضوح تأثيرها على والدتها، التي عانت المجاعة والتشرّد خلال الحرب الأهلية. هذه التجارب تركت بصمة دائمة عليها؛ إذ ظلت تتجنب أخبار المعارك، حتى لو كانت مجرد مشهد في فيلم. ولم تقتصر تداعيات الحرب على ذلك، بل أدمنت والدتها عادة تخزين الطعام خوفاً من شبح حرب قادمة، واستمرت هذه العادة معها حتى وفاتها.

وتوضح ماريا في ختام حديثنا عن هذه السنوات ثقيلة الظل على الروح، أنها من الجيل الذي نشأ على ميثاق النسيان، والذي أقرّه أول برلمان إسباني منتخب بعد وفاة الجنرال فرانشيسكو فرانكو، عام 1977، الذي أصدر عفواً عاماً عن معارضي الدكتاتورية، لكنه في الوقت ذاته وفر الحماية لمسؤولي النظام من المحاسبة القانونية على انتهاكات حقوق الإنسان.

ذاكرة في مواجهة النسيان

“ميثاق النسيان”، بما يحمله الاسم من ثقل درامي، كان أحد الأعمدة الرئيسية في عملية التحول الديمقراطي بإسبانيا، وظل يحظى بدعم واسع على مدار جيل كامل. لكن، لأن الألم لا ينام والجراح تستيقظ؛ فقد تمكن معارضو هذا القانون من الدفع نحو إصدار قانون آخر لا يقل درامية في تسميته: قانون الذاكرة التاريخية لعام 2007. هذا القانون جاء ليُيسّر عملية تحديد مواقع المقابر الجماعية، واستخراج رفات ضحايا قمع نظام فرانكو، والتعرف على هوياتهم، حيث لا تزال العديد من رفاتهم مفقودة.

وفي عام 2022، بلغت هذه الجهود ذروتها مع إصدار قانون الذاكرة الديمقراطية. ينص هذا القانون على حق عائلات الضحايا في معرفة ما حدث خلال الحرب الأهلية وفترة الديكتاتورية. كما يُلزم الدولة، بما في ذلك قيادتها العليا، بالبحث عن المفقودين والتعرف على هوياتهم، ويؤسس قاعدة بيانات وطنية للحمض النووي لضحايا تلك الحقبة. كذلك، يضمن القانون الحقَّ في إجراء تحقيق فعال في انتهاكات حقوق الإنسان التي وقعت خلال الحرب والدكتاتورية.

الآن، إذا كانت إسبانيا، التي عانت من عقود من الديكتاتورية وتقارب تجربتها في بعض النواحي مع سنوات حكم عائلة الأسد في سوريا، ستقدم خلاصة تجربتها إلى سوريا، فأي المسارين ستنصح باعتماده؟ الصفح، أم المحاسبة؟

المعضلة السورية

للمقاربة بين التجربتين الإسبانية والسورية، أجرى رصيف22 حواراً مع الدكتور محمد ظهيري، الباحث المغربي والمحاضر في جامعة كومبلوتينسي، الذي أوضح أن “نموذج الانتقال الديمقراطي في إسبانيا قد لا يكون قابلاً للتطبيق حتى داخل إسبانيا حالياً”. وأضاف: “إن الذين شاركوا في صياغة مرحلة الانتقال الديمقراطي في إسبانيا كانوا من بقايا النظام الديكتاتوري وحلفائه، وخرجوا بفكرة ميثاق النسيان خوفاً من العودة إلى حرب أهلية جديدة. لهذا السبب، فإن تجربة الانتقال الديمقراطي الإسبانية لا يمكن استنساخها في الحالة السورية، لاعتبارات عدة”.

وحدد ظهيري هذه العوائق بثلاثة هي: أولاً، كان ثقل إسبانيا الديمقراطي في سياق أوروبي مستقر، ولم تكن هناك مشكلات كبيرة في محيطها الجغرافي، تجعل من انتقالها إلى نظام حكم ديمقراطي مشكلة.

ثانياً، سعت إسبانيا إلى الانضمام إلى اللجنة الأوروبية، والتي هي النواة التي تشكّل منها الاتحاد الأوروبي، مما دفعها إلى صياغة دستورها وقوانينها بما يتماشى مع قيم حقوق الإنسان والديمقراطية.

ثالثاً، يجب التنبه إلى أن ميثاق النسيان في إسبانيا لم يُوضع مباشرة بعد حرب أهلية، بل جاء بعد وفاة الديكتاتور فرانكو الذي حكم البلاد لأربعة عقود، ما يعني أن الميثاق جاء في سياق مختلف تماماً عن سوريا، حيث الحرب والثورة ما تزالان حاضرتَين في الذاكرة القريبة.

بين دروب المنفى وذكريات الوطن

خلف كلّ مُهاجرٍ ولاجئ، حياة دُمِّرت وطموحاتٌ أصبحت ذكرياتٍ غابرةً، نُشرت في شتات الأرض قسراً. لكن لكلّ مهاجرٍ ولاجئ التمس السلامة في أرضٍ غريبة، الحقّ أيضاً في العيش بكرامةٍ بعد كلّ ما قاساه.

لذلك هنا، في رصيف22، نسعى إلى تسليط الضوء على نضالات المهاجرين/ ات واللاجئين/ ات والتنويه بحقوقهم/ نّ الإنسانية، فالتغاضي عن هذا الحق قد يؤدّي طرديّاً إلى مفاقمة أزمتهم والإمعان في نكبتهم.

ليسوا/ لسن مجرّد خبر!

ويعتقد ظهيري بأن على سوريا أن تشق طريقها وأن تبتكر نموذجاً خاصاً بها لانتقالها الديمقراطي، يراعي تعدديتها الطائفية والعرقية، داعياً إلى أن يلجأ إلى المحاكمة العادلة في محاسبة المتورطين بجرائم، ويمكن الاستفادة من الدرس الإسباني بعدم تكرار الأخطاء، والاطلاع على التجربتين التشيلية والمغربية، فـ”في المغرب يمكن الاطلاع على مبادرة الإنصاف والمصالحة التي تأسست بعد وفاة الملك حسن الثاني، لمراجعة مرحلة سنوات الرصاص، لانتقال ديمقراطي سلس وسلمي يراعي مصالح السوريين جميعاً”.

فروقات ديكتاتورية

في إطار المقارنة، التقى رصيف22 بإغناسيو دي تيران، الباحث الإسباني والمحاضر في جامعة أوتونوما دي مدريد، الذي قال: “لا يمكن مقارنة ما حدث في إسبانيا بما جرى في سوريا. جرائم النظام السوري تفوق بكثير جرائم الدكتاتورية في إسبانيا. ففي سوريا، تورط النظام بأكمله في الإعدامات والتعذيب والإخفاء القسري، بينما في إسبانيا انخرط العديد من موظفي النظام الدكتاتوري لاحقاً في النظام الجديد”.

كما أوضح أن الانتقال الديمقراطي في إسبانيا كان مدبَّراً وموجهاً من المؤسسة العسكرية والأمنية التي أعادت الملكية للحكم. أما في سوريا، فميثاق النسيان وقانون العفو قد لا يكونا مناسبَين، خاصةً في ظل التركيبة الاجتماعية المعقدة، التي تتسم بالطائفية والانقسامات المذهبية والإشكاليات العرقية، بخلاف إسبانيا التي لم تشهد خلافات طائفية. “لذا، رغم أن الانتقال السياسي في إسبانيا كان نموذجياً، فإن الحالة السورية تتطلب تنازلاتٍ ونوعاً من التسامح لبناء سوريا جديدة قائمة على الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان”.

في المقابل، شجعت تيريزا أرنغورين، الصحافية الإسبانية المتخصصة بقضايا العالم العربي، على صياغة قانون مشابه لميثاق النسيان في مرحلة انتقالية بسوريا، قائلة: “أعتقد أن الأولوية الآن في سوريا يجب أن تكون لتحقيق انتقال سلمي من الديكتاتورية إلى حكومة تضمن الحريات الأساسية لجميع المواطنين. هذا يتطلب التوصل إلى اتفاقات وحوار بين من في السلطة ومن دعموا النظام. من المهم تجنب التصعيد والانتقام، بل تعزيز الحوار والتفاهم. يمكن تسهيل ذلك عبر سنّ قانون مشابه لميثاق النسيان لبضع سنوات حتى تستقر البلاد، مع تقديم المجرمين للعدالة”.

ترف المغفرة

وحول مدى استعداد السوريين للاستفادة من تجربة إسبانيا في بنائها الديمقراطي مروراً من “ميثاق النسيان”، تباينت آراء السوريين المقيمين في إسبانيا، إذ رفضه الصحافي عقبة محمد، معللاً ذلك بالقول: “لا يمكننا التسامح مع المتورطين بتعذيب أو بقتل سوريين، ميثاق النسيان في الحالة السورية سيدفع بالناس للانتقام بشكل فردي وتصفية الحسابات والثأر. أنا كشخص قُتل 69 شخصاً من عائلتي على يد النظام، أجد أنه من حقي أن أطالب بالعدالة لهم”، مضيفاً: “نعم، أنا ضد العفو، والناس كلها ضد العفو، فسجن صيدنايا لا مثيل له هنا في إسبانيا ولا في أي مكان، والصفح عن المجرمين لن يمنعهم من العودة لارتكاب نفس المجازر”.

واتفقت مع هذا الرأي ليلى المصري، التي أكدت أن من حق ذوي المفقودين معرفة ما حلّ بأبنائهم الذين دفنوا في مقابر جماعية مجهولة، وأضافت :”الحلّ الوحيد للسّلم ليس العفو والنسيان، بل هو تذكر ما حدث حتى لا نكرره، لذلك يجب تنفيذ العدالة”، داعية إلى ما وصفته بـ”حملة تنظيف للمجتمع من الفاسدين والقتلة”، معتبرة أن سنّ قانون شبيه بميثاق النسيان “لن يعزز السلم الداخلي، بل سيدفع لحرب أهلية ولبحر من الدماء، وعليه يجب محاسبة القتلة وتعويض أهالي الضحايا… يجب ألّا ننسى”.

في المقابل، وجدت منى الحسن أن ميثاق النسيان يمكن أن يمنح السوريين زاوية آخرى للنظر إلى مستقبل بلادهم، موضحة :”الصفح والعفو هو أسمى الصفات الإنسانية، ويساعدنا كسوريين على طيّ صفحة مريرة في تاريخنا الدامي، والبدء بمرحلة سلمية يتساوى فيها الجميع من مختلف الطوائف والخلفيات، لنبني سوريا جديدة جميلة وهانئة لا مزيد من القتل فيها أو الإعدامات. لا نريد نظاماً يشبه النظام البائد بوحشيته. لا نريد شريعة الغاب ومشاهد السلخ في الساحات العامة”.

رصيف 22

—————————-

الصامت بالأمس ليس بالضرورة عدواً… هل تتسع الحريّة التي طلبناها للجميع؟/ مرح زياد الحصني

الثلاثاء 21 يناير 2024

لم يكن الاستبداد يوماً مجرّد نظام سياسي يُحكم بالسقوط، بل هو ثقافة تُزرع في النفوس وتجد طريقها لتُعيد إنتاج نفسها في أدق تفاصيل الحياة اليومية. اليوم، وبعد التحرير، يبدو أن السوريين لا يواجهون فقط تركة النظام السابق، بل يواجهون أنفسهم أيضاً، حيث تسللت بقايا العقلية البعثية إلى الخطاب الشعبي والسياسي، بشكل يعيد إنتاج أدوات التخوين والإقصاء، ولكن بأسماء جديدة.

في الشوارع والمقاهي وعلى منصات التواصل الاجتماعي، يتردّد صدى عبارات مألوفة من الحقبة الماضية، مثل “وين كنتوا قبل؟” و”ما كنتوا تسترجوا تحكوا”، لكن المفارقة أن هذه العبارات لا تأتي اليوم من حاشية النظام أو أنصاره، بل من أبناء الحرية أنفسهم، الذين يتنازعون على ملكية النصر وحق التعبير. وبين اتهامات بـ “التكويع” و”التشبيح” وصراعات لا تنتهي على شرعية المواقف، يبقى السؤال الأهم: هل نتحرّر فعلاً إذا ما بقيت عقولنا مكبلة بأصفاد الماضي؟

هذا المقال هو محاولة لإعادة التفكير، ليس فقط في نتائج الثورة، بل في جوهرها الإنساني، ولماذا يجب أن تكون الحرية، المحبة، والتسامح هي العناوين العريضة للمرحلة القادمة.

الصامتون… أعداء أم شركاء؟

عندما بدأت الثورة، لم يكن الصمت خياراً سهلاً. البعض صمت ليس تواطؤاً، بل لأن النظام جعل كل كلمة ثمنها الاعتقال أو الرصاص. هذا الصمت لم يكن بالضرورة خيانة، بل كان تعبيراً عن غريزة البقاء في ظل استبدادٍ لا يرحم.

الثورة، بوصفها فعلاً تحررياً، جاءت لتحطم تلك الأغلال التي جعلت الصمت خياراً وحيداً. هي لم تكن دعوة فقط لمن تجرأ على الكلام، بل أيضاً للذين كانوا ينتظرون لحظة الأمان ليكون لهم صوت.

ومع ذلك، نرى اليوم من يحاول إعادة تعريف الثورة كـ “نادٍ خاص” لا يحق دخوله إلا لمن كان حاضراً منذ البداية، رافعاً الشعارات ومعرّضاً حياته للخطر. هذا الأداء ليس إقصائياً فقط، بل يتعارض مع جوهر الثورة نفسه، الذي يهدف إلى تحرير الجميع، وليس فقط من حمل رايتها في البداية.

بقايا العقلية البعثية

من الصعب الحديث عن سوريا دون الحديث عن العقلية البعثية التي حكمت البلاد لعقود. هذه العقلية لم تكن مجرد منظومة سياسية، بل ثقافة تسللت إلى أعماق المجتمع، قائمة على الإقصاء والتخوين واحتكار الحقيقة.

حينما تُقال عبارات مثل: “من كان صامتاً لا يحق له أن يعترض اليوم”، فإنها تعكس بوضوح امتداداً لتلك الثقافة التي جعلت من الولاء للنظام معياراً للوجود، فالثورة يجب أن تكون قطيعة كاملة مع هذا الإرث، لا مرآة له.

فإن الاتهامات التي تقصي الصامتين وتضع حدوداً لحقهم في التعبير، تشبه النظام الذي قامت ضده، فاحتكار الحق في الحديث والتعبير هو شكل آخر من أشكال الاستبداد، حتى لو تم تغليفه بخطاب ثوري.

لا حرية دون احترام التضحيات

لا يمكن بأي حال التقليل من قيمة التضحيات التي قدّمها آلاف السوريين من شهداء ومعتقلين ومنفيين. هؤلاء هم القلب النابض للثورة، والأمانة التي يجب أن تحترمها الأجيال القادمة.

لكن احترام التضحيات لا يعني إقصاء الآخرين أو إنكار حقهم في التعبير والمشاركة. الثورة ليست قائمة امتيازات أو مكافآت، بل مشروع جماعي لتحرير البلاد من الاستبداد، سواء كان سياسياً أو اجتماعياً.

رصيف 22

————————————

بعد سقوط الأسد… هل يهدد خط الغاز القطري-التركي دور مصر في الطاقة؟/ هشام العطيفي

الثلاثاء 21 يناير 2025

تقف سوريا اليوم، كحلقة وصل بين عالمين، فهل ستصبح البلاد ممراً استراتيجيا لنقل ثروات الطاقة الضخمة من الخليج ووسط آسيا إلى القارة الأوروبية المُتعطشة للغاز؟ يصبح هذا السؤال ملحاً بعد أن استطاعت روسيا أن تمنع هذا المشروع لعقود، معطلة التوجه الأوروبي للتخلص من هيمنتها التي استمرت لسنوات طويلة.

فبعد سقوط نظام بشار الأسد، ووصول المعارضة المسلحة للحكم بدعم تركي، بدا واضحاً حجم الدور المنتظر أن تلعبه أنقرة، لا سيما مع العلاقة القوية التي تربطها بالإدارة السياسية الحالية التي تحكم في دمشق، وإعلان استعدادها لتولي مسؤولية إعادة البناء في سوريا، والتعاون بمشروعات الطاقة المختلفة. 

الحلم التركي

تركيا التي تسعى منذ سنوات -وقبل الربيع العربي- لأن تصبح أهم مركز لتوزيع الطاقة من الشرق للغرب، سارعت لطرح فكرة إعادة إحياء مشروع خط الغاز القطري-التركي، حتى ذهب وزير الطاقة والموارد الطبيعة التركي ألب أرسلان بيرقدار، للإشارة إلى أن المشروع يمكن أن يمضي قدماً مع تحقيق الاستقرار في الأراضي السورية، مؤكداً الحاجة إلى توافر الأمن أولاً.

في ذات الوقت، يبدو أن مشروع نقل الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا، الذي وقّعه كل من أردوغان ونتنياهو قبل أسبوع واحد فقط من “طوفان الأقصى” في نيويورك، مستمر ولم يتوقف، حيث سبق أن تحدث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بشأن الغاز الإسرائيلي، قائلاً: “المشروع الأكثر قوة هنا هو أن يصل الغاز الطبيعي إلى أوروبا عبر تركيا”.

على مدار السنوات الماضية، طُرحت العديد من المشروعات التي تسعى لاستغلال رغبة أوروبا في كسر احتكار روسيا للغاز، مشروعات على غرار خط الغاز العربي الذي يفترض أن يربط مصر بالأردن ولبنان وسوريا، ومن ثم تركيا انتهاءً بأوروبا. وكذلك خط الغاز العراقي الذي يربط بالقارة الأوروبية عبر أنقرة. والخط الذي ينقل الغاز الإيراني إلى تركيا، بالإضافة إلى خط الغاز الإسرائيلي-التركي الذي اكتسب صدىً واسعاً وتحركات رسمية قبل اندلاع حرب الإبادة قطاع غزة.

إلاّ أن خط الغاز القطري-التركي، والذي كان قد خُطّط له أن يبدأ من الدوحة ويمر بالمملكة العربية السعودية والأردن، وصولاً إلى سوريا فتركيا، بقي المشروع الأكثر طموحاً، ليعود اليوم ويكتسب زخماً غير مسبوق، مع سقوط نظام الأسد، والذي كان يقف حائلاً أمام تنفيذه بسبب تحالفه مع روسيا.

المشروع القطري التركي، وكذلك مشروع نقل الغاز الإسرائيلي عبر أنقرة، وإن كانا يمثلان سوياً فرصة مواتية للأتراك من أجل تحقيق مساعيهم للتوسع في مجال الطاقة، إلا أنهما يظهران على الورق، كضربة اقتصادية لمصر التي تحصل على رسوم نقل الغاز القطري المسال من السفن العابرة من قناة السويس، بالإضافة إلى تدفقات الغاز الإسرائيلي لمحطات الإسالة المصرية، بالإضافة إلى أنها سعي مصر خلال السنوات الماضية لأن تصبح مركزاً رئيسياً لنقل الطاقة، ومحاولات التعاون مع إسرائيل وقبرص واليونان؛ لاستغلال امتلاكها لمحطات الإسالة في دمياط وإدكو؛ لاجتذاب الثروات المُكتشفة في شرق المتوسط، ومن ثم تصديرها لأوروبا. فهل نحن على وشك أن نشهد صداماً بين الطموح التركي والمصري؟

خط الغاز القطري-التركي

ترجع فكرة إنشاء خط الغاز القطري التركي الذي عاد إلى الحياة من جديد، إلى عام 2009، حيث جرت مناقشته في قمة استضافتها إسطنبول بين رئيس الوزراء التركي آنذاك رجب طيب أردوغان، وأمير قطر حينها الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني.

ويقوم المشروع بشكل أساسي على ربط حقل الشمال القطري -من الأكبر في العالم- مع تركيا بخط طوله 1500 كيلومتر يمر عبر الأراضي السورية، وبتكلفة قُدّرت بـ 10 مليارات دولار في ذلك الوقت.

المشروع الذي لم ير النور -وتحيل بعض الدراسات الحرب السورية لمنعه- يكتسب أهمية كبيرة في الوقت الراهن بحسب المحلل السياسي التركي، جواد جوك، الذي يشير إلى أن أهميته تأتي من حاجة أوروبا للغاز القطري الذي يعد الأكبر في احتياطات الغاز في العالم.

فبحسب مجلة “أويل آند غاز”، تمتلك الدوحة احتياطيات غاز تُقدر بحوالي 900 تريليون قدم مكعب، أو ما يعادل 14% من الاحتياطي العالمي، إلا أن هذا الغاز لم يكن محط اهتمام الأسواق الأوروبية لفترة طويلة في ظل غياب خط أنابيب يصلها بقطر، حيث يتم الاعتماد فقط على شحنات الغاز المسال ذات التكلفة المرتفعة.

ويُبرهن جواد جوك في حديثه لرصيف22 على رغبة أنقرة التحول لمركز رئيسي للطاقة، بالإشارة إلى “منتدى إسطنبول للطاقة”، الذي نظمته تركيا في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، بمشاركة البلدان الرئيسية المنتجة للغاز، وفي مقدمتها أذربيجان وليبيا وأوزبكستان، إلى جانب ممثلين من دول العبور مثل جورجيا، وكذلك المستوردين من أوروبا، معتبراً أن مشروع خط الغاز القطري التركي، يحظى بتوافق القيادة السياسية في كلا البلدين.

ويُكمل: “تركيا وضعت خطة منذ 10 سنوات؛ لتصبح جسراً لنقل الغاز من روسيا ومن وسط آسيا إلى أوروبا، وفي سبيل ذلك دشنت عدداً من خطوط الغاز أبرزها العابر للأناضول (TANAP) بهدف نقل أكثر من 30 مليار متر مكعب من الغاز من أذربيجان إلى تركيا ومن ثم لأوروبا، وخط (ترك ستريم Türk Akımı) بهدف نقل نحو 31.5 مليار متر مكعب من الغاز الروسي لتركيا وأوروبا، بالإضافة إلى امتلاك 5 محطات إسالة للغاز، تُمكن أنقرة من ضخ نحو 50 مليار متر مكعب سنوياُ للاتحاد الأوروبي”.

ويرى أن من مزايا المشروع أنه يوفر بديلاً أقصر وأبسط من الناحية الفنية، وأكثر فعالية من حيث التكلفة؛ سواء بالنسبة لقطر التي تعتمد على شاحنات الغاز المُسال المُكلفة، أو تركيا التي تعتمد بشكل شبه كامل على استيراد حاجتها من الغاز الطبيعي، كما قد يُشكل فرصة سانحة لانضمام دول أخرى على غرار لبنان، والذي شرع مؤخراً في أعمال التنقيب البحرية، ويستهدف إيجاد ممر للتصدير الفترة المقبلة.

وتعتبر تركيا خامس أكبر سوق للغاز الطبيعي ضمن القارة الأوروبية، حيث تستهلك سنويا نحو 50 مليار متر مكعب، بينما تنتج ما لا يزيد عن 2% من استهلاكها، حيث بلغت كمية الغاز الطبيعي المنتجة محلياً في تركيا لعام 2023، نحو 807.28 مليون متر.

خط الغاز الإسرائيلي التركي

احتكار الغاز الروسي

يرى أستاذ العلاقات الدولية، سمير صالحة، أن تركيا في الأعوام الأخيرة، سعت لاستغلال موقعها الجيوسياسي والجيو استراتيجي في لَعب دور الوسيط لنقل الطاقة من شرق المتوسط باتجاه أوروبا، إلا أن تضارب المصالح الاقتصادية وعدم الاستقرار الأمني في عدة دول، عرقلا تنفيذ خطط أنقرة، والتي ترى في التطورات الأخيرة لا سيما في سوريا ولبنان ولعبة التوازنات الإقليمية الجديدة “فرصة” لإعادة إحياء مشاريع نقل الطاقة، وفي مقدمتها مشروع خط الغاز القطري-التركي. 

وعن مشروع خط الغاز القطري-التركي، يؤكد صالحة في حديثه لرصيف22، أن أنقرة “متمسكة بقوة” بتنفيذ المشروع، واستغلال علاقتها “القوية” مع الإدارة السورية الجديدة في إبرام اتفاقية لترسيم الحدود البحرية المشتركة بين البلدين، بالإضافة إلى إمكانية دمج الجانب اللبناني بالمشروع. مشيراً إلى أن الجانب القطري يبدو متحمساً للمضي قدما في تسريع خطوات التنفيذ في الفترة المقبلة، خاصة وأن الدوحة لا تمتلك أي خطوط أنابيب لنقل غازها إلى أوروبا وتلجأ إلى شحنات الغاز المُسال، في حين أعدت أنقرة نفسها لمثل تلك الفرص، عبر تحديث خطوط نقل الغاز وأسطولها البحري وموانئها.

تدني الجدوى الاقتصادية للمشروع

على النقيض، يؤكد الباحث السوري المتخصص في شؤون الطاقة، حسن الشاغل، في حديثه لرصيف22، استحالة المضي قدما في المشروع؛ نظراً لـ”عدم جدواه الاقتصادية”، ويقول إن “تنفيذه يحتاج لنحو 7 مليارات دولار بحد أدنى، إضافة إلى أن قطر لمدة 5 سنوات مقبلة لا تمتلك فائضاً من الغاز لتصديره لأوروبا؛ حيث تمتلك اتفاقيات مع دول شرق آسيا على غرار الصين واليابان وكوريا الجنوبية، وغالبية إنتاجها يذهب لهناك، ولذلك فهي غير محتاجة حالياً لخط أنابيب يتكلف المليارات.

وتمتلك قطر حضوراً لافتاً في الأسواق الآسيوية، حيث تستحوذ حاليًا على أكثر من 70% من صادراتها، بينما تلقّت الأسواق الأوروبية نحو 19% من صادرات قطر من الغاز المسال في عام 2023.

ويشير الشاغل، إلى أن الضمانات الأمنية تبقى واحدة من أهم العراقيل التي تقف أمام المشروع، حيث يُشكل الأمن تحدياً مهماً، إذ لا بد أن يكون مسار خط الأنابيب آمناً لضمان استقرار التدفقات وعدم المخاطرة باستثمارات بمليارات الدولارات، وهو ما لا يتوفر في سوريا سواء حالياً، وغالباً لن يتوفر على المدى القريب، لا سيما مع استمرار تضارب المصالح بين القوى المتداخلة بالمسألة السورية.

ويتفق رئيس وحدة العلاقات الدولية وبرنامج الطاقة في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، أحمد قنديل، مع الشاغل، في عدم رغبة قطر المضي بالمشروع لعدم جدواه الاقتصادية في الوقت الحالي، إلا أنه يُشير لوجود “خط أحمر” وضعته الولايات المتحدة الأمريكية أمام تنفيذ المشروع؛ نظراً لأن الغاز المُسال الأمريكي بات الأكثر رواجاً لدى أوروبا لتعويض نقص واردات الغاز الروسي، ومن ثم لن تسمح واشنطن لأي مشروع يهدد حضورها في القارة العجوز، وستلجأ لاستغلال علاقتها القوية مع الدوحة للحيلولة دون أي تقدم بالمشروع.

يضيف قنديل لرصيف22: “أمريكا لا ترغب في أن تصبح تركيا مركزاً لنقل الطاقة والغاز الخليجي ومن شرق المتوسط إلى أوروبا، وقطر لن تقامر بعلاقتها المتينة مع واشنطن، بالانخراط في خط غاز غير مُجدى على الأمد القصير”.

الغاز المصري

الوضع الأمني في سوريا

وعلى النهج ذاته، يشير عضو الهيئة الاستشارية للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، حسن أبو طالب، لوجود عقبة بالغة أمام خطط أنقرة بملف الغاز، تتثمل في سوريا نفسها، حيث ستلجأ واشنطن لاستخدام ورقة العقوبات المفروضة على دمشق؛ من أجل الحفاظ على استمرار هيمنتها على القرار الأوروبي على المدى البعيد، عبر السيطرة على واردات الغاز القادمة عبر الأراضي السورية.

يسترسل أبو طالب في حديثه لرصيف22، يقول: “على الرغم من سقوط بشار الأسد الذي كان يرفض المشروع سابقاً، إلا أن العقوبات الأمريكية بحق دمشق وفقا لما يُعرف بـ(قانون قيصر) تقف عائقاً أمام المشروع، والأمر يتوقف على كيف يتطور الوضع في الداخل السوري تحت الإدارة الجديدة بقيادة أحمد الشرع، وما إذا كانت واشنطن سترفع المزيد من العقوبات عن سوريا أم لا، إلى جانب مخاوف الاتحاد الأوروبي من التعاون في مشروع يضم سوريا بحكومتها الحالية ذات التوجهات الإسلامية المُتشددة”.

ويكمل: “طالما استمرت العقوبات الأمريكية، فإن المشروعات الضخمة الاستراتيجية لن تُنفذ في سوريا”، لافتاً إلى أن المستثمرين الذين يمكنهم المشاركة في تمويل المشروع لن يجازفوا بأموالهم في ظل عدم وجود ضمانات أمنية، وارتفاع احتمالات استهداف الخط في الأراضي السورية حال تنفيذه.

ويشير الخبير المصري، إلى إن بناء المشروع قد يستغرق 5 سنوات، وفي تلك المُدة من المتوقع الوصول لاكتشافات كبرى بالنسبة لمصر أو لبنان أو إسرائيل وقبرص، وعليه فإن ذلك قد يؤدي لحدوث فائض في إنتاج الغاز، ومن ثم التأثير على الجدوى التجارية للمشروع القطري التركي، حيث سيَخفُت حماس الأوروبيين إزاء المشروع، ولن يقدموا على ضخ استثمارات فيه، متوقعاً أن تستمر خريطة غاز شرق المتوسط بوضعها الحالي لثلاث سنوات على الأقل.

خط الغاز الإسرائيلي التركي

وفيما تختلف الرؤى بشأن إمكانية تدشين خط الغاز القطري التركي من عدمه، يتوقف الجميع عند صعوبة المضي قدماً في خطط نقل الغاز الإسرائيلي عبر بوابة أنقرة، فيستبعد سمير صالحة، انخراط تركيا في المشروع، خاصة مع حالة الاحتقان التي تسيطر على علاقة البلدين منذ أحداث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، والخطاب العدائي الذي سيطر على المشهد بين أنقرة وتل أبيب، والخوف من غضب الداخل التركي، معتبراً أن تركيا تمنح الأولوية حاليا لمشروع خط الغاز القطري، يقول: “بدأت بالفعل المحادثات مع القيادة الجديدة في سوريا، ولبنان كذلك، على أمل المضي في التنفيذ في وقت قريب”.

اتسمت علاقة أنقرة وتل أبيب بالتذبذب على مدار العقدين الأخيرين، حتى وصلت للقطيعة عقب الهجوم الإسرائيلي على سفينة “مافي مرمرة” في 31 مايو/أيار 2010، لكن الميزان التجاري بين البلدين ظل من الأعلى في المنطقة، برغم الخلافات السياسية، إلى حد الوصول في مباحثات رسمية بهدف التوصل لاتفاق حول خط لنقل الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا عبر تركيا. والتوقيع بين نتنياهو وأردوغان، قبل أيام من عملية “طوفان الأقصى”.

تبلغ تكلفة إنشاء خط الأنابيب الإسرائيلي التركي لمسافة 550 كيلومتر، مليارًا ونصف المليار دولار، وهي تكلفة أقل بكثير مقارنة بستة مليارات دولار لخط الأنابيب “EastMed” الذي سبق أن اتفقت عليه إسرائيل مع قبرص واليونان مطلع العقد الجاري، قبل أن يتم تجميد الاتفاق بعد انسحاب الولايات المتحدة منه بداعي عدم الجدوى الاقتصادية، وكذلك لظهور مشاكل قانونية في المياه الإقليمية، والدولية المحاذية للسواحل القبرصية كانعكاس للمشكلة التركية مع قبرص.

“غير مُجدي والأمر مُعقد للغاية” هكذا يعلق الباحث السوري حسن الشاغل، على إمكانية تدشين خط لنقل الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا عبر بوابة تركيا. يقول: “الخط لابد أن يمر عبر مياه قبرص، والتي تمتلك مشاكل وصدامات مع تركيا، ولا يوجد ترسيم حدود بحرية بين الطرفين، إضافة لأن إسرائيل حالياً لا تمتلك فائضاً في إنتاج الغاز من حقولها، بالقدر الذي يجعلها تنخرط في خط أنابيب مُكلف يربطها بأنقرة”، مشترطاً وجود اكتشافات ضخمة في المستقبل لإمكانية المضي في هذا المشروع.

بينما يَعرج الدكتور أحمد قنديل لوجود تحفظات كبيرة لدى حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل بقيادة بنيامين نتنياهو، للتعاون بملف الغاز مع أنقرة حاليا؛ خاصة مع المواقف التي اتخذتها الأخيرة تجاه تل أبيب منذ أحداث السابع من أكتوبر، إضافة لأن إمكانية نقل الغاز الإسرائيلي برياً مروراً بلبنان وسوريا “مستبعد” في ظل حالة عدم الاستقرار الأمني في كلا البلدين، خاصة دمشق التي تتحفظ تل أبيب على قيادتها الجديدة ذات الصبغة الإسلامية المُتشددة، وعليه لن تتعاون تل أبيب مع أنقرة، وستحث واشنطن على استخدام ورقة العقوبات للحيلولة دون التمدٌد التركي بملف الغاز، بحسبه.

قوة مصر… الغاز والجغرافيا

ومع الشكوك التي تحوم حول مشروع خط الغاز القطري التركي، واستبعاد إمكانية المضي في مشروع نقل الغاز الإسرائيلي عبر بوابة تركيا، يشير الدكتور حسن أبو طالب، إلى أن القاهرة تمتلك حظوظاً كبيرة فيما يخص ملف الغاز، حيث ستواصل ناقلات الغاز المُسال القطرية العبور عبر قناة السويس، وستواصل إسرائيل كذلك التعاون مع القاهرة عبر إرسال الغاز لمحطات الإسالة الموجودة في دمياط وإدكو.

وتضخ إسرائيل لمصر نحو 5 مليارات متر مكعب من الغاز سنوياً، عبر خط أنابيب العريش – عسقلان، ويجري التخطيط من وزارة الطاقة الإسرائيلية لمد أنبوب غاز آخر إلى محطات الإسالة المصرية؛ لزيادة الصادرات، التي تتجه من مصر لأوروبا بحسب خريطة الغاز في المنطقة.

ويشير عضو الهيئة الاستشارية للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، إلى أن القاهرة خلقت مساحة تعاون مشتركة مع قبرص واليونان لتصدير الغاز، وربط الحقول اليونانية والقبرصية بمحطات الإسالة المصرية، لتكون بوابة للغاز المصري إلى أوروبا، إضافة إلى إمكانية التعاون مع لبنان والأردن على مشروع خط الغاز العربي، خاصة وأن لبنان على موعد مع اكتشافات واعدة الفترة المقبلة، وعليه يمكن استغلال الاحتياطات اللبنانية عبر إرسالها لمحطات الإسالة في مصر، وخلق شراكة جديدة، خاصة وأن الغاز المُسال يعتبر مغرياً للكثير من الدول والأسواق، عكس الغاز الخام.

وعن فرص القاهرة بهذا الملف يقول أحمد قنديل: “مصر نجحت في إنشاء منظمة غاز شرق المتوسط، للتعاون والاستفادة من موارد الغاز في المنطقة، وتلقى دعماً من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والبنك الدولي، وتطوير عمل المنظمة الفترة المقبلة فرصة هامة أمام مصر للعب دور أكبر بملف الغاز شرق المتوسط”، منوهاً لأهمية مُضاعفة القاهرة قدرات محطات الإسالة وإنشاء أخرى جديدة، واستغلال أنها الدولة الوحيدة في تلك البؤرة التي تمتلك محطات إسالة.

الغاز الإسرائيلي

هل يقع الصدام بين القاهرة وأنقرة؟

وفيما يطمح البلدان للتحول لمركز رئيسي لنقل وتوزيع الطاقة، يبرز التساؤل إمكانية وقوع “صدام” بينهما. من جهته يُعوّل صالحة، على المُصالحة الأخيرة بين أنقرة والقاهرة، في الحيلولة دون وقوع أي صدام، مشيراً إلى أن تركيا عَرضت على مصر إعادة بلورة لملف ترسيم الحدود البحرية شرق المتوسط بالشكل الذي يمنح القاهرة مساحات وفرصة أكبر لاكتشافات جديدة في المنطقة الواعدة باحتياطات ضخمة من الغاز، بالإضافة إلى أن البلدين نجحا في إيجاد تفاهمات بملفات مختلفة على غرار ليبيا والصومال، بل أن تركيا عَرضت الوساطة في الأزمة المصرية-الإثيوبية حول ملف سد النهضة، لذلك فالبلدين لن يفرطا في الإنتعاشة التي سيطرت على علاقتهما في السنوات الثلاث الأخيرة.

    القاهرة خلقت مساحة تعاون مع قبرص واليونان لتصدير الغاز، وربط الحقول هناك بمحطات الإسالة المصرية، لتكون بوابة للغاز المصري إلى أوروبا، إضافة لإمكانية التعاون مع لبنان والأردن على مشروع خط الغاز العربي، خاصة وأن لبنان على موعد مع اكتشافات واعدة الفترة المقبلة، ويمكن استغلال الاحتياطات اللبنانية عبر إرسالها لمحطات الإسالة في مصر

ويذهب لإمكانية أن تعلب القاهرة دور الوسيط، بين تركيا من ناحية واليونان وقبرص من ناحية أخرى؛ للتوصل لتفاهمات حول الحدود البحرية، ومحاولة إيجاد منطقة وسط يتفق عليها الجميع تقوم على مبدأ “المنفعة المتبادلة”، مؤكداً على أن المتغيرات الإقليمية الأخيرة، تدفع كلا البلدين لتجنب “الصدام” بل والمضي نحو “سياسات المصالح” التي يحصل فيها الطرفين على المنفعة.

ويتفق قنديل مع صالحة في وجود فرصة أمام القاهرة للعب دور الوسيط بين تركيا وقبرص واليونان، وتقريب وجهات النظر بينهم، معتبراً أن الوصول لصيغة اتفاق نهائية حول ترسيم الحدود البحرية من شأنه تشجيع شركات الطاقة العالمية على التنقيب عن الثروات المتوقعة بشرق المتوسط، حيث تُحجم الشركات عن الدخول في أي مناقصات للتنقيب بالمناطق التي تشهد صراعاً وخلافات بين الدول، مشيراً إلى أن “المصالح” وحدها كفيلة بجعل القاهرة وأنقرة تتعاونا الفترة المقبلة، خاصة وأنهما تدركان أن الصدام مُكلف وغير مُفيد للطرفين.

فيما يرى حسن الشاغل، أن لكل من تركيا ومصر ملعب بعيد عن الأخرى في ملف الغاز، حيث تستهدف أنقرة غاز دول وسط آسيا وكذلك روسيا، بينما تسعى مصر لاجتذاب الغاز من الدول المحيطة على غرار قبرص وإسرائيل ومن الممكن ليبيا مستقبلا، لذلك فالاعتبارات الجغرافية تبعد من احتمالات صدام البلدين، بل إنها أقرب للحث على التعاون بملف ترسيم الحدود البحرية في الفترة المقبلة.

رصيف 22 

———————————-

عالم ترامب… سياسة “الصفقات الانتهازية” تزيد سطوة الأثرياء والبلدان القوية

21 يناير 2025

ترسم عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض خريطة عالم جديد تزداد فيه الصفقات والمعاملات الانتهازية، حيث يتوقع أن تزدهر الشركات الكبرى والبلدان القوية على حساب الدول الناشئة والفقيرة، التي لن تكون غالباً سوى الطرف الخاسر في التغير الحاصل في المشهد الاقتصادي العالمي، وما تبعه من تبدلات اجتماعية وسياسية.

يميل الرئيس الأميركي العائد إلى البيت الأبيض إلى “الانتهازية السافرة”، والتي غالباً ما تكون على حساب القيم والتحالفات وحتى المعاهدات. كل معاملة بالنسبة لترامب، الذي شارك في تأليف كتاب “فن الصفقة” عام 1987، هي صفقة محصلتها صفر، مع وجود فائز وخاسر واضحين. ويحب الرجل أن يُنظر إليه باعتباره فائزاً، حتى عندما لا يكون الأمر كذلك.

ويرى الخبراء أن طبيعة ترامب هذه قد ترعب أصحاب المصلحة العالميين الآخرين، لكن الواقع أكثر تعقيداً. فبينما ستحتاج الدول التي تعتمد على التحالفات المدعومة من الولايات المتحدة، إلى إعادة ضبط نفسها وكذلك الدول المناوئة التي ستبحث عن تدابير لمواجهة إجراءات ترامب العنيفة، فإن الدول والشركات الكبرى ستستنشق الفرص، إذ ستسعى العديد من الدول إلى تحقيق توسع أو نفوذ على حساب الآخرين، مستغلة في ذلك ميل ترامب لإعطاء الأولوية لمصلحته الذاتية.

ومع بدء ترامب فترة ولايته الثانية، أصبح قادة العالم والمديرون التنفيذيون للشركات أكثر استعداداً مما كانوا عليه في عام 2016 (قبل ولاية ترامب الأولى من 2017 إلى 2021)، حيث لم يتعلموا الدروس من فترة ولايته الأولى في البيت الأبيض فحسب، بل قرأوا أيضاً منذ ذلك الحين تقارير وفيرة عن أسلوبه غير التقليدي في القيادة، وعقليته التي تقوم على “ما الفائدة لي؟”، واعتماده على أفراد الأسرة في عقد الصفقات.

قد يحتفظ ترامب بقدرته على الصدمة، لكن العالم لم يعد تدهشه “الولايات المتحدة الانتهازية”، وفق وصف تحليل لمجلة فورين بوليسي الأميركية. الواقع أن النظام الذي أدار العالم لمدة سبعة عقود بعد الحرب العالمية الثانية بدأ بالفعل في التآكل قبل ولاية ترامب الأولى. فقد شاهدت البلدان التي كانت تطمح إلى الالتزام بنظام دولي متساوٍ قائم على القواعد كيف قاومت واشنطن تقاسم السلطة في الهيئات متعددة الأطراف مثل الأمم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وقد أدى صعود الصين غير المسبوق، إلى جانب خيبة الأمل العالمية المتزايدة إزاء التجارة الحرة والعولمة، إلى تحويل الولايات المتحدة نحو الحمائية، وجعلها أقل ميلا إلى تفضيل المعايير والقيم المعلنة عندما تتعارض مع المصالح. ولن تؤدي عودة ترامب إلا إلى تسريع التحرك نحو نظام عالمي أكثر انتهازية.

وسوف يتنقل العالم عبر عقلية ترامب الصفرية بطرق متنوعة. فبالنسبة للدول التي اعتمدت تاريخياً على صداقة واشنطن، فإن السنوات القادمة سوف تجلب لها اضطرابات مؤلمة. في حدث انتخابي في فبراير/شباط الماضي، روى ترامب كيف أخبر عضواً في حلف شمال الأطلسي أنه سيشجع المعتدين على “فعل ما يريدونه” إذا لم تخصص تلك الدولة ما اعتبره القدر الصحيح من الإنفاق الدفاعي. وخلص ترامب إلى القول: “عليك أن تدفع.. عليك أن تدفع فواتيرك”. ويزعم أنصار الرئيس المنتخب أنه يصحح حجم السياسة الأميركية وأن تصريحاته المتطرفة مصممة للوصول إلى نتائج مرغوبة في المفاوضات. بينما يرد المنتقدون بأن مجرد الإشارة إلى أنه لن يلتزم بمعاهدة التحالف يدمر مصداقية الولايات المتحدة.

وفي كلتا الحالتين، يتعين على أوروبا أن تستجيب لعلاقة متغيرة مع الولايات المتحدة. فبعيداً عن تشجيع الجيوش الأوروبية على تعزيز جيوشها، تستعد بروكسل بالفعل لشراء المنتجات الأميركية لجعل ترامب يشعر وكأنه فائز. وفي مقابلة أجريت مؤخراً مع صحيفة فايننشال تايمز البريطانية، أكدت رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاغارد، هذه الخطة من خلال اقتراح أن تستخدم أوروبا “استراتيجية دفتر الشيكات”، حيث تزيد من مشترياتها من الصادرات الأميركية. وعلى نحو مماثل، اقترح الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي منح الشركات الأميركية حق الوصول الحصري إلى المعادن النادرة في البلاد لاستمالة عقلية ترامب القائمة على مبدأ المقايضة.

مطالبة أوروبا بـ 200 مليار دولار مقابل الذخائر الأميركية لأوكرانيا

قال ترامب في أكثر من مناسبة إن الولايات المتحدة في عهده ستعيد النظر بشكل جذري في “مهمة حلف شمال الأطلسي والغرض من تأسيسه”. وتعهد بمطالبة أوروبا بتعويض الولايات المتحدة عن ذخائر أُرسلت إلى أوكرانيا تقدر قيمتها “بما يقرب من 200 مليار دولار”، كما لم يُبد نية لإرسال المزيد من المساعدات إلى أوكرانيا. وخفض ترامب التمويل الدفاعي لحلف شمال الأطلسي خلال الشهور الأخيرة من ولايته الأولى واشتكى مراراً من أن الولايات المتحدة تدفع أكثر من حصتها العادلة. وفي الأسابيع القليلة الماضية قال إنه يتعين على الدول الأعضاء في الحلف إنفاق ما يعادل 5% من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع، وهو أعلى بكثير من الهدف الحالي البالغ 2%.

كما تقوم سياسة ترامب على التوسع لاستغلال الثروات والمواقع الاستراتيجية لدى الدول الأخرى، حتى لو استخدم في ذلك القوة. وقال في منتصف ديسمبر/كانون الأول الماضي إنه يعتزم شراء جزيرة غرينلاند، وهي فكرة طرحها لفترة وجيزة خلال ولايته الأولى من 2017 إلى 2021. وردت الدنمارك على تعليقات الرئيس المنتخب قائلة إن أراضيها الخارجية ليست للبيع. ولكن ذلك لم يُثن ترامب عن خطته للاستحواذ على أكبر جزيرة في العالم، إذ رفض في مؤتمر صحافي قبل أيام من تنصيبه، استبعاد احتمال غزو غرينلاند، واصفاً الجزيرة بأنها ذات أهمية كبيرة فيما يتعلق بمصلحة الأمن القومي للولايات المتحدة.

وهدد ترامب أيضاً في الأسابيع القليلة الماضية بإعادة فرض سيطرة الولايات المتحدة على قناة بنما، وحَمّل بنما المسؤولية بسبب ما وصفها برسوم مرتفعة على السفن التي تمر عبر طريق الشحن الرئيسي. وتحدث أيضاً عن تحويل كندا إلى ولاية أميركية، لكن مستشاريه وصفوا في مناسبات غير رسمية تعليقاته بشأن الجارة الشمالية للولايات المتحدة بأنها غير جادة ولا تمثل طموحاً جيوسياسياً حقيقياً.

اليوان الصيني في مواجهة “جمارك ترامب”،6 سبتمبر 2023 (Getty)

اقتصاد دولي

هذه أسلحة الصين لمواجهة “جمارك ترامب”

وتجد الانتهازية التي يوصف بها ترامب نقاط تلاق مع العديد من الدول، لا سيما التي تطمح إلى تفادي قرارات وسياسات ترامب التي تقوم على الصدمة. ووفق “فورين بوليسي”، فإن أسواقاً ناشئة مثل مصر والهند وإندونيسيا ونيجيريا والمملكة العربية السعودية وتركيا وفيتنام أعربت عن تفضيلها لمرشح جمهوري على مرشح ديمقراطي في أميركا. ورغم أنه لا يوجد لدى أي من هذه الدول اتفاقيات دفاعية قد يهدد ترامب بالتخلي عنها، كما تعترف هذه البلدان بالمخاطر في ظل رئاسة ترامب، فإنها ترى أيضاً فرصاً وفيرة. لقد سئمت العديد من هذه الاقتصادات الناشئة من المحاضرات الغربية حول حقوق الإنسان والديمقراطية، وهي بدلاً من ذلك حريصة على نشر نفوذها المتزايد لإبرام أفضل الصفقات لأنفسها.

وقال سيد أكبر الدين، الدبلوماسي الهندي السابق الذي شغل منصب سفير نيودلهي لدى الأمم المتحدة خلال فترة ولاية ترامب الأولى: “يولي الجمهوريون أهمية أكبر لتقارب المصالح مقارنة بالقيم المتماسكة. وباعتبارها قوة واقعية جديدة، تشعر الهند أنها قادرة على التعامل مع ترامب المعاملاتي.. إذا كان الأمر يتعلق بالعطاء والأخذ، فنحن نعلم أننا نستطيع أن نعطي ونأخذ بعض الشيء”.

صفقات مع أسرة ترامب

وكلما كان الاقتصاد أكبر، زادت نقاط الاتصال للعطاء والأخذ. يبدو أن أحد عناصر أسلوب ترامب الذي يميل إلى المعاملات هو ميله إلى اختيار أفراد الأسرة في الأدوار الرسمية. فقد لعبت ابنته إيفانكا وصهره جاريد كوشنر أدواراً مهمة في السياسة الداخلية والخارجية في ولاية ترامب الأولى. وقد عين ترامب الآن والد جاريد، تشارلز كوشنر، سفيراً له في فرنسا ومسعد بولس، والد زوجة تيفاني ترامب، مستشاراً له في الشرق الأوسط.

وهناك سجل حافل من الدول التي تواصلت مع أفراد الأسرة للتقرب من ترامب نفسه. فبعد ستة أشهر من مغادرته البيت الأبيض في 2021، تلقت شركة الأسهم الخاصة لجاريد كوشنر استثماراً بقيمة ملياري دولار من صندوق الثروة السيادية السعودي، وفق ما نقلت “فورين بوليسي” عن وثائق اطلعت عليها صحيفة نيويورك تايمز، مشيرة إلى أن ذلك “استثمار في عضو في الدائرة الداخلية للرئيس الأميركي المستقبلي”.

وحاولت الهند اتباع نهج مختلف خلال فترة ولاية ترامب الأولى، حيث كانت تسعى جاهدة للوصول إلى مسار داخلي. وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2017، فرش رئيس الوزراء ناريندرا مودي السجادة الحمراء للترحيب بإيفانكا ترامب في حيدر أباد لحضور قمة أعمال تركز على تمكين المرأة. وبينما لم يتم إبرام صفقات وتوفير أي نفقات جرى إصلاح الطرق وتنظيف الأرصفة وطلاؤها، وتزينت المدينة بشكل ساحر لابنة الرئيس، مع تقارير تلفزيونية معجبة على القنوات الفضائية الصديقة للحكومة في البلاد. وتم تصميم العملية برمتها لجذب انتباه ترامب، وهو زعيم معروف بأنه يتمتع ليس فقط بالبذخ ولكن أيضاً بالتغطية الإعلامية المواتية.

وإذا كان لدى حلفاء الولايات المتحدة والأسواق الناشئة استراتيجية واضحة نسبياً لجذب الجزء الانتهازي من عالم ترامب عبر الإطراء والصفقات وشراء المنتجات الأميركية والاستفادة من الروابط العائلية، فمن الأقل وضوحاً كيف قد يتصرف خصوم الولايات المتحدة. ووفق “فورين بوليسي”، فإن المنافسين مثل روسيا والصين، اللتين فرضت عليهما الولايات المتحدة عقوبات بالفعل، يستعدون لعقوبات أكثر صرامة في حين يتلذذون في الوقت نفسه باحتمالات نشوء نظام عالمي أكثر اضطراباً.

وترى روسيا أن قوة حلف شمال الأطلسي، التي تدعمها الولايات المتحدة بالطبع، تشكل تهديداً مميتاً وطويل الأمد. وفي الوقت نفسه، اشتكت الصين من رغبة واشنطن في إنشاء “حلف شمال الأطلسي الآسيوي” في شكل الحوار الأمني الرباعي، وهي المجموعة التي تضم أيضاً أستراليا والهند واليابان. وإذا أهان ترامب أياً من التحالفين من أجل التوصل إلى صفقات أفضل في مجال واحد، فإن خصوم الولايات المتحدة سوف يكسبون في مجال آخر. وعلى نحو مماثل، إذا كان نجاح محاولات الولايات المتحدة للحد من تطوير الصين لأشباه الموصلات عالية المستوى يتوقف على التعاون مع حلفاء الولايات المتحدة، فإن بكين سوف ترحب بأي تعطيل لهذه الشراكات.

تكتيك التعريفات الجمركية للضغط على الحلفاء والأعداء

ومن المرجح أن تلعب التعريفات الجمركية دوراً كبيراً في تكتيكات التفاوض التي ينتهجها ترامب، فقد استخدمها بالفعل في الماضي أداةً لضرب الصين، ووصف مؤخراً “التعريفات الجمركية” بأنها “أجمل كلمة في القاموس”. ولكن ما هو غير واضح هو كيف ستخدم هذه التعريفات مصالح الولايات المتحدة. ففي الأمد القريب، تعمل التعريفات الجمركية في الغالب كضريبة مبيعات، مع تأثيرات تضخمية فورية من المرجح أن تؤثر على الأسر ذات الدخل المنخفض بشكل أكثر حدة من الأسر الأكثر ثراء.

ويزعم خبراء الاقتصاد المرتبطون بترامب أن التعريفات الجمركية قد تجمع بمرور الوقت كميات هائلة من الإيرادات، وتمويل التخفيضات الضريبية وتشجيع الشركات على الإنتاج محليا، وبالتالي تصحيح بعض المشاكل الرئيسية التي يشخصونها في الاقتصاد الأميركي. وحتى لو كانت هذه التقييمات ذات قيمة، فهي في جوهرها مشاريع طويلة الأجل. ومع ذلك، في الأمد القريب، من المرجح أن تتسبب التعريفات الجمركية في شيئين يكرههما ترامب، هما التضخم والذعر في سوق الأسهم. ومن عجيب المفارقات أن التكتيك المفضل لدى ترامب من المرجح أن يكون التكتيك الذي قد لا يكون لديه الصبر الكافي لمتابعته.

وبكل المقاييس، تتمتع بكين بفهم متطور لهذه الديناميكية، ومن غير المرجح بالتالي أن تتفاعل بشكل سلبي مع التعريفات الجمركية المصممة لإلحاق الضرر باقتصادها. وإذا كان بوسع الصين أن تساهم في تباطؤ سوق الأوراق المالية، فمن المرجح أن تفعل ذلك، مع العلم بمدى كره ترامب لهذا الأمر. وفي حين خفضت بكين صادراتها إلى الولايات المتحدة، فإنها تحتفظ بنفوذ كبير على شركات أميركية رئيسية مثل “أبل” للتكنولوجيا و”تسلا” للسيارات الكهربائية، التي تواصل تشغيل عمليات تصنيع كبيرة في الصين.

ويهدد ترامب بشكل متكرر بفرض رسوم جمركية كبيرة أو قيود تجارية على الصين، وكذلك على العديد من الحلفاء المقربين. ومن شأن قانون ترامب المقترح للتبادل التجاري أن يمنحه سلطة تقديرية واسعة لزيادة الرسوم الجمركية رداً على البلدان التي يَثبُت أنها وضعت حواجز تجارية خاصة بها. كما طرح فرض رسوم جمركية عالمية تعادل 10%، والتي يمكن أن تعرقل التجارة الدولية، إضافة إلى رسوم جمركية بواقع 60% على الأقل على الصين.

ودعا ترامب إلى إنهاء وضع “الدولة الأولى بالرعاية” في التجارة الخارجية مع الصين، وهو تصنيف يهدف عموماً إلى تذليل العقبات التجارية بين الدول. وتعهد بسن “قيود جديدة مشددة على الملكية الصينية لأي بنية تحتية حيوية في الولايات المتحدة”. ويدعو الموقع الرسمي للحزب الجمهوري إلى حظر الملكية الصينية للعقارات في الولايات المتحدة.

وفيما يتعلق بتايوان، أعلن ترامب أنه يتعين عليها أن تدفع مقابل الحماية الأميركية لأنها، بحسب تعبيره، لا تعطي الولايات المتحدة أي شيء بينما تستحوذ على “ما يقرب من 100% من صناعة الرقائق لدينا”. وذكر مراراً أن الصين لن تجرؤ أبداً على غزو تايوان خلال رئاسته.

أكثر من 100 دولة صغيرة ليس لديها ما تقدمه

وبينما يبحث حلفاء واشنطن والمنتفعون عن صفقات لاسترضاء ترامب ويدبر الأعداء أمرهم لتفادي ضرباته، يوجد على الجانب الآخر مجموعة أخيرة من البلدان التي قد تخسر أكثر من غيرها في ظل العالم الجديد الذي يتشكل الذي يعطي الأولوية للمعاملات الثنائية، فهناك أكثر من 100 دولة يبلغ عدد سكانها أقل من 10 ملايين نسمة من جزر المالديف إلى موريتانيا تفتقر إلى الحجم أو القوة أو الأهمية اللازمة للضغط من أجل الحصول على معاملة تفضيلية في حالة التعريفات الجمركية العالمية الشاملة أو إجراء صفقات مواتية. وأغلبية هذه البلدان هي اقتصادات نامية منتشرة في جميع أنحاء الجنوب العالمي، وتطير عموماً تحت رادار سياسات القوى العظمى.

وقال أكبر الدين الدبلوماسي الهندي السابق إن “البلدان الأصغر حجماً ترغب في عالم به المزيد من القواعد.. إنهم لا يتمتعون بالنفوذ الذي تتمتع به الدول الأكبر”. كما أن هناك تهديداً وجودياً متمثلاً في تغير المناخ، والذي لا تملك الدول الأصغر الأموال لبناء دفاعات ضده، والعالم الذي أصبح أكثر حمائية، ويعطي الأولوية للسياسة الصناعية واسعة النطاق والإنتاج المحلي، حيث تخسر الدول الأصغر، والصراع العالمي المتنامي، مما يؤدي إلى الهجرة الجماعية وعدم الاستقرار في أسواق المواد الغذائية والسلع الأساسية، والتي تميل إلى توليد أكبر الاضطرابات لأصغر الدول. وفي كل من هذه الحالات، يعيد النظام العالمي الأكثر معاملاتية خلق السيناريو الذي تحدث عنه المؤرخ والفيلسوف اليوناني ثوسيديديس ذات يوم: “يفعل الأقوياء ما بوسعهم، ويعاني الضعفاء كما يجب”.

العربي الجديد

—————————

المونوبولي إذ تهزم الشطرنج/ أرنست خوري

22 يناير 2025

معظم المسؤولين السياسيين في العالم قلقون من زمن دونالد ترامب، في مقابل فئة قليلة من طغاة بينهم عرب وشعبويون معجبة بالرجل. حتى هؤلاء، كرئيس الأرجنتين خافيير ميلي أو رئيس حكومة المجر فيكتور أوربان، لا بد أن يحذّرهم مستشاروهم من أن ترامب في ولايته الثانية قد يكون أكثر غدراً وأكثر تقلباً مما عهدوه، يقفز من أقصى العداء نحو الصداقة المطلقة وبالعكس فور تغيّر المصلحة التجارية الاقتصادية المباشرة التي تسيّر وحدها عقيدته الخارجية “أميركا أولاً”. ومع بعض استثناءات، أمكن القول إن أكثر المهدّدين من ترامب وإدارته هي الدول السلمية الديمقراطية الليبرالية. ولا لغز في هذه المعادلة، ذلك أن الأزمة الاقتصادية العالمية التي فاقمها فيروس كورونا ثم الحرب الروسية على أوكرانيا، تنحو بشعوبٍ، أحياناً كثيرة، حين يحين وقت الاختيار الحر، نحو ما هو ماضوي ورجعي، نحو اليمين المتطرّف والكلام الشعبوي والخيارات القومية، وقادة هذه التيارات السامّة يصدف أنهم يعتبرون أنفسهم إخوة ترامب في الرضاعة ومنهم من ينسب إلى نفسه فضلاً في وصول الرجل إلى السلطة، كحال ذلك الشعبوي البريطاني نايجل فراج، أب “بريكست”.

على الجهة المقابلة، في البلدان غير الديمقراطية، يكفي لطاغية أن يُرضي ترامب وأن ينصاع إلى شروطه الاقتصادية، وأن يشتري أسلحة أميركية بالمليارات، من دون أن يخشى محاسبة في الصناديق التي تُستخدم لدفن المعارضين أكثر منها للاقتراع. انطلاقاً من ذلك، مذهلٌ أنّ احتمال استعداء الولايات المتحدة برئاسة ترامب بلداناً أنظمتها شمولية كروسيا والصين، متساوٍ مع احتمال أن تكون العلاقة ممتازة معها، لأن كل شيء تقرّره الصفقات والبزنس من دون اعتبار لأي تحالف أو تاريخ أو أيديولوجيا أو حساب للديمقراطية ولمصلحة كونية كهمّ بيئي مثلاً. لاحظ كيف أن فلاديمير بوتين لم يعد يجد حرجاً في الإعراب عن ارتياحه لكل ما ينطق به ترامب. أما القيادة الصينية، فتتذكّر جيداً الاتفاق التجاري “التاريخي” الذي أبرمه ترامب مع الرئيس شي جين بينغ عام 2020. فإن كانت السياسة الحديثة أقرب إلى طاولة شطرنج عملاقة تتصارع فيها تحالفات كبرى من الأصدقاء والأعداء لتحقيق تقدم جبيوبوليتيكي واستراتيجي في المناطق المتصارَع عليها، فإنّها في عالم ترامب لعبة مونوبولي كبيرة، حيث النزاع يحصل على المصالح الاقتصادية المباشرة، أسواقاً أو عقارات أو موارد طبيعية.

و”استعادة أميركا عظمتها” بمفهوم ترامب لا تحصل إلا عبر طحن الآخرين وسرقة مواردهم وابتزازهم الدائم مالياً وتجارياً. وترامب الذي يجمع في شخصه قيم القرون الوسطى مع تقنية السيارات الكهربائية والمركبات الفضائية، فإن أولويته الاقتصادية تضع في سلة واحدة النفط والغاز “القديمين”، ومصدر الثروة الحديثة الأهم في العالم هذه الأيام، الليثيوم، الضرورية لصناعات التكنولوجيا المتقدمة والأجهزة الذكية وبطاريات السيارات الكهربائية وتجهيزات المركبات الفضائية. ولمتابع أن يتصوّر كم أن دولاً مثل تشيلي والبيرو وجمهورية الكونغو الديمقراطية ستعاني من جشع ترامب لأربع سنوات على الأقل، وهي أغنى بلدان الكوكب بهذه المادة.

تألقّت ماضوية ترامب أول من أمس الاثنين في حفل تنصيبه. ساعات عصيبة كان على العاملين في الإعلام تحملها لأن المهنة تجبرهم على متابعة أكثر المخلوقات البشرية وضاعة. ترامب الماضوي الذي يعتبر أن العولمة والتبادل الحر أضعفا أميركا، يظنّ أيضاً أن الديمقراطية هي سبب تراجعها في العالم، هو الذي تمنى يوماً لو كان الأميركيون كالكوريين الشماليين يقدّسون زعيمهم. أمام ترامب أربع سنوات لكي يقضم ما أمكن من بنى تحتية لهذه الديمقراطية، ولكي يزيد فيها عدد المستعدّين لتحمّل مشقّة الوقوف في الشارع بدرجة برودة 13 تحت الصفر لمشاهدة موكبه يتنقل كالفاتحين بين الكابيتول هيل والبيت الأبيض، ذهاباً وإياباً.

العربي الجديد

———————————–

========================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى