سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسة

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 25 كانون الثاني 2025

حرية إلى الأبد: كل المقالات والتحليلات والحوارات التي تناولت انتصار الثورة السورية اعتبارا من 08 كانون الأول، ملاحقة يومية دون توقف تجدها في الرابط التالي:

سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

———————————–

في الحاجة إلى دولة اتحادية في سوريا: مشكلات وتحديات سوريّة يُساعد التصوّر الفيدرالي على حلّها/ موريس عايق

25-01-2025

                    الصورة المُريبة للفيدرالية عربياً

        لا يحظى مصطلح اتحادي (فيدرالي) بسُمعة طيبة في الفضاء السياسي العربي عامة، فلطالما كان تهمة انفصالية، حيث يقبع خلفه شبح التقسيم. يرجع هذا التاريخ السيء للفيدرالية في أحد جوانبه إلى عهد الحرب الأهلية اللبنانية، عندما كانت الفَدرَلةُ مشروع «الانعزاليين اللبنانيين»، ويرجع في جانب آخر إلى ما يتعلّق بالمسألة الكردية في العراق. غير أن العامل الأكثر أهمية لرفض الفيدرالية لا يعود إلى الفيدرالية نفسها، إنما يتعلق بالإيديولوجيات التي ألهمت العرب خلال القرن الماضي ونظروا إلى العالم من خلالها. رأت القومية العربية في العرب أمة واحدة متجانسة، فلماذا الفيدرالية إذاً؟ أليست الفيدرالية ذريعة لتقسيم الأمة المُقسَّمة سلفاً على يد المستعمرين! الأهم على المستوى العملي كان مشروع التحديث الذي تقوده الدولة، وهو مشروع شاركت فيه جميع الإيديولوجيات العربية السائدة وقتها، من القومية إلى الاشتراكية وحتى الإسلامية؛ الدولة المركزية التي تتولى مهمة تحقيق التقدم والمواجهة عبر هندسة اجتماعية تفرضها على المجتمع، وهذا ما بدا أنه يقفُ بالتضاد مع الفيدرالية. إن التاريخ السلبي للفيدرالية عربياً لا يرتبط بالفيدرالية حقاً، إنما هو نِتاج الإيديولوجيات المهيمنة نفسها، وهو يستند إلى الصورة التي قدمتها هذه الإيديولوجيات المُهيمنة عن الفيدرالية، والتي تتقاطع في الواقع مع هذه الصورة السلبية المُتخيَّلة لها.

        وهكذا فما أن يتم استدعاء الفيدرالية حتى يبدأ الحديث عن تقسيم وإثنيات وطوائف، وعن تَحلُّل الدولة. بهذا ننسى أن العديد من الدول الأقوى والأكثر ازدهاراً في عالمنا هي دول فيدرالية، كما أن الفيدرالية قد تكون مُطبَّقة في دول لا يوجد فيها بالضرورة انقسامات إثنية أو دينية، أو لا تستند إلى مثل هذه الانقسامات في رسم خرائط الأقاليم والولايات، وإن كانت أيضاً في أحيان كثيرة أخرى حلاً لإدارة هذه الانقسامات. الولايات المتحدة دولة فيدرالية وولاياتها ليست مُقسَّمة على أسس دينية أو إثنية، رغم أن المجتمع الأميركي مجتمع شديد التنوع كمجتمع مهاجرين أساساً، مع هوية أساسية للولايات المتحدة تمثلها البروتستانتية الأنغلوساكسونية، والولايات المتحدة هي الدولة الأقوى والأكثر كفاءة وتَقدُّماً ولا تعاني خطر التقسيم.

        ألمانيا، سويسرا والهند أيضاً، دول فيدرالية مُتقدمة وقوية وفعّالة. في حالة سويسرا تُنظِّمُ الفيدرالية تعايش الجماعات المختلفة إثنياً ولغوياً ومذهبياً، هذا التنوع الشديد (أربع لغات ومذهبان) تم تنظيمه في إطار اتحاد فيدرالي أسهمَ في إنهاء عهد طويل جداً من الحروب الأهلية هناك.

        في المقابل ألمانيا متجانسة على الصعيد الإثني وإن كانت منقسمة مذهبياً بين بروتستانت وكاثوليك، لكن الفيدرالية فيها لا تقوم على أساس من الانقسام الطائفي، بل على أساس من التطوّر التاريخي للإمارات والدوقيات الألمانية التي اجتمعت لتكوين الاتحاد الألماني، وهكذا يقوم الاتحاد الألماني على 16 ولاية اتحادية. كذلك الهند بدورها دولة اتحادية، وليست ولاياتها انعكاساً مباشراً للتنوع الإثني والديني الهندي، بل إن كل ولاية بدورها تحتوي على تَعدُّد إثني ولغوي وديني هائل. بمعنىً آخر، لا يوجد مطابقة مباشرة بين حدود الولايات الفيدرالية وحدود الإثنيات والأديان، وإن ساعدت الفيدرالية وبشدة على تعزيز تعايش هذه التنوعات وحمايتها.

        سوريا والحاجة إلى الفيدرالية

        علينا تفادي النظر إلى الفيدرالية من زاوية الانقسامات المذهبية والإثنية بشكل حصري، والتأمل في أسباب مغايرة وأكثر أهمية للسعي نحو الفيدرالية في سوريا، وإن كان للانقسامات الأهلية سالفة الذكر إسهامها في تعزيز مشروعية المطالبة بها.

        الدافع الأول من أجل تبني الفيدرالية في سوريا يتمثل في الحاجة إلى مواجهة الدولة المركزية.

        لم يقتصر تاريخ النزعات السلطوية في سوريا حصراً على البعث أو عهد الوحدة، بل بدأ مبكراً في تاريخ الجمهورية السورية مع شكري القوتلي وتزوير الانتخابات ومحاولة الهيمنة على مفاصل الدولة السورية. كذلك كان تسلُّطَ المركز مُمثَّلاً في المدن الأربع الرئيسية، وما رافقه من إهمال للأطراف، الذي وصل في حالة المنطقة الشرقية (الجزيرة السورية) إلى ما يشبه وضعية استعمار داخلي للمنطقة عبر استنزاف ثرواتها وإهمال تنميتها والتعالي على أهلها والحط من شأن تقاليدهم وثقافتهم. بل إن المركزية المفرطة، التي تضخمت في عهد البعث، أساءت إلى المدن المركزية نفسها، فقد دفعت دمشق وغوطتها ثمن التضخم الديمغرافي المَهول الذي عرفته المدينة ولم تكن قادرة على تحمله وطأته بيئياً وعمرانياً. اختفت غوطة دمشق، وأُجبِرَ كثيرٌ من الدمشقيين على مغادرتها باتجاه الضواحي، وتدهورت الخدمات والبنية التحتية للمدينة التي صار عليها تخديم عدد من البشر يزيد عن قدرتها الطبيعية على استيعابهم.

        انطلق تاريخ الدول الحديثة في بلادنا مع لحظتين تأسيسيتين، وهما التحديث المحلي (العثماني ومحمد علي) والدولة الاستعمارية، فحاجات السلطة المركزية المُسيطرة كانت هي العامل الحاسم في تأسيس الدولة وتحديد توجهاتها من أجل إخضاع المجتمع، وهي تركةٌ استمرت في كل تاريخ عملية بناء الدولة المركزية: حصرُ السيادة والسلطة بها وانتزاعهما كلياً من المجتمع، دون أن يكون لهذا المجتمع بالمقابل قدرةٌ على حفظ أشكال مضادة للسلطة لديه في مواجهة الدولة، أو تطوير وسائل تسمح له بمراقبتها وفرض سماع رأيه وأخذ اعتباراته واهتماماته بعين الاعتبار من قبلها.

        نظرياً، ورثنا تقليد فصل السلطات من الدول الأوروبية التي كانت بمثابة نموذج معياري لتأسيس دولنا الحديثة، والغاية من هذا الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية منعُ احتكار السلطة من قبل أي طرف لوحده، وتحديداً السلطة التنفيذية، بما يؤدي إلى حكم مطلق. غير أن هذه الغاية لم تتحقق في بلادنا، فقد عجز الفصل النظري بين السلطات عن منع الاحتكار الفعلي للسلطة من قبل السلطة التنفيذية، إذ تحوّلت السلطتان القضائيةُ والتشريعيةُ إلى مجرد استطالات وأذرع للسلطة التنفيذية تتفاوت المساحة الهامشية المُعطاة لها بحسب الدول، إنما دون استقلال حقيقي تحظيان به. كما أن مركز السلطة الفعلية داخل السلطة التنفيذية اقتصر غالباً على الجيش والمؤسسة الأمنية، وأحياناً على قاعدة عصبية أهلية، فيما صارت الأجهزة البيروقراطية امتدادات لهذه العُصبة الحاكمة.  تَغوُّلُ الدولة كان السمة البارزة للدول العربية، دُوَلٌ متضخمة ومتغولة على مجتمعاتها، دون أن تتحول إلى دول قوية حقاً. لم ينجح الفصل بين السلطات في تحقيق الغاية المرجوة منه، تقييد السلطة ومنع تَغوُّلها على مجتمعها، وظلَّ ديباجة دستورية لا يؤخذ بها بأي قدر من الجدية مهما كانت ضآلته.

        هنا تظهر الفيدرالية خياراً جدياً من أجل تحقيق هذه الغاية، أي تقييد السلطة التنفيذية وضبطها. تُشارك الأقاليم، في نظام فيدرالي، مصادر السلطة والقوة الخاصة بالدولة، تحصيل الضرائب والثروات الاقتصادية وفرض القانون وحمل السلاح والتشريع، حيث تحظى الأقاليم بحكوماتها ومحاكمها وشرطتها الخاصة التي تقوم على تنفيذ القانون، وبمجالسها التشريعية التي تتولى مراقبةَ حكوماتها الإقليمية وإقرارَ التشريعات المحلية الخاصة. تتولى الأقاليم تحصيل الضرائب وتحويل جزء منها إلى المركز، كما تتكفل حكومات الأقاليم بإدارة الثروات الخاصة بالأقاليم وامتلاك مشاريع عامة تعود ملكيتها لها، بالمشاركة مع الحكومة المركزية، وهذه الأخيرة تكون عادة مالكة للمشاريع ذات الطابع القومي.

        إذا لم يؤدِّ الفصل العمودي بين السلطات الثلاث الغرضَ الفعلي منه فيما يتعلق بتقييد السلطة وضبطها، عندها يمكن أن يدعمَ الفصلُ الأفقي المُضاف (الفصل على مستوى حكومات الأقاليم) توزيعَ السلطة ومنعَ تراكمها في مكان واحد. كما أن الفصل بين السلطات الثلاث لن يكون مقتصراً على مستوى الدولة المركزية، بل يمتد أيضاً إلى الأقاليم، حيث يكون لكل إقليم أيضاً سلطاته الثلاث المنفصلة، والتي تتم مراقبتها من طرف المركز، فالمُراقبة هنا تذهب في اتجاهين، من المركز إلى الإقليم وبالعكس.

        لن تكون الأقاليم مُجرَّد جهاز إداري حصراً، إنما تعكس نفسها أيضاً داخل العملية التشريعية على مستوى المركز. فالنظام الفيدرالي يُرافقه عادة مَجلسان تشريعيان، مجلس نواب يتم انتخابه وطنياً ويتولى التشريع، ومجلس شيوخ يُعبّر عن الأقاليم (وأي فئات أخرى يجب أخذها بعين الاعتبار)، وعادة ما يكون له سلطة النقض أكثر من كونه مجلسَ تشريع. يؤمن مجلسُ النواب تطوير هوية وطنية عامة، فيما يضمنُ مجلس الشيوخ حماية وصيانة التنوعات الأهلية والتاريخية والإقليمية وحفظها من التعدي والإهمال.

        تتباين أهمية مجلس الشيوخ وحدود صلاحياته بين الدول المختلفة، فأهمية مجلسي الشيوخ الأميركي تفوق كثيراً مجلس الشيوخ الألماني مثلاً. كما تتباين أنظمة الحُكم في الفيدراليات، ففي حين تملك الولايات المتحدة نظاماً رئاسياً (ولكن وبفضل النظام الفيدرالي فإن صلاحيات الرئيس تبقى مُقيَّدة في الداخل بصلاحيات الولايات) فيما تحظى ألمانيا والهند وسويسرا بأنظمة برلمانية.

        إضافة إلى الحاجة المرتبطة بتوزيع السلطة أفقياً وعمودياً ومنع تراكمها واحتكارها في مكان واحد، تدعم الفيدرالية تطوير الأقاليم والمناطق انطلاقاً من خيارات سكانها وحاجاتهم وقراراتهم. فالمناطق لن تخسر ثرواتها لمصلحة المركز دون أن تنال منها إلا اليسير، ولن تُفرَض عليها خطط تنمية ومشاريع لا تتناسب مع احتياجاتها ولا تُراعي رغبات أهلها لأنها مفروضة من المركز. في الحالة السورية، فإن هذا لا يُفيد فحسب الأطراف التي كانت عُرضة لإهمال مديد من قبل المركز، أساساً منطقة الجزيرة وبشكل أقلّ حوران، إنما أيضاً مدينة كبرى مثل حلب التي تَراجَعَ دَورُها لمصلحة دمشق رغم المكانة الاقتصادية الأكثر أهمية لحلب. لا يقتصر هذا على المشاريع الاقتصادية والتنموية، بل يمتد أيضاً إلى السياسات الثقافية الخاصة بكل إقليم، فمناطقُ سوريا المختلفة تَعرف تنوعاً أهلياً وتقاليدَ متنوعة ومُتغايرة، ففي الجزيرة هناك أكراد وأرمن وسريان إضافة إلى العرب، بينما يسود العرب عامة وبشكل كبير في باقي سوريا، مع وجود الأكراد والتركمان والأرمن في حلب ومناطقها، بينما يسود التنوع المذهبي والديني في وسط وغرب وجنوب سوريا. لا يمكن أن توجد سياسة ثقافية واحدة تُعبّر عن الجميع، حتى لو أخذت هذه التنوعات بعين الاعتبار. فمثلاً، لا شيء يستدعي التعامل مع «المسألة الكردية» بالنسبة لسكان وسط وجنوب وغرب سوريا، بينما هي مسألة مركزية في الجزيرة، يجب أخذها في الاعتبار على كل مستوى من مستويات الحياة فيها.

        هل الفيدرالية السورية تتماهى حصرياً مع انقسامات إثنية/طائفية؟

        رغم التنوع الأهلي الكبير في سوريا، فإن الفيدرالية السورية لا يمكن أن تتماهى مع الانقسامات الأهلية، الإثنية والدينية والمذهبية. تقريباً لا يوجد سوى الساحل الذي يمكن أن يكون إقليماً يحظى بهوية خاصة. السويداء وحدها يصعب أن تكون إقليماً، وعلى الأرجح فإنها ستكون جزءاً من إقليم يضمّ حوران كلها؛ السويداء ودرعا والقنيطرة، وعندها لن يكون إقليما درزياً، وإن سيكون للدروز فيه وزن فعال يتجاوز بكثير جداً وزنهم في سوريا. الحالُ نفسه مع الكُرد، فأيّاً تَكُن خريطة الإقليم الشرقي، فإنه لن يكون إقليماً كردياً، بل إقليماً يشكل الكُرد فيه جماعة وازنة وكبيرة (بنِسَب تختلف بحسب خريطة الإقليم). حلب ودمشق بالتأكيد ستكونان أقاليم مختلفة، رغم التشابه العام في تركيبتهما الإثنية والدينية عموماً.

        ستحظى الجماعات المذهبية والإثنية بدور فعّال في الأقاليم التي تشكل فيها وزناً كبيراً، الكردية ستكون -مع العربية- لغة رسمية إضافية في الإقليم الشرقي، ويمكن الاعتراف بلغات أخرى هناك مثل السريانية، دون أن يستدعي هذا جعلها لغة رسمية على مستوى الاتحاد (وإن تم الاعتراف بها، وهو أمرٌ ضروري). هذه الجماعات تمتع بالكثير من القوة والقُدرة على تطوير سياسات ثقافية إقليمية تُناسب حاجاتها، دون أن تنحلَّ في مجرد صدىً لتمايُزها المذهبي والإثني، خاصةً أن الجميع موجودون أيضاً داخل الإقليم. والسياسات الخاصة بالإقليم لا تنعكس بالضرورة على الاتحاد والأقاليم الأخرى. في النموذج الألماني مثلًا يتم اعتماد مناهج مدرسية مختلفة من قبل الولايات، وإن كان عليها تلبية معايير موحدة ومُشتركة يُعرِّفُها الاتحاد. وفي النموذج السويسري يتم تبني سياسات لغوية مختلفة بحسب الكانتونات، مع الاعتراف بثلاث لغات رسمية على مستوى الاتحاد (الألمانية والفرنسية والإيطالية) والاعتراف أيضاً بوجود لغات وطنية أخرى، دون أن تكون لغات رسمية للاتحاد. والحالُ شبيهٌ في الهند فيما يتعلق بالاستقلال الخاص للولايات في تحديد سياساتها الثقافية.

        لاحقاً، وعبر مجلس الشيوخ الذي يُمثل الأقاليم، تستطيع هذه الجماعات عبر تمثيلها لإقليمها، أو مشاركتها الفعّالة في تمثيله، ضبطَ السياسات الاتحادية بما لا يفرض عليها ضيماً أو ظلماً. الغالبية السياسية الوطنية هي التي تقرُّ في النهاية السياسات، ومُهمة المجالس المُمثِّلة للأقاليم هي منعُ السياسات الجائرة بحق جماعةٍ أو إقليمٍ باسم الأغلبية.

        فالمخاطر المُتخيَّلة التي تُرفَق بالدعوة إلى الفيدرالية، بوصفها مأسسة للانقسامات الأهلية والإثنية والمذهبية بما يحفز دعوات التقسيم، ليست واقعاً جدياً في سوريا. الفيدرالية السورية، إن تحققت، فإنها تخدم غايتين أساسيتين، تقييد السلطة وتوزيعها ومنع تراكمها في مكان واحد، والسماحُ لمناطق سورية المختلفة وخاصة الطرفية بالاعتناء بشؤونها، وتبني سياسات تنموية تتناسب وحاجاتها، واستغلال مواردها بأكثر الطرق عدالة، مثلما يسمح لها بتطوير سياساتها الثقافية الخاصة التي تسمح لها بتطوير ثقافة سكانها وتقاليدهم، دون أن تعود هذه الأطراف إلى الخضوع لمركز لا يهتم بها أو يُهملها ولا ينظر إليها إلا حين يحتاجها في ظرف ما.

        خاتمة

        لقد عرفنا في المشرق نموذجين تاريخيين لتحقُّق الدولة، وهُما ما علينا أيضاً أن نتفاداهما جاهدين. الأول هو نموذج الدولة المركزية والسلطوية كما ظهرت في سوريا والعراق، الدولة التي تَغوَّلت وتَوحَّشت على مجتمعها ونجحت في تحطيمه وإخضاعه فيزيائياً، وليس روحياً وأخلاقياً، عبر قُدرتها على مراكمة السلطة والثروة ومَركزتها مدعومة باداعاءاتها الخاصة بالسيادة التامة، التي صارت في النهاية حقها المطلق في القمع والقتل دون تَدخُّل. النموذج الآخر هو النموذج اللبناني، وهو دولة مركزية بدورها، غير أن الدخول إلى هذه الدولة يتم عبر الطوائف التي تتقاسم الدولة، بما يجعل منها مَسرحاً لصراع هذه الطوائف وتَنازُعها للاستئثار بالدولة، كونها أيضاً مصدراً للسلطة والثروة. في النموذج اللبناني، والعراقي حالياً، لم تكن الدولة، التي تقاسمتها الطوائف، قوية بفضل قدرة الطوائف على منع احتكار السلطة الكاملة من قبل طائفة ما دون غيرها، لكن هذا جعل الدولة ساحة حرب دائمة، وبالتالي ضعيفة وغير قادرة على ضبط نزاعات الطوائف نفسها. هكذا تجدُ الدولة نفسها دوماً في حالة حرب أهلية، حارّة أو باردة. الحرب الأهلية التي تُميز هذا النموذج تعودُ في جزء كبير منها إلى الطبيعة الضمنية للدولة نفسها ومَركزة السلطة فيها، ذلك أن من يفوز بالدولة يصبح قادراً على سحق أعدائه والظفر بقدر هائل من مصادر القوة.

        يبدو الخيار الفيدرالي نموذجاً يسمح لنا مبدئياً بتفادي النموذجين؛ النموذج المُفرط في مركزيته وسلطويته كما في السورية-العراقية ونموذج الدولة الهشة كما في الحالة اللبنانية-العراقية، وذلك عبر توزيع السلطة ومصادر الثروة والقوة المتاحة لها أفقياً وعامودياً، بما يمنع مَركَزة قدر كبير من السلطة والقوة في مكان واحد يصبح الاستيلاء عليه غاية أي فريق من أجل الظفر بكل الموارد وسحق خصومه، وهو ما جعل نطاقَ الدولة ينوس بين السلطوية أو الحرب الأهلية كما في النموذجين أمامنا.

        إن تقييد وتقليص وتوزيع سلطات الدولة، منذ البداية، يسمح لنا بتفادي أن تصبح الدولة أقوى بكثير من مجتمعها وقِواه، وهذا هو رهان الفيدرالية، أن لا تتمتع الدولة، واقعياً أو إمكاناً، بمصادر كثيرة من القوة التي تتجاوز قُدرَة مجتمعها على مواجهتها.

موقع الجمهورية

—————————–

بسطة كبيرة اسمها دمشق: ملخّص الأحوال المعيشية وحركة الأسواق منذ سقوط النظام/ محي الدين عمّورة

24-01-2025

عندما هرب بشار الأسد من سوريا، كانت الخدمات ومقومات الحياة في أدنى مستوياتها على صعيد الغذاء والدواء والكهرباء والاتصالات والوقود والمواصلات، فعند انطلاق عملية «ردع العدوان» وبدء معركة السيطرة على حلب، كان الوضع كالمعتاد في دمشق، الجميع يركض وراء لقمة عيشه وحياته اليومية.

ثم مع سيطرة إدارة العمليات على حلب بالكامل وتوجهها إلى حماة، بدأت حالة من الاضطراب والترقب في دمشق، وكعادتهم، سارعَ التجار إلى تحويل أموالهم المتداولة في السوق من العملة السورية إلى الدولار الأميركي واكتنازه، فيما هبَّ الناس إلى الأسواق، خاصةً في الأيام الأخيرة قبل تحرير دمشق، عندما تجاوزت قوات إدارة العمليات العسكرية حماة باتجاه حمص. كان الارتفاع جنونياً في الأسعار، إذ وصل سعر صرف الدولار إلى نحو 30 ألف ليرة سورية في دمشق و40 ألف ليرة سورية في حلب، وهو ما انعكسَ على أسعار المواد. ثلاث مواد أساسية، السكر والرز والزيت، فُقِدت تماماً من الأسواق، بالإضافة للكثير من المواد، وإن وُجِدت فأسعارُها خيالية، حيث وصل سعر ليتر الزيت الأبيض إلى 90 ألفاً بعد أن كان 35 ألفاً، والسكر ارتفع سعره من 11 ألفاً إلى 50 ألفاً، والرز الأقل جودةً في السوق من 15 ألفاً إلى 40 ألفاً، طبعاً إن وجد. بتاريخ 6 و7  كانون الأول (ديسمبر)، عاشت دمشق حالة فوضى عارمة، الناس هائمون في الشوارع والطرقات يبحثون عن أي شيء يصلح للأكل بهدف تخزينه في المنزل إلى أجل غير معلوم، لأن الجميع كانوا يتحدثون عن معركة دمشق وكم ستطول.

كانت المحلات في معظمها مقفلة، وما بقي منها كانت رفوفه شبه فارغة إلا من بعض المواد الكمالية التي لم يكن الناس بحاجتها في رحلتهم إلى المجهول. في تلك الليلة لم تنم دمشق، وبقي الناس يترقّبون الأخبار وينتظرون ساعات الصباح، وقبل أن ينجلي الليل بدأت تكبيرات النصر والهتافات في الشوارع تتعالى: «بشار هرب، سورية حرة»، ونزل الناس إلى الشوارع بين مُصدِّق ومُشكِّك، لكنها الفرحة الكبرى التي لم تعشها دمشق وكل سورية من قبل.

مضى ذلك اليوم الخالد في الذاكرة، ليس كغيره من الأيام، وبقيت المحلات مقفلة، لكن ذلك لا يهم، فالفرحة أكبر من الأكل والشرب والنوم. في اليوم التالي بدأت الحياة تعود تدريجياً. إنه اليوم الأول بعد التحرير. شعر الناس بالطمأنينة، وفتحت المحلات والأسواق أبوابها، وبدأت الأسعار تعود إلى ما كانت عليه قبل بدء معركة إسقاط النظام.

الحدث الأبرز كان افتتاح أفران الخبز، المادة الأساسية لدى المواطن السوري. الناس ينتظمون بالدور، واحدٌ للرجال وآخرُ للسيدات فقط، ليس هناك دور للعساكر لأول مرة منذ سنوات طويلة، ولا بطاقة ذكية، و12 رغيفاً بـ4 آلاف ليرة سورية. في اليوم الأول كانت الكمية غير محدودة، لكن تم تحديدها فيما بعد بربطتين فقط، علماً أن الخبز كان يُباع قبل التحرير بحسب عدد أفراد الأسرة على مدى أيام الأسبوع عبر البطاقة، وبواقع 7 أرغفة بـ 400 ليرة سورية. السعر الجديد أغلى بكثير مما كان عليه، لكن صوت الناس كان عالياً هذه المرة: «لا يهم طالما أننا نقف بكرامتنا وننتظم بالدور دون خوف من أحد»، ويذكر الناس جيداً كم من رجال ونساء تم اعتقالهم من أمام الأفران. قبل فترة قريبة كنتُ أحد هؤلاء الذين هُدّدوا بالاعتقال أمام الفرن عندما كنتُ أُصوِّرُ بهاتفي الباعة الذين يأخذون الخبز من خارج الدور ليبعيوه بسعر مضاعف بالتآمر مع أصحاب الفرن، بينما الناس يقفون في الدور لساعات. تم اقتيادي إلى المفرزة الأمنية المجاورة، وهُدِّدت إذا لم أحذف الفيديو بأنه سيتم تسليمي لفرع المنطقة، فحذفته مُرغماً.

تراجع الازدحام على الأفران كثيراً بشكل عام، لكن سعر الخبز حالياً مرتفع جداً مقارنة بالدخل، وسيتضاعف في الفترة المقبلة، إذ أعلن وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك في حكومة تصريف الأعمال، ماهر خليل الحسن، عن خطط الحكومة لإلغاء الدعم عن مادة الخبز، الذي يُعَدّ أبرز المواد الغذائية في سوريا. ويبلغ سعر كيلو الخبز المدعوم في السوق 1000 ليرة سورية، بينما تشير التقديرات إلى أن تكلفته الفعلية تتراوح بين 2500 و3000 ليرة. وبناءً عليه، أكد الوزير أن الدعم سيتم رفعه تدريجياً خلال الشهرين المقبلين.

إلى جانب ذلك، أعلنت الحكومة عن خطط لزيادة الرواتب بنسبة تصل إلى 400 بالمئة في الأيام القادمة، وقدّر وزير المالية محمد أبازيد كلفة زيادة الرواتب بما يربو على 1.65 تريليون ليرة سورية (127 مليون دولار) ستُموّل من خزينة الدولة الحالية، دون أن نعلم إذا كانت الخزينة ستحتمل هذه الزيادة أو تتوافر عليها أصلاً، وعبّرَ عدد من الموظفين عن سعادتهم بهذه الزيادة إن تحققت، لأنها حتماً ستكون أفضل من الراتب الحالي (20 دولاراً)، فيما يرى آخرون أن الزيادة جيدة إذا ما ترافقت مع انخفاض أسعار بعض المواد الأساسية مثل الخبز والغاز، لكن السؤال الذي اعتاده السوريون: «وما هو مصير باقي فئات السوريين ممن ليس لديهم رواتب؟» خاصة أن سوريا واحدة من أفقر دول العالم من حيث الدخل الفردي. وقد صارت هذه الزيادة محطَّ تَشكُّك بعد أن تلكّأت الحكومة بخصوص إقرارها فيما بعد، وبعد أن صار من غير الواضح مَن ستشمل. كما أن هناك سؤالاً إضافياً عن القدرة على ضبط معدلات التضخم في حال طرح كميات كبيرة من النقد السوري في الأسواق، وعن مدى قدرة هذه الزيادة على الصمود إذا لم تترافق مع زيادة القوة الشرائية لليرة السورية، أو بالأحرى تثبيتها عند المعدلات الحالية.

رغم سقوط النظام وتوقّف العمل بالبطاقة الذكية إلا أن رسائل البنزين بقيت تصل إلى المواطنين، الذين كانوا يذهبون إلى المحطات التي ترفض التعبئة بحجة عدم وجود وقود وأنهم ينتظرون التعرفة الجديدة، والتي صدرت بعد أيام وكانت للمرة الأولى بالدولار الأميركي (بنزين أوكتان 95 بسعر 1.29 دولار ، بنزين أوكتان 90 بسعر 1.16 دولار، مازوت أول بسعر 1.028 دولار، مازوت مُحسَّن 0.698، أسطوانة الغاز المنزلي 12.28 دولار). هذه الأسعار بالدولار الأميركي، لكن السعر بالليرة السورية كان مختلفاً، فقد عمل التجار والباعة على حساب سعر صرف الدولار بما يعادل 17 ألف ليرة، وربما أكثر كما هو الحال بالنسبة لسعر أسطوانة الغاز التي ارتفع سعرها إلى 250 ألف ليرة، وقد كان قبل سقوط النظام 25 ألفاً، وهو رقم كبير جداً يُعادل راتب موظف لمدة شهر تقريباً، قبل أن يهبط قبل أيام إلى 170 ألف ليرة. والغاز المنزلي هو المادة الوحيدة التي يتم شراؤها عبر البطاقة الذكية والرسائل النصية حتى الآن، علماً أن كثيراً من الناس وصلتهم الرسائل ولم يستلموا أسطوانتهم لعدم توفّر المال لديهم، بالإضافة لبيعها في الشوارع وعبر سيارات بأسعار متفاوتة تتراوح 250 ألف و300 ألف ليرة. أما البنزين والمازوت فقد بات متوفراً بشكلٍ كبير في المحطات وفي الشوارع، حيث يباع ليتر المازوت الجيد والبنزين بسعر 15 ألف لليتر الواحد حالياً، طبعاً مع وجود مازوت غامق اللون وكريه الرائحة يُستعمل للتدفئة بسعر 13 ألف ليرة لليتر الواحد.

ومع انتشار البنزين والمازوت في الطرقات وتوفّره في المحطات عادت وسائل النقل للعمل وبشكل كبير، حيث غاب الازدحام مقارنةِ بأيام ما قبل التحرير عندما كان الناس ينتظرون لوقت طويل أو يتكدسون في الباصات، لكن الأسعار ارتفعت كثيراً، حيث تبدأ التعرفة في دمشق من 3 آلاف وتصل إلى 5 آلاف داخل مدينة دمشق مقارنةً بألف ليرة من قبل. أما النقل باتجاه أرياف دمشق فقد تضاعفت كلفته كثيراً، الأمر الذي حدَّ من حركة الناس بشكلٍ كبير داخل دمشق ومنها وإليها، أو أَجبرهم على المشي لمسافات طويلة تَجنُّباً لهذه الأسعار. ذلك عدا عن الانتشار الكبير للدراجات النارية والكهربائية والهوائية داخل العاصمة بشكلٍ مقلق، وهي التي كان يُحظَر عليها الدخول أو المرور في كثير من مناطق دمشق.

وفي حوارٍ أجريناه مع سائق أحد باصات النقل الداخلي، علمنا أن شركة زاجل التي كانت تدير المواصلات العامة والنقل الداخلي في إدلب صارت هي المسؤولة عن تشغيل قطاع النقل الداخلي في دمشق، وهي التي تقوم بإدارة شركاته، كما فعلت في بقية المحافظات. وبحسب ما أخبرنا هذا السائق أن هناك الكثير من الحافلات المتوقفة نظراً لعزوف الكثير من السائقين عن العمل تحت إدارة هذه الشركة، والتي تُجبر السائق على شراء عددٍ من دفاتر التذاكر قبل صعود الحافلة بغض النظر إذا بيعت هذه الدفاتر أو لم تُبَع، ما يُضطر عدداً من السائقين إلى تغيير خط سيرهم أكثر من مرة خلال اليوم بحثاً عن عددٍ أكبر من الركاب. وفرضت الشركة تعرفةً جديدة، وهي 4 آلاف بعد أن كانت ألف ليرة فقط قبل التحرير، ثم قامت بتخفيضها إلى 3 آلاف و3.5 ألف للراكب الواحد.

فرحة الوصل المستمر للتيار الكهربائي، ولعدة ساعات في اليوم الواحد، لم تَدُم سوى عدة أيام فقط، وبعدها عاد الوضع إلى سابق عهده، بل وأسوأ، حيث يغيب التيار الكهربائي لنحو عشر ساعات ثم يأتي لساعة واحدة أو أقل. المنطق يقول إن مشكلة الكهرباء لا يمكن حلها بين عشية وضحاها، بسبب الدمار الكبير في محطات التوليد ومعاناة معظم المحطات العاملة من انتهاء عمرها الافتراضي، عدا عن النقص الحاد في الوقود اللازم لتشغيلها. ورغم الوعود المستمرة من عددٍ من الدول بالمساهمة في حل هذه المشكلة، لكن على أرض الواقع لم يصل إلا ما صرّحَ به مدير عام المؤسسة العامة لنقل وتوزيع الكهرباء المهندس خالد أبو دي: «800 ميغا واط قادمة إلى سوريا عبر سفينتين لتوليد الكهرباء من تركيا وقطر ستَرسيانِ ‏في البحر خلال الفترة القادمة، وهو ما يعادل نصف ما يتم توليده حالياً، الأمر الذي سيُسهم في زيادة حصة ‏المواطن من الكهرباء بنسبة 50 بالمئة تقريباً». بالمقابل، لم تنقطع خدمة الإنترنت أو الاتصالات، إلا أن الانقطاع الطويل للتيار الكهربائي يؤثر بشكل مباشر على عمل أبراج التغطية لشبكتَي الموبايل، وهو ما يؤدي لضعف أو انقطاع الاتصالات في معظم الأحيان.

وتبقى للمواد الغذائية حكاية مختلفة، فخلال يومين فقط بدأت الأسعار بالهبوط وبشكلٍ مُتسارع، مع توفّرٍ كبيرٍ لكلّ أنواع المواد. وأعلنت حكومة تصريف الأعمال عن جملة من القرارات ساهمت في هذا الانخفاض، أهمها إلغاء منصّة تمويل المستوردات التي كانت من أكبر أسباب الارتفاع في أسعار المواد، وإزالة الرسوم الجمركية عن الكثير من البضائع وإلغاء معظم القرارات التي كانت تُقيّد قيام القطاع الخاص باستيراد هذه المواد. أما السبب الأكبر الذي هلّلَ له السوريون وكأنه جبل أزيح عن صدورهم، فهو الفرقة الرابعة لصاحبها ماهر الأسد شقيق الرئيس الهارب، والتي كانت تُسيطر على الطرقات والمعابر على خطوط التماس والمنافذ الحدودية، وما كانت تفرضه من مبالغ باهظة على عمليات «الترسيم والترفيق» الخاصة بشاحنات المواد الغذائية وغيرها من المواد، عدا عن احتكارها لكل المواد المستوردة تقريباً، وخاصةً السجائر التي كانت تَحتكر استيرادها وإنتاجها بشكلٍ مباشر أو عبر وكلاء. هذه الأسباب وغيرها ساهمت بانخفاض الأسعار بشكل كبير، وسنعطي بعض الأمثلة على ذلك،  بالمقارنة مع الأسعار السابقة على الارتفاع الذي حدث قبل يومين من سقوط النظام: كرتونة البيض (ثلاثون بيضة) 25 ألف ليرة، فيما كان سعرها قد وصل إلى 75 ألف ليرة، سعر ليتر الزيت الأبيض هبط إلى 17 ألفاً بعد أن كان 35 ألفاً، الأرز 11 ألفاً وكان 15 ألفاً، السكر 8 آلاف بعد أن استقر لفترة طويلة على 11 ألفاً، البطاطا 2500 ليرة للكيلو وكان سعره 13 ألفاً، بالإضافة للحليب ومشتقاته من الألبان والأجبان التي انخفضت أسعارها. البقوليات انخفضت كثيراً، والحمص والفول والعدس هبط من 23 ألفاً إلى 11 ألفاً، الذُرة البيضاء سعرها اليوم 12 ألفاً بعدما كانت 25 ألفاً، الشاي والقهوة والمكسرات أيضاً هبطت أسعارها.

وبطبيعة الحال شهدت أسعار اللحوم كذلك انخفاضات ملحوظة بالنسبة للحم الغنم والعجل والفروج. وأكثر ما يلفت النظر اليوم أسعار الفاكهة، القادم معظمها من تركيا، إذ هناك أنواع كانت تُباع في أماكن معينة وقليلة جداً، واليوم باتت تتواجد في كل مكان حتى على العربات في الشوارع وبكميات غير مسبوقة؛ الموز والكيوي والمانغو والأناناس وجوز الهند والأفوكادو والقشطة والكستناء. غالبية الناس، وأنا منهم، لم يكن يخطر في بالهم السؤال عن سعرها حتى من باب الفضول، واليوم يتراوح سعر الموز بين 10 آلاف و13 ألفاً بعد أن كان قبل فترة 60 ألفاً، وفي الشتاء الماضي كان سعر كيلو الكستناء 175 ألفاً لكنه اليوم 35 ألفاً، والحال مشابه بالنسبة لبقية الأنواع. اليوم أصبح لدينا الفضول للوقوف والسؤال عن السعر، وفي بعض الأحيان القُدرة على شراء بعضها.

وتشهد أسواق وشوارع دمشق وكل المحافظات تقريباً تدفقاً غير عادي للبضائع التركية التي باتت اليوم حديثَ الناس، الطعام والشراب واللباس والأدوات المنزلية ومُؤخَّراً بعض الأجهزة الكهربائية. الواقع يفوق الوصف حتى مع بعض الصور المرفقة، وبفروقات أسعار كبيرة عن مثيلاتها من البضائع السورية، وهو ما شكّلَ عامل جذب لدى المواطن السوري الذي ما زال منذ سنوات يبحث عن السعر الأرخص، وفي كثير من الأحيان على حساب الجودة، رغم أن أسعار البضائع التركية التي أغرقت السوق السورية أقل بكثير وجودتها معقولة جداً مقارنة بسعرها. البسكويت بألفين والجبنة 5 آلاف والمرتديلا 5 آلاف والطون 10 آلاف والسردين 6 آلاف والزبدة 5 آلاف وخمسمئة، والزيت النباتي والشاي والقهوة والمشروبات الغازية ومشروبات الطاقة؛ هذه المواد الأكثر انتشاراً وبأسعار رخيصة جداً. تأتي بعد ذلك الألبسة والأحذية التي باتت تتدفق هي الأخرى بكميات كبيرة وبأنواع مختلفة، خاصةً تلك المُستعملة (البالة)، علماً أن المواطن السوري الذي كان لسنوات طويلة يجد ضالته في الملابس والأحذية المستعملة، تَوقَّفَ عن ذلك في السنوات الأخيرة بعد ارتفاع أسعارها أكثر من المُنتَج المحلي بفعل العقوبات والضرائب المرتفعة التي فرضها النظام السابق على هذه المستوردات.

دفعت هذه الأسعار الرخيصة المنتجين السوريين لخفض أسعار موادهم حتى يستطيعوا مواكبة السوق، وهو ما أدى لهبوط الأسعار بالنسبة للمنتجات السورية أيضاً. ولم تكن البضائع التركية وحدها التي غزت الأسواق السورية، بل الأردنية أيضاً، حيث يدخل يومياً نحو 200 شاحنة قادمة من الأردن عبر معبر جابر الحدودي بدون تعرفة جمركية منذ منتصف شهر كانون الأول (ديسمبر) الماضي، بحسب الأمينة العامة لوزارة الصناعة والتجارة والتموين الأردنية، دانا الزعبي، نصفها يتضمن مواد إنشائية مثل الأسمنت. وبحسب الزعبي فإن التبادلات التجارية بين الأردن وسوريا تستند إلى اتفاقية إقامة منطقة التبادل التجاري الحرة منذ العام 2002، وبموجب هذه الاتفاقية، تُعفى المنتجات الأردنية والسورية المتبادلة من الرسوم الجمركية.

وأصدرت الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية نشرة موحدة للرسوم الجمركية في 11 كانون الثاني (يناير)، وشمل القرار كل المنافذ الحدودية براً وبحراً، لكن ردود الأفعال حول هذا القرار كانت متباينةً بشكلٍ كبير، في الوقت الذي عبّرت فيه محافظة إدلب وتجارها عن استيائهم، رحبت بقية المحافظات بالقرار. وتناولت صحيفة الثورة القرار تحت عنوان الرسوم الجمركية انعكست سلباً على الأسعار في بعض المناطق. وتقول الصحيفة: «تحدثت الفعاليات التجارية عن ارتفاع الرسوم بنسبة كبيرة عمّا كانت عليه قبل صدور القرار، وسط توقعات بارتفاع أسعار المواد وتَضاعُفها بما لا يتناسب مع القدرة الشرائية للمواطنين». وذكرت الصحيفة بعض التفاصيل عن الأسعار الجمركية الجديدة مقارنةً بما كانت عليه سابقاً، وتحديداً في معابر شمال سورية: «بالنسبة إلى البرغل ارتفع الطن من 10 إلى 50 دولاراً، والأرز من 10 إلى 50 دولاراً، والسكر من 10 إلى 50 دولاراً، والدقيق من 2 إلى 20 دولاراً، والسمن من 10 إلى 110 دولارات، وزيت دوار الشمس من 10 إلى 85 دولاراً، والمرتديلا من 50 إلى 500 دولار، والحفاضات من 50 إلى 500 دولار»، وهذه الأسعار وفقاً لما أوردته الصحيفة. وتُضيف الصحيفة أن إدلب تعاني من أزمة إنسانية منذ سنوات، ومعظم قاطنيها من المُهجَّرين في المخيمات، ولذا فإن ارتفاع الرسوم الجمركية سيُضاعف من المعاناة، كما سينعكس سلباً على السوريين الذين كانوا يقصدون المحافظة من مختلف المناطق بقصد التسوّق بأسعار أرخص»، وقد لمسنا ارتفاعاً للأسعار في مدينة دمشق في اليوم التالي مباشرةً بعد الأخبار التي انتشرت بين الناس أن مستودعات الشمال قد أغلقت أبوابها في وجه التجار، وخاصةً في مدينة سرمدا، رغم تأكيد وزارة التموين على عدم تأثير الرسوم الجمركية الجديدة على السوق. ونقلت صحيفة الوطن عن المكتب الإعلامي لوزارة التموين أن التسعيرات الجديدة «لن تؤثّر على السوق»، مع التأكيد على أن الرسوم الجديدة تم وضعها عن طريق لجان متخصّصة، وشاركت فيها عدة جهات معنية كوزارة الاقتصاد والهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية. ولفت المكتب الإعلامي في الوزارة إلى أن رسوم إدخال البضائع عبر معابر مناطق إدلب كانت رمزية أو تكاد تكون صفرية، فيما كانت الرسوم التي يضعها النظام البائد عاليةً جداً، فكان يجب أن يتم توحيد الرسوم في كامل سوريا. كما نوه أيضاً إلى تخفيض رسوم المواد الأولية للتشجيع على الصناعات المحلية. وزعمت الكثير من وسائل الإعلام ومواقع التواصل أن القرار تمَّ التراجع عنه في اليوم التالي، لكن ذلك التراجع لم يصدر عن أي جهة رسمية.

أما الموظفون الحكوميون القائمون على رأس عملهم، فقد انتظروا حتى الثاني عشر من كانون الثاني (ديسمبر) ليقبضوا معاشاتهم لأول مرة بعد التحرير، فيما كان المتقاعدون قد استلموا معاشاتهم قبل ذلك بفترة قصيرة. ورغم أن راتب الموظف الحكومي السوري، الذي يعادل حوالي 20 دولاراً شهرياً، يغطي أقل من 15% من تكلفة السلة الغذائية الأساسية لعائلة مكونة من خمسة أفراد، والتي تبلغ 136 دولاراً، إلا أن ذلك لم يُقلّل من فرحة الموظفين بعد طول انتظار، وقد شهدت الأسواق حركةً إضافية خلال الأيام القليلة التالية لصرف المعاشات، وذلك للاستفادة من نزول الأسعار الذي تحدّثنا عنه. ويبقى الأمل لدى كثيرين بما وعدت به الحكومة، وهو أن تكون هناك زيادة 400 بالمئة في شهر شباط (فبراير) المقبل، لأن الناس يعتقدون أنها ستشتري أربعة أضعاف ما تشتريه اليوم، فهل سيحدث هذا السيناريو فعلاً؟

موققع الجمهورية

——————————————

الدولة بين الشعب والجماعة… سؤال المرحلة السورية الراهنة/ حسان الأسود

23 يناير 2025

تتكشّف كل يوم صور الاهتراء الداخلي في البنية السورية، ليس فقط على مستوى الهويّة الوطنية والعقد الاجتماعي، بل وعلى مستوى الدولة بوصفها جهازاً استدعتْه الصيرورة التاريخية البشرية. قد تكون التجاذبات الطافية على السطح بشـأن الأقليات من جهة، أو حول الضحايا والمجرمين من جهة ثانية، أو حول الشرعية الدستورية أو الثورية من جهة ثالثة، أقلّ ما يشغل الناس الباحثين حالياً عن لقمة العيش، لكنها تؤشّر على حجم التذرّر والانقسام والتخبّط والضياع السوري العام بشكلٍ أو بآخر. لم يعد الانقسام السوري راهناً بين شعبٍ ونظام، فمع سقوط الأخير وجد الشعب نفسه أمام استحقاق تعريف ذاته، فزوال العدوّ الخارجي (النظام) حوّل الجبهة التي كانت شبه موحّدةٍ في عدائها له، ولو ضمنيّاً، إلى جبهات متعدّدة لكل منها ساحات معاركها وأهدافها الخاصّة. ليست هموم السوريين والسوريات حالياً واحدة، فالأولويات تتوزّع عند بعضهم وفق تسلسل سُلّم هرم ماسلو الشهير للاحتياجات. مع كسر أبواب السجون، لم تعد موجودة الدرجة الأولى المتمثلة بالاحتياجات الفيزيولوجية التي كان يحلم بها المعتقلون في صيدنايا وأقبية الفروع الأمنية، لكنّ بقيّة الأولويات لا تزال مُدرجة لدى فئات واسعة، فالسلامة الجسدية والأمان الأسري والصحي والوظيفي ليست بدهية مفروغاً منها. لقد أظهرت صور الانتهاكات من اعتقالاتٍ ومداهمات بيوتٍ وغيرها (فردية كانت أم ممنهجة)، وأظهرت قرارات العزل الوظيفي والحرمان من موارد الدخل والتعيينات في المسؤوليات العليا والوظائف المختلفة، أنّنا في سورية لم نتخطّ العتبة الثانية لهذا الهرم بعد. هل تستوي احتياجات القابعين في الخيام مع احتياجات أصحاب رؤوس الأموال والمستثمرين؟

انتقاد الظاهرة ووصمها بالمؤامرة التي يحاول أصحابها تعكير صفو انتصار الشعب على النظام البائد، ليس أكثر من تغطية الشمس بغربال، وهي إنكارٌ للواقع لا أكثر، وهذا لا ينتج فهمًا له، بل على العكس، ينتج صورة مُتخيلة لتواجه الواقع الحقيقي، وبالتالي، يصبح الحلّ الوحيد الممكن هو الدوران في حلقة مفرغة وإعادة إنتاج آليات التفكير والعمل التي كرّسها النظام القديم ستة عقودٍ خلت. تبدأ إعادة الإنتاج من خلال تبنّي آليات التفكير والعمل التي كان يتبعها الخصم المهزوم، فحتى لو جرى القضاء على جميع مؤسّساته القمعية من أجهزة أمنية وعسكرية وحزبية، وحتى لو تم استئصال شأفة أزلامه وأعوانه، فإنّ استعمال نهجه ذاته مع تغيير اللون أو الشكل يعني إعادة إنتاج الجوهر ذاته.

عندما يجري تجاهل الأطر الدستورية التي تشكّل المستند القانوني للشرعية، وعندما يتمّ إدارة البلاد بالتوجيهات الشفهية، وعندما يتم إعمال مبدأ التغلّب، نصبح أمام إعادة تدوير النظام الذي ثار السوريون عليه. وحتى لو تجاوزنا النقطة الأولى السابقة، على أهميتها وخطورتها، نجد أنفسنا أمام المعضلة ذاتها في كل مفصل وتفصيل جديدين، فعندما تأتي الترجمة الفعلية لخطاب القيادة العليا معاكسةً للظاهر من منطوقها، نكون أمام إعادة تدوير للنفايات السامّة التي نخرت عظم سورية وأهلها. فماذا يعني اعتماد مبدأ الثورية أو مبدأ التديّن لتقييم المحامين أو القضاة، وماذا يعني استبدال الشيخ بأمين الفرقة الحزبية مرجعاً من الجهاز الأمني الذي يرفع تقييمات المرشحين للوظائف والمسؤوليات؟ أليس هذا هو نفسه النظام البائد بحلّة جديدة؟

ليست سورية غنيمة دسمة لمن يرغب بالسلطة أو بالثراء، بل هي حملٌ ثقيلٌ كفيلٌ بإحباط أعلى الهمم وهدّ أقوى العزائم. صحيحٌ أنّه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، لكنّ الخبز شرط للحياة في أساسها، فإذا انعدمت أسباب العيش أصلاً ما عاد يمكن الحديث عن شكل أو مضمونٍ أو تنوّع. وسورية الآن تفتقد كل أساسيات الحياة، ولن تدوم طويلاً مفاعيلُ البهجة والسرور بالتحرّر، ولن يكفي الحبّ كي نعمرها، وسيوجد من يزعّلها إن لم نتداركها قبل فوات الأوان. الوقت الآن متاحٌ للتفكير بعقل الدولة، لا بعقل الثورة أو بعقل الجماعة، فمن يريد إنقاذ البلاد من النفق المظلم الذي خطت أولى خطواتها خارجه، عليه أنّ يسمع أصواتاً غير صوته، وأن يفكر بأنّه مؤقتٌ وهي دائمة، وأنّه جزءٌ وهي كلّ. الدولة أكبر من أن تُدار بعقلية الجماعة مهما كبرت، وحتى لو كانت هذه الجماعة تنظر إلى نفسها على أنّها الأمّة. كالإمبراطوريات، تنتحر الدول عندما تتحزّب لقوميةٍ أو دين، فليس ثمّة شعبٌ خالصٌ نقيٌّ في هذين الانتماءين أو حتى في أحدهما. تصبح الدولة عدوّة ذاتها ومحيطها عندما تتقوقع على دينٍ أو قومية، وتصبح عدوّة شعبها، أو على الأقل جزءاً منه عندما تتبنّى أحدهما. كيف يمكن تصوّر دولة بصفة قومية أو دينية إذا كان شعبها من عدّة قوميات وأديان وإثنيات وطوائف ومذاهب؟ لا بدّ أن كل من هم من غير الدين الذي تبنّته أو القومية التي اعتمدتها سيشعر أنّه خارج هذه الدولة، وأنّها لا تمثله. قد لا يستتبع هذا شعوراً بضرورة الانفصال عند جميع هذه الفئات إذا لم تتوفّر عناصره أو ظروفه، لكنه سينتج حتماً شعوراً بالغربة في الوطن، ما قد يؤدي إلى الولاء للجماعة والانغلاق عليها والتعصّب لها، أو إلى الهجرة وقطع الجذور، وبالتالي الذوبان في المجهول.

تفصيل الدولة على مقاس الجماعة، مهما كبُرت هذه الجماعة، يعني نفيهما. نفي الدولة لأنّه نفيٌ لمقوماتها من حيث هي جهاز حيادي عادل لا صفة تلحقه من دين أو قومية أو عرق أو مذهب أو طائفة، ونفي للجماعة لأنها تحوّلها إلى أمّة من دون أن تكون قد حققت شروط الأمّة. عندما تسمح الجماعة الكبرى في دولةٍ ما لنفسها ببعض الاستثناءات في الدولة وتمنعها على جماعات أخرى مهما صغُرت، فإنّ ذلك يعني تميّزاً غير عادلٍ ولا منصفٍ تجاه الجماعات هذه والدولة ذاتها. مفهومٌ ومبرّرٌ شعور الفرحة عند المسلمين المتدينين الذين حرموا حقهم الصلاة في الجامعات والجيش وكل مكانٍ، عدا المساجد تقريباً، بعد زوال النظام، ومقبولٌ مرّة أو أكثر أداء هذه الشعيرة علناً في الساحات المفتوحة لتظهير هذا الحق والاحتفاء به، لكنّه يصبح اعتداءً على الدولة إن عُمّم على بقيّة الأديان وأتباعها لأنّه سيحوّل الجيش والجامعات والدوائر والمؤسسات إلى دور عبادة، ولأنّه سيكرّس الصبغة الدينية للدولة. كذلك سيكون اعتداءً على أتباع بقيّة الأديان إذا حرمهم من هذا الحقّ وأبقاه لغيرهم.

هذه بقعُ ضوءٍ صغيرة ومتناثرة نسوقها مثالاً عمّا يجب التركيز عليه، وفي تكثيفها وتوسيعها وزيادتها تتضح الصورة الشاملة. سورية الآن في بؤرة التركيز الدولي والإقليمي، وهي لن تتعافى بقواها الذاتية، ولا بقوى أهلها وحدهم، هي بحاجةٍ لكل يدٍ تُمدّ لها، وبحاجة لكلّ عونٍ يسندها. وهذا كلّه لن يتحقّق إذا لم تشمل بقع الضوء اللوحة السورية كاملة، وهذا لن يتمّ إلا إذا وسّعت الإدارة السورية الجديدة دائرة البيكار لتشمل سورية كلها بجميع ألوانها وأجزائها، ولن يتحقّق هذا إلا إذا ميّزت الجماعة نفسها عن الشعب الذي تنتمي إليه، وعن الدولة التي يجب أن تتّسع لكل أطياف هذا الشعب، وأدركت أنّها ليست وحدها الأمّة السورية، وليست وحدها الدولة أيضاً.

العربي الجديد

———————-

من طاعون نظام الأسد إلى حمّى الإسلاموفوبيا/ عبير نصر

24 يناير 2025

ما إن استلمت هيئة تحرير الشام إدارة الحكومة المؤقتة في سورية حتى تبادر إلى أذهان كثيرين أنّ غولاً مفزعاً بات يتسيّد السلطة، سيبتلع الجميع، وتتصل سيولة الخوف السوري بمسوّغات عدّة، ليس بداية بخلافات الفصائل المنضوية تحت لواء الهيئة، وجنوح المتشدّدة منها إلى انتهاكاتٍ سافرةٍ بحقّ الأقليات، مروراً بانفراد الحكومة بالتعيينات بلونٍ واحد، ومبرّرها أنها من ضرورات المرحلة، وليس أخيراً تصريح القائد العام لإدارة العمليات العسكرية أحمد الشرع بأنه لن يجري تنظيم أي انتخابات قبل أربع سنوات، بينما لم يخاطب السوريين حتى اللحظة… إلخ.

بطبيعة الحال، تُنتج الإسلاموفوبيا وهماً بصرياً واسع الطيف، بينما تتطلب المشهديات المتخمة بتحويل الشكوك والإشاعات إلى وقائع قطعية تحليلاً تفصيلياً في ظلّ تعدّد الأجندات والاستراتيجيات والتفسيرات، والذي سيجعل الوصول إلى توافقٍ وطني أو أقلّه إرساء قواعد السلم الأهلي أمراً بالغ الصعوبة على المدى المنظور. يزيد المشهد حساسية أنّ رهاب السوريين لم يأتِ من عدم، إذ من المعلوم أنّ عموم الحركات الإسلامية، حتى أكثرها اعتدالاً وبراغماتية، تنكفئ إلى خطابٍ ماضوي متطرّف يدعو إلى “أسلمة” الدولة والمجتمع معاً، عندما تجد الفرصة مواتية، لينخفض بالضرورة إيقاع صوت الشارع وفاعليته باعتباره القوة الموضوعية الموازية لنفوذها وقوتها. وفي الحقيقة، تكتسب هذه الرؤية بُعداً واقعياً عند تناول المظاهرات التي اندلعت في شمال سورية ضد حكم هيئة تحرير الشام، ووصلت إلى قلبَ إدلب قبل الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024، كجولةٍ أولى من الانفجار الشعبي ضد مشروع الإسلاميين في السلطة، لاعتباراتٍ تتعلق بسوء الأوضاع المعيشية واعتقال المعارضين وقمع النساء ونبذ المختلفين في العقيدة… إلخ.

تعكس كلّ المشهديات العجائبية الحالية تصوّر السوريين المسبق عن الحاكمين الجدد الذين كانوا مضطهدين ومقصيين من السلطة، وما إن تولّوا الحكم حتى شحنوه بأقاربهم وأبناء أيديولوجيتهم، بينما يسعى المتشدّدون منهم إلى استعادة ماضي الوعظ والتذكير بأهوال القيامة، لترتفع الأصوات من قبيل “تطبيق الشريعة” و”الخلافة الراشدة”، بالتالي، إذا سُدّت المنافذ في وجهها جنحت حكماً إلى العنف المطلق لردع طوفان التحديث والعصرنة، ما سيفرز تياراً تكفيرياً يتبنّى مفهوم العدالة “الانتقامية”، له مبادئه وآليات اشتغاله، يُعيد الاعتبار لمركزية الدين ونصوص الطاعة العمياء، ويفاقم الديناميكيات القوية المؤسّسة لفوبيا الخوف من سطوة الإسلاميين، ويعزّز اختلالات تعاملهم مع السوريين، لتغدو العناوين التي رفعها التيار المدني من أجل بناء دولة ديمقراطية بعد سقوط نظام الأسد مجرّد ترفٍ فائض لا قيمة له.

هذا للقول إنّ فرض الإسلام مصدراً رئيسياً للهوية السياسية في سورية التي لا تحتمل مزيداً من الارتجال الشخصي أو الاجتهاد العبثي، سيفتح باب المماحكة المجانية بين من يتبنّى مشروع دولة “الخلافة الإسلامية” ومن يضادها، ليتبيّن، بما لا يدع مجالاً للشك، أنّ ضريبة المشاركة السياسية تحت سقف الحكومة الجديدة باهظة الثمن، بينما ينحسر طاعون مملكة الأسد التي تتفكّك ذاتياً رغم شراستها. الطرح الواجب تبنّيه هنا: كيف ستتعامل هيئة تحرير الشام مع سؤال الدولة وكيفية بنائها وإدارتها، وخاصة أنّ أبو محمد الجولاني، وفي لقاء شهير على فضائية الجزيرة عام 2015، صرّح: “نحن لا يهمنا ما يقوله الغرب عنّا، لكن يهمنا أن نطبق شريعة الله عزّ وجل”. وعليه، هل سيتبنّى، في نهاية المطاف مشاريع الإسلام السياسي على حساب تنحية خيار الديمقراطية والانتخابات نهائياً؟

لا يمكن، والحال هكذا، وضع جميع السيناريوهات المحتملة للحكم في سلة واحدة، فلسورية خصوصيتها التاريخية وسياقاتها الفريدة، وستكون في مواجهة محتدمة مع الإسلاميين الذين لا يقدّمون مبادرات ديمقراطية ذاتية إلا تكيفاً مع الضغوط الخارجية المقترنة بالإغراءات والغنائم المُجزية، فيعيدون تدوير المطالب الملحّة بما يناسب تطلعاتهم، ويبدعون في الانتقاء العشوائي لكباش فداء تُلقى عليهم تبعات ما لا ينسجم مع مسبّبات المآلات المأزومة.

بعد نهاية شهر العسل الثوري، ووسط التشكّك السلبي بالنيات المضمرة للحكومة المؤقتة، ستواجه الأخيرة تحدّيات كثيرة، أبرزها نحت مقاربتها الإسلامية الخاصة بالتوازي مع ضرورة تحقيق قواعد الحكم الدستوري العادل، وخاصة أنّ فصائل كثيرة منضوية تحت لواء هيئة تحرير الشام هي جماعات راديكالية عنفية، تسرح وتمرح في سورية التي شكَّلت مختبراً استثنائياً للإسلاميين في الشرق الأوسط. فصائل تراوح بين جماعات فوضوية جهادية وبين أخرى منظمة تملك أيديولوجيا صلبة، تسعى دائماً للعمل ضمن الهوامش المتاحة لها، فبعد تصريحات مسؤولِيّ الحكومة المستفزة بحقّ المرأة، ها هي النشاطات الدعوية تنتشر في المدن السورية، منها تدعو إلى الحجاب والاحتشام، وأيضاً فصل النساء عن الرجال في وسائل النقل والمصاعد، والصلاة في ساحات الجامعات بشكل استعراضي غير مفهوم، ومهاجمة فعاليات الموسيقى في المقاهي، ولن يكون آخرها بالطبع طرح الورقة السياسية لـ”حزب التحرير ولاية سورية” لمرحلة ما بعد سقوط الأسد، والتي تدعو إلى إقامة دولة الخلافة الإسلامية بشكل صريح وواضح… إلخ.

السؤال الثاني الواجب طرحه: هل تندرج هذه التحرّكات ضمن سياسة “جسّ النبض العام” أم هي تخبط طبيعي وسط انفلات أمني سافر أمام أعين العالم المنشغل بقراءة التوازنات السياسية وصياغتها في ظل حكم الإسلاميين، وانعكاس ذلك على مصالحه؟

إذا أخدنا الواقع السوري في مقارنة موضوعية مع ما جرى في تونس ومصر، حيث حاولت حركتا النهضة والإخوان المسلمين على التوالي الاستئثار بالحكم، فإن تجربتهما المتقدّمة في احتكار الميدان السياسي، وإقصاء كلّ ما عداهم كانت مخيّبة جداً لآمال الإسلاميين، فما بالك ببلد يتفرّد بالتنوع الديني والإثني الهائل، لذا من المؤكد أنّ مشروع “الخلافة الإسلامية المتشدّدة” لا يملك فرصة في سورية، وهي تعلن بداية حقبة جديدة بعدما خلعت أخيراً جلد الاستبداد، لكن لم يتضح بعد أيّ ثوب ستلبس وسط تساؤلات ملتهبة إن كان الإسلام السياسي سيستعيد حضوره “الناعم” بديلاً حتمياً للنظام البائد، أم أنه سيتآكل تلقائياً بسبب الهوّة السحيقة الكامنة بين ذهنية الإسلاميين التي تغذي كلّ ما هو قمعي وهوياتي وواقع الحوكمة على الأرض، والتي ساهمت في انحسار المدّ الإسلامي المتطرف في المنطقة العربية تدريجياً؟

نافل القول.. المستقبل السوري في ظلّ المعطى الإسلامي الحالي غير واضح الملامح، وسيبقى مصدرَ قلقٍ عارمٍ يقضّ مضاجع السوريين، بكل أطيافهم وطوائفهم. أما التنافس المحموم بين فصائل هيئة تحرير الشام، والتي قد تؤدّي إلى التقاتل الدموي بدل تقديم بديلٍ إسلامي واعد للبلاد فيخلق نقاطاً عمياء في الأفق، تعزّز ضبابيتها التعميمات المجحفة من قبيل (من يحرّر.. يقرّر)، كتأكيدات تستند إلى حتميةٍ براغماتيةٍ تتعلق بهوى الأكثرية، باعتبارها صفوة النشوة الإسلامية بعد عقود عصيبة من المظلومية السنيّة.

العربي الجديد

——————-

قوة الدولة وسلطات الأمر الواقع/ عدنان علي

2025.01.24

السلاح خارج سلطة الدولة، هو لا شك عقبة كبيرة أمام أية حكومة لاستكمال عناصر سيادتها على هذه الدولة، فضلاً عن العوامل الأخرى الاقتصادية والمجتمعية، التي تحتم ألا يكون هناك سلاح منفصل أو يتحدى السلطة المركزية، ما لم تكن حيازته بترخيص من هذه السلطة.

وفيما تواصل السلطة في دمشق حملاتها الأمنية وعمليات التسوية، لجمع السلاح الفردي المنهوب من مستودعات وثكنات جيش النظام السابق، أو الموجود أصلا بحوزة بعض المجموعات سواء المرتبطة بذلك النظام، أم لأسباب أخرى، تقف اليوم عدة مناطق في مواجهة سلطة الدولة متذرعة بعدد من المسوغات للاحتفاظ بسلاحها، وهي “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) شرقي سوريا، وفصائل السويداء في الجنوب السوري، بينما تتذبذب الفصائل والمجموعات في درعا بين الموافقة العلنية على تسليم السلاح، والممانعة العملية.

ولعل المسألة-الذريعة الأبرز التي تساق في الجنوب، هي أننا نسلم سلاحنا فقط عندما تكون هناك حكومة منتخبة ومعترف بها دوليا، وليس للحكومة الحالية، بينما تضع “قسد” مجموعة من الاشتراطات أبرزها أن تدخل الجيش السوري الجديد ككتلة واحدة، وليس بشكل فردي، كما تطرح الإدارة في دمشق.

وبطبيعة الحال، فإن هذه العناوين تحتمل الكثير من النقاش، وهناك بالفعل نقاشات ومفاوضات تجري بين الإدارة في دمشق، وهذه الأطراف، لكن يبدو أنها لم تحقق نتائج ملموسة حتى الآن.

غير أنه إذا حاولنا إجراء محاكمة بسيطة لجوهر الفكرة المطروحة سواء في الشمال أم الجنوب، نجد أنها لا تصمد كثيراً على المحك العملي، فكيف يستقيم أن تطالب بوجود حكومة مكتملة السيادة والصلاحية، حتى تسلمها السلاح، وتمتنع في الوقت نفسه، عن منحها أهم عنصر لاستكمال هذه السيادة، وهو احتكار السلاح.. ثم لماذا تكون منطقة ما، بحاجة إلى تطمينات أكثر من بقية المناطق، وما الذي يهدد هذه المنطقة، ولا يهدد غيرها؟

والواقع، لا يمكن فهم هذا التمنع إلا في إطار محاولة بعض الفصائل الحفاظ على امتيازات اكتسبتها في عهد النظام السابق، دون الاهتمام حقيقة بمصالح ورغبات أبناء المنطقة الذين يشتكي كثير منهم من السلاح الفصائلي ومن السلاح الفردي المكدس في البيوت، ما يهدد السلم الأهلي، ويجعل كل شخص غير مسلح، تحت رحمة الطرف المسلح.

أما في الشرق، فإن أطروحة “قسد” الأساسية للدخول ككتلة واحدة في الجيش، لا تستقيم مع مفهوم الجيش الوطني الذي لا يمكن أن يقوم على المناطقية والعرقية والمذهبية، بل على الوطنية السورية فقط.

خاصة مع ادعاء “قسد” أن قواتها يبلغ عديدها مئة ألف مقاتل، وهذا جيش بحد ذاته، قد يصل حجمه إلى حجم الجيش المنشود كله، والذي من المتوقّع أن يكون عدده بهذه الحدود، كونه سيعتمد على المتطوعين، وليس المجندين.

يضاف إلى ذلك، أن “قسد” تريد أن تبقى قواتها في مناطقها، بمعنى سيكون لدينا جيش مواز إلى جانب الجيش المركزي، وهذا لن يحد من سلطة المركز على تلك المناطق وحسب، بل سيفتح الباب على مصراعيه لمطالب مماثلة من بقية المناطق، ما يعني فشل المشروع الوطني برمته، والذي تدعي قيادة “قسد” استعدادها للانخراط فيه، وهو ادعاء نظري لا تدعمه المعطيات على الأرض.

لا شك أننا أمام محاولة من جانب قوى فصائلية ضيقة، لا تمثل كل مجتمعاتها المحلية، ولا حتى غالبيتهم، للحصول على امتيازات السلطة على حساب تلك المجتمعات من جهة، والدولة المركزية، بما تمثله من بقية المناطق، من جهة أخرى.

هذا فضلاَ، عن وجود تقاطعات حقيقية بين هذه القوى، وقوى خارجية، تسعى لاستغلالها بغية تعميق المشكلات أمام السلطة المركزية، والحفاظ على حالة الضعف والتفكك التي تشكلت في عهد النظام السابق، خاصة إسرائيل التي تسعى أيضاً إلى تسخير الولايات المتحدة وقوتها المنتشرة في المنطقة لتحقيق هذا الغرض، وحرمان حكومة دمشق من امتلاك عناصر القوة المتمثلة في السيطرة على الثروة النفطية والغازية، حيث تشترط “قسد” الحصول على حصص مبالغ فيها من هذه الثروات، على حساب بقية المناطق السورية.

إنّ القوى المختلفة الموجودة في الساحة السورية، بما فيها الحكومة في دمشق، والتي تمثل قوة الدولة وشرعيتها، هي على المحك اليوم، وعلى نتائج هذه المكاسرة مع سلطات الأمر الواقع، ستبنى الوقائع الجديدة في سوريا المستقبل.

والذين تحمّلوا مسؤولية إزاحة نظام متجذر لعقود عن صدر سوريا، لن يسمحوا كما هو مرجح، لقوى داخلية، لديها شبهة الارتباط مع الخارج، بإحباط مشروع إقامة الدولة، والتي يعدون ليل نهار، بأنها ستكون لكل مواطنيها على قدم المساواة، مع الاعتراف بحقوق بعض المناطق في إدارة بعض شؤونها الداخلية.

ولعل الرهان اليوم، هو على المزاج الدولي، خاصة الأميركي، في دعم جهود هذه الحكومة لبسط سيطرتها على كل المناطق السورية، وعلى العلاقة الطيبة التي تربط الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان، والتي قد تتمكن من تجاوز التأثيرات الإسرائيلية السلبية على إدارة ترمب فيما يخص الشأن السوري، بما فيها لجم إسرائيل عن التدخل العسكري في المناطق الحدودية مع سوريا.

تلفزيون سوريا

—————————

تفعيل دور المجتمع المحلي في بناء سوريا المستقبل/ إبراهيم الزبيبي

2025.01.23

بعد سنوات طويلة من الثورة السورية ما يزال المجتمع السوري في مرحلة الانتظار والمشاهدة ويواجه تحديات كبيرة تحول دون انتقاله إلى مرحلة العمل الفعلي والمشاركة السياسية المؤثرة، رغم أن الصراع العسكري قد تمحور حول العديد من الجبهات فإن الصراع الأكبر كان في ميدان الإرادات والأفكار.

إن المرحلة الراهنة تتطلب من المجتمع السوري أن يأخذ زمام المبادرة بيديه، فلا يمكنه الاستمرار في الاعتماد على السلطة في تسيير شؤون الحياة اليومية.

وفي هذا السياق يصبح دور المجتمع المحلي أساسياً في إعادة ترتيب الأولويات وصياغة الحلول الناجعة بعيداً عن التدخلات التي قد تؤدي إلى تغول الدولة على الأدوار الحيوية للمجتمع المحلي، حيث يجب على الأفراد والمنظمات الأهلية أن تضع مصلحة الوطن والمجتمع فوق أي اعتبار آخر وأن تبادر للعمل المباشر مع توسيع دائرة المشاركة السياسية لضمان التغيير الفعلي.

بناء هياكل تمثيلية شعبية فاعلة (من القاعدة إلى الرأس)

من أبرز التحديات التي تواجه المجتمع السوري في مسار التغيير هو غياب الهياكل التمثيلية الشعبية الحقيقية التي تعبر عن إرادة المجتمع وتجمع آراءه، فبدلاً من انتظار الإشارات أو التوجيهات من الدولة أو من القوى الخارجية، لا بُد أن يكون المجتمع السوري هو المبادر في إبراز شخصيات وطنية ورموز شعبية تتمتع بشرعية حقيقية نابعة من ثقة الناس، ويجب أن تقوم هذه الهياكل على أسس مدنية وشفافة لتكون قادرة على التصدي للتحديات الحالية والمساهمة في بناء سوريا المستقبل على أسس من العدالة والمساواة.

إن استعادة زمام المبادرة هي مسؤولية جماعية ينبغي أن يتحملها الجميع من منظمات المجتمع الأهلي إلى الناشطين والأفراد، ولن يتحقق التغيير الجذري إلا من خلال تكاتف الجهود ووجود رؤية مشتركة تراعي مصالح الوطن والمجتمع بشكل متوازن بحيث تكون مصلحة الأفراد والمجتمع على رأس الأولويات.

من  الخطوات الضرورية لتفعيل دور المجتمع المحلي إنشاء تجمعات شعبية على مستوى الأحياء والحارات، هذه التجمعات تلعب دوراً مهمّاً في تجسيد الهوية المحلية وتعزيز التواصل بين الأفراد، كما يمكن أن تكون قوة ضاغطة على الجهات الحكومية لتحقيق مطالب السكان وتلبية احتياجاتهم الأساسية.

ومن ناحية أخرى فإن إنشاء وتفعيل الجمعيات الأهلية التي تُعنى بتأمين الاحتياجات الأساسية للسكان من خلال إطلاق مبادرات خيرية محلية والانتقال من الأعمال الإغاثية الآنية إلى المشاريع المستدامة وتفعيل الوقف الأهلي الذي لطالما اشتهرت به سوريا عمومًا ودمشق خصوصاً.

علاوة على ذلك يمكن لهذه التجمعات أن تلعب دوراً محورياً في إدارة الأحياء وحمايتها سواء من خلال تنظيم دورات تدريبية للسكان في مجالات الأمن المجتمعي أو الخدمات اليومية مثل النظافة والمياه والكهرباء، هذه الخطوات تسهم بشكل كبير في تعزيز القدرة الذاتية للمجتمعات المحلية على التصدي للتحديات الاقتصادية والخدمية التي تعيشه وتستطيع  من خلالها أن تسهم بشكل فعّال في الحد من تغوّل السلطة وتعزيز المشاركة في الحكم.

اختيار مختار ووجهاء الحي وشخصياته

لضمان نجاح هذه التجمعات الشعبية المحلية من المهم اختيار شخصيات تتمتع بتاريخ حافل من الخدمة المجتمعية ولديها القدرة على تمثيل الحي في أي استحقاقات وطنية والمساهمة الفعّالة في حل قضاياه، فيجب أن يكون اختيار المختار ووجهاء الحي عملية شفافة تعكس إرادة السكان وتطلعاتهم بعيداً عن أي تأثيرات سلطوية أو تدخلات خارجية، من الضروري أن يتسم هؤلاء الأشخاص بالكفاءة والنزاهة وأن يكونوا قادرين على اتخاذ قرارات تلبي مصالح السكان وتحقق تطلعاتهم.

إحياء النقاش السياسي وتوجيه الشباب

تفعيل النقاش السياسي داخل الأحياء أمر بالغ الأهمية لتعزيز الوعي السياسي في المجتمع، يجب أن تُنظم جلسات حوارية مفتوحة تدعو جميع أفراد المجتمع للمشاركة ما يتيح لهم فرصة التعبير عن آرائهم بشأن القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تؤثر في حياتهم اليومية، هذا النوع من النقاشات لا يسهم فقط في تعزيز الوعي السياسي بل يُمكّن المواطنين من المشاركة بشكل فعّال في الحياة العامة ويساعد في خلق بيئة مؤهلة للتغيير الفعلي.

في هذا السياق لا يمكن إغفال دور الشباب الذي يمثل القوة المحركة لأي تغيير اجتماعي أو سياسي، من الهام جداً أن يتم تشجيع الشباب على المشاركة في الحياة العامة وتنظيم أنفسهم في منظمات أهلية وتجمعات شعبية وأحزاب سياسية. الشباب هم المستقبل ومن خلال تمكينهم وتوجيههم بشكل صحيح سيكونون قادرين على لعب دور ريادي في إعادة بناء سوريا على أسس جديدة.

دعم الناشطين المحليين وإعلاء صوتهم

من الجوانب الأساسية لتفعيل المجتمع المحلي دعم الناشطين المحليين الذين يعملون في مجالات متعددة مثل حقوق الإنسان والتنمية المستدامة والتثقيف السياسي، إن دعم هؤلاء الناشطين وتوفير المنصات لإعلاء أصواتهم يمكن أن يعزز دور المجتمع في صياغة التوجهات السياسية والاجتماعية للبلاد، إذ يجب أن يسعى المجتمع المحلي إلى خلق بيئة آمنة تحترم الحريات لتبادل الأفكار والرؤى وتدعم الناشطين في مواجهة التحديات.

دور المرأة في تفعيل المجتمع المحلي وبناء المستقبل

إن تمكين المرأة ومنحها المساحة اللازمة للمشاركة في الحياة العامة يعد خطوة ضرورية لتحقيق التغيير المنشود،  فيجب أن تتولى المرأة أدواراً قيادية في التجمعات الشعبية والجمعيات الأهلية وأن تكون جزءاً من عملية اتخاذ القرار على المستوى المحلي.

كذلك فإنّ دعم النساء في مجالات التعليم والتدريب المهني وريادة الأعمال يسهم في تعزيز استقلاليتهن الاقتصادية والاجتماعية بما ينعكس إيجابياً على المجتمع بأسره، بالإضافة إلى ذلك يُعد إشراك النساء في النقاشات السياسية والمجتمعية أمرًا حاسمًا لتعزيز العدالة والمساواة وبناء مجتمع أكثر شمولاً واستقراراً.

ختاماً، إن المجتمع السوري اليوم أمام فرصة تاريخية لإحداث التغيير والتحول من مرحلة الثورة إلى مرحلة البناء المستدام والتغيير الحقيقي، وتفعيل دور المجتمع المحلي يتطلب تحركاً جماعياً قوياً على مستوى الأحياء مع تعزيز قدرة الأفراد على المشاركة الفاعلة في الحياة السياسية والاجتماعية من خلال إنشاء هياكل تمثيلية شعبية حقيقية وإحياء النقاش السياسي ودعم المرأة والشباب والناشطين.

وبذلك يتمكن المجتمع السوري من المشاركة في بناء دولة قوية مستقلة عن التدخلات مع الحفاظ على حقوقه في وجه أي محاولات للتغول والتهميش بحيث يكون المجتمع هو الضابط والمراقب لعمل السلطة والدولة.

تلفزيون سوريا

——————————–

رسالة إلى السيد أحمد الشرع/ رشا عمران

24 يناير 2025

صباح الخير أيها السيد، أنت حاليا تحكم سورية، رضي السوريون بهذا أم لم يرضوا. وبناء على هذا، تقع مسؤوليات على كاهلك وعليك أن تنجزها. لن يطالبك السوريون بالمستحيل، فبعض الملفات تحتاج معجزاتٍ لتُنجز، وأنت مجرّد رجل سعيد الحظ أو سيئه، ليس مهما هذا، لكننا ندرك أن قدرتك محدّدة بالمتاح. والمتاح حالياً يمكّنك من فعل بعض ما يطمئن السوريين، كأن تُبعد عن أماكن التوتّر الطائفي الراديكاليين والأجانب من عناصر الفصائل المتحالفة معك، فالاستفزازات باتت غير محتملة، والانتهاكات لم تعُد مجرّد أعمال فردية، بل باتت نهجاً يعتمد الخطف والقتل والإهانة، ما سينتج المزيد من التوتّر والحقد والكراهية، وسيساعد المتربّصين بسورية على تمويل الخراب، ولا مصلحة لسوري في مزيد من الخراب، إلا إذا كان مؤيدا للأسد مجرم سورية الفارّ.

اقطع دابر هذه الفرصة عن المتربّصين، واقطع معها دابر مزيد من الفتن، واقطع دابر المطبّلين لك ولهيئتك والمحرّضين بخطاب كراهيتهم الذي يبيح مزيداً من الدم السوري. وهذا بين يديك لتفعله، مثلما هي بين يديك دعوة السوريين إلى عقد مؤتمرهم الوطني الأول تحت سماء دمشق، وتركهم يتفقون على شكل لسورية يليق بتاريخها وحضاراتها المتعاقبة، والتي كانت المرأة جزءاً أساسيا فيها. أراقب اليوم، أنا السورية التي تعرف ماذا صنعت النساء السوريات عبر التاريخ، أراقب المحاولات الحثيثة التي يبذلها بعضهم لتحييد السوريات، بحجة “العفّة”، وأرتعب من أن يكون مصير ابنتي وابنتها هذا المصير الخطير.

ولعلك تدرك أيضاً، كما ندرك، أن النصر لم يكن ليتحقّق لولا تضحيات السوريين باهظة الثمن، لولا مئات آلاف المهجّرين الذين لم تنطق حكومتك بجملة واحدة تطمئنهم، ولولا مئات آلاف الشهداء والمفقودين والمعتقلين الذين ترفض اليوم مقابلة عوائلهم بذريعة الوقت، بينما نشاهدك على الشاشات تلتقي بشخصيات سورية كرتونية، غالبها لا يملك أدنى معرفة بالمجتمع السوري الحقيقي، ولن تمنحك صورك معها سوى غضب مضاف من السوريين الذين ما زالوا يتساءلون عن السبب وراء امتناعك عن مخاطبتهم، وشرح تفاصيل مرحلة مقبلة، من المفترض أن يتشارك فيها جميع السوريين بحكومة تكنوقراط تنقذ البلد مما هو فيه، تنفيذا لوعودك للمجتمع الدولي الذي بات قصر الشعب السوري وجهة مبعوثيه.

صباح الخير أيها السيد:

أنت تعرف أن سورية بلد عميق الحضارة، وأن غناها يكمن بتعدّد الهويات فيها، لكن هذا التعدّد يحتاج هوية جامعة، والهوية السورية الوطنية التي يجب أن يفاخر بها كل من يحملها، وهذا لن يحدُث بغير التشاركية في الحكم والقرارات، وبغير الكوادر السورية المختلفة المشارب. الثقة التي تحدّثت عنها في أحد حواراتك لا تبني بلداً، وما يفعله بعض من تثق بهم في الحكومة يشي بذلك بوضوح. محاولات أسلمة القضاء ونقابة المحامين والتعليم والجيش سوف تكون وبالاً على بلدٍ مثل سورية وستسمح للمتربصين بتحشيد مزيد من الغاضبين. لا يُنتج الإقصاء سوى الغضب والغضب مدمّر، أنت تعرف هذا جيداً من تجربة العقود الماضية؛ هل تريد إعادة تلك التجربة؟

صباح الخير أيها السيد:

قد أكون في سن والدتك أو أصغر قليلاً، أحترم سوريّتي، وأحترم مكوّنات كل السوريين وهوياتهم المختلفة. ومن هذا الاحترام، أطالبك اليوم بأن تتصرّف كرجل دولة، لا كزعيم فصيل مقاتل. لا يمكن لسورية أن تحكمها فصائل جهادية، حتى لو ارتدى عناصرها ربطات عنق أنيقة، فالمظهر الخارجي لن يكون مهمّاً إن كانت خلفه عقلية تريد أن تبقي سورية في قائمة الدول المتخلّفة. خطوات البشرية في عصر ما بعد الحداثة مذهلة في سرعتها، ونحن نطلب منك اقتفاء أثر تلك الخطوات، علّنا نلحق نحن الشعب ببعضٍ مما سبقتنا إليه البشرية، أو فلنترحّم جميعا على سورية التي لم يستطع شعبها إنقاذها، حين أتيحت له فرصة استثنائية لفعل هذا.

العربي الجديد

———————————

دمشق… طريق منحدر إلى طبقات الجحيم/ سمر يزبك

23 يناير 2025

قبل الوصول إلى دمشق، كان علينا أن نمرّ عبر بيروت، إذ إنّ مطار دمشق الدولي مُغلق، ولم أعد أحتمل الانتظار! تلك الحيرة التي رافقتنا طوال السنين الماضية، نبحث عن وطنٍ ينتمي إلينا ولا نجد سوى الغربة. في السيارة من بيروت، أسمع صوت الدرون، ذلك الدرون الإسرائيلي المألوف لأهالي بيروت والغزّيين على حدّ سواء. حاولت رؤيته، لكنّه ظلّ غير مرئي، وكأنه ظلّ يرافقنا حتّى غادرنا بيروت.

عند الحدود، في منطقة المصنع، بدأ الصقيع يتسلل إلى أطرافي. كنت أترقب الفرح، لكنني شعرت بانقباضٍ رهيب. لا أحمل أي إثباتٍ أو وثيقة تؤكد أنني سوريّة، لكن هذا لم يكن عائقًا أمام الشاب اللطيف خلف المكتب. عندما رأى اسمي على شاشة الكمبيوتر، ابتسم وقال لي: “أنتِ على راسي”. للحظة، شعرت بأنّ الأسد قد سقط، ثم راودتني أفكار عن احتمال اعتقالي. قال لي الشاب ممازحًا إنني مطلوبة لخمسة أفرع أمن، لكنه أكمل ضاحكًا، وبضحكته وجدت نفسي فجأة داخل سورية.

السماء الزرقاء كانت واسعة، والغيوم بيضاء ناصعة. الطريق الملتفّ بين الهضاب ينحدر ويتلوّى نحو العاصمة. آثار السيارات المحترقة وبقايا الحواجز الأمنية لا تزال تروي قصصًا من الألم والرعب. حاجز الفرقة الرابعة يلوح لنا في الطريق، ثم آخر وآخر…

أنظر إلى المكان وأسأل نفسي: لماذا عدتُ؟ ولا أعرف الجواب. لا أطيق اللغة وتعبيراتها البكماء في مثل هذه الحالات. شباب الهيئة الذين ينتشرون على الحواجز يبدون متعبين، ولكنهم قادرون على الملاطفة والكياسة. نرفع أيدينا بالسلام، فيردّون التحية بفخر. يبدون مثقلين بالهموم.

لا أعرف كيف أُبهج نفسي أو أفرح، وأنا أراقب الطرقات والآليات العسكرية المدمرة، والسيارات المدنية والعسكرية. الطريق المنحدر يبدو صحراويًا. أحاول تذكّر طريق بيروت – دمشق كيف كان، ولا أفلح. في رأسي فراغٌ كامل.

ثم ندخل دمشق. لا أعرفها تمامًا. لم يكن مرّ زمن طويل حتى أنسى، لكني لا أذكر! أشعر بأنّها لا تتعرف إليّ أيضًا، وتلفظني. لا تتعرف إليّ ولا أتعرف إليها. نحن غريبتان.

تبدو الرثاثة والتهالك في كل زاوية فيها، في كل تفصيل. بشر يعبرون الطرقات، متعبين، مسرعين. زحام شديد. لا يوجد شرطة، لا يوجد ما يوحي بوجود سلطات ما. لون الغبار يلوّن حتى السماء. الأرصفة متشققة. البسطات منتشرة في كل مكان. المحلات الفارغة تتزاحم أمامها بسطات عشوائية من المنتوجات البلاستيكية، تشكل امتدادًا لشكل المدينة. في كل مكان البسطات، في أي زاوية.

الأطفال ينبتون من الأرض ويشحذون. الرجال ذوو القامات يشحذون. النساء يشحذن. طابورٌ طويلٌ من البشر يتدفق ويشحذ. وبشرٌ مرميّون على الطرقات.

في الفندق، يختلف الوضع قليلًا، لكنّه أيضًا متهالكٌ يدعو للرثاء. يخبرونني أنّه صارت هناك فنادق فخمة للأغنياء الجدد. وأين هي؟

لا يوجد لديّ حنينٌ من أيّ نوع كان. نسيت الكثير من التفاصيل. أعرف المخارج الرئيسية للطرقات في دمشق، لكنني أحاول التدقيق في الوجوه الجديدة التي تظهر في المدينة. لا أتعرف على وجهي في مرآة سائق السيارة. هذه ليست أنا! الناس يعتقدون أنني سائحة، ولمجرد أنهم يفعلون ذلك، أشعر بغصّة كبيرة.

ساحة يوسف العظمة بقيت على حالها، وربما جدّدها أحدهم. دمشق بلا صور الأسدين، بلا أثرٍ لتماثيل. في مقهى الروضة، يجتمع أناس كثر. قبلات وأشواق بين العائدين وبين المستقبلين. أحاول مدارة خجلي من فكرة أننا نعود الآن بعد هذا الوقت الطويل، ننظر إلى الأماكن وكأننا نراها للمرة الأُولى.

أراقب ما يحصل حولي وأحاول فهم كل شيء. أحاول فهم لغة العنف في السلامات، وأتجنب تلك النظرات، نظرات من عرفناهم وفي لحظة ما كأنهم يقولون لنا: “نحن من بقينا”. لا أحد يقولها بوضوح، لكنّها ظاهرةٌ في الملامح.

الفرحة تبدو على وجوه الجميع. أحاول التفكير بأنّ كلّ هؤلاء الداخلين والخارجين إلى هذا المكان في حالة نشوة، غير مصدقين أنّهم هنا في سورية من دون عائلة الأسد. يرقصون، يضحكون، ويبتهجون.

أنظر إلى ذلك الرجل الذي يقف أمام باب مقهى الروضة يطلب ثمن رغيف خبز. في شارع الصالحية، الخوذ البيضاء يقومون بغسل الشارع، ومجموعة شباب يطلون بعض الواجهات وينظّفونها. مبادرات مدنية تنتشر في كلّ مكان، تحاول تغيير وجه المدينة الكالح.

يريد السوريون أن يعودوا للحياة. صار لهم، كما يعتقدون، مستقبل وأمل بأيام قادمة.

تمشي في سورية وكأنّك تعبر عبر سورياتٍ متعددة، في طبقات متداخلة ومختلفة. هناك أنشطة للمجتمع المدني، أمسيات، حوارات، وشباب وصبايا ينظفون الشوارع بحماس. هناك من يدور على البيوت ليمنح مساعدات، وهناك رجال الهيئة الذين يجوبون الشوارع دون أن يؤذوا أحدًا. أحاول في كل مرة أن أقترب منهم وألقي السلام. أحب تلك العبارة: “السلام عليكم”، ويجيبونني ببهجةٍ وفخرٍ في آن واحد. يبدو عليهم أنهم، مثلنا جميعًا، يستغربون ما يجري حولهم.

دمشق هي طبقاتٌ من جحيم دانتي، لكنّها تسير متوازية في إيقاع متسارع. في شارع واحد، تستطيع أن ترى عدة سوريات تعبر أمامك، تتداخل وتتصادم. لا يوجد هنا بحث عن الحب أو بياتريس كما فعل دانتي. أنا أبحث عن مدينتي، وأبحث عن نفسي، وفي الوقت نفسه أحاول الاختباء من كل المعارف. لا أستطيع الابتسام، ولا أملك طاقة للعناق بحرارة.

أسمع من حولي همسات: “الإسلاميون استلموا الحكم”. الناس يرددون هذه العبارة في أماكن متعددة. الجميع ملّ من النظام السابق، حتى مؤيّدوه. هؤلاء أنفسهم صفّقوا للقادمين الجدد. النظام السابق لم يترك أي فرصة حتى لمواليه. الجميع الآن يشتم، لكن لا أحد يعرف إن كان هذا من الخوف من السلطات الجديدة، أم من القرف واليأس من إجرام الأسد.

الكل خائف. الكل يترقّب.

في باب توما، أرى العائدين في كل مكان، نشطاء، صحافيين، وناسًا جاؤوا من بلاد الغربة. تمتلئ فنادق باب توما بالعائدين الذين لم ينتظروا طويلًا. الكل مشتاق للعودة، لكن باب توما لم تعد كما كانت. يحاول الناس ألّا يخرجوا ليلًا. هناك أنشطة كثيرة في كل زاوية، وهناك من يقول: “لقد عدنا لنبني سورية”. لكن لا أحد يعرف إن كانوا سيعودون بشكل دائم أم إنها مجرد نزهة لإطفاء الأشواق. الاحتمالات مفتوحة، وأنا أراقب طبقات الجحيم، متنقلة بثقل كبير بين طبقة وأُخرى.

ذهبت إلى ريف دمشق. في جوبر، المدينة المدمرة كلّيًا، القريبة جدًّا من ساحة العباسيين، يختلف العالم تمامًا. نخرج من الزحام الخانق والهواء الملوّث إلى مدينة أشباح. أنظر إلى وجهي في مرآة السيارة محاولًة التعرف على نفسي والهدوء، لكنني لا أجد نفسي هناك. أهرب من وسائل الإعلام. لا أحد يصدّق أنني لا أملك كلمةً واحدةً تستطيع التعبير.

أفكّر دائمًا في قدرة اللغة على التعبير في حالات مماثلة، وأشعر بالخجل من عيون البشر التي تنظر إلينا كعائدين. لو استطعت أن أقول لهم: “خذوا من لحمي وكلوا”. لكنها تبقى مجازات روائية في عقل امرأة تشعر بالعار من وجود هذا العالم المتوحش واستمراره. عار أنني أنتمي إلى هذا الجنس البشري.

ألتقط الصور، واحدة تلو الأُخرى، في جوبر. المدينة مهدّمة بالكامل. واضح أن حقدًا كبيرًا انصبّ عليها. التقيت بمجموعة شباب، ثم توجهت إلى رجل قال لي إن بيته هنا مهدّم، وهو يقوم بزيارته. عاد إلى جوبر بعد سقوط النظام. كان مطلوبًا للمخابرات، وعائلته نازحة، وبيوت أهل جوبر مرمية على الأرض.

سألته إن كان سيعود ليعمّر بيته، فأجاب بأنه ينتظر الحكومة لتعيد الإعمار، لكنه صبور. يقول: “أمام الحكومة الكثير من الأهوال والمشاكل”. ثم أضاف: “علينا جميعًا، كسوريين، أن نساعدهم وألا نستعجلهم”.

ابتلعت غصة. يا للطفه! اللطف أداة سياسية. قلت له: “وهل تنصحنا أن نتمهل عليهم؟”، فأجاب: “سورية خربانة وبدها سنين وسنين لتقوم. خلونا نكون رحيمين!”.

لا أتوقف عن البكاء. يخبرنا بعض الشباب ألّا ندخل بين البيوت لأنها آيلة للسقوط وخطرة. معنا مجموعة من الأصدقاء، ولا أريد التنغيص عليهم فرحتهم بسقوط النظام. أبتعد عنهم وأدخل في خراب البيوت، أحاول أن أوقف دموعي، لكنني لا أستطيع. حجم الدمار مرعب.

رأيت دمارًا هائلًا من قبل، في الشمال السوري، مدنًا وقرى بأكملها مدمّرة، وكان ذلك في عامي 2012 و2013. ولكن الآن، في دمشق، في مدينة تبدو كأنها مأهولة بأشباح وخيالات بشر، يرون بيوتهم المهدمة وينتظرون، يطلبون منا الصبر، أدركت أنني لا أستطيع الوقوف على الحياد! أعتذر من الجميع وأبتعد.

في داريا ودوما يبدو الوضع مختلفًا. الدمار كبير، لكن هناك بيوتًا ما تزال قائمة، وبشر يحاولون ترميم الحياة. يعيشون في بيوتهم المهدّمة، يستعيضون عن زجاج النوافذ بالبلاستيك. يعيشون في أماكن فارغة إلا من وسائد وفرش إسفنجية. أطفال ينبشون بين الركام، ربما يعثرون على شيء ما ليبيعوه ويشتروا الخبز.

يخبرني أحد الرجال أن بيته المقصوف، الذي أعاد بناءه، قامت شركة إنتاج سينمائي بهدمه مرة أُخرى ليكون مناسبًا للتصوير. سألته: “وماذا فعلت؟”، فأجاب: “عندما انتهوا، أعدت بناءه”.

صورة الدمار رهيبة. الألواح الإسمنتية تتلوّى، المادة الصلبة تتحول إلى سائلة، وكل ما حولي يبدو كأنه يتداعى ويسيل، وكأن عالمًا بأكمله يتحول إلى ماء. تختفي الحدود بين المادي والمحسوس. كل شيء مائع، يقترب من التحول إلى العدم.

في دوما، البشر أكثر نشاطًا. رغم خراب المدينة وتاريخها النضالي، الناس يركضون، يسعون، يلتقون، يجتمعون، ويتحركون. تبدو المدينة أقل استعدادًا للموت، كأنها مدينة محاربة، لا تستسلم.

أما في حرستا وزملكا وعربين، تلك البلدات التي تعرضت للكيماوي، فالمشهد لا يقلّ وحشية. دمار في كل مكان، ومع ذلك تستمر العائلات والبشر في متابعة حياتهم. الأطفال في هذه البلدات لا يشحذون، على عكس أطفال دمشق. هناك، الأطفال الشحاذون ينبتون كالعشب، عشب مدينة دمشق اليابسة. أتجنب النظر في عيونهم، فهي تحمل من الوجع أكثر مما أستطيع احتماله.

عند العودة إلى دمشق، أحاول أن أتعرف عليها من جديد. أنظر إلى الوجوه الجديدة، ليس فقط وجوه المقاتلين. تبدو دمشق وكأنها للمرة الأولى تستقبل ناسها كعاصمة. يدورون في كل مكان، ويمشون في شوارعها. في قلب ساحة المرجة، تجلس عائلات، تضع صور المفقودين والمختفين، وتنتظر. نساءٌ يرتدين ثيابًا محلية سوداء، عائلات من الرقة ودير الزور وريف حلب، أطفال ونساء وصبايا يتربعون في الساحة. ساحة المرجة نفسها تغيّرت. شعرت بقليل من الفرح لأنني تذكرتها. آخر مرة كنت فيها هنا كانت في مارس 2013، خلال التظاهرة السلمية التي خرجنا فيها مطالبين بإطلاق سراح المعتقلين وإلغاء قانون الطوارئ.

الساحة اليوم تبدو كالحةً، لكنّها خالية من وجوه الشبّيحة المخيفة التي ما زالت تأتيني في كوابيسي. كنت أنظر، أحاول فهم الوجوه، وأبحث عن وجوه الشبّيحة الجدد. لكل مرحلة شبّيحة!

لا أريد زيارة الأماكن الراقية في دمشق. لم أحب يومًا ساحة الأمويين، على عكس الأصدقاء الذين استنكروا قولي هذا وأصروا على أنّها تستحق الزيارة، لكنني رفضت. صور بلدات ريف دمشق لا تفارق خيالي، المدن التي تتجاهلها الإدارة الجديدة، فلا تزورها ولا تتحدث عنها. الحكومة التي تعيش في قصر الشعب وتترك الشعب؛ الشعب اللطيف الذي قال أحد أبنائه إنّه سيكون صبورًا معها، وسيبقى نازحًا حتّى تنهي مهمتها. ولكن متى تنظر الحكومة في حاله وحال أمثاله؟

الشعب السوري مُتسامح. أقول متسامح لأنه منذ عام 2000 تسامح مع الأسد الابن واعتقد أنه سيفي بوعده. طوى الشعب السوري صفحة جرائم الأب، وفتح ذراعيه للابن الذي استولى زورًا على السلطة. وماذا كانت النتيجة؟ لقد نكّل بهم.

الشعب السوري المتسامح ينتظر. لا يعدمون الفرصة للبداية من جديد. هؤلاء الذين فقدوا عائلاتهم في القصف وفي المعتقلات، ودُمرت بيوتهم، بالكاد يعيشون على الحدّ الأدنى من الخبز اليومي. وليس هذا مجازًا. إنهم بالكاد يجدون لقمة الخبز، ومع ذلك هم أنفسهم من يريدون أن يعطوا فرصة. لكن من يسمعهم؟

في الفندق، العاملة التي تقوم بالتنظيف تخبرني قصتها. ما زلت أحتفظ بعادة وجود دفتر صغير أكتب فيه قصص من ألتقيهم. تقول العاملة إنّها فقدت اثنين من أولادها في صيدنايا. الشاب الذي يشرف على الفطور فقد أخاه. البنت المسؤولة تقول إنها خائفة من الإدارة الجديدة، لكنها لم تتعرض لأي تعنيف.

صوت فيروز يجعلني أشعر بالامتعاض. لا أعرف ما الذي حلّ بي. ليس الغضب، ولا الحزن. هذا تمامًا ما كنت أنتظره. لم يكن هناك عنصر مفاجأة.

الجملة التي تحرق حنجرتي ما تزال. لقد رأيتها. رأيتها بعيني في الساحات، وفي الطرقات، وبين وجوه الناس، وفي الصالحية، والحمراء، وداريا، وجوبر، وفي كل مكان. “الأسد أو نحرق البلد”. لقد احترق البلد.

وهذه أول مدينة أُعيد اكتشافها، لكن ليس كما يجب. هناك الكثير، الكثير من الحكايات التي كتبتها في دفتري الصغير، بانتظار اكتشاف آخر. وأنا أردد بيني وبين نفسي: ما فائدة تدوين الحكايات إذا لم تكن هناك عدالة؟ ما فائدة كل هذا سوى الإيغال في الثأر والانتقام؟

في محل لبيع المعجنات في باب توما، قال لي البائع: “وهاي وحدة على حب النبي، وأهلا وسهلا فيكم نورتوا بلادكم”. لم أخبره بأنني عائدة، لكني نظرت إلى وجهه اللطيف. كيف عرف؟ ابتسم قائلًا: “باين يا مدام، باين، كيف عم تطلعي فينا!”.

كانت عيناي مشرقتين بالدموع ولم أنتبه. انسحبت وأخذت الفطيرة “على حب النبي”، وأنا أشعر بخجل عميق. يا إلهي، كيف نخفي عيوننا الجريحة؟ يا إلهي، لا تحمّلني ما لا طاقة لي به. يا إلهي، أين ستذهب كل هذه الآلام في هذه المدينة التعيسة؟ يا إلهي، كيف نُصاب بالعمى وننير قلوبنا المكلومة حتى نقف بجانبهم ونخبرهم كم نحبهم؟

ظهر طفل في وجهي، وتراكض حوله عدة أطفال آخرين. قال لي: “قدّيه الدولار يا خالة؟”، نظرت إليه: “ما بعرف!”، أجاب باستغراب: “كيف يعني ما بتعرفي؟”، قلت: “والله ما بعرف!”. أعطيته فطيرة حب النبي وقلت له: “وحياة النبي محمد ما بعرف”. ثم قبّلت يده، وهو ينظر إلي مدهوشًا. تجاوزته، وساحة باب توما مكتظة بالبشر، والسيارات، والغبار، والبسطات. زعيق الباعة ينتشر في كل مكان، يغلّف سماء المدينة بوجوم كالح.

كان يلازمني شعور بأن كل خطوة أخطوها على أرض سورية تحمل ثقلًا لا يُطاق، وكأنني أدوس على ذكرى رفاقي الذين قضوا. لقد كانت هذه الأرض أشبه بمقبرة شاسعة، أنين العظام المتناثرة في المقابر الجماعية المنتشرة هنا وهناك تخترق جمجمتي، تحرمني من رفاهية المنتصر في التعالي على الجراح والنظر إلى الأمام. أعتذر للأصدقاء مرة أخرى لأنني لم أُصب بالبهجة الكافية بعد رحيل الطاغية. لقد سرق مني حتى تلك الفرحة!

* روائية من سورية

العربي الجديد

———————————–

درس علوي في سورية يجدر تأمّله/ راتب شعبو

23 يناير 2025

نظراً إلى الموقع الإشكالي الذي وجد السوريون العلويون أنفسهم فيه، خلال العقود الخمسة المنصرمة من تاريخ بلدهم، من حيث استيعابهم علاقتهم بسلطة الأسد، واستيعاب الآخرين لهذه العلاقة، يمكن أخذ حالتهم بوصفها أحد المعايير أو المشعرات الدالّة على حالة النظام السياسي في البلد.

لا تنبع الإشكالية في تجربة السوريين العلويين خلال فترة حكم طغمة الأسد من وصول أحد أبنائهم (حافظ الأسد) لأول مرة إلى أعلى مركز في الدولة، وما يمكن لهذا أن يعطيهم شيئاً من الاعتبار، وأن يعطيهم شعوراً بالأمان الجماعي طالما افتقدوه، بل تنبع من تمكّن الأسد من السيطرة التامة على جهاز الدولة، ومن إعادة هيكلة الدولة حوله بوصفه حجر الزاوية في النظام. هكذا بات حفاظ العلويين على شعورهم بالأمان يتطلّب منهم (الكلام هنا عن الجماعة وليس عن نسبة منها استجرت من السلطة والثروة ما استجرت) التبعية لنظام طغمة مستبدّة. ينطبق ذلك على جماعات دينية أخرى، مثل المسيحيين الذين لم يكن موقفهم العام مرحّباً بمحاولات تغيير نظام الأسد، ولا تختلف قصة المعارضين منهم لنظام الأسد عن قصة المعارضين العلويين، ما يؤكّد أن هذه المواقف سياسية في أساسها، وأن “طائفيّتها” تأتي من طائفية الإسلاميين الذين كانوا دائماً البديل الراجح في سورية.

كانت بين العلويين نسبة كبيرة، قد تكون هي النسبة الغالبة، تنتقد نظام الأسد بدرجاتٍ متفاوتة، وتشير إلى الفساد والواسطة والتشبيح والتمييز والقمع… إلخ، ولكن هذا النقد توقف دائماً عند حد عدم التغيّر، الحد الذي نادراً ما تجاوزه العلويون في “معارضتهم” النظام. كان لدى العلويين تهيّب وخشية من تغير النظام مهما انحطّ حالهم المعيشي والمعنوي في ظله، لأن ما يخشون خسارته في العمق هو شعورهم بالأمان الجماعي الذي يعانون اليوم من خسارته. هذا ما يفسّر أن تجد عائلة علوية تعلق صورة حافظ الأسد على الحائط فيما يقبع ابنها المعارض في سجونه. وهذا ما يفسّر أيضاً تحفّظ معارضين علويين كثيرين ممن قضوا سنوات في السجون، حين بدا تهديد النظام جدّياً بعد 2011. يمكن الاستطراد بالقول إن العلويين لم يكونوا ليؤيدوا تغييراً لنظام الأسد إلا إذا جاء على يد علويين، بما لا يفقدهم الشعور بالأمان.

في تصوّرنا المبني على متابعاتٍ مختلفة وعلى تواصل شخصي، لا تزيد اليوم نسبة العلويين غير القلقين وغير الخائفين من سيطرة الإسلاميين على مقاليد الحكم في سورية عن نسبة العلويين الذين كانوا يعارضون نظام الأسد، ويعملون على تغييره. هذا يقول إن حال النظام السياسي السابق، كما حال مقدّمات النظام السياسي الذي يتشكّل، غير سليمة. في الحالتين، هناك ارتكاس غير طبيعي من هذه الجماعة على الظرف السياسي القائم. لا معنى للوم الجماعة على ما تشعر به، المعنى يكون في فهم العناصر التي تولّد الشعور وتديمه، حتى وإن كان موهوماً. ورغم حداثة عهد الوضع السياسي الجديد، الواضح أن العناصر التي تثير قلق العلويين لا تتراجع، بل تزيد بالأحرى.

من الناحية الأمنية، وهي الناحية الأكثر أهمية في حياة الناس، يبدو أن حال العلويين انتقل من الشعور بالأمان الجماعي في ظل نظام الأسد، فقد كانوا مطمئنين إلى أن النظام السياسي، بصرف النظر عن كل عيوبه، لن يرتدّ أمنياً ضدهم كجماعة، إلى انعدام الشعور بالأمان الجماعي في ظل بوادر صريحة لنظام إسلامي يخالونه خطراً عليهم كجماعة، يصل القلق ببعضهم إلى حد اعتباره “وجودياً”. طالما كان الإسلاميون الذين باتوا أهل السلطة مصدر خوف رئيسياً في وعي غالبية العلويين، ليس فقط لأن الإسلاميين يصمون العلويين وغيرهم بأنهم منحرفون عن الدين الحنيف، وما يترتّب على ذلك من تبعات سياسية وحقوقية، بل أيضاً، والأهم، لأنهم يحمّلون العلويين، في مجملهم، وزر سياسات النظام وجرائمه، ما يهدّد أمنهم ويجعلهم تحت حكم نظام يُضمر لهم مشاعر عدائية.

في المجريات اليومية لملاحقة “فلول النظام”، يتعامل إسلاميون كثيرون، وبينهم قادة ميدانيون كما يبدو، مع العلويين بوصفهم “بيئة حاضنة” للنظام السابق، ويُدخلون هذه البيئة على أنها مهزومة، أي يدخلونها لا بوصفهم محرّرين ولا فاتحين، كما تقول لغتهم، بل بوصفهم منتصرين، كما تقول أفعالهم. منتصرون ضد جماعة مذهبية “منحرفة” يحمّلونها بكاملها ووحدها مسؤولية السياسة الإجرامية للنظام السابق.

القناعة التي تجد لها مستقرّاً في عقول كثيرين، وتشكّل منطلقاً للانتهاكات ولضياع الرؤية، تقوم على اختزالات ضالّة ولكنها مريحة وتدغدغ متعة التأثيم العام للآخرين، وترضي رغبة الوصم المبطنة بالشر. الاختزال الأول هو اختزال نظام سياسي متعدد نقاط الارتكاز، في بعده الأمني، ثم اختزال البعد الأمني بسيطرة عناصر من البيئة المذهبية لرأس النظام، ثم اختزال هذه البيئة كاملة بهؤلاء العناصر. ينتج عن هذه الاختزالات أن الحرب ضد نظام سياسي سيطر على سورية لمدة تزيد عن نصف قرن، ووجد له مرتكزات في كل البيئات الاجتماعية السورية، هي حرب ضد جماعة مذهبية محددة.

غاب شعور التضامن الوطني لدى العلويين إزاء الجرائم الفظيعة التي ارتُكبت بحقّ البيئات المعارضة، وراء الخوف من سقوط نظام الأسد وما قد يجره عليهم من تبعات (يرى كثيرون اليوم أن ذلك الخوف كان مبرّراً)، مخدرين ضمائرهم بأنهم يقفون مع “الدولة والجيش”، وتظهر اليوم بوادر غياب شعور التضامن الوطني تجاه ممارسات فصائلية مهينة وظالمة بحق العلويين وتجاه العمل على تحويل الجماعة إلى أضحية، وذلك وراء مشاعر عدائية تستند إلى اختزالات ضالة، وإلى تخدير الضمير بالكلام عن “محاربة فلول النظام”. الخاسر في الحالتين هو السوريون جملةً، بمن فيهم من يُبدّون مشاعرهم الأنانية على الشعور الوطني العام. جدير بالعلويين أن يتأملوا الدرس، وجدير بالسوريين كلهم أن يتأملوا الدرس العلوي أيضاً. ليست السلطات هي التي تشق طريق الوطنية، بل التضامن الوطني العام والشجاع ضد أي ظلم، هذا هو السبيل الوحيد لبناء وطن، والسبيل الوحيد لشعور الأفراد والجماعات بالأمان.

العربي الجديد

——————–

لبنان وسورية توائم غير مطابِقة/ دلال البزري

23 يناير 2025

يحصل التحوّل التاريخي أخيراً في سورية بعون من الخارج، وكذلك في لبنان. ما كان يمكن غير ذلك. مجتمعاتهما أو “شعبهما” كما يقول الشاعر، لم “يستجِب لهما القدر”. لم يكونا على قدر “إرادتهما بالحياة”، فكان التدخّل الخارجي خير من هذا القدر.

بعيد ذلك، يصعد إلى سدّة الحكم في سورية رأس واحد، أحمد الشرع. وفي لبنان رأسان جديدان، رئيس الجمهورية جوزاف عون، ورئيس الوزراء نواف سلام. من هذه الناحية الشكلية، لا تختلف المرحلة الجديدة عن الآفلة. كان الأسد وحده على رأس السلطة، قبيل التحوّل. وكان حزب الله متحكِّماً بالبلد، وبـ”رؤساء” أصحاب صفة رسمية.

يأتي التحول برجل، الشرع، صاحب خبرة في حرب العصابات في سورية. وفي لبنان، يُزاح رجال حروب العصابات، ويحضر رجلان جديدان: واحد قادم من مؤسّسة الجيش، والثاني من الديبلوماسية والقضاء. الأول يغيّر اسمه من الجولاني إلى الشرع، ينزع ثياب جهاده ويلبس البنطلون والجاكيت، ويلفّ عنقه بالكرافاتة ويشذّب لحيته… أما الرجلان اللبنانيان فلا يحتاجان إلى الكثير. يلبس الرئيس العسكري بدلته المدنية المعتادة، والثاني يبقي عليها.

في سورية، يُقضى على الحكم القديم بفعل أقرب إلى “الذاتي”. إذ يهرُب بشار، رأسه الأعلى، ويتناثر أهله ورفاقه بين فارّ و”فلول” و”مكوّع” ومتسلّل إلى الخارج. وحدهم كبار الأثرياء من بينهم ينالون الأمان من الحاكم الجديد مقابل دفعهم المليارات. أما في لبنان، فما زال الحاكم السابق، حزب الله، متمسّكاً بأهداب حكمه، رغم خسائره. يضع شروطاً، يفرض مناخاً، يُعلي نبرته، يزنُها. كل هذا من أجل أن لا يخسر مواقعه في المؤسّسات الرسمية، بما يدّر عليه من أسباب البقاء. ورجال السلطة الجديدة اللبنانيين ليسوا كاسرين. وأكثر فعل يداومون عليه، وهو “التطمين”، وأكثر علاقة يصْبون إليها هي “التوافق”.

في سورية، يبلغ الحكم من يمكن وصفه بفرع من فروع الإسلام السياسي السنّي. حاكمها الجديد يبدي منذ اللحظة الأولى لوصوله إلى السلطة درجة عالية من البراغماتية الذكية. يقول إنه لن يقوم بكذا وكيت. ولكنه لا يراجع تجربته الجهادية ولا التي تلتها، السلفية الجهادية، ولا الحكم الإسلامي الذي قاده في إدلب، ولا يتخلص من طقوس الاسلامية الأخرى. أما في لبنان، فيسقط إسلام سياسي آخر، شيعي، يختلف عن غيره من “الإسلامات” بأن المجتمع قاوم جانبه الاجتماعي بكل ما أوتي من حداثة. والفضل بذلك يعود إلى “مكوِّنه” المسيحي، الأعرق حداثة من بين “المكونات” الأخرى.

وفي الحالتين، سيكون على هيئة تحرير الشام أن تتحول إلى حزب إسلامي “مقبول” من جهة المانحين، وربما بصرف النظر عن “إرادة” المجتمع. وسيكون على حزب الله أن “يتحول” بدوره، بخطوات تسمى “مراجعة”؛ أي أن يتخلى عن سلاحه ويكون حزباً لبنانياً طائفياً كنظرائه من أحزاب الطوائف الأخرى.

وبذلك، تكون سورية قد استأنفت علاقتها مع التقليد الشرقي. تقطع مع شيء من الحداثة كانت قد انخرطت بها بعيد استقلالها وحكم الأسد، وتدخل في طور هجين، بحداثة قسرية، وتقليد يقول خطباء السلطة الجديدة ان الحرية الوحيدة الشرعية فيه هي “حرية التديّن”. والعكس في لبنان، الذي يتخلّص من وعود الأئمة الغائبين، ومعارك آخر الأزمان، وضريبة كربلاء… ويستأنف علاقة مع الغرب، فيحيي جو “استعادة الماضي الجميل”، كانت الحداثة فيه علامته الفارقة عن بقية العالم العربي.

خذْ مثلاً: كيف أن زعيم المرحلة الجديدة السورية أحمد الشرع لا يصدّر نساء، إلا بقدر رخو من “البراغماتية”: واحدة بحجاب والثانية بنقاب. والاثنتان يشفّ عنهما الولاء لإسلامية سياسية بخطوطها العريضة. نساء لبنان بالمقابل يصعدن مع التحول الجديد، صاحبات تجارب مهنية طويلة، في مجالات “حداثية”، عُيِّنَ في مراكز رفيعة. فيما زوجتا الرجلين، رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، تخرج صورهما إلى الاعلام: الأولى بمبادراتها الحيوية داخل القصر الجمهوري، بكلماتها عن الجنوب ورسائلها المتفائلة. والثانية بحث عنها الصحافيون ليجدوا أنها لا تقل عن زوجها عطاء وعلماً، في عالمي الصحافة والديبلوماسية.

الحاكم السوري الجديد لم يوجه ولا كلمة واحدة للسوريين. فقط يصرح، يتحدّث إلى زواره أو الصحافة. يومياً، ترتفع أصوات تطالبه بتوجيه كلمة إلى السوريين. الحاكمان اللبنانيان الجديدان، من لحظة وصولهما، يوجهان كلمات مطلعها “أيها اللبنانيات واللبنانيين”، يعرضان “برنامجهما”، يتطرقان إلى المسائل الحارة التي تعنيهما، يطويان الصفحة القديمة.

في سورية، هرب الزعيم بشار بمساعدة الروس. وفي لبنان، قتل حسن نصر الله، زعيم الحزب الذي تحكم بلبنان على يد إسرائيل. إسرائيل تدمّر معظم سلاح هذا الحزب، وتبقي على بعضه. ما يفرض على السلطة الجديدة ذاك “التوافق” معه. في سورية، يخرُج بشّار وتقضي إسرائيل على جيشه. ويمكن بالتالي اعتبار أن مرحلة ما بعد الأسد قد بدأت. وأن مرحلة ما بعد حزب الله تتعقد. سواء أزيح هذا الحزب عن العهد الجديد أو جرى “إرضاؤه” بمنحه بعض الوزارات والإدارات.

ومع ذلك، ثمّة ما يراهَن عليه الحكم الجديد في لبنان: الانتخابات النيابية ستجري حتماً بعد سنة ونصف، بموعدها المقرّر كل أربع سنوات. أما الانتخابات السورية، وبحسب ما أعلن زعيمها الجديد، فستحتاج أربع سنوات مقبلة للتحضير لكتابة الدستور، وسنة إضافية أخرى لإجرائها. في هذه الأثناء، يكون البرلمان اللبناني جديداً، لا نعرف بكم درجة. ولا برلمان سورياً إلا إذا فعلت الضغوط الخارجية فعلها مرّة أخرى.

ولكن ثمّة مشتركاً بين البلدين: السجناء. الاثنان يتبادلانهما. في لبنان حوالي 1700 سجين سوري. وفي غالبيتهم سجناء رأي، معارضون للأسد، اعتقدوا أن لبنان ملاذهم. ولا نحسب هنا السجناء من اللاجئين السوريين، الذين كانوا يعتقلون لنقص في أوراقهم، وتُرفض في الآن عينه طلباتهم للحصول عليها. أما السجناء اللبنانيون في سورية، فأقدم منهم بعشرات السنوات في سجنَي صيدنايا وعدرا الرهيبَين.

أيضاً: يُستبعد أن يحكم رجال لبنان الجدد من دون مشاركة، ولو شكلية، لطائفة بعينها، هي الشيعة. ويصعب على الحاكم السوري الجديد أن يحكم كل سورية من دون أن يتفاهم مع “مكونات” طائفية وعرقية: الكرد، الدروز، العلويين… وحيث لا يُحسب للمسيحيين حساب، فلا منطقة واحدة تجمعهم ولا أراضي.

والمشترَك الآخر: إلحاح مسألة إعادة إعمار البلاد. وقد تكون هذه أولوية الأولويات لدى الحكام الجدد في لبنان وسورية، أو قل معيار العلاقات التي سيقيمونها مع الخارج. وبشار الأسد دمر في سورية أكثر مما دمرت إسرائيل في لبنان.

جبل الشيخ يجمع بين سورية ولبنان. في الحروب الأخيرة احتلته إسرائيل بكامله. وغرز نتنياهو بصمته على ترابه، وأعلن أنه، إذا انسحب من بقية الأراضي التي احتلها في جنوب سورية، فلن ينسحب من جبل الشيخ. أما في لبنان، فالانسحاب الإسرائيلي من جنوبه ما زال موضع أخذ ورد ومطالبات، رغم وقف إطلاق النار. وفي كل الأحوال، لن يكون بعيداً عن مرمى نيرانها.

لبنان وسورية توأمان غير مطابِقين. بين ولادة الأول والثانية لحظات من التاريخ. وهذه اللحظات هي التي صنعت كل هذا الفرق. فهل توسّع التحولات الجديدة هذه اللحظات، أم تضيّقها؟

العربي الجديد،

———————-

هكذا “امتطى” آل الأسد حزب البعث لحكم سوريا/ طارق علي

التحولات البعثية خلال عقود من أقصى الراديكالية العقائدية إلى الفساد المنظم

الخميس 23 يناير 2025

بين الأيديولوجية المركبة والتطبيق الفعلي: هكذا تمكن “حزب البعث” من حكم سوريا طوال 77 عاماً

في صبيحة الـ28 من سبتمبر (أيلول) عام 1961 قاد الضابط السوري عبدالكريم النحلاوي انقلاباً أطاح الجمهورية العربية المتحدة التي جمعت مصر وسوريا منذ عام 1958، وكان يتولى زعامة تلك الجمهورية جمال عبدالناصر، فيما سميت سوريا حينها بالإقليم الشمالي الذي عهدت إدارته المركزية للمشير المصري عبدالحكيم عامر وتعاونه شخصيات سورية بارزة.

في أثناء الوحدة تبادل البلدان البعثات العسكرية وتشكيلاتها ومفاهيم توزعها وآليات دفاعها، ومن بين الضباط الذين خدموا في مصر وفي ظل الوحدة برزت أسماء مجموعة رفاق عسكريين برتب صغيرة بينهم حافظ الأسد وصلاح جديد ومحمد عمران وغيرهم.

كان هؤلاء الضباط يعتنقون الفكر البعثي الذي ولد أولاً على يد المفكر السوري زكي الأرسوزي ثم تبناه وطوره المنظران السياسيان ميشال عفلق وصلاح البيطار، إذ أسسوا حزب البعث خلال السابع من أبريل (نيسان) 1947، أي بعد نيل سوريا استقلالها عن الفرنسيين بعام واحد، وتحت مسمى حزب البعث العربي.

الحاجة لأيديولوجية مغرية

تبنى الحزب الوليد مبادئ أيديولوجية تتعلق بالقومية العربية والوحدة والاشتراكية ومعاداة القوى الإمبريالية، وكانت تعني كلمة “البعث” في تسميته “النهضة”، وبات شعاره الذي استمر حتى انهياره في آخر معاقله داخل سوريا، “وحدة، حرية، اشتراكية”، وكان ذلك الانهيار عقب سقوط نظام بشار الأسد المستند إلى نظام الحزب الحاكم الواحد، وقبله سقوط حزب البعث العراقي مع سقوط صدام حسين عام 2003.

أول ما فعله الحزب الجديد ضمن الطبيعة الفكرية لأسباب نشوئه هو استحداث أفرع إقليمية في عدد من البلدان، بينها لبنان واليمن بشطريه وليبيا والأردن ودول عربية أخرى، ولكنه لم ينجح في الوصول إلى السلطة سوى في العراق وسوريا، وعلى ظهر الدبابات.

الاندماج

خلال عام 1952 اندمج حزب البعث العربي مع الحزب العربي الاشتراكي الذي كان يقوده أكرم الحوراني ليشكلا معاً حزب البعث العربي الاشتراكي، وسرعان ما لاقى الحزب نجاحاً جيداً نسبياً على مستوى الشارع السوري وتمكن من المنافسة بقوة في الانتخابات البرلمانية عام 1954، ليشكل ثاني أكبر كتلة حزبية خلف الشيوعيين بـ15 مقعداً من أصل 142 مقعداً.

وفي ذلك العام شهدت سوريا إطاحة نظام الرئيس أديب الشيشكلي العسكري وحكومته واستعادة رونق الديمقراطية في البلاد، وعرفت تلك المرحلة بمرحلة الحزبين “الشيوعي والبعثي”، لأن كليهما فقط كان قادراً على إمساك زمام الأمور في الشارع وتنظيم احتجاجات ووقفات ومسيرات أو تظاهرات، مستغلين تغلغلهم في صفوف طبقة العمال والفلاحين ونظرياتهم السياسية الداعية للإصلاح الاجتماعي، وتحقيق الوحدة العربية والتركيز على مصر التي كان اسم زعيمها عبدالناصر يجتاح الأرجاء بمشروعه المقاوم لقوى التدخل الخارجي والإمبريالية العالمية.

أول وحدة عربية

مع نهايات عام 1957 ومطلع عام 1958 صاغ البعثيون مشروعاً لإتمام الوحدة مع جمهورية مصر العربية، وكان آنذاك رئيس سوريا شكري القوتلي المنتخب ديمقراطياً مستبعداً من صياغة المشروع السري للحزب الذي أخذ بالتمدد في مفاصل الدولة، مكلفاً عسكرييه في الجيش بالذهاب إلى مصر ولقاء زعيمها وإتمام بنود الوحدة وشروطها وفق مذكرات سفير مصر لدى سوريا قبل الوحدة عبدالمحسن أبو النور.

لا شك أن القيادة السياسية السورية غير البعثية حينها فوجئت بمشروع الوحدة، وعلى مضض من بعض قادتها وقعت تحت ضغط العسكر، وسلم القوتلي رئاسة سوريا إلى مصر، وكانت آنذاك تملأ الشوارع مسيرات مؤيدة للوحدة ومستبشرة بالمشروع التحرري القوي الذي سيغري بلداناً أخرى للانضمام إليه، لكن التطبيق على أرض الواقع كان مختلفاً تماماً، إذ نهش تلك الجمهورية ذات الأعوام الثلاثة الفساد والمحسوبيات والضعف وقلة الحيلة ومن خلالها وعبرها تأسست في سوريا للمرة الأولى ما بات يعرف بـ”الدولة البوليسية”، والتي قادها الضابط عبدالحميد السراج الذي كان يتولى إدارة المكتب الثاني “الاستخبارات العسكرية” ولاحقاً وزير الداخلية، ومن ثم معاوناً لعبدالناصر لشؤون الإقليم الشمالي.

لم يدخر السراج جهداً في قمع معارضيه من وحدويين وانفصاليين، وتماهى مع صنوف التعذيب حتى قيل إنه ابتدع أشدها قسوة، وقيل إن ما من سجين دخل سجون السراج وخرج حياً، للدرجة التي جعلته مضرب مثل في الشناعة والقسوة وعدم الرحمة، وهو الضابط ذاته الذي أذاب القائد الشيوعي اللبناني فرج الله الحلو بالأسيد حتى أذاب جسده وملامح جريمته.

وحدة ممزقة

في عصر الوحدة جاع الناس وخافوا وذاقوا مرارة القهر واندحار حلم الوحدة والديمقراطية والليبرالية والانفتاح والعيش الرغيد، ووجدوا أنفسهم أشباه عبيد لدى ديكتاتور لا يأخذ مطالبهم على محمل الجد ولا يسعى إلى تطوير حال بلادهم، وهو الذي اشترط الحكم المطلق –أي عبدالناصر- إلى جانب حل كل الأحزاب السورية وعلى رأسها حزب البعث صاحب مشروع الوحدة الذي وافق، بانياً آماله على الكسب السياسي السريع من بذرة تكوينه في إحداث وحدة جامعة، إلا أنها كانت ممزقة.

ظروف محلية وإقليمية ودولية دفعت الوحدة نحو السقوط، لكن قبل ذلك السقوط كان لأولئك الضباط العسكريين السوريين في مصر أحلام كبرى تتحدث مصادر متعددة أنها جاءت إثر اجتماعات مع استخبارات دول متعددة، ليعودوا إلى سوريا ويصنعوا مجدهم الذي عاش 60 عاماً، مرة من خلف الستار وأخرى بالتكتيك البطيء، وأخيراً بالحكم العسكري المباشر لحافظ الأسد، الذي كان جزءاً مركزياً في تحركات ما بعد الانفصال.

آخر تجربة ديمقراطية سورية

بعد الانفصال تولى الرئيس ناظم القدسي رئاسة سوريا بين عامي 1961 و1963 ولعلها التجربة الديمقراطية الأخيرة في سوريا، إذ أطيح الرجل وحكومته في ما سمي بثورة الثامن من مارس (آذار)، وهي الثورة التي قادها أولئك الضباط، المجموعة القليلة العائدة من مصر، والتي أطلقت على نفسها اسم “اللجنة العسكرية” وكانت تضم في قيادتها كلاً من الضباط محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد وسليمان حداد الذين كانوا يمثلون التوجه العسكري المنبثق من حزب البعث في سوريا.

آنذاك، كان رئيس الحزب ميشال عفلق، وجرى الانقلاب بموافقة منه استلهاماً من تجربة الانقلاب البعثي العراقي ونجاحه قبل شهر واحد، وليكتسب الانقلاب صبغة ذات شعبية أكبر أُشرك ضابطان من التيار الناصري فيه وهما محمد الصوفي وراشد القطيني والمستقل زياد الحريري، وأيضاً رفعت اللجنة ظاهراً وتمويهاً شعارات تجديد الوحدة وتطويرها، لكنها باطناً كانت تعمل على مشروع سوري سلطوي خالص فما أن نجحت تلك الثورة حتى استبعدت الناصريين ودخلت البلاد عصر التآمر داخل أروقة الحزب والصراعات غير المفهومة ضمن التيار الواحد ورفاق الدرب الذين لم ينج منهم إلا حافظ الأسد.

تخطيط حثيث

كان هؤلاء الضباط يعملون على مدار العام السابق بالكامل من دون كلل أو ملل لإنجاح ثورتهم، فاستهدفوا أولاً تجنيد ضباط وعناصر الجيش لتأمين حماية عسكرية مطلقة للحزب حال نجاح ثورته، مع النية المبيتة لإطاحة ميشال عفلق اللاحقة على رغم موافقته على الانقلاب، لكنهم كانوا في حاجة لاكتساب الشرعية الموقتة عبر وجود شخص مدني يمتلك قاعدة شعبية على رأس الأمانة العامة للحزب.

وفي طور تلاحق مراحل التحضير برزت عدة اتجاهات على الساحة السورية وكان كل ذلك خلال عام 1962، إذ تحالفت اللجنة العسكرية مع الناصريين في مواجهة ما سمي فصيل دمشق، وهو ائتلاف القوى الداعمة للنظام القائم برئاسة ناظم القدسي وكذلك أكرم الحوراني ومناصريه، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الحوراني شريك تأسيس “البعث” والذي كان من أشد مؤيدي الوحدة وتولى خلالها منصب معاون عبدالناصر استقال وصار من أكثر المتحاملين والرافضين لأي مشروع وحدوي، وهو الستار الذي اتخذته خداعاً اللجنة العسكرية في أهدافها، والأعوام اللاحقة أوضحت أن تلك اللجنة لم تقم بثورتها من أجل وحدة جديدة.

وبناءً عليه قبل الناصريون بمشروع اللجنة وتواصلت اللجنة العسكرية مع رئيس شعبة الاستخبارات راشد القطيني سراً، والعقيد محمد الصوفي قائد لواء حمص وكلاهما ناصريان، وبالأثناء كانت تجري اتصالات متسارعة مع العقيد المستقل زياد الحريري قائد الجبهة السورية الإسرائيلية، والذي انضم إليهم انتقاماً من الرئيس ناظم القدسي الذي كان على خلاف معه وفي طور خفض رتبته.

تنفيذ الانقلاب

كان انقلاب اللجنة عسكرياً تقليدياً بالسيطرة على قطاعات وألوية من الجيش السوري ومن ثم إذاعة دمشق وتلاوة البيان رقم واحد، الذي شرح مبررات وظروف الثورة واتهم النظام السابق بالرجعية وضرب أسس الوحدة العربية، ومع قراءة البيان الأول دخلت سوريا في مرحلة قانون الطوارئ الذي بدأ عام 1963 واستمر حتى أُلغي بعيد الثورة السورية عام 2011 بصورة شكلية.

وإلى جانب قانون الطوارئ سيئ الصيت، ألغيت الحريات السياسية والمدنية والاقتصادية والحزبية وصارت تحكم سوريا عبر نظام الحزب الواحد، وأصبحت شعارات البعث ومبادئه عنواناً ثابتاً للدولة على مدار ستة قرون متواصلة، وأصبح شعار “أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة” هو ميثاق الجمهورية وسياساتها العلنية ومناهجها التعليمية وأيديولوجيتها التي اتخذت لها جناحين ثابتين في استمرار تمرير مشاريع أفرادها في السلطة، محاربة إسرائيل، وإتمام وحدة عربية جامعة حين تحين الفرصة المناسبة.

ثورة على الثورة

عقب نجاح ثورة “الثامن من آذار” جرى تعيين حكومة برئاسة صلاح البيطار، وفيما بعد عينت اللجنة العسكرية الضابط أمين الحافظ رئيساً للجمهورية، وظل كذلك حتى عام 1966، إذ قامت اللجنة العسكرية بثورة جديدة أقصت بموجبها ميشيل عفلق من قيادة الحزب وأمين الحافظ من رئاسة الدولة، وكانت بقيادة مباشرة من الضابط البعثي صلاح جديد، وجِيء حينها بنور الدين الأتاسي رئيساً للجمهورية، وكان ذلك واحداً من الانقلابات الدموية في تاريخ سوريا.

بعد اعتقال على أمين الحافظ الذي لم يلب تطلعات ومصالح اللجنة العسكرية تم سجنه وأفرج عنه بعد حرب عام 1967 ونفي إلى لبنان ومنها إلى العراق قبل أن يسمح له بالعودة عام 2003 إلى مسقط رأسه في حلب شريطة الامتثال لأوامر السلطة وعدم المشاركة في الحياة العامة أو السياسية وضمناً أي حديث مع وسائل الإعلام داخل سوريا.

تولى نور الدين الأتاسي رئاسة سوريا بين عام 1966 و1970 عقب خلع الرئيس أمين الحافظ، ولم تكن فترته واحدة من الأوقات الجيدة في تاريخ سوريا، إذ إن رفاق الدرب في اللجنة العسكرية حين انتهوا من تقاسم الغنائم الفكرية والعقائدية والمناصب التفتوا لبعضهم متصارعين حول هوية الرجل الأوحد الذي سيقود البلاد دون شريك في القرار.

صراع الرفاق

برز في ذلك الصراع ثلاثة من أعضاء اللجنة العسكرية، محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد، واستطاع الأخيران إطاحة عمران وأحلامه بعد أن كان وزيراً للدفاع ونفيه إلى لبنان، هناك حيث اغتيل عام 1972 على يد مجموعة مجهولة يتهم معارضو الأسد إياه بالإشراف عليها، لكون عمران منافساً محتملاً للأسد وكان ما زال لديه مناصرون داخل الجيش.

بعد فروغ جديد والأسد من عمران واستتباب الأمر في قيادة البلد لهما، بدأت ملامح من الصراع تتشكل بين الرفيقين القديمين، إلا أن صلاح جديد كان الرجل الأقوى لأعوام، إذ كان هو من عين الأتاسي رئيساً للجمهورية، وهو من عين رئيس الحكومة ووزير الخارجية ووزراء آخرين من بينهم حافظ الأسد الذي رفعه بقرار حزبي– عسكري من آمر للقوى الجوية إلى وزير للدفاع.

حاول جديد أن يحتفظ بالإدارة المدنية للبلاد كأمين للحزب ومسؤول عن مكتب الضباط، وعقب هزيمة 1967 تعالت الأصوات التي حملته مسؤولية ما حصل، إذ أنه تماهى حد الانصهار مع الخط السوفياتي وبالغ في العداء اتجاه دول عربية بعينها مع ترد حاد في الاقتصاد وململة سياسية تطالب بتحرير الأحزاب وتقديم نقد ذاتي ومراجعة أخطاء الماضي، وفي ذلك الوقت كان يعمل حافظ الأسد على إحكام قبضته على الجناح العسكري داخل الجيش ليصير هو القوى الضاربة تمهيداً لما كان ينوي القيام به لاحقاً.

تبلور الخلاف الأخير

خلال سبتمبر (أيلول) الأسود عام 1970 قرر صلاح جديد إرسال قوات مقاتلة إلى الأردن لمناصرة الفلسطينيين، إلا أن الأسد رفض قراره ورفض دعمهم بالطيران تاركاً إياهم لمصيرهم، وهنا اشتعل الخلاف الأخير والحاسم بين القائدين، وفي الـ13 من نوفمبر (تشرين الثاني) وخلال أحد المؤتمرات القطرية للحزب في دمشق، نفذ حافظ الأسد انقلاباً أبيضاً على المجتمعين يدعمه الضابط مصطفى طلاس والذي صار وزير دفاعه لعقود تلت.

نتيجة ذلك الانقلاب كان اعتقال صلاح جديد وقيادة الحزب ورئيس الجمهورية وإيداعهم سجن المزة العسكري، وقد ظل جديد حبيس زنزانته حتى وفاته 1993، ورفض الأسد طوال تلك الأعوام الوساطات والالتماسات في شأن جديد تاركاً إياه لمصيره النهائي في السجن.

سمي ذلك الانقلاب بالحركة التصحيحية المجيدة، وهو يوم كان لا يزال يُحتفل به في سوريا حتى سقوط نظام بشار الأسد، وإثر ذلك الانقلاب تلقى الأسد نصائح بألا يكون في واجهة الحكم لأسباب متنوعة، من بينها معارضة المتحزبين وموالو جديد ولكونه قادماً من أقلية لم يسبق لها تصدر المشهد السوري.

القائد الأوحد إلى الضوء

إثر ذاك قام الأسد بتعيين أحمد حسن الخطيب رئيساً للجمهورية لمدة ثلاثة أشهر خلالها أتم لنفسه الاعتراف المسبق من دول عديدة، قبل أن يقيل الخطيب ويطرح نفسه كمرشح وحيد عبر استفتاء شعبي عام 1971 نجح به بنسبة 99.2 في المئة وبمشاركة 95 في المئة من الشعب، وبذلك يكون الأسد قد افتتح عهد حكمه الذي استمر ثلاثة عقود لسوريا، ومجرياً عهد الاستفتاءات التي تصل نسبها لحدود المئة في المئة، مورثاً إياها مع البلد لولده بشار الأسد.

بدأ الأسد الأب عهده باعتقال كل معارضيه، ثم الالتفات لبناء تحالفات خارجية تبقيه على كرسيه، مراعياً خلال الوقت ذاته شؤون الجيش والأمن والقوات المسلحة كسلاح دفاع متقدم عن مكانته ودوره، صانعاً من نفسه رمزاً لا يجوز المساس به أو التطاول عليه، ملتفتاً في ذات الآن لإعادة بناء حزبه ورئاسته، وفي الحزب كما الجيش، أقام نهج التعيينات بناءً على الولاءات والطاعة، لا الكفاءات والقدرة.

عصر القمع

لعل حافظ استلهم من شخصية وطبيعة عبدالحميد السراج ومنهجية عمله خلال عهد الوحدة، فكان سيفاً بتاراً في وجه خصومه حتى ولو كانوا على أتم الحق، وكذلك في وجه معارضيه، وفي وجه المشكوك بهم ولو كان ظلماً، وفي عصره المليء بالقمع عرف السوريون معنى عبارة “الجدران لها آذان”، فكانوا يخافوا أن يهمسوا ولو بالسر، وحتى وأن يتناقشوا في جلساتهم الخاصة بالسياسة.

من المؤكد أن الأسد استلهم من تجارب أخرى أكثر شمولية من تجربة السراج، تجارب على صعيد بناء دول الحزب الواحد، فعوم البعث فوق المجتمع، ومنح أفراده وقياداته صلاحيات شبه مطلقة، وحول الحاضنة الشعبية إلى أمنية لتكون رديفاً عسكرياً لعسكره، فاستطاع أن يحول الناس لكتاب تقارير ضد بعضهم، حتى جعل الأخ يكتب بأخيه، وخلق صراعات ومنافسات بين الأجهزة الأمنية وفرق الجيش تصب جميعها في خانة إثبات الولاء المطلق له.

التدرج الحزبي

للبعثي ثلاث مراحل يمكن التدرج بينها اختيارياً، إذ يبدأ بمسمى “نصير” وهو التنسيب الإجباري لطلبة المدارس في الثانوية العامة لحزب البعث مع إلزامهم دفع الاشتراكات، ومن ثم تأتي مرحلة العضو المتدرب وقد تستغرق عامين، ومن ثم المرحلة العليا وهي العضو العامل وقد يستغرق الحصول عليها عامين ويزيد، وبعد نيل العضوية العاملة يحق للحزبي حضور اجتماعات معينة والتصويت على قرارات أخرى وتتيح له هذه العضوية التدرج في المناصب الحزبية.

وكذا، صار حزب البعث مطمعاً شعبياً لكونه الوحيد المؤهل للسلطة، ومرة أخرى بناءً على حجم الولاء قد يترفع الشخص في أروقة الحزب من قاعدته وحتى هرميته المتمثلة بأعلى سلطة حزبية عبر القيادة المركزية المكونة من مجموعة أفراد يقودهم رئيس الجمهورية بوصفه أيضاً أميناً عاماً للحزب.

ولهذه اللجنة دور حسم في تعيين المناصب العليا في الدولة، من حكومة ووزراء وضباط ومديرين عامين وفرعيين وبرلمانيين وغيرهم، ويحق لها بما يتبعها مباشرة من أفرع حزب في المحافظات والمدن وفرق وشعب حزبية أن تتدخل في كل شيء ضمن نطاقها الجغرافي، إذ يكون أمين فرع الحزب في محافظة ما أهم وأعلى تمثيلياً من محافظها وقائد شرطتها، بل يمكنه أن يملي عليهم التعليمات.

يعرف السوريون جيداً أن الوصول إلى السلطة يتطلب الوصولية، وحصل ذلك بعد أن نهش الفساد جسد “البعث” وفتته من الداخل، وعلى رغم حفاظه المطلق على ولائه لأمينه العام فإن قياداته استغلت نفوذها في توزيع المناصب وجمع الثروات وجني الإتاوات مبتعدين صورةً ومضموناً عن أيديولوجية الحزب وشعاراته، بل وربما ساخرين منها في سرهم.

باختصار، بات المنصب البعثي أقرب لمكافأة صاحبه على منجز قدمه وليس مهماً أن يكون لمصلحة الشعب، إذ يكفي أن يكون لمصلحة القيادة العامة، وبذلك اختلط يمين الحزب بيساره ليخرجوا بعصارة من القادة الذين لم يقرأ جلهم يوماً شيئاً من نظريات الآباء المؤسسين.

بين مرحلتين

يمكن الحديث هنا أن الحزب نفسه تباين بين مرحلتي حافظ وبشار، على رغم أن التعيين بناءً على الطاعة لم يتغير ولكن طمس هوية الحزب هي ما تغير، فإن كان البعثيون قوميين على عهد الأب وإن كان خجلاً لحفظ ماء الوجه والتمسك بالشعارات الرنانة، فإنهم على عهد الابن استباحوا كل شيء علانية، وصاروا تحديداً في الحرب الأخيرة أمراء حرب ويبدو بعض منهم أقرب للارتزاق من شخص يحمل فكراً نمت أولى بذوره قبل قرن.

كان السوريون خلال الأعوام الأخيرة يلقبون أعضاء القيادة بـ”كهنة المعبد” وذلك لأن جلوسهم على الكرسي كان يستمر ويستمر ويستمر على رغم تغير حكومات وبرلمانات.

مع مطلع شهر مايو (أيار) 2024 أعلن الحزب عن عقد مؤتمره القطري، وفي ذلك المؤتمر وعد الرئيس المخلوع بشار الأسد بإصلاحات جذرية، وبالفعل عزل من طريق الانتخابات كل أعضاء القيادة التاريخيين في المراحل السابقة، وجاء بقيادة جديدة بالمطلق، لكن تلك القيادة لم يكتب لها أن تعمل لأكثر من نصف عام، وهو تاريخ سقوط النظام.

نهج ثابت

تلك النقلة النوعية داخل الحزب كانت لافتة وجريئة فعلاً، وبدا أن الأمر حركة تصحيحية حقيقية، لكن حين النظر إلى الخلفيات التي جاء منها معظم القادة الجدد لم يكن صعباً الاستنتاج السريع أن الحزب يعيد استنساخ نفسه من جديد، محافظاً على عقلية التزكية والطاعة والخلفيات المشبوهة، مبدلاً الأسماء نحو أشخاص بات يرى فيهم ديناميكية أكبر وقدرة على التكيف مع المسار الاقتصادي الذي يحتاج عقليات منفتحة نحو الجباية من خارج الصندوق القديم.

جرى العرف أن تضم أية قيادة مركزية في الحزب إلى جانب الأعضاء المفرغين الأساسيين رئيس الحكومة ووزير الدفاع ورئيس مجلس الشعب كأعضاء مقررين ولكن غير مفرغين بسبب مسؤولياتهم الأخرى، فيما يتولى المفرغون مكاتب متعددة من بينها المكتب الاقتصادي، ومكتب الشباب، ومكتب التنظيم، ومكتب النقابات والمنظمات، والإعلام والثقافة، وغيرهم، وكل رئيس مكتب تفوق صلاحياته أية شخصية أخرى في البلد، عدا كبار ضباط القصر الرئاسي والفرقة الرابعة.

سقوط الحزب

مع سقوط النظام فجر الثامن من ديسمبر (كانون الثاني) 2024 سقط معه بطبيعة الحال حزب البعث، وتناثرت قياداته بين الداخل والخارج، وبالضرورة ولأن الثورة انتصرت فجرى حل حزب البعث بكل ما حمله للسوريين خلال ستة عقود، ستة عقود تمسكت بالاشتراكية لفظاً وتعنتت بالكسب غير المشروع سراً.

والآن بعد مضي أكثر من شهر على سقوط نظام بشار الأسد، وانتظار السوريين انقشاع الغيوم الرمادية من أجوائهم وتبيان وضع مصير بلدهم وإلى أين ستتجه الأمور، فلا شك أن الفرحين لانحلال الحزب الأمني كثر، الحزب الذي انتشر أكثر بين الطلبة وفي المجتمع خلال الحرب الأخيرة وصار أداة للقمع واستنهاض الهمم لمصلحة النظام وضرب الناس ببعضها ومراقبة الأفواه وسبيلاً متمرساً في كيل التقارير وسجن السوريين ظلماً، أما الحزانى فهم قلة قليلة التي استفادت من فساد الحزب وتحصلت على مكتسباتها من خلال علاقاتها بالقيادة القديمة وما يعرف بالمال السياسي، والذي صار ركيزة في حياة الحزب والساعين إلى تسلم مناصب مختلفة.

ويكفي القول إن دخول البرلمان كان يحتم على الراغب به دفع مليارات الليرات السورية ليحظى بالدعم والترشيح والكرسي لاحقاً، وعلى ذلك يمكن قياس توزيع بقية المناصب مهما علت أو تباينت، وهي ذات العقلية التي أوصلت في القريب الماضي طبيباً بيطرياً ليكون وزيراً للتربية، ووزيراً للدفاع لم يتول يوماً مسؤولية قتالية خلال حياته العسكرية، ومرتشين وفاسدين وضالعين في جرائم الحرب وجهلة ومجرمين إلى البرلمان والإدارات العامة والفرعية.

————————————-

الأخطاء الإيرانية المستمرة وأحلام استعادة الدور/ حسن فحص

ما حدث من تطورات في سوريا ولبنان وضع طهران أمام حقيقة الاعتراف بالأدوار الإستراتيجية التي تملكها أطراف إقليمية أخرى

أمام هذه الوقائع والحقائق السياسية والجيوسياسية التي شهدتها المنطقة، تشكل الحلقة السورية المحور الأساس في قراءات القيادة الإيرانية، إذ تخرج الساحة اللبنانية من أي رؤية مستقبلية لكيفية التعامل مع هذه المستجدات، بمعنى أن الساحة اللبنانية التي كانت تعتبر المحور في أي حراك إيراني باتجاه الإقليم فقدت هذا الموقع نتيجة ما أصاب حليفها “حزب الله” من ضربات وخسائر وتراجع جعله يقف على عتبة الترنح.

التطورات الأخيرة في سوريا والتي كانت متسارعة ولم تسمح لطهران والنظام السياسي فيها بالتقاط الأنفاس لمعرفة ما يجري واتخاذ الخطوات التي تخفف الخسائر والتداعيات، وضعت أمام قيادة النظام مسلمة واضحة وصادمة إلى حد ما في الوقت نفسه، نتيجة ما لمسته من تنسيق وتعاون وتخطيط ثلاثي الأبعاد بين الولايات المتحدة وإسرائيل وتركيا باعتبارها عضواً في الـ “ناتو”.

هذا التعاون المدروس وضع القيادة الإيرانية أمام حقيقة أن هذه التطورات من التخطيط إلى التنفيذ كانت تهدف إلى إحداث تغييرات جذرية في موازين القوى في المنطقة والعالم بما يخدم الهدف الأميركي والإسرائيلي بإضعاف “محور المقاومة” الذي تقوده طهران وإحداث تصدعات في موازين القوى الإقليمية، في حين أن تركيا باعتبارها لاعباً محورياً استغلت موقعها الجيوسياسي لتحقيق طموحاتها بلعب دور في المنطقة.

وإذا ما كانت هذه التطورات تشكل مرحلة جديدة لإعادة تشكيل الأوزان الإستراتيجية للاعبين الإقليميين ووضعت القوى المتضررة أمام أزمات جديدة، فإن هذه القراءة تستند إلى معطيات غير دقيقة تقوم على اعتقاد أن إيران ومحورها هما الجهة المتحكمة في مسارات ومعادلات الإقليم، وأن القوى الأخرى تسعى إلى أن تكون شريكاً لهما في هذه المعادلات، مما يعني أن هذا المحور لم يأخذ بالاعتبار عينه أياً من مصالح الدول الأخرى بالاعتماد على فائض القوة التي يشعر بها وقدرته على التحكم في مسارات الأحداث.

ما حدث من تطورات في سوريا ثم ما أدت إليه تداعيات الحدث اللبناني والخسائر القاسية التي لحقت بـ “حزب الله”، وما يشكله من نقطة ارتكاز للنفوذ والمشروع الإيراني في الإقليم، وضع إيران أمام حقيقة الاعتراف بالأدوار الإستراتيجية التي تملكها أطراف إقليمية أخرى عملت على عدم الاعتراف بها خلال العقود الماضية، أو سعت إلى إضعافها وإخراجها من المعادلات الإقليمية.

الدور الكبير والمفصلي الذي تقوده تركيا في المشهد السوري بالتعاون مع الدولة القطرية، وحجم الانكفاء الروسي الذي قد يصل حد تعزيز الاعتقاد لدى القيادة الإيرانية بوجود صفقة روسية – تركية من جهة، وروسية – أميركية – إسرائيلية من جهة أخرى، جعل طهران تستفيق من آثار الصفعة التي تلقتها من هذه الأطراف لتجد نفسها وحيدة في مواجهة هذه المتغيرات المتسارعة التي تستهدف فقط وجودها ونفوذها ومصالحها الإستراتيجية، لتصب في الهدف الأميركي – الإسرائيلي المشترك الساعي إلى محاصرتها وتقليم أظافرها وتقطيع أذرعها وإجبارها على العودة لداخل حدودها، بخاصة أن التطورات السورية ستوافر الأرضية الصلبة لكل من تركيا وقطر في تحقيق الأهداف القديمة التي تطمحان إليها في هذه المنطقة من البوابة السورية، ليحلّ التركي مكان الإيراني في المعادلات الإقليمية، وتستطيع الدوحة تحقيق أهدافها الاقتصادية ذات البعد الإستراتيجي الذي يسمح لها بتصدير مصادر طاقتها إلى الأسواق الأوروبية بسهولة.

أمام هذه الوقائع والحقائق السياسية والجيوسياسية التي شهدتها المنطقة تشكل الحلقة السورية المحور الأساس في قراءات القيادة الإيرانية، إذ تخرج الساحة اللبنانية من أية رؤية مستقبلية لكيفية التعامل مع هذه المستجدات، بمعنى أن الساحة اللبنانية التي كانت تعتبر المحور في أي حراك إيراني باتجاه الإقليم فقدت هذا الموقع نتيجة ما أصاب حليفها “حزب الله” من ضربات وخسائر وتراجع جعله يقف على عتبة الترنح، بخاصة أنه بات غير قادر على التصدي أو استيعاب حجم ما يتعرض له من حصار وتراجع أمام خصومه على الساحة الداخلية، إضافة إلى تراجع قدرة إيران على أن تشكل جبهة دعم له وبخاصة بعد أن استخدمت ورقة انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان كورقة على طاولة مفاوضاتها مع الـ “ترويكا” الأوروبية، وكمقدم لأية مفاوضات محتملة مع إدارة الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترمب.

حجم الإرباك الذي تشعر به القيادة الإيرانية من التطورات السورية وتداعياتها ظهر بصورة واضحة في الخطابات المتكررة لمرشد النظام الذي انشغل في البحث عن مسوغات لهذه الخسارة أو الصفعة التي لحقت بمشروع إيران الإقليمي، إضافة إلى محاولة امتصاص الأصوات الداخلية التي بدأت تطرح أسئلة حول الجدوى من أعوام الدعم التي قدمتها إيران للنظام السوري على حساب مصالحها الداخلية وأمنها الاقتصادي، وبالتالي فإن المرشد والقيادة معه يسعيان إلى تهدئة الداخل انطلاقاً من إحساسهما بإمكان حصول انفجار داخلي وتزايد الضغوط على التركيبة السياسية للنظام.

المناورات العسكرية المركبة التي قامت بها قوات “حرس الثورة” مع قوات التعبئة “باسيج” ومشاركة الوحدات الخاصة والدفاع الجوي والصاروخي والقوات البرية والجوية تهدف إلى إيصال رسالة إلى الداخل والخارج أن النظام على استعداد لمواجهة أية تحديات قد تطرأ على الساحة الداخلية، سواء في مواجهة أية محاولة لزعزعة استقراره الداخلي إن من خلال التظاهرات والاعتراضات، أو من خلال أي تحرك للجماعات المعارضة، أو في استعراض قدراته في التصدي لأي عدوان جوي، مما يعني أنه استعاد قدراته بعد أن تعرضت لخسائر جراء الهجوم الإسرائيلي الأخير، وأنه قادر على مواجهة أي هجوم من الخارج.

في المقابل لا تزال القيادة الإيرانية تعتقد أن الأمور لم تصل إلى المستوى الذي يضعها في خانة خسارة كل الأوراق، إذ تعتقد أن عليها إعادة النظر في سياساتها الإقليمية بالتزامن مع تعزيز قدراتها الدفاعية الشعبية وزيادة الاهتمام بتحقيق العدالة الاجتماعية والأمور المعيشية للإيرانيين والانسجام الداخلي، ومن ثم الانطلاق باتجاه إعادة ترتيب ما بقي لها من أوراق إقليمية وما تملكه من نفوذ وتوظيفه في ترميم موقعها.

الرهانات الباقية للنظام الإيراني تراجعت إلى حدود العمل من أجل الحفاظ على ما تملكه من نفوذ على الساحة العراقية وإبعاد هذه الساحة عن التجاذبات الحاصلة بينها وبين الولايات المتحدة، إضافة إلى تعزيز موقف جماعة الحوثي في اليمن والتركيز على الدور الإستراتيجي الذي تلعبه هذه الجماعة من خلال تحكمها بمضيق باب المندب والبحر الأحمر وطرق التجارة الدولية فيه، بخاصة أنه يشكل استكمالاً للمناورة العسكرية لـ “الحرس” والتي تضمنت محاكاة لعملية إقفال مضيق هرمز، لتكون في نهاية المطاف قادرة على توظيف كل هذه الأوراق من أجل بناء تحالفات مع دول الشرق لتعزيز مناعتها لمواجهة الضغوط الأميركية، وبالتالي تكون قادرة على وضعها على طاولة التفاوض المحتملة مع واشنطن كمدخل لإنهاء العقوبات والحصار وما يحملانه من أخطار تضع النظام في مواجهة مصير معقد داخلياً وإقليمياً.

——————————–

تحرر السينما السورية من أغلال الاستبداد.. آفاق النهضة وتحدياتها/ شام السبسبي

تحديث 25 كانون الثاني 2025

بعد نهاية 54 عاما من حكم الطغيان والاستبداد، تنفض السينما السورية الغبار عن نفسها، استعدادا لخوض غمار تجربة جديدة، وسط أجواء من الحرية والتفاؤل غير المعهودين.

فقد بدأ مخرجون ونقّاد وطلبة علوم سينمائية يبحثون عن مساحة أكبر لفن عانى عقودا من ضروب الجور والتنميط والتهميش، تحت مؤسسات عشش فيها الفساد والمحسوبية، ونظام سياسي احترف إقصاء كل من تبنى حدثا أو حكاية أو لقطة عابرة لا تنسجم مع سرديته الرسمية.

وبالتزامن مع سقوط النظام، وفرار الرئيس المخلوع بشار الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، وجدت السينما نفسها أمام تحدّ من نوع آخر، عنوانه الأبرز “سوريا بلا سينما ولا سينمائيين”، وبلا منابر نقدية، ولا نواد سينمائية، ولا فعاليات تحتضن صناع هذا الفن، وتعرف بهم وبأعمالهم للمهتمين.

دفع ذلك المخرجين والمتذوقين والطلبة وأولي الغيرة على هذا الفن إلى إطلاق فعاليات تعيد للسينما السورية اعتبارها في موطنها، ذلك بعد أن حصدت في الخارج أرفع الجوائز العالمية، خلال سنوات الثورة ابتداء من عام 2011، مؤكدة جدارتها في حمل حكايات وقضايا شعب ذاق أبناؤه كل صنوف العذاب والقهر، قبل أن يهزموا صورة الشر، ويحطموا أصنام الطغاة.

فعاليات النهوض بالسينما بعد سنوات الكبوة

لم يكد يمضي شهر على سقوط النظام، وعودة الحياة تدريجيا إلى البلاد، حتى اختمرت في ذهن الشابين قصي الشهابي وجورج أشقر فكرة ناد سينمائي يحمل اسم “صالون دمشق”.

فقد شعرا أثناء جلوسهما في مقهى دمشقي بعد التحرير، بضرورة أن يسهما من موقعهما -وهما طالبان بالمعهد العالي للفنون السينمائية بدمشق- بتقديم شيء ملموس للمشهد السوري المستجد، بكل ما فيه من عنفوان وإرادة، لإعادة البناء وكنس مظاهر الخوف والهوان.

يقول جورج أشقر، وهو أحد مؤسسي الصالون السينمائي، لموقع الجزيرة الوثائقية: كان الغرض من النادي أن نخلق مساحة فنية للنقاش والحوار، ولعرض أعمال سينمائية تتناول جوانب من الحياة السياسية والمجتمعية في سوريا، وستكون غالبا أفلاما كانت ممنوعة من العرض، وأخرى لأسماء سورية جديدة في عالم السينما، بالإضافة إلى عرض أفلام عالمية يمكن إسقاط أحداثها ودلالاتها على التجربة السورية.

نفض الغبار الفكري.. دعوة لاستغلال سياق التغيرات

يتحدث جورج أشقر عن الدور الشبابي قائلا: إن دورنا -نحن الشباب السينمائي السوري- اليوم هو ببساطة تفعيل البيئة السينمائية في سوريا، لأنها لم تكن فعالة سنوات كثيرة، ولكن المفاجئ في الأمر هو الإقبال الكبير الذي شهدته فعاليتنا (صالون دمشق)، والرغبة الواضحة لمرتادي النادي أنفسهم بتفعيل السينما ودورها، لا بل وإنتاج الأعمال السينمائية أيضا.

ويرى قصي الشهابي أن على الشاب السوري الانطلاق من ذاته، وأن ينفض غبار هذه السنوات عن ذهنه وطريقة تفكيره، داعيا أقرانه إلى “استغلال المساحة التي خلّفها سقوط النظام، للتفاعل مع المجتمع وتوظيف الفن في سياق التغيرات الاجتماعية والسياسية المتسارعة”.

ويشدد الشهابي على أهمية الفن في هذه المرحلة من تاريخ البلاد، فسيكون لها تأثير هائل وبعيد المدى، ولذا “يجب على الفنان التأكيد على أهمية الفن من خلال الفن نفسه، فيوظفه ويستغله بأكبر قدر للتأثير، وبذلك لا يعطيه أهمية أكبر مما هو عليه ولا أقل، بل مهمته تكمن في معرفة مكانة هذا المنتوج الفني أو ذاك، وتقدير أهميته وخصوصيته”.

وقد عرض نادي صالون دمشق السينمائي فيلمه الأول “نجوم النهار” قبل أيام، بحضور مخرجه أسامة محمد في صالة “زوايا” بدمشق.

تحرير مؤسسات السينما من أغلال الفساد

يعرج قصي الشهابي في حديثه لموقع الجزيرة الوثائقية على عيوب المؤسسات الإنتاجية والتعليمية للسينما في سوريا، مؤكدا أنها في عهد النظام السابق كانت سواء مع غيرها من مؤسسات الدولة، من حيث حجم الفساد ودور المحسوبيات.

فجميعها “كانت تعاني من نفس حالة الترهل، وبحاجة إلى اتخاذ ذات الإجراءات، من دون أن تكون لمؤسسة ما خصوصية تختلف عن الأخرى، فجميعها نفس الآلية ونفس البيروقراطية، التي تعمل على الحد من الطموحات، بل تحطيمها وصولا إلى التسبب بضمور المواهب، إن وُجدت”.

ولم يكن أمام السوري سوى بابين؛ أولهما باب التملق الذي يجب أن يقدم فيه صكوك الطاعة والولاء لكل من هب ودب في مؤسسات الدولة ليبلغ مرامه، وثانيهما باب الاعتماد على الذات، وغالبا ما يفشل طارقه، لمحدودية الموارد والفرض وضعف الإمكانيات.

ويتحدث عن المؤسسة العامة للسينما، وهي المؤسسة الوطنية الوحيدة للإنتاج الفني السينمائي في البلاد، ويرى ضرورة أن يدرك القائمون عليها أنها أولا “عامة” وليست خاصة بأفراد معينين، وثانيا أنها يجب أن تعمل بعيدا عن الشعارات لإعطاء الفرص للمواهب الجادة، والمساحة لوجهات النظر المختلفة، بعيدا عن الموقف أحادي الجانب، كما كانت على عهد النظام.

“حان الوقت ليشاهد السوريون أفلامهم”

يرى قصي الشهابي أن على المؤسسة العامة للسينما أن تفتح المجال، وتيسر التعامل مع جهات الإنتاج المستقلة المنتشرة في أنحاء العالم، بالإضافة لضرورة التعامل مع آلية عمل الرقابة، لئلا تتحول من رقابة سياسية إلى أخرى أخلاقية.

أما ميار مهنا، وهي صحفية وطالبة سيناريو ونقد سينمائي بالمعهد العالي للفنون السينمائية، فإنما تخشى الرقابة، ولا ترى أنها ستذوي في سوريا قريبا.

لكنها متفائلة بعودة عدد من الوجوه السينمائية البارزة إلى سوريا، بعد سنوات من الغياب، وتؤكد أهمية صلة الوصل التي عادت لتنشأ بين السينمائيين في الداخل والخارج السوري، بعد طول قطيعة.

فالخبرة الطويلة التي اكتسبها السينمائيون في الخارج ستتسرب للطلاب والمشتغلين في الداخل، وهذا مكسب كبير يمكن التعويل عليه، لدوران عجلة الإنتاج مرة أخرى، وتطوير الرؤى والأدوات الفنية للمخرجين والنقاد والممثلين الجدد، والاطلاع على خلفية الإنتاج في السينما العالمية.

تقول ميار: أرى أنه قد حان الوقت ليشاهد السوريون أفلامهم، بعد أن كانت مشاهدتها زمن النظام السابق تهمة بحد ذاتها. فمن المعروف أن مخرجين سوريين أنتجوا أفلاما قيّمة حول الثورة السورية، ولا يمكن لأي سردية سورية تدعي الموضوعية أن تتجاوز هذه الأفلام، ففيها وقائع، ووجهات نظر، وشهادات سورية يجب أن يُلم بها.

أداة مقاومة السردية الرسمية

في سياق العلاقة بين السردية والسينما، يرى علي سفر -وهو باحث وناقد سوري- أن السينما كانت إحدى أدوات المقاومة، ضد السردية الرسمية للنظام عن “حربه ضد الإرهابيين”.

ويقول: لولا الأفلام السينمائية الوثائقية التي أنجزت عن المأساة السورية، والأفلام الروائية التي قدمها صناع سينما سوريون وعرب وعالميون، لكان ثمة تجويف فارغ في مسار صناعة المشهد الحقيقي عن سوريا الثائرة.

ويذكر -في حديث لموقع الجزيرة الوثائقية- أن هذا النتاج السينمائي يحتاج إلى إعادة تظهيره أمام الجمهور السوري، ويقول: ذلك لكي يرى الدور الهائل الذي لعبته السينما في مسار خلق التعاطف مع آلامه. كما أنه يحتاج إلى توثيقه ووضع هذا الأمر أمام جمهور الدارسين، وهذا ما أعمل على استكماله بعد أن أنجزت نسخة أولى من دراسة نقدية عن “الدور الذي تلعبه الثورات في تغيير الصورة النمطية عن الجماعة البشرية”، من خلال التركيز على الحالة السورية.

هواجس النهضة بعد 54 سنة من التغييب.. أسئلة المستقبل

يكاد يكون علي سفر الناقد السوري الوحيد الملم بتاريخ السينما السورية وخفاياها، وقد تدارسها في كتابه المرجعي “حبر الشاشات المطفأة.. تحري أحوال السينما السورية ونقدها”، وهو من النقاد القلائل القادرين على إجابة سؤال: كيف سيكون دور السينما في سوريا بعد سقوط النظام؟

وفي إجابته عن هذا التساؤل، يقول إن هناك إلحاحا يجول اليوم في عقول صناع السينما السورية، في كل مكان يتصل بضرورة النبش في التاريخ، واستخراج لحظاته الأشد تأثيرا، واتخاذها حكايات سينمائية.

أسامة محمد وزوجته من عرض فيلم “نجوم النهار” في صالة زوايا ضمن صالون دمشق

ثم يقول: أحدد هذا الهاجس بوصفه نقطة انطلاق سياسية، تؤدي من خلاله السينما جزءا من فعاليتها في المرحلة القادمة، ولكن علينا قبل ذلك أن ننظر إلى استجابة الجمهور، والإحاطة بردّة فعله، تجاه النظر في السياسة وتمثيلاتها المحلية، ففي الظرف الحالي نلاحظ أن الجمهور يولي اهتماما كبيرا للسياسة، ونرى فئات واسعة من الشعب السوري تحاول تشكيل الأطر السياسية، والانضمام للقوى والأحزاب.

وعليه يطرح سؤالا للتفكير: هل السينما السورية مستعدة لأن تنتج أفلاما تتوازى في مضامينها مع النهوض السياسي الراهن؟

ثم يجيب نفسه: الأمر مشروط بتقدم السينما ذاتها، بوصفها مشروعا ثقافيا وفنيا وتجاريا في الفضاء العام الذي يعاد تشكيله. فقد دُمرت السينما طيلة 54 سنة بوصفها فعالية حرة، ولذلك يمكن اعتبار العمل على استنهاضها فعلا سياسيا بحد ذاته.

ولضمان نهوض السينما السورية، يوصي علي سفر الفاعلين السينمائيين السوريين باستعادة الإنتاج السينمائي السوري، الذي أُنتج في المنافي، لكي يتمكن الجمهور من مشاهدته في الداخل، ضمن الصالات المتاحة في سوريا، وفي النوادي المحلية.

ويوصي أيضا بتوفير الأفلام السينمائية العالمية التي اقتربت من ثورة السوريين وتداعياتها، وعرضها للجمهور لتطوير علاقته بالسينما ودورها. ويقول: لكن الشيء الأكيد هو أننا نحتاج إلى ورشة عملاقة للثقافة في سوريا، تُطرح فيها الرؤى المعاصرة، مع ضرورة ألا تترك إدارة هذا الشأن بيد المؤسسة الرسمية، بل يجب أن يكون ذلك بشراكة مع الشركات الخاصة وقوى المجتمع المدني.

“أملنا بخلق سينما حرة تعبّر عن الوجع والأحلام”

يعقد مخرجون سوريون آمالهم على عودة الإنتاج السينمائي للبلاد بعد السنوات العجاف التي شهدها في عهد آل الأسد، وترى المخرجة السورية هبة خالد أن السينما في سوريا ستواجه في المرحلة المقبلة تحديات عدة، أبرزها: ضعف التمويل، والمعالجة الدقيقة للقصص الحساسة التي ستروى، وصعوبة استعادة ثقة الناس بعد سيطرة السلطة طويلا على كل شيء، بما في ذلك الإنتاج السينمائي، ذلك بالإضافة للخوف من رقابة جديدة تعيد إنتاج نفسها.

وهي ترى أن التحدي الأكبر أمام السينمائيين السوريين اليوم، هو اجتراح طريقة للحفاظ على شجاعتهم وسط كل الصعوبات، وإيجاد الكيفية التي يجعلون بها السينما أداة تجمع السوريين بدل أن تفرقهم.

ومع ذلك فهي تؤكد وجود أمل يتحدى تلك المخاوف، وتقول في حديث لموقع الجزيرة الوثائقية: الأمل موجود، وأملنا بخلق سينما حرة ومستقلة تعبّر عن وجع السوريين وأحلامهم بلا خوف، وتعمل على توثيق الحقيقة، وتساعدنا على التصالح مع الماضي، وبناء جسر تجاه المستقبل.

بعث السينما من ركام الخراب

يتحدث الناقد علي سفر عن الشروط اللازمة لتوفر إنتاج سينمائي سوري في المرحلة المقبلة، فيقول إنه بعد بحثه في عدد من الفرضيات حول الإنتاج السينمائي السوري، وجد بأن التخريب الذي قامت به الفئة البيروقراطية البعثية -التي أدارت المشهد الثقافي بالقوانين والأوامر الزجرية- كان كبيرا.

كما يرى أن القطاع الخاص في سوريا كان يحاول -عبر وجوه لا يُشك بوطنيتها- أن يتكيف مع الواقع المستجد، وقد بذل الجهود من أجل ألا يخسر السوريون السينما في حياتهم، لكن لا يمكن أن تحصل على نتائج، ما دام الواقع كله بات معطوبا.

حديقة المعهد العالي للفنون السينمائية بدمشق

ومن هنا، فهو يرى أن “النهوض السينمائي” يجب أن يبنى اليوم على أدوار متعددة، لا يسيطر واحد منها على غيره، فيمكن للقطاع الخاص أن ينتج الأفلام بالتجاور مع القطاع العام، مع إمكانية توفر فرص مهمة لنشوء السينما المستقلة في سوريا، للحصول على نتاجات تجريبية مغايرة.

وتنشط حديثا مبادرات سينمائية شبابية سورية واقعية وافتراضية، في دمشق وحمص وحلب وغيرها من المدن السورية، لتعريف جمهور المهتمين بالسينما بالأعمال السورية الأكثر تأثيرا، التي أُنتجت قبل الثورة أو خلالها.

الجزيرة

————————–

في تنافس مطابخ حلب ودمشق على السياسة والنفوذ/ أحمد غنّام

24 يناير 2025

كثيرا ما يُسمع عن التنافس بين الجارتين حماة وحمص على حلاوة الجبن، وهو تنافس مشروع، لكن لا أحد من الطرفين يعلّل “موقفه”، سواء بدعمه بأدلة تاريخية أو بأدلة تعتمد على الطعم والمذاق. قد ينطبق الحال على كل توأمين، كما الحال بين منسفي السويداء ودرعا مع مراعاة عدم حدّية التنافس، رغم وجود تقاطعات وتداخلات ديمغرافية ومشتركات كثيرة تفرضها البيئة الجغرافية.

لكن ما هو لافت ما يحصل من تسابق بين مدينتي حلب ودمشق، فواحدة ذهبت بالثقل السياسي فكانت هي العاصمة، حيث تَؤمُّها الوفود الدبلوماسية ويقطنها أصحاب القرار والهيبة. والأخرى (حلب) تفردت بالتجارة، وذهبت إلى الاستئثار بالثقل الاقتصادي، وهذا من أهم دعائم السياسة وروافعها.

إذن، ثمّة سباق بينهما نحو القوة والنفوذ، قوة اقتصادية وأخرى سياسية، بيد أنه لا يجري الجهر به، كما التنافس بشأن حلاوة الجبن. والسؤال هنا ما إذا كان هذا السباق مشروعاً يأخذ إلى حالة تكاملية أم أنه يورث التخاصم والتزاحم، فحينما ننظر إلى الثقل التاريخي وما تحمله المدينتان من بعد تاريخي وحضاري، ستدهش لوجود توازن بينهما، إذ لا غلبة لإحداهما على الأخرى. قد نرغب بإرجاع الأمر إلى المواريث التاريخية، فنجد عند كلتيهما المسجد الأموي، والأسواق العثمانية المسقوفة، ومحطّات السكك الحديدية العثمانية والتكايا والزوايا والطرق الصوفية، ومجالس العلماء القديمة، وتجد لهما تاريخاً عميقاً في الحواضر السياسية لدويلات تشكلت وانتهت في حقبة ما، لكن دمشق تنفرد بأنها كانت عاصمة للأمويين، تلك الدولة التي تحمل الكثير من الرمزية الدينية والسياسية في عالمنا الإسلامي. وهنا لا يمكن إغفال ما لحلب من أهمية سياسية في الدولتين السلجوقية والحمدانية، فإن حدّثتك نفسُك بإمكانية التفاضل بينهما على أساس غنى المأكولات وجودة المطبخ، فإنك تُفاجأ بحجم التقارب والمشتركات في كثير من المأكولات بين مطبخي المدينتين، إذ لا يمكنك أن تعلي من شأن محاشي حلب على حساب محاشي دمشق، وكذلك الأمر بالنسبة للكبب بأنواعها، رغم أنك قد تسمع أن أهل حلب يذهبون إلى إدانة المطبخ الشامي، بإقحام الكمّون أو الكزبرة الخضراء في موائدهم وأطعمتهم. في حين أن السرد في التجارة يأخذنا إلى نتائج متشابهة، لكنك قد تجد تفاضلا بقطاع ما لحلب على حساب دمشق أو العكس. أما ما هو الأهم فأنّ الموقع الجغرافي لكلتيهما قد يُكسب كل واحدة منهما أهمية لن تقدّم إحداهما على الأخرى. فلدى تركيا بعد سياسي وتاريخي ومجتمعي في حلب، فموقع المدينة الجغرافي قد يُكسبها الكثير من الاهتمام من الجارة التركية، فحلب قريبة من مدينة غازي عنتاب، حيث نجد التشابه في العقلية الاستثمارية والتجارية، وكذلك في نقاطٍ كثيرة، سواء المظهر العمراني للأبنية التاريخية أو الأسواق، وكذلك في الموائد وأنواع الطبخ والاعتماد على اللحوم بشكل كبير.

هذا ما يُكسب حلب اهتماما تركيا ملحوظا، وسيجعلها وجهة الأتراك للاستثمار والتجارة والسياحة على حساب دمشق، وقد يُكسب أهلها موقعا سياسيا متقدّما على أهالي دمشق لدى إدارة البلاد، لأن ثمّة حالة من التماهي بين إدلب وحلب، والجميع يعرف ما تمتلكه إدلب من حظوظ لدى الإدارة الجديدة، ولدى القائمين على مواقع السلطة، بعد أن أقاموا في إدلب نحو 14 عاماً، واحتضنت إدلب الثورة وأهلها ومقاتليها طوال السنوات الماضية، ودفعت فاتورة دم عالية في ذلك.

أما دمشق التي تقترب من محيطها العربي أكثر، وهي بوابة سورية إلى الأردن والخليج، وكذلك قربها من بيروت، فهذا يكسبها بعدا جيوسياسيا متمايزاً عن حلب، فلديها حظوظ أعلى من حلب في نسج خيوط إقليمية من العلاقات السياسية والاقتصادية، وتمتلك القدرة على التحرّك بانسيابية أكثر من غيرها في المحيط العربي، ولها أهمية عند الشعوب العربية ومجتمعاتها، ما يجعلها محط جذب سياسي وسياحي، ناهيك عما تمتلكه من غنىً كبير في الأماكن التاريخية والمعالم السياحية والرموز الدينية.

ربما يفتح هذا الأمر الباب على التنافس الخفي غير المعلن بين العالم العربي وتركيا حول حواضر سورية، وقد لا يصير مستبعداً أن يصل التنافس إلى التخاصم والتناطح في بعض الأوقات، رغم أن الفوارق بسيطة بين الفريقين، كما هو الفرق بين محشيٍّ بكمّون دمشقي ومحشي حلبي بدون كمّون، فهل يدرك الفريقان أن سورية ومدنها ليست تركة رجل مريض طيّعة للتقاسم، وأن أهلها تعبوا من التقاسم والمحاصصة، وأن الجميع يريد إشراك الجميع، وقد تعبت الناس من الاختلاف وافتعال المشكلات، وبات الجميع يرغب في تصفير المشكلات، والعمل على إنماء البلد بمشاريع استثمارية نهضوية، وضرورة أن يساند الجيران العرب وتركيا سورية الجريحة في لملمة الجروح لتتعافى، لا سيما في ملفات الإعمار وإعادة البناء وتخديم المجتمع بما يحتاجه من ماء وكهرباء واتصالات وإنترنت وغيرها. فلا ضير لحلب ودمشق من أن تذهبا إلى تصفير المشكلات وعدم إثارة نعرات صبيانية حول الكبّة المشوية، لن يغير وجود نعناع من عدمه، وكذلك الدهن والشحم، طالما أن الكبتين، الشامية والحلبية، يغلفهما البرغل واللحم.

العربي الجديد

—————————–

أحمد الشرع بين نماذج كاسترو والخميني ومعاوية/ إبراهيم العلوش

20 يناير 2025

ظهر قائد الإدارة الجديدة في سورية أحمد الشرع بصورة إعلامية تشابه صورة فيديل كاسترو الذي كان أيقونة ثورية واشتراكية في الستينيات، ولكن منشأ الشرع الديني استحضر صورة الخميني قائد الثورة الإيرانية، أما تصريحاته ووعوده الطموحة، فقد أعادت إلى الأذهان دبلوماسية وحذاقة معاوية ابن أبي سفيان الذي دخل دمشق وأسس فيها الدولة الأموية.

في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024، صارت صورة أحمد الشرع صورة عالمية مع هزيمة بشار الأسد، الديكتاتور الدموي الذي عجز العالم عن إزالته عن كاهل الشعب السوري، وصارت صورة الشرع بالبدلة العسكرية الخضراء واللحية الطويلة أقرب إلى صور فيديل كاسترو الذي دخل هافانا في العام 1959 هازمًا الدكتاتور الكوبي السابق باتيستا مصطحبًا معه بعضًا من ثوار أميركا اللاتينية، ومن أشهرهم أرنستو تشي غيفارا الذي صار وزيرًا للصناعة رغم أنه لم يكن كوبيًا.

ولكن الخلفية الدينية التي نشأ عليها أحمد الشرع أعادت إلى الأذهان صورة الإمام الخميني الذي تشارك مع القوميين والشيوعيين إطاحة شاه إيران محمد رضا بهلوي عام 1979. ذلك الملك الذي وصلت به الفوقية إلى تجاهل حالة الشعب الإيراني وهو يبذخ في الحفلات والمناسبات، ومنها الذكرى 2500 لتأسيس الدولة الفارسية في العام 1971، والتي دعا اليها مئات من كبار النخب العالميين وفي مشاهد احتفالية من ألف ليلة وليلة.

أما التداعي الثالث الذي انبثق من مشاهد تحرير دمشق، فهو مشهد ساحة الأمويين التي أعادت اسم الخليفة معاوية بن أبي سفيان (608-680م) إلى الأذهان، وأعادت أخبار دبلوماسيته في التعامل مع أهل دمشق بكل تنوعاتهم واستعانته بخبرات أهل الشام بعربها المسلمين والمسيحيين وبكل تنوعاتهم، وكان حجة في الذكاء والقدرة على ابتكار الحلول بعدما نقل عاصمة الخلافة الإسلامية من مكة المكرمة إلى دمشق، وبعيدا عن منشأ الإسلام الأول ومكان نضالات صحابيي الرسول الكريم وأقاربه وأقارب من ساهموا في الخلافة الراشدة.

فيديل كاسترو ترك مبادئه القومية التي دخل بها الى هافانا وتحول إلى المبادئ الاشتراكية، وصارت هافانا محجًا للشيوعيين عبر العالم، وكانت خطاباته التاريخية محط إعجاب شعبي ولو أنها كانت تمتد ساعات طويلة وكأنها حفلات طرب تمتد إلى الصباح!

تحول الخميني وانقلب على مساعديه في إطاحة شاه إيران، وبعد سنة أطلق جهاز القضاء ليحصد الشيوعيين من حزب تودة ومن القوميين والناشطات النسويات وكل طرف لا يبايعه على الولاء المطلق، حتى حوّل إيران إلى دولة ملالي سوداء كالحة، وامتدت شرورها إلى سورية التي عانت منها ما عانت، عبر النظام العسكري الذي يلبس زيا دينيا.

فالحرس الثوري الإيراني أهم من الجيش الإيراني، والمرشد الذي يعينه مجموعة من المشايعين المتنفذين له السبق على الرئيس الإيراني المنتخب، بل إنه ينحني لأوامره ولأوامر مؤسساته الدينية وجيوشه الثورية مثل الباسيج والحرس الثوري، ويطبق ما يراه المرشد غير المنتخب ويخضع للمليشيات الدينية ويدفع رواتبها وثمن معداتها الباهظة من دون النظر إلى حاجات الشعب ولا إلى طموحاته في الحياة الحرة الكريمة، وقد استعمل المرشد القمع الديني وسيلة للحكم ابتداءً من قمع النساء والتقليل من مكانتهن وصولًا إلى إملاء أفكار ولاية الفقيه على القانون وعلى مجمل شؤون الحياة العامة.

معاوية بن أبي سفيان الذي ابتعد بالدولة الإسلامية عن الفقهاء، وحوّل صراعه مع الامام علي بن أبي طالب إلى صراع سياسي وليس إلى صراع ديني، وكذلك مع أبنائه الحسين والحسن، وجعل الدولة تخضع للقوانين التي كانت سائدة في الدواوين وفي الإدارات الحكومية التي ورثها عن الشعوب والحضارات السابقة، وطوّرها وأعطاها نكهة إسلامية جديدة، فتح مصر والمغرب، واتجهت جيوش بني أمية إلى حدود الهند والصين، وكانت دولته درة في المنطقة التي كانت عاصمتها دمشق، وحتى عندما وصلت الى إسبانيا، بنت حضارة الأندلس بسبب انتظام القانون فيها وانتشار الابتكار والأفكار الجديدة التي ولد في آخرها فلاسفة كبار من أهمهم ابن رشد.

فيديل كاسترو اعتمد على الأيديولوجيا وصار يتحدى الإمبريالية الأميركية واعتمد على الأسلحة السوفييتية في حماية بلاده، وفي الوقت الذي ازدهرت فيه بلدان أميركا اللاتينية مثل البرازيل والأرجنتين، فإنّ بلاد الرفيق كاسترو كانت تنهار يومًا بعد يوم حتى صارت هافانا متحفا للسيارات البالية والخدمات الرثة، وبعد كل التنظيرات عن التقدم والاشتراكية، فقد أورث فيديل كاسترو الحكم لأخيه من بعده باعتبار البلاد مزرعة له.

أما بلاد الملالي التي أسسها الخميني، فقد غزت العراق وقامت بحرب امتدت ثماني سنوات دمرت الطرفين، وقد وصلت نيران شرها إلى سورية وأحرقت الأخضر واليابس فيها، ونشرت الحرب الطائفية زاعمة المقاومة وتحدي أميركا، معتمدة على احتلال أربع دول عربية تحولت الى ساحات لحروب طاحنة!

أين يتجه أحمد الشرع وفريقه اليوم؟ وكيف يستطيع الفكاك من صور كاسترو حبيب الاشتراكيين، ومن الخميني إمام الحروب الدينية والطائفية التي حلت في المنطقة؟ وهل يكون رجل الدولة معاوية بن أبي سفيان قدوته؟

وهل يستعين بالسوريين ويشاركهم بناء دولة جديدة بعيدة عن تطرف الخميني والخراب الذي تركه، وبعيدة عن تبجح كاسترو وفشله الإداري والاقتصادي، وتستمد من حكمة معاوية ودهائه القدرة على تحويل الخراب المحيط بالسوريين الى آفاق جديدة تؤسس لدولة حديثة ومنتجة، وبعيدة عن أوهام التمنيات الأيديولوجية؟

————————————-

سورية الجديدة والاستقرار الهش/ خليل ساكير

24 يناير 2025

ونحن في الشهر الثاني من عمر سورية الجديدة، بدأنا بالانتقال إلى مرحلة “الاستقرار الهش”. ففي الوقت الذي يسعى فيه قائد الإدارة السورية أحمد الشرع إلى التركيز على بناء نواة الدولة، تتجلّى جهوده من خلال دمج الفصائل المسلّحة في هيكلية وزارة الدفاع وتوزيعها على بقية الأفرع الأمنية، وخصوصًا الاستخبارات.

ورغم أن هذه المهمة لا تزال في مراحلها الأولى، إلا أنّ هناك تقدّمًا ملموسًا. ومع ذلك، فإنّ وجود عدد كبير من الفصائل التي لم تحدّد موقفها بعد من هيكل وزارة الدفاع يُبقي البلاد في حالة من الاستقرار الهش. ومن أبرز هذه الفصائل، تلك الموجودة في الجنوب وشمال شرق سورية، بالإضافة إلى “الجيش الوطني السوري” المدعوم من تركيا، الذي يركّز بشكل أساسي على تنفيذ أجندة أنقرة عبر محاربة الكُرد في ديارهم.

هذا الاستقرار الهش ترافق مع تصاعد عمليات الاختطاف والقتل خارج إطار القانون، بالإضافة إلى التصفيات الشخصية التي زادت من تعقيد المشهد. سورية كانت خلال السنوات الأربع الماضية تعيش تحت عدّة نماذج للحكم. ففي الشمال، كان هناك نموذج إدلب، ونموذج الائتلاف، ونموذج الإدارة الكردية، بالإضافة إلى نموذج النظام. ففي حين كان الطابع الإسلامي يغلب على الشمال الغربي، كانت الإدارة في الشمال الشرقي أكثر اعتدالاً، بينما ظلّ النظام دون تغيير، محافظًا على طبيعته القمعية والفاسدة.

لا شك أنّ سورية بحاجة إلى وقت طويل للرسو على نموذج جامع يعكس تطلّعات كافة السوريين ويجمع بين هذه النماذج المختلفة. هذه المهمة ليست سهلة بأيّ حال من الأحوال، خاصة أنّ حكّام سورية الجديدة ورثوا بلدًا متهالكًا. الفوضى تعم المدن، سواء كانت فوضى انتشار السلاح، أو التعيينات العشوائية، أو ملاحقة “الفلول”، أو حتى التصفيات الشخصية.

ومن الظواهر الملحوظة مؤخرًا، بروز رجال الدين من مختلف الأديان والطوائف إلى الواجهة السياسية، حيث انخرطوا في الحوارات السياسية، وظهروا أيضًا في مقابلات مع وسائل إعلام أجنبية. هذا التحوّل، وإن كان مبرّرًا نتيجة الحاجة إلى الطمأنينة في ظلّ حالة عدم الاستقرار، إلا أنه يثير تساؤلات حول حدود تدخل رجال الدين في السياسة، خاصة أنهم مختصون في الشؤون الدينية فقط.

في المستقبل القريب، يبدو أنّ الصراع بين “الجيش الوطني السوري” المدعوم من تركيا و”قسد” المدعومة من الولايات المتحدة سيستمر إلى حين الوصول إلى اتفاق أميركي تركي يرضي الطرفين، أو انخراط تركيا في صفقة مشابهة لما حدث في عام 2019. أما الفصائل في الجنوب السوري، فمن المتوقّع أن تندمج بسهولة بمجرّد حدوث تقارب بين “قسد” و”الجيش الوطني السوري” من جهةٍ، ووزارة الدفاع الحالية من جهةٍ ثانية.

نتمنى أن يتحوّل هذا الاستقرار الهش إلى استقرار قوي ومستدام قادر على جمع كافة السوريين تحت مظلّة دولة واحدة، يسود فيها القانون، وتضمن الحقوق لجميع أبنائها بغضّ النظر عن انتماءاتهم، ليعود الأمن والسلام إلى سورية بعد سنوات من الصراع والاضطراب.

——————————

العدالة الانتقالية والسلم الأهلي حاجتان وطنيّتان في سورية/ عزام أمين

25 يناير 2025

مضى أقلّ من شهرين على سقوط نظام الأسد في سورية، نظامٌ قلَّ مثيله في الطغيان والإجرام، وما كشفته سجون صيدنايا وعدرا (وتدمر قبل هدمه) والمزّة لم يكن سوى غيض من فيض. كابوسٌ عاشه السوريون منذ وصول حافظ الأسد إلى سُدّة الحكم بانقلابه العسكري في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 1970، الذي أصرَّ على تسميته “الحركة التصحيحية”. دفع السوريون ثمناً باهظاً من أجل حرّيتهم، وتركهم المجتمع الدولي وحدهم أمام نظام وحشي قتلهم بمختلف أنواع الأسلحة، حتى المحرّمة دولياً، غير عابئ بعدد الأرواح التي يمكن أن تحصدها صواريخه الباليستية وراجماته وقنابله العنقودية وطائراته وبراميله، وغير مكترثٍ بحجم الدمار التي يمكن أن تخلقه في المناطق السكنية والبنى التحتية.

في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول عام 2024، هرب الطاغية بشّار الأسد بطريقة جبانة، تاركاً خلفه بلداً مدمّراً وشعباً محطّماً، استشهد منه ما يقارب نصف مليون شهيد، وحوالي 112 ألف مفقود في السجون، وستّة ملايين لاجئ في دول الجوار وأوروبا، وتقريباً سبعة ملايين نازح ضمن سورية، أكثر من 80% منهم يعيشون تحت خطّ الفقر، وستّة ملايين من أطفاله يعانون من سوء التغذية، ومهدَّدون بالجوع… كارثة إنسانية بكلّ معنى للكلمة. وحتى الآن، لا توجد مؤشّرات واضحة تُبيّن كيف ستتّخذ الأمور مجراها في سورية بعد سقوط الطاغية، فالأفق يبدو مفتوحاً على جميع الاحتمالات التي يصعب التنبّؤ بها، ويعتمد ذلك على السلطة القائمة في دمشق وخططها التي ما تزال غامضةً، وعلى المجتمعين الدولي والإقليمي، إضافة إلى إرادة الشعب السوري وقدرته في التنظيم والضغط في هذا الاتجاه أو ذاك. ولعلّ ما يحتاجه السوريون اليوم أكثر هو تحسين أوضاعهم المعيشية والمادية الخانقة، وشفاء جراحهم، والشعور بالأمن والأمان، ولا يمكن تحقيق هذا إلّا في ظلّ نوع من السلم الأهلي والاستقرار السياسي، والبدء بعملية حقيقية للعدالة الانتقالية شرطاً للسلم والمصالحة الوطنية.

إن إطلاق عملية العدالة الانتقالية في سورية من أصعب وأعقد التحدّيات التي يواجهها المجتمع السوري حالياً، فمؤسّسات الدولة جميعها منهارة، ولا يوجد جهاز قضائي ذو مصداقية حتى الآن. إضافةً إلى ذلك، فإن حالة الانقسام المجتمعي الحادّة السائدة اليوم في سورية نتيجة الموقف من النظام البائد ومليشياته وجرائمه، والتحريض الذي مارسه هذا النظام في مدار عشرات السنوات ضدّ مكونات المجتمع، تجعل المهمّة أكثر تعقيداً. وربّما لا يمكن البدء بهذه العملية من دون مساعدة المؤسّسات الدولية، كمحكمة العدل الدولية ولجان حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، والمبادرة العالمية للعدالة والحقيقة والمصالحة. لكن في جميع الأحوال، من دون هذه العدالة، سيشعر ملايين الضحايا بالظلم والعسف وعدم الإنصاف، وسيعتقدون أن المسؤولين عن ارتكاب الجرائم بحقّهم وبحقّ أبنائهم وبناتهم قد أفلتوا من الحساب والعقاب. وفي ظلّ هذا الشعور (المشروع) قد يلجأ بعضهم إلى الانتقام والقصاص بأنفسهم ولأنفسهم. لا شيء يفوق الشعور بالظلم وضياع الحقّ في تحفيز العنف، فلا سلم أهليا من دون عدالة انتقالية، ولا عدالة انتقالية من دون سلم أهلي. هذه هي المعضلة التي ستواجه سلطة دمشق الحالية.

مفهوم العدالة الانتقالية يعني فتح صفحة جديدة تقوم على أسس الحقيقة والاعتراف والمحاسبة والعدالة، ثمّ المصالحة. وتُنفَّذ هذه العدالة في المجتمعات التي عانت من العنف والحروب الأهلية وانتهاكات حقوق الإنسان وجرائم التهجير والإبادة الجماعية، وذلك بهدف الانتقال إلى مجتمع وطني مستقرّ وآمن وأكثر ديمقراطية، كما حدث في تشيلي (1990)، وجنوب أفريقيا (1994)، وبولندا (1997)، وسيراليون (1999). ومن الممكن أن تكون التجربة المثلى في العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، التي يمكن أن يستفيد منها السوريون، هي تجربة رواندا (1994)، التي شهدت مجزرةً جماعيةً مرعبةً أودت بحياة 800 ألف طفل ورجل وامرأة، في مائة يوم فقط، فقد قدّمت الجهود الذاتية والدولية سُبل العدالة والعدالة الانتقالية والمصالحة الأهلية في رواندا، ممّا مهّد الطريق للروانديين للخروج من متاهات الماضي وآلامه، ليتمكّنوا من إعادة بناء وطنهم والانطلاق نحو المستقبل. اليوم، تتصدّر رواندا دول أفريقيا في معدّلات النموّ، فسجلت نسبةَ نموٍّ بلغت 8% سنوياً في العقدَين الماضيَين، أي أعلى بأربع مرّات من معدّلات ما قبل الإبادة. كما برزت رواندا سوقاً صاعدةً في أفريقيا في مجال التقنية الحاسوبية المتقدّمة، وشهدت البلاد انخفاضاً ملحوظاً في معدّلات الفقر وفي وفيات الأطفال، وارتفاعاً كبيراً في متوسّط العمر المتوقّع للفرد. كما تعدّ اليوم في صدارة الدول من حيث تمثيل النساء في الهيئات التشريعية. في مقال في “الغارديان” بعنوان “رواندا أصبحت منارة للأمل”، يقول رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، توني بلير، “الروانديون أنفسهم من ساهم في صياغة السياسة اللازمة لشفاء بلدهم، لتصبح رواندا بتجربتها في التسامح والعدالة منارةً للأمل”.

يعطي إحلال ثقافة المساءلة مكان ثقافة الإفلات من العقاب، التي سمح بها النظام البائد من أجل ارتكاب الانتهاكات والجرائم، إحساساً بالأمان للضحايا، وشعوراً بالإنصاف لمعاناتهم، ويساعدهم في كبح الميل إلى ممارسة العدالة الأهلية من خلال الثأر والانتقام وتهديد السلم الأهلي. لذلك، على الحكومة السورية الراهنة تأسيس ما يُمكن تسميته بـ”الهيئة الوطنية التحضيرية للعدالة الانتقالية والمصالحة”، تضع على عاتقها مسؤولية وضع البرامج والتصوّرات والسياسات الضرورية الخاصّة بالعدالة الانتقالية في هذه المرحلة، وذلك بالتعاون مع هيئات المجتمع المدني والجمعيات الأهلية. هذه الهيئة تكون مؤلّفةً من قضاة وحقوقيين ودبلوماسيين سابقين، وأكاديميين باحثين في العلوم الاجتماعية، وسياسيين عندهم خبرة دولية في هذا المجال، ومن بعض الشخصيات الوطنية الاعتبارية. وتعمل هذه الهيئة من خلال عدّة لجان، على سبيل المثال: “لجنة التحقيق وتقصّي الحقائق”، التي ستهتم بجمع البيانات والمعلومات الخاصة بالجرائم (عمليات قتل، نهب، تعذيب واغتصاب، واعتقال سياسي، وإخفاء قسري) والضحايا، والعمل على توثيقها بشكل صحيح ودقيق. و”لجنة الدعاوي القضائية والمحاسبة”، وتشمل الإجراءات القضائية والمحاكمات العادلة، ولتكتسب عملية العدالة الانتقالية ثقة الجميع يجب محاسبة كلّ من ارتكب انتهاكات وجرائم، بلا استثناءات، حتى أولئك المحسوبين على المعارضة المسلّحة. و”لجنة التعويضات وجبر الضرر”، التي تعمل لجبر الضرر المادي أو المعنوي، والتعويض المادي يكون من خلال منح أموال وحوافز مادّية وخدمات، أمّا التعويض المعنوي فيكون من خلال تقديم الاعتذار الرسمي وطلب الصفح.

ومن اللجان المهمّة التي يجب العمل على تأسيسها جزءاً من عملية العدالة الانتقالية هي “إحياء الذكرى”، وهي أمر مهمّ لردّ الاعتبار للضحايا ولأسرهم ولإحساسهم بالإنصاف، من خلال أحداث وقائع وأبنية تمثّل آلية للتذكير واستحضار الماضي، مثل الاحتفالات الرسمية بعيد الثورة وعيد انتصارها، وإقامة النُّصب التذكارية والمتاحف واللوحات الجدارية الكبيرة في كلّ مدينة وبلدة. ويمكن في المدن الكبرى مثل حلب ودمشق وحمص وحماة ودير الزور إنشاء جدران ضخمة في الساحات العامّة تُزين بالورود، ويُكتب عليها أسماء الضحايا والشهداء والوقائع المأساوية. فالتذكير بالماضي يتيح نوعاً من إظهار الحقيقة، وتكريماً لأولئك الذين ماتوا وضحّوا من أجل الآخرين، ويساهم في الاستماع إلى أصوات الضحايا، ويُعزز من عدم تكرار ما حدث في الماضي مستقبلاً، ويحفّز الحوار والنقاشات والتسامح والصفح، ويعزّز من التقاء مكونات المجتمع الواحد في تاريخ مشترك، وبناء هُويَّة وطنية جامعة، مع النظر إلى المستقبل بدلاً من التمسّك بالماضي. إن التحكّم بالذاكرة الوطنية الجماعية يقع في صميم سياسات العدالة الانتقالية، التي تعقب فترات ما بعد الحروب والصراعات والثورات. فالاتفاق على هذه الذاكرة وعدم وجود ذاكرتَين متناقضتَين داخل المجتمع السوري سيكون صمّام أمان لسورية وللسوريين كلّهم.

العدالة الانتقالية ليست ترفاً، بل مطلب، من دون تحقيقه لا يمكن التأسيس للمصالحة الوطنية والسلم الأهلي وبناء الهُويَّة الوطنية الجامعة لمكوّنات الشعب السوري من مختلف الإثنيات والأديان والطوائف. العدل والاعتذار والتسامح هي أساس الغفران، والغفران ليس نسياناً لما حدث، بل هو رفض السماح لما حدث بأن يدمّر حياتنا.

العربي الجديد

———————————-

إلى إدارة سوريا الجديدة.. أولاً وثانياً!/ عمر قدور

السبت 2025/01/25

هناك أوضاع مقلقة في بعض مناطق سوريا، بحيث يكون الخوض فيها موجَّهاً بالدرجة الأولى إلى الجهة القادرة على التصرف بسرعة. ولأن الحديث هو عن السلم الأهلي فالإدارة السورية الجديدة هي المناط بها التحرك وسرعة التصرّف، كي تحافظ على رصيد الثقة الذي اكتسبتْه في الأيام الأولى بعد إسقاط الأسد.

المقصود هنا أولاً تلك الأخبار عن تجاوزات وانتهاكات في حق مواطنين أبرياء، أو تلك الأخبار عن تصرفات تمييزية قام بها ممثِّلو الإدارة الجديدة، خصوصاً في حمص وريفها وريف حماة. تبرير هذه الانتهاكات بأنها تصرفات فردية لا يقدّم أي عزاء لضحاياها، بل ينذرهم ويُنذر المستضعفين أمثالهم باستمرار الانتهاكات، طالما لم يُحاسَب أحد من المرتكبين علناً حتى الآن، وبموجب القانون لا وفق أي قصاص غير لائق بدولة معاصرة.

جدير بالذكر، والثناء أيضاً، أن مجمل السوريين المعنيين بمجازر العهد البائد أظهروا مناقبية عالية في التعاطي مع التغيير، ولم تشهد الأيام الأولى أعمال ثأر أو انتقام، ويُسجَّل لعناصر “الهيئة” في تلك الأيام تعاملهم مع الأهالي في مختلف المناطق بحساسية مناسبة. ربما هذه البداية التي فاقت المنتَظَر رفعت من سقف توقعات السوريين المعنيين، لكن كثر منهم لديهم من الواقعية ما يكفي كي لا يشطح بهم الخيال فيستبعدون بالمطلق أعمالاً تتنافى مع السلم الأهلي المنشود.

تحصيناً للسلم الأهلي، كان هناك العديد من المبادرات الأهلية أو المدنية، غايتها تبادل الخبرات والتوعية. وكان من الجيد لو سُجِّل فيها حضور لممثلين عن الإدارة الجديدة، كي ينصتوا إلى خبرات الأهالي والمنظمات، وكي يتعرفوا عن كثب إلى شكاوى متضررين لم يجدوا سبيلهم إلى منافذ رسمية تستقبل شكاواهم، أو لم يفكّر البعض منهم في الشكوى أصلاً لأنهم رأى التجاوز من الجهة التي يُفترض بها أن تغنيهم عن التشكّي!

واحد من الأمثلة الاجتماع الذي نظّمته مجموعة السلم الأهلي، والذي انعقد منتصف الشهر في حمص، وقدمت منى رافع في موقع “الجمهورية” تغطيةً له بعنوان “لقاء السلم الأهلي في حمص-محاولات مُتأرجحة بين الأمل والتوجّس”، نقتطف منها هذه الشكاوى من قبل جمهور الحاضرين: عن حوادث الخطف التي لم تتوقف بعد انتشار حواجز تابعة للإدارة، تقول بنان وهي موظفة ثلاثينية تسكن مع أسرتها في منطقة الزهرة: “كل ما يحدث يبدو غامضاً وغير مفهوم، مَن يقوم بعمليات الخطف والقتل إن لم تكن قوات الهيئة؟ ولماذا لا يجمعون السلاح من أيدي الجميع وليس من أيدينا فقط؟ ولماذا لا يسمحون بتشكيل لجان أهلية مُشترَكة لحماية المدنيين؟”.

أما المهندس تمام السهلة فقال: “إننا نختبئ خلف إصبعنا إذا لم نقل إن هناك توزيعاً طائفياً في الأحياء. يجب مشاركة الأهالي جميعاً من كل الطوائف من أجل سحب السلاح، وأن نعترف بأنه يتم السؤال على الحواجز: إنت سني أو علوي؟”. وتسرد الكاتبة حادثة في حمص حيث مرّ بعض الشبان من أحد الأحياء المختلطة على حاجز وسُئلوا عن طائفتهم فقالوا إنهم من السنّة، وعندما نظر العنصر إلى هوياتهم عرف أنهم علويون، فتعرضوا للضرب قبل أن يُترَكوا في حالهم.

في مثال آخر، في ريف حمص وحماة قريباً من البادية، حيث من الشائع اقتناء الأسلحة الفردية، نشير إلى شكاوى من أن قوات الهيئة تركت الأسلحة في حوزة السُنّة، وجمعتها من العلويين وغيرهم، مع التذكير بأن أسلحة الحماية الفردية شائعة على تخوم البادية، ولا علاقة لها بالصراع الذي دار في سوريا. في المحصّلة هناك شكاوى من استقواء طائفي على أولئك الذين سلّموا أسلحتهم، ولم يوفّر لهم عناصر الهيئة حمايةً بديلة.

الشكاوى لم تتوقف أيضاً من المبالغة في توزيع ملصقات تدعو إلى الحجاب والنقاب، وأخرى تنذر من شتم الرسول أو شتم الذات الإلهية، وتوزيعها في تحديداً في أحياء غير سُنّية لا يمكن فهمه على محمل عفوي أو بريء. وقد تفاقمت هذه التصرفات، والانتهاكات المُشار إليها جميعاً، بعد مداهمة عناصر الهيئة أحياء ذات غالبية علوية والقبض على المطلوبين من فلول شبيحة العهد البائد، وحتى على غير المطلوبين، إذ أن الهيئة عادت وأطلقت سراح مئات الأبرياء منهم.

والإشارة واجبة إلى أن عمليات المداهمة تمت حتى الآن بسهولة وسلاسة تفوق المتوقّع، وقد رافقت العمليات أو تلتها استعراضات للقوة من قبل قوات الهيئة، وهذا مفهوم كرسالة توجَّه إلى أولئك الشبيحة وأمثالهم. لكن سرعة القبض عليهم تشير إلى جانب ثانٍ بالغة الأهمية، هو أن المطلوبين لا يحظون بغطاء اجتماعي يساعدهم على المقاومة، أو على الاختباء من القوات المهاجمة، وذلك ينبغي فهمه جيداً لأنه مغاير لتلك الأفكار الرائجة عن حاضنة اجتماعية لهم.

تصاعدُ الانتهاكات بلغ ذروته مع الحملة العسكرية الأخيرة لعناصر الهيئة في ريف حمص الغربي، فبحسب بيان “مجموعة السلم الأهلي” تمكن فريق المجموعة من توثيق 13 ضحية تم قتلهم وهم عزّل، منهم اثنان في قرية “خربة الحمام”. أيضاً وثّقت المجموعة انتهاكات من نوع احتجاز أبناء المطلوبين، كوسيلة ضغط على آبائهم لتسليم أنفسهم. أما في بلدة مريمين، فتم بالصور توثيق تعرّض عدد من المدنيين للإهانة والإذلال أمام عائلاتهم، ومنها حادثة لرجل أُجبر على الركوع وضُرب وأهين أمام زوجته وأطفاله. والأخبار من العديد من المصادر الفردية تؤكد على ما ورد في البيان لجهة حدوث تلك الانتهاكات، وفي العديد من بلدات وقرى الريف الغربي المستهدفة بالحملة الأخيرة.

بالطبع، استُغلت هذه الانتهاكات وسوف تُستغل للتهجّم على العهد الجديد، إلا أن معظم أصوات أبناء المناطق التي تكثر فيها الانتهاكات اتخذوا حتى الآن جانب الحكمة والوطنية، وهم قد دعوا من قبل ويدعون باستمرار إلى معالجة الإدارة ما يحدث قبل استفحاله. والمطلوب، حسب هذه الدعوات، موقفٌ حازم من الإدارة تمنع فيه انتهاكات عناصر الهيئة؛ والتي يعطي تكرارها الانطباع بوجود ما هو موجّه ومنهجي. وحرصاً من أصحاب الدعوات على سلطة وهيبة الدولة، اقترحوا مراراً أن تكون هناك لجان تنسيق مع القوات التي تلاحق المطلوبين ضمن الأحياء، من أجل مساعدتها في القبض عليهم وحماية المدنيين الذين لا ذنب لهم. ووجود اللجان يوفّر على الإدارة نفسها جهوداً أمنية تفوق قدراتها، إذ لا يُعقل أن تضع مفرزة لها في كل شارع، أو حتى في كل حي.

الآن هناك استحقاقان ملحّان ولهما حساسية كبرى، الاستحقاق المعيشي والأمني. تردّيهما معاً هو بمثابة وصفة لتدهور أمني قد يصعب على الإدارة معالجته لاحقاً، لأن أمثال الذين لا يحظون اليوم بتعاطف اجتماعي قد يحصلون عليه غداً من أناس فقدوا كل شيء. الفرصة لا تزال مواتية للإدارة كي تكسب أولئك الذين ينتظرون إنصافهم، وهم مكسب حقيقي ومستدام بالمقارنة مع أصحاب الرؤوس الحامية في السوشيال ميديا.

المدن

———————–

عمر الشعار بين السجانين: أنت تتحدث الإنكليزية!/ بثينة عوض

الخميس 2025/01/23

الاسم :عمر الشعار

المؤهلات العلمية: خريج إعلام

المهنة: رئيس تحرير سابق لموقع “دي برس” اللغة الإنكليزية

التهمة: بث الشائعات

لم أكن أعلم أن ذلك اليوم من العام 2015 سيكون آخر أيامي في دمشق. كنت أتجول في أزقتها التي لطالما عشقت، متمنياً أن تتنفس الحرية التي تستحقها.

أنا ابن مدينة الأتارب في ريف حلب، حيث أُهدر دمي بسبب أفكاري العلمانية. لكن دمشق فتحت لي ذراعيها كما تفعل مع كل غريب، رغم أن ذراعيها كانتا مكبّلتين مثلنا تماماً. ومع ذلك، لم تعرف يوماً طعم الاستسلام.

كنت أدخّن وأفكر: ماذا لو أعددت لنفسي طبقاً من الخضار مع كأس من العرق، مشروبي المفضل؟ ثم أجلس كعادتي أحدق من نافذة بيتي في حي جرمانا، نحو إطلالة “الشام” كما أحب أن أسميها.

ذهبت إلى بائع الخضروات، الذي استقبلني بحفاوة وسرعان ما همس لي بشكل غير مباشر أن أختار الطازج منها، مؤكدًا على ضرورة الحذر.. شعرت بنبرة تحذير في صوته، قبل أن يخبرني أن دورية من فرع فلسطين زارت الحي اليوم، تسأل عن صحافي قد يكون مقيماً هناك. أنا الذي اخترت أن أعيش في هذا الحي من دون عقد إيجار رسمي، حتى لا يتمكنوا من الوصول إلي. فهمت الرسالة. صعدت إلى منزلي على عجل، جمعت أغراضي وكل ما أملك من وثائق، وغادرت دمشق إلى بيروت بعد ثلاثة اعتقالات، وفي قلبي غصة.

الاسم الحركي: نبيل

الأعوام تحفر في ذاكرتي، ليس بفعل الأرشفة، بل بفعل التعذيب والترويع. في العام 2013، اقتحمت منزلي عناصر أمنية مجهولة الهوية، ينتمون إلى إحدى الفرق المشتركة التابعة للقصر الجمهوري التي تشكلت مع بداية الثورة. كانت هذه الفرق تعتمد على سيارات مسروقة لتنفيذ مهامها، ووجدت نفسي في إحداها، مع كل ما صادروه من منزلي: اللابتوب، الكاميرا، الذهب، النقود. وقتها كنت رئيس تحرير موقع “دي برس” المستقل باللغة الإنجليزية. انتهى بي الأمر في زنزانة منفردة لا تتجاوز مساحتها المتر المربع الواحد، في سجن تابع للحرس الجمهوري مقابل مطار المزة العسكري.

البداية كانت بما يُعرف بـ”حفلة التعذيب”. تعرضت لضرب مبرح وحرق بالسجائر، وما زال جسدي يحمل آثارها. بعد كل جولة تعذيب، نُعاد إلى الزنزانة، حيث يفتح السجّان النافذة الحديدية ويبدأ بإصدار أوامر عشوائية: “جلوس، وقوف، إلى اليمين، إلى اليسار”. هذه الأوامر كانت شبه مستحيلة التنفيذ في الزنزانة الضيقة المزدحمة بـ11 شخصاً.

أي محاولة للتواصل مع الآخرين أو اعتراض على الأوامر كانت كفيلة بإعادة الشخص إلى حفلة التعذيب من جديد. تلك الأيام لم تكن مجرد تجربة اعتقال، بل وصمة ألم تخلدت في ذاكرتي، شاهدة على قسوة نظام قمعي لا يعرف الرحمة.

ما هي تهمتي؟ سؤال سيطر على أفكاري وأنا أحاول فك شيفرة ما يمتلكونه من معلومات عني. حاولت الهروب من هذه الدوامة الذهنية عبر تمارين تعلمتها من سجناء آخرين: استرجاع مشاهد الأفلام التي شاهدتها، وكأني أراها للمرة الأولى، والغوص في تفاصيل الروايات التي قرأتها.

وسط ذلك، قطعت أصوات التعذيب تركيزي. سجناء جُدد تم جلبهم، وعلمنا لاحقاً أنهم من معتقلي المخابرات الجوية الذين غمرت مياه الصرف الصحي زنزاناتهم، فنُقلوا إلى هنا. تساءلت: أي فيلم يمكن أن يصور مثل هذه البشاعة؟

الأوكسجين ينفد من الزنزانة، وأنفاسي تتسارع. ثم جاء صوت السجان كإنقاذ مؤقت. “إلى التحقيق”، قالها ببرود. التهمة: “الاقتباس” من وكالات أجنبية مثل “واشنطن بوست” و”نيويورك تايمز”، لنقل أخبار اعتبروها تمجيداً لـ”الإرهابيين”، مع تجاهل الاقتباس من وكالة “سانا” الرسمية.

صمتّ وأنا أحاول تقييم مدى معرفتهم بحقيقة عملي. انتهى التحقيق بسيل من الاتهامات: التخابر مع جهات خارجية، ودليله كاميرا أملكها وإتقاني اللغة الإنجليزية. وماذا عن نشري للقاء مع عبد العزيز الخير والراحل لؤي حسين؟ ثم جاء السؤال الكبير: “من هي الجهة الخارجية التي تعمل لصالحها؟”. أجبت بثبات أني صحافي مستقل، أنقل الأخبار فقط. ما لم يعرفوه هو أني كنت المصدر الأساسي لتلك الأخبار، أرسلها للصحف الأجنبية تحت اسم مستعار “نبيل”، ثم أعيد نشرها بعد اقتباسها منها.

وثّقت كل شيء، من مظاهرة المثقفين في “الميدان” إلى أصغر تحرك مدني. شعرت ببعض الارتياح لنجاحي في حماية زملائي الذين عملوا معي في الخفاء.

نظرت حولي. رجل كان مشبوحاً على شجرة حتى تلفت أعصاب يديه، وآخر تلفت أعصاب قدميه بالطريقة ذاتها. أصبحا يعتمد كل منهما على الآخر، يشكلان معاً جسداً واحداً يساعد بعضه بعضاً.

أغمضت عينيّ، أحاول الهرب إلى فيلم عاطفي جميل يعيدني إلى مجدولين، زوجتي، التي كانت دائماً ملجئي الوحيد في عتمة هذا الجحيم.

أمن الدولة

صدر القرار بنقلي إلى قسم الأجانب في أمن الدولة. هناك، التقيت بصحافي بريطاني حاولت التحدث معه، لكن صوت السجان كبح أي محاولة للحوار. المكان كان مختلفاً؛ أصوات التعذيب أقل، لكن التهم هنا أخطر.

“لماذا تحدثت عن دماء في الشوارع وإطلاق الرصاص على المتظاهرين خلال لقاء تلفزيوني عبر قناة لبنانية؟”، كان السؤال الأول الذي وُجّه إليّ. حاولت تبرير الأمر بأني نقلت تلك المعلومات عن صحف أجنبية. لكن التحقيق لم يتوقف: “ماذا عن مظاهرات حرستا والقابون؟ أنت تبث الشائعات”.

سألتهم: “لماذا أنا في قسم الأجانب وأنا مواطن سوري؟” فجاء الرد سريعاً: “لأنك تتحدث الإنجليزية، وهذا أخطر سلاح يمكن أن تمتلكه في هذه المرحلة”.

كان هذا الجواب صادماً، خصوصاً أني لم أجد محققاً واحداً يتحدث الإنجليزية، فكيف يمكنهم التحقيق مع الصحافيين الأجانب الذين يُحتجزون في هذا القسم؟ أم أنهم يُتركون لمصيرهم، من دون تواصل أو تحقيق حقيقي؟

في هذا المكان، أدركت أن اللغة، التي اعتبرتها وسيلة للتواصل ونقل الحقيقة، أصبحت في نظرهم جريمة وسلاحاً يهدد وجودهم.

تمر الأيام وأنا في زنزانتي، محاطاً بصحافيين أجانب، أعجز عن التواصل معهم. قبل نقلي إلى وجهة مجهولة، جاء الضابط المسؤول ليخبرني بجملة أثارت في داخلي مشاعر مختلطة: “أنت ذاهب إلى مكان آخر، وستخرج يوماً ما وستقول إننا أقل سوءاً من غيرنا”.

الغريب في الأمر، أنك عند ترحيلك من سجن إلى آخر، تشعر وكأنك وُلدت من جديد. فالترحيل هنا يشبه النجاة من موت محتم، خوصاً مع ما شهدناه من حالات وفاة تحت التعذيب. لكن الأخطر من ذلك هو التزوير المنهجي لحقيقة الوفاة.

يتم تلفيق أسباب الوفاة بشكل ممنهج على أنها نتيجة “جلطة” أو “أمراض تنفسية”، وهي روايات رسمية تُوثَّق بالتعاون مع المستشفيات العسكرية. أما الجثث، فلا تُسلَّم لذويها، لضمان استمرار الغموض وإخفاء الحقيقة، ليبقى الألم والغياب من دون إجابات.

المتاجرة بالعفو

لم تنتهِ رحلتي في السجن بعد، فقد نضبت الأفلام والروايات التي كنت أستعين بها لمواجهة الوقت. نُقلت إلى سجن عدرا، حيث هذه المرة كنت في زنزانة جماعية. كان علينا أن نتناوب على الوقوف والنوم بشكل يشبه السيف، فأي اختلال في التوازن قد يؤدي إلى سقوط متتال واختناقات عديدة بسبب التكدس. أما الطعام، فكان شحيحاً لا يكفي سوى بالكاد لإبقائنا أحياء، بينما التعذيب المعتاد يواصل استنزافنا.

جاء ما يسمى “العفو الرئاسي”، ليُسقط عني تهمة بث الشائعات الكاذبة. مع مجموعة من السجناء، تم اقتيادنا إلى ما يُعرف بـ”سيارة اللحمة”، حيث نُقلنا إلى القصر العدلي. للمرة الأولى منذ زمن طويل، شعرت بنسيم الهواء وشاهدت الشوارع مجدداً. لكن هذا المشهد لمم يخلُ من الألم؛ أقدامنا رُبطت بجنزير واحد، وأي خطوة خاطئة أو انحراف عن المسار كان يُقابل بالضرب على مرأى الجميع.

هنا بدأت “المتاجرة بمرسوم العفو”، ولم يُطلق سراحي على الفور. بحجة أنني أقطن في جرمانا، تمت إحالتي إلى محكمة الريف. هناك، تولى مكتب المحامي أنور البني الدفاع عني. وأخيراً، بعد كل هذه المعاناة، نلت الحرية. كان العناق مع زوجتي مجدولين أشبه بلحظة من فيلم رومانسي، لكنها كانت نهاية حقيقية لرحلة مريرة من الألم والمقاومة.

لا مكان للحب

أي حب يمكن أن يزهر في بلد غارق في الدماء؟ لم تمضِ سوى بضعة أسابيع على خروجي من المعتقل حتى التحقت بورشة تدريب تابعة لمفوضية الأمم المتحدة في بيروت. لكن، عند عودتي إلى الحدود السورية، اعتُقلت مجدداً من قبل الأمن السياسي. دفعت زوجتي كل ما تملك من نقود لإخراجي من المعتقل.

عدت إلى الحرية مرة أخرى، لكن سرعان ما طاردتني المخاوف من جديد. أحاديث البائع عن “فرع فلسطين”، دفعتني للهرب إلى بيروت حيث استقررت مع زوجتي. إلا أن المضايقات لم تتوقف، خصوصاً بعد تعرضنا لمضايقات في مطار بيروت عقب عودتنا من مؤتمر لـ”مراسلون بلا حدود” في جنيف. عندها قررنا المغادرة نهائياً إلى فيينا.

في لحظة السقوط الحر من عبء الماضي، أعددت أطباق الخضروات التي كنت أؤجلها. وضعت كأس العرق واحتفلت مع زوجتي. في تلك اللحظة، بكيت بشدة، ليس حزناً، بل فرحاً خالصاً بنهاية انتظرتها طويلاً. رسمت هذه اللحظة مراراً في مخيلتي، وأنا في المعتقل، أسمع صوت تصفيق السجناء بعدما أسدل ستار النهاية على رحلتي.

المدن

———————————-

العقاب المُرتجل في سوريا: إذلال علني واعتقالات كيديّة!/ مصطفى الدباس

25.01.2025

تأديب علني لمن “يلطش” فتاة وإهانة أستاذ جامعي أمام طلابه بسبب تقرير كيدي… هذه الأمثلة ليست مجرد “أخطاء فردية” بل تجليات واضحة لفقدان سلطة القانون واستبدالها بقرارات عشوائية تصدر عن لجان ودوريات غير منضبطة!

في سوريا اليوم، حيث تسود الفوضى ويعم الارتجال المشهد السياسي والاجتماعي بعد سقوط نظام الأسد في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، تتجلى تغييرات جذرية طاولت موازين السلطة وأطرها القانونية مع توقيف العمل بالدستور وعدم وجود بديل قانوني يحظى بشرعية سياسية وشعبية.

قبل سقوط النظام، كانت سوريا دولة ذات هيكلية مركزية قوية، تسيطر فيها الأجهزة الأمنية على جميع مفاصل الحياة السياسية والاجتماعية على حساب حقوق المواطنين وحرياتهم. ووظّف النظام القضاء أداة لخدمة مصالحه السياسية، لكن انهيار هذه المركزية لم يؤدّ إلى تعزيز الحريات أو العدالة كما كان مرجواً، بل خلق فراغاً مؤسسياً ملأته قوى متعددة الأطراف، استخدمت العدالة، وبشكل أدق الانتقام، كأداة لفرض القوة بعيداً عن أي إطار قانوني جامع أو رؤية موحّدة.

وهنا، انتشر حديثاً مقطع فيديو من منطقة ركن الدين في دمشق، يظهر عناصر مسلحة من “هيئة الإدارة العامة”، وهم يقصون شعر ثلاثة مراهقين، لا تتجاوز أعمارهم الـ16 عاماً، بتهمة “التلطيش”. المراهقون، وهم طلاب مدرسة، تعرضوا للإهانة العلنية كعقاب على تصرفات يُفترض أن يتم التعامل معها ضمن إطار تربوي أو قانوني منظم، وليس بقرارات ارتجالية تنتهك كرامتهم وترسل رسالة قمعية الى المجتمع.

غياب القانون وفوضى العقاب

ويفترض أن هؤلاء المسلّحين، الذين أدّبوا سابقاً عدداً من السوريين لتهم مختلفة (تلطيش، سرقة…الخ)  أصبحوا جزءأً من الجيش السوري مع اتجاه وزارة الدفاع لإعادة هيكلة الجيش والفصائل المعارضة، لكن غياب الهيكلية الواضحة لمهامهم ولمن يتبعون، جعل من أفعالهم مرآة لحالة الفوضى في البلاد.

هذه الحادثة تلقي الضوء على أثر غياب القانون على النسيج الاجتماعي، لأنه عندما تُنفذ العقوبات بشكل علني ومهين، تتعمق الهوة بين المجتمع والسلطات المحلية. والأفعال العقابية التي تهدف إلى “إصلاح السلوك” تترك غالباً آثاراً نفسية طويلة الأمد على الضحايا، خصوصاً المراهقين، ما يؤدي إلى شعور بالاغتراب عن الدولة وعدم الثقة بها.

في مثل هذه الأوضاع، يتحول الخوف من العقاب إلى إحساس بالخضوع القسري بدلاً من الالتزام الطوعي بالقانون، ما يُضعف الروابط بين المواطنين والسلطات ويزيد من الانقسام داخل المجتمع. ما يعزز مناخاً من الإقصاء والاضطراب المستمر.

والسؤال الذي يطرح نفسه يتمحور حول السبب الذي يتابع فيه جنود في الجيش، كما يفترض، قضية بسيطة مثل التلطيش الذي يحدث في المدارس. وهو سلوك لا يمكن تبريره بالطبع، لكنه لا يقتضي تحركاً من الجيش أصلاً، لكن لنفترض أن “الجيش” مختلف عن الشرطة أو الأمن العام، هل هذه العقوبات مرتجلة أم منصوص عليها؟ وتتبع ذلك تساؤلات إن كانت هذه النوعية من العقوبات تأتي بشكل ممنهج من قيادة ما أم هي تحرك فردي من الجنود أنفسهم. وهل يرى أولئك الجنود أنفسهم جزءاً من الجيش أم أنهم يتصرفون بمبدأ ميليشياوي أو جهادي، من باب الغيرة على الدين أو حماية النساء بوصفهن ضعيفات ويحتجن إلى “قوامة”، أي وصاية الرجل على المرأة الضعيفة.

وفي حادثة أخرى، اعتُقل الدكتور سلطان الصلخدي، وهو أستاذ جامعي (70 عاماً)، أثناء إلقائه محاضرة في قاعة التدريس بـ”جامعة الشام” في منطقة التل، حيث دخلت دورية إلى القاعة واعتقلته أمام طلابه بشكل مهين ومن دون مراعاة لحرمة المكان أو مكانته العلمية، علماً أن الاعتقال أتى بناءً على شكوى قدمتها طالبة، من دون إجراء تحقيق أولي للتأكد من صحة الادعاءات التي تبين لاحقاً أنها كيدية، ما يعيد إلى الأذهان أنماطاً مشابهة من الانتهاكات التي كانت تحدث في ظل النظام السابق، حيث كان يتم استغلال السلطة لإذلال الأفراد وقمعهم علناً، بغض النظر عن صحة الاتهامات أو وجودها.

هذا النمط المتكرر من الاعتقالات العشوائية يعكس غياباً مستمراً لآليات العدالة والشفافية، ويُبرز الحاجة إلى نظام قانوني يعزز الثقة ويحمي حقوق الأفراد. الحادثة لم تؤثر فقط على الدكتور الصلخدي بل تركت أثراً عميقاً على طلابه والمجتمع الأكاديمي بكامله، إذ كرست الإحساس بالضعف أمام السلطات وعدم وجود أي حماية قانونية تذكر.

تكريس الشعور بعدم الأمان

هذه الأمثلة ليست مجرد وقائع فردية، بل تجليات واضحة لفقدان سلطة القانون واستبدالها بقرارات عشوائية تصدر عن لجان ودوريات غير منضبطة. مفهوم “اللجان” و”الدوريات” كما تتبناه الهيئة يعكس نوعاً جديداً من هرميات القوة التي تمارس سلطتها بطرق مختلفة ويكشف عن غياب إطار موحد للسلطة، ما يجعل العقوبات تعتمد بشكل كبير على السياق والشخص المنفّذ.

في حالة “التلطيش”، يُستخدم العقاب العلني كوسيلة لإذلال الأفراد وترهيب المجتمع، بينما في حالة اعتقال الدكتور الصلخدي، يبرز البلاغ الكيدي كيف تُستخدم السلطة لأهداف انتقامية وشخصية. هذا التداخل بين الأدوار والغياب الواضح للفصل بين المهام القضائية والتنفيذية يكرس الفوضى ويُعمق شعور المواطنين بعدم الأمان في أي مكان، سواء كانوا في الجامعة، الشارع، أو حتى في منازلهم.

غياب الفصل بين السلطات يجعل السلطة التنفيذية (إن صحت تسميته هكذا، البعض يصنفها كضابطة عدليّة بسبب تعطيل الدستور!) تتجاوز دورها وتقتحم مجالات القضاء، ما يؤدي إلى انتهاكات صارخة لحقوق الأفراد. هذا النمط يُعيد إلى الأذهان ما حدث في رواندا بعد الإبادة الجماعية، حيث أدى غياب الفصل بين السلطات إلى تفاقم الانتهاكات. في المقابل، تُظهر تجربة جنوب أفريقيا أهمية الفصل بين السلطات في تحقيق المصالحة الوطنية وبناء الثقة بالمؤسسات. وبإمكان سوريا بالمثل، اعتماد لجان تحقيق شفافة ومحاكم خاصة لمعالجة الانتهاكات، مع التركيز على كشف الحقيقة وتعويض الضحايا.

في ضرورة فصل السلطات

والحال أن الفصل بين السلطات ليس مجرد مفهوم نظري، بل ضرورة عملية لضمان تطبيق العدالة بشكل نزيه وإعطاء إصلاح النظام القانوني أولوية قصوى، يبدأ بوضع دستور جديد يعيد تعريف العلاقة بين السلطات ويضمن الحقوق الأساسية للمواطنين.

على سبيل المثال، في جنوب أفريقيا، أُنشئ نظام محاكم دستورية مستقل لعب دورأً محورياً في ضمان العدالة والمساءلة بعد سقوط نظام الفصل العنصري، إذ تم تعزيز الرقابة القضائية على أداء السلطتين التنفيذية والتشريعية. وفي ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، ساهم الدستور الجديد في بناء نظام قانوني قوي يضمن التوازن بين السلطات ويمنع تغوّل السلطة التنفيذية.

هذه التجارب تُظهر كيف بإمكان نظام يعتمد على الفصل بين السلطات أن يُرسخ الثقة بالمؤسسات ويحمي الحقوق الأساسية للمواطنين. هذا الدستور يجب أن يكون نتاج عملية تشاركية حقيقية تضم ممثلين عن جميع الأطياف السياسية والاجتماعية، مع إشراف دولي لضمان النزاهة.

إلى جانب صياغة الدستور، يجب إعادة هيكلة الجهات التنفيذية التي تتولى تطبيق القانون. تحويل اللجان والدوريات الحالية إلى أجهزة شرطة مدنية محترفة، هو خطوة حاسمة. هذه الأجهزة يجب أن تُبنى على أسس مهنية، مع توفير تدريب شامل يركز على احترام حقوق الإنسان والالتزام بالمعايير الدولية. كما يجب أن تخضع لآليات رقابة مستقلة تضمن الشفافية وتحاسب على التجاوزات.

– صحافي سوري مقيم في برلين

درج

—————————

هل يمكن استعادة الأموال السوريّة التي نهبها رجال الأسد؟/ سارة حيدر

24.01.2025

منذ سقوط نظام بشار الأسد، أصبح المستقبل السياسي للدولة السورية محوراً لتحليلات سياسية متباينة، تراوحت بين أحلام الازدهار وبين سيناريوهات دموية وشبح التقسيم. والغوص في هذه التحليلات يبدو مبكراً في ظل تعقّد الأزمات الجيوسياسية في المنطقة.

بعيداً من الجوانب السياسية، تظهر على الساحة قضايا قانونية محورية مرتبطة بالمرحلة الانتقالية، منها قانون المصالحة الوطنية. يرتبط هذا القانون ارتباطاً وثيقاً بالوضع السياسي وشكل النظام الذي ستشهده سوريا في المستقبل. ولعل التريث في تحليل هذا الملف ضرورة بالنظر إلى غموض المرحلة الحالية. مثال على ذلك هو الحالة الليبية، حيث لم يتم إقرار قانون المصالحة الوطنية إلا الأسبوع الماضي، بعد أكثر من إحدى عشرة سنة من الصراعات الداخلية الدامية.

في هذا السياق، يبدو من الأكثر واقعية التركيز على قضايا قانونية يمكن أن تحظى بإجماع شعبي، مثل ملف استرداد الأموال المنهوبة، بخاصة تلك المرتبطة بعائلة الأسد، التي يُعتقد أنها تمتلك أصولاً مالية وعقارية كبيرة في الخارج. يمكن لهذا الموضوع أن يُدار بمنهج قانوني بحت، بعيداً من التجاذبات السياسية، نظراً الى ما توفره الاتفاقيات والمعاهدات الدولية من أسس لتنظيم هذه العمليات.

مفهوم استرداد الأموال المنهوبة

استرداد الأموال المنهوبة هو عملية قانونية تهدف إلى إعادة الأموال أو الممتلكات التي صودرت أو اختُلست بطرق غير شرعية، كقضايا الفساد، التهرب الضريبي، أو الجرائم المالية الأخرى. وقد نص الفصل الخامس من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد (معاهدة ميريدا) على أن: “إعادة الأصول بموجب هذا الفصل تُعتبر مبدأً أساسياً في الاتفاقية، ويلتزم الأطراف بتقديم أقصى درجات التعاون في هذا المجال”. يتناول هذا الفصل تحديداً الأصول التي نُقلت إلى الخارج بواسطة موظفين عموميين أو شخصيات سياسية. 

حتى اليوم، انضمت 165 دولة إلى اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد (معاهدة فيينا)، لكن سوريا لم تكن من بين الموقّعين على هذه الاتفاقية. لكن السؤال الأهم: هل يشكل عدم انضمام سوريا إلى هذه الاتفاقية عائقاً أمام تجميد أموال المسؤولين السوريين واستعادتها؟

للإجابة عن السؤال يجب التفريق بين مرحلتين: مرحلة تجميد الأصول المنهوبة في الخارج  من جهة، وإمكانية استرداد الأموال أي إرسالها الى الدولة السورية لاستخدامها في مشاريع إنمائية من جهة أخرى.

بالنسبة الى تجميد أصول المسؤولين السياسيين السوريين، ومن بينهم بشار الأسد، لا تعتمد هذه العملية على توقيع سوريا على الاتفاقية، بل على قوانين الدول التي توجد فيها هذه الأصول، سواء كانت أموالاً منقولة أو غير منقولة. فمثلاً، تمكنت منظمات مثل “شِربا” ومنظمة الشفافية الدولية في فرنسا وسويسرا من تقديم شكاوى قضائية والمطالبة بتجميد أصول مسؤولين سياسيين تورطوا في قضايا فساد.

ومن أبرز القضايا الدولية في هذا السياق، قضية الجنرال النيجيري ساني أباتشا، حيث نجح المجتمع المدني في عام 2017 في استعادة أكثر من 300 مليون دولار أميركي لدولة نيجيريا من حسابات في سويسرا.

أما بالنسبة الى سوريا، فقد شهدت قضية رفعت الأسد تطوراً لافتاً، إذ قامت منظمة “شربا” في عام 2013 بتقديم شكوى جنائية أمام القضاء الفرنسي، تتّهمه فيها بارتكاب جرائم فساد وتبييض الأموال. وعلى إثر تحقيقات امتدت لسنوات، أصدر القضاء الفرنسي في عام 2022 حكماً بالسجن أربع سنوات على رفعت الأسد، إلى جانب مصادرة أصول عقارية تُقدر قيمتها بـ90 مليون يورو، كان حصل عليها بطرق غير قانونية.

تُعد هذه القضية نموذجاً بارزاً لتضافر جهود المجتمع المدني والقضاء في تتبّع الأموال المنهوبة وإثبات مصادرها غير الشرعية، وهو ما يبرز الدور الحيوي للمساءلة القانونية حتى خارج إطار اتفاقيات دولية، مثل معاهدة مكافحة الفساد.

 عن إمكانية استرداد الأموال المنهوبة الى الدولة السورية

أما في ما يتعلق بالشق الثاني، وهو إمكانية استرداد الأموال المنهوبة، فتعتمد هذه العملية أساساً على وجود تواصل وتنسيق بين الدولة التي حجزت الأموال والدولة المعنية بتلقّي الأموال المجمّدة.

في حالة سوريا، فإن ضعف القوانين الوطنية وتراكم العقوبات الدولية قد يجعلان الأمل بالمطالبة بملف استعادة الأموال المنهوبة ضعيفاً، بخاصة أن ضعف النظم القضائية في الدول التي عانت من الفساد واستغلال الأموال والنفوذ، يشكل غالباً عائقاً إضافياً أمام استرداد الأصول، لا سيما بعد سقوط الأنظمة الفاسدة.

مع ذلك، يُلاحظ أن الدول التي تُعد وجهة سهلة لتهريب الأموال تكون نفسها مجهزة عادةً بأنظمة قانونية وآليات متطورة تهدف إلى تسهيل استرداد الأموال المنهوبة للشعوب المتضررة. كما أن هذه الدول تسعى في كثير من الأحيان إلى إقامة حوار بناء مع الدول الضحية لضمان توجيه الأموال المصادرة بشكل شفاف لخدمة المصالح العامة.

 نذكر من هذه الدول الولايات المتحدة وسويسرا اللتين تتمتعان بنظام قانوني يسمح بتحويل الأموال المصادرة مباشرة الى جمعيات التي لا تبغى الربح . على سبيل المثال، يمكن تسليط الضوء على قضية استرداد الأموال المنهوبة المتعلقة بجمهورية كازاخستان، التي تُعد نموذجاً عملياً لتعاون دولي فعال. في عام 2007، نجحت الولايات المتحدة وسويسرا، بالتعاون مع كازاخستان، في التوصل إلى اتفاق أعيد بموجبه نحو 115 مليون دولار أميركي كانت هُرّبت بطريقة غير شرعية.

وُجِّهت هذه الأموال المستعادة مباشرة إلى الشعب الكازاخستاني من خلال إنشاء مؤسسة مستقلة تُسمى “بوتا لتنمية الأطفال والشباب الكازاخيين”. وقد كانت هذه الخطوة مثالاً على توظيف الأصول المجمدة بشكل يخدم التنمية ويعزز الشفافية، ما يساهم في إعادة بناء الثقة بين الدولة ومواطنيها.

تعكس هذه التجربة أهمية التعاون بين الدول المعنية وضرورة تبني آليات شفافة وفعالة لإدارة الأصول المستردة، بما يضمن توجيهها لتحقيق أهداف تنموية ملموسة للشعوب المتضررة.

وذهب القانون السويسري أبعد من ذلك من حيث تأمين آلية مباشرة لاسترجاع الأموال المنهوبة، إذ قضت المحكمة الفيدرالية العليا في سويسرا سنة 2005 بأن أصول الرئيس النيجيري السابق ساني أباتشا المجمّدة في سويسرا كانت من مصدر غير مشروع ويمكن إعادتها إلى نيجيريا حتى وإن لم تصدر الدولة أمراً بالمصادرة. وقد اتفقت سويسرا ونيجيريا على أن يراقب البنك الدولي استخدام هذه الأصول التي بلغت قيمتها 700 مليون دولار أميركي.

كما أشرنا سابقاً، فإن قضية استرجاع الأموال المنهوبة قد تمثل عاملاً موحداً للسوريين، بخاصة إذا نجحت الدولة في وضع يدها على ممتلكات عائلة الأسد والمسؤولين السياسيين رفيعي المستوى الذين تورطوا في الفساد واستغلال النفوذ. مع ذلك، فإن توسيع نطاق هذه الجهود ليشمل رجال أعمال قد لا يتمتعون بنفوذ سياسي واضح أو لم يتورطوا بشكل مباشر في عمليات الفساد، يُعد مسألة حساسة تحتاج إلى نقاش شامل تحت إطار قانون المصالحة الوطنية.

معالجة هذه القضية يجب أن ترتكز على مبادئ العدالة والإنصاف، مع مراعاة عدم التوسع في الاتهامات بشكل عشوائي لضمان الحفاظ على البيئة الاقتصادية وتشجيع المصالحة المجتمعية. يجب أن تتيح هذه العملية للشعب السوري فرصة لبناء الثقة بقوة القانون من خلال إنشاء نظام قضائي عادل وشفاف يتمكن من تحديد المسؤوليات بدقة، بعيداً من التسييس أو الانتقام.

ولكي تحظى هذه الجهود بمصداقية داخلية ودولية، فإن العمل على إرساء دولة القانون هو الأولوية الأساسية. دولة يطمئّن فيها المواطنون إلى أن الحقوق تُحمى، وأن العدالة تُطبق على الجميع من دون تمييز. كما أن تعزيز ثقة المجتمع الدولي بدولة القانون السورية الجديدة يعد ضرورياً لتأمين الدعم في عمليات استرداد الأصول المنهوبة والمضي قدماً نحو إعادة الإعمار والتنمية الشاملة.

– باحثة لبنانية في فرنسا

درج

—————————————–

سوريا: كيف أزيح الرقيب الذي في داخلي؟/ إيناس حقي

23.01.2025

مرت سنوات عشرة، وما زلت حتى اليوم أشعر بذلك الرقيب يقفز من داخلي في لحظات مفاجئة، ويدفعني إلى التردد، خاصة في ما أكتب، لكنني عودت نفسي على أن أحاربه، بأن أكتب عكس إرادته، بأن أعتبر خفقان قلبي المفاجئ دليلاً على أن فكرتي جيدة ولا بد من المضي بها قدماً.

بعد شهر على سقوط نظام الأسد، نجد أنفسنا أمام أسئلة اليوم التالي الملحة. وللإجابة عنها لا بد لنا من التفكير بهدوء وعمق، وهو ما لم يسمح به الشهر الأول المضطرب بالمشاعر والتقلبات والتفاؤلات والتشاؤمات والإشاعات والاحتفالات. قد نكون اليوم أقدر على التفكير، ولكن السؤال الأهم كيف نغير آلية تفكيرنا، وقد اعتدنا على تحديدها برقيب داخلي لا ينام ولا يكف عن العمل؟

عندما وصلت إلى فرنسا لاجئة، بدأت أفكر بطريقة لابتداع مشاريع فنية يمكنني تصويرها، بعد أن خسرت موقع تصويري الأثير: سوريا، وطورنا بالتعاون مع “راديو سوريالي” حينها، مشروعاً أسميناه “أبو فاكر فوياج”، يروي فيه الحكواتي أبو فاكر (الممثل بسام داوود) حكاية الثورة الفرنسية لاستخلاص العبر من التجربة، وتطبيق ما يمكن تطبيقه على ثورتنا المستمرة في حينه.

في يوم التصوير الأول، كنا بحاجة أن نصوّر في قصر فرساي الملكي، وكنت قد سألت عن آلية الحصول على موافقة للتصوير، واتضح أن الأمر مكلف للغاية، ويتطلب شركة إنتاج مسجلة فرنسياً، ويأخذ وقتاً طويلاً. وبما أننا مجموعة من الفنانين الذين يعملون بشكل مستقل، وسنعرض نتاج عملنا على “يوتيوب”، قررنا أن نغامر وننطلق للتصوير من دون موافقة.

في يوم التصوير الأول، أثناء عملنا، مرت سيارة شرطة، تجول عادة في القصر للتأكد من عدم تجاوز الزوار القانون، وبمجرد أن اقتربت منا، ركضت هاربة، تاركة بقية الفريق الذين لا يتحدثون الفرنسية، وبالطبع لم تتوقف السيارة، ولم تسألنا لِمَ نصور.

يومها اكتشفت، أن عدم وجودي تحت سلطة نظام الأسد، لم ينزع من قلبي الرعب الذي رباه فينا النظام المخلوع على مر حياتنا، وأن تجاوز كل ذلك لن يكون إلا بعمل دؤوب ومستمر لمكافحة هذا الخوف، وقتل الرقيب القابع في داخلي.

مرت سنوات عشرة، وما زلت حتى اليوم أشعر بذلك الرقيب يقفز من داخلي في لحظات مفاجئة، ويدفعني إلى التردد، خاصة في ما أكتب، لكنني عودت نفسي على أن أحاربه، بأن أكتب عكس إرادته، بأن أعتبر خفقان قلبي المفاجئ دليلاً على أن فكرتي جيدة ولا بد من المضي بها قدماً.

اليوم، يجد السوريات والسوريون أنفسهم أمام التحدي نفسه داخل بلدهم الأم، تحدي التغلب على الرقيب الداخلي، تحدي الإقدام على مشاريع كانت تبدو ممنوعة، تحتاج إلى موافقة، تتطلب أن نحصل لها على إذن، وأمام تحد أكبر، هو أن نترك لأفكارنا العنان لتنطلق بحرية في كل الاتجاهات.

لدي أمل بأن نستطيع كسوريين أن نرسي نموذجاً يحتذى في تاريخ الثورات، بأن نستطيع أن نبتكر نموذجاً خاصاً بنا، يستمد إلهامه وعلمه من دراسة كل التجارب التي سبقتنا بأخطائها ونجاحاتها.

أتخيل العاملين والعاملات في الثقافة والفن اليوم، وهم يحاربون رقباءهم الداخليين، ويسمحون لأنفسهم بالخيال. ويفاجئني أن أراهم يملأون جدران المدن الجامعية باللوحات، يلونون مدنهم، يعرضون على كل المسارح، يغنون، ويرقصون، ويتحدثون، ويقدمون فن “الستاند آب كوميدي”، وأحسدهم على سرعتهم في تجاوز الخوف، فيما كانت رحلتي بطيئة ومضنية.

ورغم كل الجوانب المضيئة، إلا أنني ما زلت أحلم بالمزيد، أحلم بأن تصبح الأماكن العامة كلها أماكن عروض فنية، أحلم بأن يستطيع كل فنان أن يعبّر بطريقته ورؤيته، وأحلم بالضرورة بشباب سوري لا يعرف الخوف، أحلم بجيل لا يعرف رعبنا أصلاً، لا يتربى في داخله رقيب، ويكبر وهو حر بالمعنى المطلق، لكي يفكر ويبدع ويتعلم.

يبدو اليوم الجيل الشاب في سوريا أقدر على تجاوز خوفه، فيما يكبر الرقيب داخله كلما كبر سنه، إذ تطول سنوات مكوثه في القلوب، وقد تطول لتشمل كل سنوات حكم الأسد، لكنني أتمنى أن يستطيع الجيل الأكبر أيضاً أن يتجاوز رقيبه، لأن الجيل الصاعد بحاجة إلى المساندة، بحاجة إلى خبرة الأجيال التي سبقته وإلى معرفتها وعمقها، وقد تكون لتجربة اللجوء الأوروبي فضيلة، أن الكثيرين من المقيمين في أوروبا استطاعوا تدريجياً تجاوز هذا الخوف ومواجهته.

التحديات التي تواجه سوريا اليوم، لا يمكن حصرها، ومواضيعها تتشعب، من العدالة الانتقالية إلى بناء الدولة بمعناها العام والتفصيلي، من كتابة الدستور إلى تأمين الخدمات، فمواجهة هذه التحديات تتطلب الكثير من الإبداع، إذ لا ينحصر الإبداع الفكري في الثقافة والفن، بل يتسع ليشمل الحلول المبتكرة، والأفكار التي تولد من رحم المجتمع وطبيعته وفهم سياقاته المعقدة.

لدي أمل بأن نستطيع كسوريين أن نرسي نموذجاً يحتذى في تاريخ الثورات، بأن نستطيع أن نبتكر نموذجاً خاصاً بنا، يستمد إلهامه وعلمه من دراسة كل التجارب التي سبقتنا بأخطائها ونجاحاتها.

يجب ألا يمنعنا الاضطراب الذي لحق لحظة سقوط النظام المدوية والمفاجئة، والتحديات الهائلة اليوم، من تقديم أولوية التفكير. التفكير بهدوء وروية، التفكير كل في اختصاصه ومجاله، وكل على حدة، وكمجموعات لا بد أن تتشكل وتتضافر، لكي نستطيع إيجاد الحلول للمعضلات التي تواجهنا واحدة تلو الأخرى، من دون استعجال، من دون حلول مؤقتة، فالفرصة التي أتيحت لنا اليوم، قد لا تتكرر سوى مرة في دورة تاريخ واحدة.

نحن نبني دولة من تحت الصفر، نقوم بإعادة تشكيلها، وأحب أن أتخيل الأمر، بأن كلاً منا، سيشارك بتجربته الشخصية في البناء بقطعة من هذا المبنى، يضعها في مكانها الصحيح والمناسب فيتشكل ذلك البناء ليصبح شبهنا، ويتلون بألواننا، على شكل تراثنا وتاريخنا وحضارتنا، يمثلنا جميعاً، ويتحول شيئاً فشيئاً إلى عمل فني مرموق يزوره العالم كله، كي يعجب ببنّائيه المبتكرين.

درج

———————————-

إخفاء الأطفال في المؤسسات الرعائية… قبل سوريا كانت روسيا/ زينة علوش

23.01.2025

لا يزال الغموض يسود ملف اختفاء أطفال المعتقلين والمعتقلات في سجون نظام الأسد، بخاصة لناحية تورّط دور الأيتام عموماً وقرى الأطفال SOS- سوريا بخاصة، في عملية احتجاز هؤلاء الأطفال بأمر من النظام.

شكلت قضية الدكتورة رانيا العباسي وأطفالها الشرارة الأولى لفتح ملف المؤسسات الرعائية المحلية والدولية منها، إذ تشير تقارير صحافية وتحقيقات ميدانية إلى تورّط هذه المؤسسات بشكل مباشر في إخفاء الأطفال والتلاعب بأوراقهم الثبوتية.

وكانت قوات النظام السوري اعتقلت الطبيبة رانيا العباسي وأطفالها الستة في دمشق في عام 2013. وعلى رغم محاولات عائلتها للوصول إلى أي مؤشر حول مصيرهم، لم يتمكن أحد من التأكد من أي معلومة بهذا الخصوص. ونشر أخ الدكتورة، حسان العباسي، فيديو يتحدث فيه عن اتصالاته مع قرى الأطفال SOS في دمشق بعد ورود معلومات عن وجود أطفال أخته فيها تحت أسماء مستعارة.

وكانت المنظمة الدولية لقرى الأطفال SOS، أقرت في بيان، بأنها استقبلت فعلاً أطفال المعتقلين والمعتقلات حتى عام 2019، بطلب من النظام السوري آنذاك، وبأنها طلبت منه وقف تحويل هؤلاء الأطفال إليها. شكل هذا البيان اعترافاً رسمياً بأن القرى استقبلت أطفالاً حتى عام 2019، وأن دوراً أخرى لعبت هذا الدور إما تزامناً مع عمل قرى الأطفال أو حتى بعد توقّفها عن استقبال الأطفال.

وهنا لا بد من طرح سؤال عن دور مؤسسات الرعاية والوظائف التي تؤديها بعيداً أو ربما في صلب الواقع السلطوي العام. 

في الحقيقة، لعبت دور الأيتام دوراً سياسياً على امتداد التاريخ، ولم تكن دائماً في خدمة الأطفال، أو الوجه المشرق للعمل الخيري، بل شكلت غالباً أداة تستخدمها السلطات في عملية محو الهوية الأصيلة وتطويع الأطفال وتحضيرهم للخضوع للسلطة السائدة وثقافتها وأجنداتها.

ففي كندا مثلاً، بدأ النظام الرعائي في عام 1831 مع إنشاء 139 مؤسسة رعائية استهدفت أكثر من 150 ألف طفل من السكان الأصيلين. في عام 1920، أعلن مسؤول شؤون الشعب الأصيل أن الهدف الأساسي من دور الأيتام هو القضاء على مشكلة الشعب الأصيل وما يمثله من إعاقة أمام التمدد الاستعماري واستغلال الموارد الطبيعية في مناطق الشعب الأصيل.

وهكذا أُنشئت المؤسسات الرعائية أو ما عُرف حينها بالمدارس الداخلية، لتفصل الأطفال عن أهاليهم ولغتهم وثقافتهم المحلية عبر العمل التبشيري الإجباري الذي قامت به الكنيسة الكاثوليكية آنذاك.

جاءت النتائج كارثية، إذ بلغت نسبة وفيات الأطفال في تلك المؤسسات إلى 40 في المئة من مجمل الأطفال المودعين فيها. وفشل النظام المؤسساتي في ضمان التعليم، إذ تمكن 3 في المئة فقط من الوصول إلى الصف الأول متوسط. كما دمر هذا النظام الروابط الأسرية والثقافية، ما أدى إلى أجيال تعاني من آثار نفسية واجتماعية عميقة.

وتؤكد الدراسات أن الأفراد الذين عاشوا في تلك المؤسسات يفتقرون الى المهارات الاجتماعية والقدرة على تكوين علاقات أسرية، ما انعكس ارتفاعاً في معدلات الإدمان والجريمة بينهم، لا سيما أن عدداً كبيراً منهم تعرض للاعتداء الجنسي في تلك المؤسسات الخاضعة لسلطة الكنيسة الكاثوليكية.

 وتشير الدراسات أيضاً إلى أن الإرث الثقيل لهذا النظام المؤسساتي الرعائي يتطلب جهوداً مضاعفة للإصلاح، إذ لا تزال الأجيال المتعاقبة تعاني من تبعات هذا الفصل القسري عن الأسرة.

 الإرث الاستعماري لنموذج المؤسسات الرعائية امتد إلى كل الدول العربية التي خضعت للاستعمار، وهكذا شهدت منطقتنا، بخاصة لبنان وسوريا، ازدهاراً لهذه المقاربة رغم نتائجها السيئة على الأطفال.

في السنوات الأخيرة، تم الكشف عن مئات المقابر غير المسماة في مواقع المدارس الداخلية السابقة في كندا، ما أثار صدمة واسعة النطاق وأعاد تسليط الضوء على الآثار المأساوية لهذه المؤسسات.

وكشفت عمليات البحث باستخدام تقنيات الرادار، عن وجود رفات أطفال لم يتم تسجيلهم بشكل رسمي، وهو ما يشير إلى الانتهاكات الجسيمة التي عانى منها السكان الأصيلون وأطفالهم في ظل النظام الرعائي. هذه الاكتشافات عززت الدعوات إلى تحقيق العدالة والمحاسبة، وأكدت ضرورة الاستماع إلى أصوات الناجين وأسرهم، الذين ما زالوا يحملون جراحاً عميقة جراء هذه الممارسات الوحشية. كما دعت إلى توسيع التحقيقات والتعويض عن هذا الإرث المأساوي الذي شكّل أحد أعمق أوجه القهر في تاريخ كندا.

إلا أن الإرث الاستعماري لنموذج المؤسسات الرعائية امتد إلى كل الدول العربية التي خضعت للاستعمار، وهكذا شهدت منطقتنا، بخاصة لبنان وسوريا، ازدهاراً لهذه المقاربة رغم نتائجها السيئة على الأطفال.

في لبنان مثلاً، تم تخصيص العمل الرعائي وأصبحت لكل طائفة دار أيتام تابعة لها تحت غطاء العمل الخيري، لكن هذه المؤسسات هدفت بالفعل إلى محو الهوية الفردية للأطفال وجعلهم مديونين للنظام الرعائي ومن خلفه الطائفة أو الزعيم أو السياسي.

لم يبتعد نموذج قرى الأطفال SOS  العالمي عن هذه المنهجية، إذ انتشرت هذه القرى في كل دول العالم، مؤكدة النفس الاستعماري للدول وخضوعها للسلطة المحلية.

ولا بد أن نعترف أيضاً بأن منظمات دولية عدة تخضع للأنظمة القمعية في البلاد التي توجد فيها، وهذا ما يثير مخاوف أخلاقية كبيرة.

وفي العودة الى موضوع تورّط قرى الأطفال SOS في سوريا في عملية إخفاء أطفال بطلب من السلطات المحلية، فهذا ما حدث ايضاً خلال غزو روسيا لأوكرانيا، إذ اعتمدت روسيا الفصل القسري للأطفال في أوكرانيا عن أهاليهم ونقلهم إلى روسيا لأغراض التبني. كما تم إيداع عدد كبير منهم في قرى الأطفال SOS بهدف محو هويتهم الأوكرانية وتطبيعهم في النظام الروسي.

آنذاك، واجهت المنظمة انتقادات كثيرة حول دورها في تنفيذ سياسة النظام الحاكم، أما المنظمة الدولية فبررت ما حصل في القرى في روسيا بأنه فعل فردي من الموظفين المحليين التابعين للنظام الحاكم.

وتجاوباً مع الضغط الأوروبي، قررت المنظمة الدولية في 18 أيار/ مايو 2023، فصل قرى الأطفال في روسيا عن المنظمة الدولية.

ليست المرة الأولى التي تتورط فيها قرى الأطفال SOS كمنظمة دولية وجمعيات محلية، في عملية إخفاء أطفال، ولا تنفع حجج مثل إلزامية الخضوع للضغوطات المحلية في تبرير تورط المنظمة وشكل رعايتها في ما هو انتهاك صارخ بحق الأطفال.

 ولا بد أن تتحمل المنظمة الدولية مسؤوليتها في توفير معلومات عن مصير هؤلاء الأطفال، والقيام بمراجعة شاملة لنمط الرعائية المؤسساتية، فما حصل سابقاً في كندا من فصل قسري ومن ثم اكتشاف المقابر تحت المؤسسات الرعائية والممارسات المكتشفة في سوريا وقبلها في أوكرانيا، يدفعنا الى التفكير في جدوى نظام رعائي أثبت فشله.

 – خبيرة دولية في حماية الأطفال

 درج

 ———————————————-

سوريا: أربعة أطراف تُدير ثلاثة مناهج دراسية متنافرة!/ شفان ابراهيم

22.01.2025

أمام اختلاف مساحات السيطرة والولاءات، جاءت تعددية المناهج في سوريا، ففي المنطقة الكردية منهاجان وثلاث طرائق للتحصيل العلمي، طرفها الأول مناهج النظام السوري، التي انحصرت ضمن المدارس الخاصة في القامشلي والحسكة وديرك، والتي يتجاوز عددها 30 مدرسة، و125 مدرسة حكومية كانت تدرّس مناهج النظام السوري، وتنتشر في القرى العربية التي كانت موالية للنظام، أو في المربعات الأمنية، حيث منع تدريس اللغة الكردية بشكل مطلق.

تسبب النزاع الدائر في سوريا، في تحجيم العملية التعليمية وتهديد استمرارها ومستقبل جيل بأكمله، إذ قدّرت إحصائيات فريق “منسقو استجابة سوريا”، وجود نحو 2.3 مليون طفل متسرب من التعليم، وتدمير 891 مدرسة في الشمال الغربي؛ نتيجة الهجمات المتكررة للنظام السوري والروسي.

تشير الأرقام أيضاً إلى أن 66% من المخيمات في سوريا لا تحتوي على مدارس، وإلى انقطاع التمويل عن قرابة 50% من المدارس، التي تعتمد في رواتب مدرسيها ومصاريفها على الدعم الدولي.

يؤكد الموظف المتقاعد في وزارة التربية في دمشق حسين علي (51 عاماً) في حديثه مع “درج” أن: “أكثر من نصف المدرسين والمعلمين هاجروا، أو تركوا التدريس نتيجة للظروف الأمنية أو المعيشية”، ويرى أن “الحلول المتبعة تسببت في مشاكل أكثر، عبر الاعتماد على خطط قصيرة المدى وغير مستدامة، وأدت إلى فقدان النتائج المضمونة ذات الديمومة الطويلة الأمد”.

يختم حسين علي حديثه “بعد أكثر من عقد على الأزمة السورية والصراع السياسي والعسكري، لا تزال اللغة الكردية عرضة للتجاذبات والحسابات السياسية؛ عدا غياب شبه تام لدور المنظمات الدولية والمدنية المحلية وفعاليتها، مع الضعف الواضح لدور المانحين الدوليين والإقليميين في قضية التعليم، وكل ذلك يحمل عواقب وخيمة”.

التعليم في المناطق الكردية قنابل موقوتة

أمام اختلاف مساحات السيطرة والولاءات، جاءت تعددية المناهج في سوريا، ففي المنطقة الكردية منهاجان وثلاث طرائق للتحصيل العلمي، طرفها الأول مناهج النظام السوري، التي انحصرت ضمن المدارس الخاصة في القامشلي والحسكة وديرك، والتي يتجاوز عددها 30 مدرسة، و125 مدرسة حكومية كانت تدرّس مناهج النظام السوري، وتنتشر في القرى العربية التي كانت موالية للنظام، أو في المربعات الأمنية، حيث منع تدريس اللغة الكردية بشكل مطلق.

أما في مناطق سيطرة الإدارة الذاتية، فهناك 115 مدرسة في عموم محافظة الحسكة، وفقاً لمصادر تربوية من الطرفين، وتُدرس المناهج بثلاث لغات، العربية والإقبال عليها قليل، والسريانية ويكاد يكون معدوماً، والكردية ونسبتها جيدة، لكنها أقل بشكل مطلق من عدد الطلبة الكرد في المدارس الحكومية.

والتقى “درج” مع المدرّسة شيرين عبدي (38عاماً) التي أعادت أسباب تفضيل الكرد مناهج النظام على منهاج الإدارة الذاتية إلى “غياب الاعتراف الرسمي بها من أي جهة، والضعف في أداء المدرسين، بخاصة الدفعات الأولى من الملتحقين بها، والإشارات الواضحة إلى الإدلجة السياسية والحزبية ضمنها”.

من جهته يشرح شكري إبراهيم المدرّس المتخصص بالدورات الخصوصية أن “الصراع السياسي على التعليم، وتكرار إغلاق المدارس والوضع الأمني، أوجدا طرفاً ثالثاً للتعليم، وهو التعليم الرسمي بطريقة غير رسمية، أي عبر الدورات الخصوصية في المنازل، والاكتفاء بالتقدّم للامتحانات سواء الشهادة أو المرحلة الانتقالية، وهو ما أدى إلى ضعف التركيز وغياب التأقلم لدى الطالب، وفقدان التماسك والحوار المجتمعي بين الطلاب”.

توجهنا نحو جنوب مدينة القامشلي، حيث تكمن حالياً المعضلة الأكبر، إذ لم تشهد المدينة سوى مناهج “البعث” والنظام السوري. حسب وصف رياض الظاهر (28عاماً) طالب ماجستير في التربية، الذي اعتبر “عدم وجود توافق سياسي بين الإدارة في دمشق والإدارة الذاتية، سيقود إلى كارثة حقيقية، فالتعليم مستمر ولجميع الصفوف الانتقالية، وفي حال الانتقال إلى مناهج الإدارة الذاتية، حتى باللغة العربية، سنواجه مشاكل تقنية وتعليمية، بخاصة في هذا العام الذي انتهى نصفه الأول” .

ويقدّم الظاهر بعض الحلول مقترحاً: “اللغة الكردية يجب أن تتحول إلى لغة في المدارس، والمناهج يجب أن تتوحد على مستوى سوريا، من حيث المضمون والطرائق والآليات، والقرار التعليمي التربوي، ولا مشكلة لو كانت بأكثر من لغة”.

نشر مركز “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” في عام 2023 بحثاً حول التعليم في عفرين، جاء فيه أنه “بعد سيطرة فصائل المعارضة والجيش التركي على منطقة عفرين في عملية غصن الزيتون، في آذار/ مارس 2018، فرضت الحكومة السورية المؤقتة التابعة للائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، مناهج صادرة عن وزارة التربية في الحكومة السورية المؤقتة، كما خصصت الحكومة المؤقتة، أربع حصص للغة التركية ومثلها للغة الكردية”.

نقرأ أيضاً في البحث: “تمّ تقليص نصاب اللغة الكردية إلى حصتين فقط وأحياناً إلى حصة واحدة، وأُلغيت تماماً في بعض المدارس، بحجة عدم وجود كوادر لتدريسها”. البحث ذهب باتجاه فرض “اللغة التركية على الكرد السوريين/ات والنازحين/ات السوريين العرب الوافدين إلى المنطقة من مناطق سورية أخرى، وبدأ الحديث في كتب اللغة التركية عن رموز وشخصيات قومية تركية وأخرى دينية غريبة عن البيئة المجتمعية السورية”.

 وحول واقع اللغة الكردية والتعليم في عفرين انتهى البحث للقول: “تُعدّ الكردية لغة ثانوية في المناهج التعليمية بعد العربية والتركية والإنجليزية من جهة عدد الحصص، ومعاملتها كمادة غير مؤثرة في المعدل العام للدرجات، بسبب عدّها لغة اختيارية في امتحانات الشهادتين الإعدادية والثانوية. والمفارقة المثيرة هي تفوق اللغة التركية (داخل أراضي الدولة السورية) وتقدّمها من حيث الأهمية وعدد الحصص ونوعية المدرسين، فضلاً عن المكانة العلمية وأهميتها في التحصيل العلمي، على الكردية لغة السكان الأصليين”.

وفي حديثه مع “درج” قال زهير حنان من أهالي قرية راجو: “المواد العلمية هي نفسها التي كان النظام يُدرسها، وهذا أمر طبيعي، فليس الأسد من اخترع الرياضيات أو الفيزياء، مقابل إهمال وتقليص حصص مادة الفلسفة، وزيادة حصص التربية الدينية والشريعة والسنة النبوية”.

 يختم حنان قائلاً: “غالبية القرارات الصادرة لها علاقة بالنموذج التركي في التعليم، وتم الاعتراف بشهادة التعليم الثانوي الصادرة عن المدارس في عفرين، ويتمكن حاملها من إتمام تحصيله الجامعي في تركيا”.

إدلب وحكومة الإنقاذ

لجأت حكومة الإنقاذ التي أنشأتها “هيئة تحرير الشام”، كذراع مدني لإدارة شؤون إدلب وريف حلب واللاذقية المحاذي لإدلب، إلى اتفاق ضمني بينها وبين الحكومة السورية المؤقتة، بحيث تكون كامل العملية التعليمية في مناطق حكومة الإنقاذ تابعة للحكومة السورية المؤقتة، أمام الجهات الداعمة والدولية.

السبب هو إدراج “هيئة تحرير الشام” على لوائح الإرهاب، ورفض الجهات المانحة التعامل معها، في حين أن الملف التعليمي، ضمنياً، كان يُدار بتوافق الحكومتين (الإنقاذ والمؤقتة) سواء من حيث اختيار المسؤولين التربويين في مناطق التداخل بينهما، أو الاتفاق على المحذوفات من المنهاج.

يضاف أيضاً  أن شهادات طلاب الشهادتين الثانوية والإعدادية، كانت تُمهر بختم الحكومة المؤقتة التي يعترف بها عدد من الدول الأوربية. ووفقاً للباحث في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” علي عبد المجيد الذي قال ل”درج” عبر “واتسآب” إنه “لم يتم تغيير المناهج، بل أُزيل كل ما يرمز إلى النظام السوري والأسد والبعث، في مناطق سيطرة الإنقاذ والحكومة المؤقتة، وكان الأمر متوافقاً عليه من الطرفين، وتم حذف مادة القومية الاشتراكية بالكامل، فهي ليست سوى كتاب تمجيدي للأسد والنظام”.

صراع تعليمي بين الحكومتين

أكد مصدر لـ”درج” أن “أسباب الخلافات ليست تعليمية ولا تربوية ولا تتعلق بمستقبل الطالب، إنما بإقالة مديرين تربويين تم تعينهم بالتوافق بين الطرفين”، ولفت إلى أن “الحكومة المؤقتة ترى أن حكومة الإنقاذ تتفرد وحدها في قضية المحذوفات من التعليم، سواء بإعادة قسم منها، أو بحذف أجزاء أخرى من دون العودة إلى الطرف الآخر”، وأشار إلى أن “هناك أيضاً رغبة لدى حكومة الإنقاذ في فك الارتباط مع الحكومة المؤقتة، ودعم جامعة إدلب، منطلقة من أن ما يزيد على 75% من الطلاب هم في مناطق نفوذها، وتفضيل الطلاب تقديم الامتحانات لديها، أو لدى مديريات التربية التابعة للمجالس المحلية المدعومة من تركيا، كون الامتحانات أسهل مقارنة بمثيلتها لدى الحكومة السورية المؤقتة، التي تستمد الأخيرة قوتها من كون الاعتراف الدولي هو للشهادات الصادرة عنها، ولكون الجهات المانحة تعترف بها وتنسق معها”.

 يُذكر أن هذا الصراع والتقييم لموازين القوى في العملية التعليمية، كان قبل وصول “هيئة تحرير الشام” إلى دمشق وسيطرتها على سوريا.

مناهج النظام السوري

بقي النظام السوري يستثمر في التعليم والمناهج، سواء من جهة إجبار الطواقم التعليمية والإدارية والطلاب على الخروج في مسيرات تأييد، أو إلغاء مكونات المجتمع السوري، أو التركيز على “بعثنة” المناهج وتعريبها.

 التقى “درج” مع سمير عيطة (67عاماً) من أهالي ريف الحسكة، الذي قال: “خدمت في سلك التعليم 32 عاماً، ولم أشعر يوماً بالانتماء، كان البعث جاثماً على صدورنا، والتعليم مثل الجيش، كان الخط الأحمر العريض للنظام، الذي لا يجوز المساس به”.

 حالياً العملية التعليمية متوقفة مع وعود بإعادة إطلاقها مجدداً في عموم المحافظات، ووعود بتوزيع الرواتب خلال الأيام المقبلة، حيث قال مصدر مقرب من وزارة التربية في حكومة تصريف الأعمال السورية “جهودنا تركز حالياً على عودة الطلاب إلى المدارس، وتوزيع الرواتب، وبخصوص المحذوفات التي حصلت هي اعتيادية وتتقصد كل ما يتعلق بالنظام”.

 أثارت المحذوفات من منهاج النظام السوري السابق ردود فعل شديدة، خصوصاً في ظل التصريحات المتناقضة من الحكومة المؤقتة، لكن ترى فرح بشار وهي مدرّسة لغة عربية من دمشق، أن “الأهم هو البنية التحتية، الكتاب المدرسي، الرواتب، الاستقرار، إعادة ترميم المدارس المدمرة، كيفية خلق الانسجام بين الطلاب المعارضين والموالين، كيفية دمج الطلبة العائدين من بلاد النزوح، وليس حذف مادة عن زنوبيا، أو خولة بنت الأزور”.

حلول أكاديمية

التقى “درج” ضمن جلسة تربوية، مجموعة من الموجهين التربويين في مجمع القامشلي التربوي ، أكدوا أن “الحلول يجب أن تكون تدريجية وجذرية وليس ترقيعية، فلا يمكن إهمال أن نسبة من الطلبة الكرد الذين وصلوا إلى المراحل الأخيرة من الثانوية العامة لا يجيدون التحدث بالعربية، كما أن أعداداً مقبولة تخرجت من جامعات الإدارة الذاتية من دون أي اعتراف أو تراكم معرفي”.

 وكحلول اقترحوا “ضرورة دمج المناهج جميعها في منهاج واحد، على أن ينال التوافق الوطني، وأن يشمل المكونات كُلها، ويمكن جعل اللغة الكردية أساسية في المنطقة الكردية، ولغة ثانية في باقي أنحاء سوريا، أو طرح المنهاج بأكثر من لغة، على أن يكون موحداً ومعترفاً به، وحالياً الأفضل إنهاء العام الدراسي، وتعيين اللجان منذ الآن للخروج بتوافق تعليمي”.

وقال الباحث علي عبد المجيد: “إن الحل العلمي الأمثل هو منهاج واحد بإشراف الدولة، ومتخصصون من كافة الأطراف والكيانات السورية، والأفضل هو التوافق الوطني على منهاج واحد، لكن الأمر يتطلب توافقاً دستورياً أولاً، والاتفاق على مستقبل البلاد، وشكلاً من أشكال الاستقرار السياسي والتوافق الجغرافي بين الأطراف، الحديث مبكر عن توحيد المناهج، حالياً الأولوية للجهود الدبلوماسية والأمن والتوافقات بين الفاعليات الموجودة في الجغرافية السورية، للوصول إلى مادة تعليمية موحدة”

– صحافي سوري كردي

درج

————————————

وجوب محاسبة من تلطخت كلماتهم بالدماء في سوريا/ خلف علي الخلف

تحديث 25 كانون الثاني 2025

لطالما لعب الإعلام دورًا محوريًا في تشكيل الرأي العام وتوجيهه، لكنه في كثير من الأحيان خرج عن وظيفته السامية ليصبح أداة للتحريض على العنف والكراهية، بل للإسهام المباشر في تأجيج الصراعات وارتكاب الجرائم والمجازر.

ومن بين أبرز الأمثلة العالمية على هذا الدور المظلم للإعلام كانت مذابح رواندا عام 1994، حيث استُخدمت إذاعة “RTLM” لتأجيج الكراهية العرقية بين الهوتو والتوتسي، ما أدى إلى مقتل مئات الآلاف. في السياق السوري، شهدنا أدوارًا مشابهة للإعلام، حيث وقفت وسائل الإعلام الحكومية والخاصة والعديد من الإعلاميين والصحفيين والكتاب والفنانين إلى جانب السلطة الأسدية الغاشمة في حربها ضد السوريين، مسخرين أقلامهم ومنابرهم وحساباتهم الشخصية على وسائل التواصل للدعوة إلى القمع ورمي البراميل المتفجرة على المدنيين بعد شيطنتهم واعتبارهم حاضنة للإرهابيين، مبررين بذلك جرائم الحرب التي ارتكبتها الطغمة وأعوانها. و”إرهابيون” هنا تشمل كل من قال “لا” للسلطة البائدة.

الإعلام السوري ودوره في الأزمة

منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، اتخذ الإعلام السوري الموالي للنظام موقفًا عدائيًا تجاه الحراك الشعبي، حيث استخدمت القنوات والصحف الرسمية والخاصة خطابًا يعتمد على التخوين والتشهير، ووصف المتظاهرين بأنهم مندسون وإرهابيون وعملاء. هذا الخطاب لم يقتصر على نقل وجهة نظر النظام فحسب، بل ساهم في التحريض العلني على الاعتقال والعنف والقتل والإبادة، مبررًا لها.

دعمت التغطية الإعلامية في وسائل الإعلام الحكومية والخاصة الاعتقالات الجماعية التي نفذها النظام في بداية الثورة، ثم دعمت القصف العشوائي والبراميل المتفجرة وإطلاق الصواريخ بعيدة المدى والتنكيل بسكان المدن والقرى التي خرجت ضد الطغمة الساقطة، بما في ذلك تأييد زج المتظاهرين السلميين وأصحاب الرأي في معتقل صيدنايا سيئ السمعة، الذي وصفته المنظمات الدولية بـ”مسلخ بشري”. لم يقتصر دور الإعلاميين والكتاب والفنانين الموالين للنظام على التبرير فقط، بل دعا بعضهم صراحة إلى استخدام القوة المفرطة والبراميل المتفجرة والقصف العشوائي واستخدام الأسلحة الكيماوية. هناك أمثلة معروفة لشعراء وكتاب وصحفيين كرَّسوا جهودهم لهذا الغرض.

المسؤولية الأخلاقية والقانونية للإعلاميين

القانون الدولي الإنساني يجرم كل من يحرض على الجرائم ضد الإنسانية أو يساهم في ارتكابها، سواء كان ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر. فالإعلامي والكاتب والصحفي الذي يستخدم منصته أو حساباته الشخصية للدعوة إلى القتل أو تبرير الجرائم يُعد شريكًا في المسؤولية، حتى وإن لم يشارك فعليًا في تنفيذ تلك الجرائم.

في الحالة السورية، يمكن اعتبار الخطاب الإعلامي التحريضي الذي دعم جرائم الحرب، بما في ذلك القتل الجماعي والتعذيب والقتل تحت التعذيب لعشرات الآلاف والتدمير المنهجي للمناطق المدنية، خرقًا واضحًا للقوانين الدولية. ويتطلب ذلك محاسبة أولئك الإعلاميين وفقًا للقانون الدولي، تمامًا كما حدث مع الإعلاميين في رواندا، الذين حوكموا أمام المحكمة الجنائية الدولية لدورهم في التحريض على الإبادة الجماعية.

لماذا المحاسبة ضرورية؟

محاسبة الإعلاميين والكتاب والصحفيين الذين ساهموا في توحش السلطة الغاشمة وأيدوها وبرروا جرائمها ليست مجرد مطلب أخلاقي، بل ضرورة لتحقيق العدالة ومنع تكرار هذه الجرائم في المستقبل. فالسكوت عن هذا النوع من الجرائم يرسل رسالة خاطئة مفادها أن التحريض على العنف والإبادة الجماعية يمكن أن يمر دون عقاب.

إضافة إلى ذلك، فإن محاسبة الإعلاميين والصحفيين تعزز مبدأ المسؤولية الفردية، وتظهر أن القلم والكلمة يمكن أن يكونا أدوات للقتل إذا استخدما بشكل غير مسؤول. ولا يمكن للمجتمعات أن تتعافى أو تنعم بالسلام ما لم يتم محاسبة كل من ساهم في الجرائم، سواء كان ذلك بالسلاح أو بالكلمة.

كيف يمكن تحقيق العدالة؟

تحقيق العدالة يتطلب خطوات قانونية واضحة، تشمل:

1. توثيق الجرائم الإعلامية: يجب على منظمات حقوق الإنسان توثيق خطابات التحريض على العنف التي صدرت عن الإعلاميين، بما في ذلك مقاطع الفيديو والتصريحات والمقالات التي تبرر الجرائم. وهذا عمل هام يمكن أن تقوم به المنظمات الحقوقية التي تكاثرت في الحالة السورية وتلقت تمويلات دولية معتبرة، وأغلبها لم يقم بعمل ذي بال.

2. رفع القضايا أمام المحاكم الدولية: يمكن استخدام الأدلة الموثقة لرفع قضايا ضد الإعلاميين المحرضين أمام المحكمة الجنائية الدولية أو المحاكم المختصة بجرائم الحرب. وقد يكون هذا الخيار صعبًا في الحالة السورية نظرًا لطول أمد الثورة وكثرة عدد المحرضين وتفاوت مستويات التحريض، بدءًا من تهم التخوين والعمالة الخارجية وانتهاءً بتهمة الإرهاب لكل من قال “لا” للسلطة الحاكمة.

3. إنشاء قوانين وطنية تجرم التحريض الإعلامي: ينبغي على الدول التي تسعى لتحقيق العدالة أن تعتمد قوانين واضحة تجرم خطاب الكراهية والخطاب الطائفي والتحريض على العنف والجرائم. وفي الحالة السورية، وإذا أريد لهذه البلاد أن تتعافى، يجب أن يُسن قانون صارم حول التحريض الإعلامي والامتناع عن إصدار عفو عام أو خاص عن الذين شاركوا في تلك الجرائم عبر الكلمة.

4. تعزيز التثقيف الإعلامي: يجب العمل على نشر ثقافة إعلامية أخلاقية تقوم على تعزيز قيم العدالة والسلام واحترام حقوق الإنسان الفردية والجماعية. وكذلك تعزيز ثقافة المسؤولية والمحاسبة. هذا يجب ألا يُترك لضمير الصحفي أو الكاتب أو الإعلامي أو الفنان، بل يجب سن ميثاق أخلاقي وطني للعمل الإعلامي توقع عليه النقابات الصحفية والفنية والمؤسسات الإعلامية والأفراد حال التحاقهم بأي مؤسسة إعلامية، ويكون جزءًا من عقود العمل.

الإعلام أداة قوية يمكن أن تكون مصدرًا للبناء أو الهدم. وفي الحالة السورية، استخدم العديد من الإعلاميين والصحفيين والكتاب أقلامهم وكلماتهم لتدمير المجتمع السوري من خلال التحريض على الاعتقال والقتل والعنف والإبادة الجماعية وتبرير جرائم الحرب. محاسبة هؤلاء ليست مجرد مطلب للضحايا، بل هي مسؤولية إنسانية وأخلاقية تعطي رسالة واضحة بأن “لا إفلات من العقاب” لضمان عدم تكرار مثل هذه الجرائم في أي مكان في العالم.

ايلاف

————————————

مصير قوات “قسد”.. هل يحدد مستقبل الدولة السورية؟/ سمير العركي

25/1/2025

لا أبالغ إذ أقول، إن الإدارة السورية الجديدة، التي تمكنت من إسقاط نظام بشار الأسد في أحد عشر يومًا، تقف اليوم على مفترق طرق فيما يتعلق برؤيتها للتعامل مع ملف قوات سوريا الديمقراطية “قسد”.

فهذا الملف تحديدًا لا يمكن اعتباره شأنًا داخليًا خالصًا، بل تتنازعه قوى إقليمية ودولية، ذات حسابات متباينة ومتضاربة، فتركيا ترفض رفضًا باتًا بقاء هذه القوات على حدودها بأي شكل من الأشكال، وتقول إن تنظيم حزب العمال “PKK” يسيطر تمامًا عليها، حتى وإن كان أكثر مقاتليها من العشائر العربية.

فيما تبسط الولايات المتحدة حمايتها على التنظيم، بزعم الحاجة إليه في مواجهة تنظيم الدولة، حيث تعتبر واشنطن أن خطر التنظيم لايزال قائمًا، خاصة مع وجود آلاف السجناء المنتمين له، تتولى قوات “قسد” الإشراف على السجون والمعتقلات المودعين فيها.

يضاف إلى ذلك ما تداولته تقارير إعلامية عن انضمام عشرات الضباط المنتمين إلى نظام بشار الأسد، والذين تمكنوا من الفرار إلى مناطق سيطرة التنظيم المسلح.

كل هذا يعني تعدد أطراف المواجهة، الأمر الذي يفتح المجال أمام تعدد السيناريوهات المتوقعة في التعامل مع الملف.

وسيلقي هذا المقال الضوء على أبرز هذه السيناريوهات، ومدى قبولها من أطراف الأزمة، وتداعياتها على وحدة وسلامة الدولة السورية.

 السيناريو الأول: حلّ التنظيم

في تصريحات متلفزة، أكّد وزير الخارجية العراقي السابق، هوشيار زيباري، وجود مقاتلين من تنظيم حزب العمال “التركي” في مفاصل قوات “قسد” السورية!

هذا التأكيد من زيباري كردي العرق، يعزز السردية التركية بشأن مخاوفها الأمنية من وجود تنظيم انفصالي مسلح على حدودها الجنوبية، حتى ولو تحت لافتات أخرى مثل “قسد” أو “وحدات الحماية الكردية”.

من هنا كانت المقاربة التي طرحتها تركيا على لسان وزير خارجيتها، هاكان فيدان، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، تعتمد إنهاء الأزمة من خلال حل التنظيم نهائيًا.

إذ تضمنت المقاربة مغادرة جميع مقاتلي حزب العمال ووحدات الحماية، سوريا، على أن يسلم الباقون السلاح للإدارة السورية الجديدة، ومواصلة الحياة وفق ما سيتم التفاهم بشأنه.

هذه الأطروحة التركية تتوافق مع رؤية الإدارة السورية التي أعلنتها منذ اللحظات الأولى لدخولها دمشق، والرامية إلى حل جميع التنظيمات المسلحة، وضمها تحت مظلة وزارة الدفاع.

من ناحيته، تماهى حزب العمال جزئيًا مع هذا السيناريو، إذ أعلن في بيان موافقته على مغادرة الأراضي السورية، لكنه اشترط بقاء سيطرة قوات “قسد” على شمال شرقي البلاد، أو احتفاظها بدور مهم في القيادة المشتركة.

لكن هذه الاشتراطات ترفضها الإدارة السورية، كما أنها غير مقبولة من جانب تركيا، التي ترفض بقاء أي “جيوب” انفصالية على حدودها.

وحتى ولو وافقت قيادة قوات “قسد” على هذا السيناريو، تبقى الموافقة الأميركية شرطًا لتنفيذه، وهذا سيتوقف على الإستراتيجية التي ستتبناها إدارة الرئيس، دونالد ترامب، بشأن الملف السوري.

السيناريو الثاني: الانضمام إلى الجيش السوري

ويمثل هذا السيناريو حلًا مرضيًا لجميع الأطراف، لكن شريطة أن يتم التحاق قوات “قسد” بالجيش السوري أفرادًا، كما هو شأن بقية الفصائل التي تستعد لتنفيذ تلك الخطة.

لكن ما يجعل هذا السيناريو مستبعدًا من الناحية العملية هو اشتراط قيادة “قسد” الانضواء إلى الجيش ككتلةٍ لا أفرادٍ.

ففي حديث لقناة الشرق الإخبارية، أشار قائدها، مظلوم عبدي، إلى أن قواته “لا تعتزم حل نفسها”، مؤكدًا انفتاحها على الارتباط بوزارة الدفاع، والعمل وفق قواعدها، ولكن “ككتلة عسكرية”.

لكن هذا العرض قوبل بالرفض من قبل الإدارة الجديدة، حيث تعتقد أن هذا السيناريو من شأنه أن “يهدد بزعزعة الاستقرار، بما في ذلك حدوث انقلاب”. وذلك وفق ما أكده أحد المسؤولين في دمشق لرويترز.

فالخبرة السورية لا تزال تعيش التداعيات المدمرة لوجود كتل أقلوية داخل الجيش، إذ نجحت الكتلة العلوية بزعامة صلاح جديد، وحافظ الأسد، في تنفيذ انقلاب فبراير/شباط 1966، والذي مهد لتهميش المكونات الأخرى وخاصة الأغلبية السنية، إلى أن نجح الأسد في حسم الرئاسة لصالحه بانقلاب تالٍ في نوفمبر/تشرين الثاني 1970.

كما أن قبول أحمد الشرع وإدارته هذا السيناريو، يعني فتح الباب على مصراعيه أمام احتفاظ بقية الفصائل المسلحة بكتلها المستقلة داخل الجيش، وهو الأمر الذي يتنافى مع أبسط مقومات سلامة الدولة ووحدتها.

أيضًا فإن احتفاظ “قسد” بهويتها وكتلتها داخل الجيش، يعني احتفاظها بالسيطرة على أماكن تمركزها في شمال شرق البلاد، ما يمنح الحق لبقية المكونات الطائفية للمطالبة بوضع مماثل!

السيناريو الثالث: تجميد الأوضاع

وهذا السيناريو يمكن تصوره من الناحية النظرية، لكن لا يمكن قبوله من الإدارة السورية في دمشق.

فتجميد الأوضاع يعني أن تظل محافظتا الرقة والحسكة، وجزء من محافظة دير الزور خارج سيطرة الدولة، ما يعزز سردية التقسيم لفئات وطوائف داخل سوريا.

ففي السويداء مثلًا حيث الأكثرية الدرزية هناك، يمكننا بوضوح أن نميز بين تيارين:

    الأول: تيار مدني يرى ضرورة الانصهار في بوتقة الدولة الجديدة، ومحاولة تحصيل أكبر قدر من الامتيازات في مرحلة إعادة البناء.

    الثاني: تيار يعزز من خلال مواقفه وسردياته النزعة الانفصالية، من خلال الحديث المبهم عن “اللامركزية” وعدم تسليم السلاح، ويتزعم هذا التيار الشيخ حكمت الهجري، بتصريحاته المثيرة للجدل.

فبقاء الأوضاع على ما هي عليه الآن، يعني منح الفرصة للتيارات الانفصالية داخل الطوائف للقفز من مركب الدولة الموحدة، واللهاث خلف فكرة التقسيم وطلب الدعم من أطراف دولية وربما إقليمية، ما سيدخل الدولة في فوضى لن تنجو منها بسهولة.

السيناريو الرابع: الحسم العسكري

“باب التفاوض مع قسد في الوقت الحاضر قائم، وإذا اضطررنا للقوة فسنكون جاهزين”. هذه العبارات وردت على لسان وزير الدفاع السوري، مرهف أبو قصرة، في لقائه مع الصحفيين بدمشق يوم 22/01/2025، ما يعني أن سيناريو الحسم العسكري سيظل قائمًا، حال فشل المفاوضات الحالية.

وبالرغم من أننا نعيش تقريبًا أجواء هذا السيناريو الآن، من خلال القصف المركز الذي تنفذه القوات التركية وقوات الجيش الوطني على أماكن تمركز قوات “قسد” في مناطق سد تشرين وريف منبج والقامشلي وعين العرب “كوباني” وغيرها، فإن تطورها إلى اجتياح بري لن يكون بالأمر السهل.

فقوات “قسد” تتمتع بحماية القوات الأميركية التي تولت إنشاءها وتدريبها ودعمها منذ عام 2015، ومن غير المتصور أن تتخلى واشنطن عنها بسهولة، رغم إعلان ترامب عزمه على تصفير المشكلات في منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص.

ومن هنا فالأمر يحتاج إلى تفاهمات أميركية – تركية – سورية، تعيد ترتيب أوضاع الشمال السوري بما يحول دون تقسيم البلاد، أو وجود جيوب انفصالية.

كما يجب أن تمتد هذه التفاهمات إلى حل إشكالية الإشراف على السجون المحتجز فيها عدة آلاف من عناصر تنظيم الدولة، حيث تبرر واشنطن دعمها لـ “قسد” بحراستها تلك السجون.

ورغم الكلفة العالية للحسم العسكري، فإنه يظل الخيار الأرجح حتى الآن، نظرًا لفشل مسارات التفاوض في الوصول إلى نقاط التقاء.

وآخرها اللقاء الذي جمع مظلوم عبدي، مع رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني – القيادة الكردية التاريخية – مسعود البارزاني، دون أن يتمخض عن إجراءات مؤثرة وواضحة.

رغم أن البارزاني – الذي يتمتع بعلاقات إستراتيجية مع تركيا – كان صريحًا في طلبه من عبدي ضرورة التفاهم مع الإدارة السورية الجديدة، والابتعاد عن حزب العمال.

وفي تقديري أن العملية العسكرية – حال حدوثها – ستكون عملًا مشتركًا بين إدارة العمليات العسكرية، وقوات الجيش الوطني، دون أن تزج تركيا بقواتها البرية بشكل مباشر؛ خروجًا من أي جدل يثار بهذا الشأن، مع بقاء الدعم العسكري التركي مقصورًا على الإسناد الجوي والمدفعي إذا تطلب الأمر ذلك.

والخلاصة:

إن إنهاء سيطرة “قسد” على شمال شرق سوريا، وتفكيك قواتها سيمنحان إدارة أحمد الشرع قوة كبيرة في القضاء على الجيوب المتناثرة لفلول نظام بشار الأسد، ووأد أي تطلعات انفصالية، وإلا فإن بقاء سيطرتها قد يدخل البلاد في نفق مظلم لن تخرج منه بسهولة.

كاتب وباحث في الشؤون التركية

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

———————————–

دور الإعلام في محاربة الإفلات من العقاب في سوريا/ فضل عبد الغني

24/1/2025|

في لحظةٍ باتت فيها عيون آلاف الناجين من جرائم نظام الأسد ترنو إلى بارقة أملٍ في عهدٍ جديد، تُفاجئنا بعض المنصّات الإعلامية باستضافة شخصياتٍ عُرفت بولائها للنظام وتبريرها للانتهاكات التي أدمت قلوب الضحايا على مدار سنواتٍ طويلة. هذا المشهد يشكل استفزازًا لمشاعر المكلومين، ويحمل في طيّاته تهديدًا حقيقيًا للسلم الأهلي؛ إذ قد يدفع ببعض الضحايا نحو الانتقام في ظل غياب إجراءاتٍ عادلة تمنحهم الإنصاف المنشود.

ولعلّ القضية المحورية التي نستحضرها هنا هي ضرورة معالجة ظاهرة استضافة هؤلاء الداعمين والمبررين لجرائم النظام في البرامج الحوارية أو المنصّات الثقافية، خاصةً بعد انهيار سلطة نظام الأسد الاستبدادية وبدء مرحلةٍ جديدة يُفترض أن تُمهِّد الطريق للعدالة الانتقالية.

إنَّ التهاون مع تبرير الجرائم والعنف الذي طال شرائح واسعة من المجتمع، لا يؤدّي سوى إلى تعميق الانقسامات وإبطاء مسار العدالة المنشودة. لقد بات مطلوبًا أكثر من أي وقتٍ مضى توخّي الحذر في اختيار الضيوف، وتحمّل مسؤولية مهنية وأخلاقية تضمن احترام كرامة الضحايا، وترسم معالم مستقبلٍ أكثر عدلًا وتوازنًا.

على مدى سنواتٍ طوال، شهدت سوريا انتهاكاتٍ جسيمة لحقوق الإنسان على يد نظام الأسد، بما في ذلك الإخفاء القسري والتعذيب والقتل خارج نطاق القانون، وبحسب قاعدة بيانات الشبكة السورية لحقوق الإنسان كان نظام الأسد وحلفاؤه مسؤولين عما يقارب 90% من تلك الانتهاكات الموثّقة.

وفي ضوء هذا الواقع الأليم، تبرز أهمية العدالة الانتقالية التي تُعرَف بمجموعة من الآليات والتدابير الرامية إلى تحقيق المحاسبة، والكشف عن الحقيقة، وجبر الضرر والإصلاح المؤسسي، بما يضمن عدم تكرار هذه الفظائع.

ولأنّ الإعلام يشكّل أحد الأعمدة الرئيسة في مرحلتَي النزاع وما بعد النزاع، فإنّ دوره لا يقتصر على التغطية الإخبارية؛ بل يتعدّى ذلك إلى كونه أداةً محوريةً إما في تهدئة الرأي العام ورأب الصدع الاجتماعي، أو في إعادة إنتاج سردياتٍ تبرِّر الجرائم وتُهيّئ المناخ لبروز أحقادٍ جديدة.

من هنا، يصبح التعامل المسؤول من قبل المنصّات الإعلامية ركيزةً أساسيةً لإنصاف الضحايا، وتعزيز المسار الانتقالي نحو دولةٍ تحترم حقوق الإنسان وتوفّر ضماناتٍ حقيقيةً لعدم العودة إلى دائرة الانتهاكات.

تكمن الإشكالية المركزية في أنّ العملية الانتقالية لا ينبغي أن تقتصر على ملاحقة الجناة المباشرين الذين ارتكبوا أبشع الانتهاكات بحقّ المدنيين، بل يجب أن تمتدّ لتشمل أولئك الذين دعموا وشرعنوا هذه الانتهاكات، سواء كان ذلك دعمًا ماديًّا أو سياسيًّا أو إعلاميًّا.

إنّ تبرير الجرائم التي ارتكبها نظام الأسد ليس مجرّد “رأيٍ مخالف”، يمكن التعامل معه باستخفاف؛ فهو انخراطٌ فعليٌ في إعادة إنتاج السرديات التي تجرّد الضحايا من إنسانيتهم وتضفي شرعيةً وهميةً على مظالمهم.

من هذا المنطلق، يصبح السكوت عن هؤلاء أو دعوتهم للظهور الإعلامي دون محاسبةٍ واضحة إمعانًا في التغاضي عن الآلام التي عانى منها الملايين، ويرسل رسالةً خاطئة إلى المجتمع تفيد بأنّ مجرد تغيير قمة الهرم السلطوي كافٍ للوصول إلى العدالة، بينما تبقى الشبكات الداعمة في منأى عن المساءلة.

على الصعيد النفسي والاجتماعي، إنّ استضافة الشخصيات المبرِّرة للجرائم تشكّل استفزازًا مباشرًا لمشاعر ملايين الضحايا وذويهم، ما قد يولّد موجةً جديدة من الغضب وعدم الثقة في أي عملية انتقالية، ويفتح الباب أمام احتمالاتٍ خطيرة من العنف الانتقامي.

فحينما يرى الناجي أنّ من برّر قتله أو تعذيبه في السابق ما زال يُمنح منصّةً للترويج لخطابه، فإنّ ذلك يُضعف ثقته في صدقية مؤسسات الدولة ووسائل الإعلام على السواء، ويقوّض فرص إرساء بيئةٍ مُهيّأةٍ للمصالحة.

ذلك أنّ انتقال المجتمعات من حقبة الاستبداد إلى مرحلة العدالة لا ينحصر في معاقبة المتورطين المباشرين فقط، بل يستلزم تفكيك المنظومات الثقافية والفكرية التي سمحت بتمرير الانتهاكات وتبريرها أمام الرأي العام.

أما فيما يتصل بالسلم الأهلي، فإنّ غضّ الطرف عن هذه الشريحة، وتبرير وجودها في الفضاء العام دون أي اعتذارٍ فعلي أو إسهامٍ حقيقي في جبر الضرر، يرسّخ لدى الضحايا شعورًا بالظلم ويغذّي مشاعر الانتقام التي قد تهدّد بنسف التعايش المجتمعي برمّته.

فالعدالة الانتقالية، كما تستلزم كشفًا للحقيقة واعترافًا علنيًّا بالمسؤولية، تنشد أيضًا إعادة ترميم النسيج الاجتماعي عبر خطواتٍ ملموسة تمنح الناجين الإحساس بأنّ كرامتهم قد استُعيدت وأنّ المجتمع بأسره يقف في صفّ الحقيقة، لا في صفّ النافذين والمبرّرين الذين كانوا جزءًا لا يتجزأ من منظومة القمع.

وفي هذا الإطار، فإنّ تطبيق مبدأ عدم الإفلات من العقاب، بأبعاده القانونية والأخلاقية والاجتماعية، هو صمّام الأمان الذي يضمن احتواء شعور الضحايا بالمرارة والإحباط، ويمهّد الطريق أمام مرحلةٍ سياسية ومجتمعية تحترم حقوق الإنسان في العمق، بدل أن تكتفي بتغيير أسماء القادة أو رموزهم.

الحجج والدلائل الداعمة

1- الركائز القانونية

    حدود حرية التعبير وجرائم التبرير: إنَّ الأصل في القانون الدولي لحقوق الإنسان أنَّ لكلِّ إنسان حقًّا في حرية الرأي والتعبير، وفق ما تنصّ عليه المادة (19) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.

بيد أنّ هذه المادة نفسها تقرُّ بإمكان فرض قيودٍ محدّدة على هذا الحق، شريطة أن تكون تلك القيود ضروريةً ومتناسبة وتحمي المصالح العامة، لا سيّما في حالات التحريض على العنف أو تبرير الجرائم الدولية.

وبالتالي، فإنّ تبرير الجرائم ضد الإنسانية أو جرائم الحرب لا يمكن اعتباره يندرج ضمن الحريات المحميّة؛ بل هو انتهاكٌ يزيد من إيلام الضحايا ويهدّد السلم المجتمعي.

    سوابق دولية في تجريم التمجيد أو الإنكار: شهدت بعض التجارب الأوروبية قوانين صارمة تجرّم إنكار الجرائم المرتبطة بالأنظمة الشمولية، وهذه الخطوات التشريعية تستند إلى قناعة مفادها أنّ عدم التصدي لإنكار أو تمجيد الجرائم الجسيمة يخلق بيئةً خصبة لإعادة إنتاج العنف والقمع. وعليه، قد تكون هذه النماذج القانونية مصدر إلهامٍ لحالةٍ سورية انتقالية، بهدف صوغ نصوصٍ تشريعية تُجرّم تمجيد أو تبرير الأعمال الوحشية التي ارتكبها نظام الأسد.

2- الركائز الأخلاقية والاجتماعية

    احترام كرامة الضحايا وحفظ السلم المجتمعي: تعدّ حماية كرامة الضحايا مبدأً أخلاقيًّا وإنسانيًّا لا يقبل التنازل، فضلًا عن كونها أداةً حاسمةً في استعادة الثقة داخل المجتمع. إذ يشعر الناجون أنَّ معاناتهم يتم الاعتراف بها وتقديرها، ما يساهم في تهدئة الغضب الداخلي لديهم ويمنع أي ميولٍ انتقامية. فعدم اتخاذ أي إجراءات قانونية أو أخلاقية ضدّ من يبرّرون الجرائم يعني، ضمنيًّا، إباحة الاعتداء على إنسانية الضحايا مجدّدًا.

    أهمية جبر الضرر المعنوي مبكّرًا: قد يستغرق تأسيس محاكم العدالة الانتقالية أو لجان الحقيقة والتحقيق وقتًا طويلًا، بيد أنّ الضحايا لا يستطيعون الانتظار لسنوات وهم يشاهدون مجرمي الأمس وداعميهم يتجوّلون في الفضاء العام دون أدنى شعورٍ بالمسؤولية.

ولهذا، تصبح خطوات الاعتذار العلني والتعويض المادي والمعنوي، ورد الحقوق إلى أصحابها، إجراءاتٍ أساسيةً تُنفَّذ بشكلٍ مبكّر، بحيث تشكّل اعترافًا صريحًا بوقوع الجريمة وتحمّلًا للجزء الأكبر من أعبائها الأخلاقية.

إنّ هذه الخطوات هي ركيزة السلم الأهلي، وتُعبّد الطريق نحو مستقبلٍ أكثر استقرارًا، عبر بعث رسالةٍ واضحة بأنَّ زمن الإفلات من العقاب وتمجيد الانتهاكات قد ولّى.

الرد على الاعتراضات

“عدم العلم”

يدّعي بعض الموالين لنظام الأسد أنّهم لم يكونوا على درايةٍ كاملةٍ بحجم الممارسات القمعية، أو أنّهم صدّقوا الدعاية الرسمية التي تنكر وقوع انتهاكاتٍ ممنهجة. غير أنّ هذا الادعاء بالجهل لا يعفي من المسؤولية الأخلاقية أو القانونية، خصوصًا بعد توافُر وثائق وشهادات وأدلة واسعة توثّق تلك الجرائم.

في إطار العدالة الانتقالية، يترتّب على الأفراد الذين دعموا النظام أو برّروا جرائمه واجب مراجعة الذات وتثقيفها، بدل الاستمرار في إنكار الحقائق. فمن غير المقبول أنّ تبرُز حجّة “عدم المعرفة” بعد سقوط نظام الأسد، في وقتٍ باتت المعلومات الموثوقة متاحةً للجميع. إنّ الاعتراف بالتقصير والجهل في السابق، إن أُرفق بتحمُّل العواقب والمسؤوليات الآن، قد يُشكّل خطوةً إيجابية على طريق استعادة ثقة المجتمع.

خطاب الانتقام

يمثّل الخوف من الانتقام أحد الهواجس المتكررة لدى الداعمين السابقين للنظام، كما قد يكون دافعًا للضحايا أنفسهم إذا ما استمر تجاهل مطالبهم. إلا أنّ التجربة التاريخية تُبيّن أنّ غياب المساءلة يؤدي في النهاية إلى تفاقم نزعة الثأر ويُغذّي دوراتٍ جديدةً من العنف.

على النقيض، فإنّ مساءلة المبرِّرين والجناة المباشرين، وما يصاحب ذلك من إجراءاتٍ تصالحية كالمصارحة والاعتذار والتعويض، يمكن أن تقطع الطريق على نزعة الانتقام، وتعزّز مناخ الثقة بين مختلف فئات المجتمع.

بهذا المعنى، يصبح التزام العدالة الانتقالية – بأبعادها القانونية والأخلاقية – الضامن الأهمّ لاستقرار مجتمعي يضع حدًّا لدوائر العنف، وينتقل بالشعب من مرحلة الصراع إلى طور التعافي وبناء الدولة على أسسٍ عادلةٍ وشاملة.

التوصيات والمقترحات العملية

1- للحكومة المستقبلية

    تشريعات واضحة وصارمة: من الضروري سنّ قوانين تُجرّم صراحةً إنكار أو تبرير جرائم نظام الأسد، بحيث توفّر تلك النصوص غطاءً قانونيًّا لمحاسبة كل من ينخرط في تبرير أعمالٍ ترقى إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية أو جرائم الحرب. قد يستفيد واضعو التشريعات من التجارب المقارنة، لتأطير النصوص بما يراعي الخصوصية السورية.

    إدراج جرائم النظام في المناهج والبرامج الإعلامية: لا يكفي سنُّ القوانين دون توفير الوعي المجتمعي. لذا، ينبغي تضمين الجرائم والفظائع التي ارتكبها النظام في مناهج التعليم المدرسية والجامعية، وذلك لضمان ألا تتكرّر مآسي الماضي. كما يجدر بالبرامج الإعلامية الرسمية التركيز على توثيق تلك الانتهاكات، مع تسليط الضوء على شهادات الضحايا وذويهم حتى يكون الرأي العام على درايةٍ حقيقية بما حصل.

    توفير آليات تنفيذية: لضمان ألا تبقى هذه التوصيات في حيّز النظريات، يجب إنشاء هيئة أو لجنة حكومية تُعنى بمراقبة تنفيذ القوانين المتعلقة بتجريم التبرير، وتتولّى تنسيق الجهود مع الجهاز القضائي لملاحقة المخالفين. فضلًا عن ذلك، يمكن لهذه الهيئة العمل على تطوير سياساتٍ تربوية وثقافية تساهم في نشر ثقافة حقوق الإنسان والمساءلة.

2- للإعلام

وضع معايير أخلاقية ومهنية: تُعتبَر وسائل الإعلام مرآة المجتمع وصانعة الرأي العام؛ وعليه، لا يجوز لها منح منبرٍ لمروجين لخطابٍ يشرعن العنف أو يهوّن من خطورة الجرائم الموثّقة.

يجب وضع ميثاق شرف إعلامي يرفض استضافة أي شخصيةٍ تبرّر الجرائم الدولية مثل التي ارتكبها نظام الأسد، ويُلزم المؤسسات بالتحقق المسبق من محتوى الضيف وأرشيفه وتصريحاته السابقة.

إنتاج محتوى توعوي وتثقيفي: الإعلام قادرٌ على إحداث فرقٍ ملموس في عملية بناء الذاكرة الجماعية. فمن واجب المؤسّسات الإعلامية توظيف تقارير توثيقية وأفلامٍ وثائقية وبرامج حوارية تشرح جذور الانتهاكات بحق الشعب السوري، وتبيّن آثارها المدمّرة على النسيج الاجتماعي. مثل هذا المحتوى يُسهم في ترسيخ ثقافة المحاسبة والتعاطف مع الضحايا.

عدم تحوّل حرية التعبير إلى بابٍ للإفلات من المحاسبة: ينبغي للمؤسسات الإعلامية إدراك الخط الفاصل بين حرية الرأي، وبين الدعاية المضللة التي تبرر الجريمة. إنّ الالتزام بالموضوعية في المعالجة الصحفية يقتضي إظهار الحقائق من مصادر موثوقة والتصدي لنشر الأكاذيب، أو أي تضليلٍ يستبيح معاناة الضحايا.

3- للداعمين أو المبررين

    إعادة الممتلكات المنهوبة: إذا كانت هناك أملاكٌ أو مواردُ استولى عليها الداعمون أثناء حقبة نظام الأسد، فيجب أن تُعاد هذه الممتلكات إلى أصحابها الشرعيين فورًا، بما يشكّل بدايةً للاعتراف بأضرارٍ مادية واضحة.

    الاعتذار والتعويض: من الضروري توجيه اعتذارٍ علني ومكتوب ومصوّر، يقرّ صراحةً بالمسؤولية الأخلاقية عن دعم نظامٍ مارس الجرائم بحق مواطنيه، على أن يتضمّن خطةً لتعويض الضحايا ماليًّا ومعنويًّا. ويُعدّ هذا التعويض جزءًا من جبر الضرر المبكّر الذي يعزز الشعور بالإنصاف قبل انتظار المسارات القضائية المطوّلة.

    عدم تكرار الفعل والابتعاد عن المناصب العامة: إنّ تحمُّل المسؤولية لا يتوقف عند الاعتراف العلني، بل يستلزم الالتزام العملي بعدم شغل أي مناصب قيادية في المستقبل، فلا يمكن لشخصٍ برّر القتل أو التصفية أن يتولى شأنًا عامًا دون المرور بمحاسبةٍ حقيقية.

    الامتناع عن الظهور الإعلامي: قبل القيام بهذه الخطوات البنّاءة من الاعتذار وإعادة الممتلكات وتعويض الضحايا، يجب الامتناع تمامًا عن الظهور الإعلامي، إذ لا يعقل أن يُمنح المبرّرون منصةً جديدةً لتعزيز سردياتهم المؤذية من دون أي إشارةٍ إلى الندم أو تحمّل مسؤولياتهم الأدبية والقانونية.

الخاتمة

في ضوء ما سبق، يتبيّن أنَّ إقصاء الخطاب الذي يبرِّر جرائم نظام الأسد ليس مجرّد مطلبٍ عاطفيٍّ يحاكي آلام الضحايا، بل هو عنصرٌ جوهري في أي عملية عدالة انتقالية تهدف إلى ضمان عدم تكرار المآسي الماضية وبناء مستقبلٍ أكثر استقرارًا.

فكلّما سُمح للأصوات المبرِّرة بالظهور وتوظيف المنصات الإعلامية لتبرئة الجلاد أو الاستخفاف بجرائمه، زاد خطر إحياء مناخ القمع، وتعميق مشاعر الانتقام لدى من عانوا وذاقوا ويلات النظام.

ولهذا، فإنّني أدعو القرّاء وشرائح الرأي العام إلى تكثيف الضغط على المؤسسات الحكومية والإعلامية المستقلة العربية والأجنبية كي تتبنّى هذه الإجراءات والتوصيات على نحوٍ جاد؛ فإصدار تشريعاتٍ رادعة واستحداث ضوابطٍ مهنيةٍ صارمة في المشهد الإعلامي، تدابير لا بدّ منها لإرساء ثقافة المساءلة، واسترداد ثقة الجمهور بدور وقدرة الإعلام في مناصرة حقوقهم والدفاع عنها.

إنّ تفعيل هذه الخطوات يضمن بناء أرضيةٍ حقوقية لدور الإعلام المحوري في تحقيق العدالة والمحاسبة، حيث تُمحى ثقافة إفلات المجرمين والداعمين من العقاب، وتُزرع بديلًا منها ثقافة الانفتاح على الحقيقة والمصالحة عبر خطواتٍ عملية، ويصبح مبدأ العدالة حجر الزاوية في إدارة الشأن العام، وينمو وعيٌ مجتمعي راسخٌ بقيم حقوق الإنسان.

وفي مثل هذه الأجواء فقط يمكن للسوريين أن يخطوا بثباتٍ نحو طيّ صفحة الاستبداد وتأمين مستقبلٍ أفضل للأجيال القادمة.

 مؤسس ومدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

————————————————

التاريخ الدستوري لسوريا: المواثيق السابقة والآفاق المستقبلية/ سامي مبيض

مع سقوط الأسد سقط دستور عام 2012

 25 يناير 2025

في حديثه مع قناة “العربية” في شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، قال أحمد الشرع، قائد العمليات العسكرية في سوريا: “إن كتابة دستور جديد للبلاد قد يستغرق ما لا يقل عن ثلاث سنوات. أما الانتخابات البرلمانية فقد تستغرق أربع سنوات، والحوار الوطني حتى منتصف فبراير/شباط المقبل”.

الأولويات بالنسبة للشرع كانت واضحة جدا: استعادة الأمن في سوريا، حل الفصائل المسلحة، النهوض بالاقتصاد السوري، وتحسين الخدمات والأوضاع المعيشية. تعود “المجلة” إلى تاريخ سوريا الدستوري، وأبرز المحطات والمواد التي وقف عندها المشرعون منذ سنة 1920.

البداية كانت مع الدستور العثماني

كان إقرار الدستور العثماني حدثا كبيرا في مطلع العهد الحميدي (عهد المشروطية الأول)، ولكن السلطان عبد الحميد، وافق عليه مجبرا وعلى مضدد، وصادق عليه يوم 13 ديسمبر سنة 1876. ثم عاد وتراجع بعد هزيمة بلاده في حربها مع روسيا سنة 1878، قبل أن يُعيد العمل بالدستور في أعقاب الانقلاب العثماني سنة 1908، الذي قيّد صلاحيات عبد الحميد الثاني قبل الإطاحة به بشكل نهائي في أبريل/نيسان 1909. ولكن الشعب السوري احتفل كثيرا بالدستور، وتبارى في مجده الخطباء، وعدّوه نقلة نوعية في تاريخ البلاد. قالوا للناس، وتحديدا البسطاء منهم الذين لم يسمعوا بكلمة “دستور” في حياتهم، إنه سيصون حقوقهم وحقوق أولادهم، ويؤسس لبلد ديمقراطي وتعددي، متين من الداخل وغير قابل للاختراق. ولكن كل هذه الوعود ذهبت أدراج الرياح بعد إزاحة السلطان عبد الحميد عن العرش سنة 1909 وأثناء فترة حكم “جمعية الاتحاد والترقي” في إسطنبول، التي شهدت اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914 والثورة العربية الكبرى عام 1916، مرورا بالإعدامات العثمانية في بيروت سنة 1915، وفي دمشق وبيروت سنة 1916.

دستور الملك فيصل الأول

بعد انتهاء الحرب العظمى، وتنصيب الأمير فيصل بن الحسين حاكما عربيا على سوريا ثم تتويجه ملكا في يوم 8 مارس/آذار 1920، دعا الأخير إلى وضع أول دستور ملكي للبلاد، وترأس اللجنة الدستورية “رئيس المؤتمر السوري العام” (البرلمان) هاشم الأتاسي، أحد أبرز الشخصيات السورية نزاهة ووطنية وحكمة. ضمّت هذه اللجنة نائب حلب سعد الله الجابري (الذي أصبح رئيسا للحكومة سنة 1943)، وزميله نائب حمص وصفي الأتاسي، وأستاذ القانون في معهد الحقوق عثمان سلطان، ومعهم الوجيه المسيحي ثيودور أنطاكي (نائب حلب أيضا) وسعيد حيدر (نائب بعلبك)، والشيخ عبد القادر الكيلاني (نائب حماة).

قيّد دستور عام 1920 من أحلام وطموحات الملك فيصل الأول، وحوّله من حاكم مطلق- كما أراد البعض له أن يكون- إلى ملك دستوري بصلاحيات محدودة، خاضع للمساءلة من قبل مجلس النواب السوري المنتخب. جاء في الدستور أنه يحق لثلث أعضاء المجلس اختيار خليفة للملك عند وفاته، في حال عدم وجود ولي للعهد من أبنائه، وبأنه بات بحاجة لموافقة غالبية أعضاء المجلس التشريعي، قبل إعلان الحرب أو إبرام الاتفاقيات الدولية. ولكن رئيس السلطة التشريعية الشيخ رشيد رضا، الذي خلف الأتاسي في رئاسة المؤتمر السوري العام في مايو/أيار1920، لم يعترض على المادة 13 من الدستور، التي نصت على حرية المعتقد والأديان، ولم يُصر على أن تكون الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع في المملكة السورية الوليدة. الذكر الوحيد لدين الإسلام كان في مادة دين الملك، وهي المادة الثالثة من الدستور التي جاء نصها: “حكومة المملكة العربية السورية، حكومة ملكية مدنية نيابية، عاصمتها دمشق، ودين ملكها الإسلام”. وقد دافع الشيخ رشيد رضا عن موقفه أمام المحافظين، قائلا: “إنه وبتحييد الدين عن الدستور كان يسعى لسحب ذريعة التدخل الأوروبي في شؤون سوريا المستقبلية بحجة حماية الأقليات، كما حدث في دمشق بعد فتنة عام 1860”. وكان يُشير طبعا إلى إرسال قوات فرنسية إلى السواحل السورية يومها لحماية المسيحيين، بعد تعرضهم لمذبحة كبيرة في يوليو/تموز1860. غضب فيصل من هذا الدستور، وقال لرئيس المجلس: “من أنتم؟ أنا الذي خلقت سوريا”. فرد الشيخ رضا عليه بغضب مماثل: “أأنت خلقت سوريا؟ سوريا خُلقت قبل أن تُخلق”.

دستور عام 1928

بعد الإطاحة بالملك فيصل، وفرض الانتداب الفرنسي على سوريا سنة 1920، أوقف العمل بالدستور حتى سنة 1928، يوم دعت السلطات الفرنسية لانتخاب جمعية تأسيسية لكتابة دستور جديد للبلاد، بدلا من الدستور الملكي. حددت الانتخابات في يومي 10 و24 أبريل 1928، وتحالف هاشم الأتاسي- بصفته رئيسا للكتلة الوطنية هذه المرة- مع رئيس الحكومة تاج الدين الحسني، تجنبا لأي فعل أو تعطيل قد يقوم به الأخير من خلال وزارة الداخلية المشرفة على تلك الانتخابات. تقرر تقديم لائحة مشتركة بين الطرفين في كل الدوائر الانتخابية: 6 مرشحين عن الحكومة، و4 مرشحين عن الكتلة الوطنية. فازت الكتلة الوطنية بسبعة مقاعد من أصل تسعة مقاعد عن العاصمة السورية، وفاز الشيخ تاج بمعهده، وكان المقعد الأخير عن مدينة دمشق للمرشح اليهودي يوسف لينادو، وهو من وجهاء الطائفة الموسوية. في حلب نجحت قائمة عميد الكتلة الوطنية إبراهيم هنانو كاملة، علما بأن نسبة الاقتراع في عاصمة الشمال لم تتعد (35 في المئة)، وكانت المشاركة أعلى في حمص (50 في المئة)، حيث فازت قائمة هاشم الأتاسي كاملة، وكذلك في حماة (50 في المئة) أيضا.

الجمعية التأسيسية

عقدت الجمعية التأسيسية اجتماعها الأول بحضور 70عضوا في 9 يونيو/حزيران 1928، وانتُخب هاشم الأتاسي رئيسا، وفتح الله أسيون وفوزي الغزي نوابا له. كما انتخب إبراهيم هنانو رئيسا للجنة صياغة الدستور، يعاونه فوزي الغزي وفائز الخوري، وكلاهما من ألمع أساتذة القانون في الجامعة السورية. ووضعوا دستورا عصريا للدولة السورية، مستلهما من الدساتير الأوروبية الحديثة، ولكن الفرنسيين اعترضوا على ست مواد متعلقة بصلاحيات رئيس الجمهورية، وحدود سوريا الطبيعية. رفضت المادة الثانية من الدستور الاعتراف بحدود اتفاقية “سايكس بيكو” المبرمة أثناء الحرب العالمية الأولى بين حكومة فرنسا ونظيرتها البريطانية، وأعطت المادة 73 صلاحيات إعلان العفو العام إلى رئيس الجمهورية، والمادة 74 نصت على حق الرئيس السوري في إبرام الاتفاقيات الدولية، التي أراد الفرنسيون أن تبقى في يد المفوض السامي. وجاء في المادة 112 حق رئيس الجمهورية في إعلان الأحكام العرفية، كما لم تتطرق مسودة الدستور إلى سلطة الانتداب، فطالب الفرنسيون بتعديل هذه المواد وإضافة المادة رقم 116 للاعتراف بشرعية الانتداب في سوريا، ولكن أعضاء الجمعية التأسيسية رفضوا الانصياع لهذا المطلب وفي 11 أغسطس/آب 1928 صوتوا على الدستور دون أي تعديل، ووافقوا عليه بالإجماع. فكان رد الفرنسيين في تعطيل الجمعية التأسيسية إلى أجل غير مسمى اعتبارا من 5 فبراير 1929، ثم حلّها بشكل نهائي في 14 مايو/أيار من العام نفسه. ثم عاد الفرنسيون وفرضوا الدستور بمرسوم اعتبارا من 22 مايو، مع تعديل المواد الإشكالية، وفرض المادة 116 التي عرفت بمادة المفوض السامي.

التعديلات الدستورية

وفقا للمادة 68، حدد دستور عام 1928 ولاية رئيس الجمهورية بخمس سنوات، التي طالب مجموعة من النواب بتعديلها في مطلع عهد الاستقلال للسماح بولاية ثانية للرئيس شكري القوتلي المنتخب سنة 1943. وقد أدى هذا التعديل إلى ولادة معارضة منظمة ضد حكم القوتلي في حلب، انبثق عنها تأسيس “حزب الشعب” سنة 1948، ومن أبرز التعديلات أيضا كان تعديل المادة المتعلقة بالجيش السوري بعد تأسيسه في 1 أغسطس/آب 1945، وإسقاط المادة 116، مادة المفوض السامي، بعد جلاء الفرنسيين في 17 أبريل/نيسان 1946.

أبو الدستور

بقي دستور عام 1928 ساريا طيلة مرحلة الانتداب وحتى مطلع عهد الاستقلال، ثم جاء الانقلاب الأول ليطيح به، وبالرئيس شكري القوتلي في 29 مارس/آذار1949. ووضع مهندس الانقلاب وقائد الجيش حسني الزعيم دستورا جديدا للبلاد، كان أبرز ما جاء فيه إعطاء المرأة السورية حق الانتخاب. ولكن عهد الزعيم كان قصيرا للغاية، ولم يستمر أكثر من 137 يوما، وبعد الإطاحة به ومقتله في 14 أغسطس 1949، عاد هاشم الأتاسي إلى الحكم ودعا إلى انتخاب جمعية تأسيسية جديدة مكلفة بوضع دستور جديد لسوريا، بدلا من دستور حسني الزعيم، على أن تتحول فور إتمام مهامها إلى مجلس نيابي بصلاحيات تشريعية كاملة. وبهذا يكون هاشم الأتاسي قد أشرف على ثلاثة دساتير سورية، في الأعوام 1920 و1928 و1949، ما جعله ينال لقب “أبو الدستور”، علما بأن البعض أطلق هذا الاسم على فوزي الغزي الذي اغتيل سنة 1929، ورفع في جنازته شعار: “مات أبو الدستور.. فليحيا الدستور”.

دستور عام 1950 وجدلية دين الدولة

انتخب الدكتور مصطفى السباعي عضوا في الجمعية التأسيسية، وقد سعى إلى تعديل المادة الثالثة من الدستور، المتعلقة بدين رئيس الجمهورية، وتوسيعها لكي تشمل دين الدولة أيضا وتقول جهارة إنه الإسلام. وقد وقف خلف هذه الحملة نواب الإخوان المسلمين، ونشروا على الصفحة الأولى من جريدتهم “جريدة المنار”، مقالا افتتاحيا بعنوان: “نريد أن يكون الإسلام دين الدولة الرسمي”، متذرعين بوجود هذه المادة في دستور الدولة العثمانية، وفي دستور المملكة المصرية الذي وضع في عهد الملك فؤاد الأول.

وعند استشارته في تعديل الدستور، قال وزير العدل أسعد الكوراني: “إنه يفضل شطب مادة دين رئيس الجمهورية ليتم انتخاب العلامة فارس الخوري رئيسا للبلاد، تكريما لخدماته الوطنية، ولأنه يستحق هذا المنصب”.

وخلال مناقشة موضوع دين الدولة سنة 1950، قام وفد من المشايخ بزيارة رئيس الحكومة خالد العظم، أملا بالحصول على دعم منه، لأجل تعديل المادة الثالثة، ولكنه ردهم خائبين، وقال: “إن السلطة التنفيذية لا تتدخل في هذا الأمر”. كما حذرهم العظم قائلا: “أي ضغط يوجه من أي جهة كانت على اللجنة الدستورية سيقابل بحزم من الحكومة”.

كان دين الدولة قد نوقش خلال جلسات صياغة دستور عام 1928، واعترض يومها النائب نقولا خانجي على مادة دين رئيس الجمهورية، معتبرا أن فيها خرقا لمبدأ المساواة بين السوريين. نادى بحيادية الدولة تجاه كل الأديان ونوه إلى “حقوق المسيحيين في سوريا” الذين لهم فيها “حق ابن السيد لا ابن الجارية” أيده يومها نائب دمشق فائز الخوري، وتساءل كيف يمكنه الدفاع عن هذه المادة أمام المسيحيين عندما يقولون له: “إن إخوانكم المسلمين يضعون أمامكم سدا منيعا، أنت وسائر المسيحيين وسائر الأقليات”. وقد دعا الخوري للوصول إلى يوم يسأل فيه المواطن عن دينه ويكتفي بالقول: “أنا سوري”.

تحدث يومها مطران حماة للروم الأرثوذوكس أغناطيوس حريكة، داعيا إلى “علمانية الدولة السورية” وقال: “إننا كثيرا ما كنا نعلن للأجنبي أن لا أقلية في البلاد إلا أقلية الخونة والمارقين. فماذا نقول لهم غدا إذا وجدوا في صلب دستورنا مادة تسجل علينا نحن النصارى أقلية؟”. وكتب صاحب جريدة “القبس” نجيب الريس، وهو مسلم سنّي من مدينة حماة، مقالا مطولا في جريدته بعنوان “البلاد ليست لنا وحدنا”.

شكل الرئيس هاشم الأتاسي لجنة لدراسة موضوع دين الدولة، وكان بين أعضائها العلماني أكرم الحوراني، والشيخ معروف الدواليبي (ممثلا عن حزب الشعب)، وكل من محمد مبارك ومصطفى السباعي (ممثلين عن الإخوان المسلمين). طالب الخوارنة والمطارنة بوضع دستور “يحترم الخالق” دون الدخول في قضية الأديان، وأثنى على “المؤتمر الأول لطلاب المدارس الثانوية”، المنعقد في حلب، والذي عرّف جمهورية سوريا بأنها: “جمهورية عربية مستقلة ديمقراطية تحترم جميع الأديان”. ثم جاء رأي فارس الخوري، بصفته كبير الفقهاء القانونيين، الذي أدلى بحديث صحافي لجريدة “القبس” الدمشقية يوم 9 فبراير 1950، أكد فيه أن عدم فرض دين الدولة على الدستور لا يعني براءة الحكومة من الأديان. قال الخوري: “صحيح أن الغالبية تدين بالإسلام ولكن هناك من يعتنقون دينا آخر وهم أهل البلاد الأصليون”. وقد ختم الخوري كلامه بالقول: “الدين لله والدولة للجميع، وجعل الإسلام دينا للدولة يعرضهم (أي المسيحيين) إلى الحرمان من الاشتراك في الأعمال الحكومية على مستوى واحد مع إخوانهم في هذا الوطن”.

بناء على اجتهاد فارس الخوري، بدأ أعضاء اللجنة الدستورية بالتفكير جديا بإسقاط مادة دين الدولة من النص، وأشاعوا ذلك في الصحف والمجالس السياسية. تدخلت دول إقليمية لمنع ذلك، وأرسل الملك الأردني عبد الله الأول برقية إلى الرئيس الأتاسي، عبّر فيها عن قلقه من إسقاط هذه المادة من دستور سوريا. ويبدو أن هذه التدابير نجحت، فصدرت مسودة أولى للدستور في يوم 16 أبريل 1950، وفيها المادة الثالثة التي تنص بوضوح على أن دين الدولة هو الإسلام. اعترض النواب المسيحيون كافة، وطلبوا من اللجنة إعادة النظر في المادة الثالثة. انتفض نائب إدلب الشيخ عبد الوهاب سكر، معتبرا أن اللجنة قالت كلمتها، ولا يجب العدول عن المادة الثالثة بأي شكل من الأشكال. أيده القول نائب دمشق زكي الخطيب، الذي استنكر محاولات تعديل المادة الثالثة وقال: “إن العروبة إذا جُرّدت من الدين، فلا يبقى منها شيء”.

هنا حصل تدخل مباشر من كنائس سوريا، ومن رؤساء الطوائف المسيحية كافة، الذين عبروا عن استيائهم برفض قبول التهاني بعيد الفصح، حتى من رئيس الجمهورية، إلى حين إعادة النظر بالمادة الثالثة. أرسلوا رسالة احتجاج رسمية إلى الرئيس الأتاسي، فاجتمعت اللجنة الدستورية واللجنة المصغرة المكلفة بصياغة المادة الثالثة، وقررت تعديل النص ليصبح دين رئيس الجمهورية هو الإسلام، وليس دين الدولة، مع إضافة فقرة تؤكد أن الفقه الإسلامي هو مصدر التشريع، وأن حرية المعتقد مصانة. كما تقرر أن يُضاف إلى مقدمة الدستور النص التالي:

“ولما كانت أغلبية الشعب تدين بدين الإسلام، فإن الدولة تعلن تمسكها بالإسلام ومثله العليا، ويعلن الشعب عزمه على توطيد التعاون بينه وبين شعوب العالم العربي والإسلامي، وعلى بناء دولته على أساس الأخلاق القويمة التي جاء بها الإسلام والديانات السماوية الأخرى، وعلى مكافحة الإلحاد”.

دساتير لاحقة

في سنة 1953، وضع دستور جديد مع انتخاب العقيد أديب الشيشكلي رئيسا للجمهورية، وبعد سقوط حكمه، أعيد العمل بدستور عام 1950 ولغاية قيام الوحدة مع مصر سنة 1958. فرضت دولة الوحدة دستورها، وفي عهد الانفصال، عاد العمل بدستور عام 1950 لغاية مجيء حزب “البعث” إلى الحكم سنة 1963، الذي حلّ المجلس النيابي وفرض الأحكام العرفية وعطل الدستور. ثم جاء دستور عام 1973 الذي حاول فيه حافظ الأسد التلاعب بالمادة الثالثة وإسقاطها من النص، ولكنه لم ينجح، ولكنه فرض المادة الثامنة الكريهة التي نصت على أن حزب “البعث” هو القائد للدولة والمجتمع، وقام باعتقال كل من اعترض على هذا النص أو كتب ضده. وبقيت المادة الثامنة قائمة بالإكراه والغصب حتى سنة 2012، مع مواد أخرى أعطت حافظ الأسد صلاحيات استثنائية، وجعلته رئيسا لمجلس القضاء الأعلى، ولمجلس الوزاء، وللجيش والقوات المسلحة.

بعد اندلاع الثورة السورية سنة 2011، شكّل بشار الأسد لجنة لتعديل الدستور، جاءت بالتعيين وليس بالانتخاب، وعلى الرغم من إسقاط المادة الثامنة، إلا أن “البعث” بقي مهيمنا على كل مفاصل الحياة في سوريا، وظل يحكم لغاية سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر الماضي. ومع سقوط الأسد، سقط حزب “البعث” وسقط معه دستور عام 2012.

المجلة

—————————–

توغل مؤقت أم احتلال.. ما الذي تبحث عنه إسرائيل في سوريا بعد سقوط الأسد؟/ علي فياض

2025.01.25

بعد ساعات من دخول “إدارة العمليات العسكرية” العاصمة دمشق، وإسقاط نظام الأسد في الثامن من شهر كانون الأول الماضي، بدأت إسرائيل تحركات عسكرية مستغلة حالة الفراغ الأمني، وانشغال البلاد بترتيبات مرحلة انتقالية تنظم بها مستقبلها السياسي، لتبادر بتنفيذ واحدة من أكبر الهجمات الجوية في تاريخها، متبوعاً بتوغل بري غير مسبوق، توسع ليشمل كامل المنطقة العازلة في الجولان المحتل، التي جرى ترسيمها في اتفاق وقف الاشتباكات بين إسرائيل وسوريا عام 1974, وصولاً إلى جبل الشيخ في ريف دمشق، الذي يعطي إسرائيل قدرة استخباراتية عالية، حتى بات جيش الاحتلال على بعد أقل من 25 كيلومتراً من دمشق.

وكشفت صور أقمار صناعية التقطت حديثاً في 21 من الشهر الجاري، ونشرتها هيئة الإذاعة البريطانية (BBC)

، عن قيام جيش الاحتلال الإسرائيلي بأعمال بناء في موقع يقع على بعد أكثر من 600 متر داخل المنطقة العازلة منزوعة السلاح التي تفصل مرتفعات الجولان المحتلة عن سوريا، حيث تظهر الصور بناء هياكل وشاحنات، إضافة إلى إنشاء مسار جديد يربط طريقاً قائماً يمتد إلى داخل الأراضي الإسرائيلية.

إلى جانب تحركاتها العسكرية، واصلت إسرائيل مهاجمة الإدارة السورية الجديدة، ووصفتها على لسان وزير خارجيتها، جدعون ساعر، بأنها “عصابة إرهابية”، رغم الدعم والترحيب العالمي الذي تلقته الأخيرة بشأن تصريحاتها وسياساتها وإدارتها لمرحلة ما بعد نظام الأسد، والقبول الواسع داخلياً وخارجياً، فعن ماذا تبحث إسرائيل في سوريا؟

مخاوف وقلق إسرائيلي

أحدث الانهيار السريع والمفاجئ لنظام الأسد، وسيطرة فصائل المعارضة السورية على المشهدين السياسي والعسكري في سوريا ارتباكاً وقلقاً حقيقياً لدى إسرائيل تجاه التطورات المتسارعة في سوريا، وزاد الغموض المحيط بمستقبل الدولة السورية الجديدة وطبيعة الحكم فيها، وموقفها المحتمل من إسرائيل واحتلالها للجولان من حدة المخاوف الإسرائيلية، بعد أن وفر لها النظام المخلوع استقراراً وهدوءاً طوال عقود على جبهتها الشمالية.

وعلى الرغم من أن النظام المخلوع لم يوقع اتفاقية سلام أو يقدم على تطبيع العلاقات علناً مع إسرائيل، إلا أنه حافظ على تهدئة مطلقة لجبهة الجولان، ملتزماً بشكل كامل باتفاقية “فك الاشتباك” الموقعة بين الجانبين عام 1974، وهو ما استغله النظام لاحقاً، بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011، لابتزاز إسرائيل وحلفائها لضمان بقائه في السلطة ومنع انهياره.

لذلك لم تعتبر إسرائيل الصراع الدائر في سوريا تهديداً مباشراً لأمنها، طالما التزم نظام الأسد بالحفاظ على استقرار الجبهة وأمنها، إذ تغاضت بداية عن التمدد الإيراني داخل سوريا وعن تحركات ميليشياتها الأجنبية والمحلية، التي كانت تهدف بشكل أساسي إلى دعم النظام ومنع انهياره.

واستمر الوضع على هذا النحو إلى أن تحولت إيران إلى استغلال اتّساع هامش الحركة لديها في نشر قواتها وإنشاء قواعد وبنى تحتية عسكرية، فكثفت إسرائيل ضرباتها الجوية ضد الوجود الإيراني، منذ العام 2013، وهو ما وصل إلى ذروته بعد “طوفان الأقصى” العام الماضي، من دون أن تبدي فعلياً أي رغبة في إسقاط نظام الأسد، الذي أشارت تقارير ومصادر أمنية عديدة إلى تنسيق أمني بين النظام وإسرائيل لتقليص نفوذ إيران على الأراضي السورية قبل انهياره بأشهر.

ومما يدّعم ذلك، أن إسرائيل تجنّبت تنفيذ أي توغل بري كبير مماثل لهذا التوغل خلال حقبة حكم الأسد، التي شهدت توسع النفوذ الإيراني وتهديداً مباشراً لأمن إسرائيل ومستوطناتها الشمالية، حيث اكتفت حينها بشن ضربات جوية محدودة على أهداف إيرانية داخل سوريا على فترات متباعدة، من دون اتخاذ خطوات تصعيدية أوسع.

وكانت صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية كشفت في وقت سابق أنَّ رئيس النظام المخلوع، بشار الأسد، ألغى في اللحظة الأخيرة اجتماعاً كان مقرراً عقده مع رئيس الموساد الإسرائيلي، يوسي كوهين، أواخر عام 2019، بوساطة روسية، بهدف إبرام اتفاقية سرية تقضي بإبعاد نظام الأسد عن النفوذ الإيراني و”حزب الله”، مقابل تخفيف العقوبات الدولية المفروضة عليه.

وأوضحت الصحيفة أن التواصل السري بين مسؤولي الجيش الإسرائيلي وجهاز “الموساد” من جهة، ومسؤولين رفيعي المستوى في نظام الأسد المخلوع من جهة أخرى، بدأ مع اندلاع الثورة السورية عام 2011 عبر تطبيق “واتساب”، نتيجة لتزايد الوجود الإيراني في البلاد، مؤكدة أن الاتصالات استمرت حتى لحظة إسقاط نظام الأسد.

ويبدو أن الانهيار السريع للنظام في سوريا، وهروب بشار الأسد المفاجئ خارج البلاد، شكّل صدمة لأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، التي أخفقت في التنبؤ بهذا التطور، وراهنت على بقائه في السلطة وقدرته على الصمود، وهو ما أثار لغطاً وجدلاً واسعاً منذ اللحظات الأولى داخل الأوساط الإسرائيلية، حيث وُجّهت انتقادات للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية لفشلها في استشراف سقوط النظام بهذه السرعة.

وفي هذا السياق، كشف المحلل العسكري لصحيفة “هآرتس” العبرية، عاموس هارئيل، أن الاستخبارات الإسرائيلية ركزت بشكل كبير على جمع المعلومات عن إيران وحزب الله، متجاهلة المعارضة السورية المسلحة وعدم اعتبارها تهديداً محتملاً قد يغير المعادلة على الأرض، مشيراً إلى أن الرهان كان على قدرة الأسد على إحباط محاولات إسقاطه، خاصة بعد دخول “إدارة العمليات العسكرية” إلى مدينة حلب.

في حين وجّه محلل الشؤون الاستخباراتية في صحيفة “يديعوت أحرونوت” رونين بيرغمان بعد يوم من سقوط الأسد انتقادات حادة للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية بسبب فشلها في توقع السقوط السريع للنظام، متهمًا إياها بالعجز عن تقديم تقديرات دقيقة للموقف المستقبلية.

تدمير قدرات الجيش السوري العسكرية

بناءً عليه، سارعت إسرائيل إلى توجيه ضربة عسكرية استباقية وتنفيذ واحدة من أكبر الهجمات الجوية في تاريخها، مستهدفة خلال 48 ساعة نحو 300 موقع عسكري في مختلف المناطق السورية، بمشاركة مئات الطائرات والسفن الحربية، ودمرت هذه الهجمات، وفق التقديرات الإسرائيلية، ما بين 70-80٪ من القدرات العسكرية الاستراتيجية للجيش السوري، بما في ذلك مطارات (مثل مطار المزة العسكري ومطار دمشق الدولي)، موانئ، منظومات دفاع جوي، سفن حربية، ومستودعات أسلحة متوسطة، زاعمة أن تحركاتها محدودة ومؤقتة، وأنها تأتي ضمن خطة دفاعية ووقائية تهدف إلى منع وقوع الأسلحة في أيدي “جهات معادية وغير آمنة”.

ويمكن القول، بأن تلك الضربات العسكرية كانت محاولة استباقية من إسرائيل لحرمان الجيش السوري المستقبلي من تشكيل أي تهديد محتمل عليها، وتفكيك مقوماته، وقطع الطريق أمام أي محاولة لإعادة بناء قوة عسكرية سورية على المدى القريب، فضلاً عن حرصها عبر تلك الضربات على تكبيل يد أي حكومة سورية مستقبلية، وجعلها خارج نطاق أي مواجهة محتملة معها. 

توغل بري واسع وانتهاكات

لم تقتصر إسرائيل على عدوانها الجوي، بل شرعت في توغل بري غير مسبوق لإنشاء حزام أمني على حدودها الشمالية، لاسيما في محافظتي درعا والقنيطرة، عقب إعلانها على لسان رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو انهيار اتفاق فض الاشتباك.

واستغلت فعلياً الفراغ الأمني الناجم عن انسحاب قوات النظام المخلوع من مواقعها الحدودية، ودخول البلاد مرحلة انتقالية تنظم بها أمورها، فقد احتلت كامل المنطقة العازلة، ومدن وبلدات في محافظتي القنيطرة ودرعا، إضافة إلى توغلها في منطقة حضر واحتلالها جبل الشيخ الاستراتيجي المطل على مدينة دمشق.

ورافق التوغل البري إسرائيلي عمليات ممنهجة استهدفت مخازن أسلحة وذخائر موجودة في عدة مناطق في القنيطرة، شملت تفجير مستودعات أسلحة عُثر عليها، والبحث عن مخازن أخرى زعمت إسرائيل أنها مدفونة تحت المنازل أو في أنفاق تعود إلى فترة النظام المخلوع، بعد توسيع نطاق عملياتها البرية في محافظة القنيطرة، وصولاً إلى اقتحام جيشها مدينة البعث، المركز الإداري والخدمي للمحافظة، وطرد موظفين من الدوائر الحكومية فيها، تحت ذريعة التفتيش، وليس انتهاءً باستهداف مسيراتها رتلاً عسكرياً تابعاً لإدارة العمليات العسكرية في بلدة غدير البستان جنوبي القنيطرة، أسفر عن مقتل مختار البلدة واثنين من عناصر إدارة العمليات، وإصابة عدد من المدنيين والعسكريين.

كذلك شهدت تلك المناطق سلسلة من الانتهاكات الإسرائيلية ضد سكانها، حيث باشرت قوات الاحتلال الإسرائيلي مصادرة الأسلحة من المدنيين، ضمن سياسة تهدف إلى نزع السلاح بالكامل من المنطقة المحاذية للجولان، إضافة إلى عمليات تفتيش واسعة للمنازل.

رافق ذلك في معظم الأحيان إطلاق نار عشوائي، وحظر تجوال في كثير من الأحيان، واعتقالات من دون توضيح الأسباب، وهو ما زاد من حدة التوتر والغضب الشعبي في المنطقة، وأسفر في بعض الأحيان عن تصادم بين السكان وقوات الاحتلال، كما حدث في وقت سابق في بلدة السويسة في ريف القنيطرة الجنوبي، التي شهدت إطلاق قوات الاحتلال النار على مظاهرة شعبية احتجاجًا على التوغل الإسرائيلي، ما أدى إلى إصابة ستة أشخاص.

مؤشرات بقاء طويل الأمد؟

يعكس التوغل البري الواسع الذي نفذته إسرائيل على طول الشريط الحدودي مع الجنوب السوري سعياً إسرائيلياً إلى فرض أمر واقع جديد على السلطة السورية الجديدة، وامتلاك أكبر قدر من الأوراق التفاوضية معها لتساوم عليها مستقبلاً، بحيث تفرض شروطها وإملاءاتها، المتمثلة في الحفاظ على الهدوء في جبهة الجولان المحتل، مقابل التراجع عن المناطق التي احتلتها بعد سقوط نظام الأسد، وفي مقدمتها جبل الشيخ والمنطقة العازلة بالكامل، التي أوعز نتنياهو للجيش الإسرائيلي بالاستعداد للبقاء فيها حتى نهاية عام 2025 على أقل تقدير، وفقاً لما نقلته إذاعة جيش الاحتلال.

ويرى الصحفي والأكاديمي السوري المختص بالشأن الإسرائيلي، خالد خليل، أن الوجود الإسرائيلي في الجنوب السوري مؤقت، وأن إسرائيل ستنسحب رغم إعلانها بقاء قواتها حتى نهاية عام 2025، مشيراً إلى أن إسرائيل تسعى، من خلال هذا التوغل، إلى تعزيز مكانتها الجيوسياسية في المنطقة من خلال استغلال الظروف التي تمر بها سوريا بعد الإطاحة بنظام الأسد، وانطلاقاً من الساحة السورية التي لطالما خبرتها.

من جهة أخرى تحاول تل أبيب، التسويق لسردية جديدة بأنها تريد حماية مستوطنات الشمال خلافاً لما كانت تعلنه طوال العقد الماضي بأنها تحارب التوغل الإيراني إلى حدودها الشمالية، وهي بذلك تريد الحفاظ على حرية التحرك داخل سوريا، بذريعة منع أي تهديد مستقبلي قد يعرض أمنها القومي للخطر، بالإضافة إلى حماية سكان الشمال، وسط صمت أميركي وغربي لانتهاكات إسرائيلية الجديدة في سوريا.

وفي العاشر من الشهر الجاري، أفادت صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية أن الاحتلال يخطط لإقامة “منطقة سيطرة”، بطول 15 كيلومتراً داخل الأراضي السورية، و”مجال نفوذ استخباري”، يمتد لنحو 60 كيلومتراً، ونقلت الصحيفة عن مسؤولين إسرائيليين قولهم إن الجيش الإسرائيلي “سيحافظ على وجود لضمان عدم تمكن حلفاء النظام الجديد في سوريا من إطلاق الصواريخ باتجاه مرتفعات الجولان”.

ويؤكد خليل لموقع تلفزيون سوريا أن هذه التحركات العسكرية تُعد محاولة إسرائيلية لإرساء معادلة أمنية جديدة في المنطقة بعد إنهاء مرحلة التنافس الإقليمي مع إيران، التي استمرت لعقدين من الزمن، تسعى تل أبيب من خلالها إلى فرض تفوقها العسكري، إضافة إلى استغلال حالة المخاض السياسي في سوريا لتحقيق مكاسب سياسية مستقبلية وخلق واقع أمني جديد، مما يمنحها أوراقاً تفاوضية مستقبلية مع دمشق.

ويشير الصحفي خالد خليل إلى أن هناك دوافع شخصية لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي يسعى إلى الظهور بمظهر “حامي حمى إسرائيل ورجلها القوي”، عبر توسيع الحرب إلى لبنان وسوريا لتعويض الفشل في غزة، معتمداً على الحرب والقوة العسكرية كأداة أساسية في فرض سياسته.

 تلفزيون سوريا

 ————————————

السياسة الأميركية في ظل إدارة ترمب تجاه سوريا الجديدة/ عدي محمد الضاهر

2025.01.25

يشكل الملف السوري أحد أكثر الملفات تعقيداً في السياسة الدولية، فقد تقاطعت فيه مصالح القوى الإقليمية والدولية منذ اندلاع الثورة السورية في عام 2011. ومع سقوط نظام بشار الأسد المجرم وتولي أحمد الشرع للإدارة الجديدة تتغير الديناميكيات السياسية بشكل جذري، مما يفرض على الولايات المتحدة إعادة صياغة سياستها تجاه سوريا بما يتماشى مع مصالحها الاستراتيجية. يستعرض هذا المقال السياسة الأميركية المتوقعة في هذا السياق، استنادًا إلى مبادئ إدارة ترمب في أثناء تعامله مع القضايا الدولية وسياسته تجاه سوريا تحديداً.

الرؤية العامة للسياسة الأميركية في عهد ترمب

على الرغم من ميل الولايات المتحدة الأميركية على العمل وفق مبادئ سياسية ثابتة نجد أن إدارة الرئيس دونالد ترمب (2017-2021) اتسمت بسياستها البراغماتية المحدودة التي ركزت على المصالح الأميركية المباشرة مع تقليل التدخل العسكري الخارجي، وفي الملف السوري ركزت إدارة ترامب على أولويات مثل:

محاربة الإرهاب المتمثل في محاربة تنظيم “داعش” ومنع عودته: ستواصل الولايات المتحدة التركيز على محاربة الإرهاب في سوريا، سواء عبر التعاون مع الحكومة الجديدة أو من خلال الحفاظ على وجود عسكري محدود في المناطق الاستراتيجية. كما ستعمل واشنطن على ضمان عدم استخدام سوريا كملاذ للجماعات الإرهابية حسب وصفها التي تهدد مصالحها أو حلفاءها.

مواجهة النفوذ الإيراني: حيث رأت الإدارة الأميركية أن تزايد النفوذ الإيراني في سوريا يشكل تهديداً مباشراً لميزان القوى ولحلفائها الإقليميين في المنطقة خاصة إسرائيل والسعودية.

تقليص الكلفة الأميركية: دعا ترمب سابقاً إلى انسحاب تدريجي من سوريا مع إبقاء عدد محدود من القوات لحماية المصالح الاستراتيجية مثل حقول النفط لمنعها من الوقوع في أيادي قوى قد تحمل مشاريع معادية للمصالح الأميركية.

بعد سقوط نظام الأسد وصعود أحمد الشرع

بعد التغيير الكبير الذي حصل مع سقوط نظام الأسد من المتوقع أن تتوجه إدارة ترمب إلى تأمين الاستقرار السياسي وإعادة بناء الدولة لمنع تحولها إلى دولة فاشلة وفق معايير الولايات المتحدة إذ يمكن أن تدعم الإدارة الأميركية حكومة أحمد الشرع بشرط تحقيق خطوات ملموسة نحو الاستقرار السياسي، مثل تشكيل حكومة تضم مختلف الأطياف السياسية، بما في ذلك المعارضة وهذا قد يكون وفق ضمانات معينة منها ما يتعلق بتنظيم داعش ومنها ما يتعلق بملف قوات قسد.  قد تعمل الولايات المتحدة مع الدول الأوروبية وحلفائها الإقليميين لتقديم مساعدات مشروطة لإعادة الإعمار، بشرط التزام الحكومة الجديدة بمعايير الشفافية والإصلاح الاقتصادي وإتاحة الفرص الاستثمارية للشركات العابرة للدول.

مواجهة النفوذ الإيراني

النفوذ الإيراني في سوريا: كانت إيران أحد الداعمين الرئيسيين لنظام الأسد خلال سنوات الصراع. بعد سقوط الأسد، ستعمل واشنطن على ضمان تقليص هذا النفوذ إلى حده الأقصى، وقد أبدت حكومة أحمد الشرع استعداداً لوقف التعاون مع إيران وهذه نقطة إيجابية قد تقلل من حجم العقبات بين الإدارتين.

الدور الروسي ومستقبل العلاقات الثنائية

روسيا لعبت دوراً محورياً في دعم نظام الأسد سياسياً وعسكرياً. بعد أن سقط نظام الأسد، قد تحاول روسيا الحفاظ على نفوذها في سوريا عبر دعم الحكومة أو تقديم امتيازات استثمارية قد تتفاوض واشنطن مع موسكو لضمان مصالح متبادلة في سوريا، مثل الحفاظ على الاستقرار ومحاربة الإرهاب وضمان مصالح اقتصادية ومع ذلك، فإن أي دعم أميركي للنظام الجديد سيظل مشروطاً بعدم خضوعه الكامل للإرادة الروسية وهذا ما نوهت إليه الإدارة السورية الجديدة وهذا يحسب لها في ميزان المصالح مع الولايات المتحدة الأميركية.

دور أحمد الشرع في السياسة الأميركية

الشخصية الانتقالية: بعد تولي أحمد الشرع السلطة الحالية، من المحتمل أن يُنظر إليه كشخصية توافقية تحظى بدعم إقليمي ودولي قد تكون الشخصية الوحيدة القادرة على إعطاء ضمانات وتطمينات حقيقية للولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين.

التوقعات الأميركية: ستدعم واشنطن أي خطوات يتخذها الشرع نحو إصلاح النظام السياسي، بشرط أن تحقق الشفافية وتمنح المعارضة في كافة أطيافها دوراً فاعلاً. كما ستراقب واشنطن سياسات الشرع الخارجية لضمان تقاربه مع الغرب بدلاً من الاعتماد على روسيا وحلفائها الإقليميين، مع تحقيقه لخطوات عملية تؤكد قدرته من بسط السيطرة على المشهد وأن لا تكون سوريا منطلقا لتهديد المصالح الأميركية.

تحديات السياسة الأميركية في سوريا

رغم وجود فرص لتعزيز المصالح الأميركية، فإن هذا السيناريو يواجه تحديات كبيرة، أبرزها:

التعقيد الإقليمي: سيواجه النظام الجديد ضغوطاً من أطراف إقليمية، ما قد يضعف من قدرته على تبني سياسات مستقلة.

إعادة الإعمار: تقدر كلفة إعادة إعمار سوريا بمئات المليارات من الدولارات، وهو ما يشكل عبئاً كبيراً على المجتمع الدولي.

المعارضة الداخلية: قد تواجه حكومة أحمد الشرع معارضة داخلية من الأطراف التي لن ترضى بأي تغيير لا يلبي مطالبها بشكل كامل.

تحديات الإدارة السورية الجديدة

تواجه الإدارة السورية الجديدة عدة تحديات محورية تهدف إلى تحقيق الاستقرار والتنمية وبناء مستقبل مستدام للبلاد. ومن أبرز هذه التحديات:

1. دمج الفصائل العسكرية

يعتبر توحيد الفصائل العسكرية تحت مظلة وطنية واحدة من أهم التحديات. يتطلب هذا الأمر خطة شاملة لإعادة هيكلة القوات المسلحة، ودمج الفصائل المتعددة بما يتماشى مع معايير الدولة، مع ضمان ولاء هذه القوى للمصلحة الوطنية.

2. الوصول بالبلاد إلى دستور وانتخابات حرة.

3. ضبط الأمن

تحقيق الأمن الداخلي وإعادة فرض سيادة الدولة على جميع الأراضي السورية يشكل تحدياً رئيسياً. يشمل ذلك تعزيز قوى الشرطة وأجهزة الأمن، وإعادة بناء المؤسسات الأمنية على أسس مهنية تضمن احترام حقوق الإنسان وتطبيق القانون بفعالية.

4. مكافحة الإرهاب

القضاء على الخلايا الإرهابية المتبقية ومنع عودتها يتطلب جهوداً متواصلة تشمل التعاون الإقليمي والدولي، وتحسين القدرات الاستخباراتية، ومعالجة الأسباب الجذرية للإرهاب.

ستتبنى الولايات المتحدة سياسة براغماتية تهدف إلى تحقيق الاستقرار في سوريا مع ضمان حماية مصالحها الاستراتيجية، ستكون الأولويات الأميركية هي: دعم عملية الانتقال السياسي، إنهاء النفوذ الإيراني، التعاون في محاربة الإرهاب، والتأكد من أن النظام الجديد يتحرك نحو الإصلاحات، من الممكن أن يكون للشركات الأميركية امتيازات خاصة في الاستثمار أيضاً.

 مع ذلك، فإن تحقيق هذه الأهداف سيتطلب تعاوناً دولياً واستعداداً لمواجهة تحديات معقدة على المستويين الداخلي والإقليمي ولكن بإمكاننا أن القول إن الولايات المتحدة الأميركية في ظل إدارة ترمب قادرة على صنع قرارات براغماتية بحتة من دون التقيد ببعض المبادئ الأساسية للسياسة الأميركية ومنها إعادة قبول أحمد الشرع كرئيس انتقالي في سوريا بعد أن كان مصنفاً على لوائح الإرهاب لسنوات طويلة.

تلفزيون سوريا

——————————-

كيف تنظر إسرائيل لملف الأكراد في سوريا؟/ محمود سمير الرنتيسي

2025.01.24

كتب العديد من الكتاب الإسرائيليين عن ملف الأكراد في سوريا وهناك شبه إجماع على أبعاد هذا الملف والغموض الحالي حوله، وأول هذه الأبعاد هو عدم اليقين بشأن موقف إدارة ترمب من الملف الكردي في سوريا وهل سيبقي الرئيس الأميركي على الوجود العسكري الأميركي في سوريا أم سيقوم بالانسحاب، وفي حال تحقق سيناريو الانسحاب كيف سيكون شكل الموقف الإسرائيلي.

أما البعد الآخر الذي يقلق دولة الاحتلال الإسرائيلي فهو الوجود التركي في سوريا حيث يعتقد الكثير من المفكرين وصناع القرار أن الاحتكاك مع تركيا قد يكون واردا ويعتقد الكثير من الأتراك أنهم باتوا أقرب جغرافيا إلى حدود فلسطين. لقد تغيرت المعادلة السابقة التي كانت فيها تركيا تهتم بشمال سوريا فقط بينما تهتم دولة الاحتلال بجنوب سوريا فقط، في حين كانت إيران تعد تهديدا مشتركا للطرفين، فالآن هناك تطلعات لدى الطرفين فيما يتعلق بالقلق والاهتمام والنفوذ والتحالفات في الشمال والجنوب. كما أن هذا الملف سيعد ملفا جديدا على أجندة العلاقات بين الطرفين.

إن أي خطوة إسرائيلية تدعم الأكراد في شمال سوريا ستنظر إليها تركيا بمثابة تهديد، وهذا سيكون تهديدا مباشرا لتركيا، ويرجح أن إسرائيل هنا لن تستطيع القيام بشيء حقيقي ضد تركيا بل ستوفر شرعية أكبر لوجود عسكري تركي كما أن الحالة الجديدة في سوريا التي تسعى لبسط نفوذ الدولة لن تتسامح مع التدخل الإسرائيلي.

من زاوية أخرى فإن إسرائيل إن قامت بدعم أكراد سوريا بشكل مباشر فإنها ستدخل نفسها في أزمة مع أكراد كردستان العراق بسبب الخلاف بين الحزب الديمقراطي الكردستاني في العراق وحزب الاتحاد الديمقراطي في سوريا ومع أن هذه الديناميكية قد تعتبر أقل أهمية في دولة الاحتلال إلا أن تحذيرات من خبراء إسرائيليين دعت إلى عدم العبث في هذا الملف.

لقد كانت هناك تجربة فاشلة عندما دعمت دولة الاحتلال الاستفتاء في كردستان العراق في 2019 واستطاعت تركيا أن تفشله بسهولة بالتعاون مع الحكومة المركزية في العراق. من زاوية أخرى توجد حاليا مبادرات لحل القضية الكردية تماما في تركيا وهناك نوايا معلنة عن إطلاق سراح عبد الله أوجلان في شباط 2025 واحتمال قيام الأخير بدعوة لحزب العمال الكردستاني بترك السلاح وإن حدث هذا فإن كل استثمارات دولة الاحتلال تكون في سراب.

ومع ما سبق هناك أصوات إسرائيلية مثل ايتي انجل في هآرتس تدرك أنه يجب تجنب الدخول في الوحل السوري، أو تحدّي تركيا. ولكنه في ذات الوقت يقترح تزويد الأكراد بمنظومات مضادة للمسيّرات التركية والجهادية. واستخدام اللوبي الإسرائيلي في الكونغرس من أجل إقناع الأميركيين بالبقاء في شمال سوريا وعدم التخلي عن الأكراد مع استلام دونالد ترمب منصب الرئاسة، والكثير في المجالات الاستخباراتية والسيبرانية والسلاح. ويدعو مقال انجل إلى الوقوف بشكل قوي خلف الأكراد في سوريا حتى لا تخسر إسرائيل حليفا استراتيجيا لصالح أردوغان والجهاديين والإسلاميين وحماس على حد قوله.

من الواضح أن الواقع الذي نشأ بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر يزيد من معضلات دولة الاحتلال الداخلية والخارجية ويعقد علاقاتها مع حلفائها وأعدائها وتشير الكتابات والسلوك الإسرائيلي إلى أن إسرائيل تتعمق في دوامة من التخبط. لقد كان واضحا أن ترمب بدأ فترته الثانية بتوتر مع نتنياهو وضغط عليه وهذا على الأقل مؤشر أن الأمور لن تكون وردية في عهد ترمب كما تمناها نتنياهو.

——————————

استراتيجية التنسيق بين دول الخليج وتركيا في سياسة الشيباني/ فراس رضوان أوغلو

2025.01.24

بعد مرور أكثر من شهر من تولي الإدارة السياسية الجديدة زمام الأمور السياسية والإدارية في دمشق وتعيين حكومة الإنقاذ بشكل مؤقت يمكننا القول إن الأداء بشكل عام هو أداء ناجح، وإن كان من الصعب التكلم عن استراتيجيات معينة تتبعها دمشق، فالوضع ما يزال في بدايته إضافة للإرث الثقيل الذي تركه نظام الأسد من خراب ودمار لكل مؤسسات الدولة ومدنها.

لكن الملاحظ في الأداء السياسي لوزارة الخارجية للإدارة السياسية الجديدة بأنه منضبط و متوازن وفق رؤية مقبولة عند الكثير من الأطراف الدولية و هذا كان واضحاً من التصريحات التي جاءت من قبل المسؤولين الذين زاروا دمشق أو الذين قام بزيارتهم وزير الخارجية السيد أسعد الشيباني، ولو أضفنا على ذلك النتائج الحاصلة ما بعد تلك الزيارات سنجد أن النتائج الإيجابية أصبحت ملموسة ويمكن اعتبار أحد هذه النتائج هو مخرجات و قرارات اجتماع مسؤولي وزارات الخارجية لدول الخليج العربي و الذي شهد توافق بين تلك الدول حول خريطة طريق من أجل دعم الاستقرار في سوريا و إعادتها لمكانتها الإقليمية التي كانت عليها مسبقاً، إضافة للاجتماع العربي و الدولي الذي أقامته المملكة العربية السعودية في العاصمة رياض في مسعى منها هي أيضاً لتحقيق الاستقرار والدعم لسوريا بعد سقوط نظام الأسد، علاوة على ما قامت به المملكة السعودية من إرسال جسر بري من المساعدات الإنسانية لدعم الشعب السوري وكذلك قطر التي أرسلت أول طائرة مساعدات إلى دمشق.

أما على الصعيد الثاني (غير العربي) فزيارة الشيباني لتركيا بعد جولته في دول الخليج العربي كانت متوقعة لما قامت به أنقرة من دعم كبير للمعارضة السورية منذ بداية الثورة السورية وما تقوم به حتى الآن من دعم سياسي للإدارة السورية الجديدة وتثبيتها كمخاطب سياسي للمجتمع الدولي ومطالبتها بإنهاء العقوبات المفروضة على سوريا من أجل إعادة الإعمار وإحياء التجارة البينية بين البلدين المتجاورين إضافة لدعمها الكامل لاستعادة دمشق سيطرتها على كامل التراب السوري ورفضها محاولات قسد استغلال الوضع من أجل إقامة كيان مستقل لها، ومطالبات أنقرة إسرائيل الخروج من الأراضي التي دخلتها في الجنوب السوري، واستعدادها التام في إعادة وتدريب الجيش السوري في حال تشكيله.

هذه النتائج الإيجابية حتى الآن جاءت نتيجة تكتيك جيد في أداء الخارجية السورية و قراءة واقعية لموازين القوى في المنطقة وحسن التنسيق في العلاقات بين تلك القوى، فابتداء الزيارات الرسمية الخارجية من دول الخليج (المملكة العربية السعودية وقطر و الإمارات العربية المتحدة) تأكيد منها على الانتماء العربي لسوريا ومعرفتها مقدار تأثير تلك الدول على الولايات المتحدة الأميركية لما تمتلكه من شراكات اقتصادية واستراتيجية هامة معها وما يمكن أن تقوم به في إنهاء العقوبات المفروضة على سوريا وتمويل مشاريع إعادة الإعمار وإحياء سوق المال و المصارف البنكية في سوريا، إضافة لثقلها السياسي في بعض العواصم العربية (القاهرة ، عمان) مما يمكنها من الاستفادة منها من أجل تحسين العلاقات مع دمشق وتثبيتها سياسياً والاعتراف بها كمخاطب سياسي لتلك العواصم.

رغم أنه من المبكر الحكم على نجاح السياسة الخارجية من فشله إلا أن المؤشرات الأولية تعطي انطباعاً لا بأس به من أن الأداء كان جيداً حتى الآن وأنه يبشر باستراتيجية قادمة ذات فاعلية و واقعية مهمة وخاصة أن الزيارات الأولى التي قام بها الوزير الشيباني أظهرت أن هذه الإدارة الجديدة مدركة تماماً لما يحصل من تغيرات سياسية في المنطقة وفي العالم وأظهرت أنها على دراية بالمفاتيح التي يجب التوجه نحوها من أجل طرق وفتح أبواب الغرب الاقتصادية و السياسية، وأن الاستراتيجية الفاشلة التي اتبعها النظام السابق لم تجلب إلا العزلة والتخلف الاقتصادي لسورية وخاصة أن كل دول المنطقة أصبحت صديقة للغرب وخاصة للولايات المتحدة الأميركية وراحت سياسات واستراتيجيات تلك الدول تتماشى مع المصالح الأميركية بينما كانت دمشق متقوقعة في ظلال المحور الروسي الإيراني.

الوضع في سوريا لا يشبه أي من الدول المحيطة بها فموقعها الجغرافي وضَعَها بين قوتين هما من القوى الأكبر في المنطقة تركيا من الشمال وإسرائيل من الجنوب والتنافس بين هاتين الدولتين بدأ يتحول لصراع بينهما تجلت فصوله على الأراضي السورية، فإسرائيل تدعم قسد وتركيا تدعم الحكومة والإدارة السياسية في دمشق وهذا ينعكس على الوضع الميداني غير المستقر حتى الآن بين قسد ودمشق، ويمكن اعتبار توجه الشيباني نحو السعودية هو لتشكيل كتلة سياسية قوية بين دول الخليج و تركيا للضغط على قسد و طبعاً من خلفها الولايات المتحدة الأميركية وبهذا تكسب دمشق زخماً سياسياً يُحسب لها في كل الأحوال سواء تخلت أم لم تتخلَّ واشنطن عن قسد.

————————————

مارشال وفليت.. سوريا تتطلع للدعم الأميركي على خطى كوريا الجنوبية/ أسامة القاضي

2025.01.23

مر أربعة عشر عاماً منذ بدأت الثورة السورية، ولكن آثار مقتلة نظام الأسد المخلوع والقمع لا تزال محفورة في الوعي التاريخي للشعب السوري، بعد أن فقد أكثر من مليوني سوري حياتهم، ونزح قرابة 14 مليونا عن بيوتهم التي دمرها ونهبها الأسد وأعوانه، وتحولت البنية الأساسية للبلاد إلى أنقاض.

إن سوريا الجريحة تذكر المجتمع الدولي بحجم كارثة تأخر سقوط نظام الأسد الذي كانت إدارة الديمقراطيين وعلى رأسهم الرئيس السابق باراك أوباما الذي يعده معظم الشعب السوري مسؤولاً عن كل دماء السوريين التي باعها لقاء وهم الوصول إلى اتفاق نووي مع الدولة المارقة إيران، وأعجب من تسمية الحزب “ديمقراطي” وهو يبيع أعظم ثورة تحرر شعب على وجه الأرض، وتفوق بأهميتها الثورة الفرنسية، وخاصة بانتصارها سلمياً وسيادة السلم الأهلي والاستقرار وتحسن معيشة السوريين وانخفاض الأسعار وتحسن قيمة الليرة السورية بعد أقل من أسبوع على انتصارها في حين انتظرت فرنسا 70 عاماً حتى تقطف ثمرتها، واشتهر فيها المحامي ماكسيميان روبسبير (1758-1794) الذي لقب بسفاح الثورة فقد قتل أكثر من ستة آلاف شخص منهم في أقل من شهر ونصف، واقتادهم جميعاً إلى “المقصلة” التي فصلت رؤوسهم عن أجسادهم!.

كل السجون المفزعة والمقابر الجماعية ودمار سوريا بمنزلة تذكير صارخ بالكلفة البشرية للاستبداد والدكتاتورية، لقد حولت قبضة نظام الأسد على السلطة سوريا إلى كارثة إنسانية، وهي كارثة تجاوز حجمها الفظائع التي ارتكبتها الأنظمة النازية والفاشية. ويتعين على المجتمع الدولي، وخاصة الولايات المتحدة، أن يسأل الآن: هل يمكن إعادة بناء سوريا، ليس فقط كدولة، بل كديمقراطية واقتصاد مزدهر، على غرار ألمانيا أو كوريا الجنوبية بعد الحرب؟.

إن الدمار في سوريا يوازي الظروف التي واجهتها أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية والحرب الكورية، ويذكر التاريخ أن الزعامة الأميركية أثبتت أنها محورية في التعافي والتنمية فقد قدمت خطة مارشال، التي قدمها وزير الخارجية الأميركي جورج مارشال، أكثر من 13 مليار دولار والتي تعادل 227 مليار دولار عام 2025! وذلك لإعادة بناء الاقتصادات الأوروبية، واستعادة البنية الأساسية، وتعزيز المؤسسات الديمقراطية، وعلى نحو مماثل، ساعدت زعامة الجنرال جيمس أ. فان فليت في أثناء الحرب الكورية بتمهيد الطريق لتحول كوريا الجنوبية من دولة مزقتها الحرب إلى قوة اقتصادية عالمية.

General James A. Van Fleet

إن سوريا تحتاج من الولايات المتحدة إلى التزام مماثل ــ خطة شاملة لا تعالج الاحتياجات الإنسانية الفورية فحسب، بل تضع أيضاً الأساس للتعافي الاقتصادي الطويل الأجل، والاستقرار السياسي، والمصالحة الاجتماعية.

إن الولايات المتحدة لديها الموارد والنفوذ والمسؤولية الأخلاقية اللازمة لقيادة مثل هذه المبادرة بالتعاون مع المملكة العربية السعودية التي تتطلع لبناء شرق أوسط جديد، إن دعم سوريا يتماشى مع القيم الأميركية في تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان في حين يخدم المصالح الاستراتيجية في تعزيز الاستقرار في الشرق الأوسط، إن سوريا المزدهرة والديمقراطية من شأنها أن تساعد على وقف انتشار التطرف الناجم عن اليأس والفقر.

إن مشروع إعادة الإعمار الاقتصادي استثمار ضخم في إعادة بناء البنية الأساسية والزراعة والصناعات في سوريا، وهذا من شأنه أن يخلق فرص العمل ويحفز النمو. إن سوريا تحتاج الولايات المتحدة مع بقية أصدقاء الشعب السوري وأشقائه العرب في التعليم وتنمية القوى العاملة، وبرامج لإعادة بناء المدارس وتدريب جيل من السوريين على المهارات اللازمة للاقتصاد الحديث، على غرار تركيز كوريا الجنوبية على التعليم الفني. كما تحتاج سوريا دعم المؤسسات التي تعزز سيادة القانون والعدالة والمساءلة، وتحتاج للإغاثة الفورية للاجئين والنازحين داخليا، إلى جانب خطة طويلة الأجل لإعادة التوطين والتكامل.

إن سوريا على مدى ستين عاماً من حكم حزب البعث وقيادة الأسد الأب والابن الذين دمروا سوريا وأهملوا استثمارها تعد حقاً بلداً عذراء لم يستثمر منه أكثر من 5% ، ومن خلال تولي زمام المبادرة في إعادة بناء سوريا، ستظهر الولايات المتحدة بالتعاون مع المملكة العربية السعودية الزعامة العالمية في معالجة واحدة من أكثر الأزمات الإنسانية إلحاحاً في القرن الحادي والعشرين.

إن قصص النجاح التي حققتها ألمانيا وكوريا الجنوبية تثبت أن حتى الدول التي دمرتها الحرب يمكن أن تنهض من جديد بالدعم المناسب، وسوريا، بسكانها الصامدين وتراثها الثقافي الغني، لديها القدرة على السير على خطاهم ولكن هذا لا يمكن أن يحدث إلا من خلال اتخاذ إجراءات حاسمة من جانب المجتمع الدولي، وخاصة الولايات المتحدة، ولعل أهم الخطوات العاجلة هي رفع العقوبات عن الدولة السورية وليس عن الكيانات والأفراد المتورطين في الدم السوري، ودخول الولايات المتحدة بوزنها لتدعم نهضة اقتصادية خارقة، تحاكي معجزة نهر الهانغانغ الكروية الجنوبية، التي ارتفعت صادراتها من 32 مليون دولار أميركي فقط في عام 1960، إلى 10 مليارات دولار أميركي في عام 1977 وبعدها إلى 683 مليار دولار أميركي في عام 2024!

ولولا الشراكة الخرافية للولايات المتحدة الأميركية مع فيتنام لم تحلم فيتنام أن تصدر 335 مليار دولار 2024!

the Miracle on the Hangang River

فهل تمتن الولايات المتحدة الشراكة مع سوريا وتضع يدها بيد المملكة العربية السعودية لينهضا باقتصاد سوريا وتعوض شعبها عما عاناه السوريون خلال ستة عقود من إجرام الأسد بحقهم وتكسب شريكاً جديداً مثل فيتنام  أو كوريا الجنوبية؟ وكما حولت قيادة فان فليت كوريا، فإن الولايات المتحدة لديها الفرصة ــ والالتزام ــ لمساعدة سوريا على النهوض من الرماد، الآن هو الوقت التاريخي المناسب لتحرك الولايات المتحدة لتدعم سوريا والنهوض بثرواتها النفطية والغازية والصناعية والتكنولوجية.

——————————

في الثيوقراطية الجديدة والتكويع الحربائي/ مصطفى إبراهيم المصطفى

2025.01.23

ترجع النظريات الدينية “الثيوقراطية” أصل السيادة ومصدر السلطة إلى الله، فهو وحده صاحب السيادة وإليه ترجع السلطة الآمرة، إحدى هذه النظريات تقوم على إضفاء الطبيعة الإلهية على الحكام، فالحاكم طبقاً لهذه النظرية إله يعيش وسط البشر ويحكمهم.

وتعتبر نظرية الحق الإلهي المباشر أن الحاكم مختار بطريق مباشر من الله لمباشرة شؤون السلطة، أما نظرية الحق الإلهي غير المباشر فترى أن الأفراد هم الذين يختارون الحاكم، ولكنهم يختارونه وفق العناية الإلهية التي توجه إرادة الأفراد وجهة معينة وترشدهم إلى اختيار الحاكم الذي ترتضيه العناية الربانية.

من الثيوقراطية إلى النيوثيوقراطية

مع قيام الثورة الفرنسية ظهرت للعلن نظرية “سيادة الأمة”، ثم ما لبثت أن ظهرت “نظرية سيادة الشعب” كتطور بارز للفلسفة السياسية الهادفة لرفع الحصانة المطلقة عن الحكام.

ورغم أن نظرية سيادة الشعب أصبحت هي السائدة في الدول الديمقراطية ما زالت معظم الأنظمة السياسية في البلدان النامية تستند بأساليب مواربة إلى النظريات الدينية، فالنظام السوري -على سبيل المثال- لجأ إلى أشد هذه النظريات تخلفاً، وهي نظرية “الطبيعة الإلهية للحكام”، حيث تم تطوير هذه النظرية لتجعل من الحاكم إلها في الأرض إلى جانب إله السماء، وهذا أحد التعديلات على النظرية الأم.

أما التعديل الثاني؛ فهو بعدم التصريح بألوهية الحاكم، وإنما يتم ذلك من خلال الإفهام والإيحاء شديد الوضوح، وهذا ما يمكن أن نسميه -تجاوزاً- “النيوثيوقراطية” أو “الثيوقراطية الجديدة”.

ومع اندلاع الثورة السورية واحتدام الصراع بين السلطة والقوى الثورية، أصبحت القضية أشد وضوحاً، فالموجودون في المناطق التي يسيطر عليها النظام، فرضت عليهم طقوس للعبادة تماماً كما في كل الديانات.

“عبادة مستفزة”

اتخذت طقوس عبادة “رأس النظام” شكلين: الأوّل منها؛ يهدف إلى النجاة من العقاب وإثبات الولاء، وتتمثل طقوسه بكتابة منشور أو التعبير عن إعجاب أو وضع صورة على إحدى الصفحات الشخصية وما شابه ذلك.

أمّا الشكل الثاني من طقوس العبادة؛ فهو بالإضافة إلى طقوس الشكل الأول؛ يقوم العبد الصالح بالتطوع بأعمال إجرامية تخدم السلطة، كالقتال وكتابة التقارير واحتراف مهنة التطبيل لنظام الإجرام، وما شابه ذلك، ومؤدو هذه الطقوس يطمحون إلى الثواب إضافة لاتقاء العقاب.

بالمجمل؛ كانت ممارسة هذه الطقوس مستفزة للطرف الآخر الذي اتسمت ردود أفعاله بالغضب والاحتقار، وهو ما أوصل الطرفين إلى مرحلة أصبح فيها الحقد المتبادل هو سيد الموقف.

ولعل هذا أحد أهم أهداف النظام من تكريس هذا السلوك، فالخوف من أحقاد الطرف الآخر تدفع بالإنسان للخوف من انتصاره، وتدفعه إلى التمسّك بجماعته وموقعه ضارباً عرض الحائط بكل ما له علاقة بالحق أو القواعد الأخلاقية، وهذا ما يفسر ثبات الأغلبية من مؤيدي النظام على موقفهم، رغم ما حل بهم من فاقة وعوز وقهر، ورغم ما شاهدوه من استهتار بمشاعرهم وكرامتهم.

الاستدارة و”التكويع”

بعد السقوط المدوي لنظام الطغيان حاولت قيادة العمليات العسكرية تكريس قيمة التسامح، وأصدرت عفواً مبهماً غير واضح أثار ردات فعل غاضبة في الشارع الثوري، وهو ما دفع بقيادة العمليات لاتخاذ إجراءات أظهرت من خلالها أن العفو يشمل الفئة الأولى من العباد، أولئك الذين اقتصرت عبادتهم على اتقاء شر الحاكم المؤله.

ودونما فاصل زمني كاف؛ انخرط بعض هؤلاء بين جموع المحتفلين بسقوط النظام بطرق مختلفة، بعضها كان مستفزا لجمهور الثورة الذي سارع إلى إطلاق مصطلح “المكوعين” لوصف هؤلاء في محاولة للجمهم وتحقيرهم في نفس الوقت.

و”التكويع” يقصد به تغيير الموقف، أو الاستدارة، وبلغة أدق تحوّل الشخص من موقع التشبيح بمدلوله الواسع إلى موقع الثائر، وربما شمل مَن كانوا يسمون بالرماديين.

بالمحصلة، أثار الموضوع جدلاً واسعاً وكان مدخلاً للذباب الإلكتروني الذي استعاد نشاطه في إثارة الفتنة وتعميق الخلاف بين أبناء البلد الواحد، وهؤلاء مع بقايا أبواق النظام لديهم مهارة عالية بتطبيع كل شيء، فهم حتى موضوع المعتقلات التي هزت ضمير العالم حاولوا تسخيفه بالقول: كل الأنظمة السياسية لديها سجون، واعتمادا على هذه المهارة وصلوا إلى نتيجة مفادها: كلكم “مكوعون”.

“المكوع الحربائي”

لدى سؤال عينة من السوريين: أيهما يستفزك أكثر المكوع أم غير المكوع؟ كانت الإجابات في غالبيتها العظمى: “المكوع”، ومعظمهم أردف يكفي أن غير المكوع لديه مبدأ.

من هنا يتبادر للذهن سؤال: هل حقاً أن غير المكوع صاحب مبدأ؟ فكل الدلائل تشير إلى عكس ذلك، بل تشير إلى أن هؤلاء على درجة من الوقاحة والنرجسية المستفزة التي تستوجب المساءلة القانونية.

في المقابل؛ يفترض الواقع المأساوي لحياة السوريين في المناطق التي كان نظام الطغيان يسيطر عليها أن نصدق أن هؤلاء فرحوا بانتصار الثورة، وأن من حق هؤلاء التعبير عن سعادتهم بهذا الحدث التاريخي.

من هنا يمكن القول: إنّ الإشكال نشأ نتيجة للتوسع باستخدام المفهوم، فمصطلح التكويع كان يقصد به في البداية شريحة ضيقة من السوريين، أولئك الذين يمتلكون مهارة الحرباء، وبالتحديد أولئك الذين أوجدوا لأنفسهم مكانة في ظل نظام الطغيان، ومن ثم بدؤوا التحضير لتبوء مكانة مماثلة في ظل النظام الجديد.

وهؤلاء “المكوعون الحربائيون”، عدا عن تذاكيهم المستفز؛ هم قادرون -في حال نجاحهم- على تخريب كل شيء له علاقة بالحرية والكرامة، بل هم قادرون إفساد السلطة من خلال ثقافتهم، ثقافة العبيد.

إذاً؛ فغير المكوع أسقط عن كاهل الثوار عبء إبعاده وترك لهم مطلق الحرية في نعته وتوبيخه، أما “المكوع الحربائي” فهو مصدر خطر على المجتمع وعلى الثورة، خاصة وأن لدى هؤلاء مقدرة على التملق والتزلف والانبطاح لا يستطيع أن ينافسهم بها أحد، والأخطر من ذلك أن هذا النوع من الأشخاص هو النوع الذي يفضله أصحاب المناصب وأصحاب النفوذ، فمعظم هؤلاء لا يرفض أن يعبد.

تلفزيون سوريا

———————————

 التنمّر عندما تمارسه الجماعات أو الدولة/ بسام يوسف

2025.01.23

يمكن القول بسهولة إن معظم الأنظمة الاستبدادية كانت أنظمة شعبية، وبقراءة سير وتاريخ الطغاة سنجد أن أكثرهم قسوة ووحشية كانوا موضع تملق ومحبة قسم كبير من مجتمعاتهم، وأن الاعتراف بسمات الطغاة السيئة والتحدث عنها لا يحدث إلا بعد موت هؤلاء الطغاة أو إسقاطهم.

هذا لا ينفي وجود أفراد كارهين لهم، لكن هؤلاء الكارهون كانوا غالباً محارَبون من مجتمعاتهم، وغالباً ما يتم تجاهلهم بعد سقوط الطاغية، أو يتم إعادة الاعتبار لهم لوقت قصير، ثم يتم نسيانهم لتعود دورة التملق مرة أخرى، أي دورة البحث عن طاغ جديد يعيد نسج الحكاية من جديد لكن بأسماء وأبطال وطغاة جدد.

هل تستغربون أن يكون هناك من يمجّدون “هتلر” حتى اليوم، ويستلهمون تاريخه، وكذلك الأمر بالنسبة لـ”ستالين”  ولـ”صدام حسين” و”حافظ الأسد”، ولطغاة كثر، لا بل ربما ذهب قسم كبير من محبّي هؤلاء إلى حد أسطرتهم، وتصنيفهم عباقرة، أو رجال دولة نادرون، أو ربما اعتبرهم البعض تجسيداً إلهياً على الأرض؟!.

يكتب المثقفون والمفكرون والسياسيون كثيراً حول  فصل الدولة عن السلطة، وهذا أمر ضروري فالسلطة نظريا وقانونيا ليست الدولة والعكس صحيح، لكن هذا الفصل يغدو مجرد تنظير عند الحديث عن أنظمة استبدادية كثيرة منها النظام السوري، ولا أميز هنا بين النظام السابق والأسبق واللاحق و..و.. لأن تاريخ الأنظمة المتعاقبة في سوريا كان بمعظمه تغوّل للسلطة على الدولة وابتلاعها، وبالتالي يغدو الحديث عن فصلهما مجرد تجريدات نظرية مشتهاة، أو ربما تبريرات لغايات أخرى.

المشكلة الأهم في المجتمعات التي تهيمن فيها السلطة على الدولة، أو تبتلعها عبر آليات وأدوات الاستبداد، تتجلّى في تعميم ثقافة العنف أو القمع، لتطول المجتمع كلّه، وإذا أردنا التخفيف قليلاً يمكننا القول تعميم ثقافة التنمر، وقد لا أكون مبالغاً إن قلت إن المجتمع السوري بكامله هو مجتمع متنمّر، وأفراده يتعرضون للتنمّر، وهم في نفس الوقت يمارسونه عبر هرمية تحددها عناصر القوة.

يمكن تعريف التنمّر ببساطة على أنه سلوك عدواني من قبل طرف يمتلك القوّة، أو يتوهم امتلاكها، تجاه طرف أضعف، وقد يتمثل السلوك العدواني بإلحاق الضرر أو الأذى بآخرين، وإهانتهم، والسخرية منهم، وصولاً إلى الاعتداءات الجسدية بما في ذلك القتل، ورغم أن معظم الدراسات المتعلقة بالتنمّر تبحث بأسبابه ونتائجه على مستوى الأفراد، وانعكاسه عليهم، لكنها تكاد تغيّب  ما يتعلق بتنمّر فئات اجتماعية على فئات أخرى، أو بتنمّر الدولة أو تحويلها إلى أداة للتنمر!

المشكلة الأخطر في التنمّر السوري (إذا جازت التسمية) أنه يستعمل أدوات بالغة الخطورة، وتؤثر في المجتمع كله، فهو  سائد في  الاقتصاد والثقافة والدين والسياسة والأخلاق و.. وكل ركائز المجتمع، أي أنه يدخل عميقاً في بنية الدولة، وفي عمق النسق المعرفي والثقافي للأفراد، ويكفي أن تختلف في الرأي مع أحد ما حتى يسارع إلى استحضار ما يعتبره مصدر قوة له، كي يتنمر عليك.

أما مصادر القوة المتوهمة تلك فهي متعددة، فالذكر يمتلك القوة لكي يتنمر على الأنثى، والعربي يمتلك القوة لكي يتنمر على غير العربي، وكذلك الانتماء لطائفة ما، أو لمنطقة ما، والموقف من الثورة، والداخل والخارج..إلخ.

لعلّ التعبير الذي تم استعماله بكثرة في فترة حكم عائلة الأسد “نحنا الدولة ولاك” كان مثالاً واضحاً على التنمّر باستعمال “السلطة/ الدولة” للتنمر على الآخرين، أيضا كانت اللهجة الخاصة بطائفة ما وسيلة من وسائل التنمر، وهناك أدوات كثيرة أخرى، واليوم تفيض وسائل التواصل الاجتماعي بمفردات التنمر، ويتم اختيارها بما يناسب المتنمَّر عليه، فالتنمّر على الفرد يختلف عن التنمّر على طائفة أو مجموعة أو قومية.. وعبارة “نحنا الثورة ولاك” تكاد تكون الوجه الأصيل الآخر لعبارة “نحنا الدولة ولاك”.

تكتبُ حقوقية وسياسيّة مخاطبةً فئة ما بعبارة “انضبوا”، ولا يخفى على أحد ماذا تستبطن هذه العبارة، ويكتب دكتور في الفلسفة وعلم الاجتماع أيضاً مخاطباً طائفة “يبدوا أنكم  لا تفهمون إلا بالعين الحمرا”، ويحاضر دكتور آخر حول “خيانة” مكون اجتماعي عبر التاريخ، ويستنتج بـ”ذكاء” يُحسد عليه أن الخيانة موجودة في “جينات” هذا المكوّن، وينظّر دكتور في الشريعة حول ضرورة فصل المواطنين السوريين إلى درجات فيصبح لدينا مواطنين من الدرجة الأولى والدرجة الثانية!

ما ذكرته حول أوجه التنمر الذي تفيض فيه صفحات وسائل التواصل الاجتماعي ليس مجرد “حوادث فردية”، إنه يكاد يكون الأسلوب الأساسي، والأفراد القلة الذين يحاولون التصدي له يجدون أنفسهم عرضة لتنمّر شديد، ولذلك يعودون إلى صمتهم في الغالب، ولهذا التنمر المستفحل أسبابه الكثيرة، لكن لعل أهم أسبابه إنما تكمن في كونه الوسيلة الأساسية في ثقافة التعامل مع المختلف، فالمختلف في الثقافة السائدة هو عدو، ومن ليس معنا فهو ضدنا.

نحن بأمس الحاجة اليوم إلى وقف استباحة التنمر لعلاقاتنا، وهذه مسؤولية يجب أن يتحمّلها الساسة والمثقفون اليوم في ظل غياب القانون، وفي ظل غياب الأحزاب السياسة، والحياة السياسية، وفي ظل غياب مفهوم المواطنة، والأهم في ظل ابتلاع السلطة للدولة، وتحول الدولة من وظيفتها ودورها المحايد حيال المواطنين إلى أداة لقهر المختلف أو لتعزيز سلطة الحاكم.

في السنوات الماضية، وعندما كانت بعض البلدان التي يعيش فيها لاجئون سوريون تمر بمشكلة ما، أو تحدث بعض المشكلات بينهم وبين مواطنون من تلك الدول كانت الأصوات ترتفع بمناشدة السوريين الهدوء، وعدم التصعيد حتى لو كانوا مظلومين، وكانت العبارة الأكثر استعمالاً: “يا غريب كون أديب” اليوم يكاد بعض “المثقفين” السوريين أن يقولوا للمختلف معهم في الفكر إذا كان من طائفة أو قومية أخرى نفس العبارة، متوهمين أنهم أصحاب الأرض، وأن الآخرين غرباء، وأن كل حقوقهم هي منّة وتكرم منهم.

تلفزيون سوريا

———————————–

دمج اللاجئين العائدين في نظام التعليم في سورية: استراتيجية مقترحة استنادًا إلى تجارب ما بعد الصراع/ فاتح شعبان

23 كانون الثاني/يناير ,2025

شكّل سقوط نظام بشار الأسد، في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، منعطفًا حاسمًا في تاريخ سورية، حيث أتاح فرصة لإعادة الإعمار والاستقرار بعد أعوام من الصراع. وقد دفع هذا التطور السياسي كثيرًا من اللاجئين السوريين إلى التفكير في العودة إلى وطنهم. وبينما بدأ البعض بالفعل في العودة إلى الوطن، لا يزال هناك ملايين منهم في البلدان المجاورة وفي أوروبا. ومن بين المخاوف الرئيسة التي تؤثر في قرارهم بالعودة مسألة تعليم أطفالهم. وتكشف الدراسات الاستقصائية أن كثيرًا من السوريين المنفيين يُعربون عن رغبتهم في العودة، لكنهم يعطون الأولوية لإكمال أبنائهم دراستهم. ومع ذلك، فقد عانى قطاع التعليم في سورية أضرارًا جسيمة بسبب الصراع الذي طال أمده. وبسبب تدمير البنية التحتية، باتت كثير من المدارس غير صالحة للاستخدام، ومن ثم كان هناك انخفاض كبير في القدرة التعليمية، فضلًا عن أن مئات الآلاف من الأطفال تُركوا من دون الحصول على التعليم. وإضافة إلى ذلك، أدى النزوح الجماعي للمدرّسين المؤهلين إلى تفاقم الأزمة، حيث لا يحصل من تبقى منهم في كثير من الأحيان على رواتبهم، ويبحثون عن سبل عيشٍ بديلة. ويشكل هذا الخليط من تناقص الموارد وتحديات القوى العاملة عائقًا كبيرًا أمام توفير التعليم الجيد، وهو عامل حاسم في عودة أسر اللاجئين وإعادة إدماجهم. وستكون معالجة هذه القضايا ضرورية لتعزيز العودة المستدامة، وإعادة بناء النظم الاجتماعية والتعليمية في سورية.

العقبات التي تواجه دمج الطلاب العائدين في النظام التعليمي

إن إدماج الأطفال والشباب العائدين في نظام التعليم في سورية عملية محفوفة بمجموعة معقدة من التحديات التي تشمل الأبعاد الاقتصادية والأكاديمية والبيروقراطية والنفسية والاجتماعية. وتكمن إحدى العقبات الكبيرة في المجال الأكاديمي، حيث درس كثيرٌ من الأطفال مناهج دراسية مختلفة إلى حد كبير عن المناهج لدى النظام السوري خلال فترة لجوئهم، وغالبًا ما تكون بلغات أجنبية. وبينما يجد الأطفال العائدون من الدول العربية الانتقال أكثر سلاسة إلى حد ما؛ يواجه الأطفال العائدون من تركيا أو أوروبا أو غيرها من المناطق غير الناطقة بالعربية صعوباتٍ كبيرة، منها الحاجة إلى إعادة تعلم القراءة والكتابة باللغة العربية.

وتتفاقم هذه التحديات الأكاديمية، بسبب التناقضات بين المناهج الدراسية في الخارج وتلك الموجودة في سورية، فضلًا عن الاختلافات الأيديولوجية والثقافية الكامنة فيها. ويمكن أن تعوق هذه التباينات الفهم والاندماج، ولا سيّما للطلاب الذين عانوا من انقطاع طويل في تعليمهم. غالبًا ما تترك الحواجز اللغوية وعدم تطابق المناهج الدراسية تلك الطلاب العائدين يكافحون لمواكبة أقرانهم، ما يخلق لديهم مشاعر الإحباط والاغتراب. وفي غياب أنظمة الدعم المناسبة، يمكن أن تؤدّي هذه التحديات إلى زيادة إمكانية عدم المشاركة والتسرّب، ما يزيد من تهميش هؤلاء الأطفال الضعفاء.

وتزيد التحديات الاقتصادية الوضع تعقيدًا، حيث إن كثيرًا من الأسر العائدة تعيش في فقر، وتعاني البطالة والتكاليف المرتبطة بالتعليم، مثل نفقات النقل واللوازم المدرسية والزيّ المدرسي. وبالنسبة لكثيرين، فإن هذه النفقات تجعل التعليمَ غير متاح، ما يجبر الأطفال على العمل بدلًا من الذهاب إلى المدرسة.

تفتقر سورية حاليًا إلى برامج شاملة لمعالجة هذه الفجوات التعليمية. ولا تزال السياسات والإجراءات الخاصة بدمج الطلاب العائدين غير واضحة، لا سيما لأولئك الذين تلقّوا تعليمًا غير رسمي في مخيمات اللاجئين. ويواجه كثير من الطلاب العائدين تحديات بيروقراطية، مثل الحاجة إلى تقديم وثائق رسمية لدراستهم السابقة. وفي بعض الحالات، لا تعترف المؤسسات السورية بالشهادات أو المستويات الأكاديمية التي حصل عليها اللاجئون في الخارج، ويُجبر الطلاب على إعادة الصفوف أو الخضوع لاختبارات المعادلة.

ويضاف إلى ذلك أن الأثر النفسي للنزوح يعوق إعادة إدماج الطلاب العائدين، حيث عانى كثير من الأطفال والشباب تجارب صادمة مرتبطة بالرضات النفسية خلال فترة اللجوء، من ضمن ذلك التعرض للعنف والفقدان وعدم الاستقرار. وتترك هذه التجارب ندوبًا نفسية دائمة تؤثر في قدرتهم على التكيف مع البيئة التعليمية الجديدة. ويفاقم عدم وجود برامج دعم نفسي واجتماعي في سورية هذه الصعوبات، ما يؤدي إلى تدنّي الثقة بالنفس وضعف الدافع والشعور بالإحباط لدى العائدين.

يشكّل الاندماج الاجتماعي أيضًا تحدّيًا. فقد يواجه الطلاب العائدون التنمّر أو الإقصاء أو التمييز من أقرانهم أو حتى من المعلّمين بسبب الاختلافات في اللهجة أو المعايير الثقافية أو الاستعداد الأكاديمي. يمكن لمثل هذه التجارب أن تزيد من نفور العائدين، ما يضاعف من معاناتهم ويقلّل من فرص نجاحهم في إعادة الاندماج.

يمثّل اندماج الطلاب العائدين إلى المناطق التي تسيطر عليها ما يسمّى “قوات سوريا الديمقراطية”، في الشمال الشرقي، والمناطق المدعومة من تركيا في الشمال الغربي، تحديات فريدة من نوعها، بسبب المشهد التعليمي المجزأ والمناهج الدراسية المختلفة. ففي المناطق الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية، طبقت الإدارة مناهج دراسية متميزة، غالبًا ما يُنظر إليها على أنها خاضعة لتأثير سياسي وأيديولوجي، وتختلف بشكل كبير عن المناهج الوطنية السورية. وهذا يخلق حالة من الانفصال بالنسبة للطلاب العائدين، الذين قد يواجهون صعوبة في مواءمة تعليمهم السابق مع المناهج الجديدة أو يواجهون مقاومة إذا ما رغبوا في إعادة الاندماج في النظام الوطني لاحقًا. في الشمال الغربي، يتأثر نظام التعليم بشكل كبير بالمعايير التركية، حيث تعتمد المدارس مناهج دراسية تتضمن اللغة التركية. وتطرح هذه الاختلافات صعوبات أمام الطلاب العائدين، لا سيّما أولئك الذين درسُوا في البلدان المجاورة لسورية أو في سياقات دولية أخرى، حيث يجب عليهم التكيف مع المناهج الدراسية الجديدة، ومع المناهج التربوية واللغات المختلفة أيضًا.

دروس من نماذج التعليم العالمية في مرحلة ما بعد الصراع

واجهت كثير من البلدان تحديات في دمج اللاجئين العائدين ضمن أنظمتها التعليمية. يعرض هذا القسم الممارسات والتجارب الناجحة لثلاثة بلدان تعرّضت للصراع في دمج العائدين في نظامها التعليمي.

·      البوسنة والهرسك

شكّل إدماج الأطفال اللاجئين وطالبي اللجوء والمهاجرين في نظام التعليم في البوسنة والهرسك تحديًا معقدًا، ولكنه شكّل أيضًا فرصة حيوية للنمو في سياق ما بعد الحرب. فالبلاد التي كانت لا تزال تشتبك مع إرث الصراع الذي مزق المشهد التعليمي فيها، كانت مكلفة بتوفير التعليم والدعم للأطفال الذين جلبوا معهم تجاربهم الفريدة من الرضة النفسية (تراوما) والتهجير وتعطيل التعليم. تطلّب الاندماج الناجح الالتزام بالأطر الدولية لحقوق الإنسان، ووضع تصوّر أساسي للممارسات التعليمية لخلق بيئات شاملة وداعمة للجميع (Fischer, 2006).

كان لدى البوسنة والهرسك التزامات قانونية بضمان الحقّ في التعليم لجميع الأطفال، حتى اللاجئين وطالبي اللجوء والمهاجرين، وبضمان الحصول على التعليم من دون تمييز. ومع ذلك، واجه النظام القائم في البلاد عقبات كبيرة. فقد خلّفت تركة حرب البوسنة إطارًا تعليميًا لا مركزيًا ومنقسمًا إثنيًا، وكان أحيانًا مشحونًا أيديولوجيًا. وأدى هذا التشرذم إلى انعدام التنسيق، وعدم الاتساق في الممارسات، وأحيانًا إلى اعتماد مناهج قديمة وغير مناسبة. وقد ازدادت الحواجز المنهجية هذه صعوبةً، بسبب نقاط الضعف لدى الأطفال اللاجئين وطالبي اللجوء والمهاجرين، الذين غالبًا ما يتحمّلون، على غرار الأطفال السوريين العائدين، وطأةَ التجارب المؤلمة، والحواجز اللغوية، وتبعات الانقطاع عن التعلّم، والافتقار إلى شبكات الدعم الاجتماعي الراسخة، فضلًا عن التهديد بالتمييز المحتمل (MCAFH, 2020).

وللتغلّب على هذه التحديات، كان من الضروري اتباع مقاربة متعددة الجوانب. أولًا، تنفيذ الإطار القانوني بشكل كامل على جميع المستويات، ومعالجة القضايا المنهجية التي أعاقت الاندماج الحقيقي. ثانيًا، إصلاح المناهج الدراسية، مسترشدين بالمعايير الدولية والاستجابة للتنوع الثقافي، من ضمن ذلك حقوق الإنسان، وإدماج المحتوى الثقافي واللغوي المتنوع. وفي الوقت نفسه، تعزيز تدريب المعلمين، مع التركيز على بناء قدراتهم على العمل بفعالية على الأطفال اللاجئين وطالبي اللجوء والمهاجرين في المدارس الثانوية، من خلال توفير الرعاية الواعية بالرضات النفسية والدعم اللغوي وأساليب التدريس المتمايزة.

على مستوى المدرسة، كان من الضروري تهيئة بيئات آمنة ومُرحِّبة، تشمل إجراء تقييمات أولية شاملة، ووضع خطط تعليمية مصمّمة للوضع الجديد، وتيسير أنظمة دعم الأقران، وإشراك أولياء الأمور وأفراد المجتمع، وتنفيذ تدابير إضافية مثل ورشات اللغة، وفصول الاستدراك، والأنشطة في تقوية المنهاج. وكان هناك تركيز على توفير خدمات الصحة النفسية لمعالجة الرّضة النفسية التي تعرّض لها كثير من الأطفال اللاجئين وطالبي اللجوء والمهاجرين. ونُفِّذ ذلك بالتنسيق بين المدارس والخدمات الاجتماعية وخدمات الرعاية الصحية ذات الصلة. وإضافة إلى ذلك، لعب الوسطاء الثقافيون دورًا رئيسًا في سد الفجوات الثقافية (Lanahan, 2016).

وكان هناك تسليم واعتراف بضرورة معالجة اللغة، وهي عائق رئيسي أمام التعلم، من خلال فصول لغوية متخصصة، وضرورة دعم الأطفال في التواصل من خلال وسائل مختلفة. وإضافة إلى ذلك، كان تنفيذ التقييمات التكوينية/ التدريبية التي تدعم النمو الفردي للتلاميذ، والتركيز على مناهج التدريس الفردية أمرًا حاسمًا لنجاح الاندماج (فيشر، 2006). وكان لا بد من دمج هذه الأمور مع الإجراءات المجتمعية، حيث أدت مشاركة المجتمع المحلي إلى فهم أكبر لاحتياجات مجتمع اللاجئين وطالبي اللجوء والمهاجرين.

في نهاية المطاف، اعتمد الاندماج الناجح على تحويل النظام التعليمي من نظام مجزأ وحصري إلى نظام منسق وداعم وشامل. من خلال إعطاء الأولوية لمصالح الطفل المثلى، والتقيد بالالتزامات القانونية، وإصلاح البنية التحتية القائمة، وتمكين المعلمين، كان اندماج أطفال اللاجئين وطالبي اللجوء والمهاجرين في البوسنة والهرسك، في مرحلة ما بعد الحرب، فرصةً لإعادة بناء النظام، فضلًا عن خلق مجتمع أكثر عدلًا وإنصافًا وانسجامًا للجميع.

·      رواندا

كانت الجهود التي بذلتها رواندا لإعادة دمج الطلاب العائدين في النظام التعليمي انعكاسًا لاستراتيجيتها الأوسع نطاقًا لإعادة بناء التعليم، التي ظهرت في أعقاب الإبادة الجماعية عام 1994. وقد التزم البلد ببناء بيئة تعليمية شاملة ومنصفة، بهدف ضمان عدم إهمال أي طفل، بغض النظر عن خلفيته أو ظروف عودته. وركزت الممارسات الرئيسة في دمج الطلاب العائدين في النظام التعليمي على معالجة كلٍ من تحديات إعادة الاندماج وفرص الصمود والنموّ.

كانت إحدى أولى الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الرواندية بعد الإبادة الجماعية في عام 1994 هي إعادة فتح المدارس بسرعة، بدعم من الموارد الداخلية والشراكات الخارجية. وفي غضون شهرين من انتهاء الصراع، استأنفت المدارس الابتدائية عملها، ما يرمز إلى خطوة حاسمة نحو عودة الحياة الطبيعية والتعافي. ووفر هذا الإجراء السريع منصة لإعادة الاندماج (World Bank, 2005).

ومن بين الممارسات الإيجابية التي لوحظت سياسة الباب المفتوح التي اعتمدتها المدارس للترحيب بالعائدين. فقد أظهرت كثير من المدارس نهجًا استباقيًا، من خلال ضمان عدم التمييز ضد الطلاب العائدين بسبب تاريخهم أو حقيقة أنهم تلقّوا تعليمهم في بلدان مختلفة أو في مخيمات اللاجئين. كان هذا النهج الشامل أمرًا بالغ الأهمية، لأنه سمح للعائدين بالشعور بأنهم في وطنهم ومعترف بهم في بيئتهم الجديدة. غالبًا ما كان الطلاب الذين عادوا يصرّحون بأنهم شعروا بالارتياح عند عودتهم إلى نظام يمكنهم فيه التحدث بلغتهم والاندماج من دون تحيز، على عكس تجاربهم في المدارس الأجنبية، حيث كانوا يعاملون أحيانًا على أنهم “الآخر” (Dickson, 2023; Obura, 2003).

لتلبية الاحتياجات الخاصة للطلاب العائدين، استُحدِثت برامج استدراكية ومسارات تعليمية بديلة. على سبيل المثال، وفرت مدارس “اللحاق بالركب/ الاستدراك” فرص التعلّم السريع للأطفال الذين فاتتهم أعوام من التعليم بسبب النزوح أو الصراع. وتم تصميم برامج التعلم السريع على شكل دورات دراسية مضغوطة مدتها (3) أعوام، تغطي (6) أعوام من التعليم الابتدائي، ما يساعد الطلاب العائدين الأكبر سنًا على اللحاق بالركب. ونفذت المدارس نهجًا ثنائي اللغة لاستيعاب الطلاب العائدين من مختلف البلدان الناطقة بالإنجليزية والفرنكوفونية. وقد اعترفت هذه البرامج بالخلفيات التعليمية المتنوعة للطلاب العائدين، الذين التحق كثير منهم بالمدارس في المنفى، وهدفت إلى سد الفجوات في تعلمهم (Obura, 2003).

إضافة إلى ذلك، أكدت المؤسسات التعليمية في رواندا أهمية الدعم المجتمعي ودعم الأقران. واستفاد كثير من العائدين من الطبيعة الترحيبية لكل من المعلمين وزملائهم الطلاب. ونجحت المدارس التي عززت العلاقات الإيجابية بين المعلّمين والطلاب، وأظهرت اللطف في خلق بيئة مواتية لإعادة إدماج العائدين بسلاسة. وانسجمت هذه الممارسة مع جهود رواندا الأوسع نطاقًا لتعزيز الوحدة الوطنية والمصالحة الوطنية، وهي ضرورية لتضميد الجراح وإعادة بناء البلد (Obura, 2003; World Bank, 2005).

ولوحظ أيضًا أن سياسة اختيار مستوى الفصل الدراسي للأطفال العائدين بالتعاون مع أسرهم كانت ناجحة. وقد كفل ذلك وضع الأطفال في صفّ دراسي مناسب لخلفيتهم الأكاديمية، ما يحول دون الشعور بالإحباط أو الاغتراب بسبب عدم تطابق الخبرات التعليمية. أقرّت هذه الاستراتيجية بالخصوصية الفردية لكل طالب، لا سيما أولئك الذين ربما عانوا اضطرابات في تعليمهم، بسبب طول المدة التي قضوها في المنفى.

وإضافة إلى ذلك، انعكس تركيز رواندا على توفير التعليم للجميع، ومنهم العائدون، من خلال الجهود التي بذلتها الدولة لتخفيض تكاليف المدارس وتقديم المساعدة المالية لأكثر الفئات احتياجًا. وكان ذلك مهمًا بشكل خاص لأسر العائدين الذين ربما كانوا يعانون اقتصاديًا. ولعبت السلطات المحلية دورًا حاسمًا في ضمان عدم استبعاد الأطفال الأكثر ضعفًا من نظام التعليم (Obura, 2003).

تقدّم المقاربة التي تتبعها رواندا، في دمج الطلاب العائدين في نظامها التعليمي، دروسًا قيّمة للدول الأخرى في مرحلة ما بعد الصراع. ويساعد الجمع بين المنهاج الشامل والمشاركة المجتمعية القوية، والالتزام بالحد من العوائق التي تحول دون التعليم، في ضمان إتاحة الفرصة للعائدين، كحال جميع الأطفال، للازدهار والمساهمة في جهود إعادة بناء البلاد (Dickson, 2023).

·      أفغانستان

واجهت أفغانستان تحديات كبيرة في دمج الطلاب العائدين في نظامها التعليمي، بسبب ظروفها الاجتماعية والاقتصادية والأمنية المعقدة. ومع ذلك، يمكن تسليط الضوء على كثير من الممارسات الإيجابية من الاستراتيجيات والبرامج الأخيرة التي تهدف إلى معالجة هذه التحديات.

فقد أكدت الخطة الاستراتيجية الوطنية للتعليم في أفغانستان (2017-2021) أهمية الوصول العادل إلى التعليم، مع الاعتراف بالعدد الكبير من الطلاب العائدين كمجموعة ذات أولوية. وحددت الخطة الحاجة إلى تكييف الخدمات التعليمية لتلبية الاحتياجات المتنوعة لجميع الطلاب، ومنهم العائدون، من خلال توسيع نطاق الوصول إلى التعليم الأساسي وضمان توفير الموارد اللازمة (Lan and Yang, 2022).

كان أحد الأساليب الفعالة هو سياسة التعليم المجتمعي التي تهدف إلى تقريب التعليم من المجتمعات المحلية، لا سيما في المناطق الريفية والمناطق المتأثرة بالصراع. وقد ساعدت هذه المقاربة في الحد من العوائق، مثل مسافات السفر الطويلة للوصول إلى المدارس، التي كانت مشكلة شائعة بالنسبة للطلاب العائدين. أظهر برنامج التعليم المجتمعي التعليمي المجتمعي نتائج واعدة في زيادة الالتحاق بالمدارس بين الفئات المهمشة، من ضمن ذلك العائدون والنازحون داخليًا (ECW, 2022).

ومن المبادرات الإيجابية الأخرى، البرنامج الكبير (التعليم لا يمكن أن ينتظر) الذي يستمر أعوامًا عدة، وقد استهدفت هذه المبادرة الفئات السكانية الضعيفة من النازحين والعائدين، بهدف خلق بيئة تعليمية شاملة وضمان استمرارية التعليم. وقد عالجت هذه المبادرة الاحتياجات الخاصة للطلاب العائدين، من خلال توفير برامج تعليمية سريعة ساعدت الطلاب في استدراك ما فاتهم من تعليم. وأكدت هذه البرامج أيضًا أهمية الدعم النفسي والاجتماعي، وهو أمرٌ بالغ الأهمية للطلاب الذين عانوا النزوح (ECW, (2022.

وكان التركيز على سياسات التعليم الشامل، مثل تطوير المدارس الصديقة للطفل والجهود المبذولة لزيادة عدد المعلمات، خطوة مهمّة إلى الأمام، إذ ساعدت هذه التدابير في خلق بيئة أكثر أمانًا وترحيبًا لجميع الطلاب، الذين غالبًا ما واجهوا عوائق إضافية في التعليم (UNESCO, 2021; ECW, 2022).

وقد أكدت مشاركة المنظمات الدولية (المنظمات الدولية غير الحكومية)، مثل (يونسكو)، في دعم التزام أفغانستان بخطة التعليم 2030، أهمية الشراكات العالمية في تحسين نتائج التعليم. من خلال الاستفادة من الدعم والخبرة الدولية، تمكنت أفغانستان من تنفيذ استراتيجيات شاملة لدمج الطلاب العائدين في نظامها التعليمي بفعالية (UNESCO, 2021).

كانت جهود أفغانستان لدمج الطلاب العائدين في نظامها التعليمي مدعومةً بسياسات هادفة ومقاربات مجتمعية وتعاون دولي. ويمكن لهذه الممارسات الإيجابية، في حال استمرارها وتوسيع نطاقها، أن تحسّن كثيرًا من فرص حصول الطلبة العائدين في أفغانستان على التعليم ونتائجه.

وتجدر الإشارة إلى أن هذا العرض يركّز على الممارسات الإيجابية في دمج الطلاب العائدين في أنظمة التعليم، وعلى الدروس المفيدة مع تجنّب تحليل الأمثلة السلبية. فعلى سبيل المثال، يشكل الحظر المستمر الذي تفرضه سلطات الأمر الواقع في أفغانستان على تعليم الفتيات تناقضًا صارخًا مع الممارسات الإيجابية المحددَة، ويسلط الضوء على أهمية هياكل الحوكمة الداعمة للاندماج الناجح.

وتوضّح دراسات الحالة المذكورة أعلاه أهميّة المقاربات الخاصة والشاملة والقائمة على المجتمع المحلي لدمج الطلاب العائدين في نظم التعليم. وعلى الرغم من أن الاستراتيجيات كانت فعالة في معالجة التحديات المشتركة، فإن نجاحها غالبًا ما اعتمد على الاحتياجات الخاصة بسياق كل بلد. على سبيل المثال، كان اعتماد البوسنة والهرسك على الوسطاء الثقافيين والإصلاحات القانونية ضروريًا في سياق الانقسام الإثني، في حين إن تركيز رواندا على المصالحة الوطنية والمساعدة المالية عَكسَ الأهداف المجتمعية الأوسع نطاقًا للتعافي في مرحلة ما بعد الإبادة الجماعية. وأظهر نجاح أفغانستان في مجال التعليم المجتمعي أن الحلول المحلية يمكن أن تتغلب على العوائق الممنهجة والجغرافية.

يسلط هذا العرض الضوء على قابلية هذه الاستراتيجيات للتكيف وملاءمتها، ويقدم دروسًا قيمة لبلدان أخرى مثل سورية، حيث يواجه الطلاب العائدون تحديات مماثلة. ومن خلال التركيز على الممارسات الإيجابية المحددَة، يقدّم هذا التحليل خارطة طريق لجهود الدمج التعليمي الفعالة والمستدامة.

استراتيجية دمج الطلبة السوريين العائدين في النظام التعليمي

يتطلب اندماج الطلاب السوريين العائدين في النظام التعليمي إجراء مقاربة متعددة الأوجه، تعالج التحديات الفريدة الناشئة عن أعوام الصراع والنزوح والتجارب التعليمية المختلفة. وفي ما يلي الخطوط العريضة لاستراتيجية شاملة تتماشى مع أفضل الممارسات العالمية في سياق المشهد التعليمي الحالي في سورية.

    إعادة بناء البنية التحتية التعليمية وتوسيع نطاقها

إن إعادة بناء البنية التحتية التعليمية أمرٌ بالغ الأهمية لاستيعاب تدفق الطلاب العائدين. وينبغي إجراء تقييمات شاملة أولًا لإعطاء الأولوية لإعادة بناء المرافق التعليمية المتضررة أو المدمرة، وضمان توفير بيئات تعليمية آمنة ومناسبة. ويجب أن تعطي الجهودُ الأولوية لإعادة تأهيل المدارس، لا سيما في المناطق التي تضم أعدادًا كبيرة من العائلات العائدة. ولا يقتصر ذلك على إعادة بناء المدارس فحسب، بل يشمل أيضًا ضمان تجهيزها بالمرافق المناسبة، مثل الكهرباء والمياه والصرف الصحي. يمكن نشر حلول مؤقتة، مثل المدارس المتنقلة أو المباني الجاهزة، لتلبية الاحتياجات العاجلة، ويجب أن تشمل هذه المرافق مرافق المياه والصرف الصحي والنظافة الصحية والمرافق الصحية التي يمكن الوصول إليها لذوي الإعاقة لضمان الشمولية والسلامة.

    جسر الفجوات في المناهج الدراسية والدعم اللغوي

لمعالجة هذا الأمر، يجب على النظام التعليمي السوري إنشاء برامج تجسّر الفجوات، تتماشى مع المنهاج الوطني السوري، مع الأخذ في الحسبان التجارب التعليمية المتنوعة للعودة. يمكن تصميم برامج تعليمية لمساعدة الطلاب العائدين في الانتقال السلس إلى المنهاج السوري، مع الأخذ في الحسبان الفروقات في المناهج التي درسها الطلاب خلال فترة لجوئهم. يجب أن تركز هذه البرامج على المواد الأساسية، مثل اللغة العربية والرياضيات والعلوم، مع تقديم دعم إضافي في اكتساب اللغة العربية للطلاب الذين تلقوا تعليمهم باللغات الأجنبية. مستوحاة من برامج مثل برنامج التعلم الذاتي لـ (يونسكو) في مناطق الصراع، يجب أن تشمل هذه المبادرات أساليب التعلّم الرقمي والمختلط للوصول إلى الطلاب في المناطق النائية.

     تقديم الدعم النفسي والاجتماعي والعاطفي

لا بد أن تكون المدارس، فضلًا عن أنها مراكز للتعلم، مساحات آمنة تعزز الصحة العقلية. وينبغي للمعلمين وموظفي المدارس أن يتلقوا تدريبًا في التعليم الذي يراعي الرّضات النفسية لخلق بيئات داعمة. وينبغي دمج خدمات الاستشارة في المدارس، مع إقامة شراكات مع منظمات الصحة العقلية لضمان الرعاية المهنية. وإضافة إلى ذلك، يمكن استخدام أنشطة خارج المنهاج، مثل الفن والرياضة، لمساعدة الأطفال في التعبير عن أنفسهم وبناء الثقة. وكان هذا النهج فعالًا في بيئات أخرى بعد الصراع، مثل رواندا والبوسنة، حيث إن دمج الدعم النفسي والاجتماعي داخل المدارس، بغية معالجة الصدمات النفسية، وتعزيز رفاهية الطلاب، وخلق بيئة داعمة مواتية للتعلم، يسهم في تسريع دمج الطلاب العائدين إلى سورية في النظام التعليمي.

    الحد من الحواجز الاقتصادية أمام التعليم

لتخفيف هذه الحواجز، يتعين على الحكومة السورية وشركائها تنفيذ برامج التحويلات النقدية المشروطة التي تحفز الحضور إلى المدارس. ومن الممكن أن تعالج برامج، مثل مبادرات التغذية المدرسية، الاحتياجات الغذائية والوصول إلى التعليم، كما يتبين من جهود برنامج الغذاء العالمي في مناطق الأزمات. وينبغي أيضًا توفير المنح الدراسية وإعانات النقل للأسر المحتاجة. ولا تزيد هذه التدابير معدلات الالتحاق بالمدارس فحسب، بل تحدُّ أيضًا من معدّلات التسرب.

    تعزيز توظيف المعلمين وتدريبهم

يجب أن تستهدف جهود التوظيف العائدين الذين لديهم خبرة في التدريس، وتقديم الفرص لهم للعودة إلى المهنة، من خلال برامج وشهادات تدريب عاجلة. يجب أن تركز برامج التطوير المهني على تزويد المعلمين بالمهارات اللازمة لتلبية الاحتياجات المتنوعة للطلاب، من ضمن ذلك ذوي الإعاقة والرّضات النفسية. وإضافة إلى ذلك، يمكن لتدريب المعلمين على حلّ الصراعات والممارسات الشاملة أن يساعدهم في التعامل بحساسية مع الفصول الدراسية ذات الخلفيات الطائفية المتنوعة. يجب إعطاء اهتمام خاص لإنشاء هيئة تدريس متوازنة جندريًا، لا سيما في المناطق الريفية، حيث يمكن للمعلّمات أن يلعبن دورًا حاسمًا في زيادة تسجيل الفتيات. يقدّم برنامج (لا يمكن للتعليم أن ينتظر ECW) في أفغانستان نموذجًا، حيث تم تدريب أعضاء المجتمع المحلي كمعلمين، لضمان الملاءمة الثقافية والاستدامة.

     تبسيط العمليات الإدارية

ينبغي لوزارة التربية والتعليم السورية تبسيط إجراءات التسجيل، من خلال التخلي عن متطلبات التوثيق الصارمة التي تسمح بالقبول المؤقت، وربما يكون ذلك باعتماد آليات تقييم بديلة، لتحديد المستوى التعليمي المناسب لهم. إن إنشاء نظام معلومات إدارة التعليم القوي يمكن أن يُسهّل تتبع الطلاب العائدين ودمجهم، مع ضمان عدم تخلف أي طفل عن الركب. يمكن للشراكات مع المنظمات غير الحكومية الدولية و(يونيسيف) و(يونسكو) أن تدعم تطوير هذه الأنظمة وتنفيذها (Al-Samarai, 2021).

    معالجة قضايا النوع الاجتماعي (الجندرة)

تتطلب معالجة قضايا النوع الاجتماعي (الجندرة) في إعادة دمج الطلاب السوريين العائدين جهودًا موجهَة للتغلب على التحديات الفريدة التي تواجهها الفتيات في الوصول إلى التعليم. ذلك بأن المعايير التقليدية الجندرية، والمخاوف المتعلقة بالسلامة، والآثار المترتبة على الصراع، أدت إلى تقليص الفرص التعليمية للفتيات، ما يجعل من الضروري تنفيذ سياسات تراعي الجندرة. إن وجود المعلّمات يمكن أن يشجع الفتيات على الالتحاق بالمدرسة. وإنّ خلق بيئات تعليمية آمنةٍ يسهل الوصول إليها، من خلال توفير مرافق منفصلة حسب الجندر ووسائل نقل آمنة ومدارس تقع بالقرب من المناطق المحرومة من الخدمات، يمكن أن يساعد في تخفيف الحواجز التي تؤثر في استجابة الطالبات.

إن تحدي المعايير الثقافية ومعالجة بعض القضايا الاجتماعية مثل الزواج المبكّر أمران مهمّان بالقدر نفسه لضمان مشاركة الفتيات المستدامة في التعليم. وينبغي أن تركز حملات التوعية على تعزيز الفوائد الاجتماعية والاقتصادية لتعليم الفتيات للأسر والمجتمعات. ومن خلال دمج الإرشاد والتوجيه للطالبات، وخاصة العائدات من بيئات تعليمية مضطربة، يمكن للمدارس أن تعزز بيئة داعمة للفتيات، وتمكنهن من النجاح أكاديميًا ومن المساهمة في التعافي والتنمية الأوسع في سورية.

    معالجة الطائفية

إن معالجة هذه القضية أمرٌ بالغ الأهمية لتعزيز التماسك الاجتماعي والوحدة الوطنية. يمكن للانقسامات الطائفية، التي تفاقمت بسبب أعوام الحرب، أن تشكل تحديات كبيرة في خلق بيئات تعليمية شاملة للطلاب العائدين. إن تعزيز المناهج الدراسية التي تحتفي بالتراث الثقافي والديني المتنوع في سورية أمرٌ ضروري لمواجهة التحيزات وتشجيع الاحترام المتبادل بين الطلاب. يمكن للمدارس أن تعمل كمساحات للمصالحة، من خلال تسهيل التعاون بين المجموعات عبر المشاريع القائمة على الجماعة والأنشطة خارج المنهاج، وتعزيز الثقة والتفاهم بين الطلاب من المجتمعات الطائفية المختلفة.

    تعزيز المشاركة المجتمعية

إن دعم المجتمع أمرٌ ضروري لإعادة دمج الطلاب العائدين بنجاح. ومن الممكن أن يؤدي إشراك القادة المحليين والشخصيات الدينية وجمعيات الآباء والمعلمين إلى بناء الثقة وتشجيع الأسر على إعطاء الأولوية للتعليم. وينبغي لحملات التوعية العامة أن تؤكد على قيمة التعليم، وأن تعالج الوصمات المرتبطة بالنزوح. ومن الممكن أن تعمل البرامج التعاونية التي تشمل المنظمات غير الحكومية المحلية والدولية على تعزيز مشاركة المجتمع المحلي وإنشاء شبكات دعم للأسر العائدة. وتسلط الدروس المستفادة من نماذج أخرى الضوء على أهمية المشاركة الشعبية في التغلب على الحواجز الثقافية واللوجستية التي تحول دون حصول الأطفال على التعليم.

إن المشاركة المجتمعية أمرٌ حيوي في مكافحة التحيز الطائفي وتعزيز القيم الشاملة. إن إشراك الآباء وقادة المجتمع في المبادرات المدرسية من شأنه أن يعزز التسامح والتفاهم خارج الفصول الدراسية. وتسلط الأمثلة الناجحة، مثل استخدام الوسطاء الثقافيين في البوسنة والهرسك، الضوء على أهمية سد الفجوات وضمان الوصول العادل إلى التعليم لجميع الفئات. ومن خلال تبنّي مقاربات مماثلة، يمكن لنظام التعليم في سورية أن يلعب دورًا محوريًا في معالجة الانقسامات المجتمعية، وبناء الثقة، والمساهمة في الاستقرار ووحدة البلد على المدى البعيد.

    التباينات في المناهج الدراسية والنظام التعليمي

يكمن الحلّ الأمثل للأنظمة التعليمية المجزأة في سورية في التوصل إلى تسوية سياسية تعيد دمج المناطق لسيطرة الحكومة المركزية في دمشق، ولأن هذا الأمر غيرُ ممكن حاليًا، بسبب اقتراب امتحانات نهاية العام، فلا بدّ من اتخاذ خطوات فورية لمعالجة التباينات في المناهج الدراسية. ومن الممكن أن يؤدي الحوار بين أصحاب المصلحة -من ضمن ذلك وزارة التربية والتعليم والسلطات التعليمية المحلية والمنظمات غير الحكومية الدولية والجهات المانحة- إلى إرساء معايير أساسية للمواد الأساسية، مثل الرياضيات والعلوم والقراءة والكتابة، ما يخلق الانسجام بين المناطق. ولا بدّ من تنفيذ برامج جسر الفجوات ومراكز التعليم الانتقالي لمساعدة الطلاب على التكيف، مع التركيز على اكتساب اللغة والكفاءات الأساسية بما يتماشى مع المناهج الوطنية السورية.

كما يمكن للمنصّات الرقمية والتعلّم المدمج أن تلعب دورًا حاسمًا في توفير مواد موحدة مصممة خصيصًا لتلبية الاحتياجات اللغوية والثقافية المتنوعة مع ضمان التوافق مع الأهداف التعليمية الوطنية. ويشكل الإطار التعاوني ضرورة أساسية، حيث تعمل فرق العمل المشتركة على تيسير التنسيق بين الجهات الفاعلة الرئيسة لتوحيد التقييمات والشهادات، وضمان الاعتراف بالإنجازات الأكاديمية للطلاب في مختلف المناطق. وتقدّم هذه التدابير حلولًا عملية قصيرة الأجل لدعم الطلاب العائدين ومعالجة الفوارق التعليمية في غياب إطار وطني موحد.

    المراقبة والتقييم

إن وجود إطار شامل للمراقبة والتقييم أمر ضروري لقياس نجاح جهود الإدماج. وينبغي لمؤشرات الأداء الرئيسة أن تتعقب معدلات الالتحاق والحضور والأداء الأكاديمي للطلاب العائدين. ولا بد من إنشاء قنوات لتلقي ردود الفعل من الطلاب وأولياء الأمور والمعلمين والمجتمعات المحلية، لضمان استمرار نظام التعليم في الاستجابة لاحتياجاتهم. وسوف تسمح التقييمات الدورية بإجراء تعديلات تستند إلى البيانات على البرامج والسياسات، ما يضمن استمرار فعاليتها وارتباطها بالواقع.

تقدّم هذه الاستراتيجية الشاملة خارطة طريق لضمان حصول الأطفال والشباب العائدين على تعليم شامل عالي الجودة. ومع ذلك، يتطلب تحقيق هذه الأهداف جهودًا متضافرة تمتد إلى ما هو أبعد من الحدود الوطنية، مع تأكيد الدور الحاسم للمجتمع الدولي والتعاون بين وزارة التربية والتعليم السورية والمنظمات غير الحكومية الدولية.

يلعب المجتمع الدولي دورًا حيويًا في توفير الموارد المالية والخبرة الفنية ودعم بناء القدرات اللازمة لتنفيذ هذه المبادرات واستدامتها. ويمكن للمنظمات غير الحكومية الدولية أن تُسهم جيدًا من خلال تمويل إعادة تأهيل البنية الأساسية ودعم تدريب المعلمين وتوفير الموارد لبرامج الربط. ولن تسرّع مشاركتها تنفيذ الحلول فحسب، بل ستضمن أيضًا التوافق مع أفضل الممارسات العالمية في التعليم والتعافي في مرحلة ما بعد الصراع.

يشكل التعاون بين وزارة التربية والتعليم السورية والمنظمات غير الحكومية الدولية أهمية بالغة لإنجاح هذه الاستراتيجية. فالمنظمات غير الحكومية الدولية تقدّم خبرات قيّمة من تجربتها في سورية وغيرها من البيئات التي شهدت صراعات، وتقدم نماذج مثبتة للتغلب على الحواجز التي تحول دون التعليم. ومن خلال العمل في شراكة، تستطيع الوزارة والمنظمات غير الحكومية الدولية تصميم وتنفيذ برامج مبتكرة مصممة خصيصًا لتلائم السياق الفريد لسورية، مثل مبادرات التعليم المجتمعية، وممارسات التدريس التي تراعي الرّضات النفسية، ومنصات التعلّم القائمة على التكنولوجيا. وينبغي أن يمتد هذا التعاون إلى جهود المراقبة والتقييم، لضمان استجابة البرامج للاحتياجات المتطورة للطلاب والمجتمعات.

الخاتمة

يُعدّ دمج الطلاب السوريين العائدين في النظام التعليمي عنصرًا محوريًا في رحلة سورية الأوسع، لإعادة الإعمار والتعافي بعد سقوط نظام بشار الأسد. وبينما يبعث احتمال العودة إلى سورية ما بعد الصراع الأملَ بين اللاجئين، فإن التحديات التي تواجه الأسر العائدة، ولا سيما في مجال التعليم، واسعة النطاق ومتعددة الأوجه. وإن معالجة هذه العقبات أمرٌ ضروري لتعزيز الاستقرار وإعادة بناء المجتمعات وضمان مستقبل مليء بالفرص للجيل الأصغر سنًا في البلاد.

يتجاوز دور التعليم حدود الفصول الدراسية. فهو حجر الزاوية في بناء السلام والمصالحة الوطنية والتنمية المستدامة. ومن خلال الاستثمار في نظام تعليمي شامل ومرن، لا تعالج سورية الاحتياجات الفورية للأسر العائدة فحسب، بل تضع أيضًا الأساس للتعافي المجتمعي على المدى الطويل. وبفضل التعليم، يمكن للطلاب العائدين أن يصبحوا مشاركين نشطين في إعادة بناء بلدهم، وتعزيز الوحدة، والمساهمة في الانتعاش الاقتصادي والاجتماعي لسورية.

وعلى الرغم من أن التحديات كبيرة، فإنها ليست عصيّة على الحلّ. ومن الممكن أن يضمن الجهد المنسّق الذي تشارك فيه الحكومة السورية والشركاء الدوليون والمنظمات غير الحكومية الدولية والمجتمعات المحلية بأن يصبح التعليم منارة أمل وأساسًا لمستقبل سورية. وبالنسبة إلى ملايين النازحين السوريين الذين يحلمون بالعودة إلى ديارهم، فإن نظام التعليم القوي والشامل لا يوفر لهم الوعد بالفرصة فحسب، بل ضمان الانتماء وإعادة البناء أيضًا.

المراجع

1- Al-Samarai E. 2021. Strengthening Education Management Information Systems (EMIS) and Data for Increased Resilience to Crisis, Country Case Study: Syria. UNESCO.

2- Dickson B. A. 2023. Reconstruction and Resilience in Rwandan Education Programming: A News Media Review. Journal of Peacebuilding and Development, 18(2), 177-194.

3- ECW (Education Cannot Wait) Multi-Year Programme. 2022. Delivery Collective Education Outcomes in Afghanistan.

4- Fischer A. 2006. Integration or Segregation? Reforming the Education Sector. In: Martina Fischer (ed.) Peacebuilding and Civil Society in Bosnia-Herzegovina. Ten Years after Dayton. Münster: Lit-Verlag, 297-324.

5- Lan J. and Yang X. 2022. A Review of Afghanistan’s National Education Strategic Plan (2017-2021). Pacific International Journal, 5(3), 10-17.

6- Lanahan B. 2016. Post-Conflict Education for Democracy and Reform: Bosnian Education in the Post-War Era, 1995–2015. Palgrave Macmillan, London.

7- MCAFH (Ministry of Civil Affairs of Bosnia and Herzegovina) and UNICEF Bosnia and Herzegovina, 2020. Manual for the Inclusion of Refugee, Asylum Seeker and Migrant Children in the Education Process in Bosnia and Herzegovina.

8- Obura A. 2003. Never again: Educational Reconstruction in Rwanda. International Institute for Educational Planning, Working document.

9- UNESCO. 2021. The right to education: What’s at stake in Afghanistan? A 20-year review. Paris.

10- World Bank. 2005. Reshaping the Future:Education and Post conflict Reconstruction. The International

مركز حرمون

———————————–

اين ستذهب موارد النفط في “سوريا ما بعد الأسد”؟/ جورجيو كافيرو

من الصعب التنبؤ كيف سيتعامل ترمب مع شرق الفرات

24 يناير 2025

هناك عدد لا يحصى من العوامل غير المعروفة التي تجعل من الصعب التنبؤ بكيفية تطور الأوضاع في سوريا ما بعد بشار الأسد. ومع استمرار غياب السيطرة الكاملة للحكومة الجديدة على مساحات كبيرة من الأراضي السورية، يبقى السؤال مطروحا حول ما إذا كانت السلطات المركزية في دمشق ستتمكن في نهاية المطاف من بسط سيطرتها على كامل أراضي البلاد.ويتعلق أحد المتغيرات الرئيسة في هذه المعادلة باحتياطيات النفط والغاز في سوريا، وأي جهة ستسيطر في النهاية على هذه الموارد الحيوية، وبالتالي تستفيد من عوائدها الاقتصادية والسياسية.

وبالنظر إلى تعدد الجهات الخارجية ذات المصالح المتشابكة في سوريا ما بعد الأسد، يصبح من الضروري دراسة تأثير هذه المصالح المرتبطة بموارد النفط والغاز على التوازن الجيوسياسي الأوسع في المنطقة.

حتى اندلاع الأزمة السورية في عام 2011، كان قطاع النفط والغاز يشكل ركيزة أساسية لاقتصاد البلاد. ففي ذلك العام، كانت 63 في المئة من صادرات سوريا النفطية تتجه إلى ألمانيا وإيطاليا، بينما كانت بقية الصادرات تقريبا توزع بين فرنسا وهولندا والنمسا وإسبانيا. وقد مثل النفط ربع الناتج المحلي الإجمالي لسوريا.ولكن، أدى اندلاع الصراع والعقوبات الغربية المفروضة على دمشق إلى منعها من تصدير مواردها الهيدروكربونية. نتيجة لذلك، أصبحت البلاد تعتمد بشكل كبير على النفط الإيراني، الذي أرسلته طهران لدعم سوريا، في تلبية احتياجاتها من الطاقة وسط الصراع. وخلال مراحل مختلفة من الأزمة السورية، تغيرت السيطرة على احتياطيات النفط والغاز بين عدة جهات.

فبين عامي 2014 و2017، استولى تنظيم “داعش” على معظم آبار النفط في سوريا. وعلى الرغم من انخفاض الإنتاج خلال تلك الفترة، جرى استهلاك جزء كبير من هذا النفط محليا، بينما جرى بيع ما قيمته من 2-3 ملايين دولار تقريبا يوميا عبر الأسواق السوداء لنظام الأسد وتركيا وحكومة إقليم كردستان العراق. ومنذ عام 2017، أصبحت معظم مناطق شمال شرقي سوريا تحت سيطرة تحالف من القوات الكردية والعربية بقيادة “وحدات حماية الشعب”المدعومة من الولايات المتحدة والتي تشكل العمود الفقري لـ”قوات سوريا الديمقراطية”.في الوقت الحالي، تسيطر “قسد” والولايات المتحدة على نحو 70 في المئة من حقول النفط والغاز في سوريا.

زودت “وحدات حماية الشعب” نظام الأسد بالنفط خلال الأزمة، لكنها امتنعت عن القيام بذلك مع السلطات الحالية في دمشق. وفي الوقت نفسه، توقفت إيران عن تصدير النفط إلى سوريا منذ سقوط الأسد.

ومع استمرار خضوع سوريا للعقوبات الغربية، تواجه البلاد نقصا حادا في موارد الطاقة، وهو ما يشكل تحديا كبيرا أمام تحقيق الاستقرار ويهدد بتقويض أي فرص لانتقال سياسي سلس نحو حقبة ما بعد حزب “البعث”.

يسعى الزعيم السوري الفعلي أحمد الشرع وحكومته إلى التوصل لترتيب يتيح دمج وحدات حماية الشعب في الدولة السورية. كما تعارض الحكومة الجديدة في دمشق بشدة أي خطط تتضمن انفصال جيب كردي رسميا عن سوريا أو حتى إنشاء كيان فيدرالي يتمتع بحكم ذاتي على غرار حكومة إقليم كردستان العراق.يعكس هذا الموقف التزام حكومة الشرع الراسخ بالحفاظ على سلامة أراضي سوريا، وهو موقف مدفوع بعدة عوامل، من أبرزها تصميم الحكومة على تأمين السيطرة الكاملة على موارد الهيدروكربون في البلاد.وفي ظل هذا التوجه، لن يقبل المتمردون الذين تحولوا إلى حكام لسوريا بوجود أي جماعات مسلحة، مثل “وحدات حماية الشعب”، تعمل خارج نطاق سيطرة دمشق. ويعني ذلك أن رفض “وحدات حماية الشعب” الانضمام إلى هذه الرؤية لدولة سورية موحدة سيؤدي إلى تصاعد التوترات والصراعات بين السلطات المركزية والمنظمة.

وستكون لأفعال ومصالح القوى الأجنبية المهتمة بعملية الانتقال السياسي في سوريا تأثيرات كبيرة على الصراع المتعلق بحقول النفط والغاز في البلاد.

الولايات المتحدة

هناك عدة عوامل تفسر سبب استمرار الولايات المتحدة في إبقاء قواتها على الأرض في شمال شرقي سوريا. رسميا، منذ عام 2014، بررت واشنطن وجودها هناك بمبررات متعلقة بمكافحة الإرهاب، مؤكدة أن هذا الوجود يهدف إلى منع “داعش” من استعادة السيطرة على حقول النفط والغاز في سوريا.وفي الوقت نفسه، كان هناك مبرر آخر اعتمدته الولايات المتحدة، على الأقل حتى أواخر العام الماضي، وهو ضرورة إبقاء هذه الموارد الحيوية خارج سيطرة نظام الأسد.

اليوم، تشكل سيطرة الولايات المتحدة و”قوات سوريا الديمقراطية” على غالبية حقول النفط والغاز في سوريا ورقة ضغط استراتيجية يمكن لواشنطن استغلالها في المفاوضات مع حكومة أحمد الشرع.ومن المتوقع أن توظف الولايات المتحدة هذه الورقة بشكل فعال في سياق المحادثات السياسية بين “قسد” ودمشق.

تركيا

في غضون شهرين من الإطاحة بالأسد، تظهر جميع المؤشرات أن تركيا هي “الرابح الأكبر”، حيث وجدت أنقرة نفسها في أفضل موقع للاستفادة من سقوط النظام أواخر العام الماضي. وترى القيادة التركية في هذا التحول فرصة ثمينة للقضاء على “وحدات حماية الشعب”، أو على الأقل إضعافها بشكل كبير، إذ تعتبر أنقرة هذه الوحدات مجرد فرع سوري لـ”حزب العمال الكردستاني”، وبالتالي تعتبرها تهديدا وجوديا للدولة التركية.

بينما تكثف تركيا تدخلها العسكري المباشر ضد “وحدات حماية الشعب” وتدعم “الجيش الوطني السوري”، الذي يُنظر إليه غالبا على أنه “وكيل” لأنقرة في سوريا، تسعى تركيا إلى تحقيق رؤيتها لدولة سورية موحدة وقوية تكون قريبة من أنقرة. من جهة أخرى، تتطلع الشركات التركية إلى الاستفادة من الفرص الاقتصادية الواعدة التي ستنشأ خلال مرحلة إعادة الإعمار في سوريا. وستصبح هذه الخطط أكثر واقعية إذا تمكنت حكومة دمشق من تأمين موارد مالية من حقول النفط والغاز السورية لدعم عمليات التنمية، إلى جانب رفع الغرب لعقوباته الخانقة.

تشكل هذه العوامل مجتمعة أساسا رئيسا لقدرة تركيا على تحقيق مكاسب طويلة الأمد من سقوط الأسد. ومن منظور التحالف الأميركي- التركي، من الصعب التقليل من أهمية القرارات التي ستتخذها إدارة ترمب الثانية بشأن قضايا حساسة، مثل التعامل مع “وحدات حماية الشعب”/”قوات سوريا الديمقراطية”، والوجود العسكري الأميركي في سوريا، وعقوبات “قانون قيصر”.

وستكون إدارة ترمب القادمة مسؤولة عن اتخاذ قرارات تجاه “سوريا الجديدة،” وهي قرارات من شأنها أن تؤثر بشكل كبير على المصالح الجيوسياسية والأمنية والاقتصادية لأنقرة في جارتها الجنوبية في ظل هذا الانتقال السياسي الحساس نحو حقبة ما بعد الأسد.

إسرائيل

مع استمرار الغموض الذي يكتنف المشهد في سوريا، تبدي إسرائيل قلقا متزايدا حيال تطورات ترى تل أبيب أنها تشكل تهديدا لأمنها القومي. في الوقت ذاته، تسعى إسرائيل إلى استغلال المرحلة الانتقالية في سوريا لتعزيز مكانتها الجيوسياسية، خاصة بعد الضربات التي تعرض لها “محور المقاومة” بقيادة إيران مؤخرا.

ورغم أن الحكومة الجديدة في دمشق لم تظهر حتى الآن أي عداء مباشر تجاه إسرائيل، فإن المسؤولين الإسرائيليين يشعرون بعدم اليقين حيال مستقبل العلاقات مع سوريا ما بعد الأسد. ففي السادس من يناير/كانون الثاني، أصدرت لجنة تقييم ميزانية المؤسسة الدفاعية وتوازن القوى تقريرا يحذر من أن سوريا المدعومة من تركيا في مرحلة ما بعد الأسد قد تشكل تهديدا أكبر على الأمن الإسرائيلي مقارنة بسوريا تحت حكم الأسد.

وأشار التقرير إلى أن “إسرائيل قد تواجه تهديدا جديدا ينشأ في سوريا، والذي قد يكون في بعض الجوانب لا يقل خطورة عن التهديد السابق. وقد يتمثل هذا التهديد في قوة سنية متطرفة ترفض الاعتراف بوجود إسرائيل ذاته”. وأضافت اللجنة أن المتمردين السنة، الذين سيحظون بالسلطة السياسية نتيجة سيطرتهم على سوريا، قد يشكلون تهديدا يفوق تهديد إيران، الذي تمكنت إسرائيل من الحد منه بفضل عملياتها المستمرة والقيود المفروضة على إيران من قبل الحكومة السورية السيادية.

كما حذر التقرير من أن هذا التهديد المحتمل قد يتفاقم إذا أصبحت الجماعات الإسلامية المتمردة التي وصلت إلى السلطة في سوريا “وكلاء” لأنقرة، لافتا النظر إلى “طموحات تركيا لإحياء أمجاد الإمبراطورية العثمانية”.

في هذا السياق، تسعى إسرائيل إلى بقاء سوريا ضعيفة ومنقسمة، وهو ما يفسر اهتمام تل أبيب بمنع سيطرة دمشق على حقول النفط والغاز في شمال شرقي البلاد. كما ترى إسرائيل في وجود وحدات حماية الشعبالقوية حاجزا استراتيجيا أمام النفوذ التركي المتزايد عبر سوريا، مما يعزز موقفها تجاه المخاوف من تهديد تركي مزعوم.

بعد فترة قصيرة من الإطاحة بالأسد، حذر زعيم المعارضة الإسرائيلي، يائير غولان، من احتمال “هجوم تركي ضد الأكراد في سوريا”. وصرح قائلا: “يجب على إسرائيل أن تأخذ زمام المبادرة وأن تستغل القنوات العلنية والسرية لدعم الأكراد”. وأوضح غولان أن “وجود إقليم كردي قوي يعزز أمن إسرائيل”.

وفي حال انسحاب القوات العسكرية الأميركية من شمال سوريا دون أن تتمكن “وحدات حماية الشعب” من التوصل إلى اتفاق شامل مع دمشق، ستصبح هذه الوحدات أكثر عرضة لتدخل عسكري تركي وهجمات الجيش الوطني السوري. وفي ظل هذه الظروف، يبرز تساؤل حيوي حول إمكانية تدخل إسرائيل لدعم “وحدات حماية الشعب”.

وإذا قررت إسرائيل التدخل، فإن ذلك قد يؤدي إلى تصاعد مخاطر مواجهة عسكرية مباشرة بين إسرائيل وتركيا. هذا السيناريو من شأنه أن يخلق تعقيدات كبيرة للولايات المتحدة، التي تسعى إلى تجنب أي صدام بين حليفين رئيسين لها في سوريا.

الصورة الأكبر

في التحليل النهائي، فإن قدرة الدولة السورية على استعادة السيطرة الكاملة على حقول النفط والغاز ستشكل عاملا مهماً في تحقيق آمال سوريا بإعادة الإعمار. ومع سعي إسرائيل إلى إبقاء سوريا منقسمة وضعيفة وفقيرة، يُرجح أن تستغل تل أبيب نفوذها للضغط على الولايات المتحدة لدعم “وحدات حماية الشعب”وضمان بقاء الجزء الأكبر من ثروة سوريا الهيدروكربونية في يد هذه الوحدات. في المقابل، ترغب تركيا في رؤية سوريا قوية وموحدة، ولكن بشرط أن تكون متوافقة مع أنقرة.

ومع اقتراب ترمب من بدء ولايته الثانية، من المحتمل أن تسعى جماعات الضغط الإسرائيلية والتركية في واشنطن إلى إقناع البيت الأبيض بتنفيذ سياسات تجاه سوريا تخدم أجندتي تل أبيب وأنقرة على التوالي. ومع رئيس منتخب معروف بعدم القدرة على التنبؤ بتصرفاته وبتوجهاته القائمة على المعاملات، يبقى من غير الواضح كيف ستتعامل الإدارة المقبلة مع الأسئلة الحساسة المتعلقة بحقوق سوريا في حقول النفط والغاز.

المجلة

————————————

هل أنت علويّ ؟!: إذًا : اقرأ هذا المنشور !/ عبد اللطيف علي

أنا، عبد اللطيف علي، العلوي بالولادة، العلماني الذي لا تعني له المذاهب والطوائف والأديان في معرض التعامل مع الآخرين شيئًا، عمري 71 سنة، أحمل شهادة كلية الحقوق في جامعة حلب، متقاعد من وظيفة حكومية منذ أحد عشر عامًا، أسكن بصورة مستديمة في البيت الذي بناه المرحوم والدي منذ خمسٍ وستين سنةً، أكتبُ في الأدب والشعر والسياسة، ومن القلائل الذين أعلنوا بمنتهى الصراحة معارضتَهم للنظام السياسي البائد، أريد أن أخاطب العلويين السوريين الممتلئين بالشعور بكونهم علويين والذين يفكرون كعلويين ويتصرفون كعلويين ويتحركون ويتخذون المواقف ويبنون الآراء حيالَ الأشياء والقضايا والأشخاص والأحداث كعلويين.

صديقي العلوي ..

أنت في الغالب وُلِدتَ ونشأتَ وتلقّيتَ قَناعاتِك الأساسيةَ ومُسَلّماتِك ومُعتقَداتِك داخلَ بيئتِك الضيقة، والتي كانت مُشبعَةً بالولاء لنظامِ الطاغيتين، النظام الذي زرعَ في روعِ ووجدانِ أبناءِ الطائفة بأنّه يحميهم ويكفل لهم الحضورَ في الحكم والإدارة، وأنّ أيّ اهتزازٍ قد يتعرّضُ له سوف يرتدّ على عمومِ أبناءِ الطائفة بالويلات، فهم ”أقليةٌ ضعيفةٌ“ تعرّضت تاريخيًا للمظالم والتهميش بسبب عقيدتها المذهبية على يد غريمتها ”السنيّة“ التي تتربّص بها وتُضمر لها الشرّ.

لماذا أقول لك ذلك وأنا متأكدٌ منه ؟!

لأن ”مؤسس“ نظام الطغيان وعَرّابَه الأكبر كان قد وصلَ إلى سدّة الحكم منذ أربعةٍ وخمسين عامًا، وجميعُ من كانوا شهودًا على الأوضاع التي سبقته ممن بلغوا الرشد والوعي السياسي هم اليوم إما عجزة وإما أموات، ولِحُسنِ أو سوءِ حظّي فقد كنت أنا واحدًا منهم، ففي تشرين الثاني من عام 1970 المشؤوم كنت قد بلغت السابعة عشرة، ومنذ ذلك اليوم وأنا أقفُ على الضفة الأخرى من نهر التدمير الممنهج لكلّ كيان الدولة ومقوّمات وجودها ”تأسيسًا“ للمزرعة التي تحوّلت سوريا إليها على يديه، مزرعتِه ومزرعةِ عائلتِه التي استحقّ عليها بجدارة لقب ”المؤسس“ !

لقد كانت سوريا قبل ولاية ”القائد المؤسس“ تسير بخطًى وئيدةٍ لكن راسخةٍ على طريق الخلاص من داء الطائفية، أذكر ذلك بشيءٍ من التفصيل، فلقد كانت ثُلّةُ أصدقائي الأقرب هي عبارةٌ عن باقةٍ تجمعُ العلويين إلى السنّة إلى المسيحيين، وكان مستوى التواصل بيننا يصل الليالي بالنهارات، في المدرسة والشارع والبيوت دون أدنى تنغيصٍ من ذلك الداء اللعين، ولا أظنّ الباقين على قيد الحياة منهم ينسون تلك الخوالي الجميلة، ولعلّ من المفيد أن أعدد : وليد آغا، ومحمد ديب بيريص، وعمر غلاونجي، وياسر الشغري، وتوفيق صعيدي، وحسن هرموش، وعادل الصوص، وخالد مرقبي، وخالد العجيل، ونواف عكو، و … فكلّ واحدٍ منهم يصلح مثالًا على صفاء ونقاء وروعة تلك الصلات التي كانت تجمعنا ولا يتسرّب إليها أيّ تعكيرٍ أو تكدير ؛ ثمّ جاء القائد المؤسس لمملكة الرعب، فخطط لسوريا ودبّر ونفّذ أدهى وأخطر مسارٍ يمكن أن يخطر في بال، المسار الذي وجدنا أنفسَنا فيه (كسوريين) غارقين في بحرٍ من الكراهية والشقاق والدم، المسار الذي رأى فيه الضمان الأمثل لبقاء حكمِه مؤبّدًا يرثُه أبناؤه وأحفادُه من بعده، المسار الذي انتهى بسوريا إلى كيانٍ مُمزّقٍ يتناهبُه الطامعون، بلا اقتصادٍ ولا مالٍ ولا تعليمٍ ولا صحةٍ … ولا جيشٍ وطنيٍّ يحمي حدودَ البلاد وسماءها وماءها من العدوّ الخارجي الحقيقي، بل أصبح الجيشُ على يديه جيشَ الكرسيّ الذي فقدَ عقيدتَه القتالية وخسرَ مناقبيّته الأخلاقية واختلّت تراتبيّته النظامية وشاع فيه الفساد والانتفاع وشراء الرتب واستزلام واستعباد العساكر لخدمة بيوت ومزارع الضباط في سابقةٍ لم تعرفها جيوش العالم. وأما العصبُ الحقيقيّ الذي ينظم عمل جميع إدارات ووزارات ومؤسسات وجيش البلاد خدمةً لمشروع تأبيد سلطة العائلة فكان ”أجهزة الأمن“ التي نمت كالسرطان وتسللت إلى الدوائر والبيوت والمؤسسات والجامعات والمدارس … وحتى رياض الأطفال.

ما علاقة هذا كله بالعلويين ؟!

لقد ارتهنَ القائد المؤسس مجتمع العلويين لصالح مشروعه، فأغراهم بالانتساب إلى الجيش والأجهزة الأمنية حيث يقبضون الرواتب دونما تعبٍ في فلاحة وزراعة الأرض والعناية بالأشجار وتربية الماشية في قراهم، فتركوها شبه خالية لتتحول شيئاً فشيئاً إلى خرائب، وأسكنهم في ضواحي العاصمة ليشكّلوا حولها نطاقًا من الفقر والبؤس والبشاعة. وخلال جيلين أصبحَ أولادُهم يأنفون العودة إلى القرية، فهم من سكان العاصمة الشام، والقرية لا تليق بمستواهم.

حكى لي أحد أصدقائي بأنه تعيّن معلّمًا في مدرسة قرية ”المنيزلة“ في ستينيات القرن الماضي وكان عدد التلاميذ في مدرسة تلك القرية النائية التي لا طريق معبّدة إليها ولا كهرباء ولا ماء ولا هاتف، وتقع في أعلى نقطة مأهولة من الجبال الساحلية .. مئة تلميذ، وأما اليوم، فقد أُغلِقَت المدرسة من قبل مديرية التربية لعدم وجود تلاميذ !!! .. فأهل القرية تركوها ولم يبق فيها سوى بضعة عجائز 😪

لئن كان القائد المؤسس قد أساء إلى مكوّنات سوريا قليلًا أو كثيرًا، فإنّ إساءته إلى الطائفة العلوية كانت الأفدح والأفظع، فهم لم يستيقظوا من غفلتهم عما يحدث لهم إلا وقد أصبحوا ورقةً في يد النظام وأداتَه لتنفيذ جرائمه بحق البلاد والعباد، وعندما ثارت سوريا على ابنه الطاغية الصغير وجد العلويون أنفسَهم عاجزين عن الخروج من عباءة السلطة، فالحراك الشعبي الذي بدأ سلميًا (بشهادة العالم أجمع) ما لبث أن تحوّل بعد أشهر وبضغط السلطة والجيش إلى حراكٍ مسلّح، ونجحت خطة النظام الخبيثة في تصوير ما يجري على أنه ”حربٌ تشنها عصاباتٌ إرهابيةٌ طائفيةٌ مسلّحةٌ ضدّ الجيش النظامي الشرعي“ ؛ وكيف يتخلّى العلويون عن الجيش وهو أبناؤهم ؟! وكيف يقفون مع الحراك الشعبي وهو حراكٌ طائفيٌّ يستهدفُهم ؟!

نعم، لقد نجح النظام الخبيث في تشويه الحراك السلمي وتحويله إلى شيءٍ آخر مختلفٍ كليًا، ونجح بالتالي في شحن وتحشيد العلويين وراءه ووضعهم في مواجهة إخوتهم من أبناء وطنهم، الأمر الذي أطالَ عمرَه وأخّر سقوطَه الحتميّ والذي لن يحصل قبل أن يُتِمّ مهمّتَه في الإجهاز على سوريا وجيشها وسلاحها.

اليوم، وقد سقط النظام وأصبحت سوريا بسببه ولأول مرةٍ منذ استقلالها بلا جيشٍ وطنيّ، وبعد أن تكشّفت فظائعُه التي صدمت ضمير الإنسانية في كل بقاع الأرض، وبعد أن افتُضِحت شراهتُه في نهبِ ثروة البلاد ومالها العام، وبعد أن فَرّ رموزُه كالجرذان وتركوا العسكريين المخدوعين وأهاليهم المصدومين وراءهم وكأنهم يرمون بكيس نفاياتٍ في حاوية القمامة، ماذا سيكون موقفكم ؟!

ماذا سيكون موقفُك أخي وصديقي وابنَ بيئتي العلوي ؟!

قد أتفهّم مخاوفَك التي غرسَها النظام المجرم في وعيك ولاوعيك لبضعة أيام، وها قد انقضت بضعةُ أيامٍ فماذا تَرى ؟!

هل قامَ غريمُك السنّيّ بالتهامِك ؟!

هل هاجمَ قراك ؟!

هل اقتحمَ بيتَك ؟!

حتى ابنك العسكري الذي خلع بزّتَه ورمى سلاحَه، هل احتجزه عناصر الهيئة ؟!

اسمع يا صديقي

يدُ أخيك السنّيّ الممدودةُ إليك قد لا تبقى ممدودةً لفترةٍ طويلةٍ، وموقفُك السلبيُّ منها هو موقفٌ آخرُ خاطئٌ ومُعيب، فهلمَّ عاجلًا إلى ملاقاتِه في الساحات، واشبُك يدَك بيدِه وارقص معه احتفالًا بانقشاع الغيمة وزوال الطاغوت، فسوريا الحرة، سوريا المستقبل بحاجةٍ إلى يديكما أنتما الاثنين وإلى أيدي جميع السوريين لكي تتمكن من النهوض والخروج من الحفرة العميقة التي حاول النظام البائد أن يدفنها فيها إلى الأبد.

لا تقل لي أنّ هنالك ”تجاوزات“ تجعلك مترددًا، فحضرتك قد عاينت آلافَ أضعافها لمدة خمسين عامًا ولم تحرّك ساكنًا في مواجهتها، بل وأكثرُها كانَ على يديك، فهل غصَصتَ بتجاوزاتٍ محدودةٍ لسلطةٍ مؤقتةٍ عمرها أيام وفي غياب سلطات الدولة جميعها ؟!

أنا أشهدُ من موقعي الذي حددته في صدر هذا المنشور بأنّ ما قام به عناصر الهيئة حتى الآن قد صدمني صدمةً إيجابيةً هائلةً، وأنني حاضرٌ للقيام بأي دورٍ صغيرٍ أو كبيرٍ قد يُعهَدُ به إليّ في دعم الجهود المبذولة لتجاوز هذه المرحلة الانتقالية الصعبة بأمان، وذلك برغم أعوامي السبعين وهمّتي الخائرة، فكيف لو كنت شابًا في مثل سنّك ؟!

هيا ..

انهض على الفور والتحق بالحفل الذي ما زال قائمًا في أقرب ساحةٍ إليك، ولا تضيّع ساعةً واحدةً بعد، فما ضيّعتَه كان أكثر مما يليق بك كمواطنٍ شريفٍ في سوريا المستقبل.

———————————

==========================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى