سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 26 كانون الثاني 2025
حرية إلى الأبد: كل المقالات والتحليلات والحوارات التي تناولت انتصار الثورة السورية اعتبارا من 08 كانون الأول، ملاحقة يومية دون توقف تجدها في الرابط التالي:
سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع
———————————–
سوريا وسيناريو “العرقنة”/ إياد العنبر
23 كانون الثاني 2025
يؤسفني وأنا عراقي أن أكتب عن تجربة تغيير نظام دكتاتوري، وبلادي لا تزال تراوح مكانها ولم تنجح في تجاوز آثاره لا على الدولة ولا على المجتمع. وأثناء إذاعة خبر “سوريا من دون بشار الأسد” التي أعلنها مذيع قناة “العربية- الحدث” حسين الشيخ، بنبرة يجتمع فيها الفرح وهول الصدمة من خبر انهيار نظام دكتاتوري، في هذه اللحظة عادت بي الذاكرة إلى 9 أبريل/نيسان 2003، وشاركت السوريين فرحة سقوط الدكتاتورية التي تأخرت عليهم كثيرا. وفي الوقت ذاته، بدأت أستحضر دوائر مخاوف المرحلة الانتقالية التي مر بها العراق، ولا يزال بسبب أخطاء البدايات وتراكماتها.
نقاط التشابه والاختلاف:
يتشابه العراق وسوريا بسيطرة حكم دكتاتوري شمولي قبل التغيير، وكلاهما كانا يحكمان بأيديولوجيا قومية عنوانها “حزب البعث العربي الاشتراكي”. ولعل من مصادفات التاريخ أن يكون هناك تشابه بين عدد سنوات الاضطرابات وسقوط النظام بعدها، فنظام حكم صدام حسين سقط بعد انتفاضة الوسط والجنوب في 1991، والتي تمكن من دحرها وفرض سيطرته على مناطق التمرد، ولكن هذه السيطرة استمرت 13 عاما، حتى تم إسقاطه بالتدخل العسكري الأميركي. أما في سوريا فقد بدأت حركات الاحتجاجات في 2011، وتمكن نظام الأسد من مواجهتها وإعادة فرض سيطرته على مناطق التمرد الرئيسة، لكن بشار الأسد ترك البلاد وهرب بعد 13 عاما أيضا.
التشابه الثاني، أن المعارضة التي أثبتت وجودها في مواجهة نظامي حكم “البعث” في سوريا والعراق، تمثلت بحركات إسلامية وقومية كردية. القوى الإسلامية في العراق كانت تتصدرها حركات الإسلام الشيعي، وهي كانت تنادي بالحكم باعتبارها تمثل الأغلبية الطائفية. أما في سوريا فإن حركات الإسلام السياسي السني كانت تعلن معارضتها لنظام حكم تسيطر عليه الأقلية العلوية. ولذلك كان البعد الطائفي في التوجه نحو معارضة نظام الحكم عاملا أساسيا، ونجح في استثمار الاختلاف المذهبي في معارضة سطوة حكم صدام حسين في العراق وحكم الأسد في سوريا.
أما نقطة التشابه الثالثة، فهي بقايا النظام الشمولي وترسباته وثقافته السياسية. ففي المرحلة الانتقالية يتم استذكار مرحلة الدكتاتورية باقتران وجودها بتحقيق الاستقرار والقوة للنظام السياسي. وتجاهل أن قوة النظام واستقراره كانا على مستوى البناء الفوقي فقط. لأن الأنظمة الشمولية تنجح فعليا في زرع بذور التفكك وانعدام الثقة بين فئات المجتمع، ولذلك تنتج الدكتاتوريات “مجتمعا جماهيريا” حسب توصيف حنة آرندت، يتحول فيه الإجماع الوطني إلى قضية شعاراتية وشكلية تتمظهر بهتاف “بالروح بالدم نفديك يا زعيم”. وعندما يغيب ذاك الزعيم وحزبه الحاكم، نجد أنفسنا فجأة في مجتمع يفتقر تماما إلى مرتكزات الإجماع السياسي الوطني. فالمجتمع الجماهيري فارغ ومفكك، أعضاؤه ذرات منعزلة، يفكر كل منهم بمفرده، وينظر للآخرين كذئاب تسعى لاستغلاله أو كفرصة للاستغلال. ومن ثم عندما ينهار سقف الدكتاتورية يسعى الأفراد لضمان مصالحهم ومستقبلهم الشخصي بقوة السلاح لا القانون. ويعود المجتمع إلى حالة ما قبل الدولة التي وصفها توماس هوبز “حرب الجميع على الجميع”. وهذه الحالة مر بها العراق مع بدايات تغيير النظام، وهناك مخاوف من تكراراها في سوريا.
لكن عملية التغيير السياسي في سوريا تختلف في أهم مفاصلها عن دراماتيكية ما حصل في العراق. فنظام صدام حسين ما كان له أن يسقط إلا بالتدخل العسكري الأميركي في 2003، أما نظام بشار الأسد فسقط منذ 2011 عندما حوّل سوريا إلى مسرح للدمى تتحكم بخيوطها إيران وروسيا وتركيا وأميركا، وأصبحت قوته العسكرية في مواجهة فصائل المعارضة المسلحة هي قوات “حزب الله” اللبناني وميليشيات مسلحة عراقية.
أيضا، القوى الفاعلة في التغيير تختلف بين العراق وسوريا. ففي العراق كانت غالبية الشخصيات المعارضة التي تصدت للحكم بعد إسقاط نظام صدام، تعمل في بلدان المهجر، وأتى بهم الأميركيون لقيادة مرحلة ما بعد التغيير. ومن مفارقاتها أنها كانت مشتتة ولم تتفق على مشروع سياسي إلا في العناوين العريضة للمرحلة الانتقالية. لذلك بقى العراق تحت إدارة الاحتلال الأميركي حتى تم تسليم الحكم لحكومة انتقالية في 2004. وفي سوريا بدأت الفصائل المعارضة المسلحة السورية عمليتها العسكرية بقيادة أبو محمد الجولاني (قبل أن يتخلى عن هذا الاسم الحركي) حتى دخولها دمشق وتشكيل القيادة السورية برئاسته.
عُقدة الماضي :
مواجهة خطورة وتهديدات المرحلة الانتقالية، تحتاج بالدرجة الأولى إلى مشروع عدالة انتقالية تكون أولوياته التعامل مع الماضي بروح القانون وليس بروح انتقامية مأزومة بالاقتصاص من كل متعلقات النظام السابق. في العراق، مع الأسف كان التفكير بالقصاص من الماضي حاضرا بقوة، ولذلك كانت وظيفة مؤسسات العدالة الانتقالية تعويض المتضررين ومحاسبة المتورطين بالانتماء لحزب “البعث” والمؤسسة العسكرية والأمنية باعتبارهم بقايا النظام السابق لا موظفين في الدولة العراقية. ومن هنا تم التعامل مع المؤسسات الأمنية وشخصيتها بطريقة انتقائية وانتقامية، وليس وفق منطق إعادة تأهيلها لتكون ضمن مرحلة نظام سياسي جديد. أما في سوريا، فحتى الآن لا تبدو ملامح مشروع العدالة الانتقالية واضحة المعالم، وكيف يمكن أن تستفيد من تجارب البلدان السابقة التي مرت بمرحلة انتقالية من نظام شمولي إلى نظام حكم جديد.
التفكير في الماضي مشكلة لا تزال تسيطر على تفكير النخب الحاكمة في العراق، إذ لا تزال بعضها مأزومة بعقلية المعارضة التي لا تريد أن تتعايش مع واقع أنها الآن هي من تسيطر على البلاد، وعليها تحمل المسؤولية. وأيضا ترفض مغادرة التفكير بنظرية المؤامرة، وأن هناك من يتآمر على تجربتها في الحكم سواء من شركائها في السلطة أو من الدول الإقليمية! وأما النخب السورية الحاكمة فهي أمام واقع جديد يستوجب عليها مغادرة التفكير بأزمات المعارضة تلك وطرح مشروع سياسي يتركز على تحقيق الإجماع الوطني كركيزة لإعادة الثقة بين المجتمع والحاكمين الجدد، وتكون له الأولية على الأيديولوجيات.
في لحظة الإدراك المتأخر التي نعيشها الآن كعراقيين، يمكن الاعتراف بأن الاستعجال في كتابة الدستور والتوجه نحو الانتخابات، كانا من بين القضايا التي أنتجت منظومة حكم غير قادرة على إدارة البلاد بصورة صحيحة، فالاستقرار السياسي وتشذيب الخلافات السياسية يحتاج إلى عامل الزمن حتى تصل النخب الصاعدة للحكم إلى مرحلة النضج السياسي، بدلا من التخبط في دائرة الصراعات والأزمات والفوضى التي تتنج أعرافا سياسية تنتج لنا إقطاعيات سياسية حاكمة وليس دولة مؤسسات.
ويبدو أن القيادة السورية الجديدة تدرك خطورة الاستعجال في الانتقال نحو كتابة دستور وإجراء الانتخابات، وهذا ما أعلن عنه أحمد الشرع في لقائه مع قناة “العربية”، بقوله: “إعداد وكتابة دستور جديد في البلاد، قد يستغرق نحو 3 سنوات، وتنظيم انتخابات قد يتطلب أيضا 4 سنوات”. ولكن ما وراء هذا التصريح قد لا يكون إدراك خطورة الاستعجال الذي وقعت فيه تجربة العراق، بل ربما يكون الهدف تمركز السلطة والسيطرة على المجال السياسي بيد النخب الحاكمة الجديدة، وهنا تكمن الخطورة والمخاوف على مستقبل سوريا بعد حكم الأسد، في أن لا تكون على طريق الانتقال نحو النظام الديمقراطي وليس فقط الانتخابات الشكلية.
التجربة الإسلاموية:
التخوف من عرقنة تجربة الانتقال السياسي في سوريا، هو متلازمة بديل الدكتاتورية في بلداننا أي الإسلام السياسي. وهنا نجد هيمنة قوى الإسلام السياسي على المجال العام في الدول التي شهدت سقوط الدكتاتورية والتحول نحو تبني الديمقراطية. ففي العراق وفي بلدان الربيع العربي كان وصول حركات الإسلام السياسي إلى سدة الحكم أسهل الطرق في ظل التحول الديمقراطي، لأنها الأكثر فاعلية وتنظيما في تحشيد الأتباع في مواسم الانتخابات، لكنها عجزت عن تحقيق تغيير على المستوى السياسي والاقتصادي الذي يمنحها شرعية المنجز، والتي توثق علاقتها بالجمهور. واليوم في سوريا، بديل حكم بشار الأسد الدكتاتوري هو قوى الإسلاموية السياسية.
ومشكلة تجربة حكم قوى الإسلام السياسي في العراق وفي البلدان العربية الأخرى، أنها تكون قادرة على التحشيد الجماهيري، ولكن لا تقدم نموذجا للحكم قادرا على إدارة الدولة ومواردها وعلاقتها الخارجية وفق واقعية سياسية توثق علاقتها بالمجتمع بمنجز سياسي واقتصادي وخدمي. والمأزق هنا يكمن في عدم قدرتها على مغادرة البيئة السياسية التي نشأت وعملت فيها في أيام المعارضة، والتي لم تساهم في إنضاج تجربتها السياسية، إذ إن هناك علاقة سببية وثيقة بين طبيعة وبنية النظام السياسي القائم ودور قوى المعارضة السياسية وسلوكها، ومن ثم تكون المعارضة امتدادا طبيعيا للثقافة والسلوك السياسي السائد في بلد معين. ولذلك فالمعارضة هي الوجه الآخر للنظم السياسية القائمة، حيث تتعلم أساليبها وتتبنى أطرها وآلياتها وسلوكها العام إذا وصلت إلى الحكم.
والمشكلة التي وقعت فيها قوى الإسلام السياسي في العراق تكمن في أن مشروعها السياسي بدأ يتجه نحو أسلمة قوانين الدولة. وخسرت فاعليتها الاجتماعية القائمة على أساس معارضتها للدكتاتورية ومطالبتها بحقوق الطبقات المسحوقة، بعد أن تحولت ممارساتها في إدارة الدولة إلى الاستئثار بالسلطة والهيمنة عليها. وكما يقول كنعان مكية في كتابه “جمهورية الخوف”: “إن ضحايا القسوة والظلم ليسوا أفضل من معذبيهم، بل إن وضعهم في العادة ليس أكثر من مجرد انتظار لتبادل الأدوار معهم”.
الإسلاميون في سوريا، الآن بيدهم السلطة. وهم وحدهم من يديرون مؤسسات الدولة. وقائدهم أحمد الشرع يعترف بأن “شكل التعيينات الحالي كان من ضرورات المرحلة وليس إقصاء لأحد… والمحاصصة في هذه الفترة كانت ستدمر العملية الانتقالية”. وهذه خطوة في الطريق الصحيح، ودرس مهم تعلمته سوريا من تجربة المحاصصة الطائفية والقومية في العراق بعد التغيير. لا سيما إذا لم تكن الغاية منها الاستئثار بالسلطة الذي يخيم على تفكير الإسلامويين عند وصولهم لسدة الحكم.
*باحث وأستاذ جامعي عراقي متخصص في الشؤون السياسية، بغداد.
المجلة
———————————-
ممثلون وممثلات سوريون بدون “الرئيس”!… عن مظلوميّة “أيتام” القصر الجمهوري المشبوهة !/ محمد السكاف- فراس دالاتي- عمّار المأمون
25.01.2025
في خضم المواقف المتعددة للفنانين والممثلين والإعلاميين السوريين، برز مصطلح “أيتام القصر الجمهوريّ” كوصف لمجموعة ممن لم يستطيعوا حتى الآن تقبّل واقع وجود سوريا بلا الأسد وأسرته التي أغرقت عليهم “الخدمات” مقابل الولاء الأعمى!
سارع الكثيرون من العاملين في الوسط الفني والثقافي عشية سقوط نظام الأسد إلى ساحة الأمويين احتفالاً بهروب بشار الأسد، وشارك بعضهم مواقفهم “الجديدة” عبر وسائل التواصل الاجتماعي، سواء كانوا من الحلقة المقربة من السلطة والمطبّلين لها، أو ممن حافظوا على حياد معقول لا يدان قدر ما يدان أولئك الذين حرفياً قبّلوا الحذاء العسكريّ!
تلك الفئة من السوريين، الأكثر شهرة وعلى تنوّع أطيافهم، تختلف علاقتهم مع القصر سواء كنا نتحدث عمن يظهرون في الصور مع بشار الأسد أو المقربين من السلطة إلى حد أنهم أصدقاء شخصيين لماهر الأسد كحالة باسم ياخور.
ظهر علينا ياخور في بودكاست مع نايلة تويني يؤكد فيه تمسّكه بموقفه، قائلاً إن علاقة الفنانين والممثلين بالسلطة ليست حكراً على سوريا، بل هي ظاهرة تاريخيّة، مؤكداً أيضاً أنه استفاد من علاقته مع السلطة لمساعدة الكثيريين، الأمر ذاته قام به قبله الممثل مصطفى الخاني، الذي قرر الاعتذار من نفسه على موقفه! مورطاً الكثيرين بذكر أسمائهم شارحاً قربهم وعلاقتهم مع السلطة.
نحن اليوم أمام طيف واسع من العاملين في الوسط الفنيّ والثقافي، وعلاقتهم مع “القصر” وأجهزة المخابرات، والأهم لا شكل واضح للمحاسبة التي لا بد أن تأخذ بالاعتبار بين الرأي الشخصي وبين الترويج والتحريض على القتل، ناهيك بأن سوق الإنتاج تتحكم به حالياً دول الخليج، خصوصاً السعوديّة، التي تستقبل باسم ياخور، المواطن السوري- الكاريبي في مهرجان جوي أووردز، حيث انتشرت صورة له محدقاً بعلم الثورة السورية الذي رفعه بوجهه بين الجمهور، الشاب سعيد العطار.
في خضم المواقف المتعددة للفنانين وتعليقات مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، برز مصطلح “أيتام القصر الجمهوريّ”، كوصف لمجموعة من الفنانين والإعلاميين ممن لم يستطيعوا حتى الآن تقبل واقع وجود سوريا بلا الأسد! كحال الممثلة سلاف فواخرجي التي كتبت على جدارها الشخصي: “لن أتنكر لما كُنت عليه سابقاً ولم أكن خائفة ولن أكون…”.
بعضهم أيضاً ما زالوا في حالة إنكار لحقيقة أن ولاءهم الذي صاغته عقود من الدعاية والتعبئة والمصالح المشتركة، لن يدخل طي النسيان في ذاكرة السوريين المشبعة بمواقفهم ووقفاتهم الداعمة للأسد، هؤلاء “الأيتام” الذين وجد الكثيرون منهم أنفسهم “بلا سند” و”أب قائد” اكتسبوا من السلطة ميزات وخدمات تفوقوا فيها على أقرانهم من جهة، وعلى عموم السوريين من جهة أخرى، تلك التي يتحدث عنها مصطفى الخاني مثلاً كالسماح له بجمركة سيارته في ظل منع هذا الأمر على باقي السوريين!
سلطة القصر: من الفني إلى الشخصي!
تطرح الباحثة الإيطالية دوناتيلا ديلاراتا مفهوم “استراتيجيّة الهمس” للإشارة إلى الدور الذي تلعبه المخابرات السورية في تقديم مواضيع على حساب أخرى ضمن الإنتاج التلفزيونيّ، هذه الاستراتيجية والتسهيلات بقيت أسيرة المقابلات الشخصية والأقاويل أو التصريحات المباشرة كما قال فارس الحلو في لقاء معه، مؤكداً أن مسلسل “بقعة ضوء” أُنتج بموافقة من ماهر الأسد!
هذه المقاربة حوّلت المسلسل التلفزيوني السوري إلى “فيتش” أكاديمي، ينكب عليه الدارسون والباحثون في أوروبا وأميركا لمحاولة فك شيفرات السلطة المدغمة في الحكايات والجماليات التلفزيونيّة، وفي الوقت ذاته لمحاولة رصد شبكة العلاقات الفنية- الأمنية التي تحكم هذه الإنتاجات، والتي اليوم، مع سقوط النظام، وانتشار كم هائل من الوثائق، يتكشف أمامنا أن هذه العلاقة لم تعد مجرد فرضيات، بل حقائق تكشف عن ضرورة “موافقة” المخابرات على تفاصيل صغيرة، كأن نقرأ في وثيقة موجودة في فرع أمن الدولة، تعلم رئيس الفرع 300 بالموافقة على منح أحدهم/ إحداهن تأشيرة دخول إلى سوريا للمشاركة في إنتاج مسلسل رمضانيّ عام 2023.
وثيقة كهذه، التي تبدو بيروقراطيّة، موجودة في فرع أمن، صاحب السلطة على عملية الإنتاج، والقادر على عرقلته خصوصاً أن الوثيقة مذيّلة بملاحظة تقول إن العمل المراد تصويره “لم ينل الموافقات اللازمة بعد”، بصورة ما، تكشف الوثيقة أن أفرع الأمن، تتدخل حتى في شؤون الإنتاج الخاصة بالفنيين والعاملين، كما أكد مصطفى الخاني: “الكل بيعرف أنو تلفون واحد من اللواء ماهر لمحمد حمشو بينفرض فيه بطولات المسلسلات بشركة سوريا الدوليّة”.
يذكر أنه لم ترد أي أخبار رسمية عن عرقلة عمليات الإنتاج التلفزيوني في سوريا من الإدارة الجديدة، والكثير من شركات الإنتاج أعلنت عودة عمليات التصوير، لإنهاء الأعمال المنتجة قبل سقوط الأسد!
ما يثير الاهتمام أيضاً أن علاقة “أيتام القصر” من السلطة تتجاوز الفني نحو الشخصي، لنيل امتيازات لا تتاح للسوريين “العاديين”، إذ نقرأ في ملفات أبو سليم دعبول، مدير مكتب حافظ الأسد، طلباً مقدماً إلى رئاسة الجمهورية من فنان/فنانة للحصول على الجنسية السوريّة لأبنائه/ بناته، الامتياز الذي لا تتمتع به فئة كبيرة من العراقيين والليبيين والفلسطينيين المقيمين في سوريا، عدا فئة قليلة، الذين للمصادفة معظمهم من الممثلين، كحالة الممثلة السورية شكران مرتجى التي مُنحت الجنسية السورية عام 2012، ولم توفر مناسبة لتملّق القصر الجمهوري!
الولاء والمظلوميّة
ينطبق على هؤلاء الصبيان وبدقة وصف” اليتيم”، الرعاية الفائقة والاهتمام المفرط والمصالح المتبادلة، كانت سمة العلاقة بين “القائد الأسد”و أيتامه، العلاقة التي تتجلى باستثناءات تتجاوز القانون السوري، ليأتي خلع الأسد الذي ترك خلفه أطناناً من الوثائق والملفات وتصفية الحسابات بين العاملين في الوسط الفنيّ، فرصة لنكتشف بدقة “شغف” أيتام القصر بمصالحهم على حساب باقي السوريين.
المفارقة أن الكثيرين حاولوا إعادة إنتاج مواقعهم ضمن الخريطة الفنية الجديدة، خصوصاً أن رؤوس الأموال التي تتحكم بالإنتاج ليست سوريّة بمجملها، كما عمد البعض، كحالة باسم ياخور ومصطفى الخاني، إلى الاستثمار في استفزاز السوريين، ومن دون أي اعتذار، في محاولة لتلميع صورهم عبر وضعية المظلومية، واتباع تقنيّة الاتهام، ليكون لسان حال واحدهم: “أنا لست الوحيد المستفيد من السلطة، بل كل زملائي أيضاً!”، بصورة ما هي محاولة لتعميم البلاء، وأن “الجميع” متّهم.
هذه التقنيّة الذي وجد بها ياخور والخاني أسلوباً لتوسيع “المعركة” نحو الآخرين، لا تفيد أحداً إلا السوريين أنفسهم، ما كنا نسمعه من أقاويل وحكايات عن علاقة القصر مع الوسط الفني، أصبح الآن بشهادات من داخله، ووثائق تنتشر بصورة شبه يوميّة، لكن هل هذا يعني أن الجميع يستحقون العقاب؟
لا، خصوصاً في ظل غياب إطار قانون، لكن يكفي المشاهد السوري أن يفهم الدور السياسي الذي أنيط بالممثلين في سوريا، الذين حولتهم السلطة منذ بداية الثورة إلى مفاوضين، ومصالحين، وعمل السلطة على مصادرة مفهوم المثقف من الكتاب أو الصحافي نحو الممثل بسبب شعبيته لا كفاءته الثقافية أو السياسيّة.
يعيدنا ما سبق إلى ما قاله باسم ياخور نفسه في اللقاء مع نايلة تويني، فالسلطة لطالما احتفت واحتوت الفنانين، وهذا لا اختلاف عليه، بل ولطالما، اعتبرت مهنة الممثل نفسه موصومة أخلاقياً بسبب طبيعتها إلى حد نفي المسارح إلى خارج المدن، والسعي الى الوجود في البلاط كوسيلة لنيل الحظوة، لتكون براءة الممثل هي بحضور الأكاديميات، ما يعيدنا إلى الكلمة التي يرددها الممثلون السوريون واصفين أنفسهم بـ”ممثل أكاديمي”، لإضافة قيمة إلى مهنتهم لا تتعلق فقط بالاحتراف، بل بـ”الثقافة”.
مع ذلك، يقول الكثيرون إن هذا ما كان عليه كل قطاع الإنتاج الفني في عهد الأسد، فلا بد من علاقة مع الأجهزة الأمنيّة ليستمر “العمل”. لكن اليوم، وبعد سقوط الأسد، هناك استحقاقات قد تبدأ بالاعتذار كما فعل الممثل محمد حداقي، وحق الجمهور أن يعلم ماذا يمكن أن يدور من أحاديث بين قائد الفرقة الرابعة، المتهم بجرائم حرب، وممثل كوميدي لم يتردد بالعمل مع ممثلين من “المعارضة”؟
درج
————————
ماذا نريد من العلويين؟ – هل هذا سؤال مشروع؟/ أحمد نظير أتاسي
(محاولة اخرى للتحليل، لا ازال اجده صعبا بسبب المشاعر)
تحديات صياغة المعضلة
اليوم لا احد يتحدث عن العدالة الانتقالية، ولا احد يتحدث عن المتضررين، ولا احد يتحدث عن تعداد الضحايا، ولا احد يتحدث عن الانتقامات، ولا احد يتحدث عن آلاف الضباط الذين هربوا مع النظام، كما لا احد يتحدث عن المفقودين، ولا احد يتحدث عن مساعدة المعتقلين، وكذلك لا احد يتحدث عن الطرد التعسفي من الوظيفة ولا عن التعيينات التي تقوم بها حكومة غير ذات صلاحية. يقولون ان هناك دولة (واقول نظام لانها مجرد ميليشيات ركبت على الدولة)، وانها تحلم ان تكون مثل سنغافورة، وان لديها كفاءات وقدرات، لكن يبدو انها تركز على ملفات معينة تعنيها هي وحدها. في ظل هذا النسيان المفاجئ والغريب لخمسين سنة من القمع وعشر سنوات من الحرب (واعتبار ذلك انتصارا للحمة الوطنية وتحضر السوريين) تتعالى الاصوات هنا وهناك تطالب العلويين تحديدا بدفع ثمن او بالاعتذار. هل يمكن ان نطلب منهم مثل هذا الطلب؟ وعلى اي اساس؟ ولماذا نطلب منهم مثل هذا الطلب؟ اعتقد ان هذه اسئلة مشروعة في غياب دولة تحاول الاجابة عليها او حتى تعتبرها اسئلة ممكنة باعتبار ان النظام سقط والثورة انتهت وبناء الدولة بدأ كما قال الجولاني.
هل هناك شيء اسمه “العلويين” بأل التعريف الذين يمكن ان نتهمهم بجرائم النظام وان نحاسبهم عليها؟ هذا ليس سؤالا سهلا رغم اعتقاد الكثيرين ان هذا السؤال معروف الجواب وان الجواب (بنعم غالبا) مفروغ منه. الكاتب راتب شعبو يطالب العلويين بمراجعة ضميرية عما اقترفوه ايام النظام البائد، وقد حاول ان يطلب من جميع السوريين مراجعة مماثلة لكن اصحاب المقابلة هاجموه بطريقة لبقة فسكت ولم يوضح مقولته اكثر، رغم اني اعتقد انه كان عليه المواصلة والتوضيح لانها نقطة مهمة. الكاتب شعبو لم يعط اي تعريف للعلويين غير انهم جماعة او جماعات تحس جمعيا بمظلومية حقيقية او متخيلة تجاه المجتمعات السنية، وانهم شاركوا في تثبيت النظام وان كان فقط بالاحساس “بالفوقية والتسلط” دون الاستفادة المادية المباشرة. فهل هذا تعريف كاف للعلويين الذي على اساسه نعرّفهم ونطلب منهم الاعتذار والمراجعة؟
ضرورة المقاربات الاجتماعية
هل من المفيد ان ندخل في الجدال الاحصائي المعهود حول نسبة من شارك بالنظام ومن لم يشارك، ومن عارض ومن لم يعارض، ومن قتل ومن لم يقتل؟ مع معارضتي للعقلية الاحصائية التي شرحتها في بوست سابق (لانها تخفي الظاهرة السوسيولوجية)، الا ان الخطاب الرسمي لدولة القانون والمواطنة لا يعترف الا بالافراد وجرائم الافراد وحقوق الافراد. هذا يعني انه لا داعي، من منطق الدولة، لاي اعتراف او اعتذار جماعيين لان الدولة ستسأل كل شخص على حدة وستعاقب كل شخص بجريرته الخاصة. لكننا نرى ان الدولة السورية، كعادتها تحت اي نظام، تنصلت من هذا الواجب رغم اتكائها محليا وعالميا على الخطاب الحقوقي وخطاب العدالة الانتقالي كما صرح الشيباني في دافوس. اذن ماذا يفعل المجتمع؟ هل ننتظر حتى يقضي الافراد وطرهم الانتقامي كما يفعلون اليوم؟ لكن كم عدد الانتقامات “الفردية” التي سنسمح بها او المناسبة لتحقيق “الانتقام” او “فشة الخلق”؟ وهل هذا كاف لجميع السوريين حتى أولئك الذين لا يعرفون اسماء قاتليهم او معذبيهم؟ وماذا عن التجاوزات والكيديات والانتقام من الاذية اللفظية ومن الاحساس العام بالغبن او الاحتقار او الخوف؟ ودعوني اضيف سؤالا آخر، هل التركيز على العلويين وحدهم محق ويعاقِب على كل جرائم النظام؟ ما نراه اليوم هو شيطنة واتهام على الهوية ولجماعة كاملة دون عقلية احصائية ودون حتى التعامل مع افراد؟ وفي الحقيقة لا احد يعرف من يقوم بالاختطافات والتصفيات.
وللاجابة على هذه الاسئلة كمجتمع، بعد ان تبرأت منها الدولة لان الجولاني لا يريد اثقال كاهلها الفتي، لا بد من النظر الى الاسئلة من ناحية اجتماعية وليس من ناحية قانونية جنائية. هل هناك جماعة نطلق عليها اسم “العلويين” بأل التعريف؟ وهل تحمل وزر جرائم النظام وحدها او بالشراكة مع آخرين؟ عندما اسمع المطالبين بمراجعات واعتذارات جماعية، ألاحظ انهم يقولون “لم نسمع بشيخ علوي اصدر بيانا ضد النظام” “ولم نسمع بمثقف علوي شجب او ادان تصرفات النظام”. وهذا يوحي بأن الناس تنظر الى المشايخ والمثقفين بوصفهم ممثلين عن الجماعة، لا بل يحسبون ان هناك جماعة فعلية يمثلها هؤلاء. فهل هم فعلا كذلك؟ وهل لو خرجوا ببيانات اعتذار ومراجعة، كممثلين للجماعة، اليوم سيكتفي المطالبون؟ هناك فرق بين الحقيقة الاجتماعية وبين الادراك الاجتماعي. يمكن ان ندرك او نعتقد بوجود شيء ليس في الحقيقة موجودا او هو موجود بطرق مختلفة عن تصورنا وادراكنا له؟ فهل “العلويون” موجودون اجتماعيا ام هل هم خيال في اذهان المطالبين بالاعتذار؟ هذا سؤال صعب ويدخل في صلب التحليل الاجتماعي، هذا التحليل الذي لم يعطه الكاتب شعبو، ولا ألومه، فهو مثل كل المثقفين معني بالخطاب والمخيال فقط (اي ما يقوله الناس وما يتصورونه الناس).
مقاربة الدولة العلوية
منذ بداية الثورة السورية اعتبرت ان دولة بشار الاسد هي دولة علوية وتمثل نوعا من القومية العلوية. ولا ازال اعتقد بذلك. لكن هذا مختلف عن الاحصاء حيث نعدد نسب المؤمنين بمثل تلك الدولة او القومية ونسب غير المؤمنين. هذا كان خطاب الدولة وهذه كانت ممارساتها وخاصة اثناء الثورة، وبالتالي بالنسبة لي فهي موجودة. اذن يمكن القول بأن هناك “العلويين” الذين كانت تلك الدولة تمثلهم والذين كانت نخبة الدولة تنتمي اليهم. وهذا مشابه للدولة العربية السورية التي تمثل السكان العرب وتتبنى خطابا عروبيا رغم احتوائها على مواطنين اكراد وتركمان وآشوريين وسريان وارمن، وعلى مواطنين لا يؤمنون بالقومية العربية (مثلا الشيوعيين الامميين والاسلامويين الامميين)، وعلى اشباه مواطنين فلسطينيين عرب لكن غير سوريين. خطاب الانتماء والمواطنة الخفي عند دولة بشار الاسد، خاصة اثناء الحرب، كان خطابا علويا (ربما قوميا سوريا اقلويا ايضا). وهذا يشبه ما نقوله عن دولة الامويين او العباسيين او دولة الابارتايد البيضاء في جنوب افريقيا او دولة اس.را.ئيل اليه.ودية. انها دولة عنصرية (عصبية) تعترف بمواطنة من الدرجة الاولى (ما اشار اليه شعبو بعبارة “الاحساس بالتسلط”) وبمواطنات من درجات ادنى. دولة لا يطبق فيها القانون بالتساوي بين الناس. كما يحس المسيحيون مثلا (وكما يصور الاسلاميون الدولة الاسلامية) بان هناك دولة سنية، حيث مواطنة الدرجة الاولى فيها للسنة، والاخرون ذميون مواطنون من الدرجة الثانية.
هذه هي الدولة التي ارتكبت جرائم بشكل ممنهج ومؤسساتي وجلبت المليشيات الاجنبية الطائفية لتساهم في قتل السوريين. فهل العلويون الموجودون اليوم تحت دولة الجولاني، اي الطائفة او المجتمعات العلوية، هم نفسهم الذين كانوا المواطنين من الدرجة الاولى في دولة الاسد العلوية؟ وهل هم نفسهم الذين شاركوا في الجرائم المختلفة؟ اذا كانت الدولة علوية بالمعنى السابق فيجب ان نثبت وجود المواطنة الاولى العلوية. بالطبع هذا صعب، لكن لنقل ان “الاحساس بالتسلط” يكفي ليجعل جميع العلويين مشتركين في دولة بشار الاسد. بالتأكيد هناك اشخاص علويين لم يحسوا بالتسلط، لكن اسعى الى بناء تصور لظاهرة كانت قادرة على اعادة انتاج نفسها وعلى جذب اعداد كبيرة. لكن وكما في كل دولة تعتمد خطابا ايديولوجيا معينا، لا ينتمي الجميع الى النخبة الحاكمة التي تزعم انها علوية، ولا يشارك الجميع من ذوي المواطنة الاولى في افعال الدولة. وهنا نصادف مرة اخرى مشكلة التمييز بين المنتمي وبين المستفيد والمشارك.
سيقول قائل، انت تعيدنا الى مقولة “الطائفة الاسدية”، اي طائفة المستفيدين والمشاركين. نعم الدولة الاسدية كانت دولة عصبوية تقوم مثل دول القرون الوسطى على عصبية الولاء للقائد بالاضافة الى الانتماء الى طائفة دينية تسمى العلوية. طيب، كيف نفصل بين “جماعة الطائفة الاسدية” وجماعة “الطائفة العلوية”؟ هذا امر صعب فعلا. الدولة عامل جاذب جدا في اي مجتمع. وهي تحاول دائما ان تكون لها “طائفة” تتماهى مع طوائف دينية او قومية. وبالتأكيد حاول الاسد الاب والاسد الابن امتصاص كل انسان علوي وضمه الى الطائفة الاسدية او دولة الاسد العلوية(خاصة اثناء الحرب). فهل نجح والى اي مدى؟ ام هل سنعود الى قضية الاحصاء والنسب؟ في الحقيقة لا اجد مفرا من الاحصاء والنسب والعدالة المؤسساتية. مهما كان تصورنا للجماعات العلوية ومهما كان تصورنا لدولة الاسد، فان هناك فرق بين الطائفة الاسدية والطائفة العلوية، خاصة اذا تعلق الامر بعقاب جماعي او اعتذار جماعي.
لكن النقاش هنا يفترض ان الدولة تملصت من مسؤولياتها. وانوه ان هذه الدولة تبدو “سنية” الى حد بعيد. صحيح انها بدأت للتو بصناعة “طائفتها الجولانية” الا انه يبدو ان التاريخ سيعيد نفسه وربما سنتحدث بعد عشر سنوات عن امتصاص الدولة للطائفة السنية، وربما سيطالب احدهم السنة بالاعتذار والمراجعة الضميرية. في هذه الحالة كيف يمكن لمجتمع ان يتعامل مع ظاهرة انخرط فيها جزء منه. هل هناك “حل جمعي”. وحتى لو تخيلنا عدالة انتقالية مؤسساتية، فهل يجب ان نأخذ بالاعتبار الجانب الجمعي لماحصل تحت حكم الاسد؟ دعونا نأخذ مقاربة اخرى
مقاربة الطائفة العلوية
باعتقادي لم توجد طائفة علوية قبل الاسد. كما لم توجد طائفة مسيحية او طائفة سنية. المجتمعات السورية مغرقة في المحلية. وقد تحدثت مطولا عن الهوية الحضرية (القرية او المدينة). ولذلك فاني اعتقد بوجود طائفة حمصية اكثر من اعتقادي بوجود طائفة سنية. واعتقد بوجود طائفة طرطوسية اكثر من اعتقادي بوجود طائفة علوية. المجموعة التي لا تملك هوية موحدة ولا تتصرف كشخص واحد من خلال ممثلين او مؤسسة، ليست طائفة ولا حتى مجتمع. المسيحيون يمكن ان يتحدثوا عن طوائف مسيحية لان لديهم مؤسسة. وجماعة زيد السنية يمكن ان تتحدث عن طائفة، لكن لا توجد طائفة سنية موحدة. وعشائر علوية يمكن ان تتحدث عن طائفة، لكن لا توجد طائفة علوية موحدة. لكن ماذا لو توفر التمثيل كما في دولة الاسد. نعم، اعتقد ان الدولة يمكن ان تصنع الطائفة، كما يصنع الوزير عائلة الوزير بأن يوظفهم وكما يصنع الشيخ العشيرة البدوية وكما يصنع رجل الدين المجموعة الدينية. اعتقد ان الطائفة، واية جماعة، هي بناء فوقي. لكن ماذا عن العادات والتقاليد والهوية. نعم هذه موجودة لكن لا تعطينا جماعة موحدة (السياسة تجعلها موحدة). ولهذا فمن العبث الحديث عن امة عربية او امة اسلامية، لكن يمكن الحديث عن مجتمعات عربية. وحتى تحت دولة عصبوية مثل دولة الاسد لا يمكن الحديث عن مجتمع سوري (لانها دولة لا تبني وطنية وتمثيل وطني) وانما عن مجتمعات “سورية” تعيش على ارض تحكمها دولة سوريا. بينما يمكن الحديث عن المجتمع الفرنسي المتكون من مجتمعات فرنسية تحت جناح الدولة الفرنسية.
هذا ما اعتقد ان الكاتب شعبو اراد التعبير عنه عندما حاول ان يشرح ان هناك شيء يجمع العلويين اسمه “نحن اصحاب السلطة او الاحساس بالتسلط”. بغض النظر عن مدى انخراطهم في مؤسسات الدولة وفي عنف الدولة الاسدية فانها جعلت من العلويين طائفة واحدة ومجتمعا واحدا. وبغض النظر عن كيفية هذا التجميع، اكان بسبب الخوف ام بسبب الانتفاع، فان الظاهرة موجودة. وكما وصفت سابقا فإنها “تعميم منظوماتي”، اي انها ظاهرة مستقرة وتعيد انتاج نفسها وتقاوم اية معارضة لها من اجل ان تستمر في البقاء. لا يمكن فصل المجتمع عن المنظومة السياسية. واذا كانت المنظومة السياسية ذات هوية علوية (بحق او بغير حق) فانها ستجذب الناس الى “طائفتها”. العلويون بأل التعريف (اي كجماعة) كانوا منجذبين الى الدولة الاسدية لكنهم ليسوا جميعا طائفة اسدية. فعلا لا اعرف من يمكنه ان يدفع ثمن جرائم الطائفة الاسدية.
وهكذا نعود الى تمييز الطائفة الاسدية عن الطائفة العلوية. لهذا يجب ان نقبض على القائمين على الدولة الاسدية. ولهذا اجد من السريالي ان يأتي واحد مثل الجولاني ويقول لنا خلص بح اختفى الاسد وجماعته، انسوهم، وانسوا جرائمهم وتعالوا نركز على البناء. الاسد وعائلته اختفوا، ضباطه اختفوا، رجال اعماله اختفوا، سجانوه ومعذبوه اختفوا، قادة ميليشياته اختفوا. من هي الطائفة الاسدية التي سنحاسبها اذن، او من هم ممثلوها. وهنا سننتقل الى الصف الثالث والرابع والخامس نزولا الى كل شبيح صغير لا يزال موجودا داخل سوريا. وهذا يشرح عمليات التصفية “الفردية” والخطف والثارات وخاصة في الارياف (غير منتشر في الاعلام ووسائل التواصل لكن منتشر على الارض). يمكن (ويجب) ان نطالب الطائفة الاسدية كظاهرة اجتماعية بالمراجعة الضميرية والاعتذار. لكن هذا لا يمكن ان يكون دون مشاركة من الدولة. يمكن لعائلة ان تعتذر من عائلة، ويمكن لقرية ان تعتذر من قرية، لكن هل يمكن لمجتمع كامل (مجتمع الطائفة الاسدية) ان يعتذر من مجتمع كامل آخر (غير محدد الملامح، البعض يزعم انه سني)؟ لا اعرف، ليس لدي اجابة، الاعتذار يعني القبول بالجريمة وهذا وصمة معممة الى الابد (مثلما حصل مع الالمان الذين يحملون وصمة النازية سواءا شاركوا ام لم يشاركوا، لكن لاحظوا ان الدولة الالمانية اللاحقة نفسها حملت العبء وبالتالي التمثيل والاعتراف والاعتذار رغم انها لم تكن نازية).
المقاربة الاخلاقية
اعتقد ان المقاربة الاخلاقية قد تكون مفيدة. اي يجب ان نضمن استخلاص الدروس وحصول عملية التعلم من التجربة. هل نطلب الاعتذار من المشايخ ام من المثقفين ام من ضباط النظام؟ لا اعرف، هل يجب ان يمسك كل علوي الميكروفون ويعتذر؟ هل نريد من الشبيحة والمعذبين ان يعترفوا علنيا؟ هل نفرض “عليهم” دورات اعتراف واعادة تأهيل؟ لكن من هم؟ هل نشنق ألف ام ألفين؟ كيف نفعل اي شيء دون دولة؟ كيف نطالب كمجتمع اللعتراف والاعتذار دون ان نكون موحدين تحت دولة؟ أليس هذا يعني اعتذار الطوائف الطوائف مما يكرس الانقسام الطائفي؟ قال لي احدهم، المنظمات الحقوقية عندها اسماء ١٦ ألف شبيح ومجرم، لا اعتقد ان العلويين سيرفضون ان نقتص من ١٦ ألف. شخص آخر قال حكيت مع علويين وقالوا نحنا مستعدين نسلم خمسين ألف واحد واقتصوا منهم. ما هذه الارقام. من وضعها. اذا كانت الاسماء موجودة فلماذا لا يتم القبض على الموجود منها في سوريا؟ وهنا نعود الى الدوامة السابقة: اما ان تضطلع الدولة بدورها او ان ننتظر حتى تتوقف الانتقامات الفردية حين تريد التوقف او نطلب من طائفة الاعتذار الى طائفة.
باعتقادي، يجب على اية دولة سورية ان تضطلع بمهمة التعامل مع تركة نظام الاسدين ومع تركة الحرب: (محاولة) القبض على الضباط الهاربين واجراء محاكمات ونشر اعترافات والقبض على القتلة ووضع شروط العفو والجرائم المعفي عنها واحصاء الضحايا والمفقودين والمعتقلين المفرج عنهم. وذلك من خلال مؤسسة عدالة انتقالية. لا يمكن ان نزعم ان الماضي هو الماضي وانه انتهى. هناك شيئان يملكهما الانسان الحاضر والماضي. لا يمكن ان تتنصل الدولة الان من اهم التزاماتها. وهنا لا بد من مناقشة النقاط الباقية: هل العلويون هم وحدهم الطائفة الاسدية، وهل وحدهم من يستحق الحساب؟
مقاربة البعد التاريخي – دولة الاسد الاب
كما قلت سابقا ولا ازال، اذا كانت دولة بشار الاسد وخاصة اثناء الحرب دولة علوية “اي الطائفة الاسدية” فان دولة الاب لم تكن دولة علوية. وكذلك فان الطائفة الاسدية لم تكن “علوية” صرفة. لنبدأ من الآخر. عندما انتقل الحكم الى بشار الاسد لم تكن دولته ذات عصبية علوية. لقد كانت عصبية الولاء التي شملت كثيرين من غير العلويين. يحاول كثيرون هذه الايام ان يثبتوا استهداف بشار الاسد للسنة فقط بأن يقولوا ان اغلب الضحايا من السنة وان اغلب المناطق المدمرة سنية وان استهداف السنة كان واضحا. في سوريا، لو رميت قنبلة عشوائيا فان اغلب الضحايا سيكونون من السنة. نعم اغلب الثائرين سنة، وكثيرون منهم عندهم مظلومية سنية، وربما استهدفهم الاسد لانهم سنة. لكن لا احد يستطيع انكار ان اغلب المناطق غير المستهدفة ايضا سنية وان اغلب المناطق غير المدمرة سنية وان اغلب الذين نجوا من الحرب سنة. كما يمكن ان نجد امثلة كثيرة على انخراط سنة في جيش الاسد ومخابرات الاسد ومستشفيات الاسد وشبيحة الاسد وكبتاغون الاسد ورجال اعمال الاسد. لكن احدا لا يريد ان يرى ذلك الان لان هذا سيخرب المظلومية السنية وسيخفف من التركيز على مماهاة العلويين كلهم مع الطائفة الاسدية ومعاقبتهم كلهم. لا الناس تريد ذلك ولا تركيا ولا قطر ولا الجولاني ولا الجهاديين ولا الاخوان ولا المشايخ ولا المنتقمين ولا الطامعين بمناصب ولا المتأملين بوظيفة او بعقد خصخصة او بعقد مع الدولة. محمد حمشو نفسه لا يريد هذا. من المناسب جدا الاتفاق على كبش الفداء حتى ننتقم ونضع المشكلة وراء ظهورنا وننسى كما يريدنا الجولاني. اننا مجتمع يحب ان ينسى احيانا وبانتقائية عجيبة. لكن الكاتب شعبو يعتقد ان الاسلاميين، مثل ام العروس، هم المعنيون وهم الاصلاء ولا ينسون (ويعتقد انهم انتصروا). لا اعرف كيف تلفظ بهذه الاشياء، هذا شأنه. لكن الاسلاميين ليسوا سوريا الاصلية وهم ينسون مثلهم مثل كل الناس، لا بل ينسون بانتقائية عجيبة.
لا اعرف متى تحولت دولة بشار الاسد الى دولة علوية، ربما اثناء الحرب وربما قبلها. لكنها لم تبدأ كذلك. وبالتأكيد لم تكن كل النخبة الحاكمة والاقتصادية علوية بالكامل. ككل الدول، النخبة الحاكمة خليط يتخفى خلف خطاب ايديولوجي. حاولت ان احاجج انه في وقت ما اصبح هذا الخطاب علويا، لكنه لم يعكس الواقع. الطائفة الاسدية كانت خليطا. واجد من الضروري جدا ان يتوضح هذا الجانب. لكن من سيوضح هذا الان وقد تم تحديد الجماعة التي سيتم التضحية بها. قائد ميليشيات الدفاع الوطني فادي صقر لا يزال طليقا في سوريا. ومحمد حمشو يريد ان يبوس التوبة ويعود بمباركة قطرية. وربما لاحقا طريف الاخرس، كما حصل مع بيت طلاس. اين علي مملوك وغيره. اين الضباط من الطوائف الاخرى. اختفوا، كل السنة صاروا مناضلين، حتى مشايخ الاسد.
اما دولة الاسد الاب فلم تكن علوية ابدا. نعم جذبت جنودا علويين بكثرة، ونعم كانت عند الاسد احقاد طائفية دفينة، لكن خطابه ونخبته لم تكن علوية. تحالف الاسد كان تحالفا ريفيا في مواجهة المدن الكبرى. هؤلاء البعثيون والجنود القدماء من درعا والسويداء والجزيرة وادلب وريف حلب وريف حمص فجأة اكتشفوا “سنيتهم” اثناء الحرب. ربما اكتشفوا سنيتهم لان بشار الاسد انتقل الى الخطاب العلوي او لان بشار الاسد دمر حزب البعث، اداة التحالف الريفي الذي بناه حافظ الاسد. كل هؤلاء اكتشفوا مظلوميتهم السنية عندما ثاروا على بشار الاسد وعندما تدفقت اموال الخليج المشروطة وعندما استهدف بشار الاسد بقصد وعن سابق اصرار رموزهم الدينية. اي عندما حسم بشار الاسد امره في قضية علوية الدولة. ربما يجب ان اصحح النظرية وان اعتبر ان الدولة العلوية كانت نتيجة الحرب. ربما من مضيعة الوقت الحديث عن اي شيء قبل الحرب. لا احد يريد مراجعة ما قبل الحرب لان تخندقهم الحالي سيفتضح امره. لهذا اعتقد بأن فكرة الكاتب شعبو عن ضرورة مراجعة ضميرية سورية شاملة فكرة صحيحة. لا افهم لماذا تراجع اثناء المقابلة والخوف باد عليه.
مقاربة العقلية الطائفية المعممة
لا بل هناك المزيد. ان استهداف العلويين عامة اليوم، والمظلومية السنية المزعومة، وحتى ردات الفعل العلوية، تدل كلها على عقلية عشائرية طائفية متجذرة في المجتمعات السورية. حتى الاخوان المسلمين الاغبياء في الثمانينات ركزوا على “محاربة النصيرية” وتركوا فكرة الديكتاتورية. الكاتب شعبو عندما قال بان الاسلاميين يناضلون لانهم المعنيون والشعب الحقيقي ونحن الضيوف الغرباء نسي ان التهديد الحقيقي لدولة الاسد الاب كان الاضراب وليس هجمات الاخوان. كما اثبت بشار الاسد، الطائفية كانت انقاذا له وانقاذا لابيه. كان من الافضل لحافظ الاسد تحويل ازمته الى ازمة طائفية. لكن من نلوم على نجاحه في ذلك، نلومه ونلوم الاخوان المسلمين، ونلوم الانجذاب العلوي لسرديته ونلوم الطائفية المعممة في المجتمعات السورية والتي يشترك فيها الجميع. المراجعة الضميرية العامة ضرورية وليست من باب التمييع. الانجذاب العلوي الى السردية الاسدية الطائفية يستحق اللوم (وهذا هو التعميم المنظوماتي الذي تحدثت عنه)، لكن الطوائف الاخرى ليست بريئة من انجذابات مماثلة (تعميمات منظوماتية اخرى، الطائفية حقيقة). لا بل ان ما نشهده اليوم هو بوضوح وصراحة بناء دولة سنية طائفية مع مظلومية وطائفة دولة وجهاز مخابرات وحلقات درس عقائدية وسجون قادمة.
بالطبع في مجتمع العشائر والطوائف لا توجد هناك افعال فردية، الطائفة كلها تتحمل الوزر والطائفة كلها تتحمل العقاب. وهذا يعبر عما يحدث هذه الايام حيث عائلة تعاقب عائلة، وقرية تعاقب قرية، وطائفة تعاقب طائفة، وحارة تعاقب حارة. وهذا يطابق العقلية السائدة في ادراك الحرب حيث “هجمت علينا حارة العلوية” او “هجموا علينا السنة” او “هجمت علينا الضيعة الفلانية” او “هجمت علينا العشيرة الفلانية” او “هجم علينا الاكراد” او “هجم علينا العرب”.
اضافة
يمكن ان نقول بأنني ابحث عن نوعين من المسؤولية: مسؤولية فردية هي المشاركة في جرائم القتل والتعذيب واصدار القرارات، وهذه عقابها فردي من خلال مؤسسة للعدالة الانتقالية، ومسؤولية جمعية هي الانجذاب الى مشروع الدولة العلوية الذي ظهر اثناء الحرب وربما قبلها بقليل، وهذه تقتضي مساءلة جمعية وموقفا جمعيا يظهر التعلم من التجربة. وتعريف الدولة العلوية ليس بعدد العلويين في الحكم وانما بفكرة مواطنة الدرجة الاولى فى التي تقتضي العقاب الجماعي لمواطني من الدرجة الثانية.
وايضا اردت ان اظهر ان فكرة العدالة ربما تشمل اكثر من فترة الحرب، وربما تعود الى عهد الاسد الاب. وهنا نخرج من اطار الطائفة العلوية الى اطار الطائفة الاسدية والتي تشمل مكونات كثيرة من الشعب. مشروع الديكتاتورية ليس مشروع فرد، انه دائما مشروع جماعي. وهنا تظهر النفاقات وتظهر مجموعة اكبر من الصراعات والشروخات داخل المجتمع السوري اكبر من الشروخات الطائفية.
————————————
التغيير الثقافي المتدثّر بعباءة السياسي/ محمد أبو رمان
26 يناير 2025
بالفعل، ليس الأمر عادياً أو طبيعيّاً أن يكون رئيس الوزراء البريطاني الأسبق والسياسي المخضرم، توني بلير، هو الذي يحاور وزير الخارجية السوري للإدارة الجديدة، أسعد الشيباني، ابن جبهة النصرة سابقاً وهيئة تحرير الشام لاحقاً، وهو مشهدٌ ربما لو أراد أحدٌ أن يتخيّله قبل أعوام لسخر الجميع منه. لكن المفاجأة الكبرى لمن لا يزالون يروْن في هيئة تحرير الشام حركة جهادية مرتبطة بتنظيم القاعدة أنّ الوزير السوري الشاب حدّد النماذج الملهمة له من رؤية السعودية الاقتصادية 30 والنموذج السنغافوري. وعندما تحدّث عن أولويات الحكومة ركّز على القطاعات الخدماتية الرئيسية؛ الصحة والتعليم والطاقة والاتصالات والطرق والمطارات.
ولم يتردّد الشيباني أن يطلق شعار “سورية أولاً” بما يعكس حجم التحوّل الأيديولوجي والفكري الذي (بالمناسبة) على النقيض مما يردّده مراقبون كثيرون لم يحدُث فجأة، بل كان حصيلة أعوام طويلة من التحولات المرتبطة بمسار محدّد انتقلت فيه هذه الحركة الجهادية (سابقاً) من مرحلة الأيديولوجيا الجهادية إلى البراغماتية السياسية الوطنية. وتبدو بصمة النموذج التركي بارزة على هذه الصيغة الجديدة في الفكر والسياسة والحركة.
في منتدى دافوس نفسه، وفي مشهدٍ لا يقل إثارة هو الآخر، كان نائب الرئيس الإيراني للشؤون الاستراتيجية، محمد جواد ظريف، يقدّم طرحاً مفاجئاً مع الإعلامي الأميركي المعروف، فريد زكريا، إذ حمّل ظريف، ضمنياً، حركة حماس مسؤولية فشل المفاوضات النووية الإيرانية مع الأميركيين، وفي الوقت نفسه، قدّم رسائل ودية نحو الغرب، وحاول تجميل الدبلوماسية الإيرانية، وهو، وإن لم يقل علناً ومباشرة، إيران أولاً، فإنّ حديثه يستبطن ذلك تماماً. وإذا كان الرجل شخصية جدلية داخل النظام الإيراني نفسه، وقد واجه دعوات إلى المحاكمة سابقاً، وبعد الندوة طالب مسؤولون باعتقاله فور عودته في المطار، إلّا أنّه يعكس، في الوقت نفسه، مزاج تيارٍ عريضٍ في النظام والشارع الإيراني يحمل أفكاراً مغايرة تماماً للتي يؤمن بها التيار الأيديولوجي هناك، ومع المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، وهو أمرٌ من الواضح أنّه لا يقتصر على الخلافات على الشأن الداخلي، بل الخارجي أيضاً في السياسات الإيرانية.
على صعيد موازٍ، أثار (أيضاً في الأيام القليلة الماضية) زعيم لواء أبي الفضل العباس، أوس الخفاجي، المرتبط بالحشد الشعبي العراقي، وهو الذي كان يقاتل سنواتٍ في سورية، جلبة سياسية وإعلامية في العراق، عندما اتهم، في مقابلة تلفزيونية، إيران بالتخلي عن حسن نصر الله وسورية واستعدادها للتخلي عن آخرين في سبيل حماية إيران ومصالحها الاستراتيجية في المنطقة. وبالرغم من أنّ الخفاجي معروفٌ بانتمائه إلى التيار الصدري وانتقاداته المتكرّرة إيران، لكن ما قاله يعكس أسئلة ونقاشات تدور في أروقة مغلقة في ما يسمّى “محور المقاومة”، وحجم الخسائر والكلفة التي دفعها بعد عملية طوفان الأقصى.
على الجهة المقابلة، وضمن ما يوصف بمحور المقاومة نفسه، لا تقلّ تصريحات موسى أبو مرزوق، أحد أبرز قادة حركة حماس، سخونة وإثارة، فالرجل دعا مبعوث الرئيس الأميركي دونالد ترامب للشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، إلى زيارة غزّة ولقاء قادة “حماس”، ووصف ترامب بالرئيس الجادّ لدوره في الوصول إلى اتفاق وقف إطلاق النار؛ وبالرغم، كذلك، أنّ أبو مرزوق هو الآخر محسوبٌ على التيار البراغماتي في الحركة، وسبق أن أطلق تصريحاتٍ جدلية مشابهة، لكنه يعكس، أيضاً، توجهات ونقاشات في أوساط قيادة الحركة للتعامل مع المرحلة المقبلة، بخاصة بعد اتفاق وقف إطلاق النار في غزّة.
في الخلاصة؛ من الواضح أنّ عمليات إعادة الاصطفاف وبناء المسرح الإقليمي وتوزيع الأدوار ما بعد الحرب على غزّة؛ لا تقتصر على الجوانب الاستراتيجية والسياسية، بل تعكس تحولات ثقافية وفكرية ما تزال تتطوّر وتختمر في المنطقة، فمثل هذه الخطابات غير التقليدية ومراجعة الحسابات تتجاوز مسألة المواقف السياسية إلى الأيديولوجيا والأفكار والثقافة، وهي مسائل أكثر عمقاً من الحسابات السياسية الآنية، وهي المسألة التي تستحقّ فعلاً التحليل والبحث في المرحلة المقبلة.
العربي الجديد
—————————–
“لن يحدث مجدداً” في سوريا.. لجان الحقيقة بين العقاب والتصالح/ بتول القليح
2025.01.26
تشير التقارير إلى أن العدد التقريبي لمن غيّبهم نظام الأسد قسراً بعد 2011 يزيد على 113 ألفاً. عدد لا يحتاج التأكد منهُ إلى إجراء إحصاء شامل يوضح تعداد السوريين، وإفصاح شامل لأهالي المعتقلين والمغيبين الذين أخفوا اعتقال وتغييب أبنائهم قبل 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024 خوفاً من ملاحقات النظام المخلوع. يُضاف هذا إلى الأعداد المقدّرة للباحثين عن أبنائهم من المطالبين بالعدالة وكشف الحقيقة، ثم التعامل مع مرتكبي هذه الجرائم كواحدة من انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا.
لا تعتبر الاعتقالات والإخفاء القسري الانتهاك الوحيد لحقوق الإنسان الذي تعرض له السوريون خلال السنوات الـ14 الأخيرة، ولكنه الجرح الأكثر ألماً، والمترافق مع ارتفاع أصوات تطالب بالكشف عن مصير المغيبين، والمناداة بالبدء في تطبيق أولى خطوات العدالة الانتقالية عبر محاكمة الجناة، على أن تكون هذه المحاكمات عقابية، وصارمة، ومُنصفة تعيد حق المغيبين بمعرفة مصيرهم وصولاً إلى القصاص من المجرمين. وهذا أمر ممكن مع وصول الشق المعارض المسلح “الإسلامي” إلى السلطة، وتركيز القوة والقرار بيده.
سوريا .. جدل بين العدالة الانتقالية والتسامح
على الجانب الآخر، خرج الشرع، قائد الإدارة، بالحديث عن العفو والتصالح بالتزامن مع مطالب بعضٍ ممَّن شاركوا أو شهدوا أو قد يُحسبون على الجناة (بالقرابة أو الانتماء الديني والمناطقي) بالعفو الكامل “كبادرة حسن نية” من السلطة الحالية، مستفيدين من التفكك الاجتماعي الذي عززه نظام المخلوع خلال 14 عاماً على الأقل، واستخدامه الاستقطاب الطائفي في المشاركة بالمقتلة التي تصب في بقاء رأس النظام.
هذا الطرح يثير جدلاً حول اختصار العدالة الانتقالية في سوريا بإرادة شخص أو حكومة، وعن شكل العدالة واحتمالات أن يكون طابعها موجهاً نحو العدالة العقابية بالقصاص من المجرمين، أم باتجاه العدالة التصالحية والعفو؟ وهو ما يحاول هذا المقال الجدال فيه بالاستفادة من تجارب الدول الأخرى التي عايشت ديكتاتوريات وأنظمة فصل عنصري، وتسليط الضوء على إمكانات تطبيقها في ظل واحدة من أكبر حالات التغييب والتدمير الاجتماعي في التاريخ المعاصر.
ضرورة العدالة الانتقالية في تحقيق المصالحة الشعبية المأمولة
خلال عملية التحول السياسي في مرحلة ما بعد الصراع، يكون من الضروري لتحقيق التحول السياسي الدخول في سياقين متوازيين، قانوني واجتماعي، للتعامل مع الانتهاكات التي تم ارتكابها من قبل الأطراف المتصارعة. وهنا تتوسط العدالة الانتقالية، باعتبارها المساحة التي تتقاطع فيها السياسة مع القانون وعلم الاجتماع والتاريخ.
يُعرفها المركز الدولي للعدالة الانتقالية (ICTJ) بأنها جملة الآليات التي تستخدمها المجتمعات لمعالجة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، لضمان المساءلة وتحقيق العدالة للضحايا وصولاً إلى المصالحة الوطنية. وتقوم على مجموعة من التدابير التي تبدأ بالسمات القانونية المتعلقة بالملاحقات القضائية، والتدابير غير القانونية المتمثلة في البحث عن الحقيقة، والإصلاح المؤسساتي وصولاً إلى جبر الضرر وتكريم الضحايا عبر إحياء ذكراهم.
لجان الحقيقة تعتبر الخطوة الأولى في تفعيل آليات الجانب القانوني وسياقه القضائي، فمنهج عملها يحدد مفهومي “الاعتراف والعدالة” في مناطق الصراع السابق، والتي تقوم على الوضوح في المشهد قبل البدء في المساءلة وبناء شكل المرحلة الانتقالية. هذه اللجان هي مؤسسات تحقيقٍ رسمية ذات صفة مؤقتة من دون صلاحيات قضائية، وتُنشأ لفترات زمنية محددة بهدف التحقيق في ثلاثة اتجاهات رئيسة، هي: السياقات التي حدثت فيها الانتهاكات، وتحديد الأسباب التي وقفت خلفها، وتعيين عواقب هذه الانتهاكات المحددة والتي حدثت في مجال زمني ومكاني معين.
فالهدف منها يتجاوز تدوين القصص الفردية للضحايا، فهي ذات معنى أوسع يقوم على بناء سردية مشتركة، وإنشاء “حقيقة جماعية” تؤطر الحقائق التي عاشها الأفراد.
وبالتالي، في الحالة السورية، سيتمثل عملها في التحقق من وقوع انتهاكات لحقوق الإنسان، وهو أمر حقيقة واضحة في سوريا، يليه وضع قائمة بالانتهاكات التي سيتم التحقيق فيها. ثم إنشاء سجل تاريخي تُجمع فيه السرديات الفردية ضمن “سجل الحقيقة الجماعية”، ليتم بعدها مقاطعة هذه السرديات والوصول إلى قصة شاملة للانتهاكات، وتقديمها لآليات المرحلة الانتقالية ولجانها، والتي يتم بموجبها تقديم تعويضات للضحايا ومحاسبة المجرمين. وهذا ما يحتاج إلى وجود حكومة انتقالية، لا تتوفر في السياق السوري اليوم، لتطلق العملية على أرضية أكثر استقراراً وتتمكن من تحقيق العدالة التي تعيد للضحية حقه.
مأساة التغييب القسري من الأرجنتين إلى سوريا
تتقاطع الانتهاكات التي حصلت في سوريا، من أحد جوانبها، مع ما عايشته الأرجنتين. ففي سبعينيات القرن الماضي، تسلّمت السلطة ديكتاتورية قمعية حكمت البلاد من عام 1976 حتى 1983، مما تسبب في اختفاء ما يقارب 30 ألف شخص، وفقاً لتوثيقات الحركات المدنية التي أنشأتها عوائل المفقودين، مثل حركة “أمهات ميدان مايو”.
بعد سقوط الديكتاتورية والمجلس العسكري الذي قاد البلاد عام 1983، أعلنت الحكومة الجديدة، في سياق توثيق الجرائم المرتكبة من قبل الدولة والنظام القمعي، عن أول صور لجان الحقيقة في العالم الحديث تحت اسم “اللجنة الوطنية لاختفاء الأشخاص (CONADEP)”. كانت هذه اللجنة تهدف إلى التحقيق في حالات الاختفاء القسري والاعتقالات غير القانونية وما تضمنته من انتهاكات لحقوق الإنسان والموت تحت التعذيب.
وفرت هذه اللجنة أدلة ملموسة عبر جمع الوثائق وتحديد الانتهاكات، مما جعل إنكار الجريمة أو الإفلات من العقاب أمراً بالغ الصعوبة.
تمكنت هذه اللجان من توثيق 8961 حالة اختفاء قسري، وكشفت ضمن تقريرها الذي حمل اسم “لن يحدث مجدداً” “Nunca Más” عن سردية جماعية للضحايا. حيث عثرت على مراكز الاعتقال السرية، وكشفت ممارسات التعذيب المتبعة فيها، وحددت كيفية تورط أجهزة حكومية، مثل أجهزة الأمن، في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. وتمكنت، في مرحلة ما، من إعادة بناء الثقة المجتمعية، خاصة بين الدولة والمجتمع، حيث كان إظهار الحقيقة الخطوة الأولى نحو المصالحة الوطنية القائمة على مفهوم العدالة.
ولكن هل جلبت العدالة العقابية العدالة للجميع؟
لا يمكن الجزم بأن أسلوب وسياق عمل اللجنة الوطنية لاختفاء الأشخاص كان أفضل الممارسات والآليات التي يمكن اتباعها في الأرجنتين. فمن جهة، استمرت آلاف العوائل الأرجنتينية في البحث عن أبنائها المفقودين، الذين قدّر عددهم بأكثر من عشرين ألفاً، وما زالت بعض عمليات البحث قائمة حتى اليوم. ومن جهة أخرى، حددت اللجنة في تقريرها “لن يحدث مجدداً” نقطة محورية للعدالة وأشعلت الذاكرة الحية في الأرجنتين والعالم، حيث قادت العديد من الجناة إلى المحاكم والعقاب.
لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا: الاعتراف باب المصالحة
لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا (TRC) هي مبادرة تتضمن مزيجاً من الكشف عن حقيقة الجرائم التي حدثت خلال حكم نظام الفصل العنصري “Apartheid”، الذي امتد على مدار 46 عاماً، ومن استحضار العدالة بطابعها التصالحي الذي يدعم خطوات المصالحة المجتمعية. تأسست اللجنة خلال عام واحد من تسلّم مانديلا للحكم سنة 1995، واعتمدت على العدالة التصالحية القائمة على العفو عن الجناة ممن يعترفون بجرائمهم الكاملة، مع التهديد بالملاحقة القضائية لمن يرفض التعامل معها.
قسّمت اللجنة الحقيقة إلى أربعة أنواع، وهي:
الحقيقة الجنائية: التي تقوم على الأدلة.
الحقيقة السردية (الشخصية): القائمة على شهادات الأفراد.
الحقيقة الاجتماعية: التي تقوم على النقاش المجتمعي.
الحقيقة التصالحية: التي تهدف إلى الاعتراف بمعاناة الفرد ضمن سياق مجتمعي أوسع.
أسباب التوجه إلى العدالة التصالحية في جنوب أفريقيا
توجهت عدالة جنوب أفريقيا الانتقالية إلى التصالح بسبب التوازن الهش للقوى بين نظام الفصل العنصري والحركات المناهضة له، مع استمرار نفوذ كبير لنظام الفصل العنصري في مفاصل الدولة. هذا الوضع هدد استمرار المفاوضات الممهدة لتأسيس النظام الجديد، مما كان قد يؤدي إلى العودة لشكل أسوأ من النظام السابق أو الدخول في حالة من الفوضى.
تُعيد بعض الأدبيات التوجه إلى العدالة التصالحية بدلاً من العدالة القضائية إلى عجز النظام القضائي في جنوب أفريقيا، سواء من حيث الكفاءة أو الموارد، عن التعامل مع العدد الكبير من منتهكي حقوق الإنسان. لذلك، كان من الضروري الحفاظ على حالة من الاستقرار تُبنى عليها خطوات الانتقال، والتوجه إلى نقطة وسط بين محاكمة الجناة من النظام العنصري أو العفو عنهم.
انتقادات نموذج العدالة التصالحية في جنوب أفريقيا
حمل هذا النموذج ظلماً كبيراً للضحايا، إذ لاقى انتقادات عديدة، منها:
تقديم جزء من الحقيقة فقط، بسبب محدودية المشاركين من الضحايا والجناة الذين تخوفوا من العواقب القانونية والاجتماعية.
غياب العدالة الجنائية، حيث لم تتم ملاحقة حقيقية لمرتكبي الجرائم، مما منح الجناة شعوراً بالحصانة، وأبقى الضحايا في حالة من المظلومية المستمرة.
عدم حدوث تغييرات جوهرية على صعيد هيكل الدولة والمجتمع القائم على عدم المساواة.
عدم كفاية التعويضات الممنوحة للضحايا، مقارنة بحجم الفقدان الذي ألمّ بهم.
العقاب أم التصالح؟ سوريا والتركة الثقيلة
ينعكس الصراع السوري بتعقيده وشموليته وحجم الضحايا والخسائر الضخمة على تحديد زمان وآلية البدء بالعملية الانتقالية وإطلاقها، مما يستلزم وجود حكومة انتقالية قادرة على تحديد أرضية العدالة وتوجهها، أي امتلاك القدرة على الموازنة بين: طبيعة الصراع العنيف الذي تخللته جملة واسعة من انتهاكات حقوق الإنسان، وبالتالي اتساع شريحة الضحايا السوريين مع تركّز العنف من طرف واحد بشكل رئيسي، وهو ما يُظهر ضرورة القصاص وتقديم حق الضحايا والمجتمع “العادل” للجميع، والتوجه للكشف عن الحقيقة فوق كل اعتبار.
الشكل المتخيل والمأمول للسياق السياسي “الجامع” في سوريا خلال مرحلة ما بعد السقوط، والذي سيبني المصالحة الوطنية والاستقرار الطويل الأمد في ظل الاستقطاب المجتمعي العالي بين شرائح المجتمع.
هذا يجعل لجان الحقيقة في سياق العدالة الانتقالية للعدالة العقابية الكاملة أو التصالحية بشكل تام غير مجدية في سوريا. إذ يقوم كل منهما بشكل أساسي على طبيعة الإرث القمعي الخاص بالدولة التي طُبق فيها، والانتهاكات وتأثير الجناة فيها بعد تغيير النظام، إلى جانب الدور الاجتماعي الذي يأخذ الدور المحرك في كل منهما، والموجه لدفة العدالة بشكل عام، والتي لم تكن بحجم وتداخل المجتمع السوري وهشاشة علاقاته المجتمعية اليوم.
التوجه نحو نموذج هجين للعدالة في سوريا
يحتاج تحقيق التوازن في سوريا إلى دمج هجين للأسلوبين العقابي والتصالحي، من خلال الاستفادة من نموذج الأرجنتين القضائي لتوثيق الانتهاكات وضمان العدالة للمتضررين من كل الأطراف – على الأقل أن تشمل الأكثر تضرراً من عوائل المعتقلين والمغيبين قسراً والمفقودين، والمقتولين عمداً بشتى أنواع أساليب الموت التي مورست في سوريا.
يمكن تحقيق ذلك عبر تحديد الانتهاكات التي حدثت، وأطرافها المسؤولة عنها، وتحديد درجة انخراطهم فيها، ومن ثم اتباع النهج القضائي في التعامل مع المتورطين. يتم توثيق هذه الانتهاكات بآلية خاصة مصونة وسرية تُعنى بها الجهات الحقوقية بالتعاون مع الجهة المدنية وبإشراف حكومي. بذلك، يتم تفعيل العدالة العقابية والدفع نحوها كآلية محاسبة واضحة وضرورية لبناء دولة ما بعد الديكتاتورية العسكرية.
الوضع في سوريا يعزز هذا المسار ويمكنه أن يحقق العدالة لشريحة أكبر من تلك التي حدثت في الأرجنتين – التي أثر عليها الضغط الخارجي في المحاسبة وعرقلها – خاصة أن الانتهاكات في سوريا لا تقتصر على التغييب القسري والقتل الميداني، بل تشمل طيفاً أوسع من الجرائم.
استلهام المرونة من تجربة جنوب أفريقيا
إلى جانب ذلك، يجب أخذ آليات المرونة من تجربة جنوب أفريقيا في الكشف والاعتراف بالجرائم بشكل علني للفئات المستثناة من الآلية العقابية، والتي كانت جزءاً من الصراع، ليشارك فيها الجميع ومن كل الأطراف لبناء السردية الوطنية، والاعتراف بما حصل في سبيل بناء الثقة وترميم النسيج الاجتماعي.
هذا النهج يشجع الحوار الوطني ويسهم في الموازنة بين ثلاثة من أعمدة بناء الدولة الجديدة المأمولة، وهي: العدالة، والاستقرار، والسلام.
تلفزيون سوريا
————————
العبث بأمن سوريا/ رشا عمران
2025.01.26
يسارع الإعلام العربي ومواقع التواصل الاجتماعي المعادية لانتصار السوريين، أو تلك التي تديرها مجموعات من الفلول، أو من القوى الإقليمية التي لا مصلحة لها باستقرار سوريا ووحدة شعبها وأراضيها، إلى تلقف كل خبر أو صورة أو شريط بث مصور يثير جدلا في أوساط السوريين، يطمئن ويفرح بعضهم ويبث الذعر والقلق لدى بعضهم الآخر، من انتهاكات يقوم بها بعض العناصر من الهيئة أو من الفصائل المسلحة الجهادية التي تنتشر على مساحة الأرض السورية، أو تلك التصرفات التي يقوم بها أفراد أو مجموعات حزبية معينة تريد فرض نمط معين من السلوك علي كل السوريين، كالحركات الدعوية التي يقوم بها البعض في مناطق المسيحين وباقي الأقليات، أو ملصقات تنتشر في شوارع المدن السورية عن شكل لباس المرأة، أو دخول بعض الملثمين المسلحين إلى بعض المقاهي التي يتم فيها عزف موسيقا ويقومون بتكسير الآلات الموسيقية والتهديد بالسلاح لإغلاق المقاهي وتفريق المجتمعين والعراك معهم والإساءة اللفظية لهم. وبطبيعة الحال تبقى الانتهاكات في العمليات العسكرية هي الأكثر تداولا وإثارة للجدل، مثلها مثل عمليات الخطف والقتل التي تنتشر في مناطق التوتر الطائفي مثل حمص وريفها الغربي والشرقي وريف حماة وبعض مناطق الساحل. وهي الأكثر تداولا على مواقع التواصل وفي الإعلام، علما أن حوادث مشابهة تجري في أماكن أخرى لا يوجد فيها احتكاك طائفي، بل هي ذات لون واحد، لكنها لا تأخذ نصيبها من التداول الإعلامي لأنها، ببساطة، لا تحقق غاية التحريض التي يسعى إليها كثر ممن يسعون لبقاء سوريا متوترة وقيد الحرب الأهلية.
تأخذ المسألة الطائفية اليوم الوقت الأكبر من أحاديث السوريين على مواقع التواصل الاجتماعي، حتى لا يكاد يخلو سوري من تعليقات تتناول المسألة الطائفية، دائما ثمة بعد طائفي في التعليقات الملحقة بأي خبر، ودائما سيلاحظ المتابع أن ثمة توترا يكاد يصل حد الانفجار في الأحاديث بين السوريين حين يتعلق الأمر بخبر انتهاك ما حدث في منطقة من مناطق التوتر أو الاحتكاك. وهو بكل حال أمر مفهوم جدا، فالتغيير الذي حدث كان مفاجئا وصادما للكثير ممن كانوا يعتقدون أن الأسد باق للأبد، لم يستطيعوا حتى اللحظة فهم ما حدث واستيعابه، واستيعاب أن من قدموا أولادهم ضحايا لأجله قد فر هاربا من دون أن يوجه إليهم بكلمة واحدة لا قبل فراره ولا بعده. ليس الأمر، كما يحلو للبعض القول والتكرار، أنهم فقدوا امتيازاتهم، ففي الحقيقة تلك الامتيازات لم تكن سوى أوهام في أذهان من يعتقدونها من طرفي الصراع، فلا فقراء العلويين كانوا يتمتعون بأي امتياز في دولة سوريا الأسد، ولا من يعتقدون ذلك من خارج العلويين يملكون أدلة مادية على تلك الامتيازات سوى تجنيد شباب العلويين في الجيش والأمن، والذي جاء نتيجة إهمال تنمية الريف العلوي ليضطر شبابه إلى الالتحاق بسلكي الجيش والأمن لضمان لقمة عيش متوفرة. على كل حال هذا حديث طويل وجرى خوضه سابقا على غير منصة وموقع، وتحدث به باحثون ومختصون وفندوا أسبابه ونتائجه بشكل مفصل.
الآن، ما يهم هو وضع سوريا في الوقت الحالي ووضع طوائفها وشعبها. وإيجاد طرق لردم الفجوة الكبيرة التي أحدثها نظام الإجرام السابق بين السوريين. والحال إن إنكار الانتهاكات الحالية أو إحالتها إلى حالات فردية أو تداول نظرية أن من يقوم بهذه الأفعال هم ممن ارتكب بهم (العلويون) مجازر ويحق لهم الانتقام، هو إسهام في إبقاء الفوضى الأمنية التي تطيح بأية رغبة أو محاولة لإعادة بناء سوريا وإعادة ثقة المجتمع الدولي بها. بالتأكيد هناك مرتكبون للمجازر من المدنيين والعسكريين والأمنيين، تعميم ذلك على بيئة كاملة لا يختلف عن تعميم نظام الأسد صفة الإرهاب على كل البيئات الحاضنة للثورة ومعاقبتها جميعا بالقصف والحصار والقتل والاعتقال. كان ظلمه معمم حتى على المتعاطفين الصامتين، فهل نريد لسوريا الجديدة أن تكون ظالمة وأن تنشأ فيها مظلوميات جديدة سوف تنتج بعد حين مظلوميات أخرى تتربى وتنشأ في قلب المجتمع وتتحول إلى قنابل موقتة ستنفجر في لحظة ما؟ هل تحتاج سوريا فعلا المزيد من الدماء ليتم إنقاذها؟ هذا سؤال ينبغي أن يطرحه كل من تعنيه سوريا وحاضرها ومستقبلها وينبغي أن تتم الإجابة عليه بأسرع وقت. فإن كان الجواب بنعم سوريا تحتاج المزيد من الدم فليسارع السوريون إذاً إلى تجديد الحرب الأهلية علها تنتهي في أسرع وقت ممكن، فثمة أجيال سورية جديدة تريد أن تعيش في بلد خال من العنف والدم. وإذا كان الجواب بلا، سوريا اكتفت من الدم إذاً ليسارع الجميع إلى إيجاد الحلول العملية لوقف هذا التسارع في الخطوات نحو المزيد من الخراب، وتحقيق الأمان الذي يكفل حماية الأبرياء من أية حالة انتقام، ويساهم في تعزيز السلم الأهلي بين السوريين، ويضع حدا لمغامرات الفلول في العبث بالأمن، ويوقف الإعلام المحرض عن بث أخبار تزيد في حالة الاحتقان بين السوريين، سواء بين الطوائف أو بين الإثنيات في سوريا.
والحال أنه لا يمكن للسلم الأهلي أن يتحقق فعلا من دون العدالة الانتقالية التي تضمن محاسبة كل المرتكبين والمجرمين وتنقذ الأبرياء من العقاب الجماعي. والعدالة الانتقالية يلزمها قوانين ناظمة، وقضاة غير مسيسين وغير مؤدلجين، وللأسف فإن حكومة تصريف الأعمال الحالية ليست قادرة على القيام بهذه الخطوة طالما هي مصرة على لون واحد في القضاء، لا يمتلك ممثلوه أي مؤهل علمي وقانوني للبدء بعملية المحاسبة والعدالة الانتقالية، وقد تكون هذه أول وأكبر المعضلات في تحقيق العدالة. والسلم الأهلي، فكيف سيثق السوريون بمن لا ينتمون للسلك القضائي في تحقيق عدالة انتقالية تعالج ما تم وراثته من انتهاكات لحقوق الإنسان (وبعض المعينين لديهم سجل في هذه الانتهاكات أصلا)، وتضمن الملاحقات القضائية وتقوم بإصلاح المؤسسات القضائية وتقوي سيادة القانون وتسن القوانين المحققة لذلك؟
كما أن السلم الأهلي لا يمكن تحقيقه والسلاح تحمله عناصر تنتمي لفصائل لا علاقة لها بهيئة تحرير الشام التي تمسك السلطة اليوم، وتقتحم البيوت وتسرق وتخطف وتقتل وترتكب كل أنواع الانتهاكات باسم الهيئة، كيف سيثق أي سوري يتعرض يوميا للاتهام بأنه مجرم لمجرد انتمائه لطائفة معينة بهذه السلطة التي تطالبه بتسليم سلاحه وتترك السلاح بيد جهاديين منهم غرباء ولا ينتمون لسوريا ويعاقبون السوريين لمجرد اختلافهم عنهم؟ كما أن السلم الأهلي لا يمكن أن يتحقق بالخطاب التحريضي الذي يردده بعض الإعلاميين الجدد الذين يزورون قصر الشعب باستمرار يعطون الإيحاء بأن ما يقولونه هو لسان حال الهيئة وقائدها.
السلطة الحاكمة تتحمل مسؤولية ضمان الأمن خصوصا حين تردد دائما أمام المجتمع الدولي أنها ستكون عادلة مع الجميع وأنها لن تسمح بحالات الانتقام وأنها تعامل السوريين جميعهم بوصفهم مواطنين. هذا الخطاب الموجه للغرب ينبغي أن يوجه للداخل ليبدأ الجميع بتطبيقه. لكن في المقابل على من يعتبرون أنفسهم أقليات البدء بالتصرف كمواطنين، والاقتناع أن النظام البائد قد انتهى وأن مرحلة جديدة كليا قد بدأت في سوريا، وأن مصلحتهم كسوريين تكمن في الانخراط ضمن المجتمع والتصرف ضمن سلوكيات المواطنة التي لا شيء يكفل لهم حقوقهم غيرها. وعليهم إدراك أن الحقوق يلزم قبالتها واجبات تتمثل أولا في الاعتراف بالخطأ لمن أخطأ وتسليم المجرمين المتستر عليهم، والكف عن الانجرار وراء المحرضين ومثيري الفتن سواء من كانوا يعيشون بينهم أو من يحرضون من خارج سوريا. ينبغي على هؤلاء، لاسيما العلويين، التقاط أنفاسهم والتفكير بكل ما جرى خلال عقد ونصف مضى، والتقدم خطوات باتجاه إخوتهم في الوطن الذين تعالى معظمهم على جراحهم وشدوا عليها في سبيل استعادة سوريا وإعادة بنائها وبناء مجتمع جديد خال من العنف. من واجب العلويين اليوم الإثبات للجميع بأنهم ينتمون لسوريا الوطن لا لطائفة تبدو كما لو أنها مذعورة مما يحدث. والانتماء للوطن لا يعني التخلي عن خصوصيتهم الثقافية وعادات حياتهم كما يهول المحرضون، فهذه الخصوصية وغيرها من خصوصيات المكونات السورية هي ما يشكل مجتمعا متنوعا وحيويا وثريا، لكن التعامل مع المسائل الوطنية من منطق الطائفة سوف يجلب المزيد من الدمار لهذه الطائفة أولا وللمجتمع ثانيا، ويجب أن تكون دروس الماضي ماثلة الآن أمام الجميع.
الأمن المجتمعي والسلم الأهلي يجب أن يكون اليوم خطا أحمر، ويجب التعامل معه بحزم شديد من دون أي تهاون، خاصة من قبل السلطة التي تمسك زمام الأمور اليوم، وأي تأجيل أو تهاون في حل الإشكالات التي يطرحها السوريون، كل السوريين، التي تعيق تحقيق السلم الأهلي سوف يجر سوريا إلى ما لا تحمد عقباه، لا شيء يمكنه أن يحمي سوريا اليوم سوى السلم الأهلي الذي من شروط تحققه إيمان الجميع به: سلطة متحكمة ونخب سياسية وفكرية ومجموعات بشرية عليها أن تبدأ التصرف بوصفها شعبا متنوعا لكنه موحد. هذا ما يجب أن يحدث في الحال وليتوقف الجميع عن العبث بأمن سوريا.
تلفزيون سوريا
———————————–
هل يمكن لسوريا أن تكون بلداً منزوع السلاح؟/ محمد برو
2025.01.26
منذ خمسينيات القرن الماضي حتى أشهر قليلة والشعب السوري يدفع فواتير الجيش والتسلح، التي لم تجد نفعاً في يوم واحد من تاريخ سوريا المعاصر، سيما في الميدان الذي وجدت من أجله أصلا، وهو الدفاع عن البلاد ضد العدو الصهيوني، بل كان هذا التسلح وبالا على الشعب السوري مرتين، مرة حين كان تمويل التسلح يقتطع من لقمة عيش الفقراء بالدرجة الأولى، ومن الضرائب التي لم تكن تحتملها أي طبقة صناعية كانت أم زراعية أم تجارية، الأمر الذي كان عقبة كأداء أمام أي مشروع تنموي طالما حلمت به الطبقة المتوسطة، والثانية أن هذا السلاح استخدم وبمنتهى العنف والتوحش ضد شعب أعزل طالما دفع أثمان هذا السلاح لحكومة كان يأمل أن تحميه ذات يوم فكانت قاتلته.
بالنظر الأولي إلى بناء قوة مسلحة لمواجهة عدو محدد أو محتمل، ينبغي أن تكون هذه القوة مكافئة أو مقاربة لقوة العدو ولو بشكل تقريبي، أو قادرة على ردع تغوله، وإلا كان هذا السعي ضربا من ضروب العبث والانتحار، كذلك ينبغي التزود بالسلاح من جهة حليفة، مستقرة بعلاقتها مع البلد المتزود وإلا كان هذا التزود وتلك المليارات المهدورة عرضة للتعطيل التام، في حال توقف المزود عن إمداد المتزود بقطع الغيار والذخيرة والتحديثات اللازمة، وهذه المعضلة واقعة في الحالة السورية، التي كانت فيها روسيا البلد الرئيسي في إمداد السلاح، وبالتالي المتحكم المطلق في أي سياسات تتعلق بهيمنته على المشهد السوري، وقد لمسنا كشعب سوري عقابيل هذا التحكم والتدخل المدمرة، فقد حولت قطاعات واسعة من الشعب السوري، ومن الجغرافيا السورية التي خرجت عن سيطرة نظام الأسد، إلى حقل تجارب للسلاح الروسي الجديد، وطالما تبجح الرئيس الروسي وتفاخر عبر أجهزة إعلامه أنه اختبر عشرات أو مئات الأسلحة الحديثة في سوريا.
اليوم وبعد أن دمرت القوات الإسرائيلية معظم السلاح السوري وبتواطؤ وخيانة مكشوفة مع رأس النظام المخلوع، لم تعد روسيا بلدا ضروريا لتزويد السوريين بالسلاح والذخيرة، وبات أمام السوريين خيارات مختلفة عن سابق عهدهم، هل سيبدأ السوريون رحلتهم الوعرة ببناء جيش مواجه للعدو التاريخي “إسرائيل” من الصفر بعد أن دمر جيشهم وسلاحهم؟ وهل نستطيع تقدير كم المليارات اللازمة لذلك؟ وهل باستطاعة الشعب السوري الذي يقبع كله اليوم تحت خط الفقر أن يقدم من لقمة عيشه واحتياجاته الأساسية المفرطة بالتواضع كيما يلبي موازنة التسلح؟ أسئلة في منتهى الصعوبة وربما يقترب بعضها أو معظمها من الاستحالة.
هل هناك دول سبقتنا بالتنحي عن خيار التسلح والخروج من هذا الاستنزاف المقيت وغير المجدي واهتمت بالتنمية ونجحت في ذلك؟ بالطبع يمكننا تقليب وجوه الحاضر والإفادة من تلك التجارب، وتجنيبنا والأجيال القادمة من هذه المؤونة المدمرة، وبدل هذا سيكون من المتاح للسوريين بناء نظام أمن داخلي محترف ومزود بأحدث التقنيات ليحمي السوريين من كثير من السوريين الذين شوهتهم سنوات الحرب فحولتهم لقتلة لا يتخيلون العيش من دون سلاحهم، ومدمني مخدرات وتجار ممنوعات وقطاع طرق وليس هذا محض تخيل ترِف، فهؤلاء اليوم يفتكون بالشارع السوري وينتهزون فرصة غياب القوة الوطنية التي ينبغي أن تردعهم.
بعيد الحرب العالمية الثانية، وخروج اليابان دولة مهزومة ومنكسرة ومكبلة بعقوبات ومعاهدات ترهقها تبنت دستورًا سلميًا في عام 1947، والذي يمنعها من بناء قوات هجومية أو اللجوء إلى القوة العسكرية لحل النزاعات التي يمكن أن تنشأ إقليميا أو دوليا “المادة رقم 9 من الدستور الياباني” واكتفت ببناء قوة دفاع وطنية (JSDF) واليوم تتربع اليابان على عرش كبريات الدول المصنعة والمصدرة وفي قائمة كبرى اقتصادات العالم.
كذلك كوستاريكا وبنما وآيسلاندا، وتعد سويسرا نموذجا مختلفا قليلا لكنها لا تعتمد على سباق التسلح بل تكتفي بسياسة الاحتياطيات، وتلتزم الحياد وعدم المشاركة بالنزاعات أو التحالفات العسكرية. ولن يتوقف الأمر عند هذه النماذج على ندرتها، بل يمكن اجتراح حلول جديدة تفي بضرورات الحالة السورية ويمكن تطوير قوانين دولية وتفعيل قوانين سابقة وبناء تحالفات ومعاهدات تحمي البلدان الهشة والضعيفة من اعتداءات خارجية وليس هذا بالخيال، فهناك دول عربية عديدة لا تمتلك قوات مسلحة تحميها من بعض جيرانها، ومع هذا نجدها في طليعة البلدان المستقرة والتي تنتج تنمية وطنية لا تخفى على ناظر.
هل سيكون بمقدور العهد السوري الجديد اليوم والذي ورث تركة من الدمار تنوء بها كبريات الدول والتي تحتاج للنهوض بها إلى نقطة الصفر ما يربو على خمسمئة مليار دولار وفق أرجح التقديرات، والتي من المحال التحصل عليها من دون مشروع مارشال عربي وربما دولي، ولن يرحب هؤلاء الداعمون بهدر موازناتهم لبناء جيش سوري غير مؤهل للدفاع أصلا وإذا علمنا أن الإنفاق العسكري الإسرائيلي بلغ عام 2023 ما يزيد على 27 مليار دولار، هذا علاوة على الدعم الأميركي والأوربي المنقطع النظير، سنكتشف أن المضي في خيار التسلح هو خيار عبثي ومدمر ولا طائل منه إلا إبقاء الشعب السوري دون خط الفقر لعقود مجهولة.
من الصعب جدا القبول بهذا الخيار الانسحابي والذي سيرفضه كثير من القوميين والإسلاميين وغيرهم لتعارض هذا الطرح مع العقيدة المقاومة، لكن خيار المضي في سباق التسلح سيدمر المقدرات السورية من دون أدنى ريب.
هل سيكون التطور العلمي والأخلاقي القادم خادما لهذه التوجهات السلمية ومعززا لصعودها؟ بدل الحروب التي تفتك بالأمم وتستنزف المقدرات ويتسيد عبرها المتوحش الأقوى، سؤال وأمنيات طيبة برسم انتظار مستقبل أفضل للبشرية جمعاء، مستقبل يكون فيها صوت الحكمة والعدل متفوقاُ على صوت البارود.
———————————
ملاحظات حول المؤتمر الوطني/ عبسي سميسم
26 يناير 2025
لا يزال الحدث الأبرز والمفصلي الذي سيتحدّد بموجبه شكل سورية الجديدة هو المؤتمر الوطني الذي سيجمع ممثلين عن كل مكونات الشعب السوري، والذي سيقوم بحل مجلس الشعب وانتخاب لجنة لصياغة دستور جديد للبلاد، وقانون انتخابات، يرسمان ملامح الدولة السورية، إلا أن الأهم في هذا الحدث ليس المؤتمر بحد ذاته، وإنما آليات تطبيقه، كون تلك الآليات هي الاختبار الأهم لمدى تطبيق الإدارة الجديدة لخطابها النظري بشكل عملي من خلال اختيار ممثلين حقيقيين للسوريين، في هذا المؤتمر، وفق آليات واضحة وشفافة.
ولم تعلن الإدارة الجديدة حتى الآن عن الجهة التحضيرية لهذا المؤتمر ولا عن الإجراءات التي ستتبعها في اختيار الممثلين. ولكن هناك آلية سُرّبت عبر مصادر مقربة من الإدارة الجديدة، تقوم على اختيار ممثلين على عدة مستويات، إذ سيضم المؤتمر بحسب تلك الآلية نحو 1200 ممثل ينقسمون إلى مجموعة فئات تمثيلية، إحداها تمثل قطاعات جغرافية (محافظات) وممثلون عن العشائر والقبائل، وآخرون عن الطوائف الدينية، وممثلون عن القوميات غير العربية، وممثلون عن الاقتصاديين ورواد الأعمال، وممثلون عن المثقفين، وممثلون عن الفنانين والمبدعين، بالإضافة إلى ممثلين عن الحراك الثوري خلال فترة الثورة.
يبدو من الآلية المتّبعة في اختيار الممثلين أن بعض المجموعات التي سيتم تمثيلها في المؤتمر هي ضرورة لهذا المؤتمر، كممثلي المثقفين والاقتصاديين والفنانين، إلا أن إشراك ممثلين عن طوائف وقوميات وقبائل، قد يوقع المؤتمر بعدد من الإشكاليات، لعل أبرزها هو أن يتحوّل بعض ممثلي الطوائف الدينية والقوميات إلى أذرع لبعض الدول، أو أن يؤسسوا لتدخّل خارجي من بعض الدول تحت عناوين حماية طوائف دينية بعينها أو قومية بعينها أو حتى قبيلة بعينها. هذا الأمر من شأنه تحويل الممثل من ممثل لمنطقة بكل مكوناتها محمي بإطار وطني سوري إلى ممثل لفئة معينة محمي من دولة معينة. هذا بالإضافة إلى أن التمثيل بهذه الطريقة ربما يحرم مناطق من تمثيل منطقي يتناسب مع حجمها على حساب تمثيل مناطق أخرى بعدد كبير من الممثلين بصفات أخرى، لذلك ربما كان من الأفضل أن يكون تمثيل تلك الفئات تمثيلاً جغرافياً بحيث يتم مضاعفة التمثيل المناطقي ليكون على مستوى النواحي بدل التمثيل على مستوى المناطق والمحافظات (تحتوي سورية على أقل من 400 ناحية)، وبالتالي يضمن أي مكوّن ديني أو عرقي مهما كان صغيراً تمثيلاً ضمن هذا المؤتمر، ولكن بصفته ممثلاً للناحية التي ينحدر منها وليس للمكون الديني أو العشائري أو القومي الذي ينتمي إليه. كما أن إجراءات تنظيم هذا المؤتمر يجب أن تتسم بالشفافية والوضوح، وأن يطلع عليها الجميع كي لا يضيع السوريون فرصة قد لا تتكرر، في حال فشلوا في بناء دولة حضارية على أسس صحيحة.
العربي الجديد
———————————–
السوريون: هواجس وطموحات/ عبد الباسط سيدا
تحديث 26 كانون الثاني 2025
الوضع السائد في سوريا راهناً يذكر بعض السوريين في أوجه كثيرة بالوضع الذي شهدته إيران في أوائل عام 1979، (هذا مع ضرورة الإقرار بالتباينات على صعيد التوقعات والآمال) حينما غادر شاه إيران البلد ليكون الملك السابق الباحث عن مكان يستقر فيه كلاجئ، وذلك بعد مظاهرات واحتجاجات واعتصامات واضرابات امتدت على أكثر من عام، شاركت فيها القوى السياسية الإيرانية والشرائح الشعبية من مختلف التوجهات الإسلامية والليبرالية والاشتراكية والقومية.
ورغم أن الخميني في منفاه الباريسي كان قد أعطى وعوداً فحواها بأن النظام الجديد سيتجاوز سلبيات عهد الشاه، وسيفسح المجال أمام الجميع للمشاركة؛ وسيحترم التعددية المجتمعية والسياسية، إلا أن الذي حصل كان عكس ما وعد به، بل على النقيض منه تماماً. فقد تفرّد بالحكم، وأبعد كل الخصوم السياسيين حتى ضمن المؤسسة الدينية نفسها، بشتى السبل (تهميشاً، وإبعاداً واعتقالا واغتيالاً). أعلن الحرب على المكونات المجتمعية الإيرانية غير الفارسية؛ ونفذ حملة إعدامات غير مسبوقة بحق ضباط الجيش والأجهزة الإيرانية. ثم اعتمد سياسة تصدير الثورة بهدف تنفيذ مشروعه التوسعي في الإقليم، وتخدير الداخل بنشوة الانتصارات في الخارج. كما عطّل سائر المشاريع التنموية تحت غطاء أولوية المشروع النووي، هذا فضلاً عن مختلف التدابير والإجراءات القمعية المتبعة حتى يومنا هذا رغم مرور نحو 46 على الثورة الخمينية.
هل ستشهد سوريا وضعاً مماثلاً مستقبلاً (وهذا أمر لا نتمناه ولا نتوقعه حالياً)، وأن كل ما يقال ويروّج من جانب مسؤولي الإدارة الجديدة لا يخرج عن نطاق الجهود المبذولة من أجل التمكن عبر القبض على مفاصل الحكم، وفرض الشروط على المخالفين في الرأي والتوجه بخصوص طبيعة النظام القادم، وماهية الدولة وشكلها، وطبيعة إدارة التنوع وغيرها من المسائل في سوريا الجديدة، كما يقول ويتساءل بعضهم؟
أسئلة كثيرة تطرح هنا وهناك على مستوى الأفراد والجماعات والقوى السياسية، خاصة في مرحلة ما بعد نشوة النصر العارمة التي عاشها السوريون بصورة عامة، واصطدامهم مجدداً بالواقع المعيشي القاسي، وبمستوى الخدمات الأساسية المتدنية، إن لم نقل شبه المعدومة في سائر المناطق؛ وذلك كله من تبعات توقف العجلة الاقتصادية في البلاد، وانتشار ظاهرة الفساد في عهد سلطة آل الأسد التي وجدت، أسوة بالنظام الإيراني و«حزب الله»، أن الاستثمار في المخدرات هو أقصر الطرق للحصول على أموال طائلة لصالح المتنفذين هنا وهناك. هذا إلى جانب ما تلحقه تلك الآفة من آثار تدميرية بالمجتمعات، سواء على الصعيد الوطني أم الإقليمي التي يعتبر محور المقاومة مسألة تخريبها، تمهيداً لتدميرها، من أهدافه الأساسية.
أوساط لافتة في المجتمع السوري من مختلف الخلفيات، ترى في التصريحات المهدئة التي يطلقها مسؤولو الإدارة في الإعلام والمناسبات بأنها محاولة لطمأنة المكونات المجتمعية السورية. ولكن هذه التصريحات لا تكفي، من وجهة الأوساط المعنية، لوحدها ما لم تقرن بالأفعال؛ وبموجب خريطة طريق واضحة؛ وبناء على إجراءات قانونية سليمة لا تتقاطع مع أمزجة الميدانيين التي قد توحي بوجود تباينات، أو حتى خلافات، ضمن الإدارة، أو ربما تلقي الضوء بأن التعليمات التي يحصلون عليها، ويلتزمون بها لا تتطابق مع تلك التصريحات المطمئنة. أو ربما أن الأمر له علاقة بالكفاءة والمؤهلات غير المتناسبة مع المواقع التي يتصدرونها.
ولعله من المفيد أن نشير في هذا السياق إلى عدم إمكانية الترويج لفكرة كتابة التاريخ السوري على صفحة بيضاء من الصفر. فهذا التاريخ يمتد على مدى أكثر من مئة عام، وقد شهد في المراحل الأولى من عمر تأسيسه استقراراً نسبيا، خاصة في مرحلة ما بعد الاستقلال، ولكن سرعان ما بدأت الانقلابات العسكرية التي كانت نتيجة التفاعل بين النزعات الشخصية وحسابات القوى الدولية المتصارعة على سوريا؛ إلى أن تمكن حزب البعث من السيطرة على مقاليد الحكم بانقلاب عسكري عام 1963، ورفع شعارات كبرى لم يلتزم بها، ولم يسع في يوم من الأيام إلى تحقيقها؛ وإنما كانت مجرد عدة شغل الغاية منها التعبئة والتجييش والمزاودة.
ولم تمض على حكم البعث سوى سبع سنوات حتى تمكن حافظ الأسد من إزاحة سائر خصومه بمختلف الطرق، بما فيها الاعتقال والاغتيال؛ وأسس لحكم عائلي مافياوي مستبد فاسد مفسد استمر لمدة 54 عاماً.
وهذا فحواه أن السوريين لديهم تجربة مريرة مع الشعارات والوعود، ولديهم دراية تامة بكيفية تحول المؤقت في منطقتنا إلى وضعية دائمة. كما أن ذاكرة الناس متخمة بالأدلة الفاقعة على تهميش بعض المكونات المجتمعية بل اضطهادها واتهامها بكل التهم الباطلة، والأمثلة التي تؤكد إهمال بعض المناطق، وجعلها ميدانا لنهب الثروات والمال العام والخاص هي أكثر من أن تحصى؛ وكل ذلك كان يتم في ظل نظام مركزي أمني قمعي يتحكّم بمفاصل الدولة والمجتمع والحياة الخاصة للأفراد.
وبناء على ما تقدم بالإضافة إلى غيره، يتوجّس السوريون من مختلف المخاوف، وهم في انتظار تبلور الأمور وتشكل ملامح نظام الحكم الجديد وبنود الدستور المطلوب ليكون بمثابة عقد اجتماعي وطني جامع يعترف بحق جميع السوريين، وفي سائر المناطق بالمشاركة في الإدارة والحكم والثروات، والاستفادة من الخطط التنموية الوطنية. مع ضرورة مراعاة وضعية المناطق التي أهملت وهمشت طوال عقود، ويشار هنا بصورة خاصة إلى المناطق الشمالية والشمالية الشرقية (الرقة ودير الزور والحسكة) والجنوبية، رغم تمركز ثروات البلد الأساسية في هذه المناطق، ويُذكر على سبيل المثال لا الحصر: النفط والغاز والمياه.
وما يزيد من حدة التوجس لدى الناس يتمثل في الخطاب الطائفي العنصري البغيض الذي يستخدمه هذه الأيام عدد لا يستهان به من السوريين على شبكات التواصل الاجتماعي من مختلف المكونات المجتمعية، سواء الدينية المذهبية أم القومية، وفي أجواء هيمنة تأثير مزاج الجماهير، وتحوّل هذا الخطاب إلى وسيلة لكسب المزيد من الشعبية على منصات التواصل المعنية. وما يسهم في تفاقم الوضع هو غياب أصوات النخب السورية من مختلف التوجهات والانتماءات على صعيد التصدي لمثل هذا الخطاب وبيان مخاطره، بل في الكثير من الأحيان، تتفاعل النخب المعنية بشعبوية انتهازية مع ما يحصل، وتتحول إلى جزء عضوي منه عبر اللهاث خلف تسجيل النقاط الرخيصة، واكتساب بعض الشعبية على تلك المنصات. وهكذا تصبح الاختلاطات أكثر خطورة، وتنذر بالمزيد من التدهور والانحدار، هذا بينما يحتاج السوريون في يومنا هذا، وأكثر من أي وقت مضى، إلى الخطاب الوطني الجامع المطمئن.
ومن النتائج الظاهرة لهذا النزوع التنافري بين السوريين في مختلف المناطق الاحتماء بالولاءات الفرعية عوضاً عن الولاء الوطني العام؛ والاستقواء بالقوى الخارجية على حساب الاستقواء بالروحية الوطنية وبشركاء الوطن والمصير. وكل ذلك ينذر بمزيد من التفكك في النسيج المجتمعي الوطني الذي هو بأمس الحاجة، بعد كل ما حصل، إلى الترميم والتحصين.
كما أن إصرار الإدارة الجديدة على اعتماد المركزية التي أثبتت فشلها الذريع في عهد الاستبداد الطويل؛ بل كانت هذه المركزية وسيلة من وسائل الاستبداد للتحكم الصارم بمفاصل الدولة والمجتمع أمر يثير الاستغراب والتساؤل، فهذا الموضوع من المفروض أن يترك للهيئة الدستورية التي من المفروض أن تنبثق عن لقاء يؤطر الحوارات الوطنية، إلى جانب الهيئات الإدارية الأخرى التي من المفروض أن تضفي، ولو بصورة مؤقتة، قسطا من المشروعية على الحكومة المؤقتة وقراراتها في المرحلة الانتقالية، وذلك في انتظار الانتهاء من عملية كتابة الدستور وعرضه على الاستفتاء الوطني العام، ومن ثم إجراء الانتخابات الشفافة النزيهة بحضور مراقبين عرب ودوليين.
أما الحديث عن تعديل المناهج، أو ادخال التعديلات المثيرة للخلافات فيها، أو رسم معالم السياسة الاقتصادية، لا سيما في مجال الخصخصة منذ الآن، وكذلك الأمر بالنسبة للنظام القضائي ونقابة المحامين وغيرها؛ أو الاصرار على التعامل مع السوريين خارج نطاق هيئة تحرير الشام كأفراد وليس كممثلين لكيانات سياسية أو مجتمعية أو منظمات مجتمع مدني أو غيرها، فهذا كله لا يخدم عملية الوفاق الوطني التي يحتاجها السوريون إلى الحد الأقصى للمحافظة على وحدة نسيجهم المجتمعي ووحدة وطنهم.
وهذا الوفاق لن يكون من دون مصالحة وطنية شاملة، تبدأ منذ الآن عبر لجان خاضعة لإشراف شخصيات سورية لها وزنها ومصداقيتها في الميدان الوطني، ومشهود لها بتوجهاتها الوطنية، وعدم انحيازها لهذا الفريق أو ذاك بل ظلت ثابتة على انحيازها الوطني؛ ومعروفة بوضعها دائما للأولويات السورية في مقدمة كل الأولويات. وهذه المصالحة لا تعني بأي شكل من الأشكال إصدار العفو عن المجرمين الذي ارتكبوا الفظائع بحق السوريين قتلا وتعذيبا ونهبا، كما لا تعني هذه المصالحة عقد مساومات مع فلول سلطة آل الأسد، من الذين ساندوها حتى آخر لحظة، تحت ستار التسويات.
السوريون في انتظار الأول من آذار/مارس القادم، ليتجاوزا دائرة الوعود إلى ميدان العمل الفعلي بهدف التحاور والتوافق على نوعية الحكم وشكل الدولة التي من المفروض أن تكون حاضنة لسائر مواطنيها من دون أي تمييز. وكل ذلك من شأنه تمهيد الطريق أمام السلام المجتمعي والنهوض العمراني، وتعزيز ثقة السوريين بإمكانية تجاوز الأيام السوداء، والتأسيس لمستقبل زاهر لأجيالنا المقبلة.
*كاتب وأكاديمي سوري
القدس العربي
—————————-
اللاشعور السياسي.. سورية أنموذجاً/ حسين عبد العزيز
26 يناير 2025
إذا كان فرويد قد اهتم باللاشعور عند الفرد من حيث هو المكان الذي يضم الغرائز والمكبوتات الدفينة غير الواضحة في ذاتها، فإن كارل يونغ اهتم باللاشعور الجمعي من حيث هو العواطف والأفكار القبلية التي تتكون في الخلفيات التاريخية للثقافة والتقاليد (ذاكرة الإنسانية النفسية)، وتعبر عن نفسها في لحظات تاريخية معينة على شكل مواقف وسلوكيات تشكل انعكاساً لغرائز ودوافع غير عقلانية.
يظهر اللاشعور الجمعي دائماً أثناء الحياة الاجتماعية العادية، لكن مع تعقّد المجتمعات بدأ ينشأ لاشعور سياسي خاص بالجماعات المنظمة، تعبيراً عن وعي ما قبل مدني ـ حداثي في اللحظات التاريخية الفارقة التي تضرب الاجتماع الإنساني، خصوصاً في حالة الثورات الاجتماعية. وهذا الطابع الأيديولوجي هو ما يميز الجماعات المنظمة (جماعة عضوية كالقبيلة والعشيرة، حزب، أمة) عن الجماعات العامة غير المنظمة، وهذا البعد الأيديولوجي يسميه ريجيس دوبريه باللاشعور السياسي، كتمييز عن اللاشعور الجمعي الذي تحدث عنه يونغ، الخاص بالجماعات غير المنظمة.
واللاشعور السياسي يشير إلى الأفكار والمشاعر التي تؤثر على السلوك السياسي دون أن تكون واعية بالضرورة، وهذا اللاشعور يلعب دوراً مهماً في تشكيل السلوك السياسي، ويساهم في استمرار الأزمات الاجتماعية والسياسية. وما يميز اللاشعور السياسي أنه بنية من علاقات جمعية تمارس على الأفراد والجماعات ضغطاً قوياً، قد لا يقاوم (علاقات عشائرية، قبلية، طائفية، مذهبية، إثنية، حزبية ضيقة)، تستمد قوتها وفعاليتها مما تقيمه من ترابطات بين الناس تؤطر عملهم. بمعنى آخر، يريد دوبريه القول: ليس وعي الناس هو ما يحدد وجودهم السياسي، بل الوجود الاجتماعي الخاضع لمنظومة قاهرة من العلاقات المادية، هو ما يحدد وعيهم.
أخذ محمد عابد الجابري مقولة اللاشعور السياسي عن دوبريه من دون أن يأخذ حمولتها الأيديولوجية التاريخية، فدوبريه كان يتحدث عن مرحلة تاريخية في أوروبا الصناعية التي أدت فيها منظومة العلاقات الاقتصادية المتطورة إلى الهيمنة على الفعل الجماعي، دافعة بالعلاقات العشائرية والطائفية إلى الخلف، دون أن تلغيها تماماً، لكنها لم تعد فاعلاً رئيساً. وقلب الجابري مفهوم اللاشعور السياسي عند دوبريه، فالعلاقات الاجتماعية ذات الطابع العشائري والطائفي لا تزال تحتل في مجتمعنا العربي موقعاً أساسياً، بينما العلاقات الاقتصادية (علاقات الإنتاج)، لا تهيمن على المجتمع إلا بصورة جزئية. وأضيف هنا أيضاً العلاقات السياسية (مواطنة، حقوق الإنسان، الحريات المدنية والسياسية، الديمقراطية) فتأثيرها قليل جداً، خصوصاً لدى الجماعات.
وهكذا، يتابع الجابري القول إذا كانت وظيفة اللاشعور السياسي عند دوبريه هي إبراز ما هو عشائري وديني في السلوك السياسي في المجتمعات الأوروبية المعاصرة، فإن اللاشعور السياسي في مجتمعنا العربي هو بالعكس: إبراز ما هو سياسي في السلوك الديني والعشائري. ما يريد الجابري قوله إن في الغرب المعاصر ثمة ظاهرة سياسية قائمة في ذاتها، تدفعها وتوجهها عوامل سياسية محضة، مع تأثيرات دينية وعشائرية بسيطة، أما في عالمنا العربي، فليس ثمة ظاهرة وسلوك سياسي محض قائم بذاته، بل سلوكيات دينية ـ عشائرية ـ طائفية ـ إثنية تأخذ لباساً سياسياً. ولنا في العالم العربي أمثلة صارخة جداً: من لبنان إلى العراق، فاليمن، وليبيا، والسودان، وسورية.
الفارق بين السنّة وباقي الأديان والطوائف الدينية يكمن في أن السنّة في العالم العربي هم الأمّة (هوية الأمّة)، كما الحال في إيران حيث الشيعة تمثل هويّة الأمّة، وكما في أميركا حيث المسيحية البروتستانتية أمّة تجسّد هوية البلاد، وكما في فرنسا وإسبانيا حيث المسيحية الكاثوليكية هي الأمة. بخلاف ذلك، لا تشكّل باقي الطوائف أمّة، ولا تنظر إلى نفسها على أنها كذلك، بل تنظر إلى نفسها باعتبارها أقلية، والتفكير الأقلوي مضاد للتفكير الوطني دائماً من حيث الجوهر، لأن منطق الطوائف والإثنيات الأقلوية في اللحظات التاريخية الفارقة يكمن في الحفاظ على نفسها جماعةً، حتى لو كان الثمن نقل البلاد من مرحلة نظام استبدادي يتأذى منه الجميع على مستوى الفرد، إلى نظام ديمقراطي يستفيد منه كل أفراد الوطن. لكن هذا الوعي الأقلوي، ليس بالضرورة مطابقاً للواقع، فقد يكون وعياً زائفاً نابعاً من مخيال اجتماعي ـ سياسي، تعضده ذاكرة تنتمي إلى تاريخ غابر لم تعد حوامله الاجتماعية والسياسية والثقافية قائمة الآن، في زمن العولمة الثقافية والسياسية، وفي زمن أصبحت فيه حقوق الإنسان والمواطنة والديمقراطية والليبرالية والعلمانية مهيمنة على الوعي الإنساني كافة.
اليوم، وبعد سقوط نظام الأسد، لا يزال اللاشعور السياسي يلعب دوراً مهماً لدى الأقليات، سواء أكانت إثنية (الأكراد) أم دينية (المسيحيين) أم طائفية (الدروز) أم أيديولوجية (جماعات إسلامية مسلحة هي جزء من منظومة الشرع العسكرية). وتظهر انعدام الثقة بين مكونات المجتمع السوري بحدة في هذه المرحلة: “قوات سوريا الديمقراطية” والتشكيلات العسكرية الدرزية، وتشكيلات أحمد العودة في درعا، وفصائل إسلامية مدعومة من تركيا، ترفض جميعها تسليم سلاحها، وإن قبلت بذلك فهذا مشروط بأن يكون دخولُها كجماعات بقاءها مكونات عسكرية إثنية وطائفية قائمة بذاتها تحت عنوان عام هو الجيش. وأيضاً، اشترط الأكراد والدروز عدم تسليم السلاح للجيش الوليد إلا بعد تشكيل نظام سياسي يتفق الجميع عليه.
هنا يتداخل اللاشعور السياسي لدى هذه الجماعات مع شعور سياسي واع: الأول يُعبر عن مكنونات ذاتية والثاني يُعبر عن عوامل موضوعية. والحقيقة يصعب التمييز بينهما في هذه اللحظات التاريخية الفارقة، فأيهما هو الدافع للسلوك الجمعي؟ هل هي المكبوتات السياسية اللاواعية في عقل الجماعة؟ أم هي عوامل سياسية موضوعية براغماتية نابعة من مفصل تاريخي مهم، يجب استغلاله للضغط على الإدارة السياسية والعسكرية الجديدة من أجل بناء دولة وطنية يتساوى فيها الجميع سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً؟
تتوقّف الإجابة عن هذه الأسئلة ليس على سلوك الأقليات فقط، بل على سلوك الأكثرية السُنية التي أصبحت اليوم في مركز السلطة، فهي مطالبة ليس بتقديم تطمينات عامة فحسب، بل بتقديم برنامج سياسي واضح المعالم، تكون الديمقراطية والليبرالية جزءاً أصيلاً فيه. وفي عالم بناء الدول، لا أهمية للتطمينات الاجتماعية والدينية والسياسية إن لم تكن مؤسسة ومؤطرة بالقوانين، وبمشاركة الجميع.
اللاشعور السياسي بالمعنى الذي تحدث عنه دوبريه وبالمعنى المعاكس الذي تحدّث عنه الجابري، ما يزالان حاضرين في خطاب وسلوكيات جميع المكونات السورية، بما فيها الإدارة الحاكمة الجديدة. ويبقى الفارق في أي من اللاشعورين سيتغلب في نهاية المطاف.
العربي الجديد
————————–
“قسد” المشكلة الأصعب/ أحمد مظهر سعدو
2025.01.26
لعل من أهم وأصعب المشكلات التي تعترض طريق الإدارة الجديدة في دمشق، وبعد أن تم كنس الطغيان الأسدي وكذلك الاحتلال الإيراني ومعه معظم الوجود والهيمنة الروسية، عن مجمل الجغرافيا السورية، يبقى وجود ميليشيا وتشكيلات “قسد” في شمال شرقي سوريا، وذاك الدعم الأميركي لها، عبر وجود وتموضع قواعد أميركية عدة في تلك المنطقة من سوريا. ويبدو أن كل الحوارات والنقاشات والمفاوضات البينية التي جرت بين إدارة العمليات العسكرية، وأيضاً الساسة في دمشق، لم تنتج ما هو إيجابياً، وما هو من الممكن أن يكون حلًا سلميا ومعقولًا، يعيد هذه القوات والتشكيلات إلى وضعها الطبيعي، داخل المؤسسة العسكرية السورية الجديدة، ويسهم بالضرورة في وحدة الوطن السوري، ثم يقوم بإبعاد كل العناصر الإرهابية من منظمة (ب ك ك) الموجودة والمنضوية داخل أطر “قسد” العسكرية والتنظيمية، ويعيدهم من ثم إلى جبال قنديل، أي من حيث جاؤوا قبل ذلك إلى شمال شرقي سوريا.
حيث ما يزال مظلوم عبدي قائد قوات “قسد” يراهن على استمرار الدعم الأميركي، وما برح يعتقد وتنظيمه معه، أن الوجود الأميركي، سيبقى إلى الأبد، وأن السياسة الأميركية لن تتغير، ومن ثم فإن بقاء “قسد” مسألة ليس فيها نظر، وأن البقاء هناك في شمال شرقي سوريا، سيؤسس لبناء دويلة انفصالية، تنجز الحلم الكردي، لبعض آل “قسد” وما يقترب من تفكيرهم السياسي، وهو ما يزال يعتقد أن الفرصة ما انفكت مواتية له لإنجاز ذلك.
لكن هذا التفكير غير الواقعي، ليس لديه الحظوظ الكافية، للتحقيق ميدانياً لأسباب كثيرة منها:
– إن الإدارة الأميركية الجديدة، أي إدارة دونالد ترمب تمتلك علاقات طيبة مع الأتراك، وتريد أن تتساوق مع الرؤية التركية، في ذلك، وتأمين الأمن القومي التركي، خاصة وأن مصالح أميركا كبيرة ومتعددة مع الدولة التركية، التي هي عضو مهم في حلف الناتو.
– يضاف إلى ذلك فإن الأميركيين يريدون هدوءا في سوريا، بعد إزاحة نظام بشار الأسد وكنس الوجود الإيراني من سوريا، ولا يقبلون أي تمدد جديد للإيرانيين في سوريا، خاصة وأن الحديث يدور حول دور إيراني كبير في دعم “قسد” عسكرياً.
– كما أن الشعب السوري بكافة فصائله العسكرية، عدا ميليشيا “قسد” قد وافق على حل الفصائل واندماجها في مؤسسة عسكرية سورية صرفة، تتبع منهجية وتكوين العمل العسكري السوري الوطني، الذي يحمي الوطن، ولا يحمي تشكيلات حزبية أو ميليشياوية.
– وأيضاً فإن شرط “قسد” المطروح للاندماج في الجيش السوري والمؤسسة العسكرية التي تتبع وزارة الدفاع في الحكومة السورية، الشرط الذي يقول ببقاء “قسد” كتلة عسكرية صلبة، ومنفصلة لا تخضع لمتطلبات ومحددات التوزيع والتفتيت، مع لم وجمع، مسألة لا يمكن أن تحصل في الدول التي تحترم نفسها، أو تريد بناء أوطانها وليس كياناتها ومحاصصاتها، بشكل علمي وعسكريتاري صحيح.
– كما تجدر الإشارة إلى أن اللامركزية السياسية التي يتحدث عنها أهل “قسد” ومنظريهم، لا يمكن أن يتم التفاهم فيها وعلى أساسها، بل إن لعل فكرة اللامركزية الإدارية التي قد تكون الأقرب إلى العقلانية السياسية والتطبيق العملي، ضمن أطر وسياقات إعادة بناء سوريا الوطن الواحد المتناسق والمندمج والموحد.
– ولا يجب أن يغيب عن مخيال أهل “قسد” ومن في حكمهم، من أن الدولة التركية التي عانت ما عانت من استمرار إرهاب “قسد” وتنظيم (ب ك ك) لا يمكن أبداً أن تنسحب من الأراضي السورية مع بقاء “قسد” على وضعها الحالي من دون حل نفسها والاندماج في أتون الجيش السوري المنضبط. ولعل شرط تركيا كان وما يزال هو إزالة إرهاب (حزب العمال الكردستاني) وتفكيك “قسد” وتنظيمها العسكري الذي أقلق وما يزال يقلق الدولة التركية.
إن الوعي المطابق المفترض لدى “قسد” يحتم عليها إذا ما أرادت البقاء كتنظيم سياسي سوري، أن تؤسس لتفكير سياسي جديد مختلف يواكب التغييرات التي حصلت في سوريا، ومن ثم يعيد تأسيس نفسه من جديد، على أن “قسد” ومن معها، جزء من سوريا الواحدة الموحدة، وعليهم التفاهم مع باقي الشعب السوري، وإلا فإن الحل العسكري المحتمل سيكون آخر العلاج وهو الكي، وهو ما لا يريده السوريون، ولا يحبذه الساسة في دمشق، ويفترض أن لا يقبل به من يفكر بمستقبله ومستقبل شعبه ووطنه، إذ عليه أن يتنازل بعض الشيء من أجل بقائه، وبقاء الوطن السوري موحداً وحراً. فهل ستستمع “قسد” إلى ذلك، وإلى صوت العقل، بعد أن تدرك أن الأميركيين لن يكونوا معها وفي صفها ضد تركيا أو ضد الإدارة الجديدة في دمشق. أم أنهم سيبقون وقد ركبوا رؤوسهم ويصرون على الحل العسكري، الذي سيزيد آلام السوريين، وسيقض مضجع سوريا الجديدة، سوريا المستقبل الأفضل.
خاصة بعد أن استمعوا بالأمس القريب إلى تصريحات جيمس جيفري، المبعوث الأميركي الخاص السابق إلى سوريا، حيث قال “الولايات المتحدة لم تعد تقدم وعوداً جديدة للأكراد في سوريا بعد هذه التطورات، كما أنها لم تدعم فكرة إنشاء جيش منفصل داخل الدولة السورية”.
كما أنه لم يأل جهداً في تفصيل أوضاع السياسات الأميركية القائمة والمستقبلية مع تركيا عندما قال “إن هناك توازناً مع تركيا، وأن واشنطن لن تتخلى عن دعم قوات (قسد) في حال تعرضت لضغوط عسكرية، رغم أنها ستشجع الأكراد السوريين على فهم أنه لا توجد ضمانات أبدية لدعم دولة داخل دولة في شمال شرقي سوريا”.
والواقع يقول إن كل الظروف الإقليمية والمحيطة، تشير إلى خطأ عدم الاندماج داخل المؤسسة العسكرية السورية، كما تبين أن أجمل هدية يمكن أن يقدمها الفصيل العسكري، أي فصيل، هو اندماجه داخل أطر المؤسسة العسكرية السورية، التي تتبع وزارة الدفاع، مهما كان هناك من خلافات أيديولوجية، لأن الوطن السوري هو الأهم والوطن الواحد كان ومازال حلم كل السوريين الذي لن يتراجع السوريين أبداً عن إنجازه عاجلًا أو آجلًا وعى ذلك أم لم يعِه، هؤلاء الذين يبحثون عن مشاريعهم الصغيرة على حساب الوطن السوري ووحدته.
تلفزيون سوريا
——————————–
عن معارك شمال شرق سورية/ فاطمة ياسين
26 يناير 2025
بدعم وتشجيع من الولايات المتحدة تأسّست قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، بتحالف محلي من الخليط السكاني خلف نهر الفرات من الناحية الشرقية، وضمّ مجموعات مسلّحة عربية مناهضة لحكم بشّار الأسد، بالإضافة إلى مكوّنات آشورية وسريانية وأرمينية، ولكن العمود الرئيس فيها قوات كردية كانت ناشطة تحت اسم وحدات حماية الشعب، نالت شهرةً بعد معارك خاضتها في عين العرب (كوباني) ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). وقد كانت هذه القوات عند الولايات المتحدة والتحالف الدولي صِمَام أمان في وجه “داعش”، ونالت الدعمين، العسكري والمادي، تحت هذا الشعار، وتعزّز وجودُها ببقاء ألف عنصر أميركي متمركز على الأرض دعماً لها، وقد شكلت هذه القوات مصدر إزعاج شديد لتركيا، نظراً إلى هيمنة الكرد ودخول مجموعات من حزب العمّال الكردستاني ضمن صفوف هذه القوات والتحكّم فيها، الأمر الذي قاد تركيا إلى إعلان نيتها بشن هجمات وقائية في سورية تعزّز بها حدودها ضد حزب العمّال.
بانحسار تنظيم الدولة الإسلامية ونجاح قوات ردع العدوان بالوصول إلى دمشق، وتمكّنها من ترسيخ أقدامها٬ بقيت قوات سوريا الديمقراطية عامل قلق لحكومة دمشق الجديدة، التي حاولت في الأسابيع الستة الماضية التحاور مع تلك القوات وبمباركة أميركية. وقد التقى قائد الإدارة السورية الجديدة، أحمد الشرع، قائدَ هذه القوات، الجنرال مظلوم عبدي، من دون أن تتمكّن المفاوضات بينهما من الوصول إلى حل، رغم ما تسرّب من الاتفاق على تقسيم الثروة النفطية. وبقيت معضلة طريقة الإدماج العسكري للقوات الكردية ضمن وزارة الدفاع الوليدة، فالجانب الكردي يصرّ على التعامل مع قواته بشكل خاص، ويقاوم تذويبها التام داخل مكوّنات الوزارة، الأمر الذي رفضه بشدة وزير الدفاع، مرهف أبو قصرة، وألمح إلى أن الوزارة يجب أن تكون سورية الطابع وعدم طغيان لون محدّد على تشكيلها.
تشجّعت بعض المكونات العربية المنضوية تحت قوات سوريا الديمقراطية على التخلي عنها، خصوصاً الموجودة في دير الزور، وشهدت خطوط التماس، خاصة حول سد تشرين ومناطق من دير الزور، اشتباكات، لكن الساحة الأكثر سخونة كانت منبج التي تناوب الطرفان على السيطرة عليها، وشهدت حالات تفجير سيارات مفخّخة. ومع اكتمال تنصيب الرئيس الأميركي ترامب اشتعلت خطوط التماسّ من جديد، واشتركت هذه المرّة إدارة العمليات العسكرية التي يديرها أحمد الشرع فعلياً في المعارك، وبدأت بالسيطرة على بعض الأراضي، حتى انحسرت بالتدريج المسافة بين وجود قوات العمليات العسكرية ونهر الفرات، وسيطرت إدارة العمليات على مدن هامة، مثل معدان جنوب مدينة الرقة، وهي تقترب ببطء من مركز المدينة، وتحاصر من ثلاثة جوانب دير حافر شرق حلب، وهدفها الوصول إلى مياه نهر الفرات قرب الطبقة، لتقترب وتشارك القوات القادمة من معدان، حيث تلتقي في الرقّة، وهو هدفٌ غير بعيد.
لم تعُد الولايات المتحدة مهتمة كثيراً بقوات سوريا الديمقراطية، وقد قالت إن الهدف قد تحقق، وظهر رد فعل فرنسي مشابه، ما فتح الطريق أمام إدارة العمليات للتحرّك الذي باركته تركيا بمزيدٍ من الدعمين، الجوي والسياسي، ولكن من دون أن يكون الهدف النهائي واضحاً من الهجوم، أو إن كانت القوات ستتابع تقدّمها في مناطق شرق الفرات، وصولاً إلى عاصمة “قسد” في الحسكة. وتستطيع المعطيات التي تملكها إدارة العمليات وخلفها تركيا أن توصلها إلى الحسكة فعلاً، ولكن هذا المجهود العسكري يجب أن يترافق مع مجهوداتٍ دبلوماسية كبيرة للإدارة الجديدة للولايات المتحدة التي قد تبدو راضية إن حظيت باتفاق معقول، خاصة إن بقيت القوات الكردية وحيدة، فمن المتوقّع أن تتخلى عنها كل المكونات العربية، وقد تلحق بها المكوّنات الأخرى على دفعات، ولا تبدو سلطة الحكم الذاتي العراقية التي لها حساباتها الخاصة قادرةً على تقديم شيء على الأرض. لذا قد يكون على مظلوم عبدي أن يجري اتفاقاتٍ مرنة لتجنّب سيناريوهات “مؤلمة”.
العربي الجديد
——————————
تركيا: الملف الكردي إلى الواجهة من جديد/ سمير صالحة
2025.01.26
طغى حريق أحد أهم الفنادق السياحية التركية في منطقة بولو الجبلية وما خلفه من سقوط عشرات الضحايا والمصابين، على أجواء الزيارة الثانية التي قام بها وفد “حزب الديمقراطية ومساواة الشعوب” (ديم) المحسوب على الصوت الكردي، لعبد الله أوجلان في سجنه بجزيرة إيمرالي، في إطار محاولة سياسية جديدة تنهي نقاشات ملف مزمن في البلاد يحاول البعض في الداخل والخارج الاستفادة منه وتحريكه ضد أنقرة.
صحيح أنه من المبكر الحديث عن توقعات ونتائج المبادرة التي تأتي بعد 11 عاما على فشل المحاولة الأولى التي قادها “حزب العدالة والتنمية” عبر “منصة العقلاء”، الذين مثلوا مختلف شرائح المجتمع التركي باتجاه صناعة خارطة طريق سياسية ودستورية يتم اعتمادها. وصحيح أيضا أن الحكم على نتائج ما تحقق خلال 4 أشهر لن يكون عادلا بالمقارنة مع مشكلة يناقشها الداخل التركي منذ 40 عاما تحديدا، وتعود جذورها إلى قرار أوجلان اللجوء إلى رفع السلاح، مدعوما من عواصم وأجهزة ومنظمات محلية وإقليمية وفرت له المستلزمات اللوجستية والمساحة الجغرافية والغطاء السياسي الذي يحتاجه في مواجهة الدولة التركية. إلا أن الجديد هذه المرة بالمقارنة مع ما جرى عام 2013 هو:
– الأجواء السياسية والأمنية والاقتصادية التركية التي تدفع بهذا الاتجاه.
– ثم عامل دولت بهشلي رئيس “حزب الحركة القومية ” اليميني المتشدد الذي كان المبادر الأول في تحريك الأحجار من خلال توجهه إلى مقاعد نواب “ديم” لتهنئتهم بانطلاق الدورة البرلمانية الجديدة في مطلع تشرين الأول/أكتوبر المنصرم “أنتم أيضا حزب سياسي موجود هنا”.
– دعوة أوجلان، للإعلان عن حل المجموعات الإرهابية التي أسسها في أواخر الثمانينيات وإلقاء سلاحها الذي ترفعه في وجه الدولة منذ 4 عقود، مقابل الاستفادة من “حق الأمل” الذي قطع أردوغان باكرا الطريق عليه داعيا لعدم التحدث عن العفو العام أو استبداله بالإقامة الإلزامية.
– هذا إلى جانب المتغيرات الإقليمية المحيطة بتركيا والعاصفة من كل صوب خصوصا بعد انقلاب خارطة التوازنات في لبنان وسوريا والعراق.
فهل سيكون لرسائل أوجلان الذي اعتقلته وحاكمته أنقرة بالسجن المؤبد قبل 25 عاما، وما يزال يقضي هذه العقوبة في سجنه بجزيرة إيمرالي تأثيرها؟ خصوصا أن البعض يقول إنه سيوجهها إلى قواعد “ديم”، بعد كل هذه التحولات في صفوف حزب العمال الكردستاني؟ ألن يكون لغيابه الكامل عن التحولات والتحالفات التي أدارتها الكوادر الجديدة في قنديل في العقدين الأخيرين بناء على تغير المشهد الكردي بشقه الإقليمي وتأثيره على ما سيقال لهذه القيادات؟ وهل سيكون هناك من سيصغي لأوجلان في صفوف القواعد والكوادر وحيث بدأ البعض التلويح بخيارات تسير في اتجاهات مغايرة لقيادات قنديل إذا لم يعجبها ما سيقوله لها؟
يعلن أوجلان بعد اللقاء الأول وردا على دعوات بهشلي أنه جاهز للانفتاح وتوجيه رسالته عبر حزب “ديم” لأنه على الجميع أن يشارك في تحمل المسؤوليات. لكن الواقع يقول أيضا أنه لا يمكن الفصل بين تطورات المشهد السياسي في خطوة بهشلي وبين ما يجري على جبهة شرق الفرات في سوريا. وأن هناك في صفوف “قوات سوريا الديمقراطية ” و”وحدات الحماية الكردية” من يقلقه فحوى رسائل أوجلان التي قد تأتي في منتصف شباط المقبل تاريخ اعتقاله وسجنه، أو في عيد نوروز في النصف الثاني من آذار/مارس المقبل حول المسار الجديد. هل سيحاول أوجلان مثلا حصر النقاش بالملف الكردي في الداخل التركي أم سيحاول أن يطرحه بالبعد الإقليمي ليسترد الكثير مما فقده في السنوات الماضية؟
يفهم من مضمون بيان حزب “ديم” حول نتائج اللقاء الثاني الذي أجرته هيئة حزبية ضمت برفين بولدان وسري سرية أوندر، مع عبد الله أوجلان أن “الحراك الاستكشافي” سيتواصل، وأن الوفد قدم خلال اللقاء المعلومات اللازمة لأوجلان بشأن الاجتماعات التي أجراها وفد الحزب مع العديد من الأحزاب السياسية التركية هذه العملية ستوفر العيش بحرية سويا. ونحن ننتظر الإسهامات القيمة من جميع الشرائح الاجتماعية على أمل تحقيق ذلك”. لكن خارطة الطريق التي رسمها بهشلي قبل أشهر تذهب باتجاه أن أوجلان “إذا أظهر هذه الحكمة والتصميم، فإن الطريق إلى التنظيم القانوني فيما يتعلق باستخدام الحق في الأمل والاستفادة منه سيكون مفتوحاً على مصراعيه، الحل ليس في قنديل ولا أدرنة (حيث يوجد زعيم حزب الشعوب السابق صلاح الدين دميرطاش في سجنه)، يجب أن يمتد الخطاب من إيمرالي إلى حزب “ديم”.
مع العلم أن اقتراح بهشلي الذي يقوم على السماح لأوجلان بتوجيه دعوته عبر منصة البرلمان، قد تستبدله قيادات العدالة والتنمية برسالة يوجهها من سجنه بسبب العقبات القانونية التي لا تسمح بفتح الطريق أمام خطوة بهذا الاتجاه. لكن المرحلة التي ستعقب ذلك ستكون بالغة الأهمية بالنسبة لنقاشات مضمون الرسالة وارتداداتها السياسية في تركيا.
كتب الإعلامي التركي المعارض عصمت اوزشليك في زاويته بصحيفة “أيدلنك” قبل يومين معقباً على تغريدة نشرها سنان شيفت يوراك أحد نواب حزب “ديم” وهو يقول فيها “إذا ما كنا أخوة منذ ألف عام، تفضلوا قوموا باللازم. اعترفوا بروجافا السورية. وحدة الأراضي السورية انتهت. تهاوت الدولة الواحدة مع تهاوي نظام الأسد. ينبغي البحث عن نظام جديد في سوريا”. لم نتعرف بعد إلى ردود الفعل حول التغريدة. لكنها تتجاهل تماما جهود ومسار الحراك السياسي التركي الجديد في التعامل مع الملف الكردي. وتوجز المشهد السوري كما يراه بعض قيادات “ديم” بعد سقوط نظام الأسد.
في مكان آخر يدور الحديث عن وساطة تقوم بها قيادات أربيل بين مجموعات “قسد” والقيادة السورية الحالية في دمشق. الرئيس العراقي قبل وجود هذه الوساطة فقسد لعبت دوراً مهماً في سوريا كما يقول. يريد أن يغضب أنقرة التي تحاول تحريك الملف الكردي عندها باتجاه الحلحلة وأن يقطع الطريق على جهود مسعود البارزاني قبل أن تبدأ. احتمال أن تكون السليمانية المحسوب عليها والمقرب منها منزعجة مما يجري، لأنه سيكون على حساب علاقتها بقسد وبواشنطن أيضا. تعقيدات الموضوع الكردي بشقه الإقليمي لا تقل أهمية عن تشعبات الملف في الداخل التركي.
تلفزيون سوريا
————————-
دروز سوريا… دروب القلق والريبة من النظام الجديد/ رستم محمود
الخوف من العودة إلى الشمولية المركزية
آخر تحديث 26 يناير 2025
في أحاديثهم الخاصة، يسترجع “دروز سوريا” راهنا واحدة من أشهر حكاياتهم السياسية “التقليدية”، التي تقول إن شكري القوتلي- أول رئيس لسوريا بعد نيل الاستقلال عن الانتداب الفرنسي- كان قد وسم أبناء “الطائفة الدرزية” في تصريح صحافي عام 1945 بأنهم “الأقلية الخطرة”. حدث ذلك وقتئذ، وعلى العكس تماما مما كان يتوقعه الدروز من الدولة السورية الجديدة، التي كانوا أكثر من ساهم وضحى في سبيل نيلها لاستقلالها، وجلاء القوات الفرنسية عنها. يتذكرون ذلك، ومعها رد فعل زعيمهم المحلي/الوطني سلطان باشا الأطرش وقتئذ، الذي حذر القوتلي بتحويل الدروز إلى “طائفة خطرة فعلا”، لو لم يتنازل عن تصريحه، مهددا بـ”الهجوم على دمشق” واقتلاع النخبة البرجوازية الحاكمة، ما لم يحدث ذلك، وهو أمر أثار مخاوف المحيطين بالقوتلي، الذين أخبروه بإمكانية حدوث ذلك فعليا، ونصحوه بالتراجع.
هاجس المركزية
استحضار الحادثة في الذاكرة الجمعية “الدرزية” راهنا، ذو دلالة على الاضطراب السياسي المستجد الذي تعيشه هذه “الطائفة الدينية/الجماعة السياسية” مع الدولة السورية، والنظام السياسي الذي يُمكن لها أن تستقر عليه. فالدروز السوريون، مثل أغلب “الأقليات” الدينية والمذهبة والعرقية والمناطقية السورية، متوجسون من المسار والبنية التي يتأسس حسبها النظام السياسي الجديد في بلادهم، خصوصا وأنها ذات مرجعية أيديولوجية شديدة المحافظة والعسكرة، ولا تطرح أية رؤية سياسية بوضوح يمكن أن تتضمن تأكيدات واضحة على هوية المؤسسات التي ستضمن الحقوق الفردية والجمعية لكل المكونات السورية، ولا حتى التزاما واضحا بالقيم العليا “الحديثة” في النظام السياسي الجديد، ودون أي حرص على التشاركية، فكل ما يصدر عنها هو مجموعة من “التطمينات الرمزية”، ذات الطابع الشخصي، وفقط كذلك.
الدروز الذين يُقدر عددهم بحوالي مليون نسمة، يشكلون قرابة خمسة في المئة من سكان سوريا، حسب إحصاءات غير رسمية، يتمركز أكثر من تسعين في المائة منهم في محافظة السويداء، بينما تنتشر البقية في تجمعات ريفية في محافظات إدلب والقنيطرة وريف دمشق. يخشون من مركب سياسي قد يطالهم مجددا، مؤلف من القسر الأمني، الذي قد يطال مناطقهم، فيما لو تشكل الجيش والأجهزة الأمنية بشكل مركزي/أيديولوجي/طائفي، كما كانت ملامح تلك المؤسسات سابقا، متعامدا مع إقصاء سياسي وعدم اعتراف دستوري بخصوصيتهم الدينية/المذهبية، لو بقي بنيان الدولة ومؤسساتها وعالمها الرمزي “سُنيا”.
هذه الآليات قد تخلق مصاعب حياتية ومشقات اقتصادية في مناطقهم، التي كانت محرومة من التنمية الوطنية بشكل تام تقريبا، إذ يعتمد مجمل سكانها على منتجاتهم الزراعية وتحويلات المغتربين من أبنائهم.
قُبالة ذلك، يعرض الدروز، وعلى لسان مرجعهم الروحي/السياسي الأعلى راهنا، الشيخ حكمت الهجري، برنامجا سياسيا قائما على تشييد الدولة السورية الجديدة حسب ثلاث قيمٍ عليا، هي الديمقراطية والمدنية واللامركزية. وأن تكون تلك الهويات متضمنة في كل المواثيق والقوانين والمؤسسات والأجهزة والنظام التربوي والقضائي في العهد الجديد.
إلى جانب الأكراد، فإن الدروز هُم الجماعة السورية الوحيدة التي تُعبر نُخبها عن مخاوفها من عودة “الشمولية المركزية” إلى حُكم سوريا مرة أخرى، وبأسرع مما هو متوقع. فالمرجعية الروحية للدروز تعتبر أن “الوقت لا يزال مبكرا لتسليم السلاح” الذي بحوزتها، محذرة من إمكانية عودة الشمولية، وبغطاء ومضمون أيديولوجي مذهبي “متطرف”.
لا يعرض الدروز تطلعاتهم للامركزية بأية نوازع مناهضة لشرعية وسيادة الدولة السورية كاملة على مناطقهم، مُشيرين على الدوام إلى حصرية مطالبهم بكل القضايا التي لا تمس أواصر المتن الوطني، فاللامركزية التي يطالبون بها لا تتعارض مع المهام والسلطات السيادية التي هي من حق المركز، مثل السياسة الخارجية والجيش والسلطات النقدية.
شروخ داخلية
مثل باقي التكوينات السورية الأخرى، خلا الأكراد، ليس للدروز أية مرجعيات أو زعامات سياسية واضحة، تُعبر عن خطهم وخياراتهم السياسية، وليس بينهم حتى تلك الأحزاب السياسية ذات الواجهة “المدنية/الوطنية” والمضمون الفعلي “الطائفي”، مثل “الحزب الديمقراطي التقدمي” في لبنان أو “جماعة الإخوان المسلمين” في سوريا.
تأتّى ذلك من قمع مديد مارسه النظام السياسي السوري المخلوع طوال عقود كثيرة ضد مختلف الجماعات والبنى السورية، حتى تمكن من إخلائها من كل التنظيمات والشخصيات التي قد تشكل قطبا ومركز جذب اجتماعي. لأجل ذلك، بقي رجال الدين ضمن الطائفة الدرزية السورية وحدهم كمركز ثقل نسبي لأبناء الجماعة، شكل الشيوخ الثلاثة حمود حناوي، ويوسف الجربوع، وحكمت الهاجري، المرجعيات الرئيسة ضمن الطائفة خلال السنوات الماضية.
سارت المشيخة الدرزية خلال سنوات الثورة السورية في درب سياسي منعرج، انتقلت فيه من مهادنة النظام السوري ورفض تحول السويداء إلى نقطة اندلاع للمظاهرات الجذرية المناهضة له، مرورا بالسلبية تجاه الشخصيات التي حاولت خلق حالة اعتراض نوعية/عسكرية ضد النظام في محافظة السويداء، مثلما فعل مؤسس مجموعة “رجال الكرامة” الشيخ وحيد البلعوس أو الضابط المنشق خلدون زين الدين. لكنهم، وطوال هذه الفترة، لم يظهروا أية موالاة أو التصاق بخطاب وتوجهات النظام السوري قط.
لكن، وحسب التفكك النسبي المتقادم لقوة النظام السوري، تحديدا في محافظة السويداء، صارت المرجعيات الدينية الدرزية ترفض تجنيد الشبان الدروز خارج مناطقهم، وصولا لدعم المظاهرات المدنية التي اندلعت في محافظة السويداء منذ أواسط عام 2023، واستمرت حتى سقوط النظام، وكانت ذات خطاب مناهض للنظام السوري بوضوح.
بشكل غير معلن، حتى الآن، ثمة نوعان من المزاحمة/الانقسام السياسي داخل الفضاء السياسي الدرزي في سوريا، إن صح التعبير. فالمشايخ الثلاثة، وعلى رأسهم الهاجري، يعتبرون أنفسهم المراجع الأساسية ضمن الجماعة، وبخاصة فيما يتعلق بآليات ومصير الاندماج في المناخ السياسي والعسكري والبيروقراطي الجديد في سوريا؛ لكنهم يعرفون تماما بأن “زعامتهم” غير مضمونة الاستمرار على الدوام. فأغلب المراقبين يعتقدون أن الخطاب “الحاد” من قِبلهم تجاه السلطة الجديدة، سيدفع هذه الأخيرة لاستعداء شخصيات “درزية” في الأوساط السياسية والمدنية والاقتصادية، لتخلق معها مساحة تفاوض وتفاهم، لتحولهم بالتقادم إلى شخصيات ذات نفوذ في الأوساط الدرزية، تنافس الكتلة المشيخية. الأمر ذاته قد ينطبق على قادة الفصائل المسلحة، مثل الشيخ غيث البلعوس، نجل القائد السابق لفصيل “رجال الكرامة”، وقائدها الحالي، المُتوقع أن يكون له مستقبل سياسي بارز.
لكن المستوى الآخر للانقسام يبدو أكثر تركيبا وتأثيرا على الأحوال السياسية العامة في محافظة السويداء ومستقبل الجماعة الدرزية في سوريا. فالزعامة السياسية الدرزية التقليدية، متمثلة في السياسي اللبناني وليد جنبلاط، لا ينقصها الطموح في ذلك الإطار.
في هذا السياق، ليس الانقسام مجرد مزاحمة على أحقية التمثيل، وإن كان جنبلاط يرى في نفسه أنه صاحب دور فعال في حماية الدروز السوريين، عبر علاقاته وزياراته المتتالية إلى الأردن وتركيا، بغية خلق مظلة حماية إقليمية للدروز، سواء من النظام أو التنظيمات الإسلامية المتطرفة، لكن الانقسام في هذا السياق سياسي بالأساس، بين رؤية شديدة “الترحيب” والثقة بالقيادة الجديدة في سوريا، ويمثلها جنبلاط، وموقفه نتاج صراع دام لقرابة نصف قرن، بين آل جنبلاط وعائلة الأسد الحاكمة لسوريا، وبين رؤية أخرى يتبناها الكثير من الزعامات المحلية الدرزية السورية، التي تركن إلى مزيج من عدم الاستعجال وكثرة الارتياب من القيادة السورية، وتريد لأي اعتراف وتفاعل إيجابي من قِبلها أن يكون مقرونا بسلوكيات وأفعال من هذه القيادة تجاه محافظة السويداء والدروز في سوريا.
ذاكرة قلقة
كانت أحوال “الجماعة الدرزية” شديدة القلق مع النظام السوري السابق، لأنه صنفهم ككتلة أهلية متماسكة وذات هوية ووعي سياسي داخلي موحد ومتضامن، وإن كان مضمرا وذا وجه “تقوي” على الدوام، وتاليا سعى لتفكيك أواصر التضامن فيما بينهم، سواء عبر التهميش التنموي أو تفكيك العلاقة بين نُخبهم العامة وقواعدهم الاجتماعية، أو حتى عبر قمع ثقافتهم وحضورهم ضمن المتن الوطني السوري.
جزء واسع من الرأي العام ضمن الجماعة يخشى من إمكانية تكرار ذلك، إلى جانب أنواع من الهيمنة والضغوط الطائفية، عبر فرض أشكال من الوعي والتفسيرات والسلوكيات الدينية على المؤسسات والمتن العام في البلاد، وبخاصة على مناطقهم ومجتمعاتهم، التي تُعتبر وحدة متماسكة ثقافيا وسياسيا.
لا تنبع هواجس الدروز السوريين من فراغ، فطوال سنوات الثورة السورية عاش دروز سوريا تجارب “قاسية” مع قوى الإسلام السياسي الجهادية. فالقرى الدرزية في محافظة إدلب تعرضت لضغوط هائلة من تنظيم “داعش” الإرهابي بعد عام 2013، حينما سيطرت فصائل منهم على أطراف من المحافظة، مثل مطالبهم بتغيير المذهب، وإجبارهم على إضافة القِباب إلى أماكن عباداتهم. في مرحلة لاحقة، وبعد هزيمة تنظيم “داعش” في المحافظة، برزت “جبهة ثوار سوريا” التي كانت عبارة عن تحالف من الفصائل المدنية المقاتلة، وكانت ذات علاقة وطيدة مع القرى الدرزية في المحافظة. فقائد الجبهة جمال معروف زار القرى الدرزية وأكد على مدنية العلاقة ضمن مناطق سيطرة جبهته.
لكن مزاحمة وصراع “جبهة النصرة”، التي تحولت فيما بعد إلى “هيئة تحرير الشام” وكان يتزعمها القائد الحالي للمرحلة الانتقالية أبو محمد الجولاني/أحمد الشرع منذ ذلك الوقت، وصراعها مع “جبهة ثوار سوريا” أطاح بالأوضاع الآمنة نسبيا للدروز في محافظة إدلب. فهزيمة “جبهة ثوار سوريا” منذ أواخر عام 2014 أطلقت يد “جبهة النصرة” في مختلف مناطق محافظة إدلب، وضيقت على أبناء الطائفة في المحافظة، ووصلت الضغوط ذروتها بعد محاولة الجبهة الاستيلاء على منازل ضباط الجيش السوري من أبناء الطائفة الدرزية في المحافظة، وقتلت أكثر من 20 درزيا في قرية “قلب لوزة” من أبناء الجماعة.
أحداث شبيهة أخرى حدثت بحقهم في مراحل لاحقة، مثل هجوم مقاتلي تنظيم “داعش” على القرى الشمالية لمحافظة السويداء، ومعاملتهم للدروز كما عاملوا الإيزيديين في العراق.
حسب ذلك، يتطلع الدروز السوريون إلى ضمانات واضحة بشأن مستقبل أبناء الطائفة، لا تحققها إلا مجموعة من المواد الدستورية وآلية الحكم اللامركزية، وبخاصة في الإدارة العامة والأمنية لشؤون المحافظة.
المجلة
——————————-
بين المواطنة والهوية.. مطالب اللاجئين الفلسطينيين في سوريا الجديدة/ أحمد طلب الناصر
2025.01.26
في خضم التغيرات السياسية والاجتماعية التي تشهدها سوريا بعد سقوط نظام الأسد، تبرز قضية اللاجئين الفلسطينيين كواحدة من أكثر القضايا الإنسانية تعقيداً. عانى الفلسطينيون في سوريا لعقود من التهميش والتمييز، وتعرضوا خلال سنوات الحرب لتهجير قسري وتدمير ممنهج لمخيماتهم، خاصة مخيم اليرموك الذي كان يعد أكبر تجمع للفلسطينيين في سوريا. اليوم، ومع بدء مرحلة جديدة في تاريخ سوريا، يطرح الفلسطينيون مطالبهم بحقوقهم الكاملة، بما في ذلك حق المواطنة والانتماء، وسط تساؤلات حول مستقبلهم في بلد عاشوا فيه لعقود.
منذ لجوء الفلسطينيين إلى سوريا عام 1948، تم تنظيم أوضاعهم عبر قوانين مثل القانون رقم 260 لعام 1956، الذي منحهم حقوقاً مدنية مشابهة لحقوق المواطنين السوريين، لكنه حرمهم من الحقوق السياسية. ومع وصول نظام الأسد إلى السلطة، أصبحت حياتهم أكثر صعوبة، خاصة مع فرض قيود أمنية مشددة على حركتهم وسفرهم. خلال الثورة السورية، تعرض الفلسطينيون لحصار وتجويع وتدمير ممنهج، ما أدى إلى نزوح أعداد كبيرة منهم إلى دول الجوار. اليوم، ومع تشكيل إدارة سورية جديدة، يطالب الفلسطينيون بإنهاء التمييز ضدهم وضمان حقوقهم الإنسانية والسياسية، في محاولة لبناء مستقبل أكثر استقراراً وإنصافاً.
الحديث اليوم عن فلسطينيي سوريا يختلف تماماً عن الحديث بشأن مكوّنات المجتمع الأخرى. فبينما تقتصر تحديات الأخيرة على عودة المهجّرين منهم، وإعادة الإعمار، والاستقرار المعيشي؛ تتفاقم أزمات الفلسطينيين، المهجّرين خارج البلاد والنازحين في الداخل السوري أو القليلين الذين استمروا بالعيش ضمن مناطقهم التي لم يصلها دمار النظام البائد. تتجلى أبرز تلك الأزمات بصورة واضحة في سؤال الهوية والمواطنة والانتماء.
السياق التاريخي لإشكالية اللجوء الفلسطيني في سوريا
تكمن المشكلة الرئيسة بالوضع المحيط بفلسطينيي سوريا تاريخياً، في عدم وجود تنظيم قانوني خاص باللاجئين في سوريا من جهة، وفي فصل وضع اللاجئين الفلسطينيين عن القوانين المتعلقة بوضع الأجانب في البلاد من جهة أخرى.
نشأت وتبلورت هذه المشكلة خلال مراحل زمنية متعاقبة، حيث صدرت القوانين والقرارات واللوائح الخاصة باللاجئين الفلسطينيين في سوريا بدءاً من العام 1948 عندما لجأ إلى سوريا في ذلك الوقت ما يقارب (90.000) لاجئ فلسطيني، فقدوا كل سبل ومقومات الحياة، وتضاعفت أعدادهم خلال أكثر من ستة عقود بحكم الزيادة الطبيعية للسكان، وموجات لجوئهم المتواصلة إلى سوريا، حتى بلغ عددهم (560.000) لاجئ لغاية عام 2011، وفق تقديرات جهاز الإحصاء الفلسطيني. وهؤلاء اللاجئون يمثلون (2.8 بالمئة) من تعداد الشعب السوري، وأكثر من (13 بالمئة) من إجمالي اللاجئين الفلسطينيين.
توزع الفلسطينيون على (15) مخيماً في سوريا. أقيم معظمها خلال العقدين الأولين إثر لجوئهم عام 1948، وهي مخيمات دمشق وريفها، وتشمل: مخيم اليرموك، وخان الشيح، وخان ذنون وجرمانا وسبينة والسيدة زينب والحسينية. والرمدان ومخيم الوليد في حمص، والعائدين في حماة والنيرب وحندرات في حلب والرمل في اللاذقية، ومخيمي درعا ودرعا الطوارئ وبشكل خاص مخيم اليرموك الأكبر سكانياً من بينها. رغم وجود مخيمات لا تعترف الأونروا بها، فإن ذلك لم يترافق مع إلغاء خدماتها الصحية والتعليمية لتلك المخيمات، بل ويستفيد منها أيضاً القاطنون في تجمعات فلسطينية داخل المدن السورية وأريافها. مثل سكان حي الأمين ودمر البلد وجوبر بدمشق، ومزيريب وجلّين بريف درعا.
حقوق الفلسطينيين من القوتلي إلى الأسد
المحطة الأهم في تقنين حقوق اللاجئين، واتساع نطاق شمولها وآثارها على مختلف جوانب حياتهم. تمثلت في القانون رقم (260)
تاريخ (1956/7/10)، والذي يعد الأساس القانوني الناظم لأوضاع اللاجئين الفلسطينيين، وصدر عن البرلمان السوري في حقبة الرئيس الأسبق شكري القوتلي، حيث نص في مادته الأولى: “يُعتبر الفلسطينيون المقيمون في أراضي الجمهورية العربية السورية، بتاريخ نشر هذا القانون كالسوريين أصلاً في جميع ما نصت عليه القوانين والأنظمة النافذة، وبحقوق التوظيف والعمل والتجارة وخدمة العلم مع احتفاظهم بجنسيتهم الأصلية”.
منح هذا القانون – رقم 260- اللاجئ الفلسطيني أغلب الحقوق المدنية الممنوحة للمواطن السوري، وهو ما ساهم بانخراط المجتمع الفلسطيني المتميز بفعاليته ونشاطه في شتى مجالات الحياة السورية، غير أنه حرم اللاجئ من الحقوق السياسية، وفي جوهرها حق الترشح والانتخاب (البلدية – المحافظة – التشريعية – الرئاسية). كان تبرير هذا الحرمان أن ممارسة كامل الحقوق السيادية، من شأنه المساس بالهوية الوطنية الفلسطينية، وضرورات الحفاظ عليها، وهو ما لم يثر غضاضة عند اللاجئ الفلسطيني المتمسك بهويته وخصوصيته الوطنية، ولكن في واقع الحال، لم تكن العديد من الحقوق السياسية مكفولة للمواطن السوري، لا سيما منذ صدور قانون الطوارئ عام 1963، الذي ترك آثاره العميقة على الحياة السياسية في سوريا، وساهم في تقييد الحريات العامة، دون تمييز بين المواطنين ومن في (حكمهم).
صدر في (1963/10/2) القرار رقم (1311)
لتنظيم وثائق سفر اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، ومن أهم المواد التي تضمنها القرار المشار إليه، المادة “10” التي تخول صاحب وثيقة السفر الممنوحة للاجئين الفلسطينيين خلال مدة صلاحيتها، حق مغادرة الأراضي السورية، والعودة إليها دون تأشيرة عودة.
إلا أنه، ومنذ تولي حافظ الأسد السلطة في سوريا (1970). أصبح تطبيق هذا القرار الأخير مشروطاً بالموافقة الأمنية لمن يرغب في السفر، لا سيما منذ تخصيص فرع خاص للاجئين الفلسطينيين في بداية السبعينيات، كان يطلق عليه قسم “الضابطة الفدائية” وتبعه فرع المخابرات السيئ الصيت “فرع فلسطين”.
مارس نظام الأسد الأب ومن بعده الابن، عبر هذين الفرعين وغيرها من الفروع الأمنية والتشكيلات العسكرية، داخل دمشق وخارجها، شتى أشكال القمع والملاحقات والتصفيات بحق الفلسطينيين، داخل البلاد وخارجها على حدّ سواء، وخاصة من الذين غردوا خارج سرب مكاتب ومقار الفصائل والتنظيمات الفلسطينية المقربة من نظام الأسد بدمشق. ولا يسعنا الخوض هنا في تفاصيل تلك التشكيلات وعلاقتها مع النظام البائد.
فلسطينيو سوريا بعد اندلاع الثورة.. حصار وتدمير وتجويع وتهجير
واجه عموم اللاجئين الفلسطينيين خلال أعوام الثورة السورية (بين 2011- 2014)، أوضاعاً كارثية ومعاناة إنسانية طالت جميع مناحي حياتهم، وكان من تداعياتها المأساوية أن دفعت أعداداً كبيرة منهم تحت وطأة مسلسل القتل والدمار والاعتقال اليومي، إلى مغادرة مخيماتهم والهروب نحو دول الجوار السوري.
ولا يمكن المرور على تاريخ الثورة السورية دون التوقف طويلاً عند مأساة حصار مخيم اليرموك، أكبر مخيمات الفلسطينيين السوريين في الحجم وتعداد السكان (كان يضمَّ نحو 160,000 لاجئ).
في الـ18 من تموز 2013، وبعد سيطرة فصائل من المعارضة على مخيم اليرموك وبقعة واسعة من أحياء دمشق الجنوبية، فرضت قوات النظام والميليشيات المساندة لها من بعض الفصائل الفلسطينية التي أشرنا إليها آنفاً، حصاراً خانقاً على المخيم، رافقه قطع الماء والكهرباء بشكل كامل عن كافة أحياء ومنازل المخيم، ومنعت إدخال المواد الغذائية والطبية وغيرها من المواد الضرورية للحياة.
كما منعت القوات المحاصِرة الأهالي من الخروج أو الدخول من منافذ المخيم الرئيسة، حيث سيطرت عليها حواجز لمجموعات من مختلف فروع أمن النظام السوري تساندها المجموعات الفلسطينية الموالية لها.
زاد الطين بلة حين اقتحم تنظيم “الدولة” (داعش) مخيم اليرموك في مطلع نيسان 2015. ومع وجود الحصار المفروض منذ سنتين على المخيم، توقفت معظم المؤسسات الإغاثية عن العمل داخله ما أدى إلى انعدام مقومات الحياة فيه ونفاد جميع المواد الغذائية والأدوية وحليب الأطفال.
ونتيجة لذلك، زادت معاناة سكان المخيم صحياً ونفسياً، وانتشرت حينذاك صور ومشاهد الطوابير الطويلة لآلاف السكان من أجل الحصول على كميات قليلة من الطعام، بالإضافة إلى مشاهد البحث عن بقايا الطعام في حاويات القمامة لضمان استمرار الحياة.
وصل الأمر بسكان المخيم، بحسب تقرير
لـ “مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سوريا”، إلى تناول الحشائش وألواح الصبار ونبات “رجل العصفور” السامة، وأكل القطط والكلاب، فيما فضل بعض الأهالي الموت على بقائهم وهم يتألمون لعدم تأمين الطعام لأطفالهم. خلال ذلك الحصار، أحصت “مجموعة العمل” قضاء 219 لاجئاً فلسطينياً داخل المخيم بسبب الجوع، بينهم 37 طفلاً و68 سيدة نتيجة للجوع ونقص الرعاية الطبية.
إحصاءات وتوثيق المهجرين والمخيمات المدمرة
وأوردت مجموعة العمل بعض الإحصاءات والأرقام والحقائق الخاصة باللاجئين الفلسطينيين الذين كانوا يقيمون في سوريا، وأماكن انتشارهم اليوم، وجاءت على الشكل الآتي:
200 ألف لاجئ فلسطيني غادروا سوريا منذ العام 2011 غالبيتهم من مخيم اليرموك، بينهم 23 ألفاً نزحوا إلى لبنان، 21 ألفاً إلى الأردن، 14 ألفاً إلى تركيا، 3500 إلى مصر، 350 لاجئاً نزحوا إلى قطاع غزة.
1700 عائلة هُجرت قسراً من المخيمات الفلسطينية وجنوبي العاصمة دمشق إلى شمالي سوريا.
2500 فلسطيني مدني رحّلوا بشكل قسري من مناطق متفرقة إلى شمالي سوريا.
هجّر نحو 90 بالمئة من سكان مخيم اليرموك على مدار سنوات الحصار.
60 بالمئة من فلسطينيي سوريا نزحوا عن بيوتهم مرة واحدة على الأقل.
تعرضت بعض المخيمات لقصف وتدمير للمنازل والمرافق بنسب عالية. ويقدر حجم الدمار في مخيمي حندرات ودرعا بنحو 80 بالمئة، وفي مخيم اليرموك بنحو 40 بالمئة، ومخيم خان الشيح بنحو 30 بالمئة.
كما تعرضت بعض المخيمات لإفراغ شامل أو جزئي من سكانها، حيث تم إخلاء مخيمات الحسينية وسبينة وحندرات بشكل تام من سكانها على مدار عامين إلى ثلاثة أعوام.
تجدد إشكالية الهوية في بلدان اللجوء ومخاوف ضياعها
كانت صدمة كبيرة للاجئين الفلسطينيين الذين هربوا من الموت بحثاً عن الأمان، أن يتعرضوا في دول الجوار السوري التي نزحوا إليها لأشكال متعددة من سياسات التمييز والحرمان والتضييق، وذلك من حيث التشدد في دخولهم إلى تلك الدول إلى حدود المنع التام. ومن تمكنوا سابقاً من دخول تلك الدول، باتوا يواجهون فيها أوضاعاً قانونية صعبة، تتفاوت بين مستويات متعددة من الانتهاكات القانونية يعود أغلبها إلى سياسات عنصرية وعراقيل أمنية يتعرضون لها، وغالباً يتم تغطيتها بهواجس سياسية، مثل الخشية من التوطين، وهواجس تغيير الهوية الديموغرافية للبلد المضيف، وغيرها من الأسباب.
ووفق دراسة
أعدها مركز “عمران” للدراسات الاستراتيجية، يتوزع نصف اللاجئين الفلسطينيين تقريباً في تركيا، في المناطق الحدودية مع سوريا “الريحانية – أنطاكية – كلس – عنتاب – مرسين – العثمانية نزيب”، فيما النصف الآخر في المدن الداخلية الكبرى “إسطنبول – أنقرة – بورصة – أضنة”، وقد دخل أغلبهم منذ بداية الحرب عبر الحدود البرية بطرق غير شرعية، لأن المعابر النظامية لا تسمح لحملة الوثيقة السورية بالمرور من خلالها، خلافاً لسماحها بالمرور لحملة الجواز السوري، قبل تراجعها عنه مؤخراً.
وتعامل الحكومة التركية من دخلوا أراضيها منهم معاملة اللاجئ السوري. ويمنحون بطاقة “الكملك”، وهي بطاقة التعريف للمقيمين تحت بند الحماية المؤقتة. يتمتع صاحبها بالميزات التي تقدمها الحكومة التركية كحق التعليم والرعاية الصحية ومنح المساعدات وإذن العمل، وغيرها من الميزات التي بدأت تتراجع تدريجياً منذ سقوط نظام الأسد في كانون الأول الماضي. وبطاقة الكملك الممنوحة للاجئين الفلسطينيين لا يرد فيها ذكر الموطن الأصلي للاجئ وما يدل على جنسيته الأصلية، وإنما يذكر فيها بأنه “سوري”، بالرغم من عدة مطالبات وُجهت للحكومة التركية بذكر الموطن الأصلي للفلسطينيين.
أما في أوروبا، فتتباين التقديرات حول أعداد اللاجئين الذين وصلوا إلى أوروبا خلال الأعوام السبعة الماضية، في ظل صعوبات إحصائية تتعلق بتعدد دول المنشأ والاستقبال، وتغير الصفة القانونية للاجئ الفلسطيني في أوروبا بعد تقديمه طلب اللجوء، وبينما تقدر مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سوريا، أن أعدادهم قد تجاوزت (100.000) لاجئ، هناك تقديرات أخرى تتحدث عن وصول ما لا يقل عن (140.000).
يتركز أولئك اللاجئون بصورة أكبر في (ألمانيا – السويد – هولندا – فرنسا – النمسا – الدانمارك – النرويج) غالبيتهم اتجهوا من شواطئ تركيا وعبر اليونان بصورة رئيسية، ومن شواطئ شمالي إفريقيا “مصر وليبيا” بنسب أقل. وبعد تشدد الدول في إغلاق هذه المنافذ في السنتين الأخيرتين، أصبح لم الشمل هو المصدر الأكبر في استمرار توافدهم إلى الدول الأوروبية.
ماذا يريد الفلسطينيون اليوم من الإدارة السورية الجديدة؟
اليوم، بعد سقوط نظام الأسد، يخالج الفلسطينيين العديد من الهواجس والمشاعر المختلطة؛ فبينما يشاركون أقرانهم السوريين فرحة زوال ذلك النظام الذي هجّرهم ودمّر بيوتهم، يترقب كثيرون منهم ما سيبدر عن الإدارة السورية الجديدة إزاء وضعهم.
الصحافي والسياسي الفلسطيني، شادي أبو راشد، يعرب عن أمله في أن تكون المرحلة الجديدة “قائمة على احترام الإنسان، بما في ذلك الإنسان الفلسطيني السوري، وأن تكون له حقوقه”.
ويقول أبو راشد، المهجّر من منزله في مخيم اليرموك ويقيم اليوم كلاجئ في فرنسا، في حديث لموقع تلفزيون سوريا: “المرحلة الجديدة يجب ألا يكون فيها وصاية.. وأقصد إنهاء حالة عدم إعطاء الجنسية للفلسطيني المولود في سوريا بحجة أن أصوله فلسطينية وكي لا ينسى بلده!”.
ويضيف: “هذا التصرف ليس إنسانياً. السوريون جربوا هذه الحالة عندما لجؤوا لبضع سنوات فقط في دول الغرب ونالوا جنسيتها، ومع ذلك لم ينسوا بلدهم وهاهم يعودون اليوم إليه رغم حملهم جنسية تلك الدول. فما بالك بالفلسطيني الذي ولد هو وأبوه وجده في سوريا ولا يمتلك جنسية البلد؟”.
ويشدد أبو راشد على ضرورة “الفصل بين القضايا الإنسانية والوصائية”، لأن حرمان الفلسطيني من الجنسية يؤدي إلى تشكيل ما وصفه بـ “كائن مأزوم”، ساهمت في تكوينه الأنظمة السورية البائدة، وخاصة نظام الأسد.
وأوضح أن تلك الجنسية “تُمنح لمن يريدها ومن يطلبها فقط، فالمواطن السوري من أصل فلسطيني له حق التجنّس مثله مثل الأرمني -على سبيل المثال- الذي حصل على الجنسية السورية”. كما طالب أبو راشد بإلغاء ما يسمى بـ “تذكرة الإقامة المؤقتة” التي ابتدعها نظام البعث هي و”المؤسسة العامة للاجئين العرب”.
“الفصل بين الفلسطيني والتنظيمات الفلسطينية”
سياسياً، لفت أبو راشد إلى أنه يجب “فصل الفلسطيني السوري عن التنظيمات الفلسطينية، فهذه التنظيمات ليست منتخبة ولا تمثل أياً من المكوّنات الفلسطينية، وكلها ألعاب سياسية ذات مصالح. مطلوب من السلطة السورية الجديدة تحديد ممثلين مدنيين موثوقين من قبل تلك المكونات بهدف التواصل معها بما يخص الفلسطينيين السوريين”.
وتطرّق إلى سلوك “المتاجرة بقضية الفلسطينيين” الذي كان يتبعه النظام المخلوع، مشيراً إلى إن “حافظ الأسد كان يبتز دول الخليج باسم الفلسطينيين كي يستولي على جزء كبير من الأموال التي كانت تلك الدول تدفعها لمساندة الفلسطينيين في سوريا”.
وختم أبو راشد حديثه قائلاً: “في العراق، بعد الغزو الأميركي، جرى ما أطلق عليه (اجتثاث البعث) وهي خطوة جرّت الويلات والتقسيم والمحاصصات والطائفية والتطرّف. أما في سوريا فأرى أنه من الأجدى اجتثاث (الثقافة البعثية) التي كرسها نظام الأسد، لأن جزءاً من تفكير السوريين والفلسطينيين على حد سواء، تلوّث بتلك (الثقافة) التي أفرزت المناطقية والفئوية والعنصرية، سواء تجاه الفلسطيني أو بين السوريين أنفسهم”.
—————————
بين طوفان الأقصى وردع العدوان/ أسامة الرشيدي
25 يناير 2025
تجاهلت الإدارة السورية الجديدة إصدار بيان، بعد التوصّل إلى وقف إطلاق النار في قطاع غزّة، بينما حرصت على توجيه تهنئة إلى الرئيس الأميركي المُنتخَب دونالد ترامب بمناسبة تنصيبه. حدث هذا التجاهل رغم أن الشعب السوري عبّر عن فرحته الكبيرة بتوقّف معاناة الشعب الفلسطيني في غزّة، مثلما عبّر الغزّيون قبل أسابيع عن فرحتهم بسقوط نظام الأسد، وهي مشاعر تلقائية متبادلة، تكشف أننا شعب واحد، وأن دعوات الانعزالية التي ظهرت في سورية أخيراً لا مستقبل لها، ولا تعبّر عن إرادة السوريين.
أكّد قادة الإدارة السورية الجديدة مراراً أن تخطيطاً طويلاً ومنظّماً استغرق نحو خمس سنوات سبق معركة ردع العدوان. لا جدال في ذلك، لكن التخطيط، كما هو معروف، يختلف كثيراً عن التنفيذ، فقد يظلّ المرء يخطّط لشيء ما، لكنّه لا ينفذه لأسباب شتى، تختلط فيها العوامل المادية بالمعنوية والنفسية والعاطفية. أبرز مثال لذلك ثورات الربيع العربي، فقد أشعل هروب الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي خيال الشعوب العربية، إذ أدركت أنه من الممكن أن يؤدّي خروجهم إلى الشارع إلى إسقاط الديكتاتور، وأن تحقيق الأحلام ممكن. كان لهذا الخيال تأثير حاسم في قرار ملايين المصريين للتظاهر بدءاً من يوم 25 يناير/ كانون الثاني 2011. إنها “عدوى السلوك” التي تصيب البشر عندما يرون أفعال أقرانهم.
يمكن القول إن “ردع العدوان” ينطبق عليها هذه العدوى، فهناك متشابهات كثيرة بين هذه المعركة ومعركة طوفان الأقصى، التي أطلقتها المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر (2023). انطلقت المعركتان في توقيت دقيق بالنسبة لكلّ منهما، فالتطبيع العربي مع إسرائيل كان ماضياً على قدم وساق، وكذلك التطبيع مع نظام بشار الأسد (!)، وكانت هناك تحضيرات للقضاء على ما تبقّى من المقاومة الفلسطينية، وكذلك المناطق التي تسيطر عليها المعارضة السورية آنذاك. فقد أكّد الناطق العسكري باسم كتائب عزّ الدين القسّام، أبو عبيدة، أن معركة طوفان الأقصى كانت هجوماً استباقياً، وهو ما أكّده إعلام إسرائيلي كشف أن رئيس جهاز الاستخبارات الداخلية (الشاباك) رونين بار، أقرّ خطّةً في الأول من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، تقضي بتوجيه ضربة استباقية واغتيال أكبر ستة قيادات في قطاع غزّة، في مقدّمتهم قائد حركة حماس آنذاك يحيى السنوار، والقائد العام لكتائب القسّام محمد الضيف، وآخرون. وفي سورية، لم تتوقّف غارات النظام ومدافعه وطائراته المسيّرة عن قصف مناطق المعارضة، متسببةً في مقتل عشرات، فيما بدا وكأنّه تمهيد لهجوم نهائي يتوّج سيطرة بشّار الأسد على كامل البلاد.
المفارقة أن بعض السوريين كانوا يستنكرون معركة طوفان الأقصى بذريعة أنها “مجازفة” أدّت إلى مواجهة واحد من أقوى الجيوش في العالم، ومدعوماً إقليمياً ودولياً، ما أدّى إلى تدمير غزّة. المفارقة هنا أن هذا ينطبق على الثورة السورية بالضبط، فحتى صبيحة يوم 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، كانت الثورة السورية تُهَاجم للأسباب نفسها التي هوجم “طوفان الأقصى” بناء عليها. كان الوضع بائساً ومأساوياً، أكثر من نصف الشعب السوري تحوّل إمّا لاجئين في تركيا والدول العربية والأوروبية، وإمّا نازحين داخل سورية، في مخيّمات لا تقيهم حرّ الصيف ولا برد الشتاء، فضلاً عن اعتراف دولي مستمرّ بالنظام، وتودّد تركي متواصل للأسد وسط رفض الأخير، ومدن مدمّرة، وكان سوريون عديدون يتحسّرون على الوضع، ويقولون: ليت الثورة لم تقم من الأساس، لأن ردّة فعل النظام أدّت إلى تخريب البلاد. لكننا اليوم نجد الأشخاص أنفسهم يلومون المقاومة على ردّة فعل الاحتلال الإسرائيلي، وهو تناقض عجيب.
المفارقة الأغرب أن هذا الرأي استمرّ حتى بعد انتصار الثورة السورية وهروب الأسد، فقد قال لي أحدهم، في معرض استنكاره للهجوم الاستباقي الذي شنّته المقاومة الفلسطينية: ألم ترَ ما فعله طوفان الأقصى في غزّة؟ وهو تساؤل يمكن الردّ عليه بتساؤل آخر مماثل: ألم ترَ ما فعلته الثورة السورية بسورية؟
التشابه الأخير، الذي يمكن الحديث عنه بين “طوفان الأقصى” و”طوفان سورية”، أنهما كشفا أن عدوهما “أوهن من بيت العنكبوت”. فقد نفّذت المقاومة الفلسطينية فعلاً ما كانت تخطّط له بأفضل طريقة ممكنة، ليجد مئات الملايين من العرب أننا (نعم) نستطيع أن نهزم إسرائيل ببضع مئات من المقاتلين الشجعان، وأن الإقدام على الفعل سيخلط الأوراق، وسيفتح الباب أمام احتمالات وإمكانات هائلة للفعل والتأثير. هذا هو تأثير “طوفان الأقصى”، الذي لن يتوقّف عند الشام، بل سيمتدّ إلى دول أخرى لم يكن يتخيّل أحد أن يصل إليها. وإن غداً لناظره قريب.
———————————–
ترامب الثاني: الوقائع تجبّ أدب الخيال السياسي/ صبحي حديدي
تحديث 26 كانون الثاني 2025
«ليلة كامب دافيد»، رواية الأمريكي فلتشر نيبل التي تعود إلى سنة 1965، تتخيّل رئيساً للولايات المتحدة يُدعى مارك هولينباخ، يذهب في جنون العظمة إلى درجة مطالبة فريقه برسم خطط لضمّ كندا إلى ولايات أمريكا؛ بالنظر إلى أنها مكمن ثروات هائلة، ولسوف تكون مركز قوّة وسطوة وهيمنة. أيضاً، يطالب الرئيس بأن تصبح الدول السكندنافية، السويد والدنمارك والنروج وفنلندا، ملحقة بالاتحاد الأمريكي؛ لأنها سوف تجلب للولايات المتحدة جينات «الشخصية والانضباط التي نفتقدها بشكل محزن»، يقول هولينلباخ. بالقوّة، يشدد الرئيس، إذا اقتضى الأمر اللجوء إليها؛ أو بالإجراءات الاقتصادية وفرض الرسوم الباهظة على البضائع المنتجة خارج أمريكا، أو العقوبات القاسية…
وكان نيبل قد وقّع رواية أخرى تسير في منحى الخيال السياسي ذاته، صدرت سنة 1962 بعنوان «سبعة أيام في مايو»، تتخيّل انقلاباً عسكرياً في الولايات المتحدة، يطيح برئيس غير شعبي أبرم خلال الحرب الباردة اتفاقية عدم اعتداء نووي مع الاتحاد السوفييتي؛ تحوّلت إلى فيلم هوليودي شهير، شارك في بطولته نجوم أمثال كيرك دوغلاس وبرت لانكستر وآفا غاردنر. الأرجح أنّ أساطين الإنتاج السينمائي في هوليود لم يمتلكوا من الجرأة ما يكفي لتحويل «ليلة كامب دافيد» إلى فيلم، على غرار الرواية الشقيقة لها، فمشاريع الضمّ والاستيلاء والعقاب أشدّ حساسية وإحراجاً من أن تُستقبل بهدوء في كندا والدول السكندنافية.
أعمال نيبل تُستعاد اليوم على أكثر من نطاق، شعبي وسياسي وإعلامي، لأنّ إعادة انتخاب دونالد ترامب تحثّ على استعادتها؛ ليس على سبيل أدب الخيال السياسي هذه المرّة، بل لأنّ تصريحات الرئيس الأمريكي الـ47 حول كندا وباناما تحثّ عليها؛ ولأنّ مخيّلة ترامب تذهب إلى مطالبة السعودية بمحاصصة عوائد الحجّ مع واشنطن (فـ»الربّ واحد» كما اكتشف ترامب!)؛ وما إلى ذلك من سياسات تمزج الهلوسة بالخزعبلات والعنصرية.
وأمّا بصدد العلاقات الأمريكية ـ الإسرائيلية عموماً، واتفاقية وقف إطلاق النار والتبادل بين المقاومة الفلسطينية ودولة الاحتلال الإسرائيلي خصوصاً؛ فلا حاجة، في المدى المنظور على الأقلّ، لمخيّلة نيبل وأمثاله من أجل ترسيم محاور تلك العلاقات خلال ولاية ترامب الثانية. يكفي، هنا، تصفّح تدوينات الأخير على «تروث سوشيال»، منصّة التواصل الاجتماعي الخاصة به، كي يعثر المرء على المديح والهجاء، سواء بسواء؛ وعلى التلويح بالجزرة الثمينة المجزية من جانب واشنطن، مقابل هذا التنازل أو ذاك من جانب رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو. ولا عجب، في غمرة هذا الخضم، أن يعيد ترامب تدوين مقولة جيفري ساكس، الاقتصادي الأمريكي البارز، التي تطلق على نتنياهو شتائم بذيئة مثل «ابن عاهرة»، يستغلّ أمريكا لإشعال «حروب بلا نهاية» في الشرق الأوسط.
ذلك لأنّ رئيس القوّة الكونية العظمى الأولى، الذي قدّم لدولة الاحتلال هدايا ثمينة مثل نقل السفارة الأمريكية إلى القدس وفرض اتفاقيات أبراهام التطبيعية والاعتراف بالمستوطنات الإسرائيلية في الجولان السوري المحتل؛ قادر، أكثر من سَلَفه جو بايدن، على فرك أذن نتنياهو، وجلبه صاغراً إلى وقف إطلاق النار. وللمرء أن يراهن على هدايا أخرى كثيرة، غالية تارة ورخيصة تارة أخرى، سوف تنهال على نتنياهو خلال الأسابيع والأشهر والسنوات المقبلة من ولاية ترامب الثانية هذه. الأمر الذي يعني أيضاً، ومن باب الاستطراد المنطقي، أنّ القسط الأعظم من الهدايا الآتية سوف يكون على حساب الشعب الفلسطيني وحقوقه، ليس في قطاع غزّة وحده بل في سائر فلسطين التاريخية؛ وسوف تتكفل بسداد نفقاته أنظمة التطبيع ذاتها التي يحدث أنها عربات خلفية تلهث لتنفيذ اشتراطات ترامب، أو لعلها تتلهف على الخضوع والانحناء، وتتزاحم لحيازة «السبق» فيه.
لا أدب خيال سياسي هنا، ولا مَن يحزنون !
القدس العربي
—————————
الثورة والدولة والخطاب الشعبوي في سورية/ رانيا مصطفى
25 يناير 2025
يقول قائد الإدارة السورية الجديدة، أحمد الشرع، إن إعادة الإعمار تتطلّب “الانتقال من عقلية الثورة إلى عقلية بناء الدولة”، وإن “الثورة قد تزيل نظاماً ولكنّها لا تبني دولةً”، وليس بمقدور جماعةٍ من لون واحد، كانت فصيلاً مقاتلاً، أن تقوم بمهمة بناء الدولة السورية دون مشاركةٍ من الخبرات السورية في المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية وغيرها. يُسَجَّل للإدارة الجديدة بقيادة هيئة تحرير الشام أنها أحسنت التصرّف خلال عملية التحرير وحفظت الدماء، خاصّة أن الجيش لم يقاتل فعلياً في معركةٍ خاسرةِ، ورغم حصول انتهاكاتٍ خلال عمليات البحث عن مطلوبين، إلا أنها لم تكن عملاً ممنهجاً، بل بالعكس، عملت الجماعة الطامحة إلى السلطة للحدّ من الانتقامات الطائفية خصوصاً. وبالمثل، يستجيب المجتمع السوري لهذا النهج، وهو بدوره لا يرغب في العودة إلى حمَّام الدم.
الحالة السورية هشَّة، إذ ينقسم المجتمع بين جمهور الثورة وجمهورٍ كان مؤيّداً لنظام الأسد، وهنا العامل الطائفي يزيدُ الطين بِلَّةً. حالة هشاشة ضمن القوى السياسية القديمة، وحالة اقتصادية ومعيشية يُرثَى لها، والانقسام الفصائلي، ووجود مناطق نفوذٍ متعدّدة وبتدخّلات خارجية… ما سبق كلّه يجعل السوريين يُعوِّلون (في هذه المرحلة) على الفصيل الأقوى في الساحة السورية الواصل إلى سُدَّة الحكم من أجل توحيد الأراضي السورية وحصر السلاح بيد الدولة وتحقيق الأمان. ورغم ذلك، توجد انتقاداتٌ كثيرة تتعلَّق بفشل الحُكّام الجدد في إدارة ملفّ المعتقلين وحماية المقابر الجماعية وملفّ العدالة الانتقالية، لأنه ملفٌّ شائكٌ، ويحتاج إلى مشاركة خبرات الاختصاصيين، والاطلاع على تجارب مماثلة في دول أخرى. وإلى كتابة هذه السطور، لا توجد شفافية في هذا الملفّ، وهذا يفتح على انتقامات فردية ومخاطر من حصول انتقامات طائفية.
لا بياناتٍ رسمية بشأن العملية السياسية، والمرحلة الانتقالية، سوى كلامٍ فضفاض عن نيّة الحُكّام الجدد عقدَ مؤتمر وطني، وعن دستور وانتخابات بعد ثلاث أو أربع سنوات، مع إشارات إلى أن التمثيل الطائفي والعشائري والإثني سيكون حاضراً في مجمل ما سبق. هناك مبادرات من سياسيين ومثقّفين تخصُّ المرحلة الانتقالية، لم تدخل السلطة الحالية في نقاشها. هذا يدلّل على ارتباكها في ظلّ محاولاتها التوفيق بين الشروط الدولية والإقليمية والعربية لتقديم الدعم الأوّلي للحُكّام الجدد وللسوريين من جهة، وبثقل إرثها حركةً إسلاميةً سلفيةً جهاديةً، ووجود عناصر متشدّدة في رؤيتها إلى الدولة السورية، من جهة أخرى، وتجلّى ذلك في قرارات وزارة التربية تعديل المناهج، وفي تعطيل القضاء، وفي ترفيعات عناصر غير سورية في الجيش إلى رتب عُليا.
المؤكّد بالنسبة للحكام الجدد، على ما يقول الشرع ورئيس الحكومة ووزراؤها، تبنِّيهم اقتصادَ السوق الحرّ والخصخصة الواسعة. كان بشّار الأسد يحلُم برفع الدعم عن السلع الأساسية كالخبز والمازوت والبنزين، في ظلّ تبنّي حكومته منذ 2005 نمطاً اقتصادياً نيوليبرالياً، أودى بالزراعة وبصناعات وحرف كثيرة، وكان ذلك ضمن الأسباب العميقة لثورة 2011. تراجعُ شعبيته في السنوات الماضية جعله حذراً من اتخاذ خطوة رفع الدعم، خاصّة أن أكثر من 70% من السوريين تحت خطّ الفقر. اتَّخذت حكومةُ تسيير الأعمال (في اليوم الأول لتعيينها) قرارَ رفع الدعم، في ظلّ توقّف عجلة الاقتصاد وأزمة الطاقة ونقص السيولة، فضلاً عن مطلب تقديم مساعدات أوّلية وخدمية لتسهيل عودة النازحين إلى بيوتهم.
يبدو أن الحُكّام الجدد (وهم قادة عسكريون) لا يملكون حدّاً أدنى من الكفاءة فيما يتعلّق ببناء الدولة. تدلل على ذلك تصريحاتُهم غير المنضبطة، مثل القول إن نظام بشّار الأسد كان اشتراكياً، وقد قالها الشرع، ووزراء الاقتصاد والمالية والتجارة الداخلية وغيرهم في الحكومة. إن الاستشهادَ بتجربة حكومة الإنقاذ في إدلب، وإمكانية سحبِها على الدولة السورية مع بعض التعديلات هو في غير محلّه، إذ لم يكن هناك دولة في إدلب، فلا دعم للصناعة ولا الزراعة، ولا يوجد إنتاج ولا حركة تصدير إلى الخارج. وكانت إدلب، ومثلُها مناطق “درع الفرات” و”غصن الزيتون”، سوقاً للمنتجات التركية، بما فيها الخدمات الأساسية، مثل الكهرباء والوقود، وهذا يفرض كِلفاً عالية للمعيشة تصل إلى 500 دولار للعيش بالحدّ الأدنى، بينما يعيش السكّان على المساعدات الإنسانية، فينشط عملُ المنظّمات الإغاثية، إضافة إلى الحوالات التي يرسلها الأقارب إلى الداخل. يبدو أن وصفة إدلب هي خطّة الحكام الجدد حول اقتصاد الدولة، بتحرير كلّي للأسواق، وخصخصة كلّ شيء، حتى القطاعات الخدمية، وبدأ الحديث عن الكهرباء في هذا المنحى، وأن لا حاجة للخبرات والكوادر القديمة في الوزارات، طالما أن دور هذه الوزارات سيقتصر على جباية الضرائب. إن هذا النمط النيوليبرالي المتطرّف يعني أن دور الدولة سيقتصر على أجهزة الأمن والشرطة والجيش والجباية، وهو يعاكس فكرة إعادة بناء الدولة، وهذا يُفسِّر سبب تعطيل عمل معظم الوزارات (كانت على علَّاتها تؤدّي بعض الخدمات)، وتعميم فكرة أن مؤسّسات الدولة غير صالحة لأداء أيّ مهمّة، ويجب تقليص حجمها إلى الحدّ الأدنى، من دون الاستعانة بخبرات المختصِّين. يستشهد مؤيّدون للحكومة الجديدة بتحسّن سعر الصرف وانخفاض الأسعار بعد سقوط الأسد، رغم عدم توفّر السيولة في يد المواطنين، هذا الانخفاض سيكون مؤقّتاً، طالما أن عجلة الإنتاج متوقِّفة، وأن الاقتصاد يعتمد على الاستيراد فقط، لعجز الصناعة السورية عن المنافسة، خاصّة في ظلّ استمرار غياب حوامل الطاقة، أو توفّرها مستقبلاً بأسعار مرتفعة.
تتخبَّط حكومة اللون الواحد عبر قراراتها في تحديد دورها بين تسيير الأعمال خلال الأشهر الثلاثة الأولى، ونيَّتها التأسيس لشكل الحكم الذي تسيطر عبره على الدولة. حتى اللحظة، لم يتوجّه أحمد الشرع بخطابٍ إلى السوريين، ووسائل الإعلام الرسمية معطَّلة، ما عدا وكالة الأنباء الرسمية (سانا)، التي توردُ أنباءً مقتضبةً من نوع زياراتِ الوفود إلى دمشق أو لقاءاتِ الوزراء بفعّاليات اقتصادية، وزيارات إلى منشآت خدمية. في مقابل ذلك، يُخصِّصُ الشرع ساعاتٍ للقاء المؤثّرين في وسائل التواصل الاجتماعي، ويتحدّث إليهم بخطابٍ “أخوي” (دون المستوى السياسي) عن تحسُّن الأحوال، والعفو عن صغار المتورطين بالجرائم، ويترك لهؤلاء مهمَّة تعميم خطاب شعبوي يتعلّق بانتصار الثورة وتأييد مطلق للحكام الجدد، مستغلّين حالة النشوة الشعبية بعد سقوط الأسد. ولكنْ، لهذا الخطاب مدّة صلاحية تنتهي مع افتقار المواطنين إلى دور الدولة الخدمي، وحتى الأمني، في ظلِّ مخاوفَ من انعكاس تردّي الأوضاع المعيشية على الحالة الأمنية.
العربي الجديد
—————————
في الخلاف حول الحجاب والاندماج المحلي في سورية/ سميرة المسالمة
26 يناير 2025
في أوقات الحروب والمراحل التي تسيطر عليها المظاهر المسلحة، تميل المرأة غالبًا إلى اختيار اللباس المحتشم كوسيلة لحماية نفسها من أي اعتداءات محتملة، حيث يفرض الخوف والاضطراب الأمني أنماطًا محددة من السلوك والظهور في الأماكن العامة. ولكن مع عودة السلام إلى المدن، تبدأ هذه الأنماط بالتحول تدريجيًا، متأثرة بثقافة المنطقة وتقاليدها.
في سورية، يعكس التنوع الثقافي بين المدن والمناطق اختلافًا واضحًا في أنماط اللباس، مما يجعل فرض نوع معين من اللباس على النساء أمرًا غير مقبول. هذا التباين ظهر جليًا في شعارات تؤكد على خصوصية بيئة دمشق مقارنة بالمناطق التي جاء منها معظم أطياف الإدارة الجديدة الحاكمة للمدينة، حيث تتجلى الاختلافات الثقافية والاجتماعية في تفاصيل الحياة اليومية، ومنها اللباس الذي يبقى جزءًا من الهوية الفردية والجماعية.
في إحدى قنوات التلفزيون، سألت مذيعة أحد المسؤولين عن أمن التجمعات والاحتفالات في دمشق، إذا كان قد حضر مثل هذه المناسبات سابقًا. فكان جوابه أنها المرة الأولى التي يشاهد فيها احتفالًا شعبيًا برأس السنة الميلادية، وقد تجمعت شابات من مختلف الأطياف حوله. كانت دهشته واضحة، وبخاصة أنه يعتقد أن الاحتفال يخص مسيحيي سورية فقط، لكنه وجد نفسه وسط حشد متنوع بين نساء حاسرات الرأس ومحجبات. هذا المشهد يؤكد أن السوريين يعيشون فترة اندماج محلية جديدة، تحتاج لوقت مماثل لما عشناه في غربتنا مع المجتمعات الغربية.
النزوح الداخلي والخارجي نتيجة الصراعات يُظهر عادات جديدة تعكس محاولات الناس للتكيف مع ظروف اللجوء أو العودة إلى مجتمع مختلط من الثقافات المحلية. وكما يحمل اللاجئون والمُهجرون عاداتهم وتقاليدهم معهم ويحاولون الحفاظ عليها في أماكن النزوح، فإن هناك من المقيمين أو من أهل المدن من يحافظ على ما تعود عليه في مدينته ومجتمعه. هذا يؤدي إلى خلق مزيج ثقافي مع المجتمعات المضيفة، وهو ما يحدث الآن بأوضح صوره في العاصمة دمشق.
في الفترات الانتقالية، تظهر انقسامات اجتماعية تعكس تأثير التغيرات السياسية والثقافية. تختلف العادات بين المناطق بناءً على تأثير القوى المسيطرة والسياق المحلي، ومنها الألبسة الفولكلورية المعتادة عليها. هذا يؤدي إلى تنوع في التعبيرات الثقافية، واللباس أحدها، خاصة للنساء. ومع ذلك، تُظهر بعض العادات مرونة كبيرة، حيث تتكيف مع الظروف الجديدة وتساهم في تقليل الفجوة بين الفئات المختلفة. مثال ذلك ما شاهدناه في إدلب، عندما التزمت النساء بشكل محدد للباس الشرعي الذي أقرته حكومة الإنقاذ خلال الصراع المسلح مع النظام السوري. ومع التفاعل المجتمعي بين الحاكم والمحكوم، تخففت شروط فرض الحجاب، مما وفر الكثير من الارتياح الشعبي للفئات المتنوعة في المحافظة.
وسائل التكيف مع الحياة تتغير في أوقات الحرب والفترات الانتقالية على حد سواء، وتعكس العادات الاجتماعية خلال فترات احتدام الصراع وما يليه من فوضى التغيرات العميقة التي تطرأ على المجتمع نتيجة الظروف السياسية والاجتماعية المتقلبة. تصبح العادات وسيلة للتكيف مع الظروف الصعبة وللحفاظ على الهوية الجماعية، بينما في الفترات الانتقالية، تعكس هذه العادات تفاعل المجتمع مع التغيرات ومحاولاته لإعادة بناء نفسه.
وضمن ذلك، تعمل النساء السوريات على إعادة تموضعهن ضمن منظومة العمل خلال الفترة الحالية، على الرغم من ضبابية طبيعة النظام التي تتفاوت بين التصريحات المشجعة على الحريات العامة وبناء دولة مواطنة وحقوق متساوية، وبين بعض الأفعال التنفيذية التي يقوم بها أحد الأطراف الميدانية المسؤولة، والتي تخالف التصريحات الرسمية للحكومة.
من المطمئن أن تعترف حكومة أحمد الشرع بالدور الكبير الذي لعبته المرأة منذ اندلاع الثورة وخلال فترة الحرب، فما صرح به وزير الخارجية أسعد الشيباني في مؤتمر دافوس عن دور المرأة المأمول مبشر، لكنه يبقى في إطار الوعود ما لم يعتمد دستوريًا وتنفيذيًا، خاصة أنه يتماشى مع ما هو متعارف عليه في تجارب الدول التي مرت بظروف مماثلة وتعافت: “إن الفترات الانتقالية تلعب دورًا في تعزيز دور المرأة والشباب في المجتمع” حيث يزداد اعتماد الأسر على النساء في الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية نتيجة غياب الرجل لأسباب متعددة خلال فترة الحرب، مما يؤدي إلى تغييرات في توزيع الأدوار داخل الأسرة.
هذا يعني أن الدور المنوط بالمرأة عمليًا هو سابق على الأدوار التنظيرية لها، وبالتالي ليس ترفًا القول إنها شريكة بالتساوي في عملية بناء سورية ولها الحق في التنافس على كل مناصبها التنفيذية.
صحيح أن الفترات الانتقالية تشهد تغيرًا في العادات الاجتماعية لتعكس حالة الترقب وعدم اليقين، ويعيد الناس تعريف بعض العادات لتتناسب مع الظروف الجديدة، ومنها قضية المرأة السافرة أو المحجبة. ولكن أن تصبح قضية لباس المرأة هي الشغل الشاغل للسوريين، سواء السافرة منهن أو المنقبة والمحجبة، فهذا يعني أننا نبدأ بناء الدولة من زمن ما قبل الدولة الوطنية، وليس من زمن شرعة حقوق الإنسان. هذه الاهتمامات تقلل من شأن دور المرأة وطموحاتها المشروعة في مواطنة كاملة، وحقوق متساوية مع الرجل، وتغرقها في حوار المسموح والممنوع في ملابسها.
في خضم هذه التحولات، تظل العادات الاجتماعية في سورية رمزًا للمرونة والصمود، سواء في فترات الصراع أو الانتقال، وتعكس هذه العادات قدرة المجتمع على التكيف مع التحديات والحفاظ على هويته الثقافية، ورغم كل الصعوبات، يظل التراث الثقافي والسلوكيات الجماعية جزءًا لا يتجزأ من حياة السوريين، يشكلون من خلالها معاني جديدة للأمل والانتماء، والتساوي في الحقوق والواجبات.
*كاتبة سورية.
ضفة ثالثة
————————
لدرء “شيطان” الخصخصة في سوريا/ إياد الجعفري
الأحد 2025/01/26
بدايةً، لإزالة أي لَبسٍ ناجمٍ عن العنوان، لا نقصد به رفضاً مطلقاً للخصخصة كأداةٍ من أدوات إصلاح السياسة الاقتصادية في سوريا. بل، ونقرّ، جزئياً، بصحة ما يقوله فريق من المتخصصين الاقتصاديين المتحمسين للَبرلِة الاقتصاد السوري، بأن حالة الإفلاس شبه الكامل في خزينة الدولة، تجعل سوريا أمام خيار لا مناص منه، باتجاه الخصخصة الجزئية أو الكلية لمؤسسات القطاع العام المتهالكة والفاشلة في غالبيتها العظمى. لكن، يبقى “الشيطان في التفاصيل”. وقد تقصدنا استخدام كلمات ذات إيحاء ديني في العنوان، علّه يفلح في جذب “أخوتنا” في الإدارة السورية الجديدة، فتصل النصيحة إلى غايتها. وذلك إن أرادوا أن يفلحوا في “الدنيا قبل الآخرة”.
وكتوطئة للموضوع المُراد، نحن مضطرون لامتداح تلك الإطلالة الموفّقة لوزير الخارجية، أسعد الشيباني، في منتدى دافوس السويسري، قبل أيام. ونقرّ بأنه أجاد في الترويج لسوريا جذّابة، أمام قادة دول ورجال أعمال ومدراء تنفيذيين دوليين. هذه التوطئة “المادحة”، كانت ضرورية كي لا يعتقد “أخوتنا” في الإدارة السورية الجديدة، أننا مجرّد متصيّدين للأخطاء، ومتحرّين عن السقطات. وبعد هذه التوطئة الاضطرارية، نرجو أن يكون من المتاح قراءة ما سيأتي بعقل مفتوح، لا بموقف مسبق من أي شخص خارج “الفريق المنسجم”، الذي ترفض الإدارة السورية الجديدة الركون إلا إليه.
فـ”جهود الخصخصة”، التي تركّز عليها “الحكومة الجديدة”، وفق تصريحات الشيباني لصحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية، قبل أيام، ليست قضية اقتصادية صرفة، بل هي أساس لشكل الحكم وبنيته العميقة، في سوريا المستقبل. ومن غير المقبول اتخاذ قرارات باتجاهها، من دون تشاركية واسعة النطاق، مستندة إلى هيئة تمثيلية مُنتخبة. وفي ظروف تتوفر فيها درجة كافية من الحوكمة والشفافية والقدرة على مساءلة السلطة، ودرجة مقبولة من إنفاذ القانون وفعالية القضاء واستقلاليته. سوى ذلك، فالخصخصة حينها ستكون مدخلاً لولادة “أوليغارشية- سلطوية” جديدة، تستنسخ تجربة بشار الأسد ذاته. وهي وصفة قاتلة، لكارثة اقتصادية- اجتماعية جديدة، في بلدٍ لا يتحمّل كوارث أخرى من هذا النوع. إذ أن سياسات الأسد الابن، الاقتصادية تحديداً، في العقدين ونيف الفائتين، كانت هي الأسباب العميقة لانفجار البلاد وانحدارها إلى ما وصلت إليه اليوم. وخصخصة جوانب من القطاع العام، لصالح ثلة من المقرّبين منه، أو لدول حليفة -روسيا وإيران- كانت من أبرز الميكانيزمات التي أدت تدريجياً، إلى انفضاض الحاضنة الموالية له، عنه. وصولاً إلى سقوط نظامه المدوّي في 8 كانون الأول الفائت.
وفي ذلك نحيل إلى دراسة ضخمة، صدرت عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالدوحة، عام 2016، بحثت في سياسات الخصخصة وتجاربها العالمية والعربية، وخلصت إلى جملة نتائج. من أبرزها، أن الكفاءة في أداء منشأة اقتصادية ما، لا يتوقف على نوع الملكية (عامة أم خاصة)، بل على البيئة المؤسسية التي تعمل المنشأة في ظلها، والقدرة على الخضوع لقواعد المنافسة في السوق. وتشير الدراسة إلى أن ضعف كفاءة المنشآت العامة مقارنة بالمنشآت الخاصة، لا يعود إلى نوع الملكية، وإنما إلى الفساد والتدخلات السياسية.
وبالإحالة إلى الفساد، نؤيد الشيباني في استلهامه للنموذج السنغافوري، بصورة خاصة. فهو الأنسب بالفعل، للحالة السورية. لكن لا نعرف إن كان وزير الخارجية قد اطلع على ركائز نهضة سنغافورة، والتي لا تنحصر فقط في فتح الأبواب أمام رجال الأعمال، بل رافق ذلك أيضاً مكافحة الفساد إلى أقصى درجة ممكنة، بالتزامن مع اختيار أصحاب المناصب بناءً على الجدارة والاستحقاق، لا بناءً على الولاء و”الانسجام”.
ومن أبرز تجارب الخصخصة التي مُنيت بنتائج مأساوية، تلك التي حدثت في روسيا، في تسعينات القرن الماضي، وطالت ما يقرب من 45 ألف مؤسسة حكومية. يومها انتهجت السلطات مبدأ الخصخصة المتسرّعة، واعتمدت طريق الإصلاح الاقتصادي بالصدمة، والعبور السريع إلى اقتصاد السوق بضربة واحدة، والتعجيل بتصفية النظام الاقتصادي القديم، وتحرير الأسعار من القيود لتفادي النقص في المنتوجات. فكانت الحصيلة نهب ثروات وموارد البلاد، لصالح حفنة من المدراء التنفيذيين السابقين، الذين أصبحوا أقلية ثرية مؤثّرة في حكم البلاد، مع إفقار شريحة واسعة من الشعب بصورة جعلته يترحم على أيام “الشيوعية” في عهد الاتحاد السوفياتي.
في الدراسة التي أشرنا إليها أعلاه، تم البحث مطوّلاً في تجربة “دول الأداء العالي الآسيوية”، التي خاضت تجارب خصخصة ناجحة، دفعت إلى نمو وتنمية اقتصادية مميزة. وهي تجارب تثبت عدم صوابية التطرّف باتجاه أصولية اقتصاد السوق. في الوقت ذاته الذي تثبت فيه عدم صوابية التطرّف بالاتجاه المعاكس القائل بملكية الدولة لوسائل الإنتاج. وما بين الأصوليتين، اختطت “اقتصادات الأداء العالي الآسيوية” مساراً خاصاً بها، استند إلى جملة عناصر، أبرزها الحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلي، وضبط الأسعار، وتعزيز عوامل الثقة بالنظام المصرفي، ونقل التكنولوجيا وتوطينها، ودور القادة التكنوقراطيين الكفوئين، والاهتمام بالتعليم. وارتكزت هذه التجارب إلى ثلاثية: قواعد السوق، والتدرّج في الإصلاح الاقتصادي، والانفتاح على الاستثمارات الأجنبية بصورة مضبوطة قانونياً.
في الختام، ليست الخصخصة بحد ذاتها، هي “الشيطان”. بل “الشيطان” يكمن في تفاصيلها. متى وكيف تتم؟ في حالتنا بسوريا، نحن بحاجة للتوقيت المناسب والكيفية الملائمة لدرء “شيطان” الخصخصة. وإلا، فإن “بشار الأسد” سيُبعث من جديد، بحلّةٍ جديدة.
المدن
تحميل كتاب الدولة واقتصاد السوق : قراءات في سياسات الخصخصة وتجاربها العالمية والعربية Pdf لـ طاهر حمدي كنعان – حازم تيسير رحاحلة
لمراجعة الكتاب السابق
———————————-
سوريّا ولبنان: طور خارجي معبّد وطور داخلي معاق/ حازم صاغية
26 يناير 2025 م
ربّما جاز الحديث عن طورين يتخلّلان خروج السوريّين واللبنانيّين من محنتهم المديدة: الطور الأوّل الذي ينقضي راهناً هو طور الهيمنة الخارجيّة الإيرانيّة، ومعها الروسيّة في حالة سوريّا. وإذا صحّ أنّ العوامل الخارجيّة استندت إلى مرتكزات داخليّة، كما لا تزال تربطها بالتراكيب الداخليّة جسور متينة (كرغبة تركيّا في إخضاع الكرد السوريّين، وبقاء سلاح «حزب الله» المرهون باستمرار ما تبقّى من نفوذ لإيران)، يبقى الصحيح أيضاً أنّ التخلّص من هيمنة الخارج كان شرطاً شارطاً لإطاحة الوضعين القائمين السوريّ واللبنانيّ. إلاّ أنّ التخلّص ذاك، الذي بذل السوريّون خصوصاً، ولكنْ ايضاً اللبنانيّون، تضحيات هائلة لأجل بلوغه، جاء نتيجة عنصر خارجيّ في آخر المطاف، تماماً كما أنّه هو نفسه عنصر خارجيّ. وقد يجادل البعض بحقّ بأنّ إطاحة أنظمة شديدة البطش والعنفيّة تبقى عملاً شبه مستحيل دون عنصر مضادّ لها يفد من الخارج، سيّما وأنّ القوى المستولية على السلاح لا تكنّ أيّ تقدير لنشاطات الاحتجاج السلميّ ولا تأخذه بعين اعتبارها. بل قد يقال أيضاً إنّ جميع تجارب التغيير التي نعرفها في منطقتنا العربيّة استلزمت تدخّلاً خارجيّاً هو الذي حسم الأمر المُمضّ العالق: فنظام البعث في العراق استمرّ ما بين 1968 و2003 حين أسقطه تدخّل أميركيّ واسع النطاق تحوّل احتلالاً، ونظام القذّافي في ليبيا عاش من 1969 حتّى 2011 حين قضى عليه حلف الناتو في دعمه ثورة الليبيّين. وفي المقابل، لم يسقط نظام بشّار في سوريّا عام 2013 حين استنكفت أميركا والناتو عن التدخّل، لكنّه سقط، في المرّة الثانية، في واحد من تداعيات عامل خارجيّ استدعته عمليّة «طوفان الأقصى» في غزّة وإسرائيل.
بيد أنّ انقضاء الطور الخارجيّ، في شكله العدوانيّ هذا، يضعنا أمام الطور الثاني الذي نعيشه راهناً، وهو الداخليّ والأهليّ. فعلى رغم التفاوت في حجم الأزمتين ومستوى الخطرين، تواجه سوريّا مشكلة العلاقة بين طوائفها وجماعاتها، والبحث تالياً عن نظام يضمن تعايش أبنائها بتساوٍ وعدل. ويواجه لبنان مسائل الانتقال إلى وضع جديد تترجمه عناوين يوميّة صعبة ومعقّدة، كتشكيل حكومة بديلة وجلاء المحتلّ الإسرائيليّ وإعادة تنظيم العلاقة بين الطوائف والجماعات. صحيح أنّ انتخاب رئيس جمهوريّة، وتكليف رئيس حكومة، قطعا باللبنانيّين شوطاً إلى الأمام في تعاملهم مع الداخليّ والأهليّ، لكنّهما أيضاً وضعاهم أمام مأزق بات ردّه إلى الخارج ضعيف الإقناع، وباتت مسؤوليّة الداخل عن حلّه أشدّ حضوراً. فإذا كان التخلّص من العنصر الخارجيّ الشرطَ الضروريّ غير الكافي، فإنّ الطور الثاني يرفع في وجوهنا تحدّي بناء المجتمع والسياسة الذي على السوريّين واللبنانيّين أن ينجزوه.
لقد قيل، بعد إضعاف «حزب الله» نوعيّاً وإطاحة الأسد، إنّ البلدين عادا إلى «نفسيهما»، وهذا ما كان سبباً لاحتفال واسع ومُبرّر لدى أكثريّات الشعبين. لكنْ ما العمل حين تكون «النفس» التي تمّت العودة إليها «نفوساً عدّة». هكذا نلاحظ، مثلاً لا حصراً، أنّ اللبنانيّين أقلّ حماسة من دول «الخماسيّة» لتشكيل حكومة وإجراء إصلاحات. أمّا في سوريّا فالصورة أشدّ فداحة، إذ النظام الأسديّ اندثر وتلاشى، وهذه هديّة استثنائيّة لنظام جديد، مع ذلك لا يبدي المجتمع ما يطمئن إلى وضع جديد متجانس ومستقرّ، وهذا علماً بأنّ الوضعين الجديدين في البلدين يحظيان باحتضان ورعاية عربيّين ودوليّين.
هكذا قد يميل بنا الظنّ إلى افتراض أنّ مجتمعاتنا تنتقل من طور خارجيّ عدوانيّ كالذي عشناه مع النفوذ الإيرانيّ، على شكل ميليشيات وسلاح وزجّ في صراعات لا حصر لها، إلى طور داخليّ مأزوم. وربّما للسبب هذا، والتفافاً على الأزمة، نشهد الآن تمديداً للطور الخارجيّ، وإن في شكل صديق وغير عدوانيّ، حلاًّ لمشاكلنا ووعداً بإعادة إعمارنا. لكنّ تمديد الطور الخارجيّ قد يتّخذ أشكالاً أخرى منها المُقلق والضارّ، كأنْ تستغلّ تركيّا لزاجة الوضع السوريّ لتصفية الحساب مع الكرد، أو كأنْ يستمرّ الربط بين تذليل العُقد اللبنانيّة وما قد يحصل على الجبهة الأميركيّة / الإسرائيليّة – الإيرانيّة. فنحن عالقون في طور خارجيّ بعضه مفيد وبعضه مؤذٍ، لكنّ المؤكّد أنّ الطور الداخليّ سيبقى إلى أمد طويل مأزوماً، وربّما مسدوداً. ومن يدري، فقد يكون مفيداً أن نقرن التفاؤل الذي نعيشه بسقوط الوضعين السابقين في سوريّا ولبنان بشيء من التأمّل في الكيانات السياسيّة نفسها، وفي قدرتها، هي المتناحرة حتّى العظم، على أن تكون حاضناً لعمليّة الانتقال إلى طور داخليّ مفيد. وهناك جبل من البراهين على أنّ حقبتنا ما بعد العثمانيّة لم تطوّر وطنيّات فعليّة متجاوزة لمكوّناتها، تترجمها دول – أمم ذات حدّ مقبول من الإجماعات، وهناك، للمرّة المليون، ما يوجب على السوريّين واللبنانيّين أن يعيدوا التفكير في اجتماعهم السياسيّ بعدما كان النظامان المسنودان بإيران يسهّلان علينا التفكير.
الشرق الأوسط
——————————-
مساعي الشيباني لرسم محددات السياسة الخارجية السورية/ محمد جلال العلي
26/1/2025
لم يتفق الباحثون والمنظرون السياسيون على تعريف محدد لمفهوم السياسة الخارجية؛ فيقول الأستاذ الجامعي وعالم السياسة جيمس روزيناو: إن السياسة الخارجية “هي منهج للعمل، يتبعه الممثلون الرسميون بوعي من أجل العمل على تغيير موقف معين في النسق الدولي، بشكل يتفق مع الأهداف المحددة سلفًا”.
وبرأيي، إن السلوك السياسي الداخلي الذي تتبعه الأحزاب والجماعات السياسية الطامحة بالحكم هو سلوك ذو اتجاهين: داخلي وخارجي، ويكون بنفس النسق، ويبدو متناغمًا تكامليًا إذ أراد النجاح، وتحقيق الشرعية الداخلية والمشروعية الخارجية.
كان التحدي الكبير لدى هياكل المعارضة السورية بكل أطيافها، في صراعها مع نظام الأسد البائد، في تحقيق الشرعية الداخلية والمشروعية الخارجية. وخلال عملية “ردع العدوان” بقيادة هيئة تحرير الشام، بدأ هذا السلوك يتضح شيئًا فشيئًا من خلال النهج الداخلي أثناء المعركة، وانعكاسه على الفاعلين الدوليين الذين يخشون من زعزعة الأمن والسلم الدوليين، ومن خلال هذا السلوك بدأت الدول بإعادة حساباتها مع نظام الأسد البائد، ومع قوى الثورة أو – كما يطلق عليهم المجتمع الدولي – “المعارضة السورية”.
ونذكر هنا بعض الخطوات التي اتبعتها إدارة العمليات العسكرية؛ ومنها تصدير العملية على أنها إستراتيجية تتميز بأنها أقل درجة ممكنة من العنف والانتهاكات، وأنها تسعى للحفاظ على الأقليات والممتلكات العامة من خلال سلوك منضبط في التحرير، وزيارة الأماكن الدينية، والاطمئنان على سلامة المواطنين وكذلك طمأنتهم، وتوزيع الخبز أثناء العملية العسكرية، واستلام ملفات الحكومة، وإخراج المعتقلين، وإرساء السلم الأهلي من خلال العفو عن موظفي النظام البائد إلا من ارتكب جرمًا بحق الشعب السوري.
وهنا بدأت ملامح اكتساب المشروعية الدولية والشرعية الداخلية، والتي كانت تسبب قلقًا للشعب والمجتمع الدولي. وبعد سقوط نظام الأسد صرحت بعض الدول بتخوفها من نشوب حرب أهلية، قد تشكل خطرًا على الأمن والسلم الدوليين، لتبدأ الإدارة الجديدة في دمشق بإصدار تصريحات من خلال مقابلات تلفزيونية، تلتها زيارات مبعوث أممي ووزراء خارجية وأجهزة استخبارات، تستكشف سير العملية السياسية والأمنية في سوريا.
وكان بعض الفاعلين الدوليين يراهنون على أن العملية السياسية هي تحت الوصاية التركية، أي أن السياسة الخارجية السورية ستكون أحادية الجانب مع تركيا وقطر فقط، وهذا ما جعل بعض الفاعلين الدوليين يعقدون اجتماع العقبة بهدف تحقيق الاستقرار الأمني، والحفاظ على الأمن والسلم الدوليين، وهذه المخاوف جعلتهم يطرحون حلولًا مثل تطبيق القرار 2254، والذي لا تتطابق بنوده مع الواقع السوري الجديد، كما وصفتها الإدارة في دمشق.
وهنا كان تقديم البرهان على عاتق الإدارة، التي سعت من خلال مقابلات وتصريحات لرسم مقاربات دولية جديدة، من خلال وضع محددات للانفتاح على الفاعلين الدوليين، مثل روسيا والمملكة العربية السعودية.
وهكذا بدأت الإدارة تتبع سلوكًا متعدد الأطراف في السياسة الخارجية السورية، وترجمته من خلال إرسال وفد حكومي تضمن وزيرَي الخارجية والدفاع ورئيس الاستخبارات، حاملًا معه رسائل وبرامج طمأنة بالحفاظ على الأمن والسلم الدوليين، والعديد من الرسائل الدبلوماسية.
ففي زيارة إلى المملكة العربية السعودية، أكدت الإدارة على أنها ستؤدي دورًا إيجابيًا، وتنسج سياسات مشتركة تدعم الأمن والاستقرار؛ وبهذا حصلت على دعم المملكة العربية السعودية، التي أكدت على دعم وحدة أراضي سوريا وأمنها، والمساهمة في ازدهارها.
وبعدها انطلق الوفد لزيارة دولة قطر، وركز على تعزيز التعاون بين البلدين، وبناء شراكات إستراتيجية في إطار إعادة الإعمار والطاقة، وأكدت دولة قطر على تقديم كل أشكال الدعم، وأن تقوم بجهود دبلوماسية حثيثة على كافة المستويات الدولية، للمساهمة في رفع العقوبات المفروضة على سوريا من قبل الولايات المتحدة، وكذلك تمكين الإدارة الجديدة على الصعيدين: الاقتصادي والسياسي، ووجه الجانبان خطابًا مشتركًا لرفع العقوبات عن سوريا.
من ثم توجه الوفد لزيارة الإمارات العربية المتحدة، حيث حمل دعمًا من تركيا وقطر والمملكة العربية السعودية، وتصريحًا من الولايات المتحدة الأميركية بدعم الإدارة السورية الجديدة، وهذا حمل رسائل طمأنة للإمارات بالحفاظ على الاستقرار السياسي والأمن والسلم الدوليين.
ثم قام الوفد بزيارة للمملكة الأردنية الهاشمية، وأكد الطرفان على التعاون الأمني والعسكري المشترك، وشكر الوفد المملكة على دعمها في إزالة العقوبات، وأكد أن البلدين سيشهدان انفتاحًا على مستوى الشركات، وأن الوضع الجديد لسوريا أنهى التهديدات للأردن بما يخص تهريب السلاح والمخدرات.
ونرى أن هذه الزيارات الدبلوماسية لوزير الخارجية أسعد الشيباني أتت بالتوازي مع طمأنات داخلية بشأن سير العملية الانتقالية، وتوسيع لجان التحضير لمؤتمر الحوار الوطني، ولقاءات مع السفراء السوريين وبعض المواطنين السوريين المقيمين في تلك الدول؛ فقد نجح هذا النشاط الدبلوماسي بالحصول على المشروعية الدولية، التي ستساهم بإثبات جهودها الخارجية والداخلية لإدارة سوريا، وبالتالي تصدير صورة للولايات المتحدة الأميركية على وجه الخصوص من خلال الفاعلين الدوليين الذين زاروا الدولة بأنها ذات مشروعية دولية، وتتبع نهجًا إستراتيجيًا يراعي الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين.
ومن هنا تبدأ عملية رسم محددات السياسة الخارجية السورية بملامحها وتناغمها داخليًا وخارجيًا؛ فهذه السياسات هي التي تحدد مدى شرعية هذه الإدارة، ومشروعيتها على الصعيدين: الداخلي، والخارجي بوجود النضج السياسي لدى الإدارة، التي يعتبرها البعض مرسومة من بعض الدول الإقليمية، في حين يراها السياسيون على أنها مجموعة نشاطات داخلية وخارجية لتأطير الشرعية والمشروعية السياسية، وتثبيت انتصار الثورة على نظام الاستبداد، وتأكيد أن سوريا هي دولة ناضجة سياسيًا، وستنتقل بعد التعافي لتكون فاعلًا دوليًا مهمًا على الصعيدين: الإقليمي، والدولي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
مدون، سوري، يدرس ماجستير دراسات الشرق الأوسط بجامعة سكاريا
الجزيرة
——————————
إيران وسوريا ما بعد الأسد: تريث وترقب/ حسن أحمديان
23 يناير 2025
صُدِم الإيرانيون بسقوط الأسد وبدؤوا عملية تكيف مع الوضع المستجد في المنطقة بعد ذلك. ويعني سقوط الأسد انتكاسة مهمة لسياسة إيران الإقليمية كما لمحور المقاومة. ومن المرجح أن تستمر مرحلة التكيف مع المستجد السوري لوقت طويل قبل أن تصل طهران إلى سياسة واضحة المعالم إزاءه. فبالنظر إلى نقاشاتها الداخلية، تُطرح رؤى مختلفة ومتناقضة حول الواقع السوري والسياسة الإيرانية المترتبة عليه.
———————-
في ديسمبر/كانون الأول 2024، وفي زمن قياسي أدهش الإيرانيين -وغيرهم في المنطقة والعالم- سقط نظام البعث في سوريا. يؤثر ذلك التغيير بشكل كبير على إيران وحلفائها في الإقليم؛ فقد تحالفت سوريا منذ الثمانينات من القرن الماضي مع إيران، منفردة بذلك في المنطقة العربية في دأبها موازنة التهديد العراقي ثم الأميركي فالإسرائيلي في مراحل لاحقة. وقد بُني الدعم الإيراني للنظام أمام معارضيه في الداخل والخارج على سابق التعاون الإستراتيجي بين البلدين أولًا وعلى حجم سوريا الوازن ضمن محور المقاومة ثانيًا. ويثير سقوط الأسد جدلًا داخليًّا حول أسبابه وأبعاده الإستراتيجية، كما توجه التطورات في سوريا وامتداداتها الإقليمية والدولية، النقاش المحتدم في إيران حول مستقبل سياستها تجاه سوريا واللاعبين فيها وحولها. نركز في هذه الورقة علی الرؤى الإيرانية -إذ لم ينضج بعد ما يمكن وسمه بالرؤية الإيرانية- حول المستجد السوري وتأثيره على إيران ومحور المقاومة. كما نستشرف، عبر تلك الرؤى، احتمالات التوجه الإيراني والمتغيرات المصوبة له في القادم من الأشهر والأعوام.
انتكاسة إقليمية
دُهش الإيرانيون لمرأى سرعة تقدم المعارضة من جهة وهزالة النظام وقواه العسكرية من جهة أخرى؛ إذ توقعت إيران مقدرة الجيش العربي السوري على الثبات بوجه ذلك التقدم على غرار ثباته في بدايات الحرب السورية وبدعم حلفائه في مراحل لاحقة. ولفداحة الخسارة ووطأتها الثقيلة على إيران وحلفائها المنضوين تحت مسمی “محور المقاومة”، طفت علی السطح، وما زالت، نقاشات حادة وواسعة حول أسباب الحدث وأبعاده.
ويعود اهتمام إيران بسوريا للثمانينات من القرن العشرين، حين ساندت سوريا إيران في موازنة العراق لدوافعها الخاصة ومنها تنافس البعثين، السوري والعراقي، وقيادتيهما. ولم تجد إيران في حرب الثماني سنوات داعمًا دوليًّا أو إقليميًّا غير سوريا التي دربت الجيش الإيراني على كيفية استخدام الصواريخ السوفيتية(1) ومنعت العراق من استخدام أراضيها لتصدير النفط، وهي خطوات غاية في الأهمية إذ مكَّنت إيران من موازنة العراق صاروخيًّا من جهة وفرضت عليه ضغوطًا مالية من جهة أخری. ومن هنا، بدأ إمداد إيران سوريا في مجال الطاقة وهو ما ازداد في سنوات الحرب السورية.
وشهدت العلاقات الثنائية فتورًا في التسعينات نتيجة التقارب السوري-الأميركي بعد حرب تحرير الكويت ومشاركة سوريا في مؤتمر مدريد، عام 1991، ومفاوضاتها اللاحقة مع إسرائيل. ودخلت الدولتان مرحلة من الخلافات في ملفات مشتركة كالملف اللبناني، كما شهدت إيران تطورات داخلية ونموًّا في علاقتها بالمحيط العربي قلصت من ركونها للحليف السوري في المنطقة العربية. إلا أن الحادي عشر من سبتمبر/أيلول باغت البلدين ووصل إلى حدودهما بتهديد أعتى من الذي مثَّلته بغداد في ذروة قوتها وهو الحضور العسكري الأميركي بعد احتلال العراق. بذلك عاد تهديد الثمانينات بحلة أميركية وأعاد التقارب بين البلدين من بوابة مواجهة التهديد المشترك.
وإلى جانب التهديد الأميركي، أدى التعاون في دعم المقاومة اللبنانية في حرب 2006 والمقاومة الفلسطينية في تلك المرحلة إلی توطيد العلاقات ورُقي التنسيق الإقليمي بين البلدين. وأتی الربيع العربي ليضع إيران أمام خيارات صعبة؛ فطهران المؤيِّدة لثورات الربيع العربي، تذبذبت في موقفها من الثورة السورية نتيجة الجدل الدائر في دوائرها الإستراتيجية إزاء الحدث السوري. فقد انقسمت إيران بين مؤيد ومعارض لدعم النظام وعارض كل من الرئيس أحمدي نجاد، ورئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام، هاشمی رفسنجاني، دعم النظام بينما دفع آخرون منهم الجنرال سليماني ورئيس المجلس الأعلى للأمن القومي في ذلك الوقت، علي شمخاني، إلی تبني موقف مؤيد للنظام. وكان ذلك الانقسام ظاهرًا في المجتمع الإيراني، ومنه المجتمع النخبوي، معبِّرًا عن التأييد لتطلع السوريين للتخلص من نظام قمعي من جهة ومتخوفًا من البديل وعلاقته بإيران وحلفائها من جهة أخری. بذلك انقسم الإيرانيون حول سوريا وتطلب الأمر نقاشًا مطولًا وتطورات أخری في سوريا ذاتها لترسو مركبة طهران على إحدى القراءتين.
وأتت ثلاثة تطورات في الملف السوري لتغطي بدايات النقاش الإيراني وتدفع طهران تجاه دعم النظام. داخليًّا، زاد ظهور التيارات السلفية وخطابها الطائفي -وامتزاج السوري منها بغير السوري- من المخاوف الإيرانية ولم تسهم المعارضة العلمانية في تبديد تلك المخاوف. فقد تناقل الإيرانيون مثلًا خطاب السيد برهان غليون حول مستقبل العلاقة بإيران وحزب الله بسلبية عالية(2). إقليميًّا، أتت مقاطعة تركيا والمملكة العربية السعودية ودول عربية أخری دمشق وسحب سفرائها، في أغسطس/آب 2011، ودعمها المعارضة، بخطاب إيراني يری في المستحدث السوري مؤامرة ضد محور المقاومة. ودوليًّا، أعطت دعوة الولايات المتحدة الرئيس السوري للرحيل إشارة أوضح بالنسبة لإيران حول مسار الأحداث، مثيرة مخاوفها من نوايا التهديد الأول في حسابات الأمن القومي لديها -الولايات المتحدة-. بذلك وبالتدرج، مال النقاش الداخلي تجاه دعم النظام قبل اتخاذ المجلس الأعلى للأمن القومي قرار الدخول لصالح دمشق بعد طلب الأخيرة. وكان الهدف واضحًا: إبقاء النظام لتأمين محور المقاومة أمام أعدائه وإبقاء الموازنة السورية أمام إسرائيل.
تزايد الكلفة
تدرجت إيران في سياستها على مدی الأزمة السورية. فلم يكن لدی طهران إجابات معدة سلفًا لأزمة تطورت في مراحلها المختلفة وأتت بأسئلة جديدة أمام صانع القرار الإيراني في كل من تلك المراحل. فقد بدأت إيران بعد الطلب السوري، عمليات محدودة لتدريب قوات سورية على حرب العصابات، وهو ما لم يكن ضمن تجارب الجيش العربي السوري وكان النظام بأمَسِّ الحاجة له لوقف تقدم المعارضة المسلحة. تطور الوضع ودخلت حركات غير سورية إلی طرفي الصراع دفاعًا عن المعارضة المسلحة من جهة والنظام من جهة أخری. ودخل حلفاء إيران ومنهم حزب الله اللبناني وحركات عراقية وغيرها دعمًا للنظام في المرحلة الثانية من الصراع. وعند اتضاح صعوبة الوضع رغم المجهود الكبير لإيران وحلفائها وأمام دعم قوی إقليمية ودولية وازنة للمعارضة السورية، دخلت روسيا على الخط في مرحلة ثالثة للصراع يمكن نعتها بالتدويل.
أنتج ذلك واقعًا مختلفًا أجبر المعارضة المسلحة وداعميها على مواكبة التفاهمات الإقليمية والدولية بعد انكفاء جهودها الحربية على الأرض. بذلك بدأت اجتماعات الآستانة بتفاهم وإشراف تركي-إيراني-روسي ونتجت عنها تفاهمات أوقفت القتال في أغلب الجبهات وأنهته على تخوم إدلب. ومع تدرج الحرب بمراحلها الثلاث، ظهر ضعف النظام وحاجته المستمرة للدعم للبقاء. ومع فرض الإدارة الأميركية عقوبات “قانون قيصر”، تأزم الواقع الاقتصادي بشكل أكبر ما حدَّ من قدرة النظام على إعادة الإعمار وإصلاح منظومته العسكرية والأمنية(3)؛ وبذلك تزايدت أعباء دعم الحليف السوري على إيران.
وإلى جانب تزايد كلفة بقاء الحليف السوري، لم يُسهم النظام بشكل فعال في دعم قوى المقاومة بعد عملية طوفان الأقصی -تناوله نقاش إيراني معلن بعد السقوط-؛ فقد كان الإيرانيون وحلفاؤهم اللبنانيون والفلسطينيون يتوقعون، رغم علمهم بصعوبة وضع الجيش العربي السوري، مشاركة أكبر من خلال تفعيل جبهة الجولان. وقد كانت الفرصة سانحة لمثل هذا التحرك بعد بدء عملية طوفان الأقصی وانشغال الجيش الإسرائيلي شبه الكامل بالجبهة الجنوبية (قطاع غزة). أدرك الإيرانيون مخاوف النظام، إلا أنهم أدركوا أيضًا في المرحلة التالية لطوفان الأقصى التأثير السلبي للواقع السوري الداخلي على مقدرة سوريا في العمل ضمن إطار محور المقاومة. وبدت كلفة بقاء الحليف أكبر ولا تضاهي بأي صورة من الصور المخرجات المرجوة ولا تحاكي الواقع الإقليمي المتغير.
السقوط ومضمون الانتكاسة
سقط الأسد في زمن قياسي. لم يُسعف الوقت إيران وحلفاءها لدراسة الوضع ومراجعة ردودها المحتملة وهو ما عبَّر عنه المرشد الأعلى في إيران بوضوح(4)، وما كانت زيارات الرسميين الإيرانيين لدمشق إلا جزءًا من عملية فهم المستجد والوقوف على وضع الحكومة السورية وجيشها أمام المعارضة المسلحة. ولم يتعد الحراك الإيراني إعلان الدعم والوقوف إلی جانب حكومة بدت غير مسيطرة على قواتها العسكرية. وبمجرد دخول قوات المعارضة المسلحة دمشق وسقوط النظام، بدأ الخطاب الإيراني عملية التكيف مع الوضع المستجد. والواقع أن سقوط النظام يمثل انتكاسة إستراتيجية المضمون لطهران لأسباب ستة:
طريق الإمداد: بقي النظام السوري وإن بشكل محدود ودون المرجو إيرانيًّا، داعمًا لحركات المقاومة وجبهتها الموجهة ضد إسرائيل؛ فقد أبقی طريق الإمداد مفتوحًا رغم تلقيه ضربات من الطيران الإسرائيلي الذي كان يحاول جاهدًا إجهاض عملية إمداد المقاومة في لبنان. فقدت إيران بسقوط النظام أحد أيسر الطرق لمد الحليف اللبناني بالقدرات اللازمة لموازنة ومواجهة التهديد الإسرائيلي، وإن لم تكن الطريق الوحيد. وكان الأمين العام لحزب الله ذكر خسارة طريق الإمداد كأحد أهم الأوجه السلبية لسقوط النظام(5).
الحليف الوازن الموازن: كان النظام، رغم عدم تحركه بفعالية في جبهة الجولان، يمثل وزنًا أمام التهديد الإسرائيلي يؤخذ في الحسبان في أي مواجهة بين محور المقاومة وإسرائيل. وقد اتضح من تحرك إسرائيل العسكري بعد سقوطه وتراجع الجيش عن خط فك الاشتباك لعام 1974، سقوط التوازن القائم بين الطرفين. فرغم ضعف الجيش العربي السوري، كانت إسرائيل تعلم بوجود جبهة مساندة له تضم إيران وحزب الله وآخرين في حال المواجهة. وواكب الحراك التوسعي الإسرائيلي في الأراضي السورية، عملية تدمير ممنهجة لبنية سوريا العسكرية لمنع إعادة التوازن مستقبلًا.
الميزان الإقليمي: رغم ضعف النظام والجيش السوريين، إلا أنه ظل في الحسابات الإقليمية ضمن محور إقليمي يوازن في قدراته الأطراف الأخرى. ولم يكن ضعف النظام يعني ضعف تأثيره على حسابات منافسي وأعداء ذلك المحور. ویعني سقوط النظام فيما يعنيه، تراجعًا لوزن محور المقاومة الإقليمي. ودون الخوض في نقاش مدی التأثير، وهو دائر في إيران كما في خارجها، إلا أن واقع التراجع يبقی قائمًا.
البديل المعادي: رغم طفو الحسابات الإستراتيجية لإيران في دعمها النظام، فإن وقوفها إلی جانب أحد طرفي الصراع في سوريا خلَّف عداءً تجاهها في رؤية وخطاب المعارضة المسلحة التي تسلمت الحكم في دمشق. وكان ذلك العداء باديًا أثناء الحرب والأرجح أنه سيبقی قائمًا في المدی المنظور. ورغم كلام أحمد الشرع بأن سوريا لا يمكن أن تبقی تتجاهل دولة إقليمية كبيرة كإيران(6) إلا أنه والكثير من قيادات المعارضة كانوا وما زالوا واضحين في النظر إليها كطرف متدخل في الشأن السوري. ولا يدخل الحديث الإيراني حول شرعية تدخلها بدعوة من حكومة شرعية إلا ضمن أحاديث الماضي التي لا تقدم ولا تؤخر في علاقتها مع البديل.
الخطر على الجوار: رغم الرؤية الإيجابية لإيران الرسمية تجاه جماعات الإسلام السياسي الوسطية، فإنها تتخوف من انتعاش الجماعات الإرهابية على مستوی الإقليم وخاصة في دول جوار سوريا في المرحلة المقبلة. والأحری أن يُثقل تأثر دول كالعراق ولبنان محور المقاومة بأعباء إستراتيجية هي في غنی عنها في هذه المرحلة.
الخطر على المقامات: وهذا وإن لم يدخل في خانة التطور الإستراتيجي، إلا أنه يؤثر على الحسابات الإستراتيجية؛ فقد كان جزء مهم من الخطاب الموجه للداخل في دعم إيران نظام الأسد مركزًا على الفعل الطائفي للجماعات المتطرفة في استهداف الأضرحة والمقامات الشيعية هناك. وسُمي المتطوعون في سوريا بـ”المدافعين عن الحرم”؛ ما يعبِّر عن اهتمام مجتمعي بالقضية. وبسقوط النظام فقد الإيرانيون الاتصال بتلك الأضرحة والمقامات. ويعني منع دخول الإيرانيين سوريا من قبل الحكام الجدد في دمشق(7) عدم اكتراث بتلك القضية الحساسة إيرانيًّا وشيعيًّا.
وإلی جانب الأبعاد السلبية المعبِّرة عن الانتكاسة الإستراتيجية لإيران ومحور المقاومة في المنطقة، إلا أن ثمة أبعادًا إيجابية يمكن رصدها ضمن المخرجات غير المباشرة. ويمكن تلخيص تلك الأبعاد في النقاط الأربع التالية:
خلَّص سقوط الأسد إيران وحلفاءها من كلفة مالية وعسكرية-أمنية باهظة للحفاظ على نظامٍ لم يعد قادرًا على المشاركة الفعالة في العمل المقاوم إلى جانب أطراف محور المقاومة. ويعني سقوط النظام تراجعًا في كلفة دعمه ماليًّا وعسكريًّا.
على المستوی الهوياتي، لن تبقی إيران الطرف الآخر الداعم للنظام في أعين المعارضة. ورغم رجاحة استمرار النظرة السلبية لهؤلاء تجاه إيران، إلا أن الواقع السوري الجديد يفرض تحدياته على الحكام الجدد في دمشق وقد تجد في القادم من الأشهر والسنوات في إيران طرفًا داعمًا لها إن هي لم تستعدِ إيران وحلفاءها، أي محور المقاومة.
بوضع إيران حمل سوريا الثقيل عن أكتافها، تتقمص تركيا لباس الداعم لدمشق المحاصرة سلفًا والمحتاجة للدعم في أغلب أبعاد الحياة الاقتصادية والعسكرية. بذلك، تُثقل الأعباء السورية الكاهل التركي وتثير مخاوف عربية -كانت قبل سقوط الأسد مركزة على إيران- تجاه التغول التركي في المنطقة العربية. أي إن سقوط الأسد يعني تراجع التركيز والضغوط العربية-التركية-الغربية على إيران وبروز خلافاتها وضغوطها بعد “النصر” على تركيا.
كبَّلت الحرب السورية الدبلوماسية الإيرانية في الإقليم وأدت إلی استقطابات إقليمية أتت على تعاون إيران الإقليمي. ويعني سقوط الأسد وقوف إيران على مسافة واحدة من الفرقاء في سوريا وتحرير الدبلوماسية الإيرانية من التخندق السابق والعمل الإقليمي مع الأطراف المختلفة حول سوريا وغيرها من الملفات.
وكما ذُكر، تُعد هذه مخرجات إيجابية غير مباشرة وهي بعيدة عن مضاهاة المخرجات السلبية في حسابات إيران الإقليمية إلا أنها تُسهم في إعادة التموضع الإيراني إزاء الوضع السوري الجديد وتؤثر على الرؤية والسياسة الإيرانيتين تجاه سوريا.
نقاش حول مستقبل سوريا
بمجرد سقوط النظام احتدم نقاش في الدوائر الإستراتيجية الإيرانية حول المسببات أولًا والمخرجات ثانيًا فالأمثل لإيران وحلفائها ثالثًا. أخذت الأسباب حيزًا واسعًا من النقاش شمل الوضع الاقتصادي والعسكري والفساد المستشري وجمود النظام وامتناعه عن الإصلاح وغيرها. كما عرَّج الكثير من رسميي إيران على دور أعداء ومنافسي محور المقاومة في الحدث. وكان المرشد الأعلى ذكر الدور الذي لعبته دولة جارة لسوريا -تركيا- دون أن يسميها وأشار لقصف الولايات المتحدة وإسرائيل باعتبارهما الأطراف المستفيدة من إضعاف سوريا كأطراف فاعلة في عملية إسقاط النظام(8). وإلى جانب الأسباب، وهو نقاش واسع مستمر في إيران وخارجها، فإن المخرجات وأمثلتها بالنسبة لإيران وحلفائها حظيت باهتمام أكبر. وينقسم السؤال حول المستقبل إلى قسمين: أين تتجه سوريا والسيناريوهات الأرجح فيها أولًا، ومقدرة وإمكانية إيران في التكيف مع الوضع السوري داخليًّا وفي الإطار الإقليمي ثانيًا.
وفي النقاش الواسع حول مستقبل سوريا، يمكن استخلاص عدة سيناريوهات نُلخصها وفق محددين رئيسيين: الأول: تمكن دمشق من فرض هيمنتها على كامل التراب السوري، بالقوة أو التفاهم، من عدمه. وهو محدد يمكن أن يأخذ أشكالًا مختلفة وتُرسمُ بين حديه العديد من الحالات ويُلخص في صورتين: حركة سوريا باتجاه وفاق وطني أو اقتتال داخلي. أما الثاني فهو القبول والدعم الخارجي -الإقليمي والدولي- بمركزية دمشق أم الذهاب باتجاه تثوير الأطراف وإضعاف دمشق. وعليه تُرسم أربعة سيناريوهات:
هيمنة دمشق على كامل الأرض السورية وقبول المنطقة والعالم بذلك ودعمه. وهذا السيناريو المثالي للقوى المسيطرة على دمشق وداعميها الإقليميين وعلى رأسهم تركيا. في هذه الحالة تعود سوريا دولة وازنة توازن إسرائيل وتستعيد بالتدرج سيادتها على الشمال والشرق السوريين بالتفاهم أو القوة. كما تقوم باستعادة السيطرة على المناطق الكردية وإن بتخريجة تُرضي القوى الكردية هناك.
هيمنة دمشق على الأرض السورية ورفض المنطقة والعالم بذلك والذهاب باتجاه تثوير الأطراف. وهو وضع يشبه حالة الحرب السورية بعد 2011، وقد تترتب عليه سيناريوهات مختلفة مستقبلًا.
ضعف دمشق والاقتتال الداخلي من جهة ومحاولة المنطقة والمجتمع الدولي الدفع باتجاه تحسين الوضع بتفاهمات خارجية. وهو سيناريو يشبه الحالة السورية والدور الذي لعبته مجموعة الأستانة في الحد من الصراع الداخلي منذ 2016.
ضعف دمشق والاقتتال الداخلي وانقسام المنطقة والأطراف الدولية في دعم الأطراف المختلفة في سوريا؛ وهو السيناريو الأسوأ لاستقرار سوريا ودول الجوار.
ولكل من الأطراف الإقليمية والدولية أدوات للدفع باتجاه كل من السيناريوهات المذكورة أعلاه عسكريًّا/أمنيًّا واقتصاديًّا/ماليًّا. ولم تتضح حتى الآن الخيارات الإقليمية والدولية تجاه سوريا إلا في أُطُرها العامة كما أن الواقع السوري الجديد بحد ذاته ما زال مجهول الاتجاه والتوجه. ويمكنُ تقصي بعض المؤشرات البادية في الفترة الوجيزة بعد سقوط النظام لترجيح أحد السيناريوهات المذكورة. وللواقع السوري الداخلي أيضًا تأثير وازن في توجيه السياسات الإقليمية والدولية. بعبارة أخرى، إن ذهبت دمشق باتجاه السيطرة وفرض الهيمنة بالقوة أو إن رجَّحت التفاهم الوطني -عبر الحوار الوطني الذي أعلن عنه مثلًا(9)- فلذلك وقْعٌ على التوجهات الإقليمية والدولية مستقبلًا. كما أنه وبخروج محور المقاومة من سوريا، قد تطفو على السطح صراعات عربية كما في الحالة الليبية وتعتبر تركيا أحد أطراف هذا الصراع بين مجموعة تتخوف من حكام دمشق الجدد والتأثير الإقليمي لاستقرار الوضع لهم ومجموعة أخرى ترى في استتباب الوضع السوري منطلقًا لتحسين أوضاعها الإقليمية.
وفي ظل عدم الوضوح العام في المحددات الرئيسية لمستقبل سوريا، فإن الواضح في المواقف قليل لكنه مهم في محاولة استشراف المستقبل. ومن ذلك أن إسرائيل، ومن خلفها المجموعة الغربية، لا ترغب في عودة دمشق قوة وازنة في المنطقة وما تدميرها الممنهج لقدرات الجيش السوري إلا تعبير واضح عن تلك الأولوية. وهي بالأحرى ستدفع باتجاه اقتتال داخلي لإبقاء سوريا ضعيفة(10). وكذلك الوضع بالنسبة للولايات المتحدة التي تقوم اليوم بتشييد قاعدة عسكرية جديدة في المنطقة الكردية إلى الشمال السوري(11). أما بالنسبة لتركيا، فاستتباب الوضع للحكم الجديد مطلوب تحت سقف لا يمكِّن دمشق من التعاطي بندية مع أنقرة ويطالبها بالانسحاب من الشمال السوري. وينقسم العرب حول المستحدث في سوريا بين مؤيد يراه تطورًا يحسِّن من وضعها الإقليمي ومعارض يراه خطرًا داهمًا قد يأتي على استقرارها الداخلي. أما بالنسبة لإيران، فالوضع ما زال بعيدًا عن الوضوح إلا في الأهداف العامة.
إيران وسوريا المستقبل
تناقش إيران المنتكسة إقليميًّا مستقبل الوضع السوري وتأثيره عليها وحلفائها مستقبلًا. وللوقوف على السياسة الإيرانية واحتمالاتها المستقبلية وجب ألا نبتعد عن حسابات الربح والخسارة المذكورة أعلاه. فطريق الإمداد وموازنة إسرائيل ما زالت أهم ما يمكن لإيران أن تبحث عنه في علاقتها بسوريا ما بعد الأسد. وكان المرشد الأعلى في إيران قد تكلم في ذات السياق حين توقع أن “يقوم شباب سوريا الغيارى بطرد المحتل” من أرضهم(12). كما تهتم إيران بالحد من مخاطر عدم الاستقرار السوري على العراق ولبنان بشكل محدد إلى جانب اهتمامها بتفاهمات مع الحكومة الجديدة حول الأضرحة والمقامات الشيعية في سوريا. وقد تكلم وزير الخارجية عن هذا الموقف العام بقوله: إن استقرار سوريا ووحدة أراضيها في خطر وذلك يمثل خطرًا على جوارها أيضًا(13). كما أعاد دعوات بلاده المكررة لتشكيل حكومة شاملة وإعادة وحدة التراب السوري.
وفي ذات الإطار العام، تختلف الرؤى الإيرانية حول مستقبل العلاقات الإيرانية-السورية. فبين من يتكلم عن خسارة كبرى في سوريا وآخر يرى أن الوضع مؤقت وأن لسوريا مصلحة إستراتيجية في التصالح مع إيران، طُرحت مجموعة من النقاط التي تدل على استمرار النقاش وتُظهر الاحتمالات المقبلة. ولا يرى الكثيرون في المجتمع الإستراتيجي الإيراني تنافرًا بين الأهداف الإيرانية العامة في المنطقة مع أي حكومة سورية مقبلة تريد إعادة سيادتها على كامل التراب السوري وإخراج المحتلين من الجنوب والشرق والشمال السوري وبناء رصيد قوة يوازن التهديد الإسرائيلي مستقبلًا. ويرى هؤلاء أن بمقدور إيران التفاهم مع سوريا الجديدة حول القضايا الحساسة بالنسبة للطرفين.
وفي المقابل، يحذر فريق آخر من تلك الرؤية ويعتبرها ساذجة بالقول: إن القائمين على الحكم في دمشق يُعرِّفون إيران بالعدو الذي جابهوه طيلة السنوات الماضية. ويرى هؤلاء أن الهوية السياسية للمعارضة المسلحة المسيطرة على دمشق بُنيت على العداء لإيران ولا ينظرون لإيران إلا من منظور الآخر المعادي لا من زاوية المصلحة الإستراتيجية المشتركة، إن وُجدت أصلًا. كما أن الكثير من اللاعبين الدوليين والإقليميين يرجحون رؤية سورية مدمرة على سوريا على وفاق مع إيران. ويستدلون بذلك على الحراك الإقليمي والدولي ضد حكومة الأسد. ويرد الفريق الأول بالقول بأن العداء لإيران صار من الماضي والواقع سيفرض نفسه على دمشق. فمجابهة الطرفين في الماضي وإن بقيت تُثقل العلاقات وتمنعها من التقارب السريع، إلا أن المصلحة الإستراتيجية مشتركة بينهما في الكثير من الأبعاد وتُقرب الدولتين رغم تغيير النُظُم. ويستند هؤلاء إلى ماضي العلاقة؛ إذ لم تمنع متانة العلاقة السورية-الإيرانية قبل ثورة 1979 من تقارب الاثنتين بعد تلك الثورة لأسباب مرتبطة بالمصالح العليا للدولتين.
وبين الرؤيتين ثمة مجموعة من الرؤى والأطروحات تُظهر واقع عدم اليقين الذي يعتري القراءة الإيرانية ويُصعِّب عليها تحديد أولوياتها تجاه سوريا ما بعد الأسد. فالأهداف الإستراتيجية والرمزية المذكورة أعلاه كانت ستوجه الأولويات الإيرانية لو كان الوضع السوري مستقرًّا واضح الاتجاه. ولعدم وضوح الوضع السوري فمن الأرجح أن ترتبط الأولويات الإيرانية بتطورات الوضع في سوريا. وكان مستشار المرشد الأعلى، علي لاريجاني، واضحًا في هذه النقطة عند قوله بأن تعاملنا مع دمشق مرتبط بسلوكها. فإن كان ذلك السلوك عقلانيًّا، فلا مشكلة لنا معهم؛ إن قالوا: إنهم يدافعون عن وحدة التراب السوري وإنهم يريدون إعطاء الجميع حقوقهم وإقامة نظام ديمقراطي، سندعمهم(14). بذلك يمكن التنبؤ بالموقف والسياسة الإيرانيتين وفق متغيرات الداخل السوري والمواقف الإقليمية والدولية.
ولذلك تكتسب رؤية وسياسة الحكومة في دمشق أهمية قصوى فيما يخص ترجيحات طهران المستقبلية. فإنْ تراجع العداء البادي في الخطاب الصادر من دمشق ولم يُترجَم سياسة عدوانية تجاه إيران وحلفائها، فمن الأرجح أن تبحث طهران عن صيغٍ للتعامل والتقارب مع دمشق والعمل على المصالح الإستراتيجية المشتركة. وإن ساد العداء لإيران ولمحور المقاومة سياسة دمشق، فلن يكون لإيران مصلحة في العمل مع دمشق وفق الأولويات المشتركة، أي العمل على فرض السيادة السورية ضد المحتلين لأرضها وموازنة التهديدات المحيطة وعلى رأسها إسرائيل. من هنا كان جليًّا الارتياح الإيراني من قول أحمد الشرع عن إيران: دولة إقليمية قوية لا يمكن لسوريا ألا يكون لها علاقات معها(15). وكان علي لاريجاني، قد قال بأن سلوكهم يدل على أنهم لا يريدون العمل كالماضي… علينا أن نصطبر ونرى ما سيفعلون(16).
كما أن للأولويات الإقليمية تأثيرًا مباشر في تحديد وتوجيه الموقف الإيراني. فالامتعاض والموقف السلبي من عدم دعوة إيران إلى اجتماعات العقبة (ديسمبر/كانون الأول 2024) والرياض (يناير/كانون الثاني 2025) حول سوريا كان باديًا في طهران. والواضح أن محاولة إبعاد إيران عن الملفات ذات الأهمية في المنطقة يعني فيما يعنيه عدم تعاطي إيران الإيجابي مع مخرجات تلك الاجتماعات. فلإيران، كما يجري النقاش الداخلي فيها، مصلحة إستراتيجية في بناء علاقة إيجابية مع سوريا ناهيك عن مقدرتها على لعب دور إيجابي أو سلبي إزاء التفاهمات الخارجية حول سوريا. ويُدرك المتابع لسياسة إيران الإقليمية أن جزءًا مهمًّا منها ركز طيلة العقود الماضية على إجهاض السياسات الرامية لعزل إيران إقليميًّا.
وعلى المستوى الدولي، تتخوف إيران من دفع دولي مرصود بتفاهم إقليمي لانخراط سوريا في عملية تطبيع مع عدوها الإقليمي الرئيس، إسرائيل. ولسوريا خصوصية تختلف في منظور إيران عن الدول المطبِّعة سابقًا. فهي جارة لحلفاء إيران ويعني تطبيعها زيادة الضغط الأمني/العسكري الإسرائيلي-الأميركي على محور المقاومة. ولهذا التطور إمكانية أن يضع سقفًا على دأب إيران بناء علاقات متينة مع النظام الجديد في سوريا. وفي الإطار العام، فإن من المرجح أن تنظر إيران بعين الريبة لأي تفاهم غربي يُفرض في سوريا بعيدًا عن توازن دولي يشمل القوى الدولية والإقليمية غير الغربية. فالتجارب السابقة تقول لطهران: إن الأجندة الغربية في المنطقة لا تتوافق مع رؤية إيران وتصب بكل الأحوال في مصلحة إسرائيل. وها هي اجتماعات العقبة والرياض تُعقد دون حضور إيراني أو صيني أو روسي وهو ما يوثِّق تلك المخاوف من محاولة الدول الغربية فرض رؤيتها على المستقبل السوري.
وعمومًا وبالنظر للسيناريوهات الرئيسية المطروحة حول مستقبل سوريا، فإن الموقف السوري غير المعادي إلى جانب تفاهمات إقليمية ودولية متوازنة حول سوريا تدفع الأخيرة تجاه الاستقرار وإعادة البناء كقوة إقليمية وازنة، وهو سيناريو مستبعد لعدم موافقته الأولويات الإسرائيلية والغربية، سيلقى ترحيبًا إيرانيًّا وستحاول إيران على الأرجح بناء وتمتين علاقاتها مع دمشق بحثًا عن التعاون الإستراتيجي حول القضايا ذات الأهمية المشتركة. وكان وزير خارجية إيران قد عبَّر عن رجحان هذا التوجه بالعناوين العريضة معلنًا دعم بلاده “استقرار واستقلال ووحدة أراضي” سوريا(17).
وفي حال انزلقت سوريا في صراع داخلي يؤججه الجوار وإسرائيل-الدول الغربية، ولم تلق إيران وحلفاؤها عداء في مواقف دمشق، فمن المرجح أن تدفع إيران بعلاقاتها وثقلها الإقليميين لنصرة دمشق حال توافق هذا الدعم مع أولوياتها الإستراتيجية وعلى رأسها موازنة العدو الإسرائيلي. كما من المرجح أن تقف طهران داعمة لإعادة السيادة ووحدة التراب السوري أمام القوى المحتلة لمناطق سورية واسعة. أما في حال بروز واستمرار حالة عداء سوري تجاه إيران وحلفائها في دول الجوار، وإن حاولت القوى الإقليمية والغربية عزل إيران بغية استهداف أو إضعاف محور المقاومة، فمن المرجح أن تعيد طهران ترتيب أوراقها وفق ذلك لتأمين أهدافها أولًا وحماية ودعم حلفائها ثانيًا؛ وذلك بعيد كل البُعد عن الأولويات الإستراتيجية لطهران في المنطقة، إلا أنه قد يصبح واقعًا يُفرض عليها وحلفائها.
استنتاج
صُدِم الإيرانيون بسقوط الأسد وبدؤوا عملية تكيف مع الوضع المستجد في المنطقة بعد ذلك. ويعني سقوط الأسد انتكاسة مهمة لسياسة إيران الإقليمية كما لمحور المقاومة. ومن المرجح أن تستمر مرحلة التكيف مع المستجد السوري لوقت طويل قبل أن تصل طهران إلى سياسة واضحة المعالم إزاءه. فبالنظر إلى نقاشاتها الداخلية، تُطرح رؤى مختلفة ومتناقضة حول الواقع السوري والسياسة الإيرانية المترتبة عليه. وتُظهر التصريحات الرسمية، كما النقاشات غير الرسمية، حالة من التريث والترقب إزاء سوريا قبل تحديد المسار. فعلى الصعيد الرسمي، يُعد كلام وزير الخارجية، كما تصريحات أحد أهم مستشاري المرشد الأعلى، حول سلوك حكام دمشق الجدد محددًا رئيسيًّا لسياسة إيران إزاء سوريا ما بعد الأسد معبِّرًا عن حالة التريث تلك. وبالإضافة للسياسة السورية تجاه إيران ومحور المقاومة، يرتبط مستقبل السياسة الإيرانية بالمحددات والتموضعات الإقليمية والدولية. فإنْ دُفع إقليميًّا ودوليًّا بسوريا لمجابهة إيران وحلفائها، فمن المرجح ألا تنخرط طهران في عملية تطبيع مع الحكم الجديد في سوريا. أما إن ركزت سوريا على استعادة وحدة التراب السوري وموازنة التهديد الإسرائيلي وإخراجه من الأراضي السورية المحتلة، فالأرجح أن تسعى طهران لتطبيع علاقاتها مع دمشق بل وأن تقوم بدعمها في المنحيين المذكورين.
باحث وأستاذ جامعي إيراني، متخصص في العلوم السياسية.
مراجع
تشرح فائضه غفار حدادي في کتابها حول “أبو البرنامج الصاروخي الإيراني”، الجنرال حسن طهراني، مستوی الدعم العالي الذي قدمته سوريا لإيران في التدريب على استخدام الصواريخ البالستية ودورها في تشجيع ليبيا على إسناد إيران بصواريخ سکود لموازنة القوة الصاروخية العراقية التي لم تکن تمتلك إيران مقومات موازنتها. انظر: فائضه غفار حدادي، خط مقدم، (تهران، انتشارات شهيد کاظمي)، 1400 (2021).
“برهان غليون يتعهد بمقاطعة إيران وحلفائها”، الجزيرة نت، 2 ديسمبر/كانون الأول 2011 (تاريخ الدخول: 22 يناير/كانون الثاني 2025)، https://shorturl.at/7l6tL
“Caesar Syria Civilian Protection Act.” Fact Sheet, U.S. Department of State, June 17 2020. https://2017-2021.state.gov/caesar-syria-civilian-protection-act/
“دیدار هزاران نفر از اقشار مختلف مردم با رهبر انقلاب درباره تحولات منطقه”(لقاء الآلاف من مختلف طبقات الشعب بقائد الثورة حول التطورات الإقليمية)، موقع آية الله خامنئي، 29 آذر 1403 (تاريخ الدخول: 16 يناير/كانون الثاني 2025)، https://farsi.khamenei.ir/news-content?id=58551
“الشيخ نعيم قاسم: المقاومة مستمرة وعلى الحكومة متابعة الخروقات ولا يمكننا الحكم على القوى الجديدة في سوريا إلا عندما تستقر”، موقع المنار، 15 ديسمبر/كانون الأول 2024 (تاريخ الدخول: 16 يناير/كانون الثاني 2025)، https://www.almanar.com.lb/12911978
“الشرع: لا نستطيع أن نستمر بدون علاقات مع دولة إقليمية كبيرة مثل إيران ولا نريد إخراج روسيا بطريقة لا تليق بعلاقتها معنا وتحرير سوريا يضمن أمن المنطقة والخليج، وللسعودية “دور كبير” في مستقبل سوريا ونأمل أن ترفع إدارة ترامب العقوبات عنَّا”، رأي اليوم، 29 ديسمبر/كانون الأول 2024 (تاريخ الدخول: 16 يناير/كانون الثاني 2025)، https://shorturl.at/VuwLR
“بعد حظر دخول الإيرانيين والإسرائيليين إلى أراضيها.. سوريا تمنع استيراد البضائع الروسية”، مونت کارلو الدولية، 18 يناير/كانون الثاني 2025 (تاريخ الدخول: 16 يناير/كانون الثاني 2025)، https://2u.pw/9AObVDgH
“دیدار هزاران نفر از اقشار مختلف مردم با رهبر انقلاب درباره تحولات منطقه”، مصدر سبق ذکره.
“هل ينجح مؤتمر الحوار الوطني في تأسيس انطلاقة مرضية لجميع السوريين؟”، الجزيرة، 31 ديسمبر/كانون الأول 2024 (تاريخ الدخول: 16 يناير/كانون الثاني 2025)، https://shorturl.at/o2ESN
Alessandra Bajec, “How Israel is trying to weaken post-Assad Syria,” The New Arab, December 18, 2024. https://www.newarab.com/analysis/how-israel-trying-weaken-post-assad-sy…
“U.S. Reportedly Setting Up New Base In Northern Syria.” The War Zone, January 2, 2025. https://www.twz.com/news-features/u-s-reportedly-setting-up-new-base-in…
“دیدار هزاران نفر از اقشار مختلف مردم با رهبر انقلاب درباره تحولات منطقه”، مصدر سبق ذکره.
“عراقچي: همچنان کنار سوريه خواهيم ايستاد.” (عراقجي: سنبقى نقف إلى جانب سوريا)، کيهان، 12 آذر 1403، (تاريخ الدخول: 17 يناير/كانون الثاني 2025)، https://shorturl.at/ONmSm
“شرط و شروط ایران برای حمایت از سوریه به روایت على لاریجانی”(شروط إيران لدعم سوريا كما يرويها لاريجاني)، صحيفة إعتماد، 13 دي 1403، (تاريخ الدخول: 16 يناير/كانون الثاني 2025)، https://shorturl.at/HmkWq
“عراقچي: خواهان آرامش، ثبات وتشکيل دولتي فراگير در سوريه هستيم.”(عراقجي: ندعو إلى الاستقرار وتشكيل حكومة جامعة في سوريا)، خبرگزاري ايمنا، 10 دي 1403 (تاريخ الدخول: 16 يناير/كانون الثاني 2025)، https://shorturl.at/Rufbj
“علي لاريجاني: جريانات مقاومت را ما به وجود نياورده ايم. سکوت حاکمان جديد سوريه در قبال إسرائيل برايشان بد خواهد شد”. (على لاريجاني: نحن لم نخلق حركات المقاومة، وسكوت حكام سوريا الجدد مقابل إسرائيل سيكون سيئًا لهم)، صحيفة دنياي اقتصاد، 12 دي 1403 (تاريخ الدخول: 17 يناير/كانون الثاني 2025)، https://shorturl.at/vIDpy
“عراقچی: خواهان آرامش، ثبات و تشکیل دولتی فراگیر در سوریه هستیم.” (عراقجي ندعو إلى الاستقرار وتشكيل حكومة شاملة في سوريا)، وکالة أنباء إيرنا، 10 دي 1403 (تاريخ الدخول: 15 يناير/كانون الثاني 2025)، https://shorturl.at/WZVLR
—————————————-
السّوريات.. بين الهواجس والتطمينات!/ مزن مرشد
الأربعاء 22 كانون الثاني 2025
بعد سقوطِ نظام بشار الأسد وهروبِه خارجَ البلاد، شهدَت سوريا دخولَ مرحلةٍ انتقاليةٍ جديدةٍ بقيادة “هيئة تحرير الشّام”، التي شكَّلت حكومةً مؤقّتةً لإدارةِ البلاد وباشرت أعمالَها لتسييرِ أعمالِ الدّولة لمرحلةٍ انتقاليةٍ قصيرة.
السّوريات.. بين الهواجس والتطمينات!
ظهر في الأيام الأولى من تولّي الهيئة قيادةَ المرحلة، تخوّفٌ كبيرٌ لدى “الأقلّيات الدّينية” في البلاد، ولدى النّساء بشكلٍ خاصّ، بخاصَّة بعد انتشارِ الفيديو الشّهير لإحدى الفتيات، التي أرادت التقاطَ صورةٍ مع قائد الهيئة، وطلب منها أن تُغَطّيَ رأسَها، الأمرُ الذي استغلّه البعضُ لزيادةِ حالةِ الخوْفِ والترقّبِ من قمعِ الحريّات، أو فرضِ زيٍّ معيّنٍ على النّساء، نتيجة النّهج الدّيني المعروف للهيئة.
وازدادت الاعتراضاتُ من قبل نُشطاء ومدافعين عن حقوقِ المرأة بعد تصريحات النّاطق الرّسمي باسم القيادة الجديدة عبيدة أرناؤوط، وتصريحات رئيسة مكتب شؤون المرأة المُعيّنة حديثًا عائشة الدّبس التي تسيء للمرأة وتحطُّ من قدرِها وقدراتِها.
لكنَّ تعيينَ بعض النساءِ في مناصب قياديّة، كالدكتورة ديانا الأسمر مديرةً لمشفى الأطفال في دمشق، وميساء صابرين حاكمةً لمصرفِ سوريا المركزي، أعاد طرح مدى جدّيةِ القيادةِ الجديدةِ بإعطاء النّساء دورهنَّ في التأثير في هذه المرحلة السورية الحسّاسة.
وبمجرّدِ إعلانِ “هيئة تحرير الشّام” تشكيلَ الحكومة المؤقتة، بدأت تتّضح ملامحُ سياساتِها التي تعتمدُ على خلفيةٍ إيديولوجيةٍ صارِمة، لكن على الرَّغم من ذلك، حَمَلَت تعيينات نسائيّة إشارات “حُسن نيّة” من قبل الهيئة تجاه مشاركة المرأة في الحياة العامّة، مثل تعيين الدكتورة ديانا الياس الأسمر كمديرة لمشفى الأطفال بدمشق، الذي يُظهرُ رغبةً في الاستفادة من الخِبرات النّسائية في القطاعاتِ الحيويّة مثل الصحّة.
اشترك في نشرتنا الدورية
Email Logo
القيادة السورية الجديدة تُصدر قرار بتعيين الدكتورة ديانا إلياس الأسمر مديرا عاما لمشفى الأطفال الجامعي بدمشق#القيادة_العامة#سوريا_الجديدة pic.twitter.com/668BzR0rcI
— أنطوني نادر (@antwny7845) December 30, 2024
الدكتورة ديانا، وهي طبيبة معروفة بخبرتِها الطويلة في طبّ الأطفال، صرَّحت في أوّلِ مؤتمرٍ صحافيٍّ لها: “نحن هنا لخدمة أطفالِ سوريا بعيدًا عن السياسة. مهمّتي إنسانيةٌ في المقامِ الأول، وأتمنّى أن أكونَ مثالًا لكل النّساء السّوريات اللّاتي يسعينَ لبناء المستقبل.”
سهى محفوض، مُمرّضة تعمل في مشفى الأطفال بدمشق، قالت لـ”عروبة 22″: “نعملُ في ظروفٍ صعبةٍ جدًّا منذ 13 عامًا، لكن وجود شخصية مثل الدكتورة ديانا يعطينا بعضَ الأمل. نحن بحاجةٍ إلى دعمٍ أكبر من الحكومة المؤقّتة لتحسينِ الخِدمات الصحّية.”
من ناحيةٍ أخرى، تعيين ميساء صابرين حَاكِمَةً لمصرف سوريا المركزي يُعَدُّ خطوةً جريئةً في بلدٍ لطالما كان القطاع المالي فيه تحت سيطرة الرّجال. وفي تصريح لها، قالت صابرين: “إعادةُ بناءِ الاقتصاد السّوري يحتاج إلى عقولٍ جديدةٍ وأفكارٍ مُبتكَرة. نحن أمام تحدٍ كبيرٍ، لكنّني مؤمنةٌ بقدْرةِ المَرأة السّوريّة على تحمّل المسؤوليّة.”
وتُعَدُّ الأزمةُ الاقتصاديةُ واحدةً من أكبر التحدّيات التي تواجه سوريا في هذه المرحلة الانتقاليّة. ومع انهيار الليرة السّورية وزيادةِ معدَّلاتِ البطالة، تقع على عاتق صابرين مسؤوليةٌ ضخمةٌ لإعادةِ الاستقرارِ المالي. وفي خطّةٍ أوّليةٍ قدّمتها، تحدّثت عن ضرورةِ جذْبِ الاستثماراتِ الأجنبيةِ وإعادةِ الثّقةِ إلى القطاع المصرفي، ولكن في الوضعِ الرّاهن يظلُّ من غيرِ الواضحِ مدى حرّية تنفيذِ هذه الخطّة.
على الرَّغم من هذه التعيينات الإيجابيّة، لكنَّ تجربةَ النساءِ في إدْلِب لم تكنْ مشجعةً عندما كانت الهيئة تديرُ المحافظةَ لسنواتٍ خَلَتْ. تقول “أم قُصَيْ” القاطنة في إدلب لـ”عروبة 22″: “مع أنَّ البيئةَ الاجتماعيةَ العامّةَ في إدلب هي بيئةٌ محافظة، لكنَّ أفكارَ الهيئةَ كانت متشدِّدةً جدًا خاصَّةً على النّساء، فقد فُرضت قيودٌ صارمةٌ على النّساء، وحاربوا اللواتي ينشطنَ للدِّفاع عن حقوقِ المرأةِ أو الحقوقِ النّسوية، وشهدنا اغتيالَ ناشطةٍ نسويةٍ وسجلوا القضية انتحارًا”.
في عام 2018، أُنشئ “جهازُ الحِسْبَةِ” الذي أسموه “سواعد الخيْر” كشرطةٍ دينيةٍ للتأكُّدِ من التزام النّساء بتغطية أجسادِهِن، مع السّماح بإظهار الوجه واليديْن فقط.
كما تمَّ حظرُ تشغيلِ الموسيقى وتدخينِ النارجيلة في الأماكِن العامّة، وفي بداية عام 2024، ظهرَت مسوَّدة قانون “الآداب العامة” من وزارة الداخلية في “حكومة الإنقاذ”، تتضمنُ إنشاء “شرطة الآدابِ العامّة” وفرض الحِجاب على الفتيات فوق 12 عامًا، ومنع الاختلاط بين الجنسَيْن في العمل، ومنع تشغيل الموسيقى، ولكنَّ هذا القانون لم يُطَبَّقْ.
تجدر الإشارةَ إلى أنَّ هذه السياسات أثارت جدلًا واسعًا، حيث يعتبرُها البعض انتهاكًا لحقوقِ المرأة وحرّياتها الشخصيّة، بينما يراها آخرون تعزيزًا لِلقِيَمِ الدّينية والأخلاقية في المجتمع.
اليوم وعلى الرَّغم من تعيين النّساء في مناصبَ قياديّة، لكن السّوريات متخوِّفات من مستقبلِ الحرّيات في البلاد في حال استمرت الهيئة في حُكْمِ سوريا، أو أسَّسَت لِحُكْمٍ يشبهُها فيما بعد، فقد أثارَ خبرُ تعديلِ بعض المعلوماتِ في المناهجِ المدرسيّة موجةً عارمةً من الرَّفضِ على مواقعِ التواصلِ الاجتماعي ما دفع وزارة التربية الجديدة إلى التراجع عن التّعديلات، الأمرُ الذي اعتبره السّوريون إيجابيًّا فلأوَّلِ مرةٍ منذ 54 عامًا يُسمعُ صوتُهم، وتستجابُ مطالبُهم من دون أي صدامٍ أو إزْعاج.
ناهد مطاوع، الطالبة في جامعة دمشق، قالت: “انقطعنا عن الدّوام لمدةٍ لا تتجاوز الأسبوع، لكنّنا عدنا للدّوام والأمور طبيعية جدًا”.
سيلفي شبيب، طالبة الثانوية العامّة في دمشق، قالت: “نداوم في مدرستِنا المختلطة بناتٍ وصبيانًا بشكلٍ طبيعي ولم يحدث أي تغييرٍ لا في المناهجِ ولا في الفصول، ما زلنا نجلس في الصفّ، البنات والصبيان، إلى جانب بعضِنا كما كنّا من قبل”.
وعلى الرَّغم من الصّعوبات، تواصِل النساء السّوريات الصمودَ والتكيُّفَ مع الظروف. العديد منهنَّ يعملنَ في مبادراتٍ محليةٍ لتقديم الدَّعمِ للنّساء المتضرِّرات من الحرْب، سواء عبر التدريب المِهني أو التّعليم غير الرّسمي.
أسماء الزيبق، الناشطة في مجال حقوق المرأة، قالت: “المرأةُ السّورية أثبتَت عبر السّنواتِ أنّها قادرةٌ على تحمّل الصّعاب. نحن نعملُ الآن على إنشاءِ شبكات دعمٍ للنّساء لتجاوز هذه المرحلة الانتقالية.”
بين تصريحاتِ المسؤولين وتعييناتٍ نسائيةٍ بالغةِ الأهمّية، تواجهُ المرأة السّورية واقعًا معقّدًا في هذه المرحلة…
النّاشطة النّسوية والسياسيّة رويدة كنعان علّقت لـ”عروبة 22″: “الرجال لديهم قوّة عضليّة أكثر من النساء، لكن هل القوّة العضليّة تبني دولًا؟ لا. الدُّول تُبنى بالعقل وبالفكر وبالقرارات. وقد أثبتَت الدّراسات أن لا فرق بقدراتِ التّفكير والتحليل بين الرّجل والمرأة”.
وتختم: “المجتمعاتُ المتقدّمةُ لا تحترمُ دورَ المرأة كأمٍّ فقط، بل تدعمُها كقائدةٍ وسياسيةٍ وعالِمةٍ، لأنَّ الإنجابَ كوظيفةٍ بيولوجيةٍ خاصّةٍ بالمرأة هو جزء من حياتِنا، لكنَّه ليس حياتنا كلّها”.
(خاص “عروبة 22”)
—————————–
بين عودة سوريا وعودة ماهر الأسد/ عالية منصور
لقد عانى السوريون ما لم يعانه شعب آخر
آخر تحديث 26 يناير 2025
يوما بعد يوم تتضح الصورة أكثر. سوريا كانت مختطفة وعادت. تحررت من الأسر الذي استمر أكثر من خمسة عقود. عادت إلى أهلها وعادت إلى محيطها العربي والإسلامي. ولم تنفع كل هذه العقود في الأسر من تغيير هويتها.
ولكن كحال أي أسير، فإن طريق التعافي يبدأ ولا ينتهي لحظة خروجه من الأسر، تحررت سوريا ولكنها تحتاج الكثير للوصول إلى الحرية والتعافي، وإلى قيام الجمهورية.
قبل أيام خرجت إشاعة لا يصدقها عاقل تتحدث عن عودة ماهر الأسد شقيق بشار الأسد إلى الساحل السوري، تظنها في البداية مزحة، لتُصْدَم ليس فقط بحجم من صدق هذه الإشاعة بل أيضا بحجم من احتفل بعودته. خرجت بقايا النظام الساقط من جحورهم محتفلين بعودة المجرم الهارب، هم أنفسهم من قالوا قبل أسابيع أنهم لم يكونوا يعلمون حجم إجرام نظام الأسدين، أظهروا خلال ساعات ليس معرفتهم بما كان يجري فحسب، بل رغبتهم في تكراره.
لم تخرج الإشاعة للتحدث عن عودة بشار، فبشار هرب وتركهم دون أن يتوجه حتى لعسكره بكلمة. بل عن مكر وخبث من يقف وراء الإشاعة اختار ماهر، فماهر هو أيضا “ضحية” بشار الذي هرب من سوريا دون أن يخبره كما تقول الرواية.
وإن كانت هذه الحادثة الإشاعة قد جاءت لتخبرنا أن “اذهبوا أنتم الطلقاء” ليست فقط سياسة ساذجة وقاصرة، فقد برهنت أيضا أن هناك مشوارا طويلا أمام سوريا لتتعافى من أسرها.
ولنبدأ بالسلاح الذي ما زال منتشرا بيد الكثير من أزلام النظام السابق، وفي كل يوم يبرهنون أنهم على استعداد لخلق فتنة. فخسارة مكتسباتهم على مدى أكثر من خمسة عقود ليست بالأمر الذي يسهل تقبله، أن يكونوا مواطنين كما الجميع شيء حتى اليوم لم يستسيغوه. بعض هؤلاء أو الكثير منهم أيديهم ملوثة بدماء السوريين حتى أكواعهم، هؤلاء لا بد من محاسبتهم، فالعدالة هي السبيل الوحيد كي لا ينزلق المجتمع السوري إلى الثأر.
وهل لدى أحد جواب مقنع لماذا كل هذا الكره والحقد والرغبة في التنكيل بالسوريين عند فئة كل ما قامت به خلال أكثر من خمسين عاما هو التنكيل بالسوريين ونهب سوريا بأسرها؟ هذا فعلا سؤال يحتاج أبحاثا ودراسات ليحاول المرء أن يفهم كيف أن فئة ترغب في إذلال وتعذيب وقتل آخرين، والأمر ليس محصورا بطائفة وإن كان بنسبة عظمى أمرا طائفيا، ووجب القول إن توصيف الأمور بأسمائها لا يعني تبنيها والحديث عن الجريمة الطائفية ليس طائفية.
تابعت قبل يومين بضع لقطات من وثائقي عن سجن صيدنايا، وأنا التي كنت منذ عام 2006 امتنعت عن قراءة أي شيء يتعلق بسجون الأسدين، أنانية مني لأحافظ على ما أمكن من اتزاني العقلي والعاطفي. ما هالني في صيدنايا كيف أن الأمهات والآباء كانوا ينتظرون الوصول إلى أبنائهم أو أي خبر أو قصاصة ورق عنهم، كيف أن الشقيقة تحفر بأظافرها علها تجد غرفة سرية تحت الأرض تعثر على شقيقها حيا أو ميتا، وأول ما خطر لي، أيعقل أن أحدا ممن عمل في هذه السجون لم يتحرك ضميره عندما شاهد هذه الجموع من المكلومين والثكالى؟ ألم يخطر لأحد من هؤلاء أيا كانت وظيفته أن يقوم بتسجيل مموه أو يرسل رسالة دون توقيع يخبر الأهالي أين ذهبت الأقراص الصلبة التي تحوي معلومات عن المعتقلين؟ أين هي الأبواب السرية إن كان ثمة أبواب؟
في الوقت الذي تحتاج فيه سوريا إلى رفع العقوبات وإلى العودة إلى دورها الفاعل في محيطها العربي، وفي الوقت الذي يحتفي السوريون بعودتهم إليها وعودتها إليهم، وعودة العرب إلى سوريا وعودتها إليهم، لا يجب أن ننسى أن ننظر إلى داخل سوريا ولا نكتفي بالنظر إلى الصورة من الخارج، لقد عانى السوريون ما لم يعانه شعب آخر حتى إبان حكم النازية. العدالة حق ومطلب، وتجريم الأسدية كذلك، كي لا تبقى ثغرة يدخل منها المتربصون وهم كثر وينزعون فرحة التحرر على السوريين ويمنعون عنهم الحرية.
المجلة
————————————
مفاوضات دمشق- “قسد”.. بانتظار “الصفقة”/ خالد الجرعتلي | حسن إبراهيم | علي درويش
تحديث 26 كانون الثاني 2025
يتداخل ملف “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) التي تسيطر على مناطق شرق الفرات شمال شرقي سوريا، مع مصالح تركيا والولايات المتحدة في سوريا، إذ تراه أنقرة مرتبطًا بأمنها القومي، وتنظر إليه واشنطن على أنه شراكة استراتيجية لمحاربة تنظيم “الدولة الإسلامية”، بينما يقع على رأس أولويات دمشق التي تهدف لعبور نهر الفرات واستعادة المناطق الغنية بالنفط والأراضي الزراعية.
وفي ظل إشارات متضاربة ترسلها “قسد” حول موقفها من المفاوضات مع دمشق، وضغوط تتعرض لها من الشمال، تتجلى بهجمات من فصائل “الجيش الوطني السوري” الذي تدعمه أنقرة، يبقى الملف عالقًا، دون حصول أي تقدم عملي فيه مع مضي أكثر من شهر على بدايته.
ورغم عدم التوافق، وتناقض الاصطفافات بين “قسد” وأنقرة وواشنطن، نفذت تركيا ضد “قسد” ثلاث عمليات في الشمال السوري، بالتعاون مع “الجيش الوطني السوري”، هي “درع الفرات” 2016، وغصن “الزيتون” 2018، و”نبع السلام” 2019، وتلوّح بين وقت وآخر بشن عمليات أخرى، عدا عن استهداف مستمر لأفراد وشخصيات قيادية في حزب “العمال” ومواقع عسكرية ومنشآت حيوية ومصادر دخل وطاقة.
ومع تطور الأحداث في المنطقة، أدى سقوط نظام بشار الأسد إلى تغير توازن القوى على الجغرافيا السورية، وأصبحت دمشق الآن بيد حكومة أفرزتها “إدارة العمليات العسكرية” اعتمادًا على كوادر حكومة “الإنقاذ” العاملة في إدلب سابقًا.
الحكومة الجديدة تواجه العديد من الصعوبات على رأسها القطاعان الأمني والعسكري، تزامنًا مع محاولة وزارة الدفاع إجراء محادثات مع الفصائل العسكرية ومنها “قسد” بشكل مباشر، تجنبًا لصدام عسكري في هذه المرحلة، إذ تغلّب الحكومة الجانب التفاوضي مع “قسد”، وفق ما قاله وزير الدفاع المعيّن حديثًا بإدارة دمشق، مرهف أبو قصرة.
تناقش عنب بلدي في هذا الملف أجواء الحوار القائم بين “قسد” وحكومة دمشق، والمخاوف القائمة من حصول صدام عسكري بين الأطراف التي تشكل كبرى القوى العسكرية في سوريا اليوم، والمواقف الدولية المتغيرة بناء على المعطيات المفروضة على الأرض، إلى جانب مستقبل الحوار القائم بين الجانبين، اعتمادًا على آراء خبراء وباحثين، ومراقبين للوضع عن قرب.
ما فحوى المفاوضات
مع شحّ المعلومات حول هذه المفاوضات بين دمشق و”قسد”، يخوض دبلوماسيون وعسكريون من الولايات المتحدة، وتركيا، والإدارة السورية الجديدة، و”قسد” التي يقودها الكرد، محادثات منذ كانون الأول 2024، ترمي لتجنيب المنطقة نزاعًا مسلحًا جديدًا، ويبدون قدرًا أكبر من المرونة والصبر مما تشير إليه تصريحاتهم العامة.
ويتجه المفاوضون وفق ما ذكرته وكالة “رويترز” سابقًا نقلًا عن مصادر (لم تسمّها)، جزء منها كان طرفًا في المفاوضات، نحو التوصل لاتفاق محتمل لحل واحدة من أكثر القضايا الشائكة التي تلوح في الأفق بشأن مستقبل سوريا، وهو مصير “قسد” التي تعتبر حليفًا لواشنطن، وعدوًا لتركيا.
ونقلت “رويترز” عن ستة من المصادر، أن المفاوضات قد تمهد الطريق لاتفاق في الأشهر المقبلة، من شأنه أن يدفع ببعض المقاتلين الكرد لمغادرة شمال شرقي سوريا، ويضع آخرين تحت سلطة وزارة الدفاع الجديدة.
وأضافوا أن هناك العديد من القضايا الشائكة التي تحتاج إلى حل، وتشمل هذه القضايا كيفية دمج مقاتلي تحالف “قسد” المسلحين والمدربين جيدًا، في الإطار الأمني السوري وإدارة الأراضي الخاضعة لسيطرتهم، التي تشمل حقول النفط والقمح الرئيسة.
سبق أن أبدى قائد “قسد”، مظلوم عبدي، استعداده لاندماج عسكري مع المعارضة السورية، عندما قال لصحيفة “التايمز” البريطانية، قبل نحو شهر، إن قواته المكونة من 100 ألف عنصر مستعدة لحل نفسها، والانضمام إلى جيش سوريا الجديد.
ومؤخرًا تجاوز عبدي استعداد فصيله لحل نفسه، ورفض الانضمام للجيش الجديد كأفراد، إنما ككتلة عسكرية.
وسبق أن نقلت “رويترز” أيضًا، عن مسؤول في حزب “العمال الكردستاني” (لم تسمِّه) قوله، في 16 من كانون الثاني الحالي، إن “الحزب” سيوافق على مغادرة شمال شرقي سوريا إذا احتفظت “قسد” المتحالفة مع الولايات المتحدة بدور قيادي.
وأضاف المسؤول الذي يشغل منصبًا في المكتب السياسي لـ”قسد”، أن “أي مبادرة تؤدي إلى حكم شمال شرقي سوريا تحت سيطرة (قوات سوريا الديمقراطية)، أو يكون لها فيها دور كبير في القيادة المشتركة، ستقودنا إلى الموافقة على مغادرة المنطقة”.
وعلى الجانب الآخر، ترى وزارة الدفاع في الإدارة السورية الجديدة أن “قسد” تماطل في المفاوضات المتعلقة بإعادة هيكلة القوات العسكرية في الجيش السوري.
وقال وزير الدفاع السوري، مرهف أبو قصرة، إنه لن يكون من الصواب أن تحتفظ “قسد” المدعومة من الولايات المتحدة في شمال شرقي سوريا، بكتلتها الخاصة داخل القوات المسلحة السورية.
وأضاف لوكالة “رويترز” أن قيادة “قسد” تماطل في تعاملها مع هذه القضية المعقدة، في إشارة إلى مفاوضات الاندماج مع وزارة الدفاع.
وقال أبو قصرة، “نحن نقول إنهم سيدخلون ضمن هيكلية وزارة الدفاع، وسيتم توزيعهم بطريقة عسكرية، وليس لدينا أي مشكلة في هذا الأمر”.
واعتبر أن الطرح الذي يتحدث عن بقاء “قسد” ككتلة عسكرية داخل وزارة الدفاع، “ليس صحيحًا”.
وسبقت حديث أبو قصرة شروط طرحها قائد الإدارة الجديدة في دمشق، أحمد الشرع، إذ أشار إلى ضرورة وجود قواعد أساسية لحل المشكلة القائمة شمال شرقي سوريا، أولاها ألا يكون هناك تقسيم في سوريا بأي شكل من الأشكال، حتى لو كانت بشكل فيدرالي.
كما اشترط الشرع مغادرة المسلحين الأجانب الذين يتسببون بمشكلات لدول مجاورة، إلى جانب أن السلاح يجب أن يكون محصورًا بيد الدولة فقط.
هل تصطدم الأطراف
في مقابلة أجرتها قناة “A haber” التركية مع أحمد الشرع، في 23 من كانون الثاني الحالي، قال إنه تحدث إلى حزب “العمال الكردستاني” (في إشارة إلى “قسد”) بعد دخول دمشق، لكن “الحزب” لم يقبل بحل نفسه وتسليم السلاح بعد.
وأضاف أنه عازم على حل المشكلة المتعلقة بشمال شرقي سوريا بالتعاون مع تركيا وإيجاد حل وسطي، لافتًا إلى أنه لا يمكن لأحد أن يحمل السلاح خارج إطار الدولة.
وأشار الشرع إلى أن أطرافًا حاولت استغلال الحرب منذ البداية لمصلحتها وتنظيم نفسها، بدعم غربي.
وحمل حديث الشرع تصعيدًا باللهجة، إذ قال، “نترك مجالًا للتفاوض مع (قسد)، ونمتلك الحق في استخدام الوسائل كافة لاستعادة وحدة أراضينا”.
استبعد الباحث في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” محسن المصطفى، احتمالية نشوب صدام عسكري، لافتًا إلى أن لا بوادر تدل على هذا الاحتمال حتى الآن.
وأضاف الباحث المتخصص في شؤون العلاقات المدنية- العسكرية لعنب بلدي، أن الإدارة الجديدة تتفادى إراقة الدماء لحسم أي صراع حتى الآن، لكن الخيار العسكري يبقى قائمًا في حال عدم التوصل إلى حل.
وفي الوقت نفسه، يرى المصطفى أن الخلافات الحالية ليست عسكرية فقط، بل تمتد للجوانب السياسية أيضًا، وبالتالي فإن ملف المفاوضات معقد ويحتاج إلى مزيد من الوقت حتى تقلص الأطراف فجوة الخلافات القائمة بينها واحدة تلو الأخرى.
وعلى الصعيد العسكري، يكمن الخلاف الرئيس حول انضمام “قسد” للجيش السوري الجديد ككتلة رئيسة، وهو ما ترفضه الإدارة الجديدة بالمطلق، وهو خلاف لا يعتبر خاصًا بـ”قسد” لوحدها، بل يمتد ليشمل جميع الفصائل العسكرية.
أما من ناحية الخلاف السياسي، فيكمن في موضوع الفيدرالية التي تطالب بها “قسد”، ومظلتها السياسية “الإدارة الذاتية”، وهو وضع غير مقبول في دمشق، وليس خاصًا بـ”قسد” وحدها، بل يشمل أي منطقة سورية أخرى أيضًا.
من جانبه، يرى الباحث في الشأن العسكري بمركز “جسور للدراسات” رشيد حوراني، أن الإدارة في دمشق تسعى كي لا تصل الأمور إلى الصدام العسكري، وتعمل وفق معايير الجيوش العالمية التي تعكس حالة المواطنة الكاملة الموجودة في البلاد.
وقال حوراني لعنب بلدي، إن دمشق تحاول مع مرور الوقت تحويل “قسد” لكتلة ضعيفة غير مؤثرة، من خلال دعم الانشقاقات فيها، وبالتالي دفعها للاندماج غير المشروط في الجيش السوري الوليد.
ولفت إلى أن الإدارة في دمشق تقدّر الضغوط الخارجية على “قسد”، وتتعامل بمرونة معها ريثما ترتب أوراقها، رغم أنها تريد في الوقت عينه ألا تطول المسألة لتلتفت إلى مسائل تتعلق ببسط الأمن والتنمية والإعمار.
“قسد”.. معضلة بين تركيا وأمريكا
لطالما كان ملف “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) إحدى أبرز القضايا الخلافية بين تركيا والولايات المتحدة الأمريكية، والتي تعود جذورها لعام 2014، حين قرر الرئيس الأمريكي الأسبق، باراك أوباما، اعتماد “وحدات حماية الشعب” (YPG)، الذي يشكل نواة “قسد”، شريكًا وحليفًا لواشنطن لمحاربة تنظيم “الدولة الإسلامية”، وهو ما يتعارض مع رؤية أنقرة التي تعتبر “قسد” وعمادها العسكري “وحدات الحماية” منظمة “إرهابية” وامتدادًا لحزب “العمال الكردستاني”.
أوراق أردوغان على طاولة ترامب
مع فوز دونالد ترامب بالانتخابات الأمريكية، تحدث الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، عن اتصاله بترامب، والرغبة بتجديد التعاون بين الطرفين، وتركزت المطالب التركية حول وقف دعم واشنطن لـ”وحدات حماية الشعب”، ومناقشة انسحاب محتمل للقوات الأمريكية من سوريا.
توالت المطالب التركية في هذا الصدد، وذكر أردوغان في تصريح أنه يريد وضع مناقشة وقف الحروب والسلام وتوقف دعم أمريكا لحزب “العمال الكردستاني” على الطاولة في اجتماعاته مع ترامب، مؤكدًا أهمية مواصلة “الصداقة” مع واشنطن كما كانت في فترة ولاية ترامب الأولى.
ومع سقوط بشار الأسد، واستعداد ترامب لسحب القوات الأمريكية (في السابق)، ترى تركيا فرصة لاستخدام “الجيش الوطني السوري” للقضاء على “قسد ” والتخلّص أخيرًا من التهديد الأمني القادم من الجنوب، وفق مقال كتبه ستيفن كوك، وهو زميل أقدم في زمالة “إيني أنريكو ماتي” لدراسات الشرق الأوسط وإفريقيا في “مجلس العلاقات الخارجية”.
وقال كوك، إنه من وجهة نظر تركيا، تبدو هذه لحظة مواتية لتوجيه ضربة مدمرة لـ”وحدات حماية الشعب”، لكن هناك بعض القضايا التي تزيد من تعقيد هذا السيناريو المباشر، أولاها عدم قبول الكرد طوعًا تدمير أنفسهم، فهم يمتلكون القدرة على الرد، وهو ما يعرض تركيا لاحتمالات غير محسوبة، تتمثل في الاضطرار إلى خوض صراع عصابات على جبهتي سوريا والعراق، حيث يتحصن حزب “العمال الكردستاني”.
ثانيًا، “هيئة تحرير الشام” أبرز فصائل “إدارة العمليات العسكرية” في سوريا، ليست بالضرورة شريكًا في جهود تركيا لتصفية “الوحدات”.
أمريكا مستمرة بدعم “قسد”
منذ 2014 (حين دعمت واشنطن وحدات الحماية الكردية)، تعاقبت أربع إدارات أمريكية، هي إدارة باراك أوباما، ودونالد ترامب الأولى، وجو بايدن، والإدارة الجديدة مع عودة ترامب إلى السلطة، وسط تكهنات وانقسامات في أروقة الإدارة الأمريكية حول بقاء قواتها في سوريا، ودعمها لـ”وحدات حماية الشعب”، وطبيعة التعامل مع أنقرة، والتلويح بعقوبات بحق تركيا.
المتحدث باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض، جون كيربي، أكد على استمرار الشراكة الأمريكية مع “قسد”، وذكر أن واشنطن تريد من “قسد” التركيز على محاربة تنظيم “الدولة”، وأن الوجود الأمريكي في سوريا يهدف إلى منع تنظيم “الدولة” من إعادة تجميع صفوفه في أعقاب سقوط بشار الأسد.
وأشار كيربي إلى تفهم المخاوف الأمنية المشروعة لتركيا على طول تلك الحدود، وأكد أن أنقرة تتمتع بحق مشروع في الدفاع عن نفسها ضد الهجمات “الإرهابية”، لافتًا إلى وجود محادثات نشطة مع الأتراك حول “كيفية قيامنا بذلك، وكيف يقومون بذلك”.
عضوا مجلس الشيوخ، الديمقراطي كريس فان هولن، والجمهوري ليندسي غراهام، قدّما، في 20 كانون الأول 2024، مشروع قانون من الحزبين تحت اسم “قانون مواجهة العدوان التركي لعام 2024″، مع التأكيد على أن الولايات المتحدة يجب أن تعمل مع تركيا من خلال الوسائل الدبلوماسية، لتسهيل وقف إطلاق النار المستدام والمنطقة منزوعة السلاح على طول الحدود بين تركيا وسوريا، وخاصة مدينة كوباني.
وفق هولن وغراهام، تسعى هذه العقوبات إلى منع المزيد من الهجمات التركية أو المدعومة من تركيا على “قسد”، والتي تهدد بإعادة ظهور تنظيم “الدولة”، ما يهدد الأمن القومي للولايات المتحدة وبقية العالم، قائلين “إننا لا نزال نأمل في التوصل إلى حل سلمي للمشكلات التي تعاني منها سوريا”.
هل تتوافق أنقرة وواشنطن شرقي سوريا
الزميل المشارك في المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية في معهد “كينجز كوليدج” بلندن بروديريك ماكدونالد، قال لعنب بلدي، إن السياسة الأمريكية تجاه سوريا تظل مسألة تلوح في الأفق بالنسبة لإدارة ترامب الجديدة.
وفي حين أعرب وزير الخارجية الجديد، ماركو روبيو، عن تأييده لاستمرار الولايات المتحدة في دعم “قسد” التي يقودها الأكراد، فإن قطاعات أخرى من إدارة ترامب، مثل مايكل ديمينو (مستشار رئيس لسياسة الشرق الأوسط في البنتاجون)، تؤيد تقليص القوات الأمريكية في الشرق الأوسط، باعتبارها هدفًا يمكن الوصول إليه بسهولة لإيران والجماعات التابعة لها.
ويرى ماكدونالد أن الجهود الدبلوماسية بين الولايات المتحدة وتركيا حاسمة لإيجاد حل دائم يحمي وحدة سوريا، ويضمن معالجة المخاوف الأمنية التركية.
وأضاف أن أي اتفاق من هذا القبيل، لابد أن يركز على تهدئة الاشتباكات الجارية بين “قسد” و”الجيش الوطني السوري”، وإيجاد آلية دائمة لضمان الإدارة الآمنة لمراكز الاحتجاز التي تحتجز معتقلي تنظيم “الدولة”، وضمان هيكل حكم شامل في دمشق يشرك بشكل هادف جميع أجزاء المجتمع السوري.
ويعتقد الباحث أنه سيكون من الصعب التوصل إلى أي اتفاق، فهو أمر بالغ الأهمية لضمان وحدة سوريا، ومنع خلايا تنظيم “الدولة” في شرقي سوريا من الظهور مجددًا، واستغلال الفراغات الأمنية الناشئة.
ما تريده واشنطن وما ترضاه أنقرة
تتابع أنقرة المفاوضات بين “قسد” والإدارة السورية الجديدة باهتمام كبير وربما بشيء من الشك أيضًا، وفق ما تراه الباحثة والصحفية الهولندية رينا نيتجيس، وفي الوقت نفسه، تحاول الولايات المتحدة وفرنسا جاهدتين التوسط في صفقة بين “قسد” و”هيئة تحرير الشام”، وسبق أن عقدت اجتماعات بين الطرفين.
نيتجيس قالت لعنب بلدي، هناك في كلا المعسكرين أشخاص يعارضون الطرف الآخر، ويمثل ذلك إحدى العقبات الرئيسة بين دمشق و”قسد” في كيفية اندماج الأخيرة بالقوة العسكرية التي يجري بناؤها حديثًا.
وتعتقد الباحثة أن من الجيد إبراز الدفع الأمريكي لـ”قسد” باتجاه عقد صفقة مع الأحزاب الكردية السورية الأخرى مجتمعة في “المجلس الوطني الكردي”، لكن هذا الدفع فشل، بعد سنوات من المحاولات.
وأشارت إلى تصريح المبعوث الأمريكي السابق إلى سوريا، جيمس جيفري، عندما قال لوكالة “رووداو”، “لقد حاولنا عدة مرات، وحاول العديد من أصدقائنا هنا في أربيل أيضًا، لقد كانت جهودًا كبيرة. أعتقد أن المشكلة ليست مع الناس في شمال شرقي سوريا، ولكن المشكلة مع الناس في قنديل”.
وذكر جيفري أن من هم في قنديل “لا يريدون على الإطلاق رؤية هذا يحدث (في إشارة إلى التوافق الكردي الداخلي)، يبدو أن قنديل ضد ذلك وأعتقد أن هذا هو السبب الرئيس”.
وتعتقد نيتجيس أن ما سيحدث في شمال شرقي سوريا يعتمد إلى حد كبير على ما تريده الإدارة الأمريكية الجديدة، سواء كانت ستستمر بدعم “قسد” كما فعلت سابقًا، أم تريد الآن العمل مع الحكام الجدد في دمشق.
احتمالات تغيير مرتبطة بإرادة “قسد”
تواجه الحكومة الجديدة العديد من الصعوبات على رأسها القطاعان الأمني والعسكري، تزامنًا مع محاولة وزارة الدفاع إجراء محادثات مع الفصائل العسكرية بشكل مباشر، أو عبر وسطاء كما يتم مع “قسد”، دون الوصول إلى صدام عسكري في هذه المرحلة على أقل تقدير، إذ تغلّب الحكومة الحوار مع “قسد”، وتستبعد خيارات الصدام.
افتراضات تتحكم بقرار “قسد”
تتحكم افتراضات سياسية واجتماعية واقتصادية لا تزال موجودة في منطقة شمال شرقي سوريا، بمسار التفاعل السياسي بين “قسد” ودمشق، وفق ما يراه مدير البحوث في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” معن طلاع.
وقال طلاع لعنب بلدي، إن الإطار السياسي لإدارة هذه المناطق الذي تعتمده “قسد” لطالما أخفق في معظم الاستحقاقات السابقة سواء السياسية أو الأمنية، ما يؤكد على أنه إطار شكلي ليس إلا، ويتحكم به حزب “الاتحاد الديمقراطي” الكردي ويبنى بشكل مباشر باتجاه واحد، وبنظرة “شمولية”.
حزب “الاتحاد الديمقراطي” (PYD) وذراعه العسكرية “وحدات حماية الشعب” الكردية (YPG) يعتبر عماد “قسد”، ويلعب قادته دورًا بارزًا في إدارة “الإدارة الذاتية” (مظلة قسد السياسية)، سواء في الأمور الخدمية أو السياسية إلى جانب دوره الكبير في المجال العسكري والأمني.
وأضاف طلاع أن “الإدارة الذاتية” ومن خلفها “الاتحاد الديمقراطي”، ومن خلال سعيهما لتحسين سياق التحالفات المحلية سواء مع العشائر أو حتى مع المكوّن الكردي، تسعى إلى كسب ود الحليف الأمريكي ليس إلا، وعلى حساب تقديم أي شيء في سياق تحسين واقع التحالفات، لافتًا إلى أن ما حدث في اتفاق “هولير 1″ و”وهولير 2” (الحوار الكردي- الكردي) هو شاهد على هذه الفرضية نفسها حتى اللحظة.
اجتماع هولير، هو اجتماع للحوار بين “المجلس الوطني الكردي” والأحزاب الكردية العاملة في مناطق سيطرة “الإدارة الذاتية” تحت قيادة حزب “الاتحاد الديمقراطي”، برعاية زعيم كردستان العراق، مسعود برزاني.
عقد “هولير 1″ في حزيران 2012، و”هولير 2” في كانون الأول 2013، وتهرّب حزب “الاتحاد الديمقراطي” من تطبيق بنود الاتفاق خاصة المتعلقة بمشاركة الطرفين في إدارة المنطقة.
ويرى الباحث أن منظور “الإدارة ذاتية” لمعطيات المشهد السوري عمومًا لا يزال غير ناجح على المستوى الوطني، ويعتمد على مقاربات “تخطف القضية الكردية وتجعلها وفق تفسيراتها (الإدارة الذاتية) فقط”.
ولفت طلاع إلى أن إخفاق النظرة الوطنية إلى حد بعيد يعود إلى عدم قدرة “قسد” على قراءة المشهد السياسي، لا سيما بعد سقوط النظام وما تعنيه هذه المرحلة”.
تحرك “قسد” نحو مكونات المنطقة
واجهت “قسد” خلال السنوات الماضية اتهامات بإقصاء باقي المكونات في المناطق الخاضعة لسيطرتها، خاصة المكونات السياسية، سواء الكردية أو العربية، وأنها أفشلت كل محاولات الحوار معها.
“المجلس الوطني الكردي” منذ 2012 وبرعاية من رئيس إقليم كردستان العراق السابق، مسعود برزاني، دخل في عملية تفاوض مع حزب “الاتحاد الديمقراطي” لكن هذه المفاوضات فشلت عدة مرات.
مؤخرًا، وبعد سقوط بشار الأسد، اقترح برزاني استئناف الحوار وتوحيد الأحزاب الكردية “في سياق وحدة الصف الوطني السوري العام، والسعي للتوافق”، وفق عضو “المجلس الوطني الكردي”، عبد الله كدو.
وقال كدو لعنب بلدي، إن الحوار المقترح من قبل برزاني، يهدف أيضًا إلى وضع رؤية مشتركة حول حل القضية الكردية، بما ينطوي على الاعتراف الدستوري بالهوية القومية للشعب الكردي، وحقوقه القومية ومنها الثقافية واللغوية ضمن سوريا الموحدة أرضًا وشعبًا، وذلك بالحوار والتوافق مع الإدارة السورية الجديدة، ودعمها في تثبيت الاستقرار والنهوض بالبلاد.
كدو أشار إلى أن برزاني لديه علاقات وتواصل وتشاور مع القوى الفاعلة المحلية السورية، ومنها الإدارة الجديدة، والإقليمية (تركيا)، والدول العربية والغربية.
ولم يناقش “المجلس الوطني الكردي” مطالب “قسد”، وربما تتناول قيادة “قسد” مع قيادة “المجلس” قريبًا ما توصلت إليه من تواصلها ولقاءاتها مع الإدارة السورية، وما تطرحه “قسد” بشكل عام حول واقعها ومستقبلها.
وكشف كدو عن عقد لقاءات لقيادتي “المجلس الوطني” و”قسد” قريبًا، تناقش المواضيع المتعلقة بـ”وحدة الصف الوطني الكردي السوري”، ويفترض أن يكون للتحالف الدولي دور بإيجاد الحل في تلك المنطقة.
وبالنسبة للعشائر العربية في المنطقة، حاولت “قسد” التقرب منها في الأشهر التي سبقت سقوط الأسد، نتيجة مسار التقارب التركي مع النظام المخلوع، وتهديدات تركيا المتتابعة بشن عمل عسكري على غرار عمليتي “غصن الزيتون” في عفرين عام 2018، و”نبع السلام” شرق الفرات عام 2019.
التقى عبدي مع وفود من العشائر التي قدمت له العديد من المطالب، منها الإفراج عن سجناء، وهو ما بادر به عبدي عبر إصدار “الإدارة الذاتية” عفوًا عامًا في 17 من تموز 2024.
تقوم العلاقة بين “قسد” و”المجلس الوطني الكردي” على خلافات عمرها سنوات، تمتد إلى داخل إقليم كردستان العراق حيث الخلاف بين تيارين كرديين، هما “البرزانيون” (يمثلهم مسعود برزاني حاليًا)، و”الطالبانيون” (يمثلهم بافل طالباني).
وتتحالف “قسد” مع “الطالبانيين” ومقرهم في مدينة السليمانية بكردستان العراق، وهم متحالفون أيضًا مع حزب “العمال الكردستاني” (PKK)، بينما يميل “الوطني الكردي” لـ”البرزانيين” المقربين من تركيا.
ونشبت خلافات بين “قسد” و”الوطني الكردي”، انتهت بمنع “المجلس” من الانخراط بأي شكل من إشكال إدارة شمال شرقي سوريا، كما عملت مجموعات عسكرية موالية لـ”قسد” ومكوناتها على اعتقال أعضاء من “المجلس”، ولا يزال جزء منهم في السجون حتى اليوم.
عنب بلدي
————————————-
الجغرافيا الاقتصادية السورية… استقرار لسوريا الجديدة أو إعادة تدوير للصراع؟/ عمار جلّو
السبت 25 يناير 2025
مع الزلزال الجيو-سياسي الذي أحدثه انهيار نظام الأسد في سوريا، والذي سيعيد بناء شراكات وتحالفات سياسية جديدة في المنطقة، يبدو أنّ مساراً جيو-اقتصادياً سيعاد تشكيله أيضاً.
عاجلت أنقرة إلى الإعلان عن رغبة في ترسيم الحدود البحرية مع سوريا، فإدارة دمشق الجديدة قد تكون أكثر استعداداً للاعتراف بمطالبها بمنطقة اقتصادية خالصة في شرق البحر الأبيض المتوسط، ما يعزز موقفها في النزاعات المستمرة مع اليونان وقبرص، في وقت تسعى فيه إلى ترسيخ مكانتها كمركز رئيس للطاقة في المنطقة.
وتوفر البنية التحتية التركية الحالية للطاقة، أساساً جيداً لهذا الطموح، ويزيده فرصاً استقرار سوريا الجديدة، عبر إنشاء خط أنابيب للغاز إلى الغرب السوري وربطها بشبكة خط الغاز العربي (يربط بين سوريا والأردن ومصر)، ما يمكّن تركيا من تقديم طريق لمنتجي الغاز الإقليميين إلى الأسواق الأوروبية أكثر قابليةً للتطبيق تجارياً من بدائل الغاز الطبيعي المسال الحالية، حسب معهد “تشاتام هاوس” للأبحاث.
بجانب ذلك، قد يحيي استقرار سوريا مشروع خط الغاز القطري-التركي، عبر السعودية والأردن وسوريا، والذي رفضه نظام الأسد عام 2009، لحماية صادرات الغاز الروسي إلى أوروبا. لذا عاجل وزير الطاقة التركي، ألبارسلان بيرقدار، إلى الإشارة إليه بعد يومين من سقوط الأسد.
أنقرة من أكبر المستفيدين مما جرى في سوريا، حسب الزميل الأول ومدير مكتب سوريا في المجلس الأطلسي، قتيبة إدلبي، إلا أنّ همّها الأول محصور في الجانب الأمني، لناحية القدرة على إنهاء ملف حزب العمال الكردستاني (بي كي كي) في سوريا، وحتى في تركيا في المستقبل القريب، إلى جانب مسألة الاستقرار المتوقع أن ينشأ في سوريا، والذي سيؤدي إلى تسهيل عودة اللاجئين السوريين طوعاً، أو عبر سياسات قد تنتهجها الحكومة التركية في هذا الشأن مستقبلاً.
أما في ما يخص الجانب الاقتصادي، فيعتقد إدلبي، أنّ قضايا خطوط الغاز وترسيم الحدود البحرية، هي مسائل مأمولة على المدى البعيد، حيث ترى أنقرة، خط الغاز القطري، أو خطوط الغاز إجمالاً، ومنها الخط العربي الرابط بين الغاز المصري والإسرائيلي بخطوط الغاز التركية، مشاريع متاحةً وتشكل فرصاً لتركيا، لكن الواضح بشأنها أنها ستأخذ وقتاً، ولا يمكن تخيّل سيناريو بشأنها على المدى القريب.
تعي أنقرة أنّ الحكومة السورية الحالية لا تستطيع التفاوض على هذه القضايا، وأنها قد تكون محل تفاوض مع حكومة انتقالية أو مستقبلية قادمة، “لذا تعمل تركيا على تجميع الأوراق للضغط، إن صحّ التعبير، أو لوضعها على طاولة المفاوضات مستقبلاً، لتحصيل أفضل ما يمكن تحصيله منها”، يقول إدلبي، لرصيف22.
لكن من حق تركيا الاستفادة من المتغيرات السورية في هذا الملفات، لا سيما بعد معاناتها الطويلة من الحدث السوري، ولأنها الدولة الوحيدة من بين الدول المتصارعة في سوريا التي لها حدود مشتركة مع الأخيرة، حسب الصحافي والباحث السياسي التركي، علي أسمر. وهو ما يحتّم تعاوناً وتقاطع مصالح كبيراً بين الجارتين وفق قاعدة “رابح-رابح”.
سوريا… الحلقة المفقودة
“من المتوقع نشوء المزيد من الاتفاقيات بين تركيا وسوريا. الترسيم البحري جزء واحد منها”؛ حسب الزميل غير المقيم في المجلس الأطلسي، عمر أوزكيزيلجيك، الذي يشير إلى إمكانية توقيع اتفاقيات في مجال الطاقة وخطوط الأنابيب المحتملة والبحث عن الهيدروكربونات واستخراجها. بجانب اتفاقيات جوية وبرية واقتصادية وعسكرية”.
يضيف: “تفتقر سوريا حالياً إلى القدرات، مع رغبة في البحث عن الموارد الطبيعية والاستفادة منها. فبعد اكتشاف الغاز الطبيعي قبالة شواطئ مصر وإسرائيل ولبنان، سترغب سوريا في معرفة ما إذا كانت هناك موارد قبالة شواطئها”.
كما أعاد سقوط نظام الأسد، فكرة إحياء مشروع خطّ الغاز القطري، عبر سوريا وتركيا وصولاً إلى أوروبا، حسب مركز “شاف” لتحليل الأزمات والدراسات المستقبلية. ومع نفوذ تركيا في سوريا الجديدة، الوضع مؤهل للبدء بهذا المشروع في ظلّ الأوضاع الإقليمية، لا سيما الحرب الروسية-الأوكرانية، برغم وجود عقبات اقتصادية وسياسية.
تنوّع منطقتنا مُدهش
لا ريب في أنّ التعددية الدينية والإثنية والجغرافية في منطقتنا العربية، والغرائب التي تكتنفها، قد أضفت عليها رومانسيةً مغريةً، مع ما يصاحبها من موجات “الاستشراق” والافتتان الغربي.
للأسف، قد سلبنا التطرف الديني والشقاق الأهلي رويداً رويداً، هذه الميزة، وأمسى تعدّدنا نقمةً. لكنّنا في رصيف22، نأمل أن نكون منبراً لكلّ المختلفين/ ات والخارجين/ ات عن القواعد السائدة.
نحو تنوّعٍ مستدام!
ستستفيد تركيا بجانب سوريا وقوى إقليمية أخرى من إحياء المشروع، بتحقيق مستوى عالٍ من الاستقرار السياسي والاقتصادي داخلياً، عبر توفير فرص عمل ضخمة خلال مراحل الإنشاء والتشغيل، مع دعم قطاعَي البناء والصناعة، كما سيساهم في زيادة عائداتها من عبور الطاقة، ما يحسّن ميزان المدفوعات وتقليل عجز الحساب الجاري، بالإضافة إلى خفض تكاليف الطاقة لديها، الأمر الذي يعزز من تنافسية الصناعات المحلية.
ويُعدّ خط الغاز القطري-التركي، مشروعاً إستراتيجياً يُعزز دور تركيا كمحور إقليمي للطاقة، ويقلل من اعتماد أوروبا على الغاز الروسي، حسب أسمر، لكنه يواجه تحديات أبرزها، مواقف روسيا وإيران المعارضة للمشروع منذ طرحه، إذ تراه الدولتان تهديداً لمصالحهما في المنطقة، بجانب استمرار النزاع وعدم استقرار المناطق التي سيمرّ بها الخط، ما يجعل المشروع عرضةً للخطر.
“مع ذلك، ترى أنقرة في المشروع فرصةً لتعزيز علاقاتها مع أوروبا وتحقيق مكاسب اقتصادية كبيرة”، يقول أسمر، لرصيف22.
وعن ترسيم حدودهما البحرية، يشير “شاف”، في مكان آخر، إلى تعزيز أنقرة لمكانتها الجيو-سياسية من الاتفاقية المأمولة، مع توسيع حدود منطقتها الاقتصادية الخالصة، بما يفتح المجال لاستكشاف واستغلال موارد الطاقة، بجانب تعزيز قوتها التفاوضية على الساحة الدولية، بما يمنحها ميزةً إستراتيجيةً في مواجهة القوى الأخرى. وفي حال نجاح أنقرة في توقيع الاتفاقية، ستشكل خطوةً قد تعيد رسم علاقة البلدين وتغير موازين القوى في شرق البحر الأبيض المتوسط لصالح تركيا.
مع الحرب المستمرة في أوكرانيا منذ نحو ثلاث سنوات، وعودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، تسعى أوروبا إلى التخلي بشكل عاجل عن اعتمادها على الغاز الروسي، فيما تسعى تركيا إلى أن تلعب هذا الدور لأسباب عديدة، حسب محلل الشؤون السياسية الشرق أوسطية في واشنطن، عبد الله الحايك.
أول هذه الأسباب، اعتبار المشروع بادرةً جيدةً تجاه الولايات المتحدة وأوروبا فهو يُظهر اهتمام تركيا بالغرب، ما قد يدعمها في مفاوضات جديدة مع الاتحاد الأوروبي.
وثانيها، تعزيز إيرادات العبور للاقتصاد التركي، لا سيما مع اقتراب عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، ما سيخفف من العبء الاقتصادي على تركيا. وأخيراً، سيعزز ذلك دعمها لحليفها العربي الأول والأهم، قطر، الذي يهمّها بشدّة.
ومن خلال مشروع خط الغاز القطري-التركي المقترح، والذي يمرّ عبر سوريا من الخليج العربي إلى أوروبا، يمكن لتركيا تعزيز دعمها لحليف عربي آخر، أي سوريا، ومواصلة مواجهة روسيا وإيران في آنٍ واحد. لذا تسعى تركيا الآن للحفاظ على نفوذها في سوريا مع توسيع قائمة حلفائها العرب.
يضيف الحايك، في حديثه إلى رصيف22، أنه من الواضح أنّ “هناك تغييرات كبيرةً تدفع المنطقة نحو الأفضل. تركيا تسعى للحفاظ على انتصاراتها ضد روسيا وإيران، وتأمل في أن يساعدها العالم العربي، المرتبط بإيمان إسلامي سنّي مشترك وتاريخ غني من العلاقات التركية العربية، في تحقيق هذا الهدف”.
فرص وتحديات
بعد تراجع النفوذ الروسي والإيراني مقابل تصاعد النفوذ التركي، يعاد تشكيل المشهد الجيو-اقتصادي في الشرق الأوسط، حسب “شاف”، ما يفتح باباً لفرص جديدة في قطاع الطاقة، لا سيما خط الغاز القطري الذي رفضته سوريا في 2009، لحماية مصالح روسيا، في مقابل توقيعها على اتفاقية مع إيران والعراق عام 2011، لإنشاء خط أنابيب آخر، هدفت إيران من خلاله إلى خلق توازن جديد لمصالحها، بما في ذلك تغيير قواعد اللعبة مع الدول الغربية.
من خلال الوضع السوري الجديد، تسعى أنقرة إلى تحقيق منافع اقتصادية عدة، أولها ملف الطاقة، سواء عبر المنطقة الاقتصادية الخالصة، بما فيها من احتياطات الطاقة، أو عبر إحياء خط الغاز القطري، أو عبر إنشاء خط أنابيب جديد لنقل النفط من سوريا إلى تركيا، مع إمكانية دمجه مع خط الأنابيب الرابط الذي يربط العراق بتركيا.
لكن ترسيم الحدود البحرية قد تعدّه إسرائيل تهديداً مباشراً لمصالحها الاقتصادية، حسب تقرير آخر لمركز “شاف”. كما أنّ إحياء خط الغاز القطري عبر سوريا، قد تنظر إليه تل أبيب كتهديد جدّي للممر الهندي-الشرق أوسطي-الأوروبي، عبر ميناء حيفا، والذي سيجعل إسرائيل، في حال تنفيذه، حلقة الوصل بين آسيا وأوروبا.
المحاولات التركية لتحقيق مكاسب اقتصادية، سواء عبر مشروع خط الغاز أو تعزيز النفوذ البحري، قد تُثير قوى أخرى في المنطقة، حسب أسمر، ما قد يؤدي إلى إعادة تدوير الصراع السوري. فإيران على سبيل المثال، قد ترى في المشروع تهديداً إستراتيجياً لمصالحها، بينما قد تلجأ إسرائيل إلى دعم الأطراف المناهضة لتركيا، مثل الأكراد.
يفند أسمر ذلك بقوله إنّ أنقرة تعمل بالتوازي مع مساعيها في سوريا، على توسيع نفوذها في البحر المتوسط، من خلال ترسيم الحدود البحرية مع ليبيا وتحديد منطقتها الاقتصادية الخالصة، وهذه التحركات تهدف إلى حجز حصتها من موارد الغاز المكتشفة في شرق المتوسط، لكنها قد تُثير غضب قوى إقليمية ودولية، أبرزها:
• اليونان وقبرص وإسرائيل، إذ ترى هذه الدول في التحركات التركية تهديداً مباشراً لمصالحها، وقد تعمل على تعزيز تحالفاتها الإقليمية لإحباط المساعي التركية.
• القوى الأوروبية، خصوصاً فرنسا، التي تبدي موقفاً صارماً تجاه الطموحات التركية، وقد تلجأ إلى دعم منافسيها الإقليميين.
• إيران، التي تعدّ أي تحرك تركي في سوريا تهديداً لنفوذها في دمشق، وهو ما قد يدفعها لتعزيز فلول النظام السوري.
وفقاً للمجلس الأطلسي، كان التدخل التركي في سوريا مدفوعاً بمعالجة التهديدات الأمنية المباشرة بدايةً. لكن مع سقوط بشار الأسد، دمجت أنقرة طموحاتها الاقتصادية والجيو-سياسية مع أهدافها الأمنية.
لكن اتفاق المنطقة الاقتصادية الخالصة المأمول، وإن كان سيعزز مكاسب أنقرة البحرية ويعمّق نفوذها في المنطقة، لكنه محفوف بالمخاطر. فاليونان وقبرص وقوى أوروبية أخرى قد تعدّه خطوةً غير قانونية ومزعزعة للاستقرار، ما يزيد من استقطاب الديناميكيات الإقليمية والنزاعات حول الطاقة والسيادة. كما ستراه القوى الإقليمية استفزازاً يعمّق التوترات في بيئة مضطربة فعلاً، برغم تأطيره تركياً بأنه تأكيدات مشروعة لحقوقها.
لكن التحدي الأكبر قد يكون من السعودية، حسب الحايك. فالتوترات بين السعودية وتركيا كانت موجودةً منذ فترة، لكنها تحسنت بشكل كبير خلال السنوات الخمس الماضية، وقد رأت الرياض فرصةً مع أنقرة، خاصةً في سوريا. وقد ترغب المملكة أيضاً في تمديد خط أنابيب الغاز الخليجي الأوروبي ليشمل مبيعات النفط السعودي إلى أوروبا، ما سيدعم اقتصادها.
أما عن إيران وروسيا، فتدرك تركيا أنّ إيران خصم في الإمكان هزيمته، كما حدث مع هزائم الصفويين والقاجاريين على يد العثمانيين في مرات عديدة، لكنها لم تتمكن من هزيمة الروس أبداً.
يضيف الحايك: “مع ذلك، أثبتت سياسة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الخارجية ذات التوجه العثماني الجديد نجاحها في ردع الروس وهزيمتهم. كما حدث في حرب ناغورنو كاراباخ الثانية عام 2020، عندما هزمت أذربيجان المدعومة من تركيا، أرمينيا المدعومة من روسيا وإيران، إلى جانب انتصارها في ليبيا، حيث دعمت حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دولياً، التي أنهت الحرب الأهلية لصالحها عام 2020 ضد الجيش الوطني الليبي المدعوم من روسيا. وأخيراً ومؤخراً، كان الحسم في سوريا، بعد أن هزم الثوار المدعومون من تركيا نظام بشار الأسد المدعوم من روسيا وإيران بقوّة”.
وفي هذا السياق، يقول إدلبي، بعد نفيه قرب أي اتفاق خاص بترسيم الحدود البحرية أو سواه من اتفاقيات بعيدة المدى: “ما قد يحصل في المنظور القريب، إعادة تموضع اقتصادي تركي في الساحة السورية، إذ إن هناك الكثير من العقود التي تم إبرامها سابقاً مع شركات روسية وإيرانية. وقد تنظر أنقرة إلى إعادة ملء الفراغ الناتج عن الإلغاء المحتمل لهذه العقود، مثل عقد إدارة ميناء طرطوس التجاري، بجانب تطلعها للانخراط في عمليات التعافي المبكر وإصلاح بعض البنى التحتية، وطبعاً سيكون لتركيا الدور الأكبر في تنفيذ هذه المشاريع، والاستفادة منها بشكل أساسي للاقتصاد والشركات التركية”.
وختاماً، يشير “شاف” إلى ما يشكّله خط الأنابيب القطري عبر سوريا من فرصة لتركيا لإعادة صياغة دورها في الملف السوري، فعبر تقديم دعمها للمشروع، قد تسعى أنقرة إلى لعب دور الوسيط بين الفاعلين المحليين والإقليميين، ما يعزز من نفوذها السياسي ويمنحها قدرةً أكبر على التأثير في التسوية المستقبلية للأزمة السورية، وتالياً سيعزز من الاستقرار الداخلي إزاء نجاحات الحكومة التركية وقدرتها على إدارة الوضع خارجياً وداخلياً بالتبعية.
رصيف 22
——————————–
ما هو “رد الجميل” الذي تنتظره الدوحة وأنقرة من حكام سوريا الجدد؟/ هند الشيخ علي
الجمعة 24 يناير 2025
كانت تركيا وقطر، أول دولتين تعيدان افتتاح سفارتهما في دمشق رسمياً، بعد سقوط نظام بشار الأسد، في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024. حيث التقى وزير خارجية تركيا، هاكان فيدان، في الـ22 من الشهر نفسه، وقبل بداية العام وبداية التحركات العربية، قائد الحكومة الجديدة أحمد الشرع -الجولاني سابقاً- في قصر الشعب في دمشق، في مشهد طغت عليه الابتسامات و”العناقات الدافئة”، قبيل انتقالهما مع المرافقين وبعض ممثلي وسائل الإعلام، إلى جبل قاسيون شمالي دمشق، الذي يطلّ على معظم المدينة، بعد أن أعيد افتتاحه مجدداً بعد سنوات من الإغلاق خلال حكم الأسد الابن، لاعتبارات أمنية.
أما بالنسبة إلى قطر، الحليف والصديق القوي لتركيا، وهي واحدة من أبرز الدول التي قدّمت الدعم المالي والسياسي والعسكري لفصائل المعارضة منذ بداية الثورة في 2011، فكانت قد أرسلت وفداً رفيع المستوى إلى دمشق للقاء الشرع. كما استقبلت في الدوحة، وزير الخارجية في حكومة تسيير الأعمال الانتقالية، أسعد الشيباني، بداية الشهر الجاري، مع تأكيدات من الطرفين على أنه سيكون للدوحة دور فاعل في سوريا خلال المرحلة المقبلة، وهو ما كرره الشرع أيضاً في تصريحات أدلى بها للوفد القطري خلال زيارة الأخير إلى سوريا.
ومع الدعم القطري القديم-الجديد، والروايات التي تحوم حول الدور التركي في لحظة إسقاط النظام، لا بدّ من التساؤل عما إذا كانت الدولتان تنتظران مكافأةً من نوع خاص من الإدارة السورية الجديدة؟ وما هي؟ وعلى حساب ماذا أو من؟ وبالتالي يظهر التساؤل الأكبر حول كيف سيؤثر الدور السعودي والسطوة الأمريكية على تبخّر أحلام الثنائي القطري-التركي أو تحققها؟.
فعلى الرغم من تصريح ترامب، المثير للجدل، بأنّ تركيا هي التي تمسك مفاتيح سوريا الجديدة، إلا أنّ إعلان السعودية نيتها استثمار 600 مليار في الولايات المتحدة الأمريكية فور تنصيب ترامب، قد يضعها في موقفٍ أقوى من حيث تحقيق رؤيتها في سوريا، على حساب التمدد التركي، والطموح القطري.
ماذا عن الدور التركي؟
منذ أن أطلقت الفصائل السورية المعارضة المسلحة التي توحدت تحت راية “هيئة تحرير الشام”، في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، عملية “ردع العدوان”، اختلفت الروايات حتى اللحظة حول حجم ومدى الدور التركي في تلك العملية.
في لقاء مع صحيفة “اندبندنت”، قال أستاذ الاقتصاد في كلية هامبشاير في ماساتشوستس، عمر ضاحي، إنّ تركيا “برزت باعتبارها الفائز الصافي والقوة الرئيسة في سوريا”، ورأى أن “الصناعة والبنية التحتية التركيتين هي الأفضل في الاستفادة من إعادة الإعمار”.
أما الإعلامي المصري أحمد منصور، الذي قابل الشرع نفسه في عام 2015 وكان لا يزال الأخير يحمل اسم “أبو محمد الجولاني”، ويرفض الكشف عن هوية وجهه، فكشف في حلقة نُشِرَت على حسابه على “يوتيوب”، أن الشرع أخبره خلال الأيام الأولى من سقوط الأسد، أن تركيا كانت على علم بعملية ردع العدوان، التي تهدف إلى توجيه ضربة استباقية لتجاوزات جيش النظام السوري والحلفاء وقصفهم المدنيين في إدلب، بحسب ما ذُكِر، إلا أنها لم تكن على اطّلاع على الهدف الحقيقي من العملية، التي خطط لها الشرع، لتكون مجرد غطاء عسكري لعملية أكبر تستهدف تحرير سوريا بإسقاط نظام الأسد.
تظهر تركيا عموماً في مختلف السيناريوهات والتصريحات ذات الصلة بالتطورات في سوريا منذ سقوط الأسد، في دور محوري وحاسم. جاء في تصريحات نقلتها صحيفة “واشنطن بوست”، في وقت سابق بعد سقوط النظام السوري، على لسان أحد أعضاء هيئة تحرير الشام، أنّ التخطيط لإطلاق العملية بدأ قبل نحو أربع سنوات، حيث عمدت الهيئة خلالها إلى إنشاء تحالفات مع فصائل أخرى وتعزيز قدراتها العسكرية وتطوير عمليات إنتاج الأسلحة والأعتدة. المصدر نفسه كشف أيضاً أنّ الهيئة قدّمت خطة الهجوم لتركيا في وقت سابق من هذا العام، وحصلت الموافقة عليها من حيث المبدأ، ولكن لم تُمنَح الضوء الأخضر النهائي.
ويبدو اليوم أنّ تركيا ساهمت بالفعل في تمكين فصائل المعارضة السورية المسلحة ونجحت في توحيدها، على اختلاف أجنداتها ومعتقداتها وأهدافها، والتأثير بطريقة أو بأخرى في نوعية الخطاب الذي يصدر عن قادتها، وهذه النقطة قد تطرح تساؤلات عدة حول أهداف أنقرة من تحويل عقلية الجماعات المسلحة في سوريا التي كانت تدعمها على الأقل سياسياً وعسكرياً في المرحلة السابقة، من عقلية الثورة إلى عقلية الدولة.
وعلى الرغم من تضارب التصريحات الرسمية الأولى حول دور أنقرة في العملية، إلا أنّ ظهور الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، تزامناً مع تقدّم الفصائل صوب دمشق، وإدلاءه بتصريح يكشف عن هدف عملية “ردع العدوان”، يؤكد أنّ أنقرة لم تكن مجرد مطّلع، وهي تتضارب مع ما كشفه أحمد منصور في حلقته التي قال فيها إنّ معلوماته جاء بها من أحمد الشرع شخصياً. فقد أعلن أردوغان، في تصريحه هذا، موجهاً الرسالة الأخيرة إلى الأسد، لا لتعديل الموقف، بل للتذكير بأنّ هدف المعارضة هو دمشق، مضيفاً: “كنا قد وجهنا دعوةً لبشار الأسد لنلتقي به من أجل تحديد مستقبل سوريا معاً، لكن للأسف لم نتلقَّ ردّاً إيجابياً منه، واعتباراً من الآن، هناك حلب التي تمّت السيطرة عليها من قبل المعارضة، وهناك حماة وحمص، وهناك أيضاً تقدّم نحو الشام”.
لكن الطموح التركي في سوريا ليس اقتصادياً وحسب، إذ لا يمكن غضّ الطرف عن المسألة الكردية، التي يمكن أن تحيل وحدها، في حال حُلّت، التدخّل التركي في الصراع السوري، استثماراً ناجحاً، ويبدو أن أمل أردوغان معقود على ترامب في حسم هذا الأمر، كما في السابق. فبالعودة إلى تشرين الأول/ أكتوبر 2019، وبعد اتصال هاتفي جمع أردوغان بترامب، أمر الأخير بانسحاب القوات الأمريكية من شمال شرق سوريا، فشنّت تركيا هجوماً عبر الحدود على المواقع التي يسيطر عليها المقاتلون الأكراد المدعومون من الولايات المتحدة، واستحوذت على أجزاء من شمال سوريا، وقتلت مئات المدنيين وأجبرت أكثر من 300 ألف شخص على النزوح. لكن هذا السيناريو ليس وارداً بالقوة نفسها، أولاً لأنّ سوريا اليوم تحت إدارة جديدة، وثانياً لأنّ طموح السعودية قد يتعارض مع الطموح التركي، وثالثاً لأن ترامب الأمس، ليس نفسه ترامب اليوم.
قد يختلف الدور القطري بشكل كبير عن الدور الذي تمثله قوة إقليمية صاعدة مثل تركيا في شؤون المنطقة وأقاليمها، لا سيما في الشأن السوري، إلا أنّ العلاقات العميقة التي تربط بين أنقرة والدوحة في العديد من المسائل الإقليمية والدولية، كما التقاء سياساتهما الخارجية في نقاط جوهرية عدة، يثيران أسئلةً حول المصالح التي تريدها قطر من سوريا بعد سقوط نظام الأسد، في الوقت الذي تمسك فيه حليفتها أنقرة بزمام الأمور، وتلتقي معها في مصالح سورية عدة، خاصةً اقتصادياً وفي قطاع الطاقة.
ولا يكاد تجتمع الثلاثة في جملة واحدة “قطر أنقرة دمشق”، إلا ويُذكر مشروع الطاقة الأضخم، والذي أرجع البعض أحداث الحرب السورية إليه، وهو خط الغاز الذي يمتد من الدوحة إلى تركيا، ليمكّن الدوحة من أن تصبح أكبر مصدّر للغاز في العالم، ويمكّن أنقرة من أن تصبح أكبر موزّع للغاز في العالم بحكم مجاورتها لأوروبا. لكن حتى هذا المشروع الطموح جداً لم يعد في الواقع بالسهولة التي بدا عليها على الورق في 2011، مع سيطرة الغاز الأمريكي المسال على واردات الغاز الأوروبية، أي أنّ الولايات المتحدة لم تعد متحمسةً للمشروع كما قبل.
قادت قطر نفسها، عربياً، الملف السوري في السنوات الأولى للثورة، وقد كشف حمد بن جاسم آل ثاني، في مقابلة سابقة له، كيف تولّت قطر بتنسيق مع دول عربية أخرى على رأسها السعودية مهمة إدارة “غرف عمليات” لإسقاط الأسد، قبل أن يُسحب الملف من يدها. وفي عام 2017، خلال أزمتها مع دول الخليج، أبدت تركيا موقفاً حاسماً داعماً للدوحة، وقدّمت لها الدعم السياسي والاقتصادي والعسكري في مواجهة إجراءات المقاطعة الخليجية.
ويبدو أنّ تركيا تريد الكثير الآن من سوريا، أكثر من أي وقت مضى. لقد حاول أردوغان في العام 2023، تعديل مواقفه من النظام السوري، داعياً الأسد إلى الحوار، بعد تنامي خطر الجماعات الكردية المسلحة في الشمال على الحدود، وتفاقم أزمة اللاجئين السوريين في تركيا، إذ كان لا بدّ للجليد أن ينهار قليلاً في حينها، لتطبيق إجراءات وقائية تحفظ الأمن الإقليمي لأنقرة وتخفف من الأعباء والضغوط الشعبية على أردوغان داخل البلاد، وإن كان المقابل هو التخلي عن المبادئ القديمة.
الآن وقد توسع طموح أنقرة بعد سقوط الأسد، تكثر تصريحات المسؤولين الأتراك حول ملامح الدور الذي تودّ أنقرة تأديته في سوريا، ليأخذ أبعاداً تشمل الدعم المالي والفني والتعاون الاقتصادي، وترسيم الحدود البحرية واستكشاف النفط والطاقة. تبدو تركيا بحسب محللين وصحافيين، “مستعجلةً” لإبرام الاتفاقات مع سلطة انتقالية سورية قد لا يخوّلها وضعها الانتقالي القيام بذلك، وسط حالة قلق وتخوف من أهداف تركيا الحقيقية بعد سقوط الأسد.
ترامب في المشهد
على الرغم من ذلك، لا يمكن الجزم في ما إذا كان دور أنقرة المقبل إيجابياً أو سلبياً. ولكن أنقرة، التي تريد بشدة لعب دور أساسي في المنطقة، قد لا تفضل اللعب بالنار في أول اختبار حقيقي لها خلال المرحلة الحالية التي تشهد بوضوح إعادة ترتيبٍ لأوراق المنطقة، وهي لا تريد أن تصطدم طموحاتها مع مخططات إسرائيل لإعادة تشكيل نظام إقليمي خلال ولاية الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، الذي وضع القيادة عند تركيا بشكل أو بآخر في ما يخص الملف السوري، خلال تصريح متلفز له بعد سقوط النظام السوري قال فيه: “تركيا هي التي ستسمك بمفتاح سوريا”.
الباحث والمحلل السياسي السوري أنس جودة، يرى أن الحديث الآن يتعلق بإعادة ترتيب أوراق المنطقة، حيث ترغب تركيا في أن تكون في عمق تلك الترتيبات الجديدة، ومن الصانعين الأساسيين لها، بالإضافة إلى النفوذ السياسي والحضور الجيو-إستراتيجي، ويبيّن لـرصيف22 -على خلفية أقاويل ترجح أنّ لتركيا أهدافاً استعماريةً في سوريا- أنه من غير الصحيح الحديث عن أنّ لأنقرة مساعي خبيثةً لاحتلال سوريا أو أجزاء منها، ويضيف أن تركيا تسعى بالطبع إلى تحقيق النفوذ في المرحلة المقبلة، وأنها قد حصلت على تفويض من الولايات المتحدة يسمح لها بإدارة الواقع السوري بعد سقوط نظام بشار الأسد.
أما بالنسبة إلى قطر، فيرى جودة، أنّ الدور القطري سيكون دوراً مساعداً وليس أساسياً، وأنّ قطر في جميع الأحوال لن تتخذ أي مواقف أو سياسات تجاه سوريا قد تخلق لها أزمةً مع دول الخليج العربي مجدداً.
لقد سارعت قطر إلى تقديم يد العون للحكومة الجديدة في القطاعات الفنية والتقنية والمساعدات الإنسانية، وصرّحت قبل أيام، بأنها ستساهم في تمويل أجور موظفي القطاع العام في سوريا. من المؤكد أنّ قطر ستضخ استثمارات ماليةً ضخمةً في سوريا خلال المرحلة المقبلة، وأنّ مشاريع الطاقة ستكون على قمة أولوياتها في هذا الشأن، ما سيحقق لها مكاسب كبيرةً ويعزز من نفوذها ودورها في المنطقة والعالم، ولكن دون أن تزعج روسيا.
أما بالنسبة إلى تركيا، فلا يزال المشهد ضبابياً بالنسبة للعديد من المحللين والمراقبين؛ يصف بعضهم الدور التركي المحتمل في سوريا بأنه “صندوق مفاجآت” لم يُفتَح بعد، ويقولون إن أنقرة لم تأخذ كل ما تبحث عنه في سوريا، في حين يرى البعض الآخر أنه ليس هنالك ما يدعو للتوجس، بل على العكس، قد تكون هذه المرحلة، بدور تركي فاعل توافق عليه قوى إقليمية وعربية أخرى مثل السعودية، هي المرحلة الأنسب لتحقيق أمن إقليمي يشمل دول المنطقة كلها.
السعودية تحضر بقوة
لكن الساحة ليست خاليةً تماماً للثنائي القطري التركي، فبمبادرة سعودية، استضافت الرياض مؤتمراً دولياً جمع عدداً من وزراء الخارجية (من دول عربية وغربية)، من بينهم وزراء خارجية بريطانيا وألمانيا وتركيا، ومعهم وزير الخارجية السوري في الإدارة الجديدة، لمناقشة تطورات المشهد السوري وبحث سبل دعم البلاد إنسانياً وسياسياً، في دلالات وجدها البعض تحمل رسائل غير مباشرة لأنقرة وغيرها من الدول التي تحاول تحقيق مكاسب لها في سوريا على حساب الشعب السوري ووحدة أراضيه، ولا يبدو أنّ قطر على وجه الخصوص تريد الخروج عن أي إجماع عربي أو خليجي متوافق عليه في هذا الشأن.
ومن أبرز محاور المؤتمر، تخفيف العقوبات وتشكيل حكومة شاملة، وسط دعوات سعودية لدعم المرحلة الجديدة في البلاد، وعلى الرغم من أن الاحتضان السعودي، قد يشكل تنافساً بشكل ما مع المحور التركي القطري، إلا أنّ فرص نجاحه لا تزال مرتفعةً، لا سيما في ظل “العلاقة القوية” التي تجمع ترامب بوليّ العهد السعودي محمد بن سلمان. وفي ظل إصرار الرياض على تعبئة أي فراغ تركته طهران، قبل أن تستعيد الأخيرة أنفاسها.
وفي مقابلة أجراها مع “DW عربية”، رأى المحلل البارز في شؤون سوريا في مجموعة الأزمات الدولية نانار هواش، أنّ السعودية تسعى إلى أن تكون “حجر الزاوية في تعافي سوريا بعد الأسد”، وأنها تعمل “على تعزيز استقرار سوريا سياسياً واقتصادياً من خلال قيادة الحوار الإقليمي والدعوة إلى رفع العقوبات”.
وتتفق مع هذا الرأي بورجو أوزجليك، الباحثة البارزة في الشؤون الأمنية للشرق الأوسط في المعهد الملكي للخدمات المتحدة ومقرّه لندن، قائلةً: “قدرة السعودية على دعم استقرار سوريا تكمن في مدى براعتها على تسريع وتيرة التعافي الاقتصادي في سوريا وإعادة تأهيلها”.
رصيف 22
————————————-
كيف رُبطت اللغة بالسُلطة والعنف في سوريا؟/ ماهر الشيخ خضر
السبت 25 يناير 2025
في لبنان سنة 2016، ركبت سيارة أجرة من منطقة “البور” إلى مكان عملي. كان سؤالي المعتاد للسائق: “قديش؟”، أي كم سيأخذ. في كثير من الأحيان، كان السائق يبادر بسؤال المبلغ المطلوب. خلال حديثنا، سألني السائق: “انت من اللاذقية؟ من الساحل؟”، فقلت له: “لا، ما الذي جعلك تظن ذلك؟”، فقال: “من لهجتك”،ابتسمت ساخراً وقلت: “لديك وجهة نظر نمطية، ولا أستطيع لومك لأنك لا تعرف، وأنت لست الأول من يقول هذا”.علمت أنه لا يتحدث عن اللهجة، بل عن حرف “القاف”الذي يلفظ بقوّة في مدينتي سلمية، حيث يمكن أن يظن الآخرون أننا نتشاجر من شدة اللفظ.
وجه السائق كان خالياً من التعبير، وكان سؤاله يحمل بعداً آخر، ربما كان له علاقة بالفترة التي عاشها لبنان تحت الوصاية السورية (1976-2005) وتأثيراتها السلبية على اللبنانيين نتيجة تدخلات وانتهاكات الحرب الأهلية، وكان ذلك يشير إلى انقسامات مناطقية وخوف من التنقل بين بعض المناطق بعد انتهاء الحرب، ما جعل البعض يحمل صورة مشوهة عن الآخرين.
قلت له: “هل تعلم أن هناك مناطق في سوريا تلفظ حرف القاف، مثل سلمية وريف حمص والسويداء؟”، فسألته إن كان قد زار السويداء، فقال: “لا، لم أزر سوريا”، فقلت له: “يجب أن تزورها لتغيير الصورة التي لديك عنها”، ضحك وقال: “سأزور سوريا قريباً وأتعرف عليها”. ودّعنا بعضنا ونزلت من السيارة.
هناك عدة أشياء حافظت عليها حين غادرت سوريا، منها لهجتي السلمونية، رغم أن عدة أشخاص قالوا لي إن لهجتي ليست سلمونية جداً وتبدو مختلفة عن باقي متحدثيها، لأن لهجة المدينة ثقيلة باللفظ وفجّة، حيث تمتاز بالتركيز على بعض الأحرف بشكل كبير مثل (ط، ب، ج، ق، ص). كما أن أهل المدينة لا يلفظون الحرف الأخير حين ينادون شخصاً أو في بعض الكلمات. أعتقد أنهم كانوا على حق، فيبدو أنني حافظت على نسخة خفيفة من اللهجة وحروفها، ويجب أن أذكر أن لهجتي واجهت القليل من الامتعاض من قبل بعض الأشخاص، جزء منهم كانوا من بلدتي، فقد كان بعضهم يستبدل لهجته باللهجة الشامية البيضاء كنوع من إخفاء الهوية. لا أعلم من قال لهم إن عليهم أن يفعلوا ذلك، ولا ألومهم على قرارهم، لأننا ببساطة نعيش في عالم سافل وسخيف. لن أنكر أنني حاولت أن أغير لهجتي لمرة أو مرتين فقط، لكنني كرهت التجربة، وشعرت بأنني أخفي جانباً من ذاتي التي أحب، فقد كان مجرد كذب على النفس لأجل التماهي المصطنع مع الآخر ليتم قبولي، فعدت مجدداً إلى الأصل.
يُعتبر حرف القاف من الحروف التي تأخذ مكانة كبيرة في اللهجات السورية، ويُلفظ بوضوح في العديد من المناطق، مثل سكان الساحل، منطقة جسر الشغور في الشمال الغربي، جبل العرب، منطقة الحسكة، ريف حماة وريف حمص، وبعض أرياف البادية. ومن هنا نلاحظ أن حرف القاف ليس خاصاً بأهل الساحل السوري فقط، ولا يقتصر على العلويين أو سكان الجبال، بل يُسمع أيضاً في المناطق الأخرى. بالمقابل، لا يلفظ هذا الحرف بشكل كبير وسط مدن اللاذقية، طرطوس، بانياس وجبلة، حيث لا يظهر كثيراً، لكنه يبقى واضحاً جداً في الأرياف البعيدة أو الملاصقة لهذه المدن. والمعروف أن هذه المناطق المذكورة تمتلك تنوعاً في مكوناتها، والتي أيضا قد اُسقط عليها صورة نمطية تكاد تكون عالمية، صورة شكلتها سياسة التهميش وغياب الوعي، فغذّاها الجهل وكرسها الإعلام على مدار الوقت.
كيف تُبنى الصور النمطية المرعبة؟
“النيل من هيبة الدولة” هي جملة قانونية قد تثير العديد من التساؤلات. لماذا يجب على السلطة أن تخشى على هيبتها من فرد أو شعب تحكمه بقبضة حديدية؟ هل هيبتها بالفعل مهزوزة، أم أن هذه الهيبة غير موجودة في الأساس؟ هذا قد يشير إلى نوع من انعدام الثقة بين السلطة والشعب. وعندما تسعى السلطة للحفاظ على هيبتها، يصبح ذلك أولويتها الكبرى، وهذا يتطلب منها التركيز على قوتها الداخلية بدلاً من الأمور الخارجية، ما يجعلها تستخدم كافة أدواتها الاستخباراتية والأمنية لمراقبة المواطنين. تصل الأمور إلى درجة أن المواطن أصبح يراقب مواطناً آخر، فيتحول الجميع إلى مراقبين لأنفسهم ولمن حولهم، ليعيش الجميع في حالة من الخوف المستمر، حيث “الجدران تمتلك آذاناً تصغي طوال الوقت”.
في نص من “سأخون وطني” للكاتب محمد الماغوط، يدور حوار بين شخصين حول المراقبة. يقول أحدهما: “ربما تسمعنا المخابرات”، فيرد الآخر: “أنا من المخابرات، وإذا لم أجد ما أراقبه، سأراقب نفسي”،ثم يتابع قائلاً: “المخابرات تراقب المخابرات”، ليعكس الحالة الغريبة التي تفرضها الرقابة المستمرة.
تأثير اللغة على تشكيل الصور النمطية
الآن للإجابة على السؤال الذي طرحته بما يخص ربط الرموز سوياً، فسأبدأ باللغة وربطها مع السلوك الذي تنتهجه السُلطة. فكما يعرف بعضكم، كلمة “مخابرات” يجب أن تكون كلمة عادية، وإلى حد ما مطمئنة للأفراد في دولتهم، لأنها تعني أن هناك أشخاصاً يعملون كل الوقت لحمايتهم وحماية بلادهم من الخارج. لكن لم تكن تلك القصة بهذه الرومانسية في ذاكرة السوريين، فلقد ارتبط اسم المخابرات (لغوياً) بالاعتقال التعسفي والتغييب القسري والتعذيب (سلوكياً). هذه الصورة لم تنشأ فجأة، بل تم تشكيلها بمرور الوقت، من خلال خطاب السلطة ووسائل الإعلام، ما جعل هذه الكلمة تكتسب دلالات قاسية ومرعبة.
ولأن هذه الصورة قد عكست نتائج إيجابية للسلطة، فبالتأكيد ستقوم بتطبيق كل حذافيرها على باقي الأفرع الأمنية. هذا التأثير اللغوي والاجتماعي يخلق حلقة مفرغة: كلما سمع شخص ما كلمة “المخابرات” ارتبطت في ذهنه مع صور الخوف والتعذيب، وربما يتوقف قلبه ويتمنى لو الأرض تنشق وتبلعه، لأن عنصري (اللغة والسلوك) ارتبطا بصلابة معاً، ليشكلا رمزاً صورياً وسمعياً يمثل كل ما يوقع الرعب بالنفس البشرية، وهذا من شأنه أن يعزّز هيبة السلطة وتكريس الصورة السلبية لهذه الأجهزة في وعي الأفراد.
أما عن حرف القاف واللهجة (اللغة)، فقد استنسخها سوريون عديدون من طوائف وأديان أُخرى، قبل وأثناء الحرب، كنوع من التبجّح لفرض الرمزية السلطوية ذاتها، فالأشخاص الذين قاموا بتقليدها كانوا يشعرون عن جهل بأن لها قوة سحرية خاصة، وبالتحديد أثناء التحقيق أو تحدثهم لشخص حين يقومون باعتقاله.
اللهجة لم تعد مجرّد أسلوب حديث، بل أصبحت رمزاً من رموز القوة والهيبة. هذا التقليد لم يكن مقتصراً على الشخصيات السياسية أو العسكرية، بل امتد إلى أوساط مدنية أيضاً، حيث بدأ بعض المدنيين بتقليد هذا الأسلوب كنوع من التميز أو فرض الذات، حتى أنني أعرف أشخاصاً من أبناء مدينتي قد اعتمدوها في حياتهم اليومية كمدنيين، كأنهم قاموا بعمليات استبدال لعقلهم بشكل كامل. لم يدركوا أن هذا الفعل يحمل في طياته تبني صورة نمطية سلبية قد تؤدي إلى تقسيم المجتمع وتحقيق هيمنة رمزية على الآخر.
ثورتنا على الموروث القديم
الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.
اطمئن/ ي!
فحتى لو كانت هذه التقليدات تبدو للوهلة الأولى غير ضارة، فإنها تعمل على تعميق الهوة بين مختلف فئات المجتمع. لما لا، فهي تعطيهم نوعاً من جرعة السُلطة الممزوجة بالذكورية المريضة، لكنهم ولجهلهم العميق، لم يعلموا أن هذا الفعل سيأتي بكوارث على البلد، حيث يترسّخ الخوف ويعزّز القسوة داخل الأفراد، ما ينعكس سلباً على الروابط الاجتماعية ويعمق الصراعات.
تفكيك الرموز: بين الحقيقة والتصورات المغلوطة
والآن بعد أن فكّكنا كلا الرمزين بشكل مُبسّط، يمكننا التحدث عن علاقتهم مع المنطقة أو الطائفة العلوية. يمكنك أن تسأل العديد من الناس في سوريا أو خارجها: “من يحكم سوريا؟”. غالباً من 50% إلى 85% سيقولون لك إن العلويين هم من يحكمون. وهذا الكلام غير دقيق على الإطلاق، ففي معظم المؤسسات ستقابل ضباطاً ومدراء مؤسسات من مكونات عرقية ودينية مختلفة من الشعب السوري. لذلك، من الأفضل والأكثر دقة القول إن سوريا كانت تحكمها عائلة الأسد بشكل رئيسي، ثم يتبعها تركيبة هيكلية من المحسوبيات (الواسطة) التي يمكن تقسيمها إلى ثلاث طبقات رئيسية: الأولى هي الطبقة النخبوية التي تقدم ولاءً كاملاً للحكم، سواء لاعتبارات مصلحية أو سياسية. الثانية هي الطبقة المتوسطة التي يتواجد فيها مدراء الدوائر الحكومية البسيطة والمسؤولون عن المهام الروتينية، والذين يعتمدون في وظائفهم على المحسوبيات دون القدرة على التأثير الحقيقي في القرار السياسي. أما الطبقة الثالثة فهي الطبقة الجاهلة سياسياً، والتي تقتصر وظيفتها على تكريس الصورة النمطية للدولة عبر استخدام الرموز فقط، دون أن يكون لها دور في صناعة القرار، ورغم أنها قد تكون فاعلة في نشر الفساد، فهي تُعتبر ضرورية لضمان استمرارية الهيكلية السلطوية.
بناءً على هذا، يمكن القول إن هناك الكثير من الناس لديهم صورة مشابهة لتلك المصنوعة في ذهن سائق التاكسي. ربما تختلف قليلاً، لكن الفكرة الأساسية هي ذاتها. فالإنسان بطبعه لا يحب المجهول، لذلك يسعى دائماً لتفسير الأشياء التي يراها أو يسمعها منذ ولادته ليجعلها أكثر ألفة وفهماً. إذا تملّكه الخوف، فإنه يميل إلى التمسك بالمعلومات التي لديه، ويقوم بتشكيل صورة تتناسب مع الظروف المحيطة به وحالته الفكرية، فسائق التاكسي، على سبيل المثال، لم يزر سوريا إطلاقاً، وبالتالي فهي بالنسبة له مكان شبه مجهول، بالرغم من أنه يمتلك بعض المعلومات عنها من مصادر مختلفة. ومع ذلك، فقد فضّل توليد صورة عن سوريا تناسب رؤيته، هذه الصورة أصبحت بالنسبة له أحد الثوابت التي تحميه من التعرّض لمخاوفه من المجهول. لا شك أن المعلومات الجديدة التي أخذها مني قد حدّثت جزءاً من نمط الصورة، فالإثبات بالنسبة لي كان وجهه المبتسم قبل خروجي من السيارة.
من هنا، نستطيع أن نستنتج أن فكرة ربط رموز (اللغة، السلوك، السلطة) التي استخدمتها مجموعة من الناس لتشمل طائفة معينة بأكملها، وإلقاء اللوم على هذه الطائفة فقط لأن بعض أفرادها كانوا في السلطة، هي فكرة غير دقيقة ولا تؤدي إلا إلى التحريض والتجهيل.
هذه التصورات تجعلنا نُحمّل فئة معينة من الناس مسؤولية كل شيء، متجاهلين أن هناك شبكة من العوامل السياسية والاجتماعية التي تؤثر في هيكلية الحكم. هذه الصورة المبسّطة تقوّض فهمنا للأحداث، وتجعلنا أكثر استعداداً لتصديق روايات أحادية الجانب دون النظر إلى الصورة الكاملة. لذلك، يجب علينا أن نتوقف لحظة لنتأمل بعناية الصور النمطية التي نكوّنها في أذهاننا، وأن نتذكر أهمية الاستماع إلى القصة من جميع جوانبها قبل أن نتسرع في إصدار الأحكام، فاليوم، لا يمكننا ربط الذين كانوا يؤيدون النظام السابق مع مجرميه بشكل شامل وعشوائي، ولا يمكننا القول بأن كل من قاتلوا إلى جانب النظام هم من فئة واحدة، وفي الوقت نفسه، لا يمكننا وصف معارضي النظام الذين شاركوا في الثورة بأنهم خونة أو عملاء.
من جهة أخرى، ليس من الصحيح وصف الأشخاص الذين لم يشاركوا في الثورة بأنهم راضون عن النظام. يجب أن نتذكر أن الجميع كانوا تحت نظام سلطوي قمعي ووحشي استمر لأربعة عقود على الأقل.
نفس الأمر ينطبق على كل مكونات الشعب السوري بمختلف خلفياتهم، حيث انضموا إلى بعضهم البعض في الشوارع ليعبروا عن تضامنهم وسعيهم لتحقيق حقوقهم وشكل دولتهم المستقبلية. هذه اللحظة تستدعي احتضان كل الأصوات والعمل معاً، مع التأكيد على أن الجميع جزء أصيل من النسيج السوري، وأن الوحدة الوطنية تقوم على التفاهم المتبادل والاعتراف بحقوق الجميع دون إقصاء أو تهميش.
إنها دعوة لننظر جميعاً في مرآة ذواتنا، لنتساءل كيف يمكننا أن نصبح جزءاً من التغيير الذي ننشده. لا يمكننا بناء مستقبل أفضل إذا حملنا ذات العقلية التي ننتقدها. كل ما نحتاجه هو خطوات صغيرة نحو التفاهم، نحو العدالة، ونحو سوريا التي نحلم بها جميعاً.
رصيف 22
———————————-
======================