فواز حداد: أفضل أن أكون متفائلا بعد عودة سوريا إلينا
لا مكان للضمير في الدول الشمولية
هدى سليم المحيثاوي
آخر تحديث 24 يناير 2025
خلال مسيرته الطويلة، دافع الروائي السوري فواز حداد عن الضمير الذي آمن به، ففكك، وبحث وسرد في النسيج السوري الاجتماعي والديني والفكري وحتى الأمني، فماذا يقول حداد اليوم عن سوريا الجديدة بعد سقوط نظام الأسد، هو الذي كرس الشطر الأكبر من رواياته لمعاناة شعبه مع هذا النظام؟
تناولت في رواية “السوريون الأعداء” الواقع السوري منذ مجزرة حماه في مطلع ثمانينات القرن الماضي حتى قيام الثورة في العام 2011، كيف تنظر إليها الآن بعد مضي عشر سنوات على إصدارها؟
أشعر بأنني فعلت شيئا، ربما كان جيدا، وفي الوقت المناسب على الضد مما جرى تداوله حينها، حول الانتظار كي ينتهي الحدث، لا أقل من عقدين أو ثلاثة، مما يتيح انكشاف الكثير من الحقائق المجهولة، فنحن لا ندري ما يدور وراء الأبواب المغلقة، وكواليس السياسات العربية والدولية، عدا كواليس القصر الجمهوري.
لم يتوقع أحد أن هذا الحدث سيمتد إلى أربعة عشر عاما، حتى أصبح مرشحا إلى سنوات في علم الغيب. في الأعوام الأخيرة، أصابنا اليأس، وبدا شعار النظام أكثر إقناعا وواقعية من تمنياتنا، استولى علينا، وكأنه باق الى الأبد.
الحدث السوري
في وقت مبكر، بدأتُ بالكتابة حول الحدث السوري، ولم أعتقد أنها مغامرة، رغم أن الاعتقاد الساري كان اعتبار رواية “الحرب والسلام” نموذجا يصح الاسترشاد به، كتبها تولستوي بعد مئة عام من غزو نابليون لروسيا، بعد ظهور الكثير من الحقائق.
في ذلك الوقت، كان ما يجري في القصر الجمهوري، ينعكس حقائق أمامي على الأرض، ولم تتخلف السياسات العالمية عنه، لكنها لم تكن في برنامجي إلا بقدر ما تهمني، كنت على إطلاع عليها. فالهدف ليس سياسيا، كان البشر. رأيي لو كان تولستوي موجودا في سوريا، لكتب عن الثورة في زمنها، طالما المعلومات متوفرة، ولديه موقف واضح إزاءها. وربما كان جزءا منها، وسيكتب عنها ببصيرة وحيادية.
لو كان تولستوي موجودا في سوريا، لكتب عن الثورة في زمنها، طالما المعلومات متوفرة، ولديه موقف واضح إزاءها
لا يكتب الروائي لمجرد أنه يريد الكتابة، هناك ما يدفعه لتكريس سنوات عدة لرواية لا يعلم عن آفاقها شيئا، ولا إلى أين ستأخذه. هذا الدافع، نشأ بعد متابعتي التظاهرات السلمية، ثم إطلاق الرصاص عليها بوحشية، ترافقت بمداهمات واعتقالات، اعتقدت أن الاحتجاجات انتهت بعد سقوط كثير من الضحايا، لكنها لم تتراجع أو تتوقف، وإنما تفاقمت، غطت المدن والأرياف السورية، كانوا من الشبان والشابات، والأهالي من الناس العاديين، من الذين لا يحسب لهم النظام حسابا. كانت قناعتي أنني أمام “ثورة”، السؤال: لماذا ثار السوريون؟
في ذلك الوقت كان مضى على حكم الأسدين أربعون عاما، جواب السؤال كان بالارتداد إلى بداية استيلاء الأسد الأب على السلطة. لم أتصور أنني سأغرق ثلاث سنوات في مئات الملفات لتشييد الأرضية التي ستدور فوقها خريطة تتالي الأحداث، ليس للتوثيق، وإنما لترابط الحدث مع صعود ضابط الى قمة السلطة، حتى أصبح أنموذجا يحتذى.
كانت مسؤولية كبيرة، ولم أكن أجهل تبعاتها، خاصة كان انحيازي للثورة دونما غمغمة ولا جمجمة، فسميت الأمور بأسمائها، ما ساعدني على اقتحام ذاك الزمن، أنني لست سياسيا ولا حزبيا، كنت معارضا وحيدا، لا أكثر من روائي، كما اعتدت دائما في رواياتي السابقة التي تعرضت غالبيتها للمنع.
كان رد الفعل الأولي اتهامي بالطائفية والانحياز إلى الإرهاب والإسلام السياسي والتعاطف مع الإخوان المسلمين، وكان الهجوم متعمدا، لكن الانطباع العام وعشرات المراجعات كانت مشجعة جدا، لاقت صدى طيبا، بدا أنني فككت الطبيعة البوليسية للنظام، الرواية انتشرت وما زالت تقرأ، كانت المكافأة على جهد لم يضع هباء.
الاشتباك مع “زمن الأسدين”
ماذا عن بعدها، قدمت مرحلة ضمت “الشاعر وجامع الهوامش”، “تفسير اللاشيء”، “يوم الحساب” و”جمهورية الظلام”؟
ما حدث بعدها أنني اشتبكت في زمن الأسدين، وتلافيف الدولة الشمولية، وكواليس الأجهزة الأمنية والقمع والسجون والفساد، مما أثار مسألة الطائفية والدين، والأقليات والأكثرية، والمثقف اليساري والعضوي والانتهازي، ومثقف النظام، والمعارضين المطاردين في الداخل، وأيضا ماذا كانت هذه السلطة، وكيف يفكر رجالاتها؟ أي، سوريا في أسر نظام شمولي.
أما بعد حدث 8 ديسمبر/ كانون الأول الماضي المفاجئ، فقد أكتب عما خلفه ما يزيد على نصف قرن من تصدعات في داخلنا نحن السوريين، وما ترسب فينا من مآس وندوب وتشوهات، وربما عن الغفران والتسامح، وما تثيره من تساؤلات إنسانية. بيد أن الكتابة المتشائمة مؤجلة، لقد طفح الكيل في روحي، فنحن لا نعرف الآتي تماما. أفضل أن أكون متفائلا، بعدما عادت إلينا سوريا وعدنا إليها، لقد أصبح لدينا وطن.
بعد فك أسرنا جميعا، سيحقق الأدب قفزة كبيرة، لاحظناها في المغترب حيث صدرت مئات الأعمال
الرقابة التي سادت في سوريا خلال الخمسين سنة الماضية كانت كما رقابة “الأخ الأكبر”، كيف أثرت هذه الرقابة وهل تمكن الأدباء السوريون من قنص مداخل للتعبير عن قصصهم وحكايات الواقع، أم أن الأدب كان ضحية أيضا؟
أخذت الرقابات المتعددة على عاتقها مسائل الثقافة والأدب، فالمخابرات كانت “الأخ الأكبر” يحيط بها الرقباء من الإخوة الصغار: اتحاد الكتاب لمطبوعات الداخل، وزارة الاعلام للكتب المطبوعة في الخارج، القيادة القطرية إذا حصل إشكال حول كتاب. عرفت بهذه الرقابات جراء روايتي “صورة الروائي”، منعت وهي مخطوطة من اتحاد الكتاب، فنشرت في بيروت. عرضت على وزارة الإعلام فصدر قرار بعدم سماح دخولها القطر، احتج الناشر وهو سوري، فرفعت إلى القيادة القطرية فتشددوا في المنع.
عدا ذلك، رقابة الصحافيين المسؤولين عن الصفحات الثقافية في المجلات والجرائد المحلية كجريدتي “الثورة” و”تشرين”.
عموما كان الأدب ضحية، فالواقع كان مقيدا، والكاتب محاصرا، كانت هناك حدود على الكاتب لا يستطيع تجاوزها، كما أن الخطوط الحمراء كانت كثيرة ومتبدلة، فالممنوع اليوم مسموح به غدا وبالعكس، عدا عن مبالغات الرقيب، حتى أنه كان يقرأ ما بين السطور وما خلفها. لو امتلك الأدباء الحرية فعلا، لحققت الرواية والشعر ازدهارا مرموقا، وأعتقد أنه بعد فك أسرنا جميعا، سيحقق الأدب قفزة كبيرة، لاحظناها في المغترب حيث صدرت مئات الأعمال.
دمشق هي الحاضرة التي دارت فيها وقائع جل رواياتك، هل لأنها مدينتك، أم أن علاقتك بها أكثر تعقيدا؟
دمشق مدينتي ومرضي المقيم، لقد رأيت مدنا أجمل منها وأحلى بكثير، ليس هناك ما يميزها سوى أنها مدينة ودودة تفتح ذراعيها للوافدين وتمنحهم الألفة، اضطررت إلى مغادرتها اثني عشر عاما، لأنني أردت الكتابة بحرية.
إذا كانت مرضي، فلأنها كانت مدينة محتلة، رأيت جنود سرايا الدفاع والجيش العقائدي والمخابرات والشبيحة، يتحكمون بمصائرها ومصائرنا، يريدون أن يحلوا محلنا لمجرد عدم الاعتراف بوجودنا، في وسعهم ليس طردنا فقط، بل قتلنا. ليس مجرد إحساس أو مخاوف، إنها حقيقة، وإذا كنت قد شعرت به، فلأنني إنسان عادي، لم أكن أنتمي إلا الى دمشق فقط، حتى أنني لم أكن ذا صفة، فأنا لم أنتسب الى اتحاد الكتاب، علاقاتي بالوسط الثقافي محدودة جدا، وتكاد تكون معدومة.
إذا كانت لدي مدينة، فلماذا ألجأ الى مدينة خيالية، إذا كانت الرواية عن سوريا، فلماذا نختلق مدنا وأسماء
روايتي الأولى “موزاييك” كانت عن دمشق 1939، اعتبرها بعضهم رواية سياحية للترويج عن أزقتها القديمة، واعتبرها آخرون رواية بورجوازية رجعية لا تحتوي على أبطال إيجابيين. بينما كانت رواياتهم تقدمية تمتلئ بأبطال بعثيين مقدامين، استولوا على سوريا ودمروها تحت رعاية أربعة احتلالات.
إذا كانت الغالبية العظمى من رواياتي تدور أحداثها في دمشق، فلأنها مكاني الشخصي، إذا كانت لدي مدينة، فلماذا ألجأ لمدينة خيالية، إذا كانت الرواية عن سوريا، فلماذا نختلق مدنا وأسماء؟
علاقتي ليست معقدة مع مدينتي، وإنما متينة، جراء ما أصابها من ضيم، تدور سمعتها كما يروجون حول التجار الشوام، وأحابيلهم في البيع والشراء، وكأنه لا يوجد تجار إلا في دمشق. بينما كانت الأخطاء والخطايا والجرائم تصب فيها، بعدما أمست مأوى للسياسيين بمختلف أنواعهم، إضافة إلى الضباط الذين يطمحون إلى القيام بانقلاب، والتاجر الذي يريد عقد صفقة مشبوهة، والمتعهد الذي يبحث عن واسطة حزبية أو مخابراتية أو رئاسية. في المناسبة، بعض الأدباء جاؤوا بعقلية الغزاة، وما زالوا يرتعون فيها… دمشق ميدان لهؤلاء المحتالين، بينما هي مجرد مكان، دمشق بريئة منهم.
نعم أردت إحياء دمشق كاعتراف بما أسدته إليّ، لقد أعطتني رواياتي، لولاها ربما لم أكتب، الروائي بحاجة إلى مدينة، فلم لا تكون دمشق.
طرحت في روايتك الأخيرة “جمهورية الظلام” 2023 سؤال الضمير، ووصفته كما جاء على لسان إحدى الشخصيات بأنه “خطر في عالم ينبذه”. أين ترى موضع سؤال الأخلاقيات الكبرى في وقتنا الحالي؟
لا مكان للضمير في الدول الشمولية، هذه الدول تقوم على إلغائه، طالما أنها تلغي وجود البشر. الضمير يعني أنك ترفض الطغيان والأجهزة الأمنية والسجون والاعتقالات والرئيس الأوحد وجميع الشرور، كالكذب والادعاء والخنوع. والقائمة تطول. في هذه الدولة يجب إخراج الضمير من الاستعمال كي تستطيع أن تعيش. الضمير خطر على صاحبه. هذا ما يطرح سؤال الأخلاق، وهي أهم من التقدمية والديمقراطية والعلمانية والدولة المدنية وتداول السلطة… وماذا أيضا؟ ماذا يكون التقدم والديمقراطية من دون نزاهة، وتداول السلطة من دون أمانة؟ هذا ما أدركناه طوال عقود من اختفاء العدالة، وطغيان النهب، لا رادع لرجالات السلطة ومن يحفّ بهم، لو كان الجيش العقائدي والأجهزة الأمنية تتمتع بقدر بسيط من الأخلاق، لما بلغ عدد القتلى مئات الآلاف، ولما نزح 12 مليونا في الخيام، ولما هجر ثمانية ملايين من السوريين. لم يظهر مثقفو النظام أي موقف أخلاقي ضد التعذيب في صيدنايا، برروا للمجرمين جرائمهم بدعوى العلمانية، واعتبروا قتل أي شخص مشبوه إسلاميا أو غير مشبوه، أمرا طبيعيا، حولوا الثورة إلى إرهاب كي يقصف الأهالي بصواريخ “سكود”. هناك روائيون يعتمدون هذه السردية، ماذا تكون، إن لم تكن لتبرئة النظام؟ وإن زعموا أن التظاهرات كانت سلمية في الأيام الأولى ثم تسلحت وأطلقت النار على الجيش الأعزل، بينما تشهد آلاف الفيديوهات على قناصة النظام، هل أدانوا البراميل المتفجرة والكيماوي؟ كان في وسعهم.
لا مكان للضمير في الدول الشمولية، هذه الدول تقوم على إلغائه، طالما أنها تلغي وجود البشر
سخر بعض التقدميين واليساريين من الأخلاق البورجوازية وانتقدوها، وكأن البورجوازية هي التي اخترعت الأخلاق، وربما خلقا ملتصقين، مثل التوأم السيامي، مع العلم أن الأخلاق اليسارية أكثر تشددا من الأخلاق البورجوازية، لكنها لم تكن صالحة للسوريين، كانت صالحة للبلاشفة فقط، أحفادهم كانوا يقصفوننا بالسوخوي.
ما هي المراحل المقبلة التي تنتظر إخراجها للنور، وهل كانت مؤجلة أم أنك تنتظر تلمس مراحل جديدة؟
المرحلة المقبلة مفتوحة على أكثر من فضاء، وقد أشعر بالدوار لو فكرت كم تختزن تطلعاتنا من الآمال والآلام. أعتقد في حالتنا نحن الروائيين نحتاج إلى الكثير من المغامرات الروائية، ومهمات صعبة ومعقدة. روايات تواجه الحاضر مثلما المستقبل، ولا تقطع صلتها مع الماضي، هذا الماضي ينبغي ألا يتكرر. أدرك صعوبتها من الاشتراطات التي تعترضنا، بألا نتخلى عن الواقعية، ولا نتنازل عن الخيال، بمعنى أن تكون اقدامنا راسخة على الأرض، وخيالنا يجوس في عوالم لا تقف أمامها حدود، هكذا الحرية. أما الفن فسوف ينبثق من هذه التركيبة، من داخل الرواية ولا يفرض من خارجها.
يجب على السوريين كتابة رواياتهم، لا أن يعيدوا كتابات غيرهم، وهذا يحتاج إلى مخاض ومراجعات، كي نخترق الرواية العالمية بصفتنا أدباء سوريين، عندئذ سنقدم شيئا يحسب لنا في هذا العالم.
المجلة