سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسة

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 27 كانون الثاني 2025

حرية إلى الأبد: كل المقالات والتحليلات والحوارات التي تناولت انتصار الثورة السورية اعتبارا من 08 كانون الأول، ملاحقة يومية دون توقف تجدها في الرابط التالي:

سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

——————————–

على مضض: «غَلَبة» أقل وسياسة أكثر هو ما تحتاجه سوريا/ صادق عبد الرحمن و ياسين السويحة

27-01-2025

        ما مدى دقة الحديث عن «غَلَبة» في سوريا اليوم؟

        في نقاشات الأسابيع الماضية السياسية، شاعت كثيراً الإشارةُ إلى «التغلّب» أو «الشرعية الثورية» أو «من يحرر يقرر» للمرافعة عن «حق» أحمد الشرع ومجموعته بحكم سوريا دون اضطرارهم لمفاوضة أحد، ولا لمشاركة السلطة أو القرار مع أحد. تمتلك الإدارة الجديدة فعلاً «شرعية الغلبة» في وجه النظام البائد، إذ تمكنت من إنهائه بسرعة قياسية مستفيدةً من ظروف مواتية، وأزالَت بشار الأسد وزمرته من السلطة بشكل يجعل من غير المنطقي مطالبتها بأي خطوات سياسية تجاه المهزومين، وجلُّ ما يمكن أن يُقال في هذا الصدد هو المطالبة الضرورية بالتمسك بشرعة حقوق الإنسان في التعامل مع مقاتلي النظام الواقعين تحت رحمة السلطة الجديدة، مرغمين كانوا على القتال أم متحمسين ومجرمين كانوا أم أبرياء؛ والإدانة لأي انتهاكات تحصل في سياق «مُلاحقة فلوله»، مجرمين كانوا أم أبرياء، أيضاً.

        لكن، عدا النظام الساقط، هل من «شرعية غَلبَة» يملكها أحمد الشرع في مواجهة بقية الأطراف في سوريا؟

        نعتقد أن هذا السؤال هو مُنطلَق التفكير الحقيقي بسوريا المستقبل، بعيداً عن وصفات «الشرعية» الجاهزة. واقعياً، لم تغلب هيئة تحرير الشام والفصائلُ المتحالفة معها في «إدارة العمليات العسكرية» فصائلَ «الجبهة الجنوبية» سابقاً في حوران، ولا فصائل السويداء، ولا قوات سوريا الديمقراطية، ولا فصائل «الجيش الوطني» التابع لتركيا، ولا «جيش سوريا الحرّة» المدعوم أميركياً في الشرق. كل هذه كيانات عسكرية قائمة، وقد تُحاربها هيئة تحرير الشام أو تتفاوض معها أو الاثنتين معاً أو بالتتابع، لكنها قطعاً ليست أطرافاً «مغلوبةً» سلفاً. وسيحتاج التغلّب عليها، إن كان التغلّب هو الخيار الأوحد، حرباً جديدة غير مضمونة النتيجة، عدا عن كارثيتها الإنسانية وضررها السياسي البالغ على «سوريا الجديدة». تخوض هذه الكيانات العسكرية اليوم مفاوضات مُركّبة مع وزارة دفاع الإدارة الجديدة للانضواء ضمن الجيش السوري الجديد، مفاوضات فيها الكثير من المطالب السياسية والمناطقية والهوياتية من جهة، والكثير من محاولات التطمين ووعود صون الحقوق من جهة أخرى، وفيها كثيرٌ مما يجري على مضض. هي مفاوضات طرف قوي مع أطراف أقلّ قوة منه، لكنها ليست ترتيبات استسلام بين منتصر ومهزومين، ويُحسِنُ قادة «إدارة العمليات العسكرية» صُنعاً لو سعوا لتهدئة روع المتحمسين لهم وتبريد انفعالاتهم تجاه هذه الأطراف الأخرى، فهذا ضروري لضمان إنجاز العملية، البطيئة والمركّبة، بأفضل نتائج ممكنة.

        لكن عدا الكيانات العسكرية المستقلة هذه، ماذا عن إدارة العمليات العسكرية نفسها؟ ماذا عن الفصائل التي انضوت في معركة «ردع العدوان»؟ نَعرفُ جيداً أي صراعات دامية خاضتها هيئة تحرير الشام ضد هذه الفصائل على مر السنين بُغية تطويعها، ونعرف جيداً أن دماءً كثيراً سالت حتى خضعت هذه الفصائل لقيادة هيئة تحرير الشام. وإذا كان صحيحاً أن الهيئة «غلبتها» فإنه صحيحٌ جزئياً فقط، لأن الغَلَبة لو كانت ناجزة فعلاً لما بقيت لتلك الفصائل استقلاليتها النسبية. هل نحتاج أن نستعيد وقائع المعارك بين هيئة تحرير الشام وحركة أحرار الشام أو كتائب نور الدين الزنكي، أو غيرهما من فصائل قاتلت في معركة ردع العدوان، كي نشرح إلى أي حد كان هذا الانضواء على مضض أيضاً.

        وغيرُ العسكر وفصائلهم، ثمة فئاتٌ اجتماعيةٌ متنوعة وتعقيدات جهوية ذات صلة بمدن سوريا وأريافها وعلاقتها ببعضها بعضاً، على نحو يُضعف كثيراً من صلابة «شرعية الغَلَبة» التي يجري الحديث عنها. منذ لحظة دخولها مدينة حلب، احتاجت هيئة تحرير الشام إلى إبراز كثير من التغييرات في سلوكها وخطابها كي تتمكن من السيطرة. وإذ نتحدث هنا عن أوساط اجتماعية كانت موالية للنظام أو حيادية تجاه أطراف الصراع، فإننا لا نتحدث عن هذه الأوساط فقط، بل أيضاً عن أوساط وفئات كانت منضوية في الثورة أو مناهضة للنظام، حتى أنه يصح أن نقول إن «الفاتحين» استولوا على خطاب الثورة السورية ومقولاتها ورموزها بعد طول عداء حتى يتمكنوا من صناعة شرعيتهم الجديدة، حتى كادوا أن يقولوا «نحن لم نعد نحن». يحصل ذلك في سياق عملية فيها فرضُ هيمنة عسكرية على مناطق جديدة، لكن القوة التي تهيمن عسكرياً تعمل في الوقت نفسه على بناء شرعيتها السياسية بطريقة مغايرة لسلوكٍ قد يسلكه مُتغلّب عسكري بحت، غير مضطرٍ لحساب خاطر أحد.

        تُناقِضُ كل هذه الوقائع أي مقولات عن «وحدة» قوى الثورة والمعارضة السورية وعن أحقية الهيئة بقيادتها وتمثيلها، وإذا كان هناك ميلٌ عامٌ للقفز فوق هذه الوقائع من أجل صناعة أسطورة «الثورة التي انتصرت»، فإن الأسطورة لا تُعيد صناعة الواقع وتشكيله بهذه البساطة، ويحتاج الأمر إلى ما هو أكثر من قبول الوقائع الراهنة على مضض لأجل المضي نحو المستقبل.

        الواقع اليوم هو أن هيئة تحرير الشام تغلّبت على الجهة ذات الشرعية الأممية التي تسمح لها بالتحدث باسم الدولة السورية. هذا خرقٌ هائل بطبيعة الحال، وهو مصدر الحصول على الشرعية من العالم، لكنها شرعية مشروطة كما تقول دول العالم كلها دون استثناء واحد؛ وهذا التغلُّب على النظام الأسدي هو أيضاً مُنطلَقُ الحصول على الشرعية الداخلية، التي ما تزال أضعفَ مما يتخيّله المتحمسون للإدارة الجديدة، وتحتاج للكثير من العمل وبناء الثقة، ومن ثم لصونها، كي تصل إلى مُستَقرٍّ ما. ما الذي يدفع عموم الناس في مناطق سيطرة الإدارة الجديدة إلى قبول «شرعية» سلطة الشرع، بعضهم على مضض وبعضهم الآخر بحماسة؟ نعتقد أن هذا القبول، أو هذا «الاستعداد للشرعية»، هو أولاً وقبل كل شيء محصلة الفرصة التاريخية المُتاحة أمامنا لانتهاء الحرب والقتل والموت والتهجير في سوريا المهترئة، الفرصة التي لن ينجو من يتحمّلُ مسؤولية تفويتها.

        هذا هو الضاغط الأكبر على فصائل عسكرية لكي ترسل وفودها إلى دمشق رغم تاريخها الدموي مع الهيئة؛ وهذا ما يضطر قسد لمحاولة الإقناع بصدق نواياها أمام أوساطٍ لم تكترث يوماً بالحديث معها؛ وهذا ما يدفع أوساطاً اجتماعية وأطيافاً سياسية، لديها في تاريخ الهيئة وسيرة قائدها ما يكفي من المعطيات، لكي لا تحاول القيام بأدنى اقتراب منه، إلى أن تضع ذلك جانباً وتلجأ للشك الإيجابي والترقُّب البنّاء، بل وحتى إجبار النفس على الحماسة في بعض الأوساط؛ وهذا قبل كل شيء ما يدفع أحمد الشرع والحلقة المحيطة به، خصوصاً الزمرة الأمنية ذات الماضي المعروف في إدلب وغيرها، لتحمُّل ما يُعرَف من تاريخها القريب جداً أنها لا تُطيقه.

        نقترح أنَّ «على مضض»، وليس «شرعية الغَلَبة»، هو عنوان المرحلة الحالية. كل المذكورين أعلاه، السلطة في دمشق والسلطة في مناطق أخرى وفئات اجتماعية وسياسية متنوعة، كانوا يفضّلون عدم المُسايسة بهذا الشكل ومع هؤلاء «الشركاء» ووفق توازنات القوّة هذه (أو بالأحرى «توازنات الضعف»)، لكن ثمنَ عدم الذهاب إلى المُسايسة أدهى وأخطر من ثمن الخوض الصعب وغير المضمون فيها.

        ولا بأس بـ«على مضض»، بالمناسبة، فهذه السطور تراه عنواناً فضيلاً، وذلك لقناعة كاتبَيها أن السياسة عموماً، والسياسة الديمقراطية خصوصاً، لا تَنتُجُ عن فضيلة أخلاقية مهرولة إلى التعايش، بل عن قيامِ متجاورين بإرغام أنفسهم على قبول مُجاوريهم «على مضض»، سعياً للمساومة على شروط قد تكون أفضل للجميع. فلو كان أصحاب التوجهات والعقائد والمصالح المختلفة يقبلون الشراكة في السلطة «حباً وطواعية»، لما كنا بحاجة إلى الدساتير والبنى والهياكل السياسية التي تتقاسم السلطة وتُنظّم تداولها. عهدٌ مُتبادلٌ بانتفاء القتل، أي قتل، هو الشرط القَبلي الوحيد للسياسة الذي نحتاجه، وما بعد ذلك فليكن «على مضض»، ولا بأس بأن يظل كذلك.

موقع الجمهورية

————————–

الشرع وعبدي… تهديدات ومفاوضات/ إبراهيم حميدي

المفاوضات على صعوبتها تبقى أقل كلفة من مواجهة عسكرية

آخر تحديث 27 يناير 2025

الملف الأكثر تعقيدا في سوريا الجديدة، وهو مستقبل العلاقة بين “هيئة تحرير الشام” بقيادة أحمد الشرع و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) بزعامة مظلوم عبدي، فيه اعتبارات عسكرية وعرقية وأيديولوجية وسياقات إقليمية ودولية جيوساسية. ويجوز القول، إن خاتمة هذا الملف، والمفاوضات مع التهديدات، أحد الأمور الأساسية التي ستحدد مستقبل ما بعد الأسد.

ومنذ سقوط بشار الأسد، باتت سوريا مقسمة إلى منطقتين: واحدة تشكل القسم الأكبر وتحت سيطرة الإدارة الجديدة بقيادة الشرع وتضم فصائل موالية أو في طريقها إلى الانضمام إلى الجيش السوري الجديد أو التعاون معه. والثانية تمتد في حوالي ربع مساحة سوريا، وتحت سيطرة “قسد” وعبدي، وتضم إدارة ذاتية وهيكلية إدارية ومعظم الثروات السورية من نفط وغاز وحبوب ومياه، ولها حدود مع تركيا والعراق وكردستان العراق.

ونظرا لحساسية الموضوع، عقد اجتماع سري بين الشرع وعبدي، بات أمره معروفا حاليا. هذه اللقاء الذي جرى في دمشق كشف حجم الفجوة بين الطرفين:

دمشق الجديدة، تريد من “قسد” حل نفسها وضم مقاتليها الذين يبلغ عددهم نحو 70 ألفا كأفراد في الجيش السوري الجديد وطرد عشرات القياديين من “حزب العمال الكردستاني” غير السوريين وتسليم الأتراك منهم إلى أنقرة، وحل الإدارة الذاتية مع الاستعداد لقبول لامركزية وحقوق كردية، وإعادة الثروات الاستراتيجية إلى دمشق، وتسليمها الحدود السورية مع تركيا والعراق والعلاقة مع التحالف الدولي بقيادة أميركا والسيطرة على سجون ومخيمات تضم “دواعش” وعائلاتهم.

وفد القامشلي قدم مواقف مقابلة، تتضمن الحفاظ على “قسد” ككتلة عسكرية في الجيش الجديد وهيكلية الإدارة الذاتية، وأن يخدم العسكريون في مناطقهم شمال شرقي البلاد، إضافة إلى الحفاظ على حصة ثابتة من الثروات الاستراتيجية والسيطرة العسكرية على الحدود، ومشاركة كردية في اللجنة التحضيرية لمؤتمر الحوار ومكتب رئيس الوزراء ومؤسسات وزارة الخارجية ونص واضح في الدستور عن حقوق الأكراد.

ووافق عبدي على بعض الخطوات لبناء الثقة، مثل رفع العلم السوري الجديد وتسليم دمشق المعابر الحدودية المدنية واستعادة السيطرة على “مربعات أمنية” كان النظام يسيطر عليها في القامشلي والحسكة.

الأمر المبشر، اتفق الطرفان على عقد جولة إضافية وتشكيل لجان تفاوضية بينهما وراح وسطاء غربيون يتجولون سرا بين دمشق والقامشلي. لكن سرعان ما حصلت بعض التطورات التي ساهمت في إضافة جوانب إضافية على الطاولة التفاوضية:

 أولا، الزعيم الكردي مسعود بارزاني استقبل- بعد تنسيق مع تركيا- عبدي في أربيل، لحضه على توحيد القوى الكردية في سوريا والتفاوض كمكوّن سوري وليس كامتداد لـ”حزب العمال الكردستاني”.

ثانيا، تقدم المفاوضات بين أنقرة وزعيم “حزب العمال الكردستاني” عبدالله أوجلان واحتمال إعلانه مبادرة كردية -تركية في ذكرى اعتقاله يوم 15 فبراير/شباط وإيداعه السجن قبل حوالى ربع قرن.

ثالثا، إعلان وزير الخارجية الأميركي الجديد ماركو روبيو أن إدارة دونالد ترمب ستدعم أكراد سوريا وتقف معهم.

كثير من الوسطاء والمطلعين على فحوى المفاوضات، يتحدثون عن تشدد موقف “قسد” بعدما كان مرناً قبل أسابيع، ويعزون ذلك إلى هذه التطورات وقراءتها من قبل القامشلي، بأن إدارة ترمب لن تتخلى عن أكراد سوريا و”قسد” بسرعة كما كان الاعتقاد سائدا سابقا.

ربما هذا ما يراهن عليه عبدي، إضافة إلى القدرات القتالية والأيديولوجية والعددية لـ”قسد”، لكن دمشق تراهن- أغلب الظن– على حسابات أخرى، فهي ترى أن أسباب وجود “قسد” انتهت، اي النظام السوري سقط و “داعش” اندحر، وأن لديها دعما عربيا وغربيا واسعا وحظيت بشرعية داخلية لإسقاطها الأسد، ولدى “الهيئة” عشرات آلاف المقاتلين المدربين والمزودين بعقيدة صلبة، وأن العقوبات الغربية سترفع قريبا. وتراهن دمشق أيضا على احتمال تمرد العشائر العربية والمكون العربي في “قسد” وحصول “هيئة تحرير الشام” على دعم فصائل أخرى خصوصا “الجيش الوطني” المحسوب على تركيا التي تجعل بين أولوياتها وتضع وسائلها العسكرية لمنع قيام كيان كردي في سوريا، ويراهن رئيسها رجب طيب أردوغان على علاقته الخاصة مع ترمب لإقناعه بــ”خيانة أميركية” جديدة للأكراد.

قبل أسابيع كانت أولوية الشرع وعبدي ترتيب العلاقة بين دمشق والقامشلي تفاوضيا. ولا يزال الخيار السلمي مفتوحا رغم التهديدات العلنية. المفاوضات على صعوبتها تبقى أقل كلفة من مواجهة عسكرية كبرى بين أبرز قطبين وكيانين وامداداتهما الخارجية، ستكون مكلفة للطرفين والسوريين ومستقبلهم. الأمل، أن تكون التهديدات المتبادلة، هي تفاوضية وليست نهائية.

المجلة

—————————

العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية شرطاً للاستقرار في سورية/ محمد حسام حافظ

27 يناير 2025

أضحى مفهوم العدالة الانتقالية من الركائز الأساسية في النقاشات الأكاديمية والعملية، سياسياً ومجتمعياً، بشأن كيفية تعامل الدول والمجتمعات مع تاريخها المفعم بالعنف والحروب والاضطهاد وانتهاكات حقوق الإنسان، وبخاصّة في فترات ما بعد الثورات والحروب الأهلية، وبعد فترات حكم الأنظمة الشمولية والقمعية لدول ومجتمعات كثيرة. وبشكل عام، يجرى التعامل مع العدالة الانتقالية باعتبارها إطاراً قانونياً وأخلاقياً ومجتمعياً بهدف معالجة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان أداةً رئيسةً تعتمدها الدول والمنظمات الدولية وغير الحكومية للمساعدة في التغلّب على التحدّيات التي تترتب على العواقب الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية، وإعادة بناء الدولة بعد تلك الفترات العصيبة.

ومن نافلة القول إن سورية تحتاج بصورة إسعافية إلى وضع أسس العدالة الانتقالية في هذه المرحلة التأسيسية لسورية الجديدة، فسورية كانت عرضةً للأسوأ في الأمرين معاً: حكمٌ استبداديٌ قمعيٌ مكث زمناً طويلاً، ومارس أبشع أنواع الانتهاكات بحقّ السوريين، وغيرهم من الشعوب، وثورةٌ عارمةٌ قمعها النظام بصورة إجرامية، ما أدّى إلى مزيد من الانتهاكات، وإلى ظهور جماعات إرهابية (تنظيم داعش) ارتكبت انتهاكات واسعة.

ويتضمن مفهوم العدالة الانتقالية مجموعةً من الآليات والإجراءات التي تهدف إلى تحقيق العدالة والمصالحة في آن معاً. ومن أبرز الآليات المحاكمات القضائية للمسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، ولجان الحقيقة التي تهدف إلى كشف الحقائق وتوثيق الجرائم. كما يعتبر منح التعويضات للضحايا من الإجراءات المهمّة، إضافةً إلى إصلاح المؤسّسات الحكومية واجراء تعديلات في المناصب القيادية لتحقيق تغيير مؤسّساتي يدعم الحكم الرشيد، ويدمج جميع أطياف المجتمع في عملية إعادة البناء الوطني. ويعكس هذا التوسّع في مفهوم العدالة الانتقالية إقراراً عالمياً بأن معالجة الماضي وحلّ قضايا انتهاكات حقوق الإنسان المتراكمة لا يُعدّان واجباً أخلاقياً فحسب، بل أضحيا من أكثر الخطوات الأساسية أهميةً، الهادفة إلى بناء السلام الدائم والاستقرار السياسي. وفي الحالة السورية، تكتسب معالجة قضايا الانتهاكات الواسعة التي قام بها النظام (وغيره من القوى) أهميةً استثنائيةً، فبعد أن كانت المعالجة مستحيلةً بسبب سيطرة النظام على مقاليد الحكم واستمراره في سياساته القمعية، أفضى سقوطه، ليس إلى فتح المجال واسعاً لتطبيق إجراءات العدالة الانتقالية فحسب، بل إلى إمكانية ربط التوثيقات السابقة لانتهاكات النظام بالأدلة الواقعية الملموسة.

وفي السياق نفسه، ثمّة مفهوم آخر يحمل في السياق السوري أهميةً متزايدةً هو مفهوم المصالحة الوطنية، إذ تُعدّ المصالحة شرطاً أساسياً لتحقيق السلام المستدام، ويُعتبر التصالح مع الماضي وتصحيحه، من خلال تقديم الاعتراف بالجرائم والانتهاكات التي ارتكبت، جزءاً لا يتجزأ من عملية بناء السلام الحقيقي، الذي يحمل أسباب استمراره. وعادة ما يجرى التوصّل إلى تسوية سياسية من خلال تفاوض بين الأطراف المتنازعة من أعلى إلى أسفل، ثمّ يأتي دور المصالحة الوطنية لتبدأ بإجراءات متنوعةٍ من أسفل إلى أعلى في سعيٍ إلى معالجة القضايا العالقة التي قد تؤدّي إلى عودة العنف إذا ما جرى تجاهلها. ولا تقتصر المصالحة على حلّ القضايا القانونية فحسب، بل تشمل بناء عقد اجتماعي جديد بين المؤسّسات الحاكمة وبين المحكومين، وكذلك بين أفراد المجتمع أنفسهم، وصياغة علاقات اجتماعية جديدة تقوم على الثقة والقبول المتبادل بين المجموعات التي كانت في حالة صراع. ويمكن القول (في الحالة السورية) إن المصالحة تعتبر شرطاً أوّلياً مسبقاً لإنشاء بيئة سليمة تمكن السوريين (على اختلاف انتماءاتهم ومشاربهم) من بناء العلاقات الجديدة، ليس بينهم أفراداً فحسب، بل بين مختلف المكوّنات السياسية والاجتماعية في المجتمع السوري. وصحيحٌ أن طريقة سقوط النظام لم تفسح المجال للتوصّل إلى تسويات سياسة حقيقية، بعد أن هرب رأس النظام وحلّت محلّه قوات عملية ردع العدوان، إلا أن التوصّل إلى شكل من أشكال التسوية السياسية مع خطوات دستورية متينة يعتبر شرطاً لازماً لا حياد عنه لاستقرار البلاد، والمضي قدماً بإجراءات المصالحة الوطنية، التي ستعزّز ذلك الاستقرار وتنقل سورية إلى مرحلة التعافي وبدء التنمية.

ورغم أن ثمّة تداخلاً مفاهيمياً بين مصطلحَي العدالة الانتقالية والمصالحة، إلا أن ثمّة فروقاً جوهريةً بينهما؛ فبينما تركّز العدالة الانتقالية في معالجة الجرائم والانتهاكات التي ارتكبت، من خلال محاكمات قضائية عادلة وكشف الحقائق وإجراءات أخرى متنوّعة، فإن المصالحة تتعلّق ببناء علاقات جديدة بين الأطراف المتنازعة، وتهتم بتغيير النظرة الجمعية نحو الماضي المرير. ومع أن العدالة الانتقالية تسعى ضمن أهدافها إلى تحديد المسؤوليات من خلال محاكمات عادلة وتوفير تعويضات للضحايا، فإنها لا تتناول بالضرورة الجوانبَ الإنسانية والألم الجماعي الناتج عن النزاعات أو سنوات القمع. لذلك تتّجه التيّارات الحديثة وأفضل الممارسات إلى ضرورة تبنّي نهج شامل يدمج العدالة الجزائية والعدالة التصالحية، بحيث لا تقتصر العدالة الانتقالية على المسار القانوني، بل يجب أن تشمل أيضاً إجراءاتٍ تهدف إلى معالجة الألم الجماعي، واستعادة كرامة الضحايا، ودعم التئام الجروح الاجتماعية والنفسية التي خلّفتها الحرب أو سبّبها القمع طويل المدى الذي تعرّضت له تلك المجتمعات.

وربّما يعتبر السؤال الجوهري في هذا المضمار هو كيف يمكن أن تتكامل العدالة الانتقالية مع المصالحة بشكل فعّال وخاصّة في سورية؟… للإجابة، علينا أن نفهم العدالة الانتقالية عمليةً متعدّدةَ الأبعاد تشمل مستوياتٍ متنوعةً من العدالة والإجراءات المؤدّية إليها. وهذا يشمل الوصول إلى الحقيقة القانونية، وهي التحقيقات التي تهدف إلى تقديم دليل على الانتهاكات وتوثيق الجرائم التي ارتُكبت، والحقيقة السردية التي تقدّم القصصَ الشخصية للضحايا والجناة، والحقيقة الاجتماعية التي تنبثق من التفاعل بين الأفراد والجماعات في المجتمع. وعلى الرغم من إجراء العديد من الدراسات في هذا المجال، إلا أن هناك العديد من الفجوات البحثية والأسئلة المفتوحة التي لا تزال بحاجة إلى دراسة مستفيضة، وبخاصّة في الحالات المعقّدة والمتداخلة كالحالة السورية. فعلى سبيل المثال، أظهرت الدراسات المقارنة أن تأثيرات آليات العدالة الانتقالية على المجتمعات ما زالت متفاوتة جدّاً، فبينما هناك من يدّعي أن قلّةً من الدراسات قدّمت دليلاً قاطعاً يثبت أن العدالة الانتقالية قد أسهمت فعلاً في بناء السلام، أو تعزيز احترام حقوق الإنسان، في المجتمعات التي عانت من النزاعات، تقترح دراسات أخرى العكس تماماً؛ فتبيّن أن إجراءات العدالة الانتقالية وبناء المصالحة الوطنية قد سارت جنباً إلى جنب، وأسهمت معاً وبشكل حثيث في تخطّي المحنة الوطنية، والوصول بالبلد المعني إلى برّ الأمان.

وفي معرض ذكر قصص النجاح، تبرز تجربة رواندا مثالاً مهمّاً في معالجة العدالة الانتقالية والمصالحة بعد الحرب. فقد تعرّضت رواندا في عام 1994 إلى واحدة من أبشع الجرائم في التاريخ الحديث، فقُتل أكثر من 800 ألف شخص في مجزرة جماعية، استُهدِفت من خلالها طائفة التوتسي من أفراد من طائفة الهوتو. وعلى الرغم من الفظائع التي ارتكبت، تمكّنت رواندا من تجاوز هذه المأساة وإعادة بناء نفسها. ولم تنتظر الحكومة الرواندية تدخّل المجتمع الدولي، بل اتخذت خطوات جادّة لحلّ الآثار السلبية للنزاع من خلال المحاكم المحلّية التي كانت جزءاً من نظام العدالة المجتمعية، فكانت المحاكمات علنيةً وتهدف إلى معالجة الجرائم بطريقة تضمن محاسبة الجناة، وفي الوقت نفسه ترميم العلاقات الاجتماعية داخل المجتمع. وتبرز تجربة رواندا أهمّيةَ أن تعتمد المجتمعات المتأثّرة بالحروب حلولاً محلّيةً مناسبةً لسياقاتها الثقافية والاجتماعية، وهو ما يفتح المجال أمام التفكير في تطبيق هذه التجربة في سورية، وعلى الرغم من السياق المعقّد الذي مرّت به البلاد، فبعد أكثر من 13 عاماً من الصراع، وبعد الانتقال من حكم استبدادي مطلق إلى مرحلة جديدة، يواجه السوريون تحدّيات مماثلة في تجاوز مآسيهم وبناء دولة مستقرّة تحترم حقوقهم الفردية والجماعية.

يكمن الردّ على هذا التحدّي بالنسبة لسورية في سرعة التوافق على الخطوات الدستورية لسورية المستقبل، بما يضمن بناء الدولة والمجتمع على أسس العدالة والمصالحة، مع التنبّه إلى أن تأخير إنجاز هذه التوافقات قد ينتج حالات من الفوضى والانقسام، وربّما الصراعات الداخلية، ما قد يؤدّي إلى إعادة إنتاج حالة مشابهة لتلك التي شهدتها ليبيا في مرحلة ما بعد معمّر القذّافي، أو حتى الصراعات التي شهدتها أفغانستان. ويتعيّن على السوريين أن يكونوا صادقين مع أنفسهم، فالتحدّيات الماثلة أمام سورية ليست في معالجة الماضي فقط، بل في بناء المستقبل على أسس مقبولة من المجتمع، من دون أن يُفرض عليه نموذج مُحدّد بفعل العوامل التي سبّبها شكل سقوط نظام الأسد الإجرامي، أو نتيجةً ضغوط خارجية. وستكون المشاركة في صنع القرار الدستوري والسياسي السوري الذي تنتجه إرادة جماعية قوية، مع وجود رؤية واضحة، والتزام حقيقي بالعدالة والمصالحة والشراكة، عناصر أساسية يمكن أن تقوم عليها استراتيجية السلام والتنمية في سورية. ومن الجانب الحكومي والعملي، لا بدّ من إنشاء وزارة خاصّة بالعدالة والمصالحة، ورفدها بالكوادر وتخصيص الأموال اللازمة لجهودها من الموازنة العامّة للدولة، ومن دعم الدول الصديقة، ومنحها تشريعياً الأدوات اللازمة لتنفيذ تلك المهمّة المُقدَّسة، ونجاحُها قد يعني نجاحَ العبور إلى سورية الحديثة التي نتمنّاها.

العربي الجديد،

————————–

الإسلاميون و الديمقراطية… مختبر سورية/ المهدي مبروك

27 يناير 2025

سيكون من المجحف أن نطلق أحكاماً مطلقةً على حصيلة تجارب الإسلاميين مع الديمقراطية، لأسباب عديدة تدور حول اختلاف السياقات المحلّية وطبيعة القوى الخارجية، التي ترافق (أو تراقب) التجارب تلك، فضلاً عن موقع الإسلاميين من السلطة، سواء كانوا في الحكم أو في المعارضة. هذه العوامل المركّبة والمعقّدة والمتشابكة تلجم الباحث الموضوعي والحصيف عن التسرّع في إطلاق أحكامه المطلقة والجزافية. كان من الممكن أن نتّكئ على الكليشيهات العديدة التي يطلقها خصومهم من العقائديين تحديداً، الذين يذهبون إلى نفي أي صلة للإسلاميين بالديمقراطية، بل يسارعون إلى عدّهم من ألدّ أعداء الديمقراطية جوهراً. الفكر المتصلّب الذي لا يترك أي مجال للتنسيّب أو التفكيك ينتهي إلى أحكامٍ معيارية أبعد ما تكون من التحليل الموضوعي.

نقرأ الجدل المحتدم بين كبار المختصّين في الإسلاميات التطبيقية (إسلام الحركات والمذاهب والطوائف)، المختلف منهجاً وأدواتٍ عن دراسات إسلام العقيدة، فنقف على جدل بين أطروحات مختلفة لا تذهب إلى إطلاق الأحكام، ولكنّها تحرص على فهم مختلف الديناميات التاريخية التي مرّت بها مختلف الجماعات الإسلامية، وتحديداً التي تقدّم نفسها معنية بالحكم، أي الإسلام السياسي بالمعنى العام. وفي كلّ مرّة، حين تتعثّر تجربة حكم الإسلاميين في بلد، يسارع العقائديون إلى القول بنهاية الإسلام السياسي (في العالم أجمع)، ولكن تسفّه المجريات اللاحقة هذه النبوءات، التي ليست من العلم في شيء. نتذكّر تماماً الهزيمة المدوّية للإسلاميين في المغرب الأقصى منذ سنوات، التي أطلقت حملات نعي لدى العديد من المثقّفين، ولكن ها هم يعودون مجدّداً. حدث الأمر ذاته في تجارب أخرى عديدة، سواء في تركيا أو بلدان أخرى في آسيا، وحتى في أفريقيا. التجارب الديمقراطية (على هشاشتها) في هذه المجتمعات، بيّنت أن الإسلاميين يحكمون، ولكنّهم ينحنون لإرادة الناس التي عبّرت عنها صناديق الاقتراع، على خلاف غيرهم الذين انقبلوا حين فاز الإسلاميون. حدث ذلك في الجزائر وفلسطين وتركيا… إلخ.

قد لا تكون هذه التجارب برهاناً على سلامة تلك الديمقراطيات، ولكنّها في الحالات كلّها تؤكّد أنها تجارب “دمقرطة”، لها الحدّ الأدنى الديمقراطي المطلوب: التعدّدية، واحترام صندوق الاقتراع، والقبول بالتداول السلمي للسلطة، وفكرة التمثيلية… إلخ. لم تولد الديمقراطية كاملة، حتى في المجتمعات الأكثر عراقة في الديمقراطية، علينا ألا ننسى أن بعض المجتمعات الغربية الديمقراطية، لم تمنح حقّ الاقتراع لبعض الفئات من مواطنيها إلا في الستينيّات من القرن الماضي، وأنها ظلّت تمارس تمييزاً قائماً على الإثنية أو الجندر أو الطبقة. حدث ذلك في أكثر من بلد، وتواصل إلى بداية سبعينيّات القرن الماضي، علاوة على كثير من نزعات الهيمنة والاستعمار، وانتهاك حقوق الإنسان، الذي مارسته هذه البلدان في حقّ شعوب أخرى. تقدّم فرنسا المثال الساطع لهذه السكيزوفرينيا (الفصام) الديمقراطية، فحين كانت تستعرض إعلانها حقوق الإنسان كانت مدافع جيشوها تدك جماجم شعوب في أكثر من قارّة. والأكيد أن الديمقراطية لا تولد دفعة واحدة، فلها تاريخ في كثير من الأحيان ملتوٍ ومرتبك، ولا يخلو من تردّد وتلعثم وسقطات.

على هذا النحو، لا يمكن للإسلاميين أن يكونوا ديمقراطيين دفعة واحدة، والمتأمّل في أطروحاتهم السياسية خلال أربعينيات القرن الماضي، ويقارنها مع أطروحاتهم الراهنة، يدرك حجم الرحلة الشاقّة والطويلة التي قطعوها. إنها خطوات حاسمة، ولكنّها تظلّ مهدّدة دوماً بالنكوص لاعتبارات عديدة، لعلها تلك العائدة إلى غياب “تجذير” للديمقراطية في أطروحات عديد من حركات الإسلام السياسي، باستثناء بعضها، وإن كان ذلك غير كافٍ (تونس، المغرب، تركيا…)، وهي تجذيرات تحتاج إلى مزيد من التعميق، لأنها أشبه بالتهجين الفكري الممسوخ. أمّا السبب الثاني فإنه عائد إلى هجمات خصومهم الذين لا يصدّقون مطلقاً أن الإسلاميين يمكن أن يكونوا يوماً ديمقراطيين، مردّدين في وجوههم: “لو خرجتم من جلودكم لما عرفناكم”. يلعب خصوم الإسلاميين دوراً مهماً في مرافقة هؤلاء خلال عبورهم الطريق الطويل نحو الديمقراطية. يغنم مناصرو الديمقراطية من خصومهم الإسلاميين كثيراً حين يقترب هؤلاء من الديمقراطية، ويشرعون تدريجياً في التعرّف إليها، ومصالحة مفرداتها وممارساتها، حتى الدنيا منها.

ستكون التجربة السورية مخبراً إضافياً لامتحان الإسلاميين مع الديمقراطية، لذلك فإنها ستكون محطّ أنظار العديد من المحلّلين والخبراء. المؤشّرات كلّها لا تمنحنا الاطمئنان الكافي، لأن تكون التجربة حضانة للديمقراطية، فأحمد الشرع لم ينطق إلى حدّ الآن لفظ “الديمقراطية”، مفضّلاً استعمال مصطلح “الحرّية”، وفي ذلك حيلة، فالناس متعطّشون حالياً إلى الحرّية، خصوصاً في ظلّ القمع الذي عاشوه عقوداً. الحرّية تبدو لبعضهم حلماً، وشعراً قد نجد له جذوراً في الفكر الإسلامي، كما صاغته على الأقل أدبيات الإصلاح خلال أواخر القرن التاسع عشر. لا ندري إن مرّت الجماعة على هذه الأطروحات أم إنها ما زالت تنكرها، ولكن سيكون من الصعب تصوّر هذه القفزة الأسطورية كلّها من أمكنة القاعدة، ومَن جاورها، إلى أمكنة الديمقراطية وما جاورها. خارج المراجعات الفكرية العميقة سيبدو الذهاب إلى الديمقراطية “إكراهاً”، ومن استكره على شيء فلا ذنب عليه. آنذاك، كلّ شيء وارد، بما في ذلك أبشع أشكال الاستبداد.

ولكن ماذا عن خصومهم؟ هل هم سادة الديمقراطية وفرسانها؟… لا أعتقد شخصياً. سؤال الديمقراطية لا يعني الإسلاميين فقط، بل كلّ تلك التيّارات السياسية التي تجاورهم: اليسار الذي ما زال يحتفل بمئوية لينين، هو الآخر لا يقلّ عداءً للديمقراطية عن الإسلاميين، معتبرين أنّها كذبة بورجوازية. وما زال القوميون يعتبرونها خدعة استعمارية. إنها أشكال متعدّدة من “الكفر بالديمقراطية”، ولكن بصيغة لا دينية. كلّهم في الهمّ سواء.

العربي الجديد،

————————-

«سايكس بيكو» حاضرة في بناء سوريا الجديدة/ إحسان الفقيه

تحديث 27 كانون الثاني 2025

زوبعةٌ ثارت ولم تهدأ منذ أن قام أحمد الشرع قائد الإدارة السورية الجديدة، بتعيين بعض العناصر غير السورية في مواقع حيوية في الدولة، واعتبر البعض أنه إجراء ميليشياوي يهدف إلى ترهّل مفهوم الوطن، الذي ينبغي أن يقوم بسواعد أبنائه لا بسواعد غيرهم.

هذه الزوبعة في حقيقة الأمر لا مبرر لإثارتها، لأن ما أتت به مصادم لواقع الدول المعاصرة، التي تستعين بخبرات من خارج حدود الوطن للاستفادة منها، أو تعين في الوظائف العامة مواطنين يقيمون على أرضها وينتمون إلى جنسيات أخرى، دون أن ينال ذلك من سيادتها.

لا يشترط أن يتولى المناصب في الدولة، مَن كانت جذوره ممتدة في أرضها، فمثلا في الولايات المتحدة الأمريكية أقوى وأغنى دول العالم، يتبوأ منصب وزير الدفاع فيها لويد جيمس أوست، وهو من أصل افريقي.

الممثل واللاعب الأشهر في تاريخ رياضة كمال الأجسام، أرنولد شوارزينيغر، تولى منصب عمدة كاليفورنيا الأمريكية، فهو الحاكم الثامن والثلاثون لهذه الولاية، على الرغم من أنه من مواليد النمسا، كذلك فإن رالف نادر سياسي أمريكي ومحاضر لامع في الستينيات، ترشح لرئاسة أمريكا ست مرات عن حزب الخضر، رغم أن أبويه من لبنان، وغيره كثير من العناصر في المنابر الإعلامية الأمريكية مع كونهم من جنسيات وأصول مختلفة. وفي الوطن العربي هناك العديد ممن تولوا مناصب في غير البلاد التي نشأوا فيها وأتوا منها، منهم على سبيل المثال سمير الرفاعي رئيس الوزراء الأردني الأسبق، هذا الرجل من مواليد صفد في فلسطين. شبكة الجزيرة القطرية التي قدمت نموذجا عربيا مشرفا يلمع في سماء الإعلام العالمي، وأصبحت على قدم المساواة مع شبكات الإعلام الغربي، كثير من القائمين عليها من العرب غير القطريين. كرة القدم التي لم تعد مجرد لعبة، وغدت مجالا ذا أبعاد سياسية وثقافية واقتصادية وقومية، لماذا لا نعترض إذا تولى مدربون أجانب تدريب منتخباتنا الوطنية؟ لماذا لا تتعالى الأصوات حينها بضرورة أن يُقدم المدرب الوطني ولو كان أقل كفاءة؟

إن المعيار في تعيين العناصر للوظائف العامة هو القدرة والثقة، أو القوة والأمانة، كما جاء في القرآن الكريم في قصة نبي الله موسى مع الفتاتين اللتين سقا لهما (قالت إحداهما يا أبت استأجِره إن خير من استأجرت القوي الأمين).

نعم ابن الأرض هو أولى بها، ولكن إن كانت هناك حاجة إلى من هو أكثر منه كفاءة من خارج هذه الأرض، فليس هناك أدنى مشكلة في تعيينه من أجل الصالح العام، طالما أنه لا يقدح في سيادة الدولة. لم تكن تلك القضية تمثل شيئا ذا بال قبل تقسيمات سايكس بيكو، التي وضعت تلك الحدود والحواجز بعد تفتيت الوطن العربي، ولنا أن نعلم أن بعض من تولى مشيخة الأزهر الشريف في مصر من ذوي أصول عربية أخرى، مثل الشيخ محمد الخضر، الذي تولى منصب شيخ الأزهر وهو تونسي المولد جزائري الأصل. ولكن مع الأسف الشديد، انتقلت هذه الأسوار والحواجز والحدود التي صنعها الاحتلال إلى الوجدان العربي، فلم يعد كثير منا يتقبل فكرة الذوبان في مفهوم الأمة الواحدة.

العالم كله يتكتل ويتحد سوانا، الاتحاد الأوروبي كسر الحواجز وفتح الحدود ووحّد العملة، وأصبحت دولُهُ كتلة واحدة، ونحن هنا نسخط على تعيين الإدارة السورية لشخصيات من خارج الحدود السورية. هناك قبائل مشتركة بين الدول لها اللكنات نفسها، والعادات والتقاليد نفسها، تمثل وحدة واحدة، وزعت على الأقطار، كالقبائل التي توزع بنوها بين سوريا والأردن، فوفقا لتقسيمات سايكس بيكو فإن السوريين ينبغي أن لا يستعينوا بأبناء هذه القبائل الموجودين على الأراضي الأردنية، وينبغي للأردنيين أن لا يستعينوا بمن يعيشون على الأراضي السورية، مع أنها قبائل واحدة.

لو افترضنا مثلا أن سوريا اقتطعت حدود الأردن ودخل من فيها تحت السيادة السورية، فحينئذ سيكون مقبولا أن يتم تعيين أبناء هذه القبائل في المناصب في الدولة السورية، مع أنهم قبل ذلك كانوا أردنيين، فأي منطق في هذا؟ حدود صنعها الاحتلال تغرس فينا هذا الخلل في الإدراك والتفكير وحسابات الأمور؟!

بناء سوريا الجديدة يحتاج إلى جهود كل من يهتم بأمر سوريا، ونحن أبناء أمة واحدة، يتحتم علينا أن نتعاضد مع إخواننا السوريين من أجل إزالة أنقاض الحكم الفاشي، الذي أدخل البلاد في دوامة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وبناء سوريا جديدة قوية وموحدة، مع الاحتفاظ قطعا بالأصل الثابت، وهو السيادة للدولة التي يحكمها أبناؤها، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

كاتبة أردنية

القدس العربي

———————————

سورية الجديدة المثيرة للفضول/ محمود الرحبي

27 يناير 2025

أكثر من صديق زار سورية في الأيام الماضية، وجاء بانطباع مشجّع مشوب بفرح، تخالطه حيرة وتخوّف من المجهول. أغلب هؤلاء الأصدقاء سوريون، وهذا طبيعي، يدفعهم إلى ذلك “رتق ما انقطع”، إن صحّ التعبير، زيارة الأهل أو من تبقّى منهم على قيد الحياة، وكذلك بعث عوالم الطفولة والصبا، إذ لا شيء ظلَّ على حاله، ولكن قليل خير من فراغ.

ومعاناة الحنين كتاب كبير في خوالج التغريبة السورية، حتى أولئك الذين تحسّنت أوضاعهم في المنافي، وبرزوا فيها من خلال مواهبهم وطاقاتهم، فإن أمر زيارة الوطن لا مفرّ منه، خاصّة أننا نتحدّث عن مجتمع حرّ، فتجد عند كلّ سوري ذكريات اجتماعية جميلة تركها في وطنه، تنفّس الهواء الطبيعي، فقال إن سورية تمتلك أنقى هواء في العالم، وهو ما يمكن أن يتعزّز تاريخياً أيضاً، مثلاً عندما نتذكّر “بيمارستان” الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك، حين لم يجد صعوبة، إنما حيرة، في الوقوف على البقعة الأنقى والأكثر صحّة لبناء أول مستشفىً رسمي في تاريخ الإسلام، وهناك من أراد أن يرى بلده وقد تقدّم به العمر ليلتقي بمن بقي من الأحياء.

يشبه الأمر عودة كثير من كُتاب تشيلي بعد سقوط حكم بينوشيه. نقرأ تفاصيل ذلك في تجربة الروائية التشيلية إيزابيل الليندي، التي (كما يقال) قادت المنفيين في رحلة العودة إلى تشيلي. ويتجلّى أيضاً جزء من هذا الصراع المرير في روايتها السيرية “باولا”، إذ يوجد كثير من تفاصيل المؤامرة التي قادتها المخابرات الأميركية على ابن عمّ أبيها، الزعيم الثوري سلفادور الليندي. يمكن أن تشبّه تشيلي سورية في ذاكرة القمع والسجون السوداء، ونتمنى ألا تشبهها في المآل، إذ كثيراً ما تتدخّل المخابرات الأميركية في إزاحة أي ضوء في بلد عربي، وهو ما ينكشف عاماً بعد آخر، مثل الذي ذكره الروائي العراقي على بدر في روايته السيرية “الزعيم… خرائط وأسلحة” (2024) عن الرئيس العراقي الراحل عبد الكريم قاسم، حين كلّفت أميركا من يصفّيه في مكتبه.

الأصدقاء من غير السوريين تملّكهم الفضول لمعرفة سورية بعد حكم الدكتاتور. أيضاً، ممّا يثير الفضول هو تصريحات القيادة السورية الجديدة التي تتّسم بالهدوء والدبلوماسية (والذكاء، لِمَ لا!)، كما حصل أخيراً مع خطاب وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني في منتدى دافوس، في حواره مع توني بلير رئيس وزراء بريطانيا الأسبق. ومن خلال تعليقات السوريين على هامش هذا الحوار، يمكن تلمّس مدى الإعجاب بشخصية وزير الخارجية، فإلى جانب إتقانه الإنجليزية، امتاز أيضاً بالهدوء والمسايرة والإجابات اللمّاحة، خاصّة في المواضيع التي تطمئن الغرب (ظاهرياً) مثل موضوع مشاركة المرأة، والحرّيات الشخصية.

منذ فترة قريبة التقيت كاتب السيناريو السوري المقيم في مسقط، نور الدين الهاشمي، وهو الذي كتب أجزاءً مهمة من حلقات المسلسل السوري المعروف “مرايا”، حين سألته عن الوضع الجديد، فأطلق (في سياق حديثه) عبارة “جنود الله” على الثوار، الذين خلّصوا سورية من حكم الأسد. فهم، حسب وجهة نظره، لم يذهبوا إلى البنوك إنما إلى السجون لتحرير من فيها، ولم تشهد الثورة في آخر حلقاتها إلا حوادث بسيطة، والسبب أن الذي حدث لم يكن بأيدٍ أجنبية، إنّما من فعل أبناء البلد. ويمكن استذكار هنا ما فعلته القوات الأميركية حين دخلت العراق، إذ لم يبقَ شيء لم يُنهَب، وكان أوله المتحف الوطني العراقي، ثمّ ما خلفه ذلك الاحتلال من حرب طائفية بشعة، ما زالت آثارها باقية حتى الآن، وقد عبّر عن تلك النوايا الحاكم الإداري للعراق، بول بريمر، إبّان الاحتلال الأميركي في مذكّراته، وتنفيذه العملي لنوايا “الفوضى الخلّاقة”، التي كانت تصرّح بها الإدارة الأميركية وقتئذ.

هناك خوف من التقسيم والفوضى غير خاف على أحد، إلى جانب الارتباك في إصدار حكم مستعجل على المرحلة. ولكن بعد تتابع التصريحات من المسؤولين السوريين الحاليين، يمكن الشعور بشيء من الطمأنينة. فالقضية الأساس حالياً في سورية هي قضية اقتصادية: كيف يمكننا أن ننهض بالبلد لكي تنمو وتتقدّم؟ وكان الإلحاح على رفع العقوبات هو هاجس معظم المسؤولين السوريين من خلال تصريحاتهم المتعاقبة.

لم نكن من قبل نعرف سورية إلا مقترنة بالقمع والغموض. الطاقات السورية الهائلة المتوزّعة في ربوع العالم، تؤكّد أن الشعب السوري خلّاق ومبدع إن وجد الفضاء المناسب.

العربي الجديد،

—————————-

حجاب السوريات ونقابهن… اجتماع الأضداد/ سمر يزبك

27 يناير 2025

استيقظت دمشق في، 29 سبتمبر/ أيلول عام 1981، على حدثٍ جلل ترك أثراً عميقاً في ذاكرة سوريين كثيرين. مجموعاتٌ من المظلّيين والمظلّيات، معروفة باسم “دورية تشرين”، تجوّلت في شوارع دمشق، ونزعت حجاب النساء تحت التهديد والضرب والتعنيف. كانت هذه المجموعة تابعة لـ”سرايا الدفاع” التي أسّسها رفعت الأسد. شكّل ذلك اليوم المشؤوم انعطافةً في تاريخ سورية، إذ جسّد اعتداءً صارخاً على كرامات الناس ومعتقداتهم الدينية والروحية. كانت لهذه الممارسات انعكاسات عميقة، أدّت إلى شرخ مجتمعي وطائفي استُغل سياسياً بشكل سلبي للغاية، ليُضاف إلى سلسلة الشروخ والانقسامات التي عمل حافظ الأسد على تغذيتها لترسيخ سلطته الاستبدادية. في اليوم التالي للحادثة، خرج الأسد (الأب) بخطابٍ رسمي للسوريين، في محاولة لاحتواء الوضع الذي لم يكن مُجرَّد حادثة عابرة. خلال تلك الأحداث، وقعت مواجهات دامية، قُتل فيها ضابط كان يدافع عن زوجته التي حاولوا نزع حجابها، كما قُتِلت مظلّية ومرافقها. تعرّضت النساء للركل والدعس في الشوارع، فيما شهد سوق الحميدية مقاومةً شرسة من التجّار والأهالي الذين حملوا العصي لمنع المظلّيين والمظلّيات من دخول السوق.

لم تقتصر الحادثة على قلب دمشق، بل امتدّت إلى المدارس، فأُجبِرت الطالبات على نزع حجابهن عند أبوابها. تركت طالبات عديداتٌ التعليم إثر هذه الحملة، وحُرمن من حقّهن في الدراسة، مما دفع بعضهن إلى البقاء في المنازل، كما طاولت عمليات نزع الحجاب النساء في مراكز تجارية مثل الصالحية وأحياء دمشق المُحافِظة الأخرى، لتُرسّخ هذه الحملة جرحاً عميقاً في الذاكرة الجماعية للسوريين. تراجعت المظلّيات والمظلّيون، ولم يتمكّنوا من دخول سوق الحميدية، فقد أدرك حافظ الأسد بدهائه أنّه تجاوز الخطوط الحمر التي حرص على رسمها بدقّة طوال سنوات حكمه رجلاً يوظّف الدين بالطريقة التي تخدم أهدافه السياسية. في خطابه الذي ألقاه لاحقاً، برّر التصرّفات الشنيعة بأنها نتيجة “اندفاع بعض المتحمّسات لقيم الثورة”، من دون أن يقدّم اعتذاراً رسمياً للشعب السوري. واستمرّ هذا النمط طوال حياته وحياة ابنه الذي خلفه في الحُكم، إذ لم يكن الاعتذار من أدوات النظام في التعامل مع الشعب.

في تلك الفترة، كان الأسد يخوض صراعاً داخلياً أدارَه بقبضةٍ من حديد، مستخدماً السلاح وسفك الدماء وسيلتين لفرض السيطرة. أراد أن يظهر للعالم بوجه “تقدّمي” و”ديمقراطي” مدافعاً عن “حقوق النساء في حرّياتهن الشخصية”. إلّا أنّ قراره بمنع الحجاب في المدارس، الذي بقي سارياً حتى عام 2001، كان دليلاً على استمرارية السياسات الاستبدادية حتى بعد تسلّم ابنه السلطة، كانت تلك الأحداث بمثابة صاعقٍ أشعل الانشقاقات داخل المجتمع السوري، ليس على المستوى السياسي فقط، بل أيضاً على المستوى الطائفي، فقد كان أغلب المشاركين في “دورية تشرين” ينتمون إلى العلويين، ما عزّز الشعور الطائفي بأنّ الأقليات تذل الأكثرية السُنّية. لاحقاً ساهمت هيكلة قوى الأمن والجيش والتفاوت الاقتصادي والاجتماعي بين الطوائف في تعزيز هذه الصورة، رغم وجود أفراد من طوائف أخرى ضمن تلك المجموعات.

في دمشق، المدينة التي كانت تنهار تحت بطش الأسد (الأب)، كانت النساء يُعتبَرن أهدافاً واضحةً لهذه السياسات. أُخبِرت المظلّيات بأن كلّ محجّبة هي من جماعة الإخوان المسلمين، أعداء الثورة، وأن “عقابهن” يبدأ بخلع الحجاب. وأدّت هذه الحملة العنيفة إلى ردّات فعل متباينة، لكنّها أسهمت بوضوح في تعزيز التديّن، والتشدّد، ردَّة فعل على الإذلال والقمع. لاحقاً، أُقنع الأسد بافتتاح معاهد لتعليم القرآن ومساجد لامتصاص الغضب الشعبي السُنّي. يُقال إن فترة حكم حافظ الأسد شهدت بناء مساجد عديدة في دمشق، أكثر من أيّ فترة أخرى في تاريخ المدينة. ورغم أن هذا يبقى محلّ نقاش، إلا أن الحقائق تفيد بأنّ ذلك كان جزءاً من استراتيجية الأسد لتوظيف المجموعات الإسلامية، ومن ثمّ الجهادية، أداةً جيوسياسية لبسط نفوذه في الداخل والخارج. كانت هذه الحادثة مُجرَّد تفصيلٍ صغير ضمن الصورة الأوسع لسياسات الأسد، لكنّها لعبت دوراً كبيراً في تعميق الشرخ المجتمعي والطائفيّ الذي ما زال أثره قائماً.

في شهر أغسطس/ آب من عام 2012، عاد الشيخ الجليل أسامة الرفاعي إلى الشمال السوري، حيث ألقى خطبته الأولى التي أثارت جدلاً واسعاً. ركّز الشيخ في خطبته على انتقاد النساء اللواتي يروّجن ما وصفها بـ”الأفكار المضلّلة” عن حرّيات النساء والمعتقدات، وربط عمل النساء في مجالات التعليم وتوفير الطعام والتنمية في البيئات المحافظة التي تلتزم الحجاب وتعتمد الدين الإسلامي مصدراً للتشريع، بانتشار مفاهيم مغلوطة. كان لافتاً أن يُخصّص الشيخ، المعروف بمكانته الدينية واحترامه، خُطبته الأولى للحديث عن هذا الموضوع، ممّا أثار دهشة كثيرين. تعرّض الشيخ الرفاعي لانتقادات بسبب تصريحاته هذه، إذ استنكر كثيرون، رجالاً ونساءً، أن ينشغل في ظلّ الظروف الراهنة بهذا الملفّ تحديداً، خاصّة في وقت تعاني البلاد من حرب طاحنة. وبينما يستخدم الغرب قضايا حقوق النساء وسيلةً ضمن بروباغندا سياسية للتدخّل في شؤون المجتمعات الإسلامية، بدا خطاب الشيخ الرفاعي استجابةً مباشرةً لهذه الهجمات، لكنّه في الوقت ذاته أوقع الظلم على النساء العاملات في هذه البيئات المحطّمة. تلك النساء المحافظات اللواتي بقين في الخيام أو المنازل المدمّرة، واتُهِمن بالعمالة والخيانة، واجهن دعوات الشيخ لملاحقتهن ومحاربتهن، وهو موقف اعتبره بعضهم انحرافاً عن الأولويات الكُبرى للمعارضة في تلك المرحلة. حظي الشيخ الرفاعي، بشخصيته ذات المكانة الكبيرة في الطائفة السُنّية، بدعم شريحة من المجتمع، إلا أن كلماته فجّرت نقاشاً واسعاً حول حقوق النساء، ودورهن، وحدود النقد الذي يوجَّه إليهن في ظلّ ظروف القمع والحرب.

بين الحادثتَين كثيرٌ من الأحداث التي تُختصَر فيها جوانب لا تُقال صراحة. أخيراً، تصاعد الجدل داخل المجتمع السوري، سواء في الأرض أو في العالم الافتراضي، بعد ظهور دعوات لتغيير لباس النساء. خرج رجال دين مع جماعاتهم في الشوارع، موجّهين خطابات تهدف إلى “هداية” النساء ودعوتهن إلى ارتداء النقاب واللباس الشرعي المتمثّل بغطاءٍ كاملٍ للجسد. أُرفقت هذه الحملات بملصقات تصوّر امرأة مغطاةً بالكامل باللون الأسود، مع إظهار ظهرها فقط، وكأن سواد الملابس لم يكن كافياً من دون إخفاء ملامح الوجه تماماً. الحجاب، بشكله التقليدي، منتشرٌ في دمشق، وقد شهد انتشاره تزايداً ملحوظاً في السنوات الأخيرة. غير أن النقاش الحالي تجاوز الحجاب التقليدي ليدخل في جدلية أعمق حول اللباس الشرعي الكامل، ممّا أعاد إشعال الخلافات بين التيّارات الفكرية والاجتماعية داخل سورية، في وقت لا تزال البلاد تعيش ظروفاً إنسانيةً وسياسيةً شديدةَ التعقيد والخطورة. ليس من المستغرب أن يدعو الشيخ الجليل بلسانه وقلبه، من دون استخدام السلاح، وإن كانت دعوته قد توجّه أصحاب السلاح بطريقة أو بأخرى. ولا يمكن مقارنة كلماته بهذه الأفعال التي تُمارَس تحت تهديد السلاح، وهو أمر كان الديكتاتور وأخوه السفّاح بارعَين فيه، إذ استخدما قضايا النساء أداةً لترسيخ سلطتهما.

كانت أجساد النساء (ولا تزال) رمزاً قوياً للسيطرة والنفوذ، وأداة لإذلال العدو وإعلان هيمنة المنتصر. وليس هذا الأمر غريباً في مجتمعاتنا السورية والعربية والإسلامية، ولا حتى في الغرب. إن مطالبة النساء بالالتزام بنمط محدّد من اللباس، سواء كان الحجاب أو السفور، ليست مُجرَّد اعتداء على حرّية الاختيار، بل تعكس نزوعاً تاريخياً لدى السلطات والمجتمعات إلى التحكّم بالجسد الأنثوي رمزاً للسيطرة على الفضاء العام وترسيخ النفوذ. وبالتالي، فإن المطالبة بالمساواة في مجتمع عادل توجب رفض القوالب الثابتة والهُويَّات المسبقة، يكمن هنا جوهر القضية في تفكيك هذه الإملاءات (من أيّ طرف جاءت)، بوصفها أدواتِ هيمنةٍ تُفرّغ الحرّية الفردية من معناها. ويؤسّس هذا الصراع على أجساد النساء لإعادة إنتاج علاقات الهيمنة والقمع، فتُستغل الأجساد بوصفها رمزاً مقدساً لمواقع السلطة. وفي هذا السياق، الحجاب أو النقاب أو السفور لا تكون مُجرَّد خيارات شخصية، بل تُحمَّل بمعانٍ سياسية وأيديولوجية تُستخدم لفرض هُويَّة جمعية على حساب الفرد. ولعلّ أخطر ما في الأمر هو ادّعاء أن هذه التدخّلات تأتي باسم الفضيلة أو الحداثة، ولكنّ الحرّية الحقيقية هنا لا تعني حماية الفرد من العنف المادّي فحسب، بل أيضاً من “طغيان المجتمع”، الذي يُملي عليه ما يجب أن يكون عليه، ويمنعه من تحقيق ذاته وفق رؤيته الخاصّة. وبالنسبة للفرد الحرّ ليس من معنى كبير للتفريق إن كان الظلم قد جاء من مجتمع ظالم باسم الفضيلة والعادات، أم من طاغية ليس من همٍّ له سوى الحفاظ على السلطة. إن الاعتراف بالتنوع واحترام حرّيات الأفراد، خصوصاً النساء، في خياراتهن، هو السبيل الوحيد لتأسيس مجتمع تعدّدي وعادل. هذه ليست مُجرَّد قضية تخصّ النساء، بل هي معركة إنسانية تقف عند تقاطع الحرّية والكرامة والعدالة.

قوبلت هذه الدعوات بدعوات مقابلة تنادي بحرّية النساء في اختيار ملابسهن، في حين رأى آخرون أن الوقت غير مناسب لمثل هذه النقاشات، داعين إلى التركيز على العدالة والسياسة. لكن هذا الموقف ينطوي على نظرة دونية تجاه قضايا النساء، متناسياً أن الحقوق الفردية هي جزء من القضايا السياسية. الجدل الكبير الذي أثاره هذا الموضوع، رغم سخرية بعضٍ منه، يعكس حيوية المجتمع السوري ورغبته في التقدّم. وجود هذه النقاشات والمعارك الفكرية ليس مدعاةً للقلق، بل دليل على بدء تعافي المجتمع من الخراب. بدء النقاش والانفتاح على مختلف القضايا من دون خوف أو تردّد هو خطوة أساسية نحو بناء مجتمع أكثر عدلاً وتعددية. كلمة “النسوية” تُعدّ كريهةً لدى كثيرين، فترتبط في أذهانهم بقيمٍ غربية، أو بوصف النسويات “مسترجلات” أو “فلتانات”، بحسب تصوّراتهم. من اللافت أن بعض النساء أنفسهن يكرهن كلمة “نسوية”، لأنها ترتبط في وعيهن الجمعي بكلمات مثل “العلمانية” و”الديمقراطية”، التي تُصوَّر كأنها تحمل الشرور التي تهدّد استقرار الأسرة وسعادتها، وفق المزاج العام. لكن هذا الخلط بين المفاهيم والمصطلحات يعكس أزمةً أعمق، تتعلّق بتوظيف هذه الكلمات وإفراغها من معانيها الحقيقية.

ربّما يكون الوقت قد حان لكي يبدأ السوريون باستعادة معاني هذه المفاهيم الأساسية: حرّية النساء من قبضة النظام الأسدي، ومعنى العلمانية بعيداً عن استغلالها أداةً للتسلط، ومعنى الدين نفسه منظومةً روحيةً، وليس أداةَ قمعٍ أو هيمنة. السؤال الأكثر أهمية هنا: هل يمكن أن يجتمع النقيضان في سبب الكراهية تجاه النساء؟ أي تلك الرغبة في امتلاكهن أو التعامل معهن بشراً من الدرجة الثانية؟… قد تظهر هذه الكراهية أحياناً تحت ذرائعَ مثل “عدم الأهلية العقلية”، وأحياناً باسم الحماية والعطف، وأحياناً كثيرة بدافع الحُبّ والرحمة. الجماعات التي تريد نزع الحجاب عن النساء بالإكراه لا تختلف جوهرياً عن الجماعات التي تريد فرض الحجاب بالإكراه. نحن لا نتحدّث هنا عن الحجاب بمفهومه التقليدي، بل عن النقاب والخمار الكامل، كما ظهر في الملصق الأخير: ثياب سوداء تغطّي الجسد بالكامل، وكأنّ المرأة تُمحى من المشهد العام.

هذا التناقض يعكس أزمةً حقيقيةً في فهم الحرّيات الفردية وحقوق النساء، إذ تتحوّل أجسادهن ساحةَ معركة بين طرفَين متناقضَين في الشكل، لكنّهما متشابهان في جوهر الهيمنة والرغبة في السيطرة. تلتقي الجماعتان في نقطة واحدة: القضاء على الحرّيات الفردية والشخصية للسوريين والسوريات. هذه القضية تتجاوز الصورة النمطية للمرأة المسلمة، إذ يتطلّب الأمر موقفاً واضحاً من المجتمع، مع رفض الصمت، وتكثيف الناشطية التي ترفض المساس بالحرّيات الشخصية. الحقوق لا تتعلّق بالنساء فقط، بل تشمل الرجال أيضاً، ويجب أن تكون مصونةً ومحدّدةً بوضوح في الدستور.

المعركة الحقيقية ليست بالحملات والشعارات فقط، بل بالدستور وبالقوانين التي تنظم حياة الناس، وتضمن لهم حقوقهم من دون تدخّل في خياراتهم الشخصية، سواء كانت المرأة تختار الحجاب أو النقاب والخمار، أو تمارس حرّيتها الشخصية في السفور. هذا النضال طويل الأمد، وهو مرتبط بشكل مباشر بالدستور الذي يجب أن يعكس تنوّع المجتمع السوري ويحترم حرّياته. إضافة إلى ذلك، لا يمكن تجاهل العامل الاقتصادي، الذي يشكلّ المحور الأهم في انتشال سورية من هاوية الجوع والفقر والحرب. هذه المعركة الاقتصادية تُعدّ مفصليةً في تحديد تاريخ ومستقبل سورية، إذ يتطلّب تحقيق كرامة الناس وصون معتقداتهم الدينية والفكرية استقراراً اقتصادياً، يضمن لهم الحياة الكريمة. من دون معالجة هذا الجانب الاقتصادي، ومن دون دستور يضمن الحرّيات الفردية، سنكون أمام استبداد وفاشية جديدة تُضاف إلى واقعنا القاتم، وتُفتح أبواب مستقبل أكثر قتامة. لذلك، وأكثر من أيّ وقت مضى، نحن بحاجة لرفع الصوت عالياً، ليس في قضية حجاب السوريات ونقابهن فقط، بل في القضايا التي تمسّ حرّيات الأفراد وحقوقهم.

العربي الجديد،

—————————-

القضية الكردية في تركيا: فرصة للحل من بوابة “الكردستاني”/ جابر عمر

27 يناير 2025

تشهد القضية الكردية في تركيا مرحلة جديدة على طريق حلها، وهذه المرة عبر مساعٍ لإقناع زعيم حزب العمال الكردستاني المعتقل منذ 1999، عبد الله أوجلان، بدعوة مقاتلي حزبه لإلقاء السلاح، مدخلاً للدفع نحو تسوية للصراع المتواصل منذ سنوات طويلة، بين أنقرة وهذا الحزب الذي تحظره وتحاربه في تركيا والعراق وسورية. وفي جديد هذا الملف، عقد وفد من حزب المساواة والديمقراطية للشعوب (ديم) الكردي في تركيا، في 22 يناير/كانون الثاني الحالي، لقاء مع أوجلان في محبسه بجزيرة إمرلي، هو الثاني من نوعه خلال أقل من شهر، وذلك ضمن مسار يستهدف إصدار أوجلان دعوة ليلقي عناصر “العمال الكردستاني” سلاحهم وإعلانه حل الحزب، مقابل العفو عنه. وكان نواب من حزب العدالة والتنمية الحاكم، قد أبدوا سابقاً تفاؤلهم بأن تؤدي اللقاءات إلى نتيجة ملموسة بحلول فبراير/شباط المقبل، وصولاً إلى عيد النوروز في مارس/آذار المقبل.

وكان شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي قد شهد مبادرة من زعيم “الحركة القومية” دولت باهتشلي، وهو حليف الرئيس رجب طيب أردوغان، بمصافحة نواب حزب ديم، ما فتح الأبواب أمام تطبيع العلاقات بينهما. أتبعها باهتشلي بدعوة وجّهها إلى أوجلان لإعلان حل “العمال” وترك سلاحه مقابل الاستفادة من العفو. والتقى وفد من “ديم” مع أوجلان لأول مرة في سجنه يوم 28 ديسمبر/كانون الأول الماضي، قبل أن يجري الوفد سلسلة اجتماعات مع أحزاب وشخصيات سياسية تركية شملت رئيس البرلمان نعمان قورطولموش، ولأول مرة بشكل رسمي مع باهتشلي، وبقية الأحزاب خلال الأسبوعين الأخيرين. في السياق، نقلت صحيفة حرييت التركية أنه في حال استجابة حزب العمال الكردستاني لدعوة إلقاء السلاح فإن الاتفاق سيشمل خروج 200 من القيادات الرفيعة من الحزب، من كل من تركيا وسورية والعراق، إلى دول ثالثة، وهناك استعدادات في هذا الإطار بأنقرة.

أرق القضية الكردية في تركيا

القضية الكردية في تركيا مسألة قديمة تؤرق البلاد والمنطقة، وتُعنى بثاني أكبر مكوّن يضم ملايين المواطنين يمثلون أكثر من 10% من سكان تركيا. مع تشكل الجمهورية التركية في العام 1923 بدستورها ومبادئها القائمة على الدولة القومية التركية، لم يتأخر الأكراد بثورتهم، وبرزت ثورة الشيخ سعيد في العام 1925 واستمرت شهراً ونصف الشهر، ثم انتهت بسحقها، لكنها حققت شعبية من قبل العشائر الكردية. واستمرت السياسة التي تقوم بالتركيز على المناطق الغربية في البلاد وإهمال المناطق الشرقية عموماً، ومنها مناطق جنوب شرقي تركيا حيث الغالبية الكردية.

تسببت الانقلابات في تركيا في ستينيات وثمانينيات القرن الماضي، ومرحلة الصراع مع “الكردستاني” الذي تأسس عام 1978، بفرض قانون الطوارئ الذي سمح للقوى الأمنية بصلاحيات أكبر، خصوصاً الجيش، وهو ما تسبب بقمع الأصوات التي تخالف الانقلابيين. فتحولت القضية الكردية في تركيا المعروفة باسم “قضية الشرق”، إلى مسار جدل في البلاد. في الفترة ما بين 1925 إلى 1938 شهدت المنطقة 17 تمرداً، وفي الفترة 1950-1980 وانقسام البلاد إلى يمين ويسار تأثرت القضية الكردية في تركيا بها سياسياً، فيما شهدت المنطقة منذ العام 1978 إلى العام 2002 فرض قانون الطوارئ فيها.

وشكّل أوجلان مع مجموعة من منابع الثوار الأكراد الثقافية (DDKO)، حزب العمال الكردستاني في سبعينيات القرن الماضي، من مجموعة من الطلاب، وأجرت لقاءات مع البعثات الأجنبية في تركيا، ونفذت نشاطات في جنوب شرقي البلاد قبيل فرار أوجلان إلى سورية في العام 1979، ما جعله يفلت من اعتقال منفذي انقلاب العام 1980. وتشتت حزب العمال الكردستاني وبات يعمل عن بعد، ليبدأ بالنشاط المسلح في العام 1984، ما ترك تأثيراً في الرأي العام، فيما استمرت العمليات العسكرية وصولاً لاعتقال أوجلان في العام 1999.

أعلن الحزب وقف إطلاق النار بعد اعتقال أوجلان، لكن ذلك انتهى عام 2004 وعاد للعمل المسلح. وأطلقت الحكومة التركية عام 2012 حواراً سرياً مع الحزب في النرويج، وفي العام التالي أطلقت مرحلة السلام وشكلت لجنة الحكماء. لكن العمليات المسلحة تواصلت ودخلت مرحلة جديدة من الصراع تجاوزت الحدود بشكل كبير شملت شمالي سورية والعراق، فيما حققت القوات التركية نجاحات كبيرة، دون أن تؤدي للقضاء على الحزب.

مساعي الحل

يمكن تقسيم مساعي حل القضية الكردية في تركيا خلال العقود السابقة، إلى مرحلتين، الأولى ما قبل حكم حزب العدالة والتنمية (2002) وأردوغان، والمرحلة التالية لحكم أردوغان. سيطر على المرحلة الأولى التعامل مع القضية بشكل عسكري بحت عبر فرض قانون الطوارئ في المنطقة، وترك الأريحية للقوات المسلحة، ما ضيق هامش الحكومات التركية المتعاقبة، إذ لم تقدم على خطوات هامة في تحقيق المطالب الكردية، أهمها الاعتراف بالأكراد وبلغتهم وحرية ممارستها وحريتهم السياسية. أما المرحلة الثانية، فشهدت حراكاً فاعلاً تجاه حل مشاكل الأكراد، من خلال رفع حالة الطوارئ من جهة، ومساعي الحكومة عبر تنفيذ مشاريع تنمية في المنطقة واستخدام القوة الناعمة بهذا الإطار، إلى جانب إجراء إصلاحات، شملت تأسيس إعلام وطني ناطق باللغة الكردية. فتأسست قناة تي آر تي باللغة الكردية عام 2008، ودخلت مادة اللغة الكردية الاختيارية في المدارس عام 2012. لكن هذه الممارسات والمشاريع الخدمية في المنطقة من افتتاح المطارات والمدارس ومشاريع التنمية لم تسهم بحل القضية الكردية في تركيا. كما لم تنهِ حزب العمال الكردستاني، مع استمرار إغلاق الأحزاب السياسية الكردية، واعتقال السياسيين وحرمانهم من العمل السياسي.

بحلول العام 2013 قاد حزب العدالة والتنمية أبرز مشاريع حل مسألة حزب العمال الكردستاني بعد حوار عبر جهاز الاستخبارات في أوسلو قبلها بعام. فأطلقت مرحلة السلام، واستضيف فنانون ممنوعون من الدخول إلى تركيا، وقرأت رسائل أوجلان بالتركية والكردية لـ”الكردستاني” بإلقاء السلاح في احتفالات النوروز بديار بكر، جنوب شرقي تركيا. وبالفعل أعلن الحزب الكردي عزمه إلقاء السلاح، وتبع ذلك تعديلات دستورية من قبل الحكومة في العام 2014 وتشكلت لجنة الحكماء وقدمت تقريرها بعد أشهر من العمل. كما جرت لقاءات بين حزب الشعوب الديمقراطي والقيادات في قنديل، شمالي العراق، وصولاً للعام 2015 والانتخابات التشريعية التي جرت حينها. لكن لم تنجح هذه الجهود لأسباب داخلية وخارجية، أهمها التطورات في سورية، وتشكل خريطة قوى جديدة في المنطقة وظهور الوحدات الكردية، إلى جانب الصراع بين حكومة العدالة والتنمية وجماعة الخدمة المتغلغلة في الدولة. فحصل تفجير في أحد تجمعات حزب الشعوب الديمقراطي بديار بكر عام 2015، وبعدها حصل تفجير آخر بمنطقة سوروج جنوب شرقي تركيا أيضاً، فانطلقت عمليات عسكرية لـ”العمال” ضد الجيش التركي.

كل ذلك لحقه إعلان مناطق حكم ذاتي في عدة ولايات ذات أغلبية كردية، من قبل حزب العمال الكردستاني في العام 2015 أسوة بالتي شكلتها الوحدات الكردية بسورية. وتخلل هذه المرحلة أيضاً حصول “أحداث كوباني” إبان هجوم تنظيم داعش على مدينة عين العرب (كوباني، وهي امتداد جغرافي لسوروج) السورية عام 2014، فأعيد تدويل قضية الأكراد. ومع الصراع الداخلي بين الحكومة التركية وجماعة الخدمة، عاد الصراع المسلح بين “العمال الكردستاني” والجيش عام 2015، وبعدها طورت الحكومة استراتيجيات جديدة حيال المنطقة و”الكردستاني” وتكثف العمل العسكري، وصولاً للمبادرة الأخيرة التي أطلقت قبل بضعة أشهر.

وعن مراحل ومبادرات حل القضية الكردية في تركيا والصراع بين الحكومة و”الكردستاني” خلال العقود الماضية، قال الكاتب والصحافي إسماعيل جوكتان، لـ”العربي الجديد”، إن “السبب الرئيسي لثورات الأكراد هو الإنكار الممنهج من قبل الدولة لحقوقهم”. وأضاف أنه “بعد فشل الثورات ظل الأكراد مبتعدين عن المشهد السياسي، وأسس أوجلان حزب العمال الكردستاني، فيما كان رد الدولة التركية عنيفاً جداً طول تسعينيات القرن الماضي، رغم أن الرئيس السابق تورغوت أوزال حاول حل القضية الكردية بشكل سلمي إلا أنه توفي بعد فترة قصيرة”. ولفت إلى أن “الرئيس الثاني الذي حاول حل القضية الكردية بطريقة سلمية، كان أردوغان عام 2013”.

ولفشل حل القضية الكردية في تركيا عام 2013، أسباب عدة، وفق جوكتان، “أولها أن الظروف السياسية الإقليمية ذاك الوقت لم تكن مناسبة لهذه الخطوة، فأردوغان لم يكن قوياً سياسياً مثل ما هو عليه اليوم، ولم يكن هناك دعم كاف من الأطراف السياسية التركية لهذه المحاولة، إذ كان حزب العدالة والتنمية الحاكم هو الحزب الوحيد الداعم لهذا المسار”. وأضاف أنه “بالنسبة للوضع الإقليمي كانت الثورة السورية في أخطر مراحلها، حينها كان النظام السوري منسحباً تماماً من المناطق ذات الأغلبية الكردية في شمال شرقي البلاد، ما أعطى مساحة كبيرة لحزب العمال الكردستاني لتوسيع نفوذه”. وأوضح أنه “بتأثير هذا الوضع نفذ الحزب عمليات عسكرية داخل المدن ذات الأغلبية الكردية في تركيا، وتسبب بتوترات كبيرة قبيل انتخابات 2015 أدت إلى عودة العمليات العسكرية للجيش التركي على طرفي الحدود بين سورية وتركيا”.

أحدث المبادرات

وعن المحاولة الجديدة لحل القضية الكردية في تركيا والصراع مع “الكردستاني”، قال جوكتان إن “المسار الجديد يتميز بثلاثة فوارق، أولاً خلافاً للسابق، فجميع الأطراف السياسية في تركيا تدعم الحل هذه المرة، فباهتشلي هو من أطلق الإشارة الأولى لبداية المسار الجديد، وأيضاً حزب الشعب الجمهوري أعلن تأييده لهذه الحملة”. ثانياً فإن “العمليات العسكرية التي تلت انهيار المسار الأول من الحل، كسرت قوة حزب العمال بشكل كامل داخل تركيا، وأدت إلى طرده خارج الحدود مع تقليص قدراته العسكرية بشكل كبير في العراق”. أما ثالثاً فقد “انتصرت الثورة السورية على نظام (بشار) الأسد الذي كان يدعم وجود الكردستاني ويعطي الحجة لحماية أميركية لهذا الحزب، فأصبح الأخير محاصراً تماماً في شرق الفرات وفقد مشروعيته في نظر السوريين وبات مشروعه الانفصالي مستحيلاً”. واعتبر أن “هذه الأسباب تدفع الدولة التركية للإصرار على مطالب تصفية الكردستاني وإطلاق حملة المصالحة مع الأكراد لضمهم بشكل كامل لهذا المسار”.

من جهته، قال الكاتب والمحلل السياسي غونغور يافوز أصلان، لـ”العربي الجديد”، إن “الحكومات السابقة حاولت حل مسألة حزب العمال الكردستاني منذ عقود، لكن لم تتحقق (المساعي) بشكل فعلي سوى خلال فترة حكم حزب العدالة والتنمية”. ورأى أن هذه المساعي “اعتبرت في العام 2013 مخاطرة سياسية عبر مرحلة السلام التي هدفت إلى ترك السلاح من قبل الكردستاني، لكن الأخير تشدد ولم يتخلَ عن السلاح، وبالتالي لم تحقق المرحلة تقدماً”، مضيفاً أنه “بخلاف هذه المرحلة كانت المحاولات السابقة مجرد أقوال بلا أفعال أو خطط للتنفيذ، ولم تكن هناك مبادرات جادة”. وعدّ الجهود الأخيرة “متميزة لأنها صدرت عن رأس التيار القومي في البلاد، وهو باهتشلي، ما يُعتبر مبادرة لافتة جداً وقيمة، وحالياً هناك انتظار أن يلقي أوجلان خطاباً يدعو فيه الحزب لإلقاء السلاح”، معتبراً أنه “قبل رصد ردود الفعل على هذا النداء من الصعب التكهن بنتائجه، لكن المعلومات المتوفرة حالياً تشير إلى أجواء إيجابية”.

العربي الجديد

—————————-

داعش” في سورية: ما أسباب التراجع بعد سقوط الأسد؟/ محمد أمين

27 يناير 2025

منذ سقوط نظام الأسد في الثامن من ديسمبر/كانون الأول الماضي، لم تشهد البادية السورية نشاطاً مهماً من قبل تنظيم داعش، ما يعزز الاعتقاد أن النظام البائد كان يستخدم “داعش” في سورية ورقة ابتزاز وتهديداً للمجتمع الدولي، ووسيلة لتصدير صورته كمواجه للإرهاب في المنطقة.

“داعش” في سورية… خلايا مبعثرة

ملأت فصائل سورية منضوية في “جيش سورية الحرة” تتلقى دعماً من التحالف الدولي ضد الإرهاب، الفراغ الذي تركته مليشيات إيرانية كانت تسيطر على مدينة تدمر في قلب البادية والتي هربت من سورية مع سقوط نظام الأسد. ولعبت هذه الخطوة دوراً كبيراً في منع تنظيم داعش من التمدد والتحرك في البادية والسيطرة على مدن وبلدات، فبقيت خلاياه مبعثرة في عدة أماكن في البادية السورية مترامية الأطراف. كما أن التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة والذي يتخذ من منطقة التنف السورية قاعدة له، ضرب أكثر من 75 هدفاً لـ”داعش” في سورية في اليوم الذي فرّ فيه الأسد من البلاد، وهو ما حدّ من قدرة التنظيم على استغلال الأوضاع الطارئة والخروج من أوكاره في البادية بشكل واسع ومنظم. ولم تشهد البادية السورية نشاطاً ملحوظاً للتنظيم ما خلا قيامه بمهاجمة حقل للغاز في محيط مدينة تدمر بعد أيام قليلة من سقوط نظام الأسد. وكانت البادية السورية قبيل سقوط الأسد نطاق عمل ونشاط للجانب الروسي، ولم يسبق لطيران التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة أن شنّ أي عملية فيها، على الرغم من أنه يتمركز في قاعدة التنف التي تتوسط بوادي سورية والعراق والأردن.

وانكفأ تنظيم “داعش” في سورية منذ أواخر عام 2017 إلى البادية السورية بعد هزيمته في الرقة ولاحقاً في دير الزور، واتخذ منها منطلقاً لعملياته ضد قوات النظام المخلوع والمليشيات الإيرانية مستفيداً من التضاريس الصعبة ومعرفة عناصره تفاصيلها. وتشكّل البادية نحو نصف مساحة سورية، وتتوزع إدارياً على محافظات عدة، هي: دير الزور، الرقة، حلب، حماة، حمص، ريف دمشق، السويداء. ويُعتقد أن للتنظيم نحو ألف مسلح في البادية السورية يتمركزون في الجبال والهضاب ومنها جبل البشري وجبل العمور. وبحسب مصادر إعلامية، شنّ “داعش” في سورية خلال العام الماضي نحو 300 هجوم على المليشيات المدعومة من إيران، وعلى قوات النظام المخلوع، خصوصاً في محيط تدمر وبلدة السخنة. ورأى الباحث السياسي سعد الشارع، في حديث مع “العربي الجديد”، خفوت نشاط “داعش” في سورية والبادية تحديداً دليلاً واضحاً على أن النظام المخلوع “كان يقدم تسهيلات للتنظيم، أو على أقل تقدير لم يكن يمارس ضغطاً عسكرياً عليه”.

ومنذ تسلمها مقاليد الأمور في سورية، أرسلت الإدارة الجديدة تطمينات واضحة للمجتمع الدولي أنها ستحارب الإرهاب والتطرف بكل أشكاله، وهو ما سيشكل ضغطاً كبيراً على “داعش” في سورية وخصوصاً في البادية. وسبق لـ”هيئة تحرير الشام” التي تقع في القلب من الإدارة الجديدة في البلاد، أن خاضت قتالاً ضد “داعش” خلال سنوات الثورة.

ويعزو مدير مركز الشرق نيوز، فراس علاوي، في حديث مع “العربي الجديد”، تراجع نشاط التنظيم في سورية بعد سقوط نظام الأسد إلى وجود “تشديد” من الجانب العراقي على الحدود المشتركة مع سورية، مشيراً إلى أن طيران التحالف الدولي نفذ عشرات الهجمات على مواقع التنظيم منذ سقوط نظام الأسد. ولم يستبعد علاوي تنسيق النظام المخلوع مع التنظيم، معرباً عن اعتقاده بأن نظام الأسد المخلوع وإيران “كانا يستخدمان بعض قياديي التنظيم وعناصره لمصلحتهما منذ ظهوره في مسرح الأحداث السورية”.

“قسد” تفشل بتوظيف التنظيم

في السياق، تراجع نشاط خلايا “داعش” في ريف دير الزور الشرقي الخاضع لـ”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) منذ سقوط نظام الأسد، ولم يقم هذا التنظيم بشنّ عمليات واسعة أو بعمليات اغتيال كما كان يفعل خلال السنوات الماضية. إلا أن قائد “قسد”، مظلوم عبدي، حذّر بعد أيام قليلة من سقوط الأسد، من ظهور نشاط “داعش” في سورية للعلن بعدما كان مخفياً.

وكانت هذه القوات التي أسّسها التحالف الدولي في عام 2015 لمحاربة التنظيم، سيطرت على كامل المساحة التي كانت تحت سيطرة “داعش” في شمال شرقي سورية أو ما بات يُعرف بـ”شرقي الفرات” مطلع عام 2019 حين سيطرت على معقله الأخير وهو بلدة الباغوز بريف دير الزور. ولكن بقيت للتنظيم خلايا في المنطقة ظلّت تمارس نشاطاً متقطعاً ومحدوداً منذ ذلك. وفي مطلع عام 2022 هاجم التنظيم سجن الحسكة المركزي لتحرير سجناء له داخله، إلا أنه لم ينجح بسبب تدخل التحالف الدولي في حينه. ويُعتقد أن “قسد” تستخدم التنظيم وتعظّم من خطره لأسباب سياسية تتعلق بالأوضاع الجديدة في سورية، وسعيها للحصول على مكاسب تحت ذريعة محاربة الإرهاب. واتهم قائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع في تصريحات صحافية له قبل أيام، حزب العمال الكردستاني، بأنه يستغل قضية “داعش” في سورية لتحقيق مكاسب خاصة.

ويبدو أن “قسد” تحاول استخدام “داعش” في سورية ورقة ابتزاز سياسي للإدارة الجديدة، خصوصاً أنها تدرك أهمية هذا الملف للولايات المتحدة. وفي هذا الصدد، زعم إداري في هذه القوات قبل أيام في تصريحات لوكالة رويترز أن التنظيم “حاول تنفيذ هجومين على السجون في محاولة لإطلاق سراح أتباعه منذ إطاحة بشار الأسد من السلطة”. وأكد أن هذه القوات لن تسلّم سجوناً تحتجز بها منذ سنوات عدة قياديين وعناصر من تنظيم داعش، للإدارة الجديدة في دمشق، لافتاً إلى أن “التشارك مع الحكومة الجديدة لن يكون مقبولاً، حماية السجون مسؤولية التحالف الدولي وقوات سوريا الديمقراطية فقط”. ولا توجد أرقام رسمية عن عدد قياديي وعناصر التنظيم المحتجزين لدى “قسد”. كما لا توجد معلومات كافية عن عدد السجون وأماكن تموضعها في مناطق سيطرة القوات الكردية، بيد أن المرصد السوري لحقوق الإنسان قدّر في عام 2022 عدد سجناء التنظيم بنحو 12 ألف سجين من السوريين والأجانب.

العربي الجديد

——————————-

الكتابة بلا رقيب/ سومر شحادة

27 يناير 2025

قد تظهر فكرة غياب الرقيب التي أحدثها سقوط نظام الأسد مغرية وجذّابة. إلّا أنّها ليست جديدة تماماً في الكتابة السورية. مع أنّ الرقيب الذي فرضه نظام الأسد سقط مع أجهزته الأمنية، وصدّر سقوطه تساؤلاً عن شكل الكتابة السورية القادمة، لكن يظهر كما لو أنّ سقوط الرقيب يعني فئة من الكتّاب، وهم تعيسو الحظّ الذين استمرّوا بالكتابة والعيش في ظلّ نظام الأسد، من غير أن يضحّوا بشجاعة القول والتعبير ورصد تغيّرات الواقع السوري في عهد الدكتاتورية. وهذا الاحتكار بنزع الرقيب عن الداخل فقط ليس دقيقاً وغير نزيه.

ينبغي الاعتراف الآن – والنظام سقط – أنّ أحد الشروخ الكبيرة التي صنعها في الثقافة وبين البشر، سوريو الداخل والخارج. الحديث الذي تجنّبتُ الخوض فيه قبل السقوط. لكن يرصد المتابع كتابتين: إحداهما اهتمّت بالتحايل على الرقيب مع صدق المقولة، وأُخرى تحرّرت منه. المقال ليس مفاضلة بينهما. لكن معظم السردية السورية تراوح بين هاتين القوّتين: وجود الرقيب، أو غيابه.

مع ذلك، يمكن نقاشُ الكتابة السورية من زاوية حضور الرقيب. فالرقيب الذي كان موجوداً بالنسبة إلى من عاش في الداخل لم يمنع الكاتب من الالتصاق بالموضوع التصاقاً جعل الكتابة حتى عن شأن معقّد وشائك وصعب، مثل الحرب، مجرّد كتابة عن تفاصيل عاشها، من غير أن يضطرّ إلى افتعال المخيّلة التي قد ترفع نصّاً، وقد تقتل آخر. أمّا بالنسبة إلى من وجد نفسه، أو اضطرّ إلى أن يجد نفسه، خارج سلطة الرقيب، خارج بلده بسبب التهديد المباشر له، أو كان خروجاً كيفيّاً، فقد وجد نفسه على مسافة من موضوعه الأثير مع امتلاكه حريّة القول. إلّا أنّ وجود المسافة عن الموضوع، المكان، صنع اغتراباً عن موضوع الكتابة في الكثير من الحالات التي قرأناها، خصوصاً عندما تكون معادلات المكان متغيرة بالصورة التي كانت عليها في سورية. فالكثير من الكتابة التي تحرّرت من سلطة الرقيب، أصبحت تدور في بلدٍ افتراضي، موجود في ذهن الكاتب، وكأنّما سورية توقّفت عن النموّ بعد الأشهر الأُولى لعام 2011، وهذا ليس دقيقاً، وغير نزيه.

ثمّ أخال أنّ الرقيب لا يجب أن يلعب دوراً حاسماً في جودة نصّ أو إسفاف آخر. فجميع المقاربات تخضع لأصالة الكاتب نفسه. ولن يكون سقوط الرقيب شرطاً كافياً لبناء نصّ جّيد، بل أحياناً – وهذه مفارقة – قد يكون حضور الرقيب سبباً ليبحث الكاتب عن أساليب يُطوّر بها نصّه. وقد يكون تاريخ تطوّر الأدب في جزء منه ذلك النزاع الدائم الخفيّ بين الرقيب والكاتب. صراع يخوضه الكُتَّاب، لكن ليس محسوماً أن يُنتج نصّاً أفضل أو أسوأ، لأنّ الكتابة الجيدة لا تتأتّى من الموضوع ومن المقولة فقط، بل من المعالجة، من الأسلوب، من الطريقة، من الشكل.

مجدّداً، لا أكتب هذا المقال كي أسجّل نقطة لصالح أحد في المعسكرات السورية التي لا يعرف عنها الآخرون الكثير، بل كي أقول كلمات في هذا الشأن العصيّ الشاقّ الذي فُرض على الثقافة السورية عامّةً. وأظنّ في السياق عينه أنّ عموم الرواية السورية استمرّت روايةً شجاعة في شتى الظروف والأحوال، وقد كتبت بصورة مباشرة عن الديكتاتورية، وكتبت عن علاقات البشر في ظلّها.

ضمن البيئة المحطّمة التي صنعتها الشمولية أساساً، لم يكن بوسع المرء أن يترقب تطوّراً إيجابياً في ظرف شاذ قسّم أهل البيت بالفعل، إلى داخل وخارج. مع ذلك، من اهتمّ بالكتابة خلال السنوات الفائتة، لم يكن مهتمّاً إن كان يكتب تحت تهديد الاعتقال أو القتل، أو إن كان متغرّباً عن الموضوع، لأنّ الواقع انفجر بالجميع. والتمايز في النهاية كان محض أسلوبي بين كاتب وآخر، نراقبه، وجميعنا يأمل ألّا تتكرّر حكاية الرقابة السورية التي طوّقت العقل وحاصرت الضمير، وفصمت الكتّاب عن كتابتاهم، وأخيراً، فصمت الكتابة نفسها.

* روائي من سورية

العربي الجديد

—————————-

موسم العراضات في دمشق/ بشير البكر

الإثنين 2025/01/27

العراضة طقس دمشقي خاص، له ما يماثله في المدن والأرياف السورية، وغير السورية، حينما يتعلق الأمر بالاحتفال بمناسبة كالعرس، أو استقبال عائد من سفر إلى مكان بعيد، أو رحلة ذات طابع ديني كالحج إلى بيت الله الحرام. ومثل أي مظهر احتفالي تطور من الحال العفوي إلى فن مشهدي للاستعراض، كي يتماشى مع تحولات الفضاء العام، لكنه بقي حرفة، تؤديها عدة فرق معروفة بأسعار تختلف، وفقاً للمناسبة والشخصية والزمان والمكان. تكاليف إحياء عرس أعلى من استقبال الحاج العائد من مكة، أو طهور الصبي. واللافت أن الحداثة، التي عرفتها مدينة دمشق لم تقوض هذا الفولكلور الشعبي، أو تحد منه بوصفه من مظاهر العادات والتقاليد، التي تعكس فولكلور أهل الشام، وقابليتهم على تطويع الطقوس والعادات ضمن علاقة جدلية تزاوج بين الفن والاقتصاد والموروث الشعبي، الذي يشكل أحد مظاهر جماليات دمشق ومنطقة بلاد الشام ذات التنوع الكبير. 

شهد مطار دمشق في الآونة الأخيرة عراضات عديدة لاستقبال عدد من الشخصيات العائدة إلى سوريا، بعد أعوام من الغياب، بسبب ظروف التهجير، التي حلت بالشعب السوري على يد النظام وحلفائه الإيرانيين والروس والميليشيات الطائفية العابرة للحدود. وخلقت العراضات جواً من الفرح والبهجة بالتحول الجديد، ولكن بعضها أثار انتقادات، وتحدث عدد من رواد وسائل التواصل عن خروج بعض الاستقبالات عن الطابع العفوي إلى ترتيبات مسبقة، تقوم بها جهات مختصة بتنظيم الأفراح والأتراح، وأن بعض ما حصل كان مدفوع الثمن ومدروس ومخطط له من من لحظة النزول من الطائرة الى صالة الشرف في المطار، ومن ثم الانتقال الى الفندق، ومن بعد ذلك إلى مقهى الروضة، من أجل التقاط الصور من حول المناسف ولحم الخرفان.

لا يوجد ما يعيب في تنظيم عراضات في المطار لبعض العائدين، طالما أن الاحتفالات قائمة في الساحات والأماكن العامة، وهناك جهات مدنية تطوعت لاستقبال العائدين، وقدمت لهم الزهور. لكن هناك من تناول بالنقد حالة من المبالغة والبذخ رافقت عودة بعض الشخصيات الفنية بعينها، في حين أن آخرين لا يقلون عنهم موهبة ومرتبة لم يحظوا بذلك. وصل بعض هؤلاء إلى البلد من دون ضجيج، وغلبت على تصرفاتهم مراعاة الوضع العام في بلد لا يحتمل المبالغة، بسبب ما يعانيه من فقر ودمار. وكان الناس ينتظرون من هذه الشخصيات أن تقوم بمبادرات ذات طابع مختلف، كزيارة أهالي الضحايا والمغيبين قسريا ومناطق الدمار في محيط العاصمة في داريا ودوما وجوبر ومخيم اليرموك، بعد الانتهاء من التقاط الصور في مقهى الروضة، ولكن هؤلاء عادوا أدراجهم إلى أماكن سكنهم في الخارج، أو إلى أماكن تصوير المسلسلات الفنية في دول الخليج. وبقيت صورهم تتداولها وسائل التواصل، في مقابل صور أخرى لحملات تطوعية يقوم بها العشرات من أجل تنظيف حوض نهر بردى وبعض شوارع العاصمة وساحاتها وزراعة الورود والأشجار. وفي ذلك مقارنة صريحة بين حس استعراضي سطحي، ووعي مدني حريص على مشاركة السوريين الظروف الصعبة، التي يعيشونها وتخفيف جزء من معناتهم برفع آثار الدمار والقبح، التي تركها النظام البائد.

بخلاف بعض المستعرضين، هناك من دخل البلد وقام بجولات لبعض المناطق وكون صورة كاملة عن الوضع المأسوى، وشارك بعض أهالي الضحايا آلامهم، وغادر من دون أن يعرف أحد بوصوله أو مغادرته. لم يستأجر فريقاً من الهتيفة والطبالين كي يستقبله، أو يتصور في مقهى الروضة، وهو يتناول المنسف بلحم الخروف، أو يستجدي لقاء وصورة مع أحد مسؤولي الإدارة الجديدة. اكتفى هؤلاء بأن شاركوا السوريين اللحظة بكل ما تحمله من فرح وألم، وهذا هو المهم بالنسبة لهم، ومثل هؤلاء كثيرون يتابعون بصمت من الخارج وينتظرون اللحظة المناسبة، كي يزورا البلد.

هناك من قال، إن الناس كانت تأمل بأن ترى من بين الذين يحطون في مطار دمشق أو يعودون إلى سوريا عبر الحدود من لبنان او تركيا، من يرفع صورة أحد الذين حلموا بحرية سوريا، وعاشوا تجارب السجن والمنفى، في الوقت ذاته الذي يتم فيه التطبيل والتزمير لبعض العائدين. على قدر الفرح بالخلاص ثمة غصة أن شخصيات مثل رياض الترك، ميشيل كيلو، حكم البابا، مي سكاف، بسمة قضماني، لم يشهدوا مع السوريين هذا الفرح التاريخي، الذي هرمت عدة أجيال سورية بانتظار حصوله.

المدن

——————————-

هل ينجو العلويون من محرقة “الأسدية”؟/ سميرة المسالمة

الإثنين 2025/01/27

بعض التسامح خير من بعض الظلم، لكن في كليهما يمكن القول إن وراء الأكمة ما وراءها. وعلى السواء، إذا كانت الإدارة الجديدة في سوريا تريد أن تبعث برسائل مختلفة إلى المجتمع السوري عن تلك التي تصل إلى المجتمع الدولي، فإن تلك الرسائل بعد انقضاء شهر العسل “الانتصاري” صارت في الداخل ذات وجهين أو تفسيرين، يغيّب أحدهما الآخر، حتى كاد بعض السوريين يختلط عليه الخط، وتتداخل كلمات الرسائل لتصبح مبهمة، وأيضاً لها معان متعددة.

فبينما تغيب الرؤية الشاملة للإدارة الجديدة حول تفاصيل الحاضر قبل المستقبل، يجد السوريون أنفسهم يجمعون شتاتاً من هذا اللقاء وتلك الزيارة، ما يعني حتى اللحظة أننا أمام متاهة، عنوانها الكبير تصريحات مطمئنة ومتوازنة وأحياناً حالمة لقائد إدارة العمليات أحمد الشرع، ووزير الخارجية أسعد الشيباني، بينما عند الدخول في أزقة الوضع السوري، والآليات التنفيذية لتلك النوايا -إن صح القول- فإننا نواجه ضبابية، قد تكون مقصودة، ربما غايتها إفساح المجال أمام تشكيل نموذج الدولة التي لم تتبلور رؤيتها بعد، أو تدجين الشعب على القبول بأمر واقع، لا أساس دستورياً له حتى اليوم، أي القبول بغياب الإعلان الدستوري الذي “يمأسس” الحراك الحكومي.

خطاب التسامح على سبيل المثال، الذي قدمته الإدارة الجديدة كان خطوة إيجابية وضرورية في مسار إعادة بناء البلاد، لكنه وفي كل وقت ومكان، بحاجة إلى أن يُرافق بخطوات واضحة تعزز تنفيذه على أرض الواقع، ومنه إرادة تحقيق العدالة الانتقالية. فالعفو عن المرتكبين، وإن كان أداة لتحقيق التهدئة، يجب أن يكون مشروطاً بآليات تتيح للضحايا اللجوء إلى المحاكمات، بل إلزامهم أن تكون هذه وجهتهم الوحيدة لأخذ حقوقهم، ما يضمن لهم الشعور بالإنصاف ويمنح المجتمع فترة هدوء نسبياَ، ويتماشى مع عملية البناء المؤسساتي لدولة تقوم على أنقاض حرب 13عاماً.

هذا النهج، من المفترض أنه لا يقتصر على تحقيق العدالة فحسب، بل يسهم أيضًا في تقليص التعاطف الطائفي مع مرتكبي الجرائم من أبناء طائفتهم، ويحد من الانقسامات التي قد تتفاقم عند الشعور بأن العدالة قد تم تجاوزها. كما أن التغاضي عن الأفعال الانتقامية التي قد يقوم بها الضحايا أو ذووهم في الاشتباكات المباشرة بين الأطراف، من شأنه أن يفتح الباب أمام تصعيد العنف بشكل غير مبرر. وهذه الأفعال قد تؤدي إلى سقوط ضحايا غير مستهدفين أو غير مدانين من قبل الجهات الأمنية، مما يزيد من حدة التوترات، كما أن المجرمين قد يستغلون هذه الفوضى للتخفي وراء أهاليهم كدروع بشرية، مما يساهم في تصعيد الوضع ويجلب تعاطفًا دوليًا وحقوقيًا مع هؤلاء الأفراد. لذا، التمهل في المحاسبة وليس تجاهلها، هو ضرورة حتى تتمكن الدولة من استعادة قدرتها القضائية والأمنية بشكل أكثر فعالية وعدالة.

ومن المهم الإشارة إلى أن التجاوزات الفردية، أو حتى التعامل غير المدروس أبعاده من قبل الجهات الأمنية ذاتها، والتي تحدث أحياناً على أساس طائفي، قد تكون ذلك “الحجر” الذي يعكر صفو النهر الكبير، وقد يحول مجراه إلى غير مصبه في العملية السلمية المرتجاة، لأن هذا النوع من التجاوزات يمكن أن يهدد استقرار المجتمع، ويؤدي إلى تقسيمه بشكل أكثر عمقاً من التقسيم السياسي أو السلطوي.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن السوريين يتفهمون أن الإدارة الجديدة لا تزال في طور التشكل وفهم الواقع السوري، بكل ما يحمله من مآس قد يصعب علاجها في أشهر وربما سنوات، لكن من المفيد التنويه مراراً، إلى أن الصمت على أخطاء الواقع الحالي، سواء كانت نابعة عن أيديولوجية من ارتكبها، أو نتيجة رد فعل على اعتداءات ممنهجة من قبل فلول النظام لاستدراج السوريين إلى حرب طائفية، قد يعيق الهدف الكبير في بناء الاستقرار المجتمعي. وهذا لا ينفي القلق الحكومي والشعبي المشروع من وجود متربصين داخل وخارج البلاد، يستغلون أي فرصة لزيادة الانقسامات الطائفية وتهديد استقرار المجتمع. فهؤلاء المتربصون يسعون إلى إضعاف أي محاولة لبناء مصالحة حقيقية، مستفيدين من أي ضعف في الحكم أو غياب للعدالة أو إرادتها.

لذا، فإن الانسجام بين القول والفعل يصبح ضرورة ملحة، حيث يجب أن يتبع الخطاب الذي يدعو إلى التسامح والمصالحة، أفعالا ملموسة تترجم إلى واقع، فالتسامح وحده لا يكفي، بل يجب أن يُترجم إلى سياسات عملية تضمن المساواة والعدالة للجميع، من دون تمييز أو محاباة. وهنا لا بد من المصارحة حول المكون العلوي، الذي استجره نظام الأسد المخلوع، ليكون وقوداً لمحرقته في الحكم، وعدم الوعي لهذا الأمر، بتحييد الطائفة كمكون بعيداً عن السلطة المجرمة كجهة مدانة، قد يأخذنا إلى فوضى لا نهاية لها، وهذا ما يمكن – في ظل الظروف المعيشية الصعبة- استغلاله خارجياً وداخلياً من جهات معادية لاستقرار سوريا، لهذا فإن على عقلاء الإدارة والطائفة العلوية والمجتمع السوري بعمومه السعي لتجنيب العلويين الدخول في عباءة الأسدية المجرمة.

ولهذا، المطالبة بتحقيق العدالة الانتقالية أساس لأي مصالحة مجتمعية. لكن في ظل غياب العمل المؤسساتي الأمني والشرطي، فإن ذلك يمثل تحديًا كبيرًا. إذ إن المؤسسات الأمنية تعد ركيزة أساسية لضمان الأمن والاستقرار، وحماية الضحايا والشهود، وتنفيذ الأحكام القضائية، ومنع تكرار الانتهاكات. حيث لا يمكن الفصل بين تحقيق العدالة، وتأمين بيئة آمنة تدعم المصالحة، وتضمن عدم العودة إلى دائرة العنف والانتهاكات، التي يحاول فلول النظام استجرار السوريين إليها، لتعطيل بناء الدولة ومنع استعادة السلم الأهلي. فهل تقطع الإدارة الجديدة على هؤلاء الطريق بمد يدها للمجتمع المدني والاستفادة من خبراته لحمل هذا العبء معها؟

ولعل أهم ما يفترض إدراكه هنا، في الوعي والممارسة السياسيين، إن الحديث عن العدالة الانتقالية ليس حديثًا في البعد القانوني فقط، بل إنه حديث في البعد الأخلاقي والقيمي، كما أنه حديث في السياسة أيضًا، لأنه من دون هذين البعدين ستبقى العدالة الانتقالية شيئًا ناقصًا، في حين يفترض تحصينها وتوظيفها في بناء اجماعات وطنية للسوريين، ومصالحات مجتمعية تنفض عنها رماد الجمر الطائفي القابل للاشتعال بعود “الأسدية المجرمة” أو أزلامها.

المدن

————————

فرج بيرقدار عن هندسة الموت: شكّلت العلاقات بين السوريين/ نوار جبور

الإثنين 2025/01/27

أقامت مؤسسة لقمان سليم ومنتدى الشرق الأوسط للشؤون السجنية، في سياق النشاطات الموازية للحدث السوري، لقاءً تناول موضوع الاغتيال السياسي ودور العنف القائم على هذا النوع من التصفية الجسدية كأداة لتحقيق أهداف سياسية. كان ضيف الملتقى، الكاتب والشاعر السوري فرج بيرقدار، وأدار الجلسة المُحامي فاروق المُغربي. وقدم بيرقدار رؤى حول تأثير الاغتيالات السياسية في المجتمعات وقيم الحرية والعدالة. وركز النقاش على العلاقة بين السلطة والعنف في توظيف الاغتيال كوسيلة لتكريس الهيمنة وتصفية المعارضين.

تناول بيرقدار آليات العنف السياسي، مسلطًا الضوء على الاغتيال بوصفه ظاهرة تاريخية وتحولات الأنساق العنفية. أشار إلى انتقال العنف السياسي من كونه اغتيالًا ممنهجًا ومقروءًا سياسيًا يُدار كجزء من إدارة الصراع، إلى عنف قائم على وجود سلطة قاتلة، حيث يصبح الموت وسيلة عقوبة جماعية تطال المجتمع بأسره. كما استعرض الجرأة المتزايدة في الاغتيال عبر الحدود، مع الحفاظ على الأطر العنيفة الميليشياوية التي ترافق العنف العسكري المؤسساتي. وأوضح تقسيمات العنف الداخلي والخارجي، حيث يُمارَس داخليًا ضد المعارضين، وخارجيًا عبر اغتيالات تستهدف مفكرين وساسة ونشطاء في دول مثل فرنسا ولبنان. كما تناول توزيع أهداف العنف، الذي بدأ بإسكات النخب والساسة، وصولًا إلى محاولات إسكات المجتمع بأسره عبر أدوات الردع والترهيب.

غطى فرج بيرقدار، استنادًا إلى معطيات أساسية، ملامح المرحلة السياسية التي شهدت تبني شكل خفي من العنف في الاغتيالات خلال الخمسينيات والستينيات، مستهدفًا النخب السياسية اليسارية والقومية. أشار إلى كيف دفع هذا النوع من العنف المجتمع إلى الابتعاد عن الفاعلين السياسيين، ليتم تمسرح العنف فيهم وتحويله إلى رسالة تحذيرية موجهة للمجتمع بأكمله. استشهد بيرقدار بالمرحلة الناصرية، مشيرًا إلى اغتيال فرج الله الحلو كأحد الأمثلة البارزة، وواصل المقارنة بالسبعينيات والثمانينيات التي شهدت الحملة الكبرى ضد النخب والعاملين في السياسة اليسارية. خلال هذه الفترة، انتقل العنف إلى مستويات غير مسبوقة، مستهدفًا النخب داخل السجون وخارجها، بطرق شملت القتل السياسي المباشر، والتصفيات داخل المعتقلات، والنفي والطرد القسري للمعارضين السياسيين. كما أشار بيرقدار إلى أن هذه الحملة في الثمانينيات حملت طابعًا أكثر شراسة وارتباطًا بأساليب العنف الميليشيوية، التي هدفت إلى إحكام السيطرة التامة على المجال السياسي وإخضاع المجتمع لترهيب جماعي.

تتوالى الشخصيات التي ذكرها فرج بيرقدار في حديثه، مستخدمًا أسلوبًا قائمًا على استحضار الأمثلة لشخصيات تحمل دلالات سياسية واجتماعية مختلفة. أوضح كيف يمكن للشخص أن يمثل تياراً سياسياً وبُعداً اجتماعياً ورمزياً في لحظات تاريخية متباينة. كما تناول مفهوم التصفية الرمزية، حيث لم تعد الشخصيات المستهدفة تمثل قيمة سياسية فقط، بل أصبحت تعبيرًا عن مرحلة سياسية تتسم بالعنف المنهجي والدلالي الموجه في وجه المجتمع بأسره. وأشار إلى أن هذا العنف يتجاوز مجرد القتل الجسدي، ليصبح أداة لترسيخ رسائل ردعية جماعية تهدف إلى إخماد أي تحركات معارضة، وإعادة تشكيل المجال الاجتماعي والسياسي وفقًا لهيمنة النظام. استعرض بيرقدار كيف تغيرت دلالات القتل والعنف الموجه مع تطور واستقرار نظام الأسد، حيث تحول العنف إلى وسيلة لإعادة هندسة العلاقة بين السلطة والمجتمع، بما يعزز من استدامة السلطة عبر القمع الرمزي والمادي.

يشرح بيرقدار تقنيات الاغتيال التي أسسها النظام السوري، مبرزًا كيف تجاوزت عمليات القتل إطارها المباشر أو المعنوي. أشار إلى أن النظام، في عهد حافظ الأسد، تبنى نهجًا يعتمد على استسهال اللعب بحياة معارضيه كاستعراض للعنف وتوكيد له كعلاقة، مما أدى إلى استخدام أساليب تتسم باللامبالاة والقسوة اللامتناهية. استعرض بيرقدار أمثلة لشخصيات قُتلت بطرق تتراوح بين التغافل المتعمد عن إعطاء الدواء للمرضى، وترك المعتقلين يموتون تحت كرسي التعذيب دون أي معالجة، وصولًا إلى عمليات قتل غامضة تخفي خلفها نوايا ممنهجة.

وتناول فكرة التداخل الاصطلاحي بين القتل والاغتيال، موضحًا كيف أدى ذلك إلى طمس الحدود بين الأشكال المختلفة للعنف الموجه، بحيث أصبح من الصعب التفريق بين القتل العشوائي، القتل المنظم، والاغتيالات الرمزية. وأشار إلى أن هذه العمليات كانت جزءًا من هندسة قمعية للموت في سوريا، حيث طُورت استراتيجيات متنوعة تهدف إلى إدارة حياة وموت الأفراد بما يخدم تثبيت السلطة.

وأكد أن هذه الاستراتيجيات تنقسم إلى نوعين: الأعمال القصدية التي تُنفذ بعناية لإرسال رسائل محددة، مثل ترك شخصيات معينة تموت ببطء تحت التعذيب أو في السجون كرمز لقمع المعارضة، والنتائج العرضية التي تنتج عن استرخاص حياة البشر، حيث يُقتل الناس نتيجة قرارات عشوائية أو إهمال متعمد من دون أي اعتبار لإنسانيتهم. هذه الاستراتيجيات، وفقًا لبيرقدار، لم تقتصر على إخضاع الأفراد، بل عملت على تطويع المجتمع بأسره من خلال تحويل القتل إلى رسالة شاملة مفادها أن حياة الجميع تحت رحمة النظام.

تحدث بيرقدار عن التحولات الكبرى التي تصاعدت مع بشار الأسد، حيث أصبحت عمليات القتل أكثر وضوحًا وشمولية. أوضح أن القتل لم يعد موجهًا فقط نحو الأفراد أو النخب، بل تحول إلى استهداف للمجتمع بأسره وللأرض، مما يعني أن الاغتيال بلغ أقصى ما يمكن أن يكون عليه، بوصفه إنهاءً للآخر بشكل كامل. وأشار إلى أن النظام الأسدي دفع بفكرة القتل المستدام إلى منتهاها، حيث لم يعد القتل مجرد وسيلة لتحقيق غاية سياسية أو عسكرية مؤقتة، بل تحول إلى عملية مستمرة ومنهجية تستهدف إدامة الخوف والسيطرة.

في هذا السياق، تطورت فكرة القتل لتتجاوز البعد الفردي أو المؤسساتي التقليدي، حيث أصبحت المؤسسة نفسها أداة قتل مستدامة تعمل دون توقف، مدفوعة بسياسات موجهة لإعادة تشكيل المجتمع وفق مقاييس السلطة. هذه السياسات لم تؤثر فقط في الأفراد، بل امتدت لتشمل البنية الأنثروبولوجية للمجتمع السوري، حيث أعادت هذه الاستراتيجيات تشكيل علاقة الناس ببعضهم البعض وعلاقتهم بالأمكنة. ضرب بيرقدار مثالاً على ذلك بأزمة النزوح، التي لم تكن مجرد حركة جماعية من مكان إلى آخر، بل أزمة وجودية تعيد تعريف علاقة البشر بالمساحات التي عاشوا فيها، وتُنتج شعورًا بانقطاع الارتباط بالمكان والانتماء.

في ختام اللقاء أشارت هناء جابر، المديرة التنفيذية لمؤسسة لقمان سليم، لـ”المدن”: أنهُ في إطار المؤسسة الدائمة في توثيق الاغتيالات السياسية في المنطقة، دفعنا سقوط النظام السوري إلى طرح هذه المسألة كجزء من ضرورة البحث المُعمق في موضوع الاغتيال السوري بعيداً من الخوف الذي كان يبثه النظام السوري بين الباحثين وحتى بين المستمعين وهم كثر لمعرفة تاريخ أدق لجرائم النظام السوري، خاصة أنه يتم تغطية الكثير من الشهادات رغم كثرتها، لكن تفكيك السرديات ودراسة أنماط القتل والاغتيال تضيف للمركز وللفضاء للعام أبعاد باتت ضرورية لتفكيك سرديات الاستبداد والقتل، على أمل أن يساهم التوثيق والبحث في شأن العنف الذي مورس في سوريا، بشقيه السياسي والقانوني،  في تخفيف وطأة العنف المجتمعي وملاحقة المرتبكين وبث الوعي في أهمية العدالة الانتقالية.

المدن

————————-

استعصاء ملف قسد.. هل يتكرر السيناريو الليبي في سوريا؟/ فراس فحام

الإثنين 2025/01/27

تستعد الإدارة السورية لإجراء جولة جديدة من المفاوضات مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، بعد أن فشلت الجولة الأولى ولم ينتج عنها أبعد من كسر الجليد بين الطرفين، ودون حدوث أي تقدم يذكر.

من المتوقع أن تستمر “قسد” بالتمسك بسقف مطالبها الذي يتضمن الاعتراف بخصوصيتها العسكرية والإدارية، وبالتالي فإن اعترافها بالإدارة السورية المركزية هو أشبه بالرمزي حيث تبقى هي المتحكمة بالميدان والإدارة.

مناورة التفاوض مع دمشق

تشير المعطيات إلى أن “قسد” تستخدم التفاوض مع إدارة دمشق لكسب المزيد من الوقت، على أقل تقدير حتى تتضح سياسة الإدارة الأميركية الجديدة في سوريا، حيث تتحرك على أرض الواقع بصورة لا توحي بأنها جاهزة للاندماج ضمن الإدارة الجديدة، بل تبحث عن غطاء من دمشق يتيح لها الاستمرار، وفي الوقت ذاته ينزع الذرائع التركية التي تستخدمها أنقرة لاستمرار التصعيد.

وتفيد المعلومات بأن “قسد” مستمرة بتلقي الدعم العسكري من فصائل الحشد الشعبي العراقي وعلى رأسها كتائب حزب الله العراقي، وهذا يتيح لها شريان تسليح مهم خاصة فيما يتعلق بالطائرات المسيرة، كما أنها فتحت المجال أمام تدفق عناصر وضباط يتبعون للنظام السوري السابق إلى مناطقها، والعشرات منهم يشتركون في المواجهات الحالية التي تدور قرب سد تشرين شرق حلب.

ولا ترغب “قسد” بإبداء أي التزام أمام الإدارة السورية دون تعهد من الأخيرة بأن تعمل على انسحاب القوات التركية من بعض مناطق شمال شرق سوريا، مع إيقاف الهجمات الجوية التركية، وهذا يعكس حرصها على التعامل مع المنطقة على أنها حيز جغرافي خاص بها.

تصعيد واسع

ومن الواضح أن الإدارة السورية تتجنب الدخول في تصعيد واسع مع تنظيم “قسد”، إذ تشير المعلومات التي رشحت عن الإدارة إلى إعطاء أولوية للحل السياسي، وهي تعول على فتح قنوات تواصل مع المكونات العربية شمال شرق سوريا، وخاصة تلك المنخرطة ضمن تشكيل “قسد” مثل قوات الصناديد، على أمل التضييق على المكون الكردي ضمن “قسد”، ودون أن تضطر الإدارة إلى الدخول في توتر مع الولايات المتحدة التي لا تزال تحتفظ بقواعد لها في دير الزور والحسكة.

واستطاعت القوات التابعة للإدارة السورية خلال الأسابيع الماضية، التوسع في بعض مناطق شمال شرق سوريا مثل مدينة دير الزور وريف الرقة، لكن هذا التوسع يتم دون صدام مع “قسد”، وبالتنسيق مع قوات التحالف الدولي التي تخشى من ظهور تنظيم “داعش” مجدداً بسبب الفراغ الأمني.

السيناريو الليبي في سوريا

يسود الشارع السوري قلق من تكرار السيناريو الليبي في سوريا، والذي يتضمن استمرار تقاسم مناطق السيطرة بين أطراف مختلفة، حيث تبقى العاصمة ومناطق الساحل بيد السلطة، في حين تحتفظ “قسد” بالمنطقة الغنية بالطاقة في ظل إشراف دولي.

واستفاد الجنرال الليبي خليفة حفتر الذي تسيطر قواته القبلية على شرق ليبيا من المظلومية التاريخية لإقليم برقة، واتهام طرابلس بالاستئثار بالسلطة والمناطق الحكومية، وهو ما يشبه المظلومية التي يحملها المكون الكردي في سوريا الذي تعرض لممارسات قمعية وعنصرية بالفعل من نظام الأسد وحزب البعث، واستفاد لاحقاً من الدعم الأميركي لمحاربة “داعش” من أجل بلورة تشكيل عسكري وإداري واضح شمال شرق سوريا.

وتمتلك “قسد” علاقات مع إيران المتنفذة بالعراق، وتؤكد التقارير التركية المتواترة تلقي التنظيم لتسليح من الحرس الثوري الإيراني، ومؤخراً يدور الحديث عن دعم استخبارات وسياسي فرنسي لـ”قسد”، كما أن إسرائيل باتت تجاهر بعلاقتها مع التنظيم، وتسعى تل أبيب لاستغلال نفوذها لدى الولايات المتحدة لدفعها للإبقاء على قواتها، وبالتالي فإن خيارات “قسد” السياسية متعددة ولا تقتصر فقط على الغطاء الأميركي الذي بات محل شك بعد عودة ترامب إلى البيت الأبيض.

ثمة فارقاً جوهرياً بين شرق ليبيا وشمال شرق سوريا، وهو وجود مكونات عرقية متعددة شمال شرق سوريا، وحالة توجس كبيرة لدى المكون العربي من وحدات الحماية الكردية التي تستحوذ على قرار “قسد”، وهذا ما يجعل خيار انحسار سيطرة الوحدات أمراً محتملاً دائماً حتى وإن حافظت على بقائها بغطاء دولي، بحيث يقتصر وجودها على المناطق الكردية مثل بعض مناطق محافظة الحسكة.

المدن

—————————

تحديات تطبيق العدالة الانتقالية في سوريا/ عمر كوش

27/1/2025

سقط نظام الأسد بشكل دراماتيكي وانهار سريعًا في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وكان مهمًا أن السوريين هم من أسقطوه بعد أن تحملوا وصبروا سنين طويلة، وبات مطلوبًا من الإدارة الجديدة تشييد مرحلة جديدة، تختلف فيها صورة سوريا المستقبل عن سابقتها الكارثية والمأساوية، وأن تلبي استحقاقات عديدة، داخلية وخارجية، عبر مرحلة انتقالية، يتم فيها تقديم خطط عملية وسريعة، يمكنها أن تؤسس لحوكمة رشيدة، وتعمل على تنفيذها حكومة انتقالية واسعة التمثيل المجتمعي والسياسي، وبما يمهّد لإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية حرة ونزيهة، تتيح المجال للسوريين لتشكيل مستقبلهم.

أهمية العدالة الانتقالية

من بين الاستحقاقات، المطلوبة في المرحلة الانتقالية في سوريا، العمل على تحقيق الوئام المجتمعي، الذي لا يمكن الوصول إليه إلا بتحقيق العدالة الانتقالية، بوصفها الهدف الأساس للثورة، وقضية هامة في الطريق إلى بناء سوريا الجديدة، كونها تنظر في كيفية وطريقة معالجة الانتهاكات والجرائم التي ارتكبت بحق الشعب السوري خلال أكثر من خمسة عقود من نظام الاستبداد والتسلط، ومعالجة مخلفاته على كافة الأصعدة.

لذا فمن الأهمية بمكان أن تكون العدالة الانتقالية شاملة، وتركز على محاسبة المسؤولين عن الجرائم التي ارتكبوها، وخاصة أركان نظام الأسد، سواء كانوا عسكريين أم سياسيين.

وعلى هذا الأساس يمكن إدراج تأكيد القائد العام للإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع، في 10 ديسمبر/كانون الأول الماضي، على ضرورة ملاحقة مجرمي الحرب، والمطالبة بتسليمهم “من الدول التي فروا إليها، حتى ينالوا جزاءهم العادل”.

تأتي أهمية العدالة الانتقالية في تبيان حقيقة ما حدث من انتهاكات، وإثباتها بأدلة قاطعة، والاعتراف بمعاناة الضحايا وآلامهم، ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات قانونيًا، وجبر الضرر، وما يقتضيه من تعويض ذوي الضحايا، ووضع أسس وقوانين تفضي إلى منع الانتهاكات في المرحلة الانتقالية والمستقبل. فضلًا عن أنها الطريق لإنجاز المصالحة المجتمعية وتضميد الجروح الاجتماعية.

كما تستمد أهمية خاصة من إسهامها في إعادة الثقة بين مكونات المجتمع السوري، ومن كونها تمثل حجر أساس في أية عملية انتقالية، يفترض أن تنتهي في نهاية المطاف بالمصالحة الوطنية، لأن الصيغة المثلى لمعالجة آثار الاستبداد هي العمل على إجراء مصالحة وطنية، وذلك بعد وضع تشريعات وإيجاد آليات تعمل على تحقيق العدالة الاجتماعية الانتقالية، وفق آليات قانونية مدروسة، بعيدًا عن ممارسات الانتقام والإقصاء والاستئصال، وتوفير تشريعات وإجراءات كفيلة بإعادة بناء الهوية الوطنية السورية على أسس المواطنة والتعددية، وبما يتوافق مع المبادئ الدستورية.

ومهم في هذا السياق تشكيل محاكم خاصة من أجل محاكمة مسؤولي النظام السابق، وخاصة بشار الأسد، وكافة من ارتكبوا انتهاكات ومجازر بحق السوريين، وذلك إنصافًا للضحايا ولذويهم، ولكي يطمئن الناس إلى التغيير الحاصل، وإطفاء روح الثأر لديهم، وبالتالي تلوح في الأفق مهمّة أساسية أمام الإدارة الجديدة في سوريا للتعامل مع إرث طويل من القمع وانتهاكات حقوق الإنسان.

المسار والتحديات

ليس مسار العدالة الانتقالية قانونيًا أو إداريًا فحسب، بل هو عملية تحويلية تهدف إلى إعادة بناء الثقة في المؤسسات، وإرساء أسس عقد اجتماعي جديد بين السوريين. وهي عملية ليست سلسة، كونها تواجه تحدّيات كثيرة، على الصعيدين؛ العملي والسياسي، حيث تشكّل أعداد المتورطين في الانتهاكات تحدّيًا كبيرًا، ربما يتجاوز قدرة أي نظام قضائي على التعامل معه، خاصة أن الإدارة الجديدة تجد نفسها في مهمة صعبة حيال مواجهة مثل هذا الملف، كونها مضطرة إلى إعادة بناء مؤسساتها السياسية والقضائية من جديد.

العدالة الانتقالية تحمل في طياتها أيضًا تحديات محاكمة المتورّطين في العنف السياسي والعسكري، وبما يفضي إلى تحقيق العدالة وضمان الاستقرار في الوقت نفسه، الأمر الذي يعقد من عملية الانتقال السياسي.

وهناك تجارب عديدة للعدالة الانتقالية، وظهر أول تجسيداتها بعد الحرب العالمية الثانية، خاصة في محاكمات نورمبرغ التي استهدفت مجرمي الحرب النازيين، ثم أضحت العدالة الانتقالية في ثمانينيات القرن المنصرم مجالًا لمعالجة انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبتها الأنظمة الاستبدادية أو أثناء النزاعات والحروب.

وتجسدت خلال التحولات الديمقراطية في دول أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية، من أجل التعامل مع إرث النظم القمعية والتسلطية، التي مارست مختلف أشكال العنف السياسي المنهجي مع معارضيها.

ترتبط مسألة تحقيق العدالة الانتقالية بمدى نجاح الإدارة الجديدة في تحقيق انتقال سياسي واقتصادي، وتتطلب تحوّلًا يتوافق مع القيم والمبادئ القانونية، ويحترم حقوق الناس، ويهدف إلى تقليل العنف وعدم الاستقرار.

ويقتضي تحقيقها أن يحظى المتورطون في الجرائم والانتهاكات بمحاكمات عادلة، كي تشكل العدالة الانتقالية فرصة لمعالجة الماضي، ولرسم مستقبل جديد لسوريا، وضمان إعادة بناء المجتمع السوري الممزق بفعل عقود من الاستبداد والانقسام.

كما أن تطبيق العدالة الانتقالية يمثل تحديًا كبيرًا، بالنظر إلى تعقيدات الحرب التي شنها نظام الأسد على غالبية السوريين، حيث تعددت أطرافها، خاصة مع التدخلين الإيراني والروسي إلى جانب النظام، لذلك يجب مراعاة كافة الظروف السياسية والاجتماعية عند تطبيق أهداف العدالة الانتقالية، وبشكل يتلاءم تمامًا مع الواقع المتشابك والمعقد الذي عاشه السوريون.

ومن بين التحديات، الموازنة بين العدالة الإجرائية والموضوعية، والأولى تركز على ضبط آليات العمل بما يحقق العدالة، فيما الثانية تركز على المخرجات والنتائج. إذ لا بد من الالتزام بالأسس النظرية، والأخلاقية، والقانونية، والسياسية، والاجتماعية من أجل إنشاء محاكم محلية تحظى بدعم دولي، ولضمان عدم تسييس المحاكمات.

ويمكن للسوريين الاستفادة من الخبرات الدولية، والمساعدة الهادفة إلى تحقيق إجراءات عدالة، من خلال تدريب مراقبين سوريين وعرب لحقوق الإنسان الذين يمكنهم توثيق وتسجيل الشكاوى بطريقة منهجية.

المصالحة الوطنية

إذا كان غاية العدالة الانتقالية هي الوصول إلى الوئام المجتمعي والمصالحة الوطنية في سوريا، فإنها تتطلب تشكيل لجنة مستقلة في هذا المجال، يمكنها أن تضم ممثلين عن مؤسسات المجتمع المدني، وفاعلين اجتماعيين في الداخل، وجهات قانونية وحقوقية دولية، وذلك من أجل إيجاد نوع من الموازنة بين العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، بهدف خلق بيئة قانونية تسمح بتحقيق العدالة، وتعمل في نفس الوقت على ترسيخ دولة القانون التي يسعى إليها السوريون.

ولا شك في أن عملية المصالحة وجبر الضرر تقتضي نهجًا واسعًا، يشمل جميع الأطياف السياسية والاجتماعية ويتيح لها التعبير عن آرائها، وذلك عبر إيجاد منصات تفاعلية في داخل سوريا، وبما يسهم في بناء العملية الانتقالية وفق آليات تدعم الحوار الوطني.

ولا شك في أن المصالحة الوطنية تساند الهدف الرئيس للعدالة الانتقالية، بالنظر إلى أهميتها وحساسياتها في سوريا، وإسهامها في إعادة بناء الهوية الوطنية على أسس قانونية واجتماعية، خاصة أن المصالحة الوطنية هي أحد أهداف العدالة الانتقالية، لذلك تكتسي أهمية شديدة في بلد متعدد الإثنيات والطوائف مثل سوريا.

وهناك مؤشرات أولية واعدة، لكن التحدّي الرئيس لإدارة المرحلة الانتقالية فيها هو كيفية الوصول إلى سوريا التعددية المدنية، بوصفها الهدف الأساس للعدالة في سوريا.

كاتب وباحث سوري

الجزيرة

————————

دمشق.. دون فلاتر!/ ميساء زيدان

27/1/2025

كانت خفقات قلبي تسابق عجلات السيارة بكل جنون الشوق وحرقة اللوعة وتزاحم الذكريات.. إليها.. إلى سوريا.. إلى دمشق!!

لم تعد الدموع تسعفني وتطفئ لو للحظة نار لهفتي..!! وربما.. لتزاحم الصور في ذاكرتي التي باتت أشبه بالخيالات والأحلام.. ما عدت أملك طاقة كافية للبكاء..!!

كانت السيارة تنهب المسافات في صراع مرير مع الطرقات الوعرة (المصنفة كمعبدة).. والاهتزازات الناجمة عن هذا الصراع أشبه بهزات أرضية تغربلنا بإصرار، وكأنها تحاول أن تخلص ذاكرتنا من أوهامها وتعيدنا إلى ما ينتظرنا من واقع وحقيقة..!!

وبدأت تلوح معالم دمشق من بعيد.. بدت متشحة بسواد غريب.. حزينة جريحة كسيرة القلب بابتسامة خضراء صغيرة خجولة.. كأرملة شابة قهرها الفقد وجفف الألم عينيها.. وسرق الحياة من ملامحها..!!

لم أدرِ أكانت صدمة ما تراه العينان من مرارة المشاهد؟!.. أم ما يعتري القلب من فرح اللقاء والعودة؟!.. هذا أم ذاك هو ما كان يكتم أنفاسي ويطبق على صدري حد الاختناق.. الجمود؟!.. جمود كامل!!

كان سائق السيارة لا يتوقف عن تكرار عبارات التهليل للنصر والخلاص من الطاغية.. مع شرح مستفيض لما كان يعيشه الناس من ظلم واستعباد.. مرفقًا كل ذلك بوابل من الشتائم والأدعية بتمنّي الهلاك والعقاب للمجرم وكل أعوانه وزبانيته..

كل ما يقوله ويعيد تكراره على مدى ساعة ونصف كان أشبه “بهلاوس” من استيقظ من غيبوبة طويلة.. تخدير عام.. أو تخلص من قيد أطبق على فمه ويديه لسنين..!!

أما دمشق.. فكان أنينها رتيبًا مستمرًا.. يتعالى بعض الأحيان كلما انتقلنا من حي إلى آخر.. ليعود إلى رتابته المستمرة الموجعة..!!

حتى الأنين.. لم تكن دمشق تملك القوة الكافية لتجعله أقدر على التعبير عن أوجاعها.. القوة الكافية لجعله بكاء.. عويلًا.. صراخًا يصم آذانَ من جاؤوا ليحتفلوا بالنصر دون الالتفات لاستمرار النزف الغزير لجسد الضحية الممزق..!!

حاولت أن أحدد بالضبط ما يعتريني من أحاسيس ومشاعر.. علّي أستطيع التعامل معها والخلاص من هذا الجمود..

فرح.. انكسار..

لهفة.. صدمة..

أمل.. قهر..

غضب؟!

نعم.. غضب.. غضب أحرق روحي.. انفجر كقنبلة في قلبي.. فأحاله رمادًا غطى وجه دمشق بالكامل..!!

وانفجرت بالبكاء في لحظة تشبه زفرات الموت.. مرددة العبارات ذاتها.. وكأنه لم يبقَ في قاموسي اللغوي سواها..

الجبان..

الحقير..

الوضيع..

الله ينتقم منك!!

جئت محملة بكل المشاهد المتوقعة.. وبما جمعته ذاكرتي من فيديوهات ولقطات وصور.. آلاف إن لم أبالغ..!!

واثقة أنني أعرف تمامًا.. أدرك تمامًا حجم الألم والوجع والدمار..

كنت جاهزة.. هكذا ظننت.. جاهزة لهذا اللقاء بكل ما يحمله من قسوة الواقع.. خدرت ذاكرتي وأخفيت كل صور الماضي في ركن بعيد منها.. واقتنعت أنني سأواجه مواجهة العارف..

لكن المشهد كان أكثر رعبًا.. أعظم قهرًا.. أقسى كسرًا لروحي وقلبي..!!

دمشق في كل ركن.. كل شارع.. كل حارة..

وريفها.. المعضمية.. جرمانا.. زملكا..

وداريا..

وجوبر..!!

مخيم اليرموك.. المكان الذي يجعلك ترى غزة تحت القصف في مشهد موت قاسٍ ماثل أمامك..

هذا المجرم القاتل الذي استحل دماء شعبه.. لم يكتفِ بانتهاك الأرواح والأعراض والأجساد.. بل مارس كل ما يمكن أن يصنف انتهاكًا في حق الأرض.. والحجر.. والشجر..

الماضي.. والحاضر.. التاريخ والواقع والمستقبل..!

هذا الخائن.. لم يكتفِ بالمتاجرة بالقضية الفلسطينية باسم الممانعة المزيفة.. فاستباح الدم الفلسطيني في سوريا..

ولو اكتفيت بدمشق.. ولم يكن لهذا النظام القاتل من جرم في حق الشعب السوري سوى ما آلت إليه دمشق جراء الإهمال والتدمير والاستغلال والفساد لوجبت أن تقوم ضد هذا المجرم مئة ثورة!!

دمشق التي باتت أشبه بمقبرة السيارات والمركبات الفاسدة التي يفترض أنها (في الدول التي تحترم مواطنيها) أحيلت إلى المكابس للإعدام..!! تنفث غازاتها السامة في فوضى قاتلة عارمة تحيل السير في الطرقات بكل أشكاله إلى مقامرة بين الحياة والموت..!!

دمشق التي صارت كمكب نفايات كبير ضخم عشوائي..

التشوه في كل مجال من مجالات تقيّم وفقها الحياة في أي مدينة يجعلك عاجزًا عن أن تجد لها تصنيفًا..

حتى معالم المدينة الشهيرة سلبها الإهمال ونقص الرعاية وغياب الرقابة كل جمالها وألقها.. كسوق الحميدية.. وسوق مدحت باشا.. البزورية.. المسجد الأموي.. قهوة النوفرة ووضعها المزري المخزي جدًا.. الحريقة.. ساحة المرجة وحالها الذي يدمي القلب.. محطة الحجاز.. الجسر الأبيض.. الصالحية.. وشارع الحمراء..!!

جامعة دمشق في البرامكة التي اختفت تقريبًا خلف ما يشبه الورم السرطاني من البسطات العشوائية بمظهر فظيع لا يستطيع العقل استيعابه..!!

المدينة الجامعية والسكن الطلابي الأشبه بمعتقلات تخلو من كل المعايير الإنسانية والأخلاقية التي تحترم قيمة وكرامة الإنسان..!!

دمشق بجرحها الكبير.. وسوريا بكل أوجاعها وجراحاتها النازفة تمد الآن يديها إلينا.. تنادينا جميعًا لنضمد جراحها ونعالج آلامها وأوجاعها..

الثورة استعادت سوريا من مغتصبها.. ونحن سنستعيد الوطن فيها.. البيت والحارة والضيعة والمدينة..

هذا أوان أن نترجم حب سوريا الذي كان مجرد شعارات اختزلتها بنسبتها إلى مجرم.. شعارات واهية نرددها صمًا دون أن تخفق بالحب قلوبنا.. إلى أفعال حقيقية وحرص وإيمان بهذا الحب..

الحب الذي يدفعنا لتنظيفها من المجرمين والقتلة وأعوانهم بالمحاسبة والقصاص العادلين..

الحب الذي يجعلنا نصر على تطهيرها من كل مظاهر الفساد والفاسدين المفسدين..

الحب الذي يدفعنا للعمل والإخلاص والتكاتف لنكون قوة واحدة في وجه من يتربصون بثورتنا وسوريتنا.. ويدًا واحدة في البناء والإعمار الذي لا بد أن يبدأ أولًا بإعادة بناء الإنسان السوري..

فشمروا عن سواعدكم.. سوريا تنادينا.

——————————-

علاقة إيران بـ”داعش” تهدد استقرار سوريا/ لينا الخطيب

تحاول طهران استغلال “براغماتية” التنظيم الإرهابي

آخر تحديث 27 يناير 2025

جلب سقوط نظام بشار الأسد في سوريا الأمل في توسيع الاستقرار بالشرق الأوسط. لأكثر من عقد من الزمن، كانت الحرب في سوريا مصدرا رئيسا لعدم الاستقرار، ليس فقط للدول المجاورة، ولكن أيضا على مستوى العالم. وفي صميم هذا الاضطراب كان تنظيم “داعش” الإرهابي، الذي برز في عام 2014 ليصبح الجماعة المتطرفة الأشهر عالميا، حيث نفّذ هجمات إرهابية على نطاق واسع. واليوم، يتجدد الأمل بأنه إذا تمكن القادة الجدد في سوريا من معالجة المظالم التي دفعت البعض للانضمام إلى “داعش”، وحكموا البلاد بعدالة، فإن نفوذ التنظيم سيضعف بشكل أكبر. ومع ذلك، هناك بُعد غالبا ما يُغفل عند الحديث عن بقاء “داعش”، وهو الدور الذي تلعبه إيران في دعم هذه الجماعة.

وفي خضم الهجوم الذي شنه المتمردون السوريون ضد نظام الأسد العام الماضي، حذر المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية إسماعيل بقائي في الثاني من ديسمبر/كانون الأول من أن التطورات في سوريا ستجلب عدم الاستقرار، مؤكدا أن “أي انعدام للأمن في سوريا لن يظل محصورا في ذلك البلد”. وبعد الإطاحة بالأسد، ألقى المرشد الإيراني علي خامنئي خطابا متلفزا في الثاني والعشرين من ديسمبر، شدد فيه على أن الشباب السوري “يجب أن يقفوا بحزم وعزم ضد المخططين والمنفذين لانعدام الأمن وأن ينتصروا عليهم”.

وبعد يومين، أثارت تلك التصريحات ردود فعل من وزير الخارجية السوري الحالي، أسعد حسن الشيباني، الذي كتب على منصة التواصل الاجتماعي “إكس”: “يجب على إيران احترام إرادة الشعب السوري وسيادة البلاد وأمنها. نحذرهم من بث الفوضى في سوريا، ونحملهم المسؤولية عن تداعيات التصريحات الأخيرة”.

إن توصيف إيران للتغييرات في الوضع الراهن في سوريا والذي عنى فقدان عنصر رئيس من “محور المقاومة” المعلن، يروج لرواية مفادها أن نظام بشار الأسد وحلفاءه كانوا يقاتلون الإرهاب. وتشير هذه الرواية إلى أن الإطاحة بالأسد وطرد الميليشيات المدعومة من إيران من سوريا سيؤديان إلى خلق فراغ أمني يمكن لتنظيم “داعش” استغلاله.

هذه الرواية تخدم مصالح إيران، حيث تصورها وحلفاءها كقوة ضد “داعش”، بينما تخفي دورها في الإرهاب الدولي، كما يتضح من العمليات الإرهابية العالمية التي نفذها “الحرس الثوري الإيراني” و”حزب الله”. ومع ذلك، لم تعمل إيران ووكلاؤها، ولا النظام السوري بقيادة بشار الأسد، بفعالية لتأمين سوريا من هجمات “داعش”. وتُظهر الوثائق أن عدد هجمات “داعش” في سوريا خلال عام 2024، عندما كان الأسد لا يزال في السلطة، وحين كانت الجماعات المدعومة من إيران، مثل “حزب الله”، نشطة في البلاد، قد بلغ ثلاثة أضعاف عدد الهجمات التي وقعت في عام 2023.

لقد ادعت إيران تحقيق نجاحات كبيرة ضد “داعش” في العراق، حيث جرت الإشادة بميليشيات “الحشد الشعبي” المدعومة من إيران لدورها في هزيمة التنظيم عسكريا. ومع ذلك، كانت لبعض فصائل “الحشد” بعض التعاملات مع “داعش”، حيث سيطرت هذه الفصائل على أجزاء من الحدود العراقية السورية، وانخرط بعضها في ممارسات مثل تأجير الطرق بين البلدين لعناصر “داعش”. وبموجب هذه الترتيبات، كان عناصر التنظيم يدفعون المبلغ اليومي المطلوب لاستئجار الطريق، ما يتيح لهم حرية استخدامه لنقل ما يرغبون فيه، بما في ذلك الأشخاص، والأسلحة، والنقد، والنفط، والمخدرات، بالإضافة إلى سلع مهربة أخرى. وعلى النقيض من ذلك، في منطقة البادية السورية، كان “حزب الله” يدفع لتنظيم “داعش” مقابل تسهيل مرور شاحنات تنقل الكبتاغون.

كما استخدمت إيران ونظام الأسد تنظيم “داعش” كأداة لإضعاف المعارضة السورية. ففي عام 2015، سمح الجيش السوري لـ”داعش” بالتقدم نحو تدمر لمهاجمة فصيل الثوار في الجبهة الجنوبية. وفي عامي 2014 و2018، سهّل النظام هجمات “داعش” على السويداء. في عام 2014، ومع تقدم “داعش” نحو المدينة، زودت استخبارات النظام التنظيم بمعلومات ساعدته على احتلال صحراء السويداء. وفي الوقت نفسه، حاول النظام السيطرة على الأسلحة الثقيلة التابعة لفصائل “مشايخ الكرامة” أثناء تقدم “داعش”. أما في عام 2018، فنفذ “داعش” تفجيرات انتحارية منسقة وغارات على السويداء، ما أسفر عن مقتل أكثر من 200 شخص. ورغم شدة الهجوم، امتنعت القوات الموالية للنظام بشكل كبير عن التدخل ضد “داعش” أثناء تنفيذ هجماته.

ويبدو التعاون بين تنظيم “داعش” وإيران أكثر وضوحا في شمال شرقي سوريا. ففي العام الماضي، اعتقلت “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) محمد البخيت، المعروف أيضا باسم أبو غامد، وهو مقاتل سابق في “داعش” أصبح لاحقا زعيما للفصائل العشائرية في مدينة الميادين. وكانت هذه الفصائل مدعومة من إيران وتقاتل “قسد”. وفي عام 2021، عُقد اجتماع بين تنظيم “داعش” و”الحرس الثوري الإيراني” و”حزب الله” في منطقة البادية السورية. ومنذ ذلك الحين، تجنبت هجمات “داعش” استهداف الجماعات المرتبطة بإيران، وركزت بدلا من ذلك على “قسد” والتحالف الدولي ضد “داعش”.

وقد تجلت العلاقة الوثيقة بين الجماعات المدعومة من إيران و”داعش” في شمال شرقي سوريا بشكل واضح خلال تقدم هجوم الثوار السوريين المناهضين للأسد نحو المنطقة في أواخر عام 2024. حيث واصلت إيران تمويلها وتواصلها مع تنظيم “داعش”، بينما تركت الجماعات المدعومة من إيران- التي فرت من الشمال الشرقي- أسلحتها وقواعدها تحت سيطرة “داعش”. وبهذا، أصبح “داعش” أداة إيرانية بحكم الأمر الواقع تهدد بزعزعة استقرار سوريا.

إن زعزعة الاستقرار هذه من شأنها أن تظهر الإدارة السورية الحالية بقيادة “هيئة تحرير الشام” على أنها ضعيفة، وتعزز رواية إيران حول دورها في مكافحة انعدام الأمن، فضلا عن خلق صراع طائفي. وفي الحادي عشر من يناير/كانون الثاني، تمكنت السلطات السورية من إحباط مؤامرة لتنظيم “داعش” استهدفت منطقة السيدة زينب في دمشق، والتي تُعد موقعا لأحد الأضرحة الشيعية الرئيسة.

إن تعاون تنظيم “داعش” مع إيران في هذا السياق مدفوع جزئيا برغبة التنظيم في الانتقام من “هيئة تحرير الشام”. فعلى مدى سنوات، انخرطت “داعش” و”هيئة تحرير الشام” في تنافس وحشي. وولدت “هيئة تحرير الشام” من جماعات إسلامية متطرفة كانت سابقا جزءا من “داعش” أو متحالفة معه، لكنها قطعت لاحقا علاقاتها مع “داعش” و”القاعدة”، وبدأت في قتالهما على المستويين الأيديولوجي والميداني. ويمكن أن يعزز صعود “هيئة تحرير الشام” باعتبارها المجموعة الأكثر هيمنة في سوريا بعد سقوط الأسد التعاون العملي بين “داعش” وإيران.

أحد السيناريوهات التي قد تدعم هذا التعاون يتمثل في تصاعد القتال بين “قسد” والجماعات الكردية في شمال شرقي سوريا من جهة، والجماعات المدعومة من تركيا من جهة أخرى. ويكمن الخطر هنا في أن “قوات سوريا الديمقراطية” تتحمل مسؤولية إدارة السجون ومراكز الاحتجاز التي تضم الآلاف من مقاتلي “داعش” وأعضائه الذين حاول التنظيم تحريرهم مرارا. وفي حال انشغال “قوات سوريا الديمقراطية” بمواجهة جماعات مثل “الجيش الوطني السوري” المدعوم من تركيا، قد يتمكن “داعش”- بدعم من إيران- من استغلال هذه الفوضى لاقتحام السجون، مما يشكل تهديدا أمنيا كبيرا على المنطقة بأكملها.

وهناك خطر آخر يتمثل في الدعوات المتزايدة التي وجهتها الحكومة العراقية إلى الفصائل المدعومة من إيران في العراق، والتي تعمل خارج نطاق الدولة، لتسليم أسلحتها والانضمام إلى الجيش العراقي. وتعتبر إيران هذا السيناريو تهديدا لنفوذها في العراق. ومع بناء هذه الجماعات لشرعيتها على أساس محاربة تنظيم “داعش”، فإن إيران قد تلجأ إلى تنشيط خلايا “داعش” لإظهار أن مهمة هذه الجماعات لم تنته بعد.

وينطبق خطر مماثل على لبنان، حيث يواجه “حزب الله” ضغوطا محلية ودولية متزايدة لنزع سلاحه. وفي ظل استمرار وقف إطلاق النار مع إسرائيل، قد يصبح أي هجوم ينفذه “داعش” العذر الوحيد الذي يمكن لإيران و”حزب الله” استخدامه لادعاء أن القوات المسلحة اللبنانية ضعيفة جدا ولا تستطيع تأمين لبنان دون دعم “حزب الله”.

وعلى الرغم من أن “داعش” قد هاجم إيران في بعض الأحيان، فإن التنظيم، بطبيعته البرغماتية، ينخرط في صفقات مع جهات فاعلة متعددة لضمان بقائه. واليوم، أصبحت إيران الطرف الرئيس الذي يمكنه استغلال هذه المعاملات التي يتبناها “داعش”، لتحقيق مصالحها الإقليمية والسياسية.

المجلة

—————————

دروس من تجارب دولية.. كيف تضع سوريا أسس اقتصاد قوي ومستدام؟/ عبد العظيم المغربل

2025.01.27

بعد أكثر من 14 عاماً من الحرب في سوريا، وسقوط نظام الأسد، وجدت سوريا نفسها في مواجهة تحديات اقتصادية هائلة، حيث دُمرت البنية التحتية بشكل كبير، وانخفضت معدلات الإنتاجية بشكل كارثي، وانهار الاقتصاد بشكل شبه كامل، كما تراجعت القطاعات الاقتصادية، وعلى رأسها القطاع الصناعي، ووصلت معدلات البطالة والتضخم إلى أرقام مرتفعة، نتيجة لعدة أسباب أبرزها اعتماد النظام السوري على اقتصاد الحرب بدلاً من بناء اقتصاد صامد، إضافة إلى العقوبات الاقتصادية التي أثقلت كاهل السوريين أكثر مما أضرت بالنظام، الذي اعتمد على موارد الاقتصاد الأسود لصالحه، بجانب غياب الاستثمار المحلي والدولي، وتدمير البنية التحتية والمنشآت، وحرق الأراضي الزراعية، وهجرة اليد العاملة الخبيرة.

ورغم الدمار الواسع والمعاناة التي يمر بها الاقتصاد السوري، تمتلك سوريا مقومات تحمل في طياتها إمكانيات هائلة للنهوض والتعافي، ويمكن لها الاستفادة من تجارب التنمية الاقتصادية التي حققتها دول أخرى بعد الحروب، مثل ألمانيا، واليابان، وكوريا الجنوبية، وصولاً إلى الصين، ورواندا، وماليزيا، هذه الدول واجهت تحديات مدمرة مشابهة لكنها خرجت منها أقوى اقتصادياً وأكثر رفاهية.

أولاً: تجربة ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية (1945-1950) عبر خطة مارشال

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، كانت ألمانيا تعاني من دمار شامل في بنيتها التحتية، حيث تراجعت مستويات الإنتاج الصناعي بشكل حاد، وارتفعت معدلات البطالة والتضخم، وكانت البلاد بحاجة ماسة إلى إعادة بناء اقتصادها وتحقيق الاستقرار المالي، ومن هنا بدأ تنفيذ خطة مارشال التي قدّمتها الولايات المتحدة كمساعدات مالية ضخمة لدعم الدول الأوروبية المنكوبة، بما في ذلك ألمانيا.

ركزت ألمانيا في تلك الفترة على الإصلاحات الاقتصادية بقيادة لودفيغ إيرهارد، وزير الاقتصاد، الذي تبنى سياسات تهدف إلى تحرير الأسواق، وتحفيز القطاع الخاص، وتشجيع الإنتاج الصناعي، وبالفعل، تم إلغاء الرقابة على الأسعار، مما سمح للسوق بالتفاعل بحرية وتحقيق التوازن بين العرض والطلب، بالإضافة إلى ذلك، تم استبدال العملة القديمة “الرايخ مارك” بالـ”مارك الألماني” بهدف استعادة الثقة في النظام النقدي والسيطرة على التضخم الجامح.

كما تبنت ألمانيا سياسة “السوق الحرة الاجتماعية”، التي جمعت بين آليات السوق الحرة والتدخل الحكومي لضمان العدالة الاجتماعية في مرحلة ما بعد الحرب وتحقيق نمو اقتصادي مستدام، هذه السياسات أسهمت في تحقيق “المعجزة الاقتصادية الألمانية”، التي شهدت نمواً اقتصادياً غير مسبوق، إذ أصبح الاقتصاد الألماني واحداً من أقوى الاقتصادات في العالم، خصوصاً في القطاع الصناعي، ونما الناتج المحلي الإجمالي بمعدلات كبيرة خلال أقل من عقد.

ثانياً: تجربة اليابان بعد الحرب العالمية الثانية في النهضة الاقتصادية

بعد الحرب العالمية الثانية، كانت اليابان في حالة دمار شامل وهزيمة عسكرية؛ إذ فقدت أكثر من ربع طاقتها الصناعية، وواجهت نقصاً في الموارد والطاقة، وكانت بحاجة ماسة للتنمية الاقتصادية لإعادة البناء بعد تعرضها لضربات نووية مدمرة, ورغم هذه التحديات، استطاعت اليابان أن تحقق “المعجزة الاقتصادية” بفضل مجموعة من السياسات والإصلاحات الاستراتيجية التي اعتمدت فيها على الحلفاء، والتي ساعدت في تحويلها إلى قوة اقتصادية كبرى، خصوصاً في القطاع التكنولوجي.

بدأت اليابان بتغيير بنيتها الاقتصادية من خلال التحول من الاقتصاد الزراعي والبحري إلى الاقتصاد الصناعي والتكنولوجي, ركزت على تطوير صناعات تصديرية ثقيلة مثل السيارات والحديد والصلب، والصناعات التكنولوجية المتقدمة مثل الإلكترونيات, استثمرت بشكل كبير في استيراد التقنيات الجديدة وتطويرها محلياً، مما أسهم في تعزيز قدرتها التنافسية عالمياً.

كان التعاون بين القطاعين العام والخاص عنصراً رئيسياً في النمو الياباني, تبنت الحكومة اليابانية سياسات تشجع التنسيق بين القطاعين، مما سهل تمويل المشاريع الصناعية من خلال البنوك, كما كان للاستثمار الكبير في التعليم والبحث والتطوير دور بارز في زيادة مهارات القوى العاملة وتعزيز الابتكار التكنولوجي.

على الصعيد التجاري، سعت اليابان لتعزيز صادراتها من خلال تحسين جودة المنتجات وتوسيع الأسواق العالمية، مما ساعد في زيادة احتياطاتها من العملات الأجنبية واستقرار نظامها النقدي. بفضل هذه السياسات، تحولت اليابان إلى ثالث أكبر اقتصاد في العالم بحلول عام 1991، وأصبحت موطناً لعلامات تجارية عالمية مثل تويوتا وسوني.

ثالثاً: تجربة كوريا الجنوبية في التحول إلى دولة صناعية

بعد الحرب الكورية (1950-1953)، كانت كوريا الجنوبية في حالة دمار شامل واقتصاد زراعي هش، فقد تراجع دخل الفرد بشكل كبير، وأصبحت البلاد تعتمد بشكل كامل على المساعدات الخارجية. استطاعت كوريا الجنوبية بفضل سياساتها التنموية النهوض مجدداً والتحول من دولة زراعية فقيرة إلى قوة صناعية رائدة في مجالات مثل الإلكترونيات، والسيارات، والصلب، والآلات، والبتروكيماويات.

أسهمت مجموعة من السياسات والإصلاحات الاستراتيجية للدولة بعد الحرب في تحقيق هذا التحول. بدأت الحكومة الكورية الجنوبية بتنفيذ إصلاحات زراعية في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، ما أدى لتحسين الإنتاجية الزراعية وتوفير فائض من اليد العاملة للاستفادة منها في القطاعات الصناعية. كما تبنت الحكومة سياسات صناعية تركز على تطوير الصناعات التحويلية، خاصة في القطاعات ذات القيمة المضافة العالية، مما أسهم في خلق فرص عمل وتخفيض البطالة. استثمرت كوريا الجنوبية أيضاً بشكل كبير في التعليم والبحث والتطوير لتحسين مهارات القوى العاملة وزيادة القدرة التنافسية في المجالات التكنولوجية.

تمكنت كوريا الجنوبية بفضل هذه السياسات من بناء اقتصاد صناعي قوي، وأصبحت واحدة من الأعضاء في مجموعة العشرين.

رابعاً: تجربة رواندا بعد الإبادة الجماعية في بناء اقتصاد جديد

بعد الإبادة الجماعية في عام 1994، التي أودت بحياة ما يقارب 800,000 شخص، واجهت رواندا تحديات هائلة في إعادة بناء اقتصادها المدمر. ومع ذلك، تمكنت البلاد من تحقيق تحول تنموي في الاقتصاد بشكل ملحوظ بفضل مجموعة من السياسات والإصلاحات الاستراتيجية التي ركزت على الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.

بدأت الحكومة الرواندية في تعزيز المصالحة الوطنية بين مختلف المجموعات العرقية لزيادة استقرار المجتمع وتهيئة بيئة مواتية للتنمية الاقتصادية، ليكون هذا الاستقرار أساساً في تطوير الاقتصاد الوطني.

من ناحية أخرى، تبنت الحكومة إصلاحات إدارية كبيرة لتبسيط الإجراءات وتقليل البيروقراطية، لجذب الاستثمارات وتسهيل عملية إنشاء الشركات بسهولة وسرعة أكبر. أصبح إنشاء شركة في رواندا يستغرق حوالي خمس ساعات فقط، مما جعلها من أسرع الدول في أفريقيا في هذا المجال.

استثمرت رواندا أيضاً بشكل كبير في التعليم وتدريب القوى العاملة لرفع مستوى المهارات وتعزيز الإنتاجية. بالإضافة إلى ذلك، عملت البلاد على تنويع اقتصادها من خلال تقليل اعتمادها على الزراعة، وتطوير قطاعات أخرى مثل السياحة، فقد استغلت جمال طبيعتها وجذبت السياح لمشاهدة الغوريلا الجبلية. كما عملت على بناء شراكات مع أندية رياضية عالمية لتعزيز صورة البلاد على الساحة الدولية.

لاحقاً، شهدت رواندا نمواً اقتصادياً سريعاً، إذ ارتفع الناتج المحلي الإجمالي من 1.5 مليار دولار في عام 1994 إلى 10.5 مليارات دولار في عام 2019. كما ارتفع نصيب الفرد من الدخل من 200 دولار إلى 800 دولار، لتصبح من أسرع الدول الأفريقية نمواً.

خامساً: الصين بعد أزمة “القفزة الكبرى للأمام” (1958-1961) وعملية الإصلاح الاقتصادي

بعد أزمة “القفزة الكبرى للأمام” (1958-1961)، التي تسببت في مجاعة واسعة النطاق وأدت إلى وفاة ملايين الأشخاص بسبب السياسات الاقتصادية الخاطئة، اتخذت الصين خطوات مهمة لإصلاح اقتصادها وتنميته وتجنب تكرار مثل هذه الكوارث.

منذ السبعينيات، قاد دينغ شياو بينغ مجموعة من الإصلاحات الاقتصادية التي شكلت نقطة تحول في تاريخ الصين. كانت أولى خطوات هذه الإصلاحات إلغاء الكوميونات الشعبية التي أُنشئت خلال فترة “القفزة الكبرى للأمام”، واستُبدلت بنظام التعاونيات الزراعية الأصغر حجماً. سمحت هذه الإصلاحات للمزارعين بامتلاك أراضيهم الخاصة وتحفيزهم على زيادة إنتاجهم الزراعي، مما أدى إلى تحسين الإنتاجية الزراعية بشكل ملحوظ. كما شجعت الحكومة الصينية المزارعين على زيادة الإنتاج من خلال منحهم حوافز مالية، مما أسهم في تحفيز العمل والابتكار في القطاع الزراعي لتخفيف المجاعة.

اعتمدت الحكومة الصينية سياسات جديدة لتعزيز النمو الصناعي، فقد تم تحرير السوق وإعادة النظر في السياسات الصناعية التي تسببت في تدهور الإنتاجية. تم التركيز على تطوير الصناعات الثقيلة بشكل تدريجي ومتوازن مع احتياجات الاقتصاد الوطني، مما مهد الطريق للصناعات الصينية لتصبح أكثر كفاءة وتنافسية على الصعيدين المحلي والدولي.

من جانب آخر، بدأت الصين في فتح أسواقها أمام الاستثمارات الأجنبية، مما ساعد في جذب رؤوس الأموال الأجنبية والتكنولوجيا الحديثة. تم تبسيط الإجراءات الإدارية وتقليل البيروقراطية، لتصبح بيئة الأعمال أكثر جاذبية ومرونة، مما أسهم في تحفيز القطاع الخاص.

بفضل هذه السياسات والإصلاحات الاقتصادية، أصبحت الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم. زادت معدلات النمو والتصنيع بشكل غير مسبوق، وأصبحت المنتجات الصينية تغزو الأسواق العالمية.

سادساً: تجربة ماليزيا في التنمية الاقتصادية (1970-2010) والانتقال من الاقتصاد الزراعي

بعد استقلالها عام 1957، كانت ماليزيا تعتمد بشكل كبير على الزراعة والموارد الطبيعية، مما جعل اقتصادها هشاً وغير متنوع. لكن مع بداية السبعينيات، بدأت الحكومة الماليزية بتنفيذ سياسات استراتيجية تمحورت حول “السياسة الاقتصادية الجديدة” التي أطلقت عام 1971 بهدف القضاء على الفقر وتحقيق العدالة الاجتماعية بين الأعراق المختلفة. ركزت هذه السياسة على تنويع الاقتصاد بعيداً عن الاعتماد على تصدير المواد الخام كالزيت والنفط والمطاط، وبدأت بتطوير قطاعات صناعية متقدمة تشمل الإلكترونيات والبتروكيماويات، مما أدى إلى زيادة الصادرات وتحقيق معدلات نمو مرتفعة.

استثمرت الحكومة بشكل كبير في التعليم والتدريب المهني لتطوير مهارات القوى العاملة المحلية، بالإضافة إلى تحديث البنية التحتية كالموانئ والمطارات والطرق لدعم الأنشطة الاقتصادية. كما لعب الاستقرار السياسي والاجتماعي دوراً كبيراً في جذب الاستثمارات الأجنبية وخلق بيئة مواتية للنمو الاقتصادي.

نتيجة لهذه السياسات، حققت ماليزيا نمواً اقتصادياً مرتفعاً؛ فقد ارتفع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بشكل ملحوظ وانخفضت معدلات الفقر. أصبحت البلاد مركزاً صناعياً رئيسياً في جنوب شرق آسيا، وشهدت تحسناً كبيراً في مؤشرات التنمية البشرية بفضل الاستثمارات في التعليم والصحة. تُعتبر التجربة الماليزية نموذجاً ناجحاً للدول النامية التي تسعى للنهضة التنموية في الاقتصاد.

كيف يمكن لسوريا الاستفادة من هذه التجارب؟

من خلال استعراض التجارب الناجحة للدول التي واجهت تحديات مماثلة للحالة السورية، مثل ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية ورواندا والصين وماليزيا، يمكن صياغة مجموعة من السياسات والاستراتيجيات التي قد تسهم في إعادة بناء الاقتصاد السوري بعد سنوات من الحرب والدمار:

    التخطيط طويل الأجل: كما فعلت ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية واليابان بعد الهزيمة، ينبغي لسوريا أن تضع خطة اقتصادية طويلة الأجل تركز على تحقيق الاستقرار والنمو المستدام. يجب أن تتضمن هذه الخطة تحسين البنية التحتية، وتشجيع الابتكار التكنولوجي، وتعزيز الإنتاجية في القطاعات الاقتصادية المختلفة. وعلى غرار التجربة الكورية الجنوبية التي بدأت بتطوير القطاعات الصناعية بعد الحرب الكورية، يجب على سوريا أن تحدد أولوياتها في القطاعات الرئيسية مثل الزراعة والطاقة والصناعات التحويلية.

    الاستثمار في البنية التحتية: أظهرت التجارب اليابانية والصينية أن إعادة بناء البنية التحتية تعد من أهم أولويات مرحلة ما بعد الحرب. في الحالة السورية، يجب إعادة بناء الطرق والجسور والمصانع والمرافق الحيوية مثل محطات المياه والكهرباء التي تم تدميرها بشكل واسع. يمكن توجيه المساعدات الدولية لدعم هذه المشاريع التي تعزز الإنتاجية وتدفع عجلة الاقتصاد نحو التعافي. كما يجب أن تكون هناك استثمارات في تطوير شبكات الاتصالات وتقنيات الإنترنت، كما فعلت رواندا بعد الإبادة الجماعية.

    التركيز على التعليم والتكنولوجيا: تجارب كوريا الجنوبية واليابان أظهرت أهمية الاستثمار في التعليم والتكنولوجيا لبناء رأس المال البشري. يمكن لسوريا أن تستفيد من هذا الدرس عبر إعادة بناء نظامها التعليمي من خلال تحديث المناهج الدراسية لتتناسب مع متطلبات السوق والعمل على تدريب الشباب على المهارات الفنية والتقنية اللازمة للقطاعات الصناعية الحديثة. كذلك، يجب أن تكون هناك تحفيزات للشركات المحلية والدولية للاستثمار في البحث والتطوير، مما يعزز الابتكار ويقوي القدرة التنافسية.

    الإصلاحات المؤسسية: ضرورة إصلاح النظام المالي والنقدي والهيكلية الاقتصادية في سوريا تُعد خطوة أساسية، كما فعلت الصين بعد أزمة “القفزة الكبرى للأمام”. ينبغي العمل على إلغاء القيود البيروقراطية التي تعيق تطوير الأعمال وضمان إنهاء ملف الفساد، وتبسيط الإجراءات الإدارية كما فعلت رواندا، مما يسهم في خلق بيئة أعمال تشجع على النمو وتحفز الاستثمار المحلي والأجنبي. كما يجب العمل على بناء نظام نقدي قوي من خلال إعادة هيكلة البنوك وتطوير آليات التمويل المحلية للمشروعات الصغيرة والمتوسطة.

    المساعدات الدولية: بعد الحرب، استفادت العديد من الدول من المساعدات الدولية لتحقيق التعافي، كما في حالة خطة مارشال التي قدمت المساعدات لألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. بالنسبة لسوريا، يمكن استخدام المساعدات الدولية كأداة تمويل أولية لدعم إعادة الإعمار، على أن يتم توجيه هذه المساعدات نحو مشاريع استراتيجية في البنية التحتية، التعليم، والصحة، بجانب حث الدول على رفع العقوبات التي باتت تستهدف السوريين بدلاً من النظام السابق.

    تنويع الاقتصاد والاستثمار في القطاعات الناشئة: على غرار التجربة الماليزية، يمكن لسوريا أن تعمل على تنويع اقتصادها بعيداً عن الاعتماد المفرط على القطاعات التقليدية مثل الزراعة والموارد الطبيعية. يجب التركيز على تطوير قطاعات ناشئة مثل الصناعات التقنية، الطاقة المتجددة، والسياحة البيئية والطبية. يمكن للسوق السورية الاستفادة من موقعها الجغرافي الاستراتيجي وخبرات أبنائها لتصبح مركزاً تجارياً وسياحياً وصناعياً يخدم منطقة الشرق الأوسط وأوروبا، إضافة إلى اعتمادها على نموذج اقتصاد سوق حر مناسب لها.

بشكل عام، تُظهر هذه التجارب أنه رغم التحديات الهائلة التي تواجهها الدول بعد الحروب والكوارث، يمكن تحويل الأزمة إلى فرصة من خلال اتباع سياسات اقتصادية متكاملة تشمل التخطيط طويل الأجل، إصلاح المؤسسات، الاستثمار في البنية التحتية والتعليم، وتوفير بيئة عمل تشجع على النمو. إذا تم تنفيذ هذه السياسات بعناية وتوجيه المساعدات الدولية بشكل فعّال، يمكن لسوريا أن تشهد تحولاً اقتصادياً كبيراً وتحقيق الاستقرار والنمو المستدام بعد سقوط النظام المخلوع.

تلفزيون سوريا

———————-

لماذا أخرج نظام الأسد سجناء صيدنايا الجهاديين؟/ حسام جزماتي

2025.01.27

قبيل اندلاع الثورة في سوريا، وعلى وقع تصاعد موجات الربيع العربي؛ أعدّ نظام بشار الأسد مجموعة من الإجراءات التي قرر أن يلجأ إليها لاحتواء أي شرارة ربما تحدث وإخمادها. ومن الطبيعي أن يتصدر القائمة مرسوم عفو عن السجناء السياسيين، بالإضافة إلى وعود بدراسة بعض الإصلاحات الدستورية والقانونية، وإطلاق درجة من الحريات، وزيادة رواتب موظفي القطاع العام، وتلبية مطالب قطاعية ومحلية هنا وهناك.

وقد تزامن ذلك مع حدث كان مقرراً مسبقاً في 16 آذار 2011، أي في اليوم التالي للمظاهرة الأولى التي افتتحت بوابة الثورة، وهو اعتصام أهالي السجناء السياسيين ومناصريهم أمام مبنى وزارة الداخلية. وكان من أبرز مطالبهم أن يُشمل أبناؤهم وذووهم بما يسمّى «ربع المدة» أسوة بالسجناء العاديين، وهو أن تُحسب السنة السجنية تسعة أشهر فقط في حال حسن السير والسلوك، وهذا تقييم روتيني عادة.

كانت السلطة قد رفضت الاستجابة لهذا المطلب عندما رفعه المعتقلون أثناء وبعد استعصاء سجن صيدنايا في عام 2008، وهو السجن الذي كان يحوي الأغلبية الساحقة من السجناء السياسيين، وكانت أكثريتهم تنتمي إلى التيار السلفي الجهادي. إذ تقول تقديرات إن عدد من شهدوا الاستعصاء كان نحو 1250، يتجاوز الإسلاميون منهم الألف. ولذلك كانوا أكثرية المفرج عنهم بعد موافقة النظام على إدخال الجميع في حساب ربع المدة، فأخرج نحو 280 معتقلاً في 26 آذار، من بينهم، مثلاً، بعض معتقلي الأحزاب الكردية الذين انطبق عليهم، كما الآخرين، هذا الشرط الرقمي لا حسابات أمنية من أي نوع.

وكذلك كانت النسبة عندما أصدر بشار الأسد عفواً رئاسياً، في 31 أيار من السنة نفسها، خرج بموجبه، بالإضافة إلى الإسلاميين، معتقلون من «حزب العمل الشيوعي» كانوا قد أمضوا سنتين رهن الاعتقال، ورغم أن «رأس الدعوى» منهم، كما تقول المصطلحات السجنية، كان قد حُكم بالسجن سبع سنوات، والبقية أربعاً.

ومن الضروري هنا أن نلاحظ أن أعوام ذروة اعتقالات «جيل الاستعصاء» هذا كانت بين 2005 و2006. ولأن أكثرهم أبناء قضايا غير خطرة فقد قضت «محكمة أمن الدولة العليا» بسجنهم لمدد تتراوح بين خمس وست سنوات على العموم. أي أن الإفراج الطبيعي عنهم كان سيصادف قبيل الثورة أو خلال سنتها الأولى، ناهيك عن تأثير احتساب ربع المدة وعن مراسيم العفو المتتالية التي كانت تشمل الجنائيين والسياسيين وتطول الأقرب إلى الخروج لانتهاء مدة حكمه.

ومن الطبيعي، والحالة هذه، أن يخرج أصحاب الأحكام الأقصر، والتهم الهامشية، وأن يبقى القادة البارزون الذين تراوحت أحكامهم بين عشرة وخمسة عشر عاماً. ولو كان في مخطط النظام أن يطلق الجهاديين لأسلمة الثورة وعسكرتها، كما تقول أسطورة شديدة الرواج، لأفرج عن المخضرمين لا عن المعتقلين بتهم تصفح المواقع الجهادية أو تداول سيدياتها أو التستر على نشاط فاعليها.

وبطبيعة الحال فإنه لا عبرة لما سيؤول إليه السجين بعد الإفراج عنه، لأن التقييم في سنة 2011 اعتمد على ملفه الورقي وحكمه القضائي. ولا يمكن لمن أخرج عبد الناصر الياسين، مثلاً، أن يتنبأ أن هذا الشاب، المحكوم لتهمة يسيرة، سيصبح «أبو طلحة العسكري» أحد أوائل مؤسسي «حركة أحرار الشام». ولو كان يريد الإفراج عن الأكثر شراسة وخبرة بين السجناء لأخرج الستة الذين حكم عليهم بأنهم قادة المجموعات ورموز الشغب أثناء الاستعصاء ونفّذ فيهم حكم الإعدام في 13 آذار 2011.

وفي حزيران من العام نفسه، بعد تصاعد الثورة وتزايد أعداد المعتقلين، أفرغ النظام سجن صيدنايا من معتقليه الإسلاميين القدامى، ليحوّل إليه الموقوفين بسبب مشاركتهم في الاحتجاجات. ونقل الأولين، بناء على طلب سابق أيضاً، إلى السجون المدنية التي يتبعون لها بحكم محافظاتهم؛ كسجن دمشق المركزي (عدرا) وسجن حلب المركزي (المسلمية) وسجون حمص وحماة واللاذقية والرقة وغيرها. وهناك أتيحت لهم الزيارات وحيازة أجهزة الموبايل، بشكل شبه معلن، وتصفح الإنترنت والتواصل. وحين ألغيت «محكمة أمن الدولة العليا» تم تحويل أضابيرهم إلى المحاكم العادية فصار من الممكن الاطلاع عليها وتدخل المحامين فيها وحتى اللجوء إلى الرشوة لإخلاء سبيل المتهم أو إخراجه بتراكم مراسيم العفو واللجوء إلى ربع المدة أخيراً.

ومن السجون المدنية خرج أصحاب الأحكام الأطول بعد أن تأسلمت الثورة، ولو كان قصد النظام ذلك لسارع إلى إخراجهم قبلاً. فعلى سبيل المثال ظل مظهر الويس، الذي سيصبح قيادياً في «جبهة النصرة» وشرعياً بارزاً في «هيئة تحرير الشام» في سجن محافظته دير الزور حتى خرج في نيسان من عام 2013. وشهد العام التالي عفواً واسعاً طال عدداً كبيراً من سجناء صيدنايا الثورة، ومنهم كثير من الضباط المتهمين بمحاولة الانشقاق. فهل غيّر النظام مخططه وقتئذ وقرر الإفراج عن العسكريين لدعم الجناح المنظم من الجيش الحر في مواجهة الإسلاميين أيضاً!

في الخلاصة، ظن النظام في عام 2011 أنه يواجه تحدياً كبيراً جديداً عليه أن يتفرّع له، وأن صفحة صراعه مع الجهاديين صارت من الماضي، فاتخذ إجراءاته للإفراج عنهم ضمن مجمل السجناء السياسيين وعبر الآلية البيروقراطية المعتادة، ظناً منه أنهم تعلموا درساً قاسياً في السجن. فمثلاً عندما قررت المخابرات العسكرية، بعد اندلاع الثورة بشهرين، الإفراج عن بعض المعتقلين الإسلاميين لديها ممن لم يُعرضوا على المحكمة، بينهم محمد الدسوقي الذي سيصبح «أبو يزن الشامي» نائب رئيس «حركة أحرار الشام الإسلامية» ومنظّرها المؤثر؛ قال لهم العميد منير شليبي، رئيس قسم مكافحة الإرهاب في فرع فلسطين، في جلسة الوداع: «لا تعملوا معنا مخبرين.. بس انصحوا الناس ووعّوهم».

تلفزيون سوريا

———————-

كيف تصبح مليارديراً في سوق المظلوميات السوري؟/أحمد جاسم الحسين

2025.01.27

أنْ يستغل صاحب مقهى الروضة موقع مقهاه، وقدوم السوريين من الخارج بعد غربة وشوق، ويرفع الأسعار ليصبح المشروب مع قنينة الماء ما يعادل دولارين ونصف فيه ظلم كبير، علمأ أن الكلفة لا تتجاوز نصف دولار ويستحق هذا الفعل أن يتحوّل إلى مظلومية، كما يقول صديقي.

وفي الحديث عن كيفية تفكيك تلك المظلومية تحاورنا حول موقع المقهى وسهولة الوصول إليه وتحوله إلى مكان “للشو” والحوار والندوات مستعيداً بذلك جزءاً من دوره يوم كان سينما صيفية.

في الحديث عن بدائل كـ مقهى الكمال حيث هناك ثمن المشروب أقل من دولار، ثم تحدثنا عن سلطة المكان، وأن الأسعار هنا تشبه أسعار أوروبا، إن لم تكن أكثر، في حين أن دخل معظم المواطنين السوريين لا يساوي 5% من الدخل الأوربي.

إضافة إلى أن المقهى الأوروبي، حين يأخذ تلك الأسعار من زبائنه، هناك ضرائب يدفعها للدولة ليسهم في بناء الخدمات العامة على العكس من صاحب مقهى الروضة، واتفقنا على أنه بدل دفع الضرائب يمكن الحديث عن العراضات التي أقامها المقهى مثلاً ودورها التسويقي! وبعد نقاشنا صار يمكن الحديث عن مظلومية مرتادي مقهى الروضة.

يرتفع اليوم منسوب الحديث عن المظلوميات في سوريا، ويغلِّب ذلك حديث أشخاص متصيدين للحظة تاريخية في المسار السوري، في محاولة تحقيب أو توصيف أو تنميط للوضع السوري.

جلست معي في مقهى الروضة صديقة غالية أكثر من ساعة ونصف تحدثني عن حبيبها ومظلوميتها معه، وأنه خيَّب أملها في كمّ المشاعر المنتظر منه، وما كانت تنتظره من الزوج الحبيب، وأن نمط شخصيتهما مختلف كلياً، ولما سألتها عن السبب الذي جعلها تبقى معه أكثر من عشر سنوات، قالت لي: كنت مغمضة العينين!

طبعاً لم أتجرأ أن أسألها عن شعور ذلك الحبيب وما قدمته هي له، وهل لديه مظلومية، ذلك أنه لا يمكنك أن تحاور، حواراً عقلانياً، شخصاً يبني حياته على المظلوميات.

في محاولة مني كي أعيد صديقتي إلى حالتها الطبيعية حتى تنظر إلى المستقبل، رحت أسألها عن تفاصيل من علاقتها بذلك الحبيب الظالم، لأكشف لها كم المنجزات الذي أنجزته مع من تحب، وإذ بالقائمة طويلة، لكنها شاءت، في لحظة مظلومية، أن تغمض عينيها عن تلك المنجزات إبان عيشها مع ذلك الحبيب المظلوماتي.

اليوم، كل سوري لديه رأسمال مظلوماتي، مخبأ  في رأسه، يحتاج إلى من يستثيره ويحيِيه، أو إلى لحظة تاريخية كي يظهر ويغدو مسيِّراً لطرائق حياته، وقد يكون رأس المال المظلوماتي هو أحد المنقذات وعوامل التوازن حين تغدو الظروف حالكة.

السؤال: هل سيحوّلك الشعور المظلوماتي الذي تعيشه إلى ظالم جديد؟ معتمداً على سردية تحملك للظلم فيما مضى؟ أم أنه سيكون درساً للمستقبل؟ وهل سيكون تاريخك المظلوماتي فرصة للنظر إلى الخلف أم إلى الأمام؟

يحاول اليوم باحثون وسياسيون، في إطار التبرؤ من تاريخهم، تشجيع السُنة السوريين على بناء سردية مظلوماتية تجعلهم أسرى لما تعرضوا له، لتحمِّلهم أحقاداً تجاه الآخر، وتجعلهم أسرى ماضيهم وانتقامهم وثأرهم، وبالتالي تعطيل عقولهم وتربيطها بتلك المظلوميات.

ومثل هذه التوصيفات سمٌّ في العسل، تداعب لحظة تاريخية نفسية صعبة، وعلى السنة السوريين ألا يستجيبوا لها، بل أن ينظروا إلى مستقبلهم وأن يكون تحقيق العدل هو الهدف.

ومثل هذا الحذر ضروري كي لا يبنوا تاريخهم المعاصر على تلك السرديات المظلوماتية، أو يمدوه بألوان تاريخية من مشاهد المظلوميات، ويغدو الحاضر والمستقبل أسيراً للمظلوميات، وبالتالي يصبحون أسرى حكايات مظلوماتية، وبدلاً من أن يمشوا إلى الأمام ويبنوا بلدهم؛ سيسيرون في طريق تحميل الآخر ما حدث لهم، وبالتالي تضخيم ألم الذات، وستستثمر في مثل ذلك الوضع أحزاب وتيارات وسياسيون وإعلاميون، في محاولة لتضخيم رأسمال المظومية السنية، وإقصاء رأسمال العمل والنظر إلى المستقبل.

المعرفة العلمية لما حدث في سوريا ضرورة بحثية وإنسانية وأخلاقية لكن أن يتم تجييرها لرأس مال مظلوماتي سيضر بالحاضر والمستقبل، وسيجعل تحقيق مفهوم المواطنة أمرأ مستحيلاً لأنه يعني الانكفاء نحو الانتقام والثأر وتحميل الآخر المسؤولية، وبدلاً من محاولة بناء البلد والنظر إلى المستقبل سيكون الانشغال بشريك المواطنة وما قام به هو البوصلة، وسيؤدي إلى زرع مزيد من الحواجز بين الجماعات البشرية السورية، وبالتالي سيغدو الصراع والماضي هو الأبقى بين أبناء البلد الواحد.

التيارات والأحزاب والسياسيون أكثر المستثمرين في رأسمال المظلوميات لأنه يشد عضد جماعتهم إليهم، وحين يقتنع أبناء مظلومية ما بصحة سرديتهم يغدون أسرى لها ويرون العالم من خلالها، وبالتالي يتحقق هدف المستثمر في مظلوميتهم.

رأسمال المظلوميات يقتضي وجود منتَج؛ وهو مظلومية ما، قد يكون لها أسس واقعية، ومستهلك هم جمهور المظلومية والمقتنعون بها، وبائع هم النافخون في المظلومية والمستفيدون منها، وسوق تباع فيه تلك المظلوميات هو: الجغرافية السورية.

الشعور المظلوماتي يغدو أحياناً طريقة حياة، ولا تستطيع كثير من الشخصيات التي تحيط بك العيش من دونه، هؤلاء قد يدمرون حياتك وحياتهم، لأن حياتهم، كما يعتقدون، هي مجموعة مظلوميات، ورغم أهمية ما حققوه في حياتهم؛ إلا أنهم نتيجة للشعور العالي بالمظلومية لا يهنؤون بأية لحظة من دون الشعور بأنهم ضحايا وأبناء مظلوميات.

إنْ كانت عيناك اللتان ترى فيهما الحياة تتكونان من بؤبؤين من جذور مظلوماتية، فستتحول حياتك إلى حرب، حيث ستحاول أن تملأ حقيبتك الشخصية كل صباح برأسمال مظلوماتي، فيتحول كثير ممن مروا معك إلى جلادين وأعداء، ومجموعة متآمرين عليك أحاطوا بك في المرحلة السابقة من حياتك، بحيث يصبح الآخر “بارانويا”، ويغدو تاريخ الآخرين معك أسود كله.

رأسمال المظلوميات من السهل الحصول عليه وتنميته في سوق أسهم المظلوميات بأقل جهد ممكن، بحيث يمكنك أن تصبح مليارديراً في سوق المظلوميات، الاستثمار في المظلوميات الذاتية أو النسوية أو الذكورية أو السورية عامة بات بضاعة لمن لا ينتج، أو التوتْ رقبتُه إلى الماضي، فاحذر منها.

المظلومية يا حبيبتي يا سوريتي الجميلة: حرب، وأنت سلام، سلامي.. المظلومية: ماض ثأري وأنت مستقبل واعد؛ نريد أن نبنيه معاً، قبل فوات الفوات، وبالحب بدنا نعمرها.. المظلومية، يا حبيبتي، لغةُ كثير من الأقليات، وأنت الأكثرية الوحيدة في حياتي.

احذري يا صديقتي، التي جلستُ معها في مقهى الروضة، واقعياً أو افتراضياً، فحياتك فيها كثير كثير من المنجزات، وأنت إنسانة فاعلة ومتميزة، وسيدة رائعة، وأم مثالية وحبيبة جميلة، وإن لم تصدقي فاستذكري تلك الجمل الحلوة التي كتبها لك وهي كثيرة، يمكن أن تجديها على حيطان الأزقة الدمشقية.

تلفزيون سوريا

—————————

مؤتمرنا الوطني.. الواقع والمأمول/ جمال الشوفي

2025.01.27

سؤال السوريين بغالبيتهم ومساحة حواراتهم المفتوحة منذ سقوط النظام إلى اليوم، هو المؤتمر الوطني، ومعه عاد التباين السوري المعتاد سواء بمدته وأحقية التمثيل فيه والدخول في مرحلة انتقالية سريعاً وبين أن يكون المؤتمر مفتوح زمنياً يكون في نهايته الوصول إلى دستور سوري حديث.

في البدء، انعقاد مؤتمر سوري هو مطلب وضرورة سوريّة منذ كان النظام قائماً، وكان غرضه المعلن أن يكون سورياً بلا تدخّلات خارجية يفضي إلى الدخول في مرحلة انتقالية سياسية تستجيب مع طلبات الشعب السوري.

فرغم انعقاد عشرات المؤتمرات السورية في الخارج ومنها في الداخل، كان الحائل أمام الوصول إلى غايته وجود النظام المعطل لأي منتج سوري، فيما اليوم وقد ذهب النظام فهل يمكن لأي مؤتمر أن يحقق هذا الغرض؟ أم أننا كسوريين، وكما في تاريخ الثورات، سنبقى على تبايننا المبني على احتكار التصور والرؤية لمستقبل سوريا بلون صاحبها وحسب!

بينما فكرة أن المنتج المرتقب، هو أن تكون تعاقداً سورياً يكتنف التعدد ويخرج بصورة عمومية توافقية عن المستقبل والدستور وآليات الحكم، وهذه أبداً لن تكون حكراً لجهة وحيدة مهما امتلكت من مثالية الفكرة أو القوة.

محددات أولية

التعاقد المجتمعي مرهون بالإرادة العمومية كما عرفتها الثورة الفرنسية، بعد طول نزاع على السلطة والاستفراد بها سواء عسكرياً أو سياسياً أو بالشرعية الثورية التي تقوم على فرض إرادة على حساب أخرى.

وحتى ندخل في صلب الواقع السوري الحالي، يمكننا وبمراجعة سريعة طالما قدمنا بها النقد والتحليل، اعتماد بعض مؤشرات الواقع الحالي كمحددات قائمة:

    الواقع السوري متعدد سياسياً ودينياً، واليوم بلا جيش، يحتكم لتنوع القوى العسكرية الفصائلية.

    الاستقرار السوري مطلب عربي ودولي، فرغم إسقاط النظام سورياً، لكن سوريا لليوم عقدة تشابك مصالح إقليمية ودولية.

    الاعتدال وعدم التفرّد في الحكم والشأن العام ضرورة سوريّة لتجنّب أخطاء العقود الماضية من فاشية النظام، وأيضاً تجنب أخطاء المعارضة السورية في التنافس على المواقع والتمثيل.

    من المهم جداً التمسك بالدور الإداري للسياسة وشؤون الحكم، وبالضرورة الابتعاد عن الغلو الأيديولوجي سياسياً ودينياً، والعمل على قاعدة أن السياسية هي فن إدارة المجتمع حوكمياً لا الهيمنة عليه سلطوياً.

من الطبيعي أن تكون هذه المحددات محط جدال عام، قد يضاف إليها وقد يختلف حولها، لكن فيما لو استعدنا فكرة المؤتمر الوطني فسنجد هذه المحدّدات مقدمات أولى لنجاحه والوصول لمبتغاه، ما يعني بالضرورة العمل وفق قواعد الشراكة العمومية السورية وصولاً للإرادة العمومية وهذه تختلف جذرياً عن الإرادة الفردية لشخص أو جهة عسكرية أو حزب ما، فتلك تعاقد توافقي وهذه قوة هيمنة وحسب.

المؤتمر وسياق انعقاده

ينبغي لأي مؤتمر أن تتشكل له لجنة تحضيرية كشرط لازم لنجاحه، ويفترض أن تكون هذه اللجنة ذات مصداقية ومسؤولية تاريخية، ودورها تيسير الحوار الوطني بحيادية، وألا يتولّى أعضاؤها مناصب سياسية أو حكومية في المرحلة الانتقالية، وبعده لدورة برلمانية سياسية واحدة، حتى لا يتم تجيير المؤتمر ونتائجه لصالح القائمين عليه.

كذلك، مع ضرورة أن تتمكن اللجنة التحضيرية من التواصل مع السوريين بتمثيلاتهم السياسية والأهلية، ووضع قواعد ومعايير المشاركة في المؤتمر بحسبما نفترضه أنه مؤتمر لوضع سوريا على سكة السلامة والأمان والبناء:

    التمثيل الوطني السوري للكتل السياسية المدنية السورية العابرة للجغرافيا والمحليات.

    تمثيل المجتمع المحلي بتنويعاته الدينية والأهلية، وقواه العسكرية المحلية المتنوعة.

أن يكون تمثيل النساء والشباب السوري بالحالتين لا يقل عن النصف.

    تمثيل المثقفين والباحثين ورجال الاعمال السوريين كإحدى أهم ركائز التوافق الوطني والقدرة على صياغة خلاصته.

عندها يمكن تعريف المؤتمر بأنه صاحب الشرعية الوطنية العليا، إذ إنه يعتبر تمثيل أولي للأمة السورية ومصدر سلطاتها الأولى، وبالضرورة يحمل بين طياته مفهوم فصل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، والتي يفترض أن تنتج عنه.

والسلطات المقترحة هي:

    حكم انتقالي يتضمن حكومة انتقالية مصغرة ومحدودة الصلاحيات وذات وزارات سيادية (الخارجية والمالية والدفاع والداخلية)، بحيث تضبط التوجه السوري العام ناحية الاعتدال والسلام والتنمية، فيما تبقى الوزارات الأخرى ذات طبيعة إدارية تقوم على خدمة المواطنين.

وهنا يمكن اقتراح أحد الخيارين: إما انتخاب مجلس رئاسي انتقالي سياسي عسكري، أو انتخاب رئيس حكومة مؤقت، لنظم العلاقة بين الوزارات السيادية وآليات العمل الإداري في الحكومة عموماً.

    التوافق على إعلان دستوري مؤقت يحكم العلاقة بين مؤسسات الحكم الانتقالي والمواطن وييسر العمل الإداري والسياسي خلالها.

وهذه يكتنفها خيارات سورية عدة كالعودة إلى دستور 1950 أو الاستفادة من دستور 1920 أو إمكانية صياغة مبادئ دستورية عامة تمثل خطوط عامة لإدارة المرحلة انتقالية لا تسمح بالوقوع بأي من المحاذير أعلاه.

    هيئة قضائية مستقلة تعمل على تحقيق العدالة الانتقالية ومحاسبة كل من تلوثت أيديهم بالدم السوري وبالفساد المالي والسياسي والإداري في ظل نظام الحكم السابق وإحالتهم لمحاكم عادلة، وعليها إنصاف السوريين المتضررين من تلك المرحلة وجبر ضررهم، سواء بالتهجير أو الفصل التعسفي أو الملاحقات الأمنية وغيرها، وتكون نتيجتها الوصول لإعلان مصالحة وطنية عامة وتحقيق العدالة والابتعاد على النماذج القهرية الثأرية عامة.

    لجنة تأسيسية منتخبة للعمل على صياغة دستور سوري جديد يمثل تطلعات السوريين وإرادتهم، يكون محط استفتاء شعبي في نهايته، والتي عندها يمكن الإعلان عن انتهاء المرحلة الانتقالية والتهيئة لانتخابات تشريعية بعدها.

مؤتمر وطني بهذا التصور يمكن أن يُجدول بمراحل زمنية محدّدة:

    مرحلة تحضيرية تبدأ مع الإعلان عن أسماء أعضائها وأوراق عمل المؤتمر وخطته.

    مرحلة تأسيسية بحضور كل المدعوين له بنسب محددة ويكون المؤتمر منعقداً لمدة شهر على الأقل وبرعاية أممية عربية تنتهي بتشكيل السلطات أعلاه.

    يعتبر المؤتمر منعقداً دورياً بيوم كل شهر وعند الضرورة لمتابعة عمل الحكومة والهيئة القضائية وأعمال اللجنة الدستورية، بمدة وسطية بين العام للعامين.

بالتاريخ لم يتشكل مفهوم الدولة نصياً وكفى، بل بتحقيق مصالح العام الشعبي، وتجاوز أخطاء ومعوقات وكوارث الحكم السابق، وعند الحديث عن الدولة ندرك جيداً أنها المؤسسات العامة التي لا تميز بين مسلم أو مسيحي، عربي أو كردي، علماني أو ماركسي أو ديني، بل تنظر للجميع على أنهم مواطنون أحرار ومسؤولون أمام القانون.

وبالضرورة من المتوقع أن تفشل بعض الجولات خلال المؤتمر، خاصة وما يشوب الواقع من معوقات وصفت أعلاه، لكن الخروج من مأزقنا العام يجب أن يكون محفزاً على النجاح والوصول للتوافق الوطني.

وهذه مسؤولية وطنية هدفها جمهوريتنا الثالثة منتصرة لضحايا الثورة الجسام ولكلفتها البشرية والمادية الضخمة، وهي أيضاً منعطف تاريخي في مستقبل سوريا والمنطقة برمتها تحاكي تجربة الثورات الأوروبية حين تمكنت فرنسا من تحقيق الدولة العصرية الحديثة والانتصار للحريات والحقوق وسيادة القانون كغاية وطنية عليا.

لشعب الصين حكمة تاريخية تحكي عن أنّه إذا انكسرت لديهم مزهرية وتشظت قطعاً، كانوا يعيدون لحمها قطعة قطعة مضيفين إليها لمستهم الفنية والروحية صبراً، وهم يدركون أنها لن تعود كما كانت، لكن يؤمنون بضرورة إعادة إحيائها بأن يضيفوا إليها من ذواتهم مادياً ومعنوياً، وأظنها النكهة السورية الواجبة اليوم، وهذه مسؤولية أولاً وعقلانية ثانية وبوابة تعاقدية على المصلحة والإرادة العمومية نتيجةً.

تلفزيون سوريا

———————-

من مكة إلى دمشق.. خطوة خليجية تاريخية لإعادة الإعمار والاستقرار/ بشار الحاج علي

2025.01.27

في تطور سياسي يحمل أبعاداً محلية وإقليمية ودولية، أكّدت مصادر رسمية أن وزير الخارجية في الإدارة السورية الجديدة، أسعد حسن الشيباني، سيشارك في اجتماع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي المزمع عقده في منطقة مكة بالمملكة العربية السعودية.

هذه المشاركة الأولى من نوعها تعكس تحوّلات جوهرية في المشهد السوري وعلاقاته الإقليمية، وترسّخ رؤية جديدة لدور سورية في النظام العربي.

وسيكون لهذه المشاركة انعكاساتها على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، فعلى الصعيد المحلي: يمكن القول بأنّها خطوة نحو التعافي وإعادة الإعمار، كما تُعد هذه المشاركة لحظة فاصلة بالنسبة للإدارة السورية الجديدة، إذ تشير إلى اعتراف ضمني بدورها وسعيها الحثيث لإعادة بناء سورية سياسياً واقتصادياً.

وتأتي هذه الخطوة في وقت تواجه فيه البلاد تحديات كبرى تتعلق بالاقتصاد والبنية التحتية المتضررة، فالدعم الخليجي المتوقع في هذا السياق يُعتبر عنصراً حاسماً لدفع عملية إعادة الإعمار، إذ تتطلع سوريا للاستفادة من الاستثمارات الخليجية والدعم المالي لإحياء اقتصادها وإعادة بناء مؤسساتها.

الدعم الخليجي لا يتوقّف عند البعد الاقتصادي فقط، بل يمتد إلى تعزيز الجهود السياسية والأمنية التي من شأنها تسريع الحلول السلمية وتوحيد الصفوف الداخلية.

هذا التوجّه يُرسل رسالة واضحة إلى الشعب السوري مفادها أنّ هناك إرادة إقليمية لدعم استقرار البلاد سياسياً وأمنياً واقتصادياً وعلى كل المستويات، وطي صفحة الأزمات التي أرهقت المجتمع السوري على مدار السنوات الماضية.

كذلك، تحمل هذه المشاركة دلالات إقليمية أهمها: إعادة سوريا إلى المشهد العربي بعد أن أسهم النظام المخلوع بتغييب دورها وابعادها، فعلى الصعيد العربي تُجسد هذه الخطوة مرحلة جديدة من الانفتاح بين سوريا ودول الخليج، التي لطالما كانت حريصة على تحقيق الاستقرار في المنطقة.

وتشير تحرّكات وزراء خارجية السعودية وقطر والكويت، بالإضافة إلى زيارة الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي إلى سوريا ولبنان، إلى وجود استراتيجية شاملة لتعزيز العلاقات مع سوريا في إطار رؤية عربية موحدة.

هذا الحراك الخليجي يؤكّد أهمية الملف السوري كجزء لا يتجزأ من أمن واستقرار المنطقة، وأن دعم سيادة سوريا ووحدة أراضيها هو محور اهتمام دول مجلس التعاون، التي ترى أن عودة سوريا إلى محيطها العربي يُعد ضرورة استراتيجية لمواجهة التحديات المشتركة، مثل مكافحة الإرهاب واحتواء الأزمات الإنسانية وتعزيز الأمن القومي العربي.

رسائل دولية

دعم الحل السياسي وتعزيز السيادة الوطنية على كامل أراضي الجمهورية العربية السورية ودعم المطالب السورية برفع العقوبات عنها من الناحية الدولية، إذ يُعد حضور وزير الخارجية السوري مؤشراً على استعداد دول الخليج للعب دور الوسيط بين سوريا والمجتمع الدولي، دعم استقرار سوريا سياسياً وأمنياً يُعتبر أولوية خليجية تسعى من خلالها إلى ضمان استقرار طويل الأمد.

التزام الدول الخليجية بسيادة سوريا ووحدة أراضيها يُعتبر رسالة قوية إلى المجتمع الدولي، تُظهر أن المنطقة تعمل على صياغة حلول محلية لقضاياها بعيداً عن التدخلات الخارجية، كما أن هذا التوجه يُبرز استعداد الدول الخليجية لدعم سوريا اقتصادياً وإنسانياً، مما يخفف من الأعباء التي خلفتها سنوات الصراع.

التعاون السوري-الخليجي: بناء شراكة جديدة

من جانبه، أكد وزير الخارجية السوري أسعد حسن الشيباني، في تصريحات رسمية، أن بلاده تسعى إلى توطيد علاقتها مع دول الخليج، مشيراً إلى أن سوريا تُرحب بالدور الخليجي الداعم لعملية التعافي وإعادة الإعمار، وأضاف أن الإدارة السورية الجديدة ترى في هذا التعاون فرصة لبناء شراكة استراتيجية تُسهم في تعزيز الاستقرار الإقليمي.

والدعم الخليجي المتوقع يُمكن أن يُترجم إلى مبادرات ملموسة، تشمل مشاريع إعادة الإعمار، ودعم البنية التحتية، والمساهمة في تحسين الأوضاع الإنسانية في سوريا.

هذا النوع من التعاون يُعزز من فرص تحقيق الاستقرار الداخلي، ويدعم العملية السياسية التي تهدف إلى بناء دولة سورية قوية وموحدة.

إن مشاركة وزير الخارجية السوري في اجتماع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي تُعد خطوة تاريخية تُمهّد الطريق لإعادة رسم خريطة العلاقات الإقليمية، والدعم الخليجي بمختلف أبعاده السياسية والأمنية والاقتصادية والإنسانية، يُشكّل نقطة انطلاق نحو مستقبل أكثر استقراراً لسوريا والمنطقة.

في ظل هذا الحراك، تبدو المنطقة على أعتاب مرحلة جديدة تُركز على التعاون والتكامل، إذ يُدرك الجميع أن استقرار سوريا هو مفتاح لتحقيق الأمن والتنمية في العالم العربي بأسره، هذه المشاركة ليست فقط تعبيراً عن عودة سوريا إلى المشهد العربي، بل هي بداية لرؤية جديدة تُعيد تعريف العلاقات الإقليمية وتُؤسس لمرحلة من التعافي والبناء المشترك.

———————-

عن “العزل الاجتماعي” في الحالة السورية/ وفاء علوش

2025.01.27

مع دخول تحرير سوريا شهره الثاني، ما زالت الصورة اليوم تبدو ضبابية لكثير من السوريين الذين لم يجدوا أجوبة شافية بعد، بخصوص البدء بمراحل العدالة الانتقالية التي ستكون صمام الأمان بين السوريين، لحماية السلم الأهلي وبناء سوريا جديدة على أساس المواطنة وسيادة القانون.

ولكي نكون منصفين، فإن هذه المدة ليست كافية لترتيب البيت الداخلي السوري أمنياً أو حقوقياً، وقد تأخذ مثل هذه الترتيبات وقتاً لا بأس به، في ظل مطالبات محقة ومستمرة بمحاسبة المجرمين ومن تورطوا بالدماء.

يقترح اليوم الحقوقيون والسوريون الذين ناصروا الثورة تطبيق ما يمكن الاصطلاح عليه بأنه (عقوبات اجتماعية)، يطبقها المجتمع بحق مَن ناصر نظام الأسد وكان من الموافقين على طريقته الوحشية في قمع الحراك السياسي، ومن اضطهدوا ونبذوا السوريين الآخرين ممن خالفوهم في الرأي، وتصل المطالبات إلى ضرورة تطبيق عقوبات سياسية أيضاً بحيث يصبح من غير الممكن مشاركته في العمل السياسي، لأنّه كان من المهللين لجرائم الحرب التي ارتكبت بحق سوريين آخرين.

يسعى السوريون اليوم لفضح كل مؤيد وداعم للنظام السابق من فنانين وكتاب وأدباء وإعلاميين، وتعرية حقائقهم في الإدارة والسياسة والمجتمع، ويعملون على إيجاد آليات من أجل تطبيق الجزاء بحقهم، في الحالات التي لا تنطبق فيها الجزاءات القانونية وخاصة في الأفعال والأقوال التي لا تشكل جرماً منصوصاً عليه، وهو أمر غاية في الأهمية بقدر ما هو غاية في الحساسية، لكنه ضروري لتجنب أي لبس في تعويم شخصيات غير مقبولة اجتماعياً، وفي الوقت نفسه من أجل الحفاظ على المكتسبات الثورية التي حصل عليها الشعب السوري بدفع باهظ الأثمان.

يعد العزل الاجتماعي من أنواع العقوبات المجتمعية غير الرسمية التي تُمارس ضد الأفراد الذين ارتبطوا أو تعاونوا مع النظام الأسدي خلال الثورة أو بعد السقوط، ويعتمد هذا العزل على نبذ هؤلاء الأفراد اجتماعياً بسبب دورهم السابق في دعم النظام أو الاستفادة منه.

يبدو ذلك وكأنه أضعف الإيمان تجاه من دعم النظام، باعتبارهم شركاء في القمع، لأن من والى النظام يُنظر إليه غالباً كخطر محتمل كونه استفاد من السلطة على حساب الشعب، كما يُنظر إلى من دعموا النظام ضد الثورة على أنهم خانوا القيم الوطنية أو الإنسانية.

بذلك قد يُحرم الأفراد من الوظائف أو الفرص التجارية بسبب عدم الرغبة في التعامل معهم وعدم ائتمان جانبهم، ومن المتوقع بطبيعة الحال أن يعمل الناشطون على فضح أعمالهم ليس في المجتمع المحلي فحسب، وإنما في الواقع الافتراضي أيضاً من أجل جعلهم يعانون من التجاهل السياسي فيُمنعون من المشاركة في الحياة السياسية الجديدة أو أي دور قيادي.

يؤدي العزل إلى شعور بالعار، الوحدة، والانعزال وقد يبدو هذا الإجراء تعميقاً لانقسامات مجتمعية وربما يُعاب عليه عدم قانونيته، غير أن ذلك يبدو مبالغاً به نوعاً ما لأن هذا الإجراء لا يميل إلى الشدة ولا يبرر استخدام العنف ويدعو إلى تطمين الضحايا وذويهم، ويمنحهم شعوراً بالتعاضد المجتمعي، ولكن لا يجب أن يتحوّل المجتمع هنا إلى محكمة بحد ذاته ويبقى على عاتق القضاء والمؤسسات القانونية القيام بما يترتب عليهم من واجبات، من أجل تطبيق العدالة تحت سقف القانون.

تعود هنا العدالة الانتقالية إلى الواجهة، فبدلاً من العقاب الجماعي يمكن استخدام آليات عدالة انتقالية تعتمد على محاسبة المسؤولين الحقيقيين عن الجرائم، وبالتالي من الضروري إيجاد آليات قانونية لذلك بشكل مستعجل.

ومن نافل القول إنه من الضروري التمييز بين من أيّد النظام المستبد بمحض إرادته واستفاد من قمع الآخرين، وبين من اضطر إلى ذلك تحت التهديد أو بسبب ظروف قاهرة، فالعقاب الجماعي قد يؤدي إلى ظلم كثير من الأفراد الذين لم يكن لديهم خيار حقيقي.

قد يبقى مثل هذا الإجراء محفوفاً بالمخاطر ذلك أنه قد يؤدي إلى اضطرابات إذا ما طُبّق بشكل عشوائي ومن دون أدلة حقيقية.

ومن الواجب أيضاً الموازنة بين العدالة والمصالحة، فإذا ركّز المجتمع على العقاب فقط قد يصعب تحقيق استقرار طويل الأمد، ومن الضروري الابتعاد عن الانتقام والتحول من الانتقام الشخصي إلى بناء مؤسسات تحترم العدالة والقانون.

وبهذا علينا تحديد المسؤوليات الفردية بالاعتماد على تحقيقات عادلة تفرّق بين الداعمين النشطين والمجبرين أو غير المتورطين، بالتزامن مع التثقيف المجتمعي ونشر ثقافة التسامح ورفض العقاب الجماعي ودعم العدالة الانتقالية ببناء نظام قضائي قوي، يتعامل مع الجرائم بطريقة قانونية وشفافة لكن ذلك كله يبقى مرهوناً أيضاً بضرورة اعتراف الأفراد الذين دعموا النظام بأخطائهم والمساهمة في بناء المجتمع الجديد.

لقد طبّقت الثورة الفرنسية (1789-1799) العزل السياسي والاجتماعي بعدة طرق كجزء من جهودها لإعادة تشكيل المجتمع الفرنسي والقضاء على الامتيازات الطبقية والنظام القديم (Ancien Régime)، فألغت الامتيازات الطبقية، عام 1789.

وأصدرت الجمعية الوطنية مرسوماً يلغي الامتيازات الإقطاعية للطبقة الأرستقراطية ورجال الدين، وأصبح المواطنون متساوين أمام القانون، كما أُلغيت الامتيازات الضريبية الخاصة بالنبلاء ورجال الدين، مما أسهم في تهميش قوتهم السياسية والاجتماعية.

وفي عام 1792، أُلغيت الملكية بعد الإطاحة بالملك لويس السادس عشر، وأُعلنت الجمهورية، وأدى ذلك إلى عزل العائلة المالكة تمامًا عن الحكم، وأعدموا بشكل علني لإيصال رسالة واضحة بأنه لم يعد لهم أو لمن في حكمهم مكانًا في فرنسا.

من جانب آخر فإنه وبعد بعد انتصار الثورة الفرنسية سُنّ قانونان كان لهما الأثر الأكبر في تطهير الساحة السياسية وتقليص تأثير الأرستقراطيين والملكيين.

قانون النفي السياسي (1791-1792)، الذي استهدف الأرستقراطيين والأفراد الذين تعاونوا مع النظام الملكي، فقد مُنع هؤلاء من ممارسة العمل السياسي أو شغل مناصب عامة لمدة عشرة أعوام فما فوق والقانون ضد الملكيين (1795)، وفرضت قوانين تمنع الملكيين أو المؤيدين للملكية من العودة إلى الحياة السياسية.

كذلك صودرت أراضي النبلاء الذين حصلوا عليها كامتيازات لولائهم، وأعيد توزيعها على الفلاحين أو بيعها لدعم الخزينة العامة مما أسهم في عزل النبلاء وتقليل نفوذهم الاقتصادي والاجتماعي، وفي النتيجة فإنّ هذه السياسات أسهمت في تفكيك البنية الطبقية القديمة، وتحقيق بعض المساواة الاجتماعية.

وكمثال آخر لا تبدو ألمانيا مختلفة بإجراءاتها بعد الحرب العالمية الثانية وهزيمة النازية، عام 1945، فقد تبنت سياسة شاملة للتعامل مع أعضاء النظام النازي وجرائمه، كان الهدف الأساسي هو تفكيك النظام النازي وإعادة بناء ألمانيا الديمقراطية.

وكان الهدف في إجراءات اجتثاث النازية إزالة تأثير الحزب النازي من جميع جوانب الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، وطبقت الفصل من الوظائف العامة حيث فصلت المسؤولين وأعضاء الحزب النازي من المناصب الحكومية، العسكرية، والتعليمية، وأُجبر المواطنون على ملء استبيانات حول انتمائهم للحزب النازي، وصُنِّف الأفراد إلى خمس فئات بحسب تورطهم، وبذلك لم يكن تطبيق العقوبة عشوائياً.

كذلك عُقدت محاكمات للقادة النازيين الرئيسيين وصنفت جرائمهم بحسب الضلوع فيها، فقُسمت إلى: جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، والتخطيط لحرب عدوانية، وأُعدم و سُجن العديد من القادة النازيين، في حين انتحر آخرون مثل هتلر.

في العقود التي تلت الحرب، خصوصاً في ألمانيا الغربية اشتغلت المؤسسات المختصة على مسألة التثقيف العام، فأُدرجت جرائم النازية ضمن مناهج التعليم، واعترفت الدولة بمسؤوليتها فقدمت تعويضات مالية لضحايا النازية، كذلك بُنيت العديد من المتاحف والنُصب التذكارية لتخليد ذكرى المحرقة والجرائم النازية.

ولاحقاً، ظهرت قوانين صارمة لمنع أي نشاط نازي جديد، بما في ذلك تجريم إنكار المحرقة ومراقبة الأحزاب اليمينية المتطرفة، واستمرت ألمانيا، حتى اليوم، في محاكمة أفراد متورطين بجرائم الحرب النازية، بغض النظر عن أعمارهم، مثل حراس معسكرات الاعتقال تُعتبر هذه الجهود جزءاً من الالتزام بعدم نسيان الماضي وضمان عدم تكراره.

ويعد تعامل ألمانيا مع النظام النازي بجدية بالغة، إذ مزجت بين العقاب والاعتراف التاريخي بهدف بناء مجتمع قائم على الديمقراطية والعدالة، رغم التحديات، أصبحت هذه الجهود نموذجاً لكيفية تعامل الدول مع الأنظمة الشمولية السابقة.

النقطة المهمة التي من الواجب الإشارة إليها أن العزل السياسي والاجتماعي يجب أن يكون ضمن إطار قانوني واضح وإلا سيكون عائقاً للتقدم ولا يحقق العدالة للجميع، ويجب إشراك السوريين في العملية القانونية، لأن ذلك من شأنه نزع الاحتقان من الأطراف كلها وإرساء حالة من السلام بينهم.

للحقيقة أيضاً لا يمكن مقارنة الحالة السورية بغيرها من الحالات المشابهة، بسبب مجموعة من المعطيات والظروف التي تجعل منها أكثر تعقيداً من غيرها إلى حد ما، لكنها على الأقل بفرادتها يمكن أن تشكل أنموذجاً جديداً جيداً من التسامح والانتقال السياسي السلس في حال أديرت المرحلة بشكل صائب.

———————————

الصحافة السورية المستقلة.. من الثورة إلى سقوط الأسد/ أحمد حاج حمدو

قبل نحو شهرين ونصف من سقوط الأسد، كنت أضع بمعية زملائي اللمسات الأخيرة على تحقيقٍ شاركتُ فيه ضمن مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد OCCRP ووحدة سراج للصحافة الاستقصائية. يفكّك التحقيق أكبر منظومة تزوير في تاريخ الرياضة السورية، التي وقعت في عهد الأسد الأب أولًا، ثم ابنه بشّار الذي ورث الحكم بعده ثانيًا.

عشيّة نشر التحقيق، أغرقت زملائي باتصالاتٍ ليلية أُبدي لهم خوفي وعدم قدرتي على النوم، من عواقب نشر هذا التحقيق على أسرتي التي تعيش في سوريا، رغم أني صحفيٌّ منفي، ولن تصل إلي يد المخابرات، ولكن الخوف لم يفارقني ولم أنم تلك الليلة. كان محور الاتصالات مع زملائي الذين شاركوا في التحقيق يتنوّع بين التطمينات والتحذير من أن منظومة الرياضة السورية يمسكها جنرالات في الجيش والأمن بقبضة أمنية حديدية، ولا بد من أخذ الأمور بجدّية.

مضت تلك الليلة، ونُشر التحقيق، وفي الأيام التي أعقبت النشر، كنت مسكونًا بالخوف، وتتسارع نبضات قلبي في كل مرّة يرن فيها هاتفي، خشية خبر سيئ يصلني من سوريا.

هذا الخوف والاضطراب، لم يكن سوى موقف واحد من عشرات المواقف التي عايشتها خلال السنوات الماضية كما عاشها العشرات، بل المئات من الصحفيين السوريين غيري، الذين توزعت مخاوفهم بين مخاطر الاعتقال والرمي في أحد السجون الدموية، أو الانتقام من أسرهم أو التنكيل بهم واتهامهم بالخيانة والعمالة.

قبل اندلاع الثورة في سوريا، لم يكن هناك أي وجود للإعلام المستقل، باستثناء محاولاتٍ واعدة سارعت أجهزة المخابرات إلى وأدها. كان السوريون يقرؤون الصحف الرسمية الثلاث ويشاهدون التلفزيون الرسمي، علاوة على بعض الصحف والفضائيات والإذاعات الخاصة، التي كانت متوائمة مع السردية الرسمية للأسد، انطلاقًا من التناغم التاريخي بين رأس المال والسلطة. هكذا سيطرت الدولة على الإعلام كليًّا، وأحكمت قبضتها على كل المنافذ الإعلامية، وكان الترخيص لمنفذ إعلامي جديد يستغرق سنواتٍ طويلة من الدراسات المخابراتية التي لا ترخص لأحد إلا بعد التأكد من ولاء المتقدّمين المطلق.

صحيح أن بشار الأسد سقط في لحظاته الأخيرة، هاربًا بطائرةٍ خاصّة إلى العاصمة الروسية موسكو قبل دخول مقاتلي المعارضة إلى العاصمة بساعاتٍ قليلة، إلّا أن الإعلام السوري المستقل، لعب دورًا محوريًّا في عملية التغيير هذه على مدار 13 عامًا من عمر الثورة.

بعد اندلاع الثورة، ونهج سياسة ضرب الصحفيين بيد من حديد، غادر القسم الأكبر منهم خارج البلاد، في حين قُتل أو اعتُقل أو أقلع عن ممارسة العمل الصحفي من لم ينج منهم. فقد 180 صحفيا حياتهم على يد قوات النظام السوري؛ منهم 161 قُتلوا مباشرة من قبل قوات النظام السوري أو خلال التعذيب في سجونه، و17 صحفيا قتلهم الطيران الروسي المتحالف مع الأسد. والحال أن منظمات أخرى وثقت أعدادا أكبر من الصحفيين القتلى على يد النظام،  وهذا الرقم لا يشمل الصحفيين الذين قُتِلوا على يد أطراف النزاع الأخرى، ليدفع الصحفيون تكلفة عالية ثمنا للكلمة.

لم تتوقّف الانتهاكات عند القتل، بل ارتكب النظام السوري أنواعًا مختلفة من الانتهاكات مثل اعتقال الصحفيين المستقلين، وإخفائهم قسريا كما حصل مع الصحفي الأمريكي  أوستن تايس الذي لا يُعرف مكانه حتّى الآن، وتفجيرهم بالعبوات الناسفة كما حصل مع المصور الصحفي خالد العيسى، وتعذيبهم في السجون، إضافةً إلى القنص والقصف المباشر لمقارّهم كما حصل مع الصحفية ماري كولفن. قيّد النظام كذلك حرّية التعبير، عبر إغلاق المنصات التي لا تتماهى مع روايته، وفرض رقابة وسيطرة على محتوى الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، فضلا عن ترهيب الصحفيين نفسيا وتشويه سمعتهم.

بالنسبة للصحفيين الذين غادروا، نجح معظمهم في تأسيس نواة لصحافة مستقلّة لا تعرف القيود، ولم تخبر سوريا سابقًا هذا النوع من الصحافة. تميز الصحفيون السوريون بالشجاعة على الجبهات؛ فكانوا يغطّون مناطق فيها مستويات غير مسبوقة من الخطورة لنقل ما يجري في سوريا، وفي بعض الحالات كانت التغطية تصلنا من على الخطوط الأولى من الجبهات.

صحافة بديلة

أسهمت الصحافة الاستقصائية المستقلة التي انبثقت بعد اندلاع الثورة، في تفكيك منظومة الفساد التي يقودها النظام: كشفت حقائق عنه لا يمكن إنكارها حتّى أمام مؤيديه، استخدمت أنواعا/ أنماطا صحفية لم تكن مألوفة في سوريا أصلا، وطوّرت أدواتها إلى الحد الذي باتت فيه تخاطب العقل، لا العاطفة فقط، وذلك على الرغم من أن معظم وسائل الإعلام المستقلّة والبديلة التي ظهرت في سنوات الثورة كانت تعمل من المنفى، الأمر الذي صعّب مهمّتها وحتم عليها أن تطوّر أدواتها أمام ماكينة إعلام الأسد التي كانت تمتلك أموال السلطة والأرض والميدان.

ظهرت تجارب جديدة وواعدة لخلق رواية مختلفة عن الرواية “الخشبية” التي يتبناها إعلام النظام السوري. ظهرت صحافة مستقلّة تخاطب الجمهور بعقله بعيدًا عن عواطفه، وتأسست تجارب في مجال الصحافة الاستقصائية، اعتمدت على تقديم أدلّة موثقة على جرائم النظام، كذلك ظهرت للمرّة الأولى صحافة المصادر المفتوحة (OSINT)، التي كسرت احتجاز النظام السوري للمعلومات والوثائق وإبعادها عن أعين الصحافة؛ إذ نُشرت تحقيقات ضخمة بالاعتماد فقط على المصادر المفتوحة.

ومن التجارب الواعدة في الإعلام السوري المستقل، خلق أرشيف كامل لما جرى في سوريا، لمنع مواقع التواصل الاجتماعي من حذفها أو التصرّف فيها بصورة تؤثّر عليها بوصفها أدلة مستقبلية لمحاكمة الجناة؛ إذ أُرشِفت كل مقاطع فيديو الاعتقال والتعذيب وإطلاق الرصاص على المتظاهرين والأدلة على استخدام أسلحة محرمة دوليا.

كذلك تعزّزت فكرة صحافة الحلول والبودكاست والقراءات المعمّقة غير الخبرية، وغيرها من الأجناس والتقنيات الصحفية الحديثة، وكل ذلك بفضل الانفتاح على العالم الذي كانت تملكه وسائل الإعلام السورية المستقلّة، التي عمل معظمها من المنفى.

وعلى الرغم من أن الجزء الأكبر من وسائل الإعلام البديلة والمستقلّة التي ظهرت بعد عام 2011 في دول المنفى انتهى مصيرها بالإغلاق بسبب مشكلات التمويل وغياب الحلول التحريرية للظهور أكثر على الساحة، فإنّ ما بقي من هذه الوسائل نجح في خلق هيكلية إدارية قوية، ووسائل تمويل مستدامة، وصحافة مهنية.

في هذا الوقت كان الإعلام السوري الرسمي في دمشق، قد اختار منذ عام 2011 الحلول السهلة لمواجهة الثورة، واعتمد على نموذج (رفع الصوت للأعلى وضخ البروبوغاندا) لكي “يستمتع” بهذا النهج من دون الاستماع لما يُنشر ويُذاع في وسائل الإعلام المستقلّة بسبب غياب حلول المنافسة وعدم اتخاذ هذا الإعلام أي دور لتطوير أدواته.

————————

ملصقات “لا تكوني كافرة مسترجلة”/ لمى قنوت

تحديث 27 كانون الثاني 2025

بين يوم وآخر، ثمة ملصق وَثَّاب، يفرز النساء بين كافرات مسترجلات ومسلمات جيدات، يضع معيارًا لكل منهما، يُصَوِر الأولى منهن كجسد مستباح، وخريطة إغواء، ونموذج للاستيهام، ومخزن للدلالات، يُنتج إيماءات جنسية لعيون ناهشة مكبوتة وجائعة، ويضع هذا الملصق شروطًا للمرأة المسلمة وحجابها الشرعي، بأن “يكون ساترًا لجميع البدن، ألا يشبه ملابس الرجال والكافرات، أن يكون واسعًا غير ضيق، ألا يكون معطرًا، ألا يكون شفافًا، ألا يكون معه زينة، ألا يكون لباس شهرة”، وعلى يسار الملصق غرافيك لامرأة منقبة، يُفترض بأنها تُمِثل الهوية الاجتماعية للنساء، كل النساء “الجيدات”.

وبغض النظر عن حق النساء، كل النساء، في حرية الضمير والمعتقد والتعبير عن عقائدهن وتجليه بزي معيّن وبضمنه النقاب، فإن المنطق الذي أنتج وروّج لهذا الملصق يمثل نموذجًا في خلق سياقات عدائية وعنيفة تجاه خيارات النساء بكل تنوعاتهن وتنوع سياقاتهن، والتي لا تتعلق بالملابس فحسب، بل تمتد لجميع خياراتهن ورغباتهن وإراداتهن واستقلاليتهن كنساء حرات، ويُعتبر الملصق أيضًا، نموذجًا عما ينتجه النظام الأبوي، وما يخلقه من تبريرات إزاء العنف الممارَس ضدهن، إن لم ينصعن إلى سلة التعليمات والأوامر تجاه مظهرهن أو حركتهن وتنقلاتهن على سبيل المثال لا الحصر، وفق ما يصنفه الفكر النسوي بثقافة الطهرانية وثقافة الاغتصاب، فيصبحن بالتالي مسؤولات عن العنف ضدهن، باعتبارهن غير ممتثلات للقولبة الاجتماعية ومتمردات عليها، ويتواطأ العنف المجتمعي كعنف بنيوي مدافع عن مركزية الرجال، ليس كل الرجال، بل ممن يصنفهم النظام الأبوي في مصاف الأقوياء والأشداء والفحول مفتولي العضلات و”المحافظين الحكماء”.

يُسوق النظام الأبوي الضبط والرقابة والإخضاع والهيمنة على النساء وأجسادهن في ثنائية قطبها الأول المرأة الجسد، حيث يتكثف البعد الجنسي، والاستباحة والتشييء، فيكون الجسد مصدرًا للاستيهام الفردي والجماعي، مستغلًا في سوق العرض والطلب، طالما هو “جسد مثالي” لا يَهرم ولا يُهزم أمام معايير الجمال الأوروبية المنمطة والاستهلاكية المعولمة، وبالتالي فهي امرأة تستحق النبذ والتسليع والعنف والعقاب.

أما القطب الآخر في هذه الثنائية، فيتجسد في المرأة “الجيدة” وفق نموذجين قائمين على العمر والحالة الاجتماعية، الأول هو الابنة المطيعة الهشة القلقة الحائرة، والثاني هو الأم القوية المتمرسة في إدارة وضبط الأسرة، والحازمة في تطبيق المعايير الأبوية، وبكلتا الحالتين، ووفق النظام الأبوي، تحتاج المرأة إلى وصي، سواء كان فردًا أو مجتمعًا أو دولة، يضبطها ويحميها ويحجب عنها الأذى الخارجي فقط، أما الأذى الداخلي، كالعنف الأسري وعنف الشريك فهو “ضروري أحيانًا” لحماية الشرف والعرض، طالما أنها لا تخفق ولا تتذمر من أدوارها الرعائية، وبالتالي فإن التسويق للجهة التي قامت بإنتاج ونشر الملصق بأنها جهة غير عنفية وغير مسلحة، وبأنها مُحاربة من “هيئة تحرير الشام” في الشمال الغربي، لا ينطبق بالضرورة على العنف والتمييز بكل تقاطعياته ضد النساء والفتيات بكل تنوعاتهن وتنوع سياقاتهن.

كما أن ربط سلة شروط “لباس المرأة المسلمة وحجابها الشرعي” بنمط لباس المنقبات حصرًا، وألا يُشبه “لباس الكافرات”، الوارد في متن الملصق، أمر يفتح باب العنف اللفظي والمادي ضد النساء في الشوارع وداخل المؤسسات بوصفهن كافرات، كالعنف الذي شاهدناه في فيديوهات متداولة على وسائل التواصل الاجتماعي ضد شبان شتموا الذات الإلهية أو الذين تحرشوا لفظيًا بالنساء، فعوقبوا وأُذِلوا في الشوارع من قبل أمنيي الإدارة الجديدة، وهي ممارسات بعيدة عن سيادة القانون، بوصفها جرائم يعاقب عليها قانون العقوبات السوري.

في المقابل، وردًا على فحوى الملصق أعلاه، انتشرت ملصقات أخرى على جدران محافظتي دمشق وحمص، عنون أحدها بـ”لباس المرأة الحرة”، ورود فيه، “لقد حصلنا على الحرية من أجل الجميع، اختاري عزيزتي ما تشائين من الملابس في سوريا الحرة”، وضم الملصق شروطًا للباس الحر، “ألا يكون مفروضًا عليكِ، أن يكون عاجبك وعلى ذوقك، أن يُشعرك بالراحة والثقة، أن يعبر عن شخصيتك، أن يرضيكِ أنتِ ويناسبكِ، أن يكون باختيارك ورغبتكِ الكاملة، أن يكون ما تريدين”.

أثارت هذه الملصقات حفيظة الذكوريين، ذكورًا ونساء، ممن يتبنون خطاب الأولويات الذي يرى في النضال النسوي والنسائي لأجل نيل حقوق النساء ترفًا ورفاهية في ظل وجود قضايا أكثر إلحاحًا بالنسبة لهم، ولا يدركون موقعيتهم وحجم امتيازاتهم التي حمتهم وحجبتهم عن الصدام مع النظام الأبوي.

لا يمكن قراءة هذه الملصقات بمعزل عن السياق السوري اليوم، فالمقاربة التي يطرحها بعض المدافعين أو المُطَمئنين بأن هذه الحملات لا تختلف عن النشاط الدعوي المسيحي في أوروبا وشمال أمريكا على سبيل المثال، يجردون المشهد من سياقه، فنحن ما زلنا نستكشف أبعاد وتجليات هذه المرحلة الضبابية، ولم نخرج بعد من إرث استبدادي دموي طويل، ولم تتعافَ بعد المجتمعات السورية من الشروخ، وبالتالي فإن القلق النسوي من الهوس بضبط لباس النساء والتدخل بخياراتهن عبر هذه الحملات الدعوية يأتي في ظل فراغ دستوري، وعدم وضوح موقف السلطة الحاكمة من شرعة حقوق الإنسان والحريات الفردية والجماعية والديمقراطية، وقرابة عقد من مغالاة في التدين من قبل قوى الأمر الواقع ومؤسسات الحسبة بتعدد مرجعياتها الأيديولوجية.

عنب بلدي

————————————-

تفاصيل “صفقة أوجلان”… وهل ستعيد ترتيب المشهد الكردي في سوريا وتركيا؟/ عبد الغني دياب

الاثنين 27 يناير 2025

تشهد القضية الكردية تفاعلات واسعة على الساحتين السورية والتركية. فبالتزامن مع المفاوضات التي تجريها الحكومة الانتقالية السورية الجديدة مع قوات سورية الديمقراطية، المعروفة باسم “قسد”، والتي تسيطر على قطاعات واسعة من شمال وشرق سوريا، تجرى مفاوضات أخرى بين الحكومة التركية والمجموعات الكردية في الداخل التركي، وهو ما يشير إلى مساعى لحلحلة القضية الكردية، بأدوات سلمية بعد سنوات من الصراع المعقد، الذي تتشابك فيها المصالح وتتعارض في نفس الوقت.

وعلى الرغم من البدء الفعلي للمفاوضات المتعددة الأوجه بين أطراف المعادلة، إلا أن المعارك لا تزال قائمة بين المكونات المسلحة الموالية لتركيا، والقوات الكردية في مواقع بالشمال السوري، كان آخرها المعارك التي وقعت في محيط سد تشرين، والتي أدت إلى سقوط عدد من الضحايا وفقاً للمرصد السوري لحقوق الإنسان.

 حول هذه المفاوضات تقول المتحدثة باسم المبادرة السورية للمطالبة بالإفراج عن عبد الله أوجلان، آمنة خضروا، إن اللقاءات الأخيرة التي نظمها حزب “المساواة وديمقراطية الشعوب” الكردي، تضمنت أطروحات لحل مركزي لقضايا الأكراد في المنطقة، ولا يقتصر الحل الذي تدور حوله المفاوضات على الأكراد في الداخل التركي فقط.

الصفقة قد تشمل الإفراج عن أوجلان

وتضيف في تصريحات لرصيف22 أن اللقاء الذي حضره ساسة أكراد مع أوجلان في محبسه بجزيرة إمرالي، تكرر مرتين حتى الآن، وأنه من المتوقع أن تشتمل الصفقة حال نجاحها على الإفراج عن القائد الكردي المعتقل منذ 25 عاماً.

وأوضحت أن أوجلان رحب بهذا التقارب، لا سيما وأنه يتوافق مع رؤاه وأطروحاته السابقة، التي دعا فيها لإحلال السلام، وحفظ حقوق المكونات الاجتماعية في المنطقة بما فيهم الأكراد، دون تفرقة على أسس عرقية أو دينية أو سياسية، مشيرة إلى أن أوجلان يرى أن الحل يجب أن يكون اجتماعياً وشاملاً.

وتشير المسؤولة السورية إلى أن المتغيرات الكبيرة التي شهدتها المنطقة بما فيها سقوط نظام الأسد، وعودة طرح ما يسمى بالشرق الأوسط الجديد، جعل أنقرة تعجل بهذا التقارب، كونها تخشى من وصول هذا الطوفان الكبير الذي بدأت أحداثه منذ الربيع العربي، إلى الداخل التركي.

وتربط خضروا بين الأزمات الداخلية التي مرت بها تركيا، خاصة على المستوى الاقتصادي، وبين رغبتها في حل القضية الكردية. تقول: “وجدت أنقرة أنه من الصعب الاستمرار في سياساتها التعسفية بحق الأكراد، خاصة مع تردد عبارات من نوعية ‘حماية الأمن القومي’، والتي لم تعد مستساغة شعبياً بسبب الوعي المحلي والإقليمي بأساليب حزب العدالة والتنمية الملتوية”.

وتضيف: “الشعوب الموجودة في كل من سوريا وتركيا، لطالما عاشت في تقارب خلال قرون مضت، إلا أن الأنظمة السياسية القمعية هي التي خلقت شرخاً في هذه العلاقات، وبإنهاء هذا القمع يمكن أن تعود الأمور لسابق عهدها، عبر إنشاء أمة تحترم كل الطوائف الدينية والعرقية والمذاهب والقوميات”.

نجاح معلق بالضمانات

وعن مدى إمكانية نجاح المفاوضات المفتوحة حالياً مع الحكومة الانتقالية في سوريا، تشير خضروا إلى أن الأمر لا يزال ضبابياً، إلا أنها تؤكد أن القيادة العامة لقوات سوريا الديمقراطية أظهرت انفتاحاً كبيراً. كما أنها متمسكة بالحفاظ على وحدة الأراضي السورية ومكافحة كل ما يهدد المصالح السورية. ولا ترى أنه يمكن تكرار تجارب إقليم كردستان الأمنية، إذ أن ذلك لا يعد هدفاً في حد ذاته لسوريا الديمقراطية، بل الهدف هو جعل سوريا ديمقراطية لا مركزية تأخذ كل الطوائف والأقليات حقوقها المشروعة فيها.

وبخصوص إلقاء المجموعات الكردية للسلاح أكدت خضروا أن الأمر وارد، وأن أوجلان لا يمانع في ذلك بشرط أخذ الاشتراطات اللازمة، وتضمين ذلك في الاتفاقيات الجارية حالياً، خاصة وأن التجارب السابقة مع تركيا لا تشير إلى أن حكومة العدالة والتنمية ستلتزم بتعهداتها دون أخذ الضمانات الكافية، وأنه لو كان أوجلان يثق في الحكومة التركية لما فضّل السجن كخيار لمدة تزيد عن 25 عاماً.

عن موقف قوات سوريا الديمقراطية من هذه المفاوضات تقول ممثلة مجلس سوريا الديمقراطية بمصر ليلى موسى، إن الحوار لا يزال مفتوحاً بين قوات سوريا الديمقراطية والإدارة الجديدة في دمشق، مشيرة إلى أنه يوجد بالفعل بعض التفاهمات حول تشكيل لجان لدراسة بعض الملفات السياسية والاقتصادية والعسكرية، وبالتالي يمكننا القول بأنها ما زالت في طور النقاش والتباحث.

تقول في حديثها لرصيف22: “يمكن القول إنه جرى وضع أولى اللبنات نحو الاتجاه الصحيح، لا سيما وأن الطرفين لديهما رغبة في الحوار وحل الملفات بشكل سياسي، بما يخدم مصلحة الشعب السوري في أقرب وقت”.

موقف “قسد” من الاندماج بالجيش السوري

وحول سؤال ما إن كانت قوات “قسد” ستندمج في الجيش السوري، تجيب: “قسد منذ تأسيسها أكدت مراراً بأنها ستكون جزءاً من الجيش الوطني السوري، وتتطلع لنظام حكم لامركزي تعددي”، مؤكدة أن التجربة العراقية في إقليم كردستان تختلف تماماً عن الوضع القائم في الشمال السوري.

وتقر موسى بأن فتح باب التفاوض من جديد مع عبد الله أوجلان، وحل القضية الكردية بالسبل السياسية والدبلوماسية عبر الحوار والتفاوض في الداخل التركي، سيؤثر إيجاباً على السياسات التركية ومواقفها حيال الشمال السوري، إلا أنها تستدرك بأنه من المبكر الحكم وتقييم ما يجري في تركيا من لقاءات.

وتقول إنهم يحتاجون للتأكد من وجود رغبة جادة لدى أنقرة بحل القضية الكردية، وإنها ليست مجرد مناورة، مذكّرة بأن هذه ليست المباحثات الأولى التي تجرى بين الطرفين ولم تخرج بحل حقيقي، ومنها ما حدث بين عامَي 2013 و 2015 والتي باءت بالفشل، لأن تركيا كانت تتنصل من وعودها، على حد تعبيرها.

رفض سوري لمقترح “المركزية”

وفي المقابل رفض وزير الدفاع السوري، مرهف أبو قصرة، المقترحات الكردية الرامية للحفاظ على كتلة كردية خاصة داخل القوات المسلحة السورية، لافتاً إلى أن “باب التفاوض لا يزال مفتوحاً، إلا أنهم إذا اضطروا للقوة، سيكونون جاهزين”. وقال أبو قصرة في تصريحات  لوسائل إعلام إنه التقى بقادة قوات سوريا الديمقراطية، لكنه اتهمهم بـ” المماطلة” في المحادثات بشأن اندماجهم، وقال إن دمجهم في وزارة الدفاع مثل فصائل المعارضة السابقة الأخرى “حق للدولة السورية”.

ويتفق الباحث في دراسات الشرق الأوسط سيفات دارجين، مع الرأي القائل بأن تركيا أجبرت على فتح جبهة للحوار مع الأكراد بسبب المتغيرات الإقليمية، لافتاً في مقال له في موقع جامعة نورويتش الأمريكية، إلى أن أنقرة تخشى التغيرات المحتملة، التي قد تتسبب بتغيير الحدود والجغرافيا في المنطقة.

ويشير إلى أن التحرك التركي بدأ حتى من قبل سقوط نظام الأسد، حين صافح رئيس حزب الحركة القومية، دولت بهجلي، المعروف بعدائه للأكراد، أعضاء حزب المساواة والديمقراطية الكردي في أولى جلسات البرلمان التركي تشرين الأول/أكتوبر 2024، مشيراً إلى أن بهجلي بعد فترة وجيزة من المصافحة، اقترح دعوة القيادي أوجلان، الذي كان يطالب بإعدامه في السابق، لإلقاء كلمة في البرلمان التركي في محاولة لإنهاء الصراع المستمر منذ عقود.

عين أنقرة على أكراد سوريا

ويشير الباحث إلى أنه لم يكن هناك أي بوادر تشير لتغير الموقف التركي من الأكراد، مشبهاً ما حدث بأنه يشبه رحيل الأسد المفاجئ، لافتاً إلى أن الأمر يبدو وكأنه متعلق بمعالجة المسألة الكردية في سوريا، لا سيما وأن عمليات حزب العمال الكردستاني تراجعت بشكل كبير في الداخل التركي، ولا توجد حاجة ملحة حالياً لإنهاء الخصومة في الداخل التركي.

ويوضح أنه على عكس الظاهر على السطح، فإن تركيا تعتبر نفسها مهددةً بشكل أساسي من التطورات الأخيرة في سوريا، وذلك على الرغم من التحالف مع الإدارة الجديدة في دمشق، حيث يفسر القادة الأتراك الأحداثَ بشكل مختلف؛ فعلى الرغم من أن وصول نظام موالي لأنقرة للحكم في دمشق يجعلها قادرة على استهداف التجمعات الكردية، إلا أن عجز هيئة تحرير الشام عن بسط نفوذها على كامل الأرض السورية، ووجود دعم غربي لقوات “قسد” يثير القلق، خاصة بعد أن تحدثت تقارير إسرائيلية عن دعم تل أبيب للحكم الذاتي الكردي، وهو حافز إضافي لاستمرار الدعم الأمريكي للأكراد السوريين على حد قول دارجين.

ويستدل الباحث على رأيه بالخطاب الذي ألقاه أردوغان في 11 كانون الثاني/يناير 2025 من مدينة ديار بكر العاصمة الرمزية لكردستان، والذي حذر فيه من الأطماع الإسرائيلية في المنطقة، والتي قد تمتد للأراضي التركية بعد فلسطين ولبنان.

وبالنظر إلى الروابط القوية بين المنظمات الكردية في سوريا وتركيا، يرى الباحث أن أنقرة ترى في أوجلان مدخلاً لحلحلة الخلافات القائمة في الجانبين التركي والسوري مع الأكراد، مشيراً إلى أن الهدف التركي الرئيسي المعلن حالياً هو نزع السلاح الكردي، دون أي وعد بتنازلات سياسية، أو الاعتراف بالحقوق الكردية ، أو الإصلاحات الهيكلية التي تعالج المظالم الأساسية للسكان الأكراد في تركيا.

الحل العسكري وارد أيضاً

وتوقع الباحث أن تشن تركيا حملة عسكرية شاملة ضد الأكراد السوريين وحزب العمال الكردستاني، في حال فشلت المفاوضات مع أوجلان، مؤكداً أنه بالنسبة للأتراك فإن وجود نحو ألفَي جندي أمريكي بين الأكراد في سوريا هو العامل الوحيد الذي يغير قواعد اللعبة، والذي يمنع مثل هذا الإجراء.

وتتفق مع هذه الرؤية الباحثة في معهد كروك لدراسات السلام الدولي، أرين سافران، نوتردام، والتي تقول في دراسة لها إن “التفاوض بين الأكراد والأتراك في السابق لم يمكن ناتجاً عن ضغوط إقليمية أو دولية، ورغم ذلك لم ينجح بسبب تمسك كل طرف بموقفه ومطالبه، وعدم الاستعداد لتقديم تنازلات”، مشيرةً إلى أن عمليات التفاوض التي عقدها الجانبان بين عامَي 2009 و2015، حين فشلت، فضل الطرفان العودة للقتال لحين توافر الظروف المواتية للعودة للسلام من جديد.

الحديث السابق يحيلنا للسيناريوهات المتوقعة لمستقبل القوات الكردية في الشمال السوري.

حول هذه الاحتمالات يقول الباحث المصري، عمر علاء في ورقة بحثية له نشرتها مجلة “السياسية الدولية”، إنه يوجد عدد من العوامل ترجح الكفة الكردية حالياً، منها الاستمرار في محاربة تنظيم داعش، والشراكة الجيدة مع الغرب، والسيطرة على الموارد والثروات، إلا أنها في الوقت نفسه تواجه عدداً من التحديدات منها الرفض التركي للحكم الذاتي، والمطالب الدولية بتوحيد سوريا، بالإضافة لاختلال موازين القوى الإقليمية خلال الأشهر الأخيرة.

وبحسبه يوجد عدد من السيناريوهات المتوقعة منها “تقويض قدرات قوات سوريا الديمقراطية، أو الاعتراف بالحكم الذاتي، أو الاندماج في الدولة السورية”.

ويشير الباحث إلى أن مستقبل قوات سوريا الديمقراطية يبدو غامضاً ومعقداً، خاصة وأن “أنقرة ترى في التحركات الكردية تهديداً لأمنها القومي، كما أن الدعم الأمريكي المشروط لقسد لا يقدم ضمانات كافية، وفي ظل المصالح المتغيرة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، واحتمالية تقليص وجودها العسكري، قد تسير الأمور نحو التصعيد”.

مصير مرهون بالتفاهمات الدولية والإقليمية

ويرى علاء أن الحل الأمثل يبقى مرهوناً بإرادة الأطراف المحلية والإقليمية والدولية للتوصل إلى تسوية سياسية شاملة تراعي مصالح الجميع، وتضع حداً للصراع في سوريا، وترسم طريقاً لمستقبل البلاد ما بعد حكم بشار الأسد.

 الرأي نفسه يقوله الباحث سمير الأحمد، والذي يؤكد في مقال له نشره معهد الشرق الأوسط واشنطن، أن مصير “قسد” وشرق سوريا مرتبط باتفاقيات إقليمية ودولية، مؤكداً أن الجميع ينتظر موقف الإدارة الأمريكية الجديدة من الشرق الأوسط وسوريا، حيث مارست تركيا ضغوطاً كبيرة لتحقيق مكاسب وفرض وقائع على الأرض قبل تنصيب دونالد ترامب وأي سياسات لاحقة.

ويضيف أن مستقبل شرق سوريا يتوقف على صياغة اتفاقيات دولية قادرة على تحقيق استقرار دائم في ظل تحديات أمنية معقدة، مع مخاوف من عودة داعش، واحتمالات تصعيد عسكري.

وبينما تسعى الولايات المتحدة للحفاظ على وجودها وضمان استقرار المنطقة، فإن نجاح هذه الجهود يعتمد على قدرة الأطراف الرئيسية على إيجاد أرضية مشتركة وتنفيذ حلول عملية. ومع استمرار الجمود الحالي، يبقى شرق سوريا أمام خيارين: إما تسوية سياسية شاملة، أو تصعيد جديد قد يزيد من تدهور الأوضاع الإنسانية والأمنية.

رصيف 22

—————————–

سورية في فراغ مهول اقتصادي وسياسي ودولتي/ ماجد كيالي

سورية اليوم بلد متعب، ومستنزف، ومتهالك، من كل النواحي، وهذا يشمل تدهور قطاعات الاقتصاد الإنتاجية والخدمية، واهتراء وتقادم البني التحتية، وضياع كتلة الأجر لقطاع كبير من العاملين في إطار أجهزة الدولة المدنية والعسكرية، الذين لا يغطي راتب الواحد منهم مؤونة أيام معدودة، بنتيجة انهيار قيمة العملة، يضاف إلى كل ذلك صعود أسعار السلع والخدمات، وضمنها النقل، مع ارتفاع نسبة البطالة والفقر، وهي كلها أوضاع تؤشر على أزمة اجتماعية كبيرة، مع كل التداعيات الناجمة عن ذلك.

هذا يشمل، أيضا، حال الفراغ السياسي والدولتي، إذ أن السلطة الانتقالية، أو حكومة تصريف الأعمال، لم تستطع القبض تماما على كل مفاصل الدولة، في كل القطاعات، لاعتبارات ذاتية وموضوعية، نسبة لظروف تكوينها وطبيعتها، لا تمتلك القدرة أو الإمكانيات أو البنية القادرة على حمل سوريا، بالنظر لحداثة ومحدودية تجربتها، والفترة الزمنية الضيقة، ولانشغالها بالهاجس الأمني، وتعزيز سلطتها في كل المناطق، على حساب الأولويات الأخرى.

ومن البديهي أن المواطن السوري بعد كل تلك المعاناة التي اختبرها، طوال السنوات السابقة، ومع شعوره بالحرية، وارتياحه للتخلص من سطوة النظام السابق، يتطلع إلى تحسين مستوى معيشته، والشعور بالأمان والإطمئنان، السياسي والاجتماعي والاقتصادي، في أقرب وقت ممكن.

بيد إن الأمر لا يقتصر على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية إذ يشمل ذلك الفراغ السياسي المريع الذي طبع الحالة السورية بطابعه، طوال أكثر من نصف قرن، والذي يفاقم من كل المشكلات السابقة، وهو ناجم عن السياسة التي انتهجها نظام الأسد (الأب والابن) الذي حرم السياسة، والأحزاب السياسية، باستثناء الأحزاب التي تشتغل تحت هيمنته في إطار “الجبهة التقدمية، التي ليس لها في اسمها أي نصيب.

ولعل مشكلة السوريين في هذه المسألة أنهم افتقدوا للحياة السياسية، ولحرية الرأي والتعبير، الفردي والجمعي، داخل بلدهم، طوال 55 سنة، وإن عدوى ذلك استمرت معهم، لدى خروج ملايين منهم إلى الخارج، إذ لم يستطيعوا تشكيل كيانات سياسية وازنة أو فاعلة، في البلدان التي عاشوا فيها، والتي تتيح لهم حرية العمل السياسي (تركيا والدول الأوروبية)، بسبب افتقادهم للتجارب والخبرات السياسية، وضعف اجماعاتهم الوطنية، والمداخلات الخارجية التي تحكمت بمسارات وتوجهات كيانات المعارضة التي أنشئت، سواء السياسية او العسكرية او الخدمية.

إذن سوريا اليوم تعيش في فراغ مهول، اقتصادي ودولتي وسياسي، لا يخفف من وطأته سوى حال الارتياح العام التي تشي معظم السوريين نتيجة التخلص من نظام الأسد الذي مكث على صدورهم أكثر من نصف قرن، والذي تبين أن هذا النظام قائم على بنية هشة، إذ لا دولة، ومجرد سلطة، لا دولة عميقة، ولا دولة باطنة، لا اقتصاد دولة ولا اقتصاد طبقة، لا مجتمع مدني ولا نقابات ولا أحزاب، فكل شيء تبخر بلحظات، بذات الطريقة التي تبخر فيها الرئيس الذي تجرأ على حكم سورية، كوريث لوالده، على مدى 24 عاما، تسبب فيها في تهجير نصف السوريين، وتدمير مدنهم وعمرانهم، وتنشيف عروق بلدهم.

الشيء المطمئن حتى الآن، في هذه المرحلة الانتقالية، أن التغيير السياسي الذي حصل في سوريا تم بسلاسة ومن دون معارك، تقريبا، وأن كل المظالم السابقة، وكل بذور الكراهية التي ذرعها النظام السابق بين السوريين، لم ينجم عنها ردات فعل ثأرية أو انتقامية، كظواهر جماعية، أي باستثناء انتهاكات متفرقة لحالات فردية أو خاصة، وأن ثمة اجماع بين معظم السوريين على تجاوز آثار الماضي، لمصلحة الحفاظ على وحدة سوريا، وإعادة بناء الدولة كدولة لكل السوريين.

الآن،  من الواضح أن كل شيئ، يتعلق باليوم التالي في سوريا، أي شكل سوريا القادمة، وطبيعة النظام السياسي فيها، وبناء الاجماع الوطني بين السوريين، يتوقف على طريقة عبور المرحلة الانتقالية الراهنة، بالاستفادة من التجارب التي حدثت في مصر وتونس وليبيا والسودان والعراق ولبنان واليمن.

على ذلك من الطبيعي أن تهتم السلطة الانتقالية، التي حددت فترة الثلاثة أشهر (تنتهي في آذار/مارس القادم) بتعزيز سلطتها على الأرض، لمواجهة أي محاولة من بعض أطراف النظام السابق التحرك، أو استدراجها للعنف، بخلق مشكلات أمنية، لكن تبقى المهم التأسيسية للسلطة الانتقالية هي عدم الوقوع في هذا الاستدراج، عبر تأهيل أجهزة أمنية متخصصة، وتخضع في عملها للقانون، ولمرجعية سياسية تتأسس على تأكيد الحفاظ على الأمن والاستقرار لكل المواطنين بدون أي تمييز، مع انفاذ سياسة “العدالة الانتقالية”.

الأولوية الأخرى للسلطة الانتقالية تتمثل بخلق الأجواء المناسبة لإنضاج اجماعات وطنية تؤلف قلب السوريين، من خلال اتاحة المجال لتشكيل كيانات سياسية، وعبر وسائل الاعلام، ومن خلال المنابر، لأن هذه الخطوة هي التي تمهد لانضاج فكرة المؤتمر الوطني، أو المؤتمر التأسيسي، المفترض، الذي سيأخذ على عاتقه صوغ دستور، يتأسس على قيم عليا فوق دستورية، أي لا يمكن المس بها أو تعديلها، من قبل أية أغلبية انتخابية، في المستقبل، وهي قيم الحق في الحياة والحرية والكرامة الإنسانية والمساواة، بين المواطنين، من دون أي تمييز، لأن ذلك ما يجعل من السوريين، بكل مكوناتهم، شعبا، وهذا ما يجعل سوريا كدولة مواطنين حقا.

ضمن ذلك، أو بالتوازي معه، لا بد من العمل من أجل تحسين المعيشية للمواطنين، من خلال اتاحة المجال للنهوض بالقطاعات الاقتصادية، وفتح المجال أمام الاستثمارات، وتوفير بيئة قانونية وسياسية توفر الضمانات اللازمة لذلك، لأن تحسين الأوضاع الاقتصادية يضمن الاستقرار السياسي والاجتماعي أيضا، كما يضمن عودة المواطنين السوريين، وهذين هما الشرط لإعادة إعمار سوريا، والنهوض بها، وتعزيز مكانتها على الصعيدين العربي والدولي.

لا حق لأحد، ولا لأي سلطة، ولا لأي حزب، التلاعب بمصائر السوريين، لأن ذلك يعني إعادة انتاج النظام السابق، بطريقة جديدة، وهذا أمر لن يؤدي إلى نجاح أي سلطة، بحسب خبرات عديد من الأنظمة العربية، كما لن يفيد شعب سوريا، الذي يستحق العيش بحرية وكرامة بعد كل ما قدمه من معاناة وتضحيات.

النهار العربي

—————————-

ملاحظات/ حازم السيد

يتحدث كثر عن “الجماعة العلوية”، وضرورة تقديمها للاعتذارات والمراجعات الأخلاقية والاجتماعية. بودكاست ما بعد الأسد مع راتب شعبو فرصة ممتازة للتفكير بهذا السؤال،  فالكاتب اليساري والمعتقل السابق واحد من أنبه الكتاب السوريين، وابن الساحل العلوي، ويمتلك من الفرادة والشجاعة والرأسمال الرمزي ما يسمح له بأن يقول ما يريد وبأقل قدر ممكن من الرقابة الذاتية.

لا يعتقد شعبو بأن على العلويين الاعتذار وأنا أتفق معه على ذلك، ولكن مقاربته للمسألة وامتداداتها تبدو مشوشة وقليلة القدرة على الإقناع، فهو يعتقد بأن “العلويين” قد تحولوا الى وقود ماكينة الأسد الاجرامية بسبب مركزي وشبه حصري هو الخوف. الخوف من السلطة من جهة ومن ممارسات الفصائل المعارضة وخطاب الإسلام السلفي “الإبادي” على حد تعبيره، و ينفي نفيا قاطعا بأن يكون العلويون  من أصحاب الامتيازات، مدللا على ذلك بفقر الريف العلوي والذي وثقته في القرداحة كاميرات الجزيرة وغيرها، معتبرا بأن في هذه المطالب ما يريد تحويل العلويين الى الخروف الأسود والعنصر الغريب عن الاجتماع السوري اللطيف.

لا يتفق ذلك كثيرا مع التجربة المعاشة للكثير من السوريين في اختبارهم لحضور “العلوي”  كامتداد للسلطة ووكيل عنها، وفي تماهي عموم العلويين المذهل مع الدعاية الإبادية الركيكة للنظام، ولا يتفق أيضا مع حقيقة أن أبناء الريف العلوي الفقير، الغائبين تماما عن المدن سوريا الكبرى، بل وعن مدن الساحل السوري، حتى ستينيات القرن الماضي قد أصبحوا أصحاب أرزاق وعقارات بل وأحياء وازنة في الكثير من المدن السورية الكبرى. إهمال العلويين لريفهم ومساهمتهم المعتبرة في ترييف المدن السورية قد تؤكد على عدم “علوية السلطة”، بل وعلى احتقارها لهم، وغياب رغبتها بالعمل على تنميتهم بالمعنى الشامل للكلمة، ولكنه لا يعني فقرهم وغياب مكاسبهم، المادية على الأقل.

وبخصوص سؤال الاعتذار، قد يتوجب على أعيان العلويين من نخب دينية وروحية وثقافية بل واجتماعية تقديم بعض المكاشفات والاعتراف بفشلهم المذهل في مقاومة اشتغال السلطة في مجتمعاتهم، ولكن العارف بتاريخ سوريا وبعمق هذا الاشتغال في مجتمعات العلويين وامتداده على ما يتجاوز نصف قرن يعرف أننا لن نكون الا قبالة أزلام سلطة منعدمي الضمير تقريبا، ليس لاعتذارهم أي معنى،  وهو ما يجعل اعتذار نخب العلويين مؤجلا بانتظار ولادة جيل جديد منهم،  بل وما يدفعنا الى مساندتهم وسط الصحراء المذهلة التي يجدون أنفسهم وسطها، على المستوى الروحي والاجتماعي.

من ناحية أخرى، لا أعتقد أن على العلويين الاعتذار كجماعة حتى لو تماهت قطاعات واسعة منهم، مع خطاب النظام وتحول بعضهم إلى وقود مكينته العسكرية الإجرامية، ولكنني أعتقد ذلك لأن علويين، قد يعرّفون أنفسهم بوصفهم علويين أو غير ذلك، وقد نظن بأن عددهم قليل رغم أنني أعتقد بأنهم أكثر مما نعتقد، قد بذلوا جهودا لا يستهان بها كي يحافظوا على حياة طبيعية، وما يقتضيه ذلك من “مسافة أمان” مع منظومة الكراهية والاجرام التي كانها نظام الأسد وامتداداته الطاغية في حياتهم اليومية.

 مطالبة العلويين، كجماعة، بالاعتذار هو انتهاك لكرامة الصامتين والمعارضين منهم وبداية غير موفقة لمقولة الكرامة في سوريا، فالكرامة هي كرامة الأفراد أولا وقبل كل شيء، ولا يجب أن نقبل بعد اليوم التعامل معها إلا بكل احترام وعناية، بل ويجب أن تتحول إلى واحدة من “حقوقنا الطبيعية” وإلى قيمة مؤسسة لاجتماعنا، لينطبق عليها ما ينطبق على القتل ف”من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا”.

 الفيس بوك

—————————

=======================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى