شعر

مختارات للشاعر الأوروغوياني “ماريو بينيديتي”

اعداد موقع “صفحات سورية

=======================

لأنَّنا لسنا وحيدَين

تضمُّ مجموعة “الحبّ، النساء والحياة” (1995)، التي اخترنا منها هذه القصائد، أفضل قصائد الحبّ التي كتبها الشاعر الأوروغوياني. الحبُّ، وفقاً له، هو بديل الموت، يُظهره لنا مليئاً بالإيمان، فهو القوَّة الرئيسة التي تحرّك الكائن البشري وتعلن وجوده.

■ ■ ■

امرأةٌ عاريةٌ في الظلمة

حينما تبتسمينَ

حينما تبتسمينَ

يخطرُ لي أنَّ ابتسامتَكِ هيَ النَّجاة،

الأثر الَّذي يتركه المستقبلُ فيكِ،

ذاكرة الخوف والأمل،

آثار خطواتِكِ في البحر،

نكهة الجلد وحزنه.

حتَّى العالم الذي يسهر مراقباً مراراته،

يبتسمُ معكِ،

حينما تبتسمينَ.

■ ■ ■

خطّة واستراتيجيَّة

خطَّتي هي تأمُّلكِ

أنْ أتعلَّمَ ما أنتِ،

أنْ أحبَّكِ كما أنتِ.

خطَّتي هي التّحدُّثُ إليكِ،

وسماعُكِ،

بناءُ جسرٍ من الكلمات لا يمكن تحطيمُه.

خطَّتي هي البقاءُ في ذكراكِ

لا أعرفُ كيفَ؟ بأيِّ حجَّة؟ 

إنّما، البقاءُ في ذكراكِ.

خطَّتي هي أن أكونَ صريحاً معَكِ

وأن أعرفَ أنَّكِ صريحةٌ

كي لا يخدعَ بعضُنا الآخر

ولا يكون هنالك بيننا

ستارٌ أو هاوية.

استراتيجيَّتي، في المقابل،

أكثرُ عمقاً وبساطة.

استراتيجيَّتي هي

لا أعرف كيفَ؟ بأيِّ حجَّةٍ؟

ولكن،

أن تحتاجيني

في أحد الأيَّام.

■ ■ ■

قلبٌ مُحصَّنٌ

لأنّي أمتلكُكِ ولا أمتلكُكِ

لأنّي أفكِّرُ فيكِ

لأنَّ المساءَ بعيونٍ مفتوحة

لأنَّ المساءَ يمضي، وأقول الحبَّ

لأنَّكِ جئتِ لأخذِ صورتِكِ،

وأنتِ أجملُ من كلِّ صوركِ

لأنَّكِ جميلةٌ من القدم حتَّى الرّوح

لأنَّكِ طيّبةٌ من الرّوح وصولاً إليَّ

لأنَّكِ تختبئينَ جميلةً بالغرور،

صغيرةً وجميلة

قلبي مُحَصَّن.

لأنَّكِ لي

لأنَّكِ لستِ لي

لأنِّي أنظرُ إليكِ وأموت

وأسوأ من موتي

هو إنْ لم أنظرْ إليكِ، يا حبيبتي،

إنْ لم أنظرْ إليكِ.

لأنَّكِ تُوجَدينَ دائماً في كلِّ الأماكن

لكن، تُوجَدينَ أفضل أنَّى أريدُ

لأنَّ فَمَكِ دَمٌ

وتشعرينَ بالبرد

يجبُ أنْ أحبَّكِ، يا حبيبتي

يجبُ أنْ أحبَّكِ.

حتَّى لو كان هذا الجرح يؤلم كاثنين،

حتَّى لو بحثتُ عنكِ ولم أجدْكِ

حتَّى لو مضى المساء

وامتلكتُكِ ولم أمتلكْكِ،

عَليَّ أنْ أُحبَّكِ، يا حبيبتي.

■ ■ ■

أحبُّكِ

يداكِ هما اللَّمسةُ اللطيفةُ الَّتي أُحبُّ

ذكرياتي اليوميَّة،

أحبُّكِ لأنَّ يديكِ تعملانِ من أجلِ العدالة.

إذا كنتُ أحبُّكِ فلأنَّكِ حبيبتي، وشريكتي، وكلُّ شيء

وفي الطريق، جنباً إلى جنب،

نكون أكثرَ من اثنين.

عيناكِ هما تعويذتي أمامَ الوقتِ السيّئ

أحبُّكِ من أجل نظرتِكِ الَّتي تُبصِرُ وتزرعُ المستقبل.

فمكِ الَّذي هو لكِ ولي

فمكِ هذا لا يُخطئُ

أحبُّكِ لأنَّ فَمَكِ يعرفُ كيفَ يصرخُ التّمرد.

إذا كنتُ أحبُّكِ فلأنَّكِ حبيبتي، وشريكتي، وكلُّ شيء

وفي الطريق، جنباً إلى جنب،

نكون أكثرَ من اثنين.

ومن أجل وجهكِ النَّقي

وخطوتكِ المتشرِّدة

وبُكائكِ على العالم،

ولأنَّكِ شعبٌ،

أحبُّكِ.

وَلأنَّ الحُبَّ ليس هالةً

ولا عبرةً غير نافعة،

ولأنَّنا لسنا وحيدَين،

أحبُّكِ.

أحبُّكِ

في جنَّتي،

أي في وطني

أنَّى الناسُ تعيشُ سعيدة 

دون إذنٍ.

إذا كنتُ أحبُّكِ فلأنَّكِ حبيبتي، وشريكتي، وكلُّ شيء

وفي الطريق،

جنباً إلى جنب،

نكون أكثرَ من اثنين.

■ ■ ■

العكسُ بالعكسِ

أخافُ رؤيتَكِ

وأحتاجُ إلى رؤيتِكِ،

لديَّ آمالٌ برؤيتكِ

وارتباكٌ من رؤيتكِ.

تنتابُني رغبةٌ في العثورِ عليكِ

قلقٌ من العثورِ عليكِ

ثقة،

وشكوكٌ فقيرةٌ لإيجادِكِ.

أشعرُ كم هو ضروريٌّ لي سماعُكِ

والفرحُ لسماعِكِ،

أشعرُ كم حظّيَ جميلٌ لسماعِكِ

وأخافُ سماعكِ،

أي باختصار،

أنا مُتعبٌ

ومتوهِّج.

قد أكون مُتعباً أكثر من كونيَ مُتوهِّجاً،

لكن أيضاً، العكسُ بالعكسِ.

■ ■ ■

قصيدةٌ غزليَّةٌ في شريط كاسيت

الآنَ، بعدَ أن ضغطتُ زرَّ التَّشغيلِ،

سأتجرَّأُ وأبوحُ بما خشيْتُ

أنْ أقولَهُ لكِ وجهاً لوجه:

أن تضغطي، على الفور، زرَّ الإيقاف.

امرأةٌ عاريةٌ في الظلمة

امرأةٌ عاريةٌ في الظلمةِ

لها بريقٌ يُضيْءُ

بحيثُ إذا خابَ الأمل

وانقطعتِ الكهرباء،

أو حلَّ المساءُ دونَ قمر

كان ضروريّاً ومفيداً أن تكونَ معكَ امرأةٌ عارية.

امرأةٌ عاريةٌ في الظلمة،

تولِّد بريقاً يبعثُ على الثقة،

فيتحوَّلُ التقويمُ إلى عُطلة،

وترتجفُ أنسجةُ العنكبوتِ في الزوايا،

تنظرُ العيونُ المترقِّبةُ والسعيدة

ولا تتعب.

امرأةٌ عاريةٌ في الظلمة

دعوة للأيادي،

قدرٌ للشفاه،

واستهلاكٌ للقلب.

امرأةٌ عاريةٌ هي لغزٌ،

وفكُّ رموزِها العيدُ.

امرأةٌ عاريةٌ في الظلمة

تُفجِّرُ ضوءاً خاصّاً

وتضيْئُنا

مُحوِّلةً السقفَ إلى سماء.

معَ امرأةٍ حبيبةٍ أو مُضيئة،

تقهر الموتَ مرَّةً واحدة

سيكونُ عظيماً الإثمُ.

* ترجمها عن الإسبانية: جعفر العلوني

========================

قد أخطأت في الزمن

———————————

المتسوّلة

كانت المتسوّلة تنزل دائماً في الساعة نفسها وتجلس في الجزء نفسه من الدرج، بذلك التعبير الغامض نفسه كأنها فيلسوف قادم من القرن التاسع عشر. كالعادة، كانت تضع أمامها طبق خزف من ماركة “سيرفيس”، لكنها لم تكن تطلب شيئاً من المارة. ولم تكن تعزف لا على الناي ولا على الكمان أي أنها لم تكن تصدر نشازاً فظاً مثل بقية المتسولين في المنطقة.

أحياناً كانت تفتح حقيبة يدها، الخيش المبقعة، وتخرج كتاباً لفريدرش هولدرلين أو لكيركيغارد أو لهيغل وتركز في قراءته دون نظارات.

المثير للدهشة، هو أن الصحن كان يمتلئ بالأوراق النقدية إضافة إلى أن أحدهم ترك لها شيكاً لحامله، لا يعرف هل امتناناً لها على صمتها الرقيق أم ببساطة لأن المارة فهموا أن المسكينة قد أخطأت في الزمن.

———————————

الرجل الذي تعلّم النباح

في الحقيقة كانت ثمرة سنوات من التدرب الشاق، مع فترات انقطاع كان فيها على وشك التخلّي عن الموضوع. لكن المثابرة انتصرت في النهاية وتعلّم رايموندو النباح. ليس تقليد النباح كما تعود بعض الظرفاء أو الذين يحسبون أنفسهم كذلك أن يفعلوا، وإنما النباح الحقيقي. وما الذي دفعه لهذا التمرن؟ أمام أصدقائه كان يجيب بسخرية: “في الحقيقة أنا أنبح لكي لا أبكي”. ومع ذلك فإن السبب الحقيقي كان حبّه الجارف تقريباً لإخوانه الكلاب. والحب تواصل.

إذن كيف لك أن تحب دون أن تتواصل؟

كان يوم فخر بالنسبة لرايموندو ذلك اليوم الذي أصبح نباحه أخيراً مفهوماً من قبل ليو، أخيه الكلب. والأدهى من كل هذا هو أن رايموندو فهم نباح ليو. منذ ذلك اليوم اقترب رايموندو من ليو خصوصاً عند الغروب تحت سقيفة الحديقة وكانا يتحدثان عن مواضيع عامة.

بالرغم من حبّه الكبير للإخوة الكلاب، لم يكن رايموندو يتصور قط أن ليو يمتلك رؤية ذكية للعالم.

في النهاية، تشجّع يوماً لسؤاله عبر مقاطع نباح معتدل: “قل لي يا ليو بكل صدق: ما رأيك في طريقة نباحي؟”. كان جواب ليو جد موجز وصريح: “أنا أقول إنك تفعله بشكل جد ممتاز، لكن عليك أن تتحسن. ما زالت لكنة بشرية تظهر في نباحك”.

———————————

حبهما لم يكن بسيطاً

اعتقلا بتهمة خدش الحياء العام. لا أحد صدّقهما عندما حاولا شرح الموقف. في الحقيقة، حبهما لم يكن بسيطاً. هو كان يعاني من رهاب الأماكن المغلقة وهي من رهاب الأماكن المكشوفة. ولهذا السبب كانا يتضاجعان على عتبات الأبواب.

—————————-

* mario benedetti شاعر وقاص وروائي وكاتب مسرحي أوروغواياني (1920 – 2009) عرفه قرّاء العربية بشكل خاص من خلال روايته “الهدنة”.

* ترجمة عن الإسبانية إبراهيم اليعيشي

====================

بيدرو والنقيب”: جلسة تحقيق طويلة

مسرحية

كنت أفكّر في البدء بأن موضوع “بيدرو والنقيب” سيكون رواية، حتى إنني وضعت له عنوان “الدُهَقُ”. أتذكر أنه في مقابلة صحافية تعود إلى سنة 1974، أجراها معي الناقد الأوروغواياني خورخي روفينيلي، سألني خلالها عن مشاريعي الأدبية وقتها.

فتحدثت له عن رواية مستقبلية محتملة عنوانها “الدُهَقُ”، وقلت له ما معناه “ستكون محادثة طويلة بين معذِّبٍ وشخص يتعرّض إلى التعذيب، التعذيب ليس حاضراً فيها فعلياً، لكنه الحاضر الغائب في المحادثة ويثقل على الحوار.

أفكر في التقاط الجلاد والضحية ليس في المعتقل أو في المعسكر فقط، وإنما أيضاً منسجمين في الحياة الخاصة لكل واحد منهما”. هذه في الحقيقة “بيدرو والنقيب”.

يمكنني تعريف هذه المسرحية على أنها استقصاء درامي في نفسية المُعَذِبِ، هي شيء من قبيل الإجابة عن التساؤل لماذا، وبواسطة أي عملية يمكن لكائن طبيعي أن يتحوّل إلى جلاد.

لكن رغم أن التعذيب هو بدون شك موضوع العمل الدرامي، فإنه كفعل مادي لا يظهر على خشبة المسرح. فأنا دائماً ما تصوّرت بأن التعذيب كموضوع فني يمكنه أن يكون حاضراً في الأدب أو في السينما، لكنه في المسرح يتحوّل إلى اعتداء مباشر زائد عن اللزوم على المتفرج، وبالتالي فإنه يفقد كثيراً من إمكانياته الكاشفة.

بالمقابل، فإن التعذيب عندما يكون عبارة عن حضور مخزٍ لكن غير مباشر، فإن المتفرج يحتفظ بدرجات أعلى من الموضوعية، وهي أمر أساسي للحكم على أي عملية للحط من كرامة الإنسان.

هذا العمل الدرامي ليس مواجهة بين وحش وقديس، وإنما رجلان، كائنان من لحم ودم، كل واحد منهما يتمتع بنقاط ضعف ونقاط مقاومة. المسافة الفاصلة بين الأول والثاني، هي أوّلاً وقبل كل شيء أيديولوجية، وهناك ربما يكمن المفتاح لفوارق أخرى تشمل الأخلاق والنفس والحساسية أمام الألم الإنساني والمسار المعقد الذي يتوسط الشجاعة والجبن والقدرة على التضحية، قليلة كانت أم كثيرة، والهوة بين الخيانة والوفاء.

مظهر آخر يجب إبرازه، هو أن العمل بطريقة ما يقترح علاقة بين الجلاد والضحية، هذه العلاقة رغم عدم التطرّق إليها بشكل وافٍ في المسرح، إلا أنها تكون حاضرة غالباً في مجال القمع الحقيقي الذي يمارس في بلدان المخروط الجنوبي.

في مسرحية “بيدرو والنقيب”، الفصول الأربعة هي مجرد وسيط، هي فترات هدنة بين تعذيب وتعذيب، هي الفترات القصيرة التي يستقبل فيها المحقق “الطيب” المعتقل الذي تعرض إلى تعذيب وحشي مسبقاً، وبالتالي فإن من البديهي أن تكون قواه قد خارت.

الشخص الذي يتعرض إلى التعذيب يمكن أن يكون أكثر من مجرد ضحية لا حول لها ولا قوة، محكوم عليها بالهزيمة التي لا مفر منها، أو الوشاية. يمكن أن يكون أيضاً (والتاريخ الحديث يبين أن آلاف المناضلين السياسيين جابهوها على هذا النحو) رجلاً يهزم السلطة التي على ما يبدو أنها شمولية، رجل يستخدم صمته تقريباً مثل درع ونفيه تقريباً مثل سلاح، رجل يفضل الموت على الخيانة.

لكن لكي يصمد هذا الموقف المشرّف والمتين، والذي لا يُرتشى، يجب على السجين تصنيع دفاعاته الشخصية المعقولة وأن يقنع نفسه بمناعته. عندما يخترع بيدرو استعارة أنه في الحقيقة شخص ميت، فإنه في الواقع يخترع خندقاً ومعقلاً يصون من خلفه وفاءه لزملائه ولقضيته.

في هذا العمل، هناك عمليتان تتقاطعان: عملية العسكري الذي تحوّل من “صبي طيب” إلى جلاد، وعملية المعتقل الذي مرّ من كونه مجرد رجل عادي، إلى شهيد واعٍ. لكن التوتر الدرامي الحقيقي لا يتجلى في الحوار، وإنما في داخل أحد شخوص المسرحية وهو: النقيب.

لم أشأ تقديم المعتقل على أنه مناضل ينتمي إلى أحد القطاعات السياسية بعينها، فقد شمل القمع الشديد عملياً كل أطياف اليسار الأوروغوياني، إضافة إلى أنه بلغ قطاعات أخرى من المعارضة، كما هو الشأن بالنسبة إلى الكنيسة والأحزاب التقليدية.

بيدرو هو ببساطة معتقل سياسي ينتمي إلى اليسار، لا يشي بأحد، والذي بشكل ما يذلّ الشخص الذي يستجوبه، هازماً إياه وهو يحتضر. كل واحد من الفصول الأربعة لهذه المسرحية ينتهي بكلمة لا.

يجب الإشارة إلى أنه حتى وسط الهزيمة التي نعاني منها اليوم، فأنا لا أكتب أدباً -خصوصاً بما أن الأمر يتعلق بالمسرح-انهزامياً يئنّ وموجهاً إلى إلهام الآلام والشفقة. علينا استعادة الموضوعية كشكل من أشكال استعادة الحقيقة، وعلينا استعادة الحقيقة كشكل من أشكال استحقاق النصر.

————————————–

[الفصل الأول]

خشبة مسرح فسيحة يوجد فيها: كرسي وطاولة ومقعد كبير معلّق أو متأرجح. على الطاولة يوجد هاتف، في أحد الجدران مغسل بصابون وكأس ومنشفة إلخ. ونافذة عالية بشباك، مع ذلك لا ينبغي أن تعطي الانطباع على أنها زنزانة، بل غرفة استنطاق.

يدخل بيدرو وهو مربوط وعلى رأسه قلنسوة مدفوعاً من قبل حراس أو جنود مزعومين لا يمكن رؤيتهم. من الواضح أنهم ضربوه، فهو قادم من أول جلسة من الإكراه الجسدي الخفيف. بقي بيدرو واقفاً على رجليه بدون حركة حيث تركوه، كما لو كان ينتظر شيئاً، ربما عقوبات أشد.

بعد انقضاء بضع دقائق، دخل النقيب مرتدياً الزي الرسمي ورأسه مكشوف وشعره ممشوط بشكل جيد، لا تشوبه شائبة، بمظهر المعتد بنفسه. يقترب من بيدرو ويأخذه من ذراعه دون عنف. أمام هذا الاتصال يقوم بيدرو بحركة فطرية للدفاع عن نفسه.

النقيب: لا تخف. هذا لأشير لك مكان وجود الكرسي فقط.

يرشده إلى غاية الكرسي ويشير له بالجلوس. بيدرو متجمّد ومرتاب. يتوجه النقيب صوب الطاولة، يتفحص بعض الأوراق، وبعد ذلك يقوم بالجلوس على المقعد الكبير.

النقيب: يبدو أنهم ضربوك قليلاً، والأكيد أنك لم تتكلم.

يلتزم بيدرو الصمت.

“السكوت الوحيد الذي يمكن أن أبرّره هو سكوت الجلسة الأولى”

النقيب: هذا ما يحصل دائماً عند أول جلسة، حتى إنه من الجيد ألا يتكلم الناس منذ البداية. أنا أيضاً مثلك، ما كنت لأتحدّث من المرة الأولى. على أي حال، ليس أمراً صعباً جدّاً تحمُّل بعض اللكمات، وعدم الكلام يساعد المرء على الشعور بشكل جيد. أصحيح أنك تشعر بارتياح لعدم كلامك؟

يصمت بيدرو.

النقيب: بعد ذلك تتغير الأمور، لأن العقوبات تشتدّ بصفة تدريجية، وفي الأخير الكل يتكلم. لأكون صادقاً معك؛ السكوت الوحيد الذي يمكن أن أبرّره هو سكوت الجلسة الأولى، أما ما بعدها فهو مجرد مازوشية. النتيجة التي عليك استخلاصها، هي هل ستتكلم عندما سيكسرون أسنانك؟ أم عندما سيقتلعون أظافرك؟ أم عندما ستتقيأ الدم؟ أم عندما… ولماذا أتابع؟ فأنت تعرف جيداً القائمة، بما أنكم تنشرون باستمرار ذلك بالتفصيل الممل. الكل يتكلم أيها الولد، لكن بعضهم ينتهون وهم سالمون أكثر من آخرين. أقصد بطبيعة الحال ما هو جسدي، كل شيء يتوقف على المرحلة التي يقرّرون فيها فتح أفواههم. أنت، هل قرّرت ذلك الآن؟

يصمت بيدرو.

النقيب: انظرْ يا بيدرو.. أم تفضل أن أناديك رومولو، مثلما تُعرف سرّاً عند رهطك؟ لا، أنا سأناديك بيدرو؛ لأننا هنا في ساعة الحقيقة وأسلوبي على الخصوص هو الصدق. انظر يا بيدرو، أنا أتفهم وضعك، ليس سهلاً عليك؛ فقد كنت تعيش حياة عادية نسبيّاً.

أقول عاديةً، آخذاً بعين الاعتبار هذه الأيام العصيبة التي نمر بها. زوجة جميلة وشابة وطفل صغير يتمتع بصحة جيدة، ووالداك اللذان ما زالا يحتفظان بنشاطهما ومنصب شغل جيد في البنك، والبيت الذي بنيته بجهدك. (مغيراً نبرة صوته) بخصوص هذا الموضوع، لماذا فكرة امتلاك بيت خاص هي متأصلة في الناس الذين ينتمون إلى الطبقة الوسطى مثلي ومثلك؟ أفكرتم في هذا عندما اقترحتم إنشاء شركة دون ملكية خاصة؟ على الأقل في هذه النقطة، نقطة البيت الخاص فلا أحد سيدعمكم. (عائداً إلى الموضوع) إذاً كانت لك حياة بسيطة لكن ممتلئة. وسرعان ما يدقّ بابك مجموعة رجال فجراً، ويقتلعونك من هذا الامتلاء، وفوق هذا يبرحونك ضرباً.

كيف لن أتفهم وضعك؟ سأكون عديم الإنسانية إن لم أتفهمه. وأنا لست عديم الإنسانية. أؤكد لك هذا، لكن علي أن أوضّح لك أنه يوجد هنا تحديداً رجال آخرون عديمو الإنسانية تقريباً. أنت لم تعرفهم بعد لكن ربما ستعرفهم. وأنا لا أقصد الرجال الذين أعطوك الدفعة الأولى بالأمس. لا، هناك آخرون مرعبون. أعترف لك أنه ليس بمقدوري فعل هذا العمل القذر.

لتصبح جلاداً عليك أن تولد جلاداً، وأنا ولدت شيئاً آخر. لكن على أحد أن يقوم بهذا العمل فهو جزء من الحرب. أتصور أن لديكم أيضاً أعمالاً جيدة وأخرى قذرة، هو هكذا أم أنا مخطئ؟ أنا يمكن أن أكون ليّناً، لكنني أفضل المهام النظيفة. مثل هذه المهمة الحالية: أجلس هنا للدردشة معك وعدم اللجوء إلى الضرب ولا إلى وضع الرأس داخل براميل الماء ولا حتى إلى التعذيب بواسطة الانتظار الطويل، وإنما اللجوء إلى التعقل. اختصاصي ليس المنخس وإنما الحجة. يمكن لأي أحد أن يستخدم المنخس، لكن لاستخدام الحجة يجب امتلاك أسلوب آخر، أتتفق معي؟ ولهذا السبب أيضاً، فأنا أكسب أكثر بقليل من المال مقارنة بالصبية الكهربائيين (يضرب نفسه ضربة على الجبين كما لو كان متفاجئاً بالاكتشاف اللغوي) الصبية الكهربائيون! ما رأيك؟ لماذا لم يخطر على بال أحد تسميتهم بهذا الاسم من قبل؟

“لتصبح جلاداً عليك أن تولد جلاداً، وأنا ولدت شيئاً آخر”

هذا المساء سأخبر الكولونيل في الكازينو: فهو يمتلك روح الدعابة سيعجبه (يصمت للحظة وينظر إلى بيدرو الذي يستمر صامتاً ولا يتحرك) إذا كنت قد تعبت من وضعك الحالي فيمكنك وضع رجل على رجل (بيدرو لا يتحرك) الظاهر أنك تفضل المقاومة السلبية.

النحيف غاندي كان يعلم الكثير عن هذا. لكن سكان الهند ضد الانجليز شيء وشيء آخر مغاير جداً هو أنتم ضدنا. المقاومة السلبية في هذه الأيام لا تتحقق ولا تحل شيئاً، كيف أُعَرّفُها لك، إنها لا تتوافق مع زماننا هذا. فمنذ أن فرض الأمريكان -أترى، أنا أيضاً أقول الأمريكان مثلكم؟- نظام قمعهم الفعال جداً، ذهبت المقاومة السلبية في مهب الريح. حالياً، المسألة قد تصل إلى حد القتل؛ لهذا، فأنا أظن أن في هذه المرحلة الأولى، لا يناسبك أيضاً أن تُصرّ على مبادئك وأفكارك. فأنت لا تجيبني حتى عندما أوجه لك سؤالاً عن شيء ما، وهذا ليس شيئاً جيداً؛ لأنه كما لاحظت، أنا لست هنا لإساءة معاملتك، وإنما ببساطة للحديث معك.

إذاً لماذا كل هذا الصمت؟ أيكون صمتاً الغرض منه الاحتقار؟ لنقل إنه كذلك. فهنا في هذه الحرب، كلنا نحتقر بعضنا قليلًا، أنتم لنا ونحن لكم. لشيء نحن أعداء، لكننا أيضاً نقدر بعضنا قليلًا. فنحن لا يمكننا أن نتخلى عن أن نقدّر فيكم العاطفة التي تأخذون بها على عاتقكم قضية ما وكيف أنكم تخاطرون بكل شيء من أجلها: بدءاً بالراحة وانتهاءً بالعائلة، وبدءاً بالعمل وانتهاءً بالحياة.

نحن لا نفهم كثيراً معنى هذه التضحيات، لكن أؤكد لك أننا نقدرها. بالمقابل، عندي انطباع بأنكم أيضاً تقدّرون قليلاً العنف الذي نمارسه على أنفسنا عندما نضطر إلى معاقبتكم حتى الموت في بعض الأحيان وأنتم بغض النظر عن كل شيء أبناء وطننا، وزيادة على هذا أنتم شباب وطننا.

أتظن أنها تضحية صغيرة؟ نحن أيضاً كائنات حية ونود المكوث في البيت متمتعين بالهدوء والجو المعتدل ومرتاحين نقرأ رواية بوليسية جيدة أو نشاهد التلفزيون. ومع ذلك، علينا أن نمكث هنا وأن نقوم بالعمل لساعات إضافية لإيلام الناس، أو كما في حالتي لأتحدث مع هذه المجموعة من الناس بين معاناة ومعاناة، وقتي يشبه اللحن الفاصل، أترى؟ (مغيراً نبرة صوته) أتحب الموسيقى والأوبرا؟ أنا أعرف أنك لن ترد علي… في الوقت الحاضر. (يعود للموضوع) لكن ما كنت أود أن أقوله لك هو أنني أشك أنكم تقدّرون، لا أدري هل بوعي أم بغير وعي، شغفنا نحن أيضاً لعملنا. أهو كذلك؟ (لأول مرة نبرة السؤال بدأت تخرج تهديدية، بيدرو لا يجيب ولا يتحرّك) قل لي من فضلك.

ليس علي أن أشرح لك قواعد اللعبة، أنت تعرفها جيداً، حتى إنني مدرك أنكم تتلقّون تدريباً لمواجهة مواقف من قبيل الموقف الذي أنت فيه الآن. أم أنك لا تعرف أن من بيننا محققون “سيئون”، تقريباً همجيون، أولئك الذين هم قادرون على تقطيع المعتقل إرباً إرباً. وهناك أيضاً “الطيبون” الذين يستقبلون السجين عندما يأتي متعباً من جلسة العقوبة الوحشية ويخففون عنه شيئاً فشيئاً؟ أنت تعرف هذا، صحيح؟ إذن ستكون قد عرفت أنني أنا “الطيب”؛ لهذا فإن عليك أن تستغلني بطريقة أو بأخرى، فأنا الشخص الوحيد الذي بإمكانه أن يخفف عنك الضرب المبرح ويضمن لك إيجازاً في وقت التعذيب عبر الوقوف على القدمين وإلغاء استعمال آلة التعذيب المسماة المنخس وتحسنا في وجبات الطعام وربما سجائر بين الفينة والأخرى…

“إذاً لماذا كل هذا الصمت؟ أيكون صمتاً الغرض منه الاحتقار؟”

على الأقل تعلم أنك أثناء وجودك هنا معي ليس عليك الإبقاء على كل عضلاتك وأعصابك مشدودة، وأن تقوم بحسابات حول متى ومن أي اتجاه ستأتي الضربة القادمة. أنا شيء من قبيل فترة راحتك ومتنفسك. أمتفقون؟ لهذا أنا أعتقد أن انزواءك في هذا الصمت السخيف لا يناسبك. أبي دائماً ما كان يقول بالتحدث يفهم الناس بعضهم بعضاً، وهو كان مسؤولاّ عن أحد المزادات العلنية، وبالتالي كانت له أسباب مقنعة للثقة في استعمال الكلمة. أنا أقول لك هذا كي تتخذ قرارك بعد تفكير وألا تتجاوز في حقوقك إن كنت لا تريد أن أتجاوز في واجباتي.

أستطيع احترام حقك هنا قبالتي في عدم الكلام، أنا لا أفكر بلمسك. لكن أريد أن تعرف أنني لست على استعداد للعب دور المغفّل وأن أتكلم وأتكلم لوقت طويل وأنت هناك بالمقابل صامت مثل جدار. ولا تنتظر من “الطيب” أن يقوم بالمستحيل، خصوصاً وأن “الطيب” يعرف تفاصيل عن مشوارك. اسمك بيدرو ولقبك رومولو. سأقول لك أيضاً إنك لست بحاجة لتتكلم عن توماس وكاساندرا، ولا حتى عن ألفونصو؛ لكي لا تعذب نفسك أكثر من التعذيب الذي ستتعرض له. لأننا نعرف القصة الكاملة لهؤلاء الأشخاص الثلاثة، لا ينقصنا شيء.

لماذا سنقوم بتهشيم رأسك مطالبين إياك بإعطائنا معلومات نمتلكها وزيادة على هذا ثبتت صحتها؟ ستكون سادية ونحن لسنا ساديين، وإنما براغماتيون. في المقابل، نعرف نسبياً القليل عن غابرييل وروساريو وماغدلينا وفيرمين. في بعض من هذه الحالات، لا نعرف حتى الاسم الحقيقي أو عنوان المسكن. أترى كم هو كبير الهامش الذي تمتلكه للمساعدة التي تستطيع تقديمها لنا.

الآن بالطبع، لملء هذه البطاقات الأربع، وبما أننا نعلم علم اليقين أنك في هذا السياق الرجل المهم؛ فنحن على استعداد -لست أناً شخصياً، بل نحن كمؤسسة- لتهشيم ليس فقط رأسك، وإنما الخصيتان والرئتان والكبد، وحتى هالة القدّيس التي أردت أن تستخدمها في إحدى المرات لكن مقاسها كبير عليك.

كما ترى، أنا أكشف عن أوراقي، لن تستطيع اتهامي بالالتواء وبالغموض. هذه هي الوضعية. وبما أنني، بطريقة ما، أراك لطيفاً؛ فأنا أخبرك بها بوضوح لتطلع على حقيقة الأمر ونتائجه. هذا يعني أنني أشعر بلطف تجاهك، لكن ليس بالشفقة ولا حتى بالرأفة.

وطبعاً، يوجد هنا في هذه الوحدة العسكرية، التي لن تعرف من هي قط، أناس بسبب المبادئ ودون الحاجة إلى معرفة أي شيء عنك، لا يطيقونك وهم قادرون على الوصول معك إلى آخر حد. وليس معك فقط. فأصحاب الخط القاسي يفضلون في بعض الأحيان إحضار زوجة المتهم، وكيف أقول لك؟ يقومون باغتصابها بحضوره، بل هناك آخرون يؤيدون التقنية البرازيلية التي تكمن في تعذيب الأطفال أمام آبائهم، خصوصاً الأم.

أنت ستتصور أنني لا أتشارك في هذه الممارسات المتطرفة لأنني أعتبرها ببساطة لا إنسانية، لكن إن كنا موضوعيين، فعلينا أن نعترف بأن هذه الممارسات العنيفة تشكل واقعاً ومناسبة.  وسأشعر بالسوء إن لم أخبرك بها، وتجد يوماً ما أحد الوحوش كمثل أولئك الذين أبرحوك ضرباً أمس يغتصب أمامك تلك الشابة الجميلة التي هي زوجتك. اسمها أورورا أليس كذلك؟ من المؤكد أن في تلك الحالة سينزعون عن وجهك الغطاء. هم وحوش لكنهم متفننون. كم من الوقت مر على زواجكما؟ أصحيح أن في يوم الثاني والعشرين من أكتوبر الماضي احتفلتما بذكراه الثامنة؟ أأعجب أورورا شريط الذهب الذي اشتريت لها من شارع ساراندي؟

وماذا ستحكي لي إن أحضروا أندريسيتو وبدؤوا بضربه بوحشية بوجودك؟ هذه الممارسة الأخيرة، كما كنت أقول لك، لم يصادق عليها كوسيلة بعد، لكن المساعدين يدرسون هذه الإمكانية حالياً. وطبعاً دائماً سيكون هناك شخص رائد. أنا لن أتفق مع هذه الإجراءات قط؛ لأنني أثق ثقة عمياء في قدرة الإقناع التي يمتلكها الإنسان لمواجهة إنسان آخر. إضافة إلى أنني أقدّر أن الصبية الكهربائيون يستعملون آلة التعذيب المسماة المنخس لأنهم لا يمتلكون الثقة الكافية في قدرتهم على الإقناع. كما أنهم يعتبرون السجين غرضاً، شيء يجب عصره بطرق ميكانيكية  لكي يخرج كل عصارته. أنا في المقابل لا أغفل قط أن المعتقل كائن حي مثلي. مخطئ لكنه إنسان!

أنت على سبيل المثال، بهذه الطريقة التي أنت عليها، صامت وجامد يمكنك أن تصير مجرد شيء. ربما ما تحاول صنعه هو أن تظهر نفسك على أنك شيء أمامي لكن رغم استمرارك في الصمت وعدم الحركة أنا أعرف أنك لست شيئاً، أنا أعرف أنك إنسان، إنسان يمتلك نقطاً حساسة. والنقط الحساسة لا تمتلكها الأشياء بطبيعة الحال. (وقفة) لقد فكرتَ في الخصي طبعاً! عندما يتحدث شخص ما عن النقط الحساسة فمن الواجب: أن تفكر النساء في الصدر والرجال في الخصي. وهي ميزة مهمة جداً لا يجب إغفالها. كان المسكين ميتريوني الذي كان يعرف كل شيء عن تقنيات التعذيب يقول: “الألم المضبوط في المكان المضبوط وبالنسبة المضبوطة المختارة لهذا الغرض”.

من الواضح أن من وجهة نظر قناعاتك المحترمة؛ فإنه من المثير للغضب أن تطرح على نفسك مجرد إمكانية الكلام وتقديم معلومات وتقارير. ليس ظريفاً أن يتهم الواحد بالخيانة، لكن هناك عنصر ربما أنت تجهله. هو أننا نملك معاملة خاصة بالأشخاص الذين نحبهم فقط، مثلك أنت أيها الولد. نعطيك فرصة أن تساعدنا، ومع ذلك أن تبقى صورتك جيدة أمام زملائك، ما رأيك؟ ربما ستقول في نفسك إن هذا مستحيل؟ ستعتقد أنه غرور من قبلي، لكن بالنسبة لنا ليس هناك مستحيل.

أتريد أن أشرح لك؟ تتكون الخطة من أربعة فصول. الأول تتكلم أنت وكلما استعجلت في الأمر كان أفضل، هكذا لن تكون لنا حاجة في ضربك: أنت تقول لنا كل شيء، كل شيء عن غابرييل وروساريو وماغدلينا وفيرمين.

ركّز معي، كان بإمكاننا أن نضع لك قائمة مكونة من عشرين اسماً. ومع ذلك، بما أننا طيبون، أدرجنا أربعة فقط. أربعة، أتدرك هذا؟ إنها صفقة رابحة. الثاني سنقوم بتنفيذ بعض الإجراءات وفقاً للتقارير التي ستزودنا بها عفوياً، أتفهم؟ عفوياً. من الواضح أن هذه الإجراءات ستنفعنا من بين أمور أخرى لإثبات إن كنت حقاً تتعاون معنا، أو على النقيض تريد أن تستهزئ بنا. أنا لا أنصحك أن تقوم بالخيار الثاني.

وبالمقابل إن تأكدنا من حسن نيتك، فإننا طبعاً لن نطلق سراحك فوراً. هذا من مصلحتك لكي لا يشك زملاؤك. سننتظر مرور بعض الوقت، وبعدها سنطلق سراحك. ممتع، أليس كذلك؟ ثالثاً، سنقوم باختلاق وثيقة مشفرة أو قائمة أرقام هواتف أو أي شيء آخر سنتفق عليه بسهولة، وسننشر أن المداهمة تعود للاكتشاف الفجائي لهذه القائمة، أو أي شيء، خصوصاً لقدرتنا الاستنتاجية.

وهكذا، نحسن صورتنا أيضاً. وبما أنكم لديكم كل شيء مفصول فكل خلية ستعتقد أن القائمة صدرت عن شخص آخر. رابعاً سنطلق سراحك أخيراً. وأنت، عندما تنضم إلى الشباب، ستقول لهم إنك أنكرت كل شيء بصلابة، فأقنعتنا ببراءتك. ما رأيك؟

(بيدرو يواصل جموده)

أنبهك أنك لن تستطيع انتظار حل أفضل من هذا الذي أقترح عليك على الأرجح. خذ بعين الاعتبار أن هذه الطريقة لم تستخدم قط إلى يومنا هذا. لهذا فإن الشكوك لن يكون لها قبول في المجتمع. إضافة إلى أنه لدي انطباع أنك ستخرج فائزاً بالنسبة لما يتعلق بالمكانة والسلطة، ثمّ تتخلص من كل هذه الوساخة. أنت في مقتبل الشباب، حرام أن تحطم حياتك وتدمر نفسك عبثاً هكذا. بإمكانك العودة لأورورا ولابنك.

ألا يسيل لعابك؟ ستستقبلك أورورا كبطل. وبالطبع من البديهي أن تشعر ببعض الندم في البداية. لكن بصحبة امرأة كزوجتك الندم سيتلاشى على السرير. لكن بالطبع عليك أن تجيبني. حتى الآن صبرت على عدم تفوهك ولو بكلمة واحدة. لكن عليك أن تعرف أن القليل من المعتقلين فقط يتمتعون بامتياز الحصول على اقتراح كريم جداً كهذا. لماذا أحببتك هكذا؟ عليك أن تجيبني لكي يطلع كل واحد منا على حقيقة الأمر. لنحدد إذن إزاء هذا الاقتراح. أأنت على استعداد للحديث؟ أأنت على استعداد لإعطائنا المعلومات التي نطلبها؟ (فترة طويلة من الصمت، بيدرو يواصل عدم حركته. يرفع النقيب من نبرة صوته) أأنت على استعداد للحديث؟ (غطاء رأس بيدرو يتحرك نافياً).

———————————–

الفصل الثاني]

خشبة المسرح نفسها، هذه المرة خالية.

بعد مرور بضع دقائق، يُقذفُ بيدرو (الذي لا يزال مربوطاً ورأسه مغطى بالقلنسوة) من جديد إلى خشبة المسرح كما حدث في المشهد السابق، لكن بطريقة أعنف هذه المرة. حالته متدهورة الآن، من الواضح أن العقاب الذي تعرض له كان قاسياً. يبحث بيدرو متلمساً عن الكرسي، يجده في الأخير ويجلس بصعوبة. يخرج من فمه من حين إلى آخر صوت خشن بالكاد يسمع.

يدخل النقيب بالهيئة واللباس نفسهما مثل المشهد السابق. يراقبُ بيدرو بتمعن، كما لو كان يقوم بجرد للكدمات والجروح الجديدة.

النقيب: (ما يزال واقفاً؛ رجلاه منفرجان ويداه مضمومتان) أترى؟ لقد بدأ ارتفاع وتيرة التعذيب. لن تستطيع القول إنني لم أحذرك. أترى، إنهم وحوش هؤلاء التابعون. ويجب تركهم للقيام بعملهم. بخلاف هذا يمكنهم أن يكسروا عظامنا نحن. (فترة صمت)

أصدّقت ما قلت؟ لا، أنا أمزح. لكن الحقيقة هي أن هناك أكثر من ضابط واحد يخاف منهم.  (فترة صمت) وكيف الحال؟ أعطيتك وقتاً للتفكير، أفكّرت؟  (بيدرو يصمت ولا يتحرّك) أحذّرك من شيء، لا تظن أننا سنستمر نصف سنة على هذه الحال… لنقل المتعثرة.

من جهة، لا أظن أن جسمك يمكنه التحمل لفترة طويلة؛ فأنت لست رياضياً، وأنا لا أقصد أسئلتي، وإنما الصبية الكهربائيون. (مغيّراً نبرة صوته) بالمناسبة، دعابتي أضحكت العقيد كثيراً، فهو لم يكتف بالضحك، وإنما قال لي: “أيها النقيب، علينا أن نحرص على وجود أكثر من انقطاع كهربائي واحد”. النكتة لم تكن جيدة، لكنني ضحكت. ماذا كان بوسعي أن أفعل؟ (عائداً إلى الموضوع) ماذا كنت أقول لك؟ آه نعم، إننا في وضعية متعثرة. أنا شخصياً أريد الخروج من هذه الوضعية. أتصور أنك تريد أيضاً؛ لهذا أنا قررت إدخال عنصر جديد للقضية. (فترة صمت) ألا يثيرك الفضول؟ ما هو هذا العنصر؟ شاهد؟ شخص وشى بك؟ (فترة صمت جديدة مخصصة لخلق التوقع) لا، لا شيء من هذا القبيل. العنصر الجديد سيكون عينيك، أريدك أن ترى وأن أستطيع رؤيتك كيف ترى. (يقترب من بيدرو ويسحب عن رأسه القلنسوة دفعة واحدة.

“من الأفضل أن نرى وجهينا، أليس كذلك؟”

وجه بيدرو مليء بالجروح وآثار الضرب (يفتح ويغلق عدة مرات عيناه البراقتين) حسناً، حسناً. (يبتسم) إنه لشرف عظيم. من الأفضل أن نرى وجهينا، أليس كذلك؟ لم أحبذ التحاور مع خيش قط، هناك بعض الزملاء لا يريدون أن يراهم المعتقل وعندهم حق في بعض ما يقولون، فالعقاب يولد الضغائن، والواحد منا لا يعرف ما يمكن أن يجلب لنا المستقبل قط.

من يقول لك إن هذا الوضع يوماً ما يمكن أن يعكس وتكون أنت من يحقق معي؟ إذا حصل هذا أعدك أنني سأتعاون أكثر منك. لكن هذا لن يحصل، لا تتوهم. لقد اتخذنا كل الاحتياطات  لكي لا يحصل. من جهة أخرى، أنا لا يقلقني أن تتعرف على وجهي، فأكثر تهمة يمكنك أن تلصقها بي هي أنني كنت أسأل وأسأل، وأظن أن هذا الشيء لا يولّد الضغائن، أم يولّد؟ (فترة صمت) هكذا بدون قلنسوة، يصعب عليك قليلاً التحدث أليس كذلك؟

بيدرو: نعم

النقيب: عجباً! هذه أول كلمة تتفوه بها، إنه لتنازل عظيم. أحسنت!

بيدرو: (يجد بعض الصعوبة في الكلام بسبب تورم الفم) أريد أن أوضّح لك أن عدم مشاركتك المباشرة في تعذيبي، لا يضمن ألا أمقتك أو أن أكرهك بدرجة أقل.

النقيب: (يتفاجأ بعض الشيء، لكنه يرد) هذا جيد. يعجبني اللعب النظيف.

بيدرو:  لا، لا يعجبك. لكن هذا لا يهم. أريد أن أقول لك علاوة على ذلك أنه بينما كان رأسي مغطى بالقلنسوة، لم أنبس ببنت شفة؛ لأن هناك حدّاً أدنى من الكرامة، لست مستعدّاً للتنازل عنه والقلنسوة شيء مخزٍ.

النقيب: (بعد فترة صمت) ما ذكرته عن الكراهية، لماذا قلته؟

بيدرو: لماذا قلته؟

النقيب: نعم، أستطيع تفهّم أنك تحس بها. بالمقابل، لا يمكنني تفهّم أن تقولها لي هكذا بوقاحة، ذلك أنني هنا في الأعلى، وأنت في الأسفل. أم نسيت هذا؟

بيدرو: لا، لم أنس.

النقيب: وإظهار الكراهية يولّد الكراهية.

بيدرو: طبعاً.

النقيب: أحذّرك من أنني لن أدخل في تلك اللعبة. أنا مسيحي، لكنني لم أتعود إعطاء الخد الثاني.

بيدرو: بالطبع، فأنا من يعطي خديه، انظر حالها. الخدان والظهر والرجلان والأظافر.

النقيب: وغداً الخصيتان.

بيدرو: إن قلت هذا أنت فهو ممكن.

النقيب: أنا أقوله وأأمر به، وآخرون ينفدونه. ما رأيك؟ (إيماءة من بيدرو. النقيب يطلق ابتسامة عصبية) على أي حال، أنصحك ألا تستفزني، فأنا سريع الغضب. أتعرف هذا؟

بيدرو: أعرف. ربما أنا أعرف أكثر عنك مما تعرف أنت عني.

النقيب: (باستهزاء) حقاً! هذا غير معقول. لا تقل هذا يا رجل.

بيدرو: نعم أقوله لك. ففي سعيك إلى استخلاص ما أعرفه أنا، وما لا تعرف أنت، لا تنتبه إلى أنك تتعرّى أمامي، وتظهر ما أنت عليه حقاً.

النقيب: وكيف أنا؟

بيدرو: أف…

النقيب: أظن أنني سألتك كيف أنا.

بيدرو: نعم أعرف، لكنه سؤال سخيف. ترميني في غياهب السجون وتتركهم يهشمون عظامي وبعدها تريد مني أن أحلل شخصيتك. هذا لا!

النقيب: بعد كل هذا، أنا أتصور نفسي كيف أنا.

بيدرو: إذاً أنا متفق مع هذا التشخيص الذاتي.

النقيب: وإذا كنت أتصور نفسي نبيلاً وشريفاً.

بيدرو: أتعرف؟ أنت لا تستطيع أن توهم نفسك. (فترة صمت وجيزة) أنت لا يمكنك تخيل نفسك على أنك نبيل وشريف.

النقيب: (صارخاً) اخرس!

بيدرو: كيف؟ ألم تكن تريد أن أتكلم؟ والآن بعد أن قررت الكلام…

النقيب: (بصوت منخفض لكن بتركيز) اخرس أيها الغبي.

بيدرو: حسناً، هذا جيد.

النقيب: (بعد فترة، بهدوء أكثر كما لو كان يفكر) المهم… لعلي لا أعتبر نفسي نبيلاً وشريفاً. لكن من يهتم لنبلي ولشرفي؟ هيا! قل لي من؟

بيدرو: يجب أن يهمك أنت. أما عني…

النقيب: هذا أيضاً في قائمة التعليمات؟ تحديد مسافة صحية مع المحقق؟

بيدرو: أنت من يحدّد المسافة. كيف يمكن وجود تواصل وتقارب وحوار إلخ.. بين معذب وشخص يتعرض إلى التعذيب؟

النقيب: (بجزع) أنا لم ألمسك بالكاد.

بيدرو: نعم أعرف، فأنت “الطيب”. لكن هل يوجد في هذا المكان “طيبون وسيئون”؟ ألست مثل الفيل الذي يضع رأسي في براميل الماء، ومثل الوحش الذي يخضعني لآلة التعذيب المسماة المنخس؟ مجموعة الأشخاص نفسها والآلة نفسها؟ أيمكنك أنت نفسك تصديق وجود فرق؟

النقيب: أنت تبالغ في وقاحتك.

بيدرو: إذاً سأعود لأغلق فمي.

النقيب: (بعد لحظة صمت) ألا تريد أن تسألني شيئاً؟

بيدرو: (مستغرباً) أسأل أنا؟

النقيب: نعم، اسأل أنت.

بيدرو: ما الأمر؟ أهي تقنية جديدة ما بعد الضابط ميتريوني؟

النقيب: ربما.

بيدرو: (وهو يفكر) حسناً، سأسألك: ألديك عائلة؟

النقيب: (مستغرباً من جانبه) وفيما يهمك أنت هذا؟

بيدرو: هذا لا يهمني في شيء. من عليه أن يهتم إذا كانت له عائلة هو أنت.

النقيب: أهذا تهديد؟

بيدرو: هذا يسمى تشويهاً مهنياً! فأنتم عندما تذكرون عائلة شخص ما، دائماً ما يكون للتهديد.

النقيب: إذاً. لماذا تريد أن تعرف؟

بيدرو: لأنه إن كان لك أبوان وزوجة وأولاد، فلا بد أن يكون هذا الأمر صعباً عليك عندما تعود إلى البيت.

النقيب: (صارخاً) بالله عليك، ماذا تقول؟

بيدرو: أنا أقصد؛ من الصعب عليك بعد استنطاق شخص تعرض إلى التعذيب حديثاً، تقبيل زوجتك أو ابنك، إن كان لك ابن.

ينهض النقيب فجأة، بعد أن خرج عن طوره،  ويسدد لكمة إلى فم بيدرو.

بيدرو: (يحاول تحريك شفتيه ويتكلم بصعوبة أكثر من السابق) الحمد لله أنك أنت الطيب.

النقيب: كل شيء له حد.

بيدرو: أيها النقيب أنت ذاهب إلى هلاكك. لا تنس أن “الطيب” لا يمكنه ولا يجب عليه أن يسدد الضربات لرجل مربوط. (فترة صمت) على أي حال، أخبرك أنك لا تستطيع المنافسة مع زملائك الذين يعملون ليلاً. فهم يقومون بهذا العمل بطريقة أفضل. وهذا منطقي، فما يقومون به هم كهربائياً، أنت تقوم به يدوياً. ولا يمكن المنافسة بهذه الطريقة.

النقيب: لقد قلت كفى.

بيدرو: ألن يتشاجروا معك حينما يعرفون أنك فقدت هدوءك؟ لقد خرقت القواعد أيها النقيب.

النقيب: (مغمغماً) اخرس أيها التافه.

بيدرو: لم يعجبك الحديث عن العائلة، أليس كذلك؟ أولا: تريد أن تقول إن لك عائلة. وثانياً: إنك لست عديم الإحساس جداً.

النقيب: (أكثر هدوءاً) إذاً ستتكلم؟

بيدرو: أنا أتكلم ألا ترى؟

النقيب: أنت تعرف ماذا أقصد.

بيدرو: أيها النقيب، لا تستخلص استنتاجات منافية للعقل.

النقيب: (مرتبكاً) لكن لماذا؟ لماذا؟ (إيماءة من بيدرو) ألم تنتبه أيها الأبله أنهم يستغلونك؟ ألم تنتبه أن آخرين يقدمون الأفكار وأنت تقدم وجهك؟

بيدرو: جملة جيدة. من أين حصلت عليها؟ (فترة صمت) أحياناً قد تكون صحيحة أيضاً.

النقيب: إذاً؟

بيدرو: لا شيء. الأساسي ليس العيب الفردي…

النقيب: (متمماً الجملة) وإنما الإرادة الجماعية. الفقرة السابعة الملحوظة (أ) من الإعلان الداخلي الذي ناقشتم في شهر آب.

بيدرو: إذا كنتم تعرفون إعلان آب، فلماذا كل هذه المهزلة؟

النقيب: الإعلان شيء وأنت شيء آخر.

بيدرو: بمعنى يوجد بيننا مخبر.

النقيب: ولمَ لا؟ ماذا كنت تنتظر؟

بيدرو: وكيف لم يخبركم بكل شيء عن غابرييل وروساريو وماغدالينا وفيرمين؟

النقيب: لأنه لا يعرف.

بيدرو: آه.

النقيب: بالمقابل نعم، كان يعرف عنك معلومات ولهذا قبض عليك. كما أنه أخبرنا أنك تعرف الأربعة الآخرين.

بيدرو: آه.

النقيب: (بعد صمت طويل) قل لي من فضلك، أنت تعرف ما الذي ينتظرك؟

بيدرو: أتخيله.

النقيب: ربما سيكون أسوء بكثير من السوء الذي تتخيله. نحن نحرز تقدُّماً كل يوم.

بيدرو: ما أتخيله دائماً هو الأسوء.

النقيب: لكن بالله عليك، أأنت انتحاري؟

بيدرو: لا شيء من هذا القبيل. أحب الحياة كثيراً.

النقيب: تحب الحياة محطماً؟

بيدرو: لا، أحب أن أحيا ببساطة.

النقيب: أنا أمنحك الحياة، ببساطة.

بيدرو: لا، ببساطة لا. أنت تمنحني الحياة كميت. وأنا أفضل الموت حيّاً على مثل هذه الحياة.

النقيب: أف، إنها مجرد جمل.

بيدرو: لقد قلتها عن قصد. كنت أظن أنها ستعجبك. أنتم عندما تلقون خطاباً تؤكدون دائماً على بعض الجمل والكلمات.

النقيب: (بعد فترة صمت) سألتني سابقاً عن العائلة. نعم أنا متزوج ولدي ولدان. الذكر يبلغ من العمر سبع سنوات والأنثى خمس. صحيح أن في بعض الأحيان عندما أصل البيت بعد إنهاء العمل يصعب علي مواجهتهما. أنا هنا لا أعذب ولكنني أسمع الكثير من الآهات والصرخات المؤثرة وزعقات اليأس. أحياناً أصل إلى البيت وأعصابي منهارة. يداي ترتعشان أنا لا أصلح كثيراً لهذا العمل، لكنني غارق في الديون. ولهذا أجد مبرّراً واحداً للعمل الذي أقوم به: جعل المعتقل يتكلم، وأن يزودنا بالمعلومات التي نريدها.

من الواضح أنني دائماً أفضّل أن يتكلم قبل أن يلمسه أي أحد، لكن هذا النموذج لم يعد موجوداً، لا يأتي. في المرّات التي نحصل فيها على شيء، يكون دائماً بفضل الآلة. من المنطقي أن الواحد يتعذب عندما يرى التعذيب. أنت قلت إنني لست عديم الإحساس وهذا صحيح.

إذاً انظر، الطريقة الوحيدة لأتبرّأ من المسؤولية أمام أطفالي، هي أن أكون واعياً بأنني على الأقل أنال الهدف الذي حدّدوه لي: وهو الحصول على معلومات، ولو اضطررنا إلى القضاء عليكم. إنها مسألة حياة أو موت؛ إما أن نقضي عليكم وإما أن تقضوا علينا. إنها مسألة حياة أو موت. أنت وضعت أصبعك على الجرح عندما ذكرت عائلتي. لكنك أيضاً جعلتني أتذكر أنه علي أن أجعلك تتكلم بأي طريقة كانت. هكذا فقط سأحس براحة أمام زوجتي وولدَيّ، سأحس براحة فقط إن أديت واجبي وإن بلغت مرادي. لأنني خلاف هذا، سأكون حقّاً قاسياً وسادياً وعديم الإنسانية؛ لأنني سأكون اضطررت إلى أن آمُرَ بتعذيبك هباءً، وهذه نعم قذارة لا أطيقها.  

بيدرو: (ينظر إليه بنوع من الفضول، بفضول يبدو علمياً، كالذي يفحص فصيلة منقرضة) أهناك شيء آخر؟

النقيب: نعم، عندي سؤال. هو السؤال نفسه الذي طرحته عليك سابقاً، لكنني أتطلع إلى أن تفهمه أحسن هذه المرة، وأثق أنك تعلم كل ما أعلقه عليه، ستتكلم؟

بيدرو: (ما زال مندهشاً أمام الخطبة المسهبة والثقيلة للنقيب، لكن من دون أن يفقد شيئاً من قوته) لا أيها النقيب.

————————————-

[الفصل الثالث]

خشبة المسرح نفسها.

النقيب جالس على الكرسي يحرّكه كما لو كان مستغرقاً في تفكير عميق. فقد هدوءه والتكلف في الهندام الذي كان عليه في المشهدين السابقين، أصبح أشعث الشعر، وقد فكّ أزرار قميصه وحل ربطة عنقه. ينحني على الطاولة ويرفع سماعة الهاتف.

النقيب: أحضروه! (يضع سماعة الهاتف)

يعود مرة أخرى للتأرجح على الكرسي. في بعض الأحيان يبدو أنه يتنفس بصعوبة. تمضي بضع دقائق، تسمع أصوات قريبة ويرمى بيدرو إلى الغرفة وعلى رأسه قلنسوة، ملابسه ممزقة وعليها بقع دم كثيرة. يظل ممدّداً على الأرض بدون حركة. يقترب النقيب منه دون أن ينزع عن رأسه القلنسوة. يفحصه ويرى جروحه وكدماته المتعددة. عندما يمسكه من إحدى ذراعيه، يسمع أنيناً مبحوحاً وعندها يطلقه. يبدو تائهاً ويبتعد عن ذاك الجسم.

النقيب: بيدرو!

“لا شيء هو اسمي العائلي الأول. ألم تكن تعرف هذا أيها النقيب؟”

الجسم لا يستجيب، لكنه يحاول الحركة. يعود النقيب للاقتراب، وهذه المرة يمسكه بقوة ويقوده إلى الكرسي. لكن جسد بيدرو يميل إلى إحدى الجوانب. النقيب يمسكه ويصلح وضعية جلوسه. عندما يتحقق أنه ثبت أخيراً، يعود إلى كرسيه الكبير ومن جديد يتأرجح.

من أسفل القلنسوة، تُسمع بعض الأصوات، لكن في البدء لا يمكن التمييز إن كانت أصوات ضحك أم نحيب. يهتز الجسم. يوقف النقيب تأرجحه وينتظر متوتراً. لكن الصوت يستمر غامضاً ومبهماً. وعندها يقف النقيب ويتوجه صوب بيدرو ويسحب عن رأسه القلنسوة دفعة واحدة. عندها فقط يتبين جلياً أن بيدرو يضحك. وجهه متورم ومشوه، تماماً لكنه يضحك.

النقيب: على ماذا تضحك أيها الغبي؟

بيدرو: (كما لو أن النقيب لم يتحدث إليه) ووسط جلسة التعذيب بآلة التعذيب المنخس انقطع التيار الكهربائي، ذاك الانقطاع الكهربائي ذاته الذي توقعه عقيدك اللعين. مساكين هم أولئك الفيلة لم يعرفوا ما عليهم فعله لأنهم بدون تيار كهربائي لا قيمة لهم. وكانت هناك فتاة وآلة التعذيب المنخس في مهبلها وعندما انقطع التيار الكهربائي لا أعرف كيف تمكنت من أن تسدد لهم ركلة. والوحش أشعل عود ثقاب لكن المنخس (يضحك) لا يعمل بأعواد الثقاب. (يضحك ملء شدقيه) لا يعمل بأعواد الثقاب. (منذ هذه اللحظة وتقريباً خلال كل المشهد، سيعطي بيدرو الانطباع على أنه شخص يهذي أو ربما على أنه شخص يتظاهر بالهذيان. من الضروري أن يظل هذا الغموض) يظل برميل الماء المملوء طبعاً بماء الخراء وقطع الخراء التي تطفو فيه، لكن من الصعب القيام به في الظلام. برميل الماء لا يعمل بالكهرباء طبعاً. لكنهم في بعض الأحيان يصلونه بالتيار الكهربائي. وليس مسلياً القيام به وسط انقطاع للكهرباء. ففي الظلام، لا يمكن معرفة متى الشخص الذي يتعرض إلى لتعذيب لا يمكنه البقاء في البرميل أكثر. فقد أوضح الطبيب أنه من اللازم وجود إضاءة جيدة لتشخيص قرب السكتة القلبية. ولهذا كان عليهم إيقاف الجلسة.

النقيب: بيدرو

بيدرو: أدعى رومولو.

النقيب: لا، أنت تدعى بيدرو.

بيدرو: على أي حال، اسمي رومولو وألقب ببيدرو.

النقيب: لا تربكني. اسمك بيدرو ولقبك رومولو.

بيدرو: لا شيء.

النقيب: ماذا؟

بيدرو: لا شيء. لا اسم لي ولا لقب. لا شيء.

النقيب: بيدرو.

بيدرو: بيدرو لا شيء. لا شيء هو اسمي العائلي الأول. ألم تكن تعرف هذا أيها النقيب؟ أنا أفشيه لك في هذه اللحظة بالضبط. ألن تنادي على كاتب الاختزال؟ إنه تصريح مهم. أم أنك تستعمل المسجل؟ بيدرو لا شيء. واسمي العائلي الثاني هو أكثر؛ أي اسمي الكامل هو: بيدرو لا شيء أكثر. (يضحك بصعوبة).

النقيب: (ينتظر انتهاء بيدرو من الضحك) ما بك؟

“أنت حي. وتستطيع أن تكون حياً أكثر مما أنت عليه الآن”

بيدرو: لا شيء مهم. أنا وسط الموت ووداعاً. لكن عند هذا الحد لا يهمني الموت.

النقيب: أنت حي. وتستطيع أن تكون حياً أكثر مما أنت عليه الآن.

بيدرو: أنت مخطئ أيها النقيب، أنا ميت. إننا كما لو كنا نتحدث خلال ليلة السهر على جثتي قبل دفني.

النقيب: لا تمثل دور الذي يهذي؛ فمعي لا ينفع هذا التمثيل المسرحي.

بيدرو: هذا ليس تمثيلاً مسرحياً أيها النقيب. أنا ميت. لا تتصور الراحة التي أحسست بها عندما علمت بأنني ميت. لهذا لا يهمني الآن إن عذبوني بالكهرباء، أو غطسوا رأسي في الخراء، أو أن يعذبوني بالوقوف لساعات وأيام دون الأكل والشرب، وأن اضطر إلى قضاء حاجتي على ملابسي، أو أن يحطموا خصيتي. لا يهمني لأنني ميت، وهذا يمنحني رباطة جأش وسعادة  أيضاً. ألا ترى أنني سعيد؟

النقيب: أنت أول ميت يتحدث مثل ببغاء.

بيدرو: حسناً جداً أيها النقيب. ممتاز. استوعبت التناقض، أنت تتدرب من أجل المنطق، أليس كذلك؟ أنا ميت وأتحدث مثل ببغاء. أحسنت أيها النقيب! من كان ليقول إنك ستصل لهذا الاستنتاج الرائع؟ أحسنت! أريد أن يثبت في التسجيل رغبتي في التصفيق، وليس تصفيقي طبعاً؛ لأنني مكبل اليدين. (لحظة صمت) أنا أدين لك بتفسير، ما أود قوله هو أنني تقنياً ميت، لكنني ما زلت أعمل كجسد؛ أي أنني أتبول وأتبرز. لا أقول إنني أتجشأ، لأنه بما أنهم سيقتلونني من الجوع، فليس في بطني شيء عملياً لأتجشأ. لكن أنا أقول إنني ميت تقنياً لأنهم لن يستطيعوا أن ينتزعوا مني ولو حتى رقم هاتف واحد، ولا حتى رقم قميصي. ولهذا، فإنهم سيستمرون في ضربي وتعذيبي. وهذا الجسد الضعيف يستحمل القليل فقط الآن، يستحمل القليل جداً. كما لاحظت أنت جيداً، أنا لست رياضياً. وبما أنهم سيستمرون في ضربي وتعذيبي، فأنا ميت، ميت تقنياً. أفهمت أيها النقيب؟

لا تتصور مدى الراحة التي أحسست بها عندما علمت بهذا. كل شيء تغير. وكمثال على هذا، أنا كنت أكرهك، وقلت لك هذا، أما الآن بما إنني ميت، فأنا أشفق عليك. أحس إنني لأول مرة أسجل تفوقاً مهماً عليك، وحتى يمكنني القول بأنه يكاد يكون غير قابل للقياس.

النقيب: لا تكن واثقاً من نفسك. كيف تعرف إلى أي حد ستستحمل؟ هذا يعرف فقط عندما تأتي ساعته. أنت استحملت إلى حد الآن، لكنني قلت لك سابقاً إننا لم نصل إلى لحد الأقصى: إننا نكتشف كل يوم طرق جديدة.

بيدرو: أعترف أن هذا كان مصدر قلقي عندما كنت حياً: إلى أي حد سأستطيع التحمل؟ لأنه عندما يكون المرء حياً؛ يريد مواصلة الحياة، وهذا دائماً ما يكون إغراءً خطيراً، بالمقابل الإغراء ينتهي عندما يعرف المرء منا بأنه ميت.

النقيب: والألم؟

بيدرو: صحيح: الألم. كم هو مهم الألم عندما يكون المرء حياً، لكن عندما يكون المرء ميتاً، فإنه لا يأخذه بعين الاعتبار.

النقيب: اللعنة، أنت لست ميتاً. (فترة صمت) لكن ربما أنت مجنون.

بيدرو: سأقدّم لك تنازلًا أيها النقيب؛ أنا مجنون لكنني ميت.

النقيب: أو أنك تتظاهر أنك حي.

بيدرو: ملاحظة أخرى ذكية أيها النقيب! لأن لا أحد بإمكانه التظاهر بأنه ميت.

النقيب: (وقد فقد صبره) بيدرو!

بيدرو: بيدرو لا شيء أكثر.

النقيب: اللعنة على اسمك الكامل!

بيدرو: أخبرك أنك لعنت جثة، وهذا في كل مكان في العالم وتحت حكم أي نظام يعد عدم احترام.

النقيب: (محاولاً نقل الحوار إلى طريق عادي أكثر) عليك أن تتكلم يا بيدرو. أنا صادق معك: لقد تعاطفت معك. لا أريد أن يهشّموا عظامك.

بيدرو: لقد هشّموا عظامي أيها النقيب. تعاطفك جاء متأخراً، كم أأسف لهذا! ما عاد عندي كبد، ومن المرجح أنه لم يعد لي خصي. بسبب الشكوك لم أنتبه.

النقيب: لا أريد أن يحطموك.

بيدرو: لماذا تتحدث بضمير الغائب وتقول هم؟

النقيب: لا أريد أن نحطمك.

بيدرو: هكذا أفضل. ألا تحب الحطام؟ لنقل مدينة بومبي الأثرية، والمدينة الرومانية القديمه هركولانيوم، ومدينة ماتشو بيتشو، وبيدرو لا شيء أكثر، إلخ.

النقيب: اخرس أيها الأحمق.

بيدرو: الذين يصمتون هم الأحياء. أتتذكر أيها النقيب كيف كنت أصمت عندما كنت حياً؟ لكن نحن الأموات بإمكاننا الكلام. بالقليل من اللسان والحنجرة المضغوطة والأسنان الأربعة والشفاه التي تنزف دماً، بهذا القليل الذي تتركون لنا نحن الأموات بإمكاننا الكلام… (فترة صمت) عن عائلتك على سبيل المثال.

النقيب: مرة أخرى؟ لماذا لا نتحدث عن عائلتك أنت؟

بيدرو: أو عن عائلتي. ما المانع؟

النقيب: وعن زوجتك.

بيدرو: قل عن أرملتي. في الحقيقة أورورا…

النقيب: (قاطعاً) الملقبة بياتريث.

بيدرو يظل صامتاً. رأسه يميل على صدره.

النقيب: (يبتسم) كيف؟ ألم تكن ميتاً؟ الظاهر أنك إلى حد الآن تقوم بحركات انعكاسية.

بيدرو يستمر في عدم الحركة ورأسه ما يزال مائلاً إلى الأمام.

النقيب: أورورا ولقبها بياتريث. ألم أقل لك سابقاً إننا كل يوم نضع أوراقاً على الطاولة؟

بيدرو يرفع رأسه شيئا فشيئاً، لكن نظرته هذه المرة تبدو كأنها شاردة في مكان ما بعيد. يبدأ الكلام بنبرة صوت خافتة، كما لو كان يهمس في أذن، وبعدها يبدأ برفع صوته شيئاً فشيئاً.

بيدرو: عندما كنت صغيراً، كنت أحلم بالبحر. والآن وأنا ابن اثني عشر ربيعاً، أفضل رؤيته. نيكولاس يقول إنه ليس بحراً. نيكولاس…

النقيب: (مذعناً) الملقب إستيبان.

بيدرو: … يقول إنه نهر. لكن في الأنهار تظهر دائماً الضفة الأخرى وهنا لا. إضافة إلى أن مياه الأنهار ليست مالحة. ومياه هذا النهر نعم مالحة لهذا فأنا أسميه بحراً. أسميه بحراً وعندما أسميه أدخل رجلي في الرمال والرمال تدخل بين  أصابع قدمي وتدغدغني.

“كم هو مهم الألم عندما يكون المرء حياً”

النقيب: (كما لو أن بيدرو أعداه هو أيضاً يغير هيئته. كلاهما يتحدثان بالتناوب دون أن يتحاورا. في الحقيقة، هناك حواران متقاطعان) أنا كان علي أن أعطيها وردة لا أعلم لماذا، لكن كان علي القيام بذلك. هي كانت قادمة بصحبة والدتها وابنة خالتها. هي كانت قادمة وأنا كنت أنظر إليها، لكن كان علي إعطاؤها وردة.

وذات مساء، سرقتُ وردة من حديقة السفارة، والشرطي ركض ورائي، وقال أيها الولد اللعين، وركض ورائي، ولكنني ركضت أكثر منه وحينها عانيت أزمة الربو، لكن عندما وصلت إلى الحديقة، عندما وصلت إلى نافورة الماء، كانت الأزمة الربوية قد مرّت ولو أن القلب كان ما يزال يخفق بشدة. وحينها، اقتربت وأعطيتها الوردة وهي في البدء نظرت إلي مندهشة وبعدها رمشت عيناها، وعلى الفور رمت الوردة لمياه النافورة.

بيدرو: أنا كنت أريد أن أصبح متشرّداً. وفي الثالثة عشرة من عمري، تركت البيت. تمشيت طيلة الصبيحة وكنت أشعر بأنني منتعش وحر وسعيد. وبما أنه كان في جيبي نقود كانت لأمي؛ اشتريت، في منتصف النهار، شطيرتين من لحم الخنزير والجبن ومشروب شعير.

وفي المساء، بسبب الشمس الحارقة، نمت على أحد مقاعد الساحة واستيقظت على وقع جرس رجال المطافئ فقط، ولكنهم لم يعيروني أي اهتمام. مشيتُ ومشيتُ والكلاب كانت تتبعني أحياناً، وأحياناً أخرى لا. وعندها، بدأت ركبتاي تؤلماني، وأشعلت أضواء مصابيح الشارع. وعندما كنت على وشك البكاء، رمقتني أمي من الممر المقابل، وصرخت: بني! هناك انتهى مشواري كمتشرد.

النقيب: أندريس كان يلاحقني في كل مكان لأنه كان يكرهني، وأنا كنت أشعر بذلك الكره بشدة؛ لهذا لم يكن بوسعي أن أفعل شيئاً عدا كرهه. ذات يوم، لم أستطع أن أتحمل أكثر، واستدرت لمواجهته، وعندها هو أيضاً استدار وذهب يركض. حينها، بدأتُ ألاحقه وكنّا نكره بعضنا بعضاً، بشدة لكنه لم يستطع الاستدارة ولا مواجهتي قط.

بيدرو: كانت تأتي كل مساء إلى المكتبة لتدرس الرياضيات. كنتُ أدرس التاريخ، لكن في حقيقة الأمر لم أكن أدرس شيئاً؛ لأنني كنت أقضي الوقت وأنا أنظر إليها بطرف العين، محاولصا التحقق من أنها أيضاً تنظر إلي بطرف العين، لكننا لم نتلاقَ في التحقيقات قط؛ لهذا قضينا كل الفصل الدراسي نتبادل النظرات محاولين معرفة إن كان الواحد منا ينظر إلى الآخر. حتى ذات مساء، حين قامت أورورا…

النقيب: … الملقبة بياتريث.

ولو أن النقيب قال هذه الجملة بطريقة ميكانيكية، فإنه كما لو كان بهذه الطريقة كسر السحر.

بيدرو: هذا جيد. أنت تعرف كل شيء أيها النقيب، لكن هذا لن يمنع أن أكون أنا ميت وأعرف شيئاً أكثر. على سبيل المثال، أنكم تعرفون أنها لا تعرف، ولكنكم تتصورون أنني أعرف.

النقيب: بإمكاننا إحضارها.

بيدرو: هذا سبب آخر لأكون ميتاً. وخير البر عاجله. نحن الموتى لا يمكن ابتزازنا.

النقيب: (بعد فترة صمت طويلة) لماذا يا ترى أعجبت بك رغم كل الحماقات التي تتفوه بها؟

بيدرو: ربما لأنك تحب الحماقات؟

النقيب: لا، ليس هذا. ما يجري هو أن حضرتك…  (ينقطع الصوت مندهشاً. يقدم على خطوات في الغرفة) حضرتك؟ والآن لماذا هكذا دون أي سابق إنذار لم أعد أتحدث إليك بصيغة المخاطب؟ (لأول مرة يبتسم بيدرو) لا، لا تبتسم. أحسست فجأة أنه علي أن أخاطبك بصيغة الغائب. هذا لم يحصل معي قط.

بيدرو: (دائماً يبتسم) لا تقلق. كتعويض، أنا سأخاطبك بصيغة المخاطب.

النقيب: (يوافق محركاً رأسه) هذا جيد. يبدو لي عادلاً.

بيدرو: (مبتهج تقريباً) أنبدأ؟

النقيب: طبعاً.

بيدرو: ابدأ أنت.

النقيب: لا، فلتبدأ حضرتك.

بيدرو: لقد قلت لك سابقاً إنني ميت؟ آه نعم لقد قلته لك سابقاً. حسناً، لكن قبل أن أغادر هذا الحي، أود الاطلاع على مكنون سر شيء هو بالنسبة لي لغز.

النقيب: نعم وأنا ما دخلي بهذا؟

بيدرو: هذا دخلك طبعاً. أود حل لغز كيف يمكن لشخص أن يتحول إلى معذِّبْ إن لم يكن أحمق، إن لم يكن وحشاً. (فترة صمت) انظرْ، أنا ميت؛ ما يعني أنني لن أحكي هذا لأي شخص. هو لي ليس أكثر.

النقيب: (وهو يتكلم ببطء) أنا لست هكذا.

بيدرو: حقاً؟

النقيب: لقد شرحت لك هذا سابقاً.

بيدرو: لكن أنا لا يهمني شرحك. أنت تعرف أنك هكذا. (فترة صمت) هيا، احْكِ لي كيف حدث هذا. أبسبب صدمة تعرضت إليها عندما كنت صبياً؟ أم بسبب قناعة راسخة؟ أم لحظة جنون عابرة؟ أم التدريب في قاعدة فورت غوليك العسكرية؟

النقيب: (رافعاً كتفيه) حسناً، أنا مناهض للشيوعية.

بيدرو: نعم، أتصور هذا. لكن هذا لا يعتبر شرحاً. يوجد ملايين من مناهضي الشيوعية في العالم، وهم ليسوا مُعذِّبين. البابا على سبيل المثال.

النقيب: ليس كل الأشخاص يصلون إلى تحقيق ذاتهم. (يضحك كما لو كان ما قاله دعابة)

بيدرو: أنا متفق معك، ليس كل الأشخاص يصلون إلى تحقيق ذاتهم. لكن أنت، لماذا حققت ذاتك؟

النقيب: إنها قصة طويلة وبطيئة. لا يتعلق الأمر بصدمة تعرضت إليها عندما كنت صبياً. ليس كل شر يحدث في الحياة سببه صدمات تعرضنا لها في الصغر. من الأفضل القول تغير طفيف تبعه تغير طفيف آخر، وليس بسبب قناعة راسخة.

من الأفضل القول إغراء صغير تبعه إغراء صغير آخر، إغراءات اقتصادية أو فكرية، هذا لا يهم. وكل شيء كان له نصيبه في التأثير علي. صحيح أن الدفعة الأخيرة أعطيت لي في قاعدة فورت غوليك، فهناك علموني بواسطة تعذيب وجيز ويمكن الصبر عليه عانيت منه شخصياً أين تكمن النقط الحساسة للكائن البشري. لكن، قبل هذا، علموني تعذيب الكلاب والقطط. قبل، قبل، دائماً هناك قبل.

إنه شيء تدريجي، لا تظن أن في غمضة عين كما لو بسبب عمل سحر يتحول الواحد من شاب طيب إلى وحش عديم الإحساس. وأنا لست وحشاً عديم الإحساس، أنا لست كذلك إلى حد الآن. لكن، في المقابل، لم أعد أتذكر متى كنت شاباً طيباً. (فترة صمت) ولماذا أحكي لك كل هذا؟ لماذا أجعل منك كاتم أسراري؟

بيدرو: دائماً يكون الأوان قد فات عندما يتعلق الأمر بأعمال شريرة.

النقيب: جلسات التعذيب الأولى تكون فظيعة. تقريباً كل مرة كنت أتقيأ، لكن يوم يترك الواحد منا القيء، لحظتها يكون قد ضاع. لأنه بمرور أربعة أو خمسة، أيام يبدأ بالاستمتاع. حضرتك لن تصدقني…

بيدرو: أنا أصدق كل ما تقوله، لا تقلق.

النقيب: لا، حضرتك لن تصدقني. لكن ذات ليلة، كنا نقوم فيها بتعذيب فتاة بواسطة آلة التعذيب المنخس، الفتاة لم تكن جميلة جداً وكنا ننخسها، أتدرك هذا؟

بيدرو: طبعاً أنا أدرك ما تقول. وهي كانت تصرخ وقد فقدت صوابها وتهتز وتهتز… (يتوقف)

بيدرو: وماذا؟

النقيب: لن تصدقني، لكن سرعان ما أدركت أن جهازي التناسلي قد انتصب. ليس أقل من انتصاب في تلك الظروف. ألا يبدو لك عملاً شنيعاً؟

بيدرو: نعم يبدو لي كذلك.

النقيب: والأسوأ هو أنني في اليوم التالي عندما كنت أهم بمضاجعة زوجتي لم أستطع… وبدأت أنفعل.. ولم أتمكن…

بيدرو: لكنك في الأخير تمكنت، أليس كذلك؟

النقيب: نعم. كيف عرفت؟

بيدرو: دائماً ما يتمكّن المرء.

النقيب: لكنني تمكنت فقط عندما وضعت كل قوة الذاكرة لاستعادة صورة الفتاة التي كانت تعذب في الليلة السابقة، والتي لم تكن جميلة جداً. أليس هذا مرعب؟ تمكنت من مضاجعة زوجتي فقط عندما تذكرت الفتاة التي كانت تتلوى من شدة اللألم لأننا كنا ننخسها. ماذا يسمى هذا؟ يجب أن يكون له اسم علمي.

بيدرو: الاسم ليس مهماً.

النقيب: لهذا السبب، ليس بإمكاني العودة إلى الخلف. لهذا السبب، ليس بإمكاني التنازل. لهذا السبب، علي أن أجعلك تتكلم. لقد قطعت مسافة طويلة في هذا الطريق. أتفهم الآن؟ أتفهم لماذا سيكون عليك أن تتكلم؟

بيدرو: أفهم أنك تريد أن أفهم أنا.

النقيب: لهذا كان علي أن أخاطبك بصيغة الغائب. لأنني إذا كنت واصلت مخاطبتك بصيغة المخاطب، لم أكن لأتمكن.

بيدرو: أتحب أن أقول لك شيئاً؟ لن تستطيع أيها النقيب بكل الطرق. لا بمخاطبتي بصيغة الغائب، ولا بصيغة المخاطب، ولا حتى إن ناديتني بسيادتك. أترى؟ هذه هي الميزة التي تتمتع بها كلمة لا، دائما لا ولا شيء غير لا. أسمعت جيداً يا نقيب؟ لا! أسمعت أيها النقيب؟ لا! أسمعتم أيها النقيب؟ لا!

————————————

فصل الرابع والأخير]

خشبة المسرح ذاتها.

بيدرو ملقى على الأرض أو على الأقل جسم بيدرو. والذي لا يتحرك وعلى رأسه قلنسوة. بعد فترة، بدأ يُسمع أنين خافت. يدخل النقيب لا يرتدي قميصاً ولا ربطة عنق، عرقان جدّاً وشعره متشعث.

النقيب: آه!  لقد أحضروك قبل الأوان. (يلمس الجسم بإحدى رجليه) بيدرو. (الجسم لا يعطي إشارات على استمراره على قيد الحياة) هيا يا بيدرو علينا العمل. (يذهب صوب المغسلة، يبلل الفوطة ويعصرها قليلاً. يقترب من الجسم الممدود على الأرض. ينحني عليه وينزع عن رأسه القلنسوة ويبقى بديهياً متأثراً إزاء الوضع الكارثي الذي بقي عليه وجه بيدرو. يتمالك نفسه، مع ذلك ويبدأ بتنظيف جروح وجهه بالفوطة المبللة قليلاً. يبدأ بيدرو بالحركة ببطء) بيدرو.

بيدرو: آه؟ (يفتح عيناً واحدة، لكن الظاهر أنه لم يتعرف على النقيب)

النقيب: ما الذي جرى؟ أتشعر بتحسن؟

بيدرو: آه؟

النقيب: أتعرفت علي يا بيدرو؟

بيدرو: (متلعثماً) للأ… سف… نعم.

يساعد النقيب بيدرو على الجلوس على الكرسي، لكن المعتقل لا يستطيع البقاء ثابتاً. هذه المرة نعم حطّموه. يزيل النقيب حزام سرواله ويربط به بيدرو مع ظهر الكرسي لكي لا يسقط على الأرض.

سيبدأ بيدرو بالانتعاش تدريجياً. لكن ظاهرياً يبدو منتهياً. على أي حال، دائماً سيكون هناك تناقض بين الحيوية النسبية التي ما زال يظهرها وجهه، ومظهر جسمه المنهك.

بيدرو: إذن أنت هو النقيب؟

النقيب: طبعاً، كيف ضربوك هذه المرة! لقد هشموا عظامك، يا لها من وحشية يا بيدرو!

بيدرو: الحمد لله… أنني… كنت ميتاً ساعتها.

النقيب: ألا يبدو لك أن الوقت قد حان للتنازل قليلاً؟ لقد تصرفت كبطل. من ذا الذي سيكون عديم الإنسانية إلى هذا الحد ليعاتبك على الكلام الآن؟

بيدرو: (لا يجيب وبعد فترة صمت) أيها النقيب، أيها النقيب.

النقيب: ماذا؟

بيدرو: أنت لا تتحدث إطلاقاً مع نفسك على انفراد؟

النقيب: ربما، أحياناً.

بيدرو: أنا نعم أتحدث مع نفسي على انفراد.

النقيب: وما دخل هذا؟

بيدرو: أنا أتحدث مع نفسي لأنني منذ ثلاثة أشهر وأنا معزول عن العالم الخارجي.

النقيب: كيف؟ تحدث معي.

بيدرو: هذا ليس حديثاً.

النقيب: وما هو إذن؟

بيدرو: هذا خراء. (فترة صمت) أنا أتكلم مع نفسي لأنني أخاف أن أنسى كيف يتكلم الناس.

النقيب: لكن تحدث معي.

بيدرو: أنا لا أقصد الحديث مع العدو. أقصد الحديث مع زميل أو مع أخ.

النقيب: آه.

بيدرو: أيها النقيب، أيها النقيب.

النقيب: ماذا هناك الآن؟

بيدرو: ألا تشعر أحياناً أنك تطير في الهواء؟

النقيب: بصراحة، لا.

بيدرو: طبعاً. فأنت لست ميتاً.

النقيب: ولا أنت، ولو أنك تقوم باستحقاقات جديرة بالذكر لتكون كذلك.

بيدرو: لكن أنا أحياناً أسبح في الهواء وهو أمر جميل. وساعتها أذهب إلى غاية الشاطئ.

النقيب: أنت لا تذهب إطلاقاً. لا إلى الشاطئ ولا إلى أي مكان. أنت مدفون هنا.

بيدرو: نعم هو كذلك، هو كذلك. أنا مدفون طبعاً. لأنني ميت. لكنني عندما أسبح، أذهب إلى غاية الشاطئ. من الواضح أنني لا أذهب كل يوم، ففي بعض الأحيان يكون مزاجي سيئاً. أمس كان مزاجي جيداً وذهبت. منذ سنوات عندما كنت أذهب إلى الشاطئ ليس سباحة، وإنما مشياً على الأقدام، كنت أرى دائماً أزواجاً من العشاق، لكن الآن لم تعد موجودة. الآن إنها تتصارع معكم. الآن الشباب موقوفون أو مختبئون أو في المنفى. (لحظة صمت طويلة) ما اسم زوجتك أيها النقيب؟

النقيب: (مهمهماً) وأنت ما دخلك بهذا؟

بيدرو: أترى؟ لقد منحتك فرصة لكي تقوله لي بأدب، لكنني أعرف أنها تدعى إنيس.

النقيب: (مندهشاً) وأنت من أين عرفت هذا؟

بيدرو: لقد قلت لك من قبل إنني أعرف عنك أكثر مما تعرف أنت عني. اسمها إنيس. لكن لا تقلق. أنا أعرف أيضاً أن ليس لها اسم لقب. إلا أنك تناديها بيبا. لكنه ليس اسماً سرياً. يا للحظ، أليس كذلك؟ في هذه الأيام ليس من الجيد أن تملك اسماً سرياً.

النقيب: إلى أين تريد الوصول؟

بيدرو: إلى موتي أيها النقيب، إلى موتي.

النقيب: ماذا ستربح من عدم الكلام؟ أن يهشموا عظامك؟

بيدرو: أو أن يكفوا عن تهشيم عظامي.

النقيب: لا تتوهم. لن يتركوك.

بيدرو: إن مت سيتركونني وسأموت.

النقيب: لكن الموت بهذه الطريقة طويل.

بيدرو: ليس كثيراً، إن المرء ساعد، إن المرء تعاون.

النقيب: (على عجل متوهماً) أأنت على استعداد للتعاون؟

بيدرو: (ينطق ببطء) أنا مستعد  للتعاون في مسألة موتي. (فترة صمت) وأنا مستعد أيضاً للمساعدة على أن تحبك إنيس.

النقيب: لا تقلق بهذا الشأن إنها تحبني.

بيدرو: نعم إلى غاية اليوم. لأنها لا تعرف على ماذا يقوم عملك بالضبط.

النقيب: ربما تتصوره.

بيدرو: لا، هي لا تتصوره. لأنها إن كانت تصورته من قبل، فإنها كانت لتتركك. هي ليست سيئة.

النقيب: (كأنه إنسان آلي) هي ليست سيئة.

بيدرو: وأريد أيضاً أن أساعدك على أن لا يكرهك ولداك الذكر والبنت.

النقيب: ولداي لا يكرهاني.

بيدرو: ليس بعد بطبيعة الحال. لكن سيكرهانك مستقبلاً. ألا يذهبان إلى المدرسة؟

النقيب: يذهب الولد فقط.

بيدرو: لكن البنت ستذهب في ما بعد. وسيخبر الزملاء والزميلات الولد والبنت عن من تكون أنت. في أول مشاجرة ستقع، سيعلمان. هذا منطقي. ومنذ هذا الكشف سيبدأان بكرهك. ولن يغفرا لك أبداً. لن تسترجعهما قط. لن تعلم قط إن… (لا يستطيع الاستمرار في الكلام، يغمى عليه)

في البدء النقيب لا يقترب منه. ينظر إليه دون أن ينظر إليه. يستغرق في تفكير عميق. وبعد ذلك، يتوجه صوب المغسلة، يملأ كأساً من الماء، ويواجه بيدرو، ثم يسكب على وجهه الماء. شيئاً فشيئاً، يستعيد بيدرو الشعور.

النقيب: لا تتوهّم. أنت لم تمت بعد. نحن ما زلنا هنا وجهاً لوجه.

بيدرو: (وهو يستفيق) آه، نعم نتحدث عن إنيس والولدان.

النقيب: كفّ عن هذا!

بيدرو: أيها النقيب، لماذا لا تقتلني؟

النقيب: أنت مجنون! وتريد أن تجنني!

بيدرو: لماذا لا تقتلني أيها النقيب؟ أعدك أنه سيكون دفاعاً عن النفس. إضافة إلى أنني أردت الهرب. قانون الهروب، أتتذكّر؟ الشجاعة أيها النقيب لديك فرصة مواتية للقيام بخير أعمال كل يوم.

النقيب: يا لك من ثرثار اليوم.

بيدرو: أنا أثأر قليلًا بعد أيام طويلة من الصمت. إضافة إلى أنك المحاور المثالي.

النقيب: أنا؟

بيدرو: نعم لأن ضميرك يؤنبك. إنه لجدّ محفّز معرفة أن العدو يعاني من تأنيب الضمير. لأن كل ما قلته سابقاً عن أنك لم تولد جلاداً كل هذا أكذوبة. أنت عملت “كسيئ” لمدة طويلة في ماضٍ غير بعيد. نحن نعرفك أيها النقيب. بمعنى عليكم أن تستخدموا قلنسوات أغلظ. دائماً ما يكون هناك شخص يرى الشخص الآخر. وأنا على سبيل المثال، لا أقف عند حد معرفة اسم زوجتك، أنا أيضاً أعرف اسمك أنت وحتى لقبك.

النقيب: أنت مجنون. أنا لا لقب لي!

بيدرو: نعم لديك. ما يحدث هو أن لقبك ليس اسماً، وإنما هو رتبة. لقبك هو رتبة النقيب. وأنت عقيد، أنت عقيد يا نقيب. إذن عندنا خياران: إما أن نتوجه إلى بعضنا بعضاً برومولو ونقيب، أو أن نتوجه لبعضنا بعقيد وبيدرو. ما رأيك أيها النقيب؟ هيا يا عقيد؟ 

النقيب: (وهو ينم عن إحساسه بالأذى) أتعرف شيئاً. أنت أكثر قسوة مني.

بيدرو: لماذا؟ لأنني أطبق عليك المعاملة نفسها؟ هذا ليس شيئاً ذا شأن. إضافة إلى أنك ما زلت تحتفظ بالسلطة وآلة التعذيب المنخس وبرميل ماء الخراء وتقنية التعذيب بالانتظار الطويل. أنا ليس عندي شيء من هذا، وإنما رفض الكلام فقط.

النقيب: وهل يبدو لك كل هذا هيناً؟

بيدرو: لا، لا يبدو لي هيناً. لكن مع إنكاري الكلام…

النقيب: … المتعصب…

بيدرو: هذا هو. مع إنكاري المتعصب للكلام، أختفي وأترك لك الميدان فارغاً. أو أفضل القول أترك لك المقبرة فارغة.

يبدو النقيب كما لو أنه مهزوم وبيدرو أيضا غلبه تعب شديد. في الأخير، يرفع النقيب ناظره ويتكلم كما لو أنه غير هيئته.

النقيب: لا يا بيدرو أنت لست قاسياً. أنا أطلب منك السماح. وبما أنك لست قاسياً ستتفهم. أنت قلت إنك تريد أن أنقد حب زوجتي وطفلَي.

دون أن يعير أدنى انتباه لما يقوله النقيب، يبدأ بيدرو بالكلام، ويقوم بذلك دون أدنى شعور بما يحيط به.

بيدرو: أصحيح أنك لم تتكلم على انفراد مع نفسك قط أيها النقيب؟ أنا هنا الآن معك لكن على كل حال، سأتكلم مع نفسي على انفراد. وبالمناسبة، ستتعلم كيف يتحدث الناس في مثل هذه الظروف. سجل نقطاً أيها النقيب. فهذا اختبار عن الكيفية التي يتحدث بها الناس وهم على انفراد. (فترة صمت) انظري يا أورورا…

النقيب: … الملقبة بياتريث…

بيدرو: (كما لو أنه لم يسمع تعليق النقيب) انظري يا أورورا أنا محطم، وأعرف أنك كنت أينما كنت أنت أيضاً محطمة. لكنني ميت وأنت بالمقابل ما زلت على قيد الحياة. أنا أتحمل كل شيء، كل شيء، كل شيء عدا شيء واحد: هو ألا أكون ممسكاً بيدك. هذا أكثر شيء أشتاق إليه: يدك الناعمة والطويلة، وأصابعك الناعمة والحساسة. أظن أنه الشيء الوحيد الذي يربطني بالحياة إلى غاية الآن. إن منحوني تحقيق أمنية واحدة قبل رحيلي الكلي فسأطلب هذا: أن أمسك بيدك خلال ثلاث أو خمس أو ثماني دقائق. نقضي وقتاً ممتعاً يا أورورا…

النقيب: (بصوت متحشرج)… الملقبة بياتريث…

بيدرو: … أنا وأنت. أنا وأنت نعرف ما تعنيه الثقة بالآخر. لهذا وددت لو أمسكت بيدك: لأنها ستكون الطريقة الوحيدة لأقول لك إنني أثق بك، ستكون الطريقة الوحيدة لمعرفة أنك تثقين بي. وأن نعود بالذاكرة إلى ثقتنا المتبادلة في السابق أيضاً.

أتتذكرين ذاك المساء من شهر مارس منذ أربع سنوات في الشاطئ القريب من بيت والديك؟ أتتذكرين أننا قضينا قرابة الساعتين مطروحين على الرمال من دون أن ننبس ببنت شفة ننظر إلى درب التبانة كالذي ينظر إلى سقف داخلي لبيت؟ أتذكر أنه سرعان ما بدأت أحرك يدي فوق الرمال باتجاهك دون أن أنظر إليك، وبسرعة أدركت أن يدك كانت قادمة نحوي وفي منتصف الطريق التقتا. لاحظي أن هذه الذكرى هي أكثر ما أتذكر. أيضاً جسدك وبشرتك وأيضاً فمك. كيف لي ألا أتذكر كل هذا؟ لكن ذاك المساء في الشاطئ هي أكثر صورة أتذكر. أورورا…

النقيب: (وهو ينتحب)… الملقبة ببياتريث…

بيدرو: … أخبري أندريس شيئاً فشيئاً بهذا. لا تجرحيه بفظاظة بالخبر. هذا يطبع أي طفولة. اشرحي له الأمر رويداً رويداً ومن الأول. فقط عندما تكونين متأكدة من أنه فهم فصلًا، عندئذ فقط ابدأي بحكي للآخر. تماماً كما تفعلين عندما تحكين له القصص. تدريجياً دون أن تجرحي مشاعره. اجعليه يفهم أن هذا لم يكن تمزقاً عاطفياً ولا شعوراً داخلياً ولا مشاجرة فجائية، وإنما قراراً ناضجاً وسيرورة.

اشرحي له الأمر جيداً بكلمات لينة ومضبوطة من بين التي تشكل أفضل أسلوبك. قولي له إنه ليس مضطراً إلى تقبل الأمر كله، لكن يجب عليه فهمه. أعرف أن تركه الآن بلا أب هي بمثابة عنف أقترفه بحقه، أو على الأقل هذا ما يمكن أن يحس به. لا أعرف إن كان سيحدث اليوم ولكن ربما في يومٍ ما، أو في ليلة سيعاني فيها من الأرق. أنا أثق في قدرتك الفذة على الإقناع؛ لكي تقنعيه أن بموتي أنا لا أمارس بحقه أي عنف، وإنما على طريقتي الخاصة أحاول خلاصه.

كان بإمكاني أن أحافظ على حياتي إن وشيت، وأنا لم أش. لكنني إذا كنت وشيت، ساعتها فعلاً كنت سأحطمه. اليوم ربما كان سيشعر بالفرح لعودة أبيه إلى البيت، لكن بعد تسع أو عشر سنوات سيضرب رأسه في الحائط. قولي له عندما يكون بإمكانه استيعاب ذلك، إنني أحبه كثيراً وإن رسالتي الوحيدة له هو ألا يخون. ستقولين له هذا؟ قومي بأداء المشهد عدة مرات من قبل، بهذه الطريقة لن تجهشي بالبكاء عندما تحكين له. لأنك إن بكيت سيفقد كل ما تقولينه القوة. أنت متفقة معي أليس كذلك؟ ذات مرة أنا وأنت تحدثنا عن هذه الأشياء حينما كان النصر يبدو محتملاً وقريباً. الآن ما زال محتملاً لكنه ابتعد. لن أكون حاضراً ساعة النصر وهذه خسارة. أما أنت وأندريس؛ فنعم، ستكونان حاضرين، وهذا من حسن الحظ. الآن أعطني يدك. وداعاً يا أورورا…

النقيب: (وهو يبكي بهستيرية) ولقبها بياتريث!

يحل الصمت لمدة طويلة.

بقي بيدرو بعد المجهود الذي قام به مكسور النفس، ربما فقد من جديد الشعور. يميل جسمه إلى جهة، لم يسقط فقط لأن حزام السروال يربطه بالكرسي.

من جهته، النقيب أيضاً، شبيه بالميت لكن تردي وضعه له بطبيعة الحال إشارة أخرى، وهذا يجب أن يظهر للعيان. رأسه بين يديه، وبين الفينة والأخرى يسمع أنينه. بعدها، شيئا فشيئاً، سيبدأ بإصلاح وضعيته، ورغم أن بيدرو يبدو ظاهرياً فاقداً للوعي، يبدأ بالتكلم معه.

النقيب: بيدرو أنت ميت وأنا أيضاً. تتعدد أسباب موتنا طبعاً. جاء موتي بالحيلة، بالكمين. سقطت في المكيدة ولم يعد ممكناً العودة إلى الوراء. لقد وقعت في الفخ. إذا كنت قلت لك سابقاً بأنني لا أستطيع التخلي عن هذا العمل، أنت كنت ستقول لي هذا طبيعي لأنه سيكون بمثابة التخلي عن أسباب الراحة والسيارتين، إلخ. والأمر ليس هكذا. كل هذا سأتركه دون الإحساس بالندم. وإذا لم أتركه فاعلم بأنه بسبب الخوف. فهم يستطيعون أن يفعلوا بي ما يفعلونه، ما نفعله بك. وساعتها ستقول لي بالتأكيد “حسناً، ها أنت ترى بأم عينك يمكنك التحمل”.

أنت نعم تستطيع التحمل؛ لأن لك ما تؤمن وما تتشبث به. أما أنا فلا. لكن ضمن عدم إمكانيتي من خلاصي يبقى لي حل وسط. أنا أعرف أن إنيس والولدين يمكنهم أن يصلوا إلى كرهي في يوم ما إذا علموا بكل ترف تفاصيل ما قمت به وما أقوم به. لكن إن كنت أقوم بكل هذا بالإضافة، دون الحصول على أي شيء، كما حدث في قضيتك إلى غاية الآن، فليس لي مبررات ممكنة.

إن أنت مت دون البوح بلا حتى معلومة واحدة، بالنسبة لي سيكون الفشل الذريع والخزي الكبير. وإذا بالمقابل قلت شيئاً سيكون أيضاً بمثابة تبرير لوجودي. وقسوتي في هذه الحالة لن تكون مجانية؛ لأنها حصلت على الهدف من وجودها. هذا كل ما أطلبه منك، وأتضرع إليك أن تعطيني ليس الأربع أسماء، وإنما اسما واحداً فقط ويمكنك الاختيار: غابرييل أو روساريو أو ماغدلينا أو فيرمين. فقط واحد، الأقل دلالة بالنسبة لك، ذاك الذي تحس بمحبة أقل تجاهه أو حتى الأقل أهمية من بين الأربعة.

لا أعرف إن كنت تفهمني: هنا أنا لا أطلب منك معلومة لإنقاذ النظام وإنما معطى لإنقاذ حياتي أنا، أو بقول أصح لإنقاذ القليل مني. أنا أطلب منك التبرير المتواضع للنجاعة لكي لا أظل أمام إنيس والأولاد مثل سادي عديم النفع، وإنما على الأقل مثل متحرٍّ مقتدر، ومثل محترف يعود بالنفع. بخلاف هذا سأفقد كل شيء. (يتقدم النقيب خطوات نحو بيدرو ويجثو على ركبتيه أمامه) يا بيدرو بقي لنا القليل من الوقت، القليل جداً من الوقت، لي ولك. لكنك ستذهب وأنا سأبقى. يا بيدرو هذا رجاء من رجل محطم. أنت لست عديم الإنسانية، أنت إنسان حساس، أنت قادر على حب الناس والمعاناة والموت عوضاً عنهم. يا بيدرو أنا أترجاك: قل لي اسماً ونسباً، لا شيء غير اسم ونسب. لقد تقلصت إلى هذا الحد كل مطالبي. ربما النصر سيكون لك.

يتحرك بيدرو قليلا. يحاول الاستقامة، لكنه لا يستطيع، يقوم ببذل مجهود آخر وفي الأخير ينتصب.

النقيب: أنا أطلب هذا من رومولو، أتوسل إلى رومولو. أجثو على ركبتي أمام رومولو! رومولو ستقول لي اسماً ونسباً؟ ستقول لي هذا فقط؟

بيدرو: (بصعوبة) لا… أيها النقيب.

النقيب: إذن أنا أطلب هذا من رومولو، أتوسل إلى رومولو. أجثو على ركبتي أمام رومولو! أستغيث ليس بالاسم السري وإنما أستغيث بالإنسان. جاثياً على ركبتي أنا أتوسل إلى بيدرو الحقيقي.

بيدرو: (يفتح عينيه جيداً وهو شبه محتضر) لا… أيها العقيد!

تنير الأضواء وجه بيدرو، بينما يظل النقيب في العتمة جاثياً على ركبتيه.

* ترجمة عن الإسبانية إبراهيم اليعيشي

————————————

===============================

بطل الإحساس بحدوث الأشياء

رجال الإطفاء

لم يكن أُلوغاريو بطلاً للإحساس بحدوث الأشياء فقط، وإنما كان دائماً مفتخراً بقدرته تلك. في بعض المرّات كان يظلُّ منهمكاً في التفكير للحظة، وبعدها كان يقول: “غداً ستمطر”، وكانت تمطر فعلاً في اليوم التالي.

أحياناً أخرى كان يهرش قفاه ويعلن: “يوم الثلاثاء سيفوز الرقم 57″، ويوم الثلاثاء يفوز الرقم 57 فعلاً. كان يتمتّع بين أصدقائه بإعجاب غير محدود. بعضُهم يتذكّر أشهر إجاباته الصائبة.

ذات يوم كانوا يتمشّون معه قبالة الجامعة، وسرعان ما اخترق صوت سيارة رجال الإطفاء الهواء الصباحي. ابتسم أُلوغاريو بطريقة غير محسوسة تقريباً وقال: “من الممكن أن بيتي الآن يحترق”.

استقلّوا سيارة أجرة وكلّفوا السائق بتتبّع سيّارة الإطفاء عن قرب. عندما انعطفت سيّارة رجال الإطفاء صوب ريبيرا، قال ألوغاريو: “من المؤكد أن بيتي يحترق الآن”. التزم الأصدقاء الصمت، صمت وقور ولطيف؛ فقد كانوا معجبين به كثيراً.

” وماركس، من علّمه؟ أجاب السجين: لستُ متأكّداً، أظنّ أنه هيغل”

أخذ رجال الإطفاء طريق ريبيرا، وعندها وصلت العصبية إلى درجة قصوى. وحينما انعطفوا إلى الشارع الذي يسكن فيه ألوغاريو، تجمّد الأصدقاء وهم ينتظرون.

في الأخير، توقّفت سيارة رجال الإطفاء قبالة بيت ألوغاريو الغارق في اللهب، وبدأ الرجال سريعاً، وبرباطة جأش، عمليات الإطفاء. من حين إلى آخر كانت تطير في الهواء بعض الشظايا من نوافذ الطابق العلوي. نزل ألوغاريو من سيارة الأجرة بكل رصانة.

فكّ عقدة ربطة العنق، وبعدها بمظهر الفائز المتواضع، استعدّ لتلقّي التهنئات وعناق أفضل أصدقائه.

—————————————-

روتين

في سنة 1974، كانت تنفجر في بوينس آيريس عشر قنابل أو اثنتا عشرة قنبلة كل ليلة. كانت تنفجر يوميّاً بالرغم من اختلاف دلالات كل انفجار. كان الاستيقاظ في الثانية أو الثالثة فجراً على سماع دوي سلسلة من القنابل تقريباً عادةً. حتى الأطفال تعوّدوا على ذلك الروتين.

بدأ أحد أصدقائي من بوينس آيريس يعي هذا التكيّف منذ الليلة التي سمع فيها دويّ انفجار كبير بجوار بيته، ساعتها استيقظ ابنه الذي لا يبلغ الخمس سنوات بالكاد.

ما الذي جرى؟ ـ سأل الطفل ـ حمل صديقي ابنه بين ذراعيه، داعبه لكي يهدأ، لكن وفقاً للأسس التربوية التي كان ينهج، قال له الحقيقة: “إنه انفجار قنبلة”.

رائع! ـ قال الطفل ـ ظننته هزيم الرعد.

—————————————-

هذا

أُخضع السجين ثلاث مرّات في الأسبوع للاستنطاق للتحقّق من هوية “من علّمه هذا”. كان يردّ دائماً بصمت وقور، وعندها كان الملازم يضع آلة التعذيب الشنيعة المعروفة بالمنخس في خصيتيه.

ذات يوم، قرّر السجين الإجابة بعد وحي فجائي نزل عليه: “ماركس. نعم الآن أتذكّر، كان ماركس”. سأل الملازم والدهشة بادية على محياه، لكنه بقي متيقّظاً: آه! وماركس هذا، من علّمه؟

أضاف السجين وقد أصبح في وضعية لتقديم التنازلات: “لستُ متأكّداً، لكن أظنّ أنه كان هيغل”. ابتسم الملازم وهو راضٍ، أما السجين فقد فكّر: “ليت العجوز لا زال في ألمانيا”.

* mario benedetti شاعر وقاص وروائي وكاتب مسرحي أوروغواياني (1920 – 2009) عرفه قرّاء العربية بشكل خاص من خلال روايته “الهدنة”.

** ترجمة عن الإسبانية إبراهيم اليعيشي

============================

حبٌّ مسائيّ

محزنٌ أنَّكِ لستِ معي

حين أنظر للساعة وتكون الرابعة

أوقف جدولي وأفكر لعشر دقائق

أمدِّد رجليّ كما أفعل كل مساء

وأُرخي أكتافي لأريح ظهري

أضم أصابعي ثم أُخرِج منها الأكاذيب.

محزنٌ أنك لست معي

حينما أنظر إلى السَّاعة وتكون الخامسة

وأنا المقبض الذي يحسب الفوائد

أو اليدان اللتان تقفزان على أربعين مفتاحاً

أو أُذنٌ تسمع عواءَ الهاتف

أو رجلٌ يصنع الأرقام ويخرج منها حقائق.

محزنٌ أنك لست معي

حينما أنظر إلى الساعة وتكون السادسة

كان يمكنك الاقتراب مني ومفاجأتي

بسؤال “كيف حالك؟”

وكنا لنبقى

أنا باللطخة الحمراء من فمك

وأنتِ بالقضيب الأزرق المتفحِّم.

====================

سجين رأى في منامه أنه سجين

ذلك السجين، رأى في منامه أنه سجين. ببعض الفوارق طبعاً، باختلافات. على سبيل المثال، في جدار الحلم، كان يوجد ملصق لمدينة باريس، في الجدار الحقيقي كانت توجد بقعة رطوبة فقط. في أرضية الحلم، كانت تركض سحلية، في الأرضية الحقيقية كان يرى جرذاً.

السجين رأى في منامه أنه سجين. كان أحدهم يدلك ظهره وأحس أنه أصبح بحال أفضل. لم يستطع رؤية ذلك الشخص، لكنه كان متيقّناً بأنها أمّه، فهي كانت خبيرة في تلك المسائل. تدخل من النافذة الكبيرة الواسعة أشعة الشمس الصباحية، وهو كان يستقبلها كأنها إشارات للحرية. عندما فتح عينيه، لم يكن هناك شمس. كانت النافذة الصغيرة المغلقة بقضبان الحديد تقيس ثلاثة أشبار عرضاً وشبرين طولاً وتطل على دهليز وجدار آخر من الظل.

السجين رأى في منامه أنه سجين. رأى أنه كان عطشاً وشرب ماء غزيراً مثلجاً. والماء كان ينهمر من عينيه فوراً على شكل دموع. كان يعرف سبب بكائه، لكنه لم يبح بسرّه لأحد ولا حتى مع نفسه.

رأى يديه غير النافعتين، اللتين كانتا في السابق تصنعان تماثيل وأوجهاً من الجبس وأرجلاً وأجساداً ملتصقة ونساء من المرمر. عندما استيقظ، كانت عيناه جافّتين ويداه متسختين والمفاصل صدئة والنبض متسارع وقصبة الرئة دون هواء، والسقف يقطر ماء. حينها، قرر السجين أن من الأفضل أن يرى في منامه أنه سجين. أغلق عينيه ورأى نفسه حاملاً صورة لميلاغروس بين يديه. لكن لم يرضَ بالصورة فقط. كان يريد ميلاغروس شحماً ولحماً، وظهرت هي بابتسامة عريضة وقميص نوم سماوي اللون.

اقتربَت منه ليزيل عنها قميص النوم، لم يكن ينقص شيئاً، أزال قميص نومها. كان عري ميلاغروس بطبيعة الحال عجيباً، وهو طاف جسدها بكل ذاكرته وبكل استمتاع. لم يكن يريد الاستيقاظ، لكنه استيقظ لحظات قبل النعوظ المنامي والافتراضي. ولم يكن هناك شيء. لا صورة ولا ميلاغروس ولا قميص النوم السماوي اللون. اعترف أن العزلة لا تحتمل.

السجين رأى في منامه أنه سجين. أمه توقفت عن تدليكه بسبب أشياء كثيرة، من بينها أنها فارقت الحياة قبل سنوات خلت. اجتاحه الحنين إلى نظرتها وغنائها وحضنها ولمستها الحنونة وعتابها وغفرانها. حضن نفسه، لكن هذا لم ينفع.

كانت ميلاغروس تودّعه من بعيد. وبدا له أنها تودعه من المقبرة. لكن لم يكن كذلك، وإنما كانت تودعه من حديقة. لكن في الحقيقة لم تكن توجد حديقة؛ فرغم وجوده وسط الحلم، عرف أنه كان مجرد حلم. مد ذراعه أيضاً لتوديعها، لكن يده كانت عبارة عن قبضة يد فقط. وكما يعلم الجميع، قبضات اليد المشدودة لم تتعلّم قول الوداع بعد

عندما فتح عينيه، أرسل إليه الفراش اللعين برداً وقحاً. حاول، وهو يرتعش ويتنمل، تسخين يديه بنَفَسِه. لكنه لم يستطع التنفّس. هناك في الركن، كان الجرذ يستمر في التحديق إليه وهو متجمد مثله تماماً. حرّك يده وقدم للجرذ رجلاً. كانا صديقين قديمين.

أحياناً، كان يرمي له قطعة من أكله الحقير والشنيع. الجرذ كان شاكراً له. ورغم هذا، فقد اشتاق السجين إلى الخضراء، إلى السحلية الرشيقة التي تظهر في أحلامه، فنام لاسترجاعها.

ووجد في حلمه أن السحلية فقدت ذيلها. حلمٌ مثل هذا لم يعد له قيمة الآن في المنام. ومع ذلك، بدأ بحساب السنوات المتبقية له مستعيناً بأصابعه. واحد اثنان ثلاثة أربعة واستفاق. في المجموع كانت ست سنوات، ومضت ثلاث سنوات منها. عاد إلى حسابها من جديد، لكن هذه المرة بأصابعه وهي مستيقظة.

لم يكن معه لا جهاز راديو ولا ساعة ولا كتب ولا قلم ولا دفتر. أحياناً، كان يغني بصوت منخفض ليملأ مؤقتاً وقت فراغه. لكنه كل مرة كان يتذكّر أغاني أقل. عندما كان طفلاً، كان يحفظ بعض التراتيل التي علمتها له جدته. لكن الآن لمن سيصلي؟ كان يحس بأن الرب خذله، لكنه لم يكن يريد أن يخذل الرب.

السجين رأى في منامه أنه سجين وأن الرب جاء وباح له أنه يحس بالتعب، وأنه يعاني من الأرق وهذا يتعبه كثيراً. أحس السجين بالشفقة على هذا الرب المنعزل. وعندما استيقظ، وتذكّر أنه كان ملحداً، انتهت شفقته تجاه ذلك الرب، وأكثر من هذا أحس بالشفقة على نفسه لأنه محبوس ومنعزل وقابع في الأوساخ والضجر.

وبعد نوم وسهر ومرور الأيام، جاءه يوماً الحراس وهزّه أحدهم بدون الفظاظة المعتادة، وطلب منه حارس أن يقف لأنهم منحوه الحرية. اقتنع السجين بأنه لا يحلم فقط عندما أحس ببرد الفراش اللعين، وتيقّن من الوجود الأبدي للجرذ. سلم عليه بحسرة، وبعدها ذهب مع الحارس كي يمنحوه الملابس وبعض المال والساعة والقلم وحافظة النقود الجلدية؛ أي القليل الذي أخذوه منه عند سجنه.

 لم يكن أحد في انتظاره في الخارج. بدأ بالمشي. مشى زهاء اليومين وكان ينام على قارعة الطريق أو بين الأشجار. أكل في إحدى حانات الضاحية شطيرتين وشرب كأس جعة تعرّف فيها على مذاق قديم.

عندما وصل أخيراً إلى بيت أخته، كادت أن يغمى عليها من شدة المفاجأة. بقي في حضنها عشر دقائق تقريباً. بعد البكاء بلحظات، سألته أخته عن المشاريع التي يفكّر أن يفعل – رد عليها – حالياً عليّ أن أغتسل وأن أنام، أنا بصراحة محطم.

بعد الحمام، صحبته أخته إلى غاية العلية حيث كان يوجد سرير. ليس فراشاً لعيناً ووسخاً، وإنما سرير نظيف ورطب ومحترم. نام أكثر من اثنتي عشرة ساعة دفعة واحدة. ومن عجائب الصدف، أنه خلال هذه الاستراحة الطويلة، رأى السجين السابق في منامه أنه سجين ورأى في المنام السحلية وكل شيء.

* mario benedetti شاعر وقاص وروائي وكاتب مسرحي أوروغواياني (1920 – 2009) عرفه قرّاء العربية بشكل خاص من خلال روايته “الهدنة”.

** ترجمة عن الإسبانية إبراهيم اليعيشي

=====================

كلمة عظيمة

الحرية كلمة عظيمة. مثلاً، عندما تنتهي الحصص الدراسية يُقال إن الواحدة منّا حرّة طليقة. كلّما طالت مدّة هذه الحرية، بإمكان الواحدة منّا التجوّل واللعب، وليس عليها أن تدرس. يُقال عن دولة ما إنها حرّة عندما يكون بمقدور أي شخص – رجلاً كان أو امرأة – القيام بما يحلو له. لكن حتى في الدول الحرّة، هناك أشياء ممنوعة كلّياً؛ مثل القتل على سبيل المثال. ومع ذلك، نعم يمكن قتل البعوض والصراصير وأيضاً الأبقار للشواء.

مثلاً، السرقة ممنوعة، لكن بالرغم من ذلك ليس بالأمر الخطير إن احتفظت واحدة منّا بباقي النقود بعد شراء ما كلّفتني به غراثييلا، التي هي أمي، من مستلزمات للبيت. على سبيل المثال، الوصول المتأخّر إلى المدرسة ممنوع رغم أنه في هذه الحالة يجب كتابة رسالة أو أفضّل القول يجب أن تكتب غراثييلا الرسالة لتبرير سبب التأخّر. وهكذا تقول المعلّمة: تأخّر مبرّر.

الحرية لها معان كثيرة. مثلاً، إذا كانت الواحدة منّا خارج السجن، يُقال عنها إنها حرّة. لكن أبي سجين، ومع ذلك يقولون إنه في حرية، لأن السجن حيث يقبع منذ سنوات طويلة يُسمّى هكذا.

عمّي رولاندو يقول عن هذا الأمر: يا له من تهكّم. في يوم حكيتُ لصديقتي أنخيليكا أن السجن حيث يقبع أبي يُسمّى حرية، وأن العم رولاندو كان قد قال عن الأمر إنه تهكّم، ساعتها أعجبت صديقتي أنخيليكا الكلمة كثيراً إلى درجة أنها أسمت الجرو الذي أهداها إياه عرّابها باسم تهكم. أبي سجين، ليس لأنه قتل أو سرق أو وصل متأخّراً إلى المدرسة. غراثييلا تقول إنه في حرية، أي إنه سجين، بسبب أفكاره.

يبدو أن أبي كان مشهوراً بأفكاره. أحياناً، أنا أيضاً تتكوّن لدي أفكار، لكنني إلى غاية الآن غير مشهورة. لهذا فأنا لست في حرية، أي لست سجينة.

إن حصل وأصبحتُ سجينة يوماً، ما أريده هو أن تكون دميتَيّ توتي ومونيكا سجينتين سياسيتين أيضاً. فأنا أحب أن أنام وفي حضني على الأقل دميتي توتي، مونيكا ليس كثيراً لأنها كثيرة الهمهمة. لكنني لا أضربها قط، خصوصاً لأكون قدوة حسنة لغراثييلا. هي لم تضربني إلا مرّات قليلة فقط، لكنها عندما تضرب، أكون بحاجة إلى الكثير من الحرية. عندما تضربني أو تصرخ في وجهي أقول لها: هي. إنها لا تحب أن أناديها هكذا.

من الواضح أنني أكون غاضبة جداً عندما أصل حد مناداتها بـ هي. إذا جاء جدّي مثلاً وسألني أين توجد أمي وأجبته: هي في المطبخ. الكل يعرف تلقائياً أنني غاضبة جداً. إن لم أكن كذلك، أقول إن غراثييلا في المطبخ فقط. جدّي دائماً يقول إنني الأكثر عصبية من بين كل أفراد العائلة، وهذا أمر يجعلني في غاية السعادة. غراثييلا أيضاً لا تحب أن أناديها غراثييلا، ولكنني أناديها هكذا لأنني أجد اسمها جميلاً. فقط عندما أحبها كثيراً، عندما أعشقها وأقبّلها وأحضنها بشدة وهي تقول لي: آه يا صغيرتي لا تعصريني هكذا، ساعتها نعم أقول لها أمّي أو ماما وغراثييلا تتأثّر وتصبح حنونة للغاية وتداعب خصلات شعري، وهذا الأمر لم يكن ليكون بهذه الطريقة ولا بهذه الطيبة لو أنني قلت أمي أو ماما في كل ساعة وحين، ولأي سبب كان.

إذن، الحرية كلمة عظيمة. بالنسبة إلى غراثييلا، أن يكون شخص ما سجيناً سياسياً مثل أبي ليس وصمة عار إطلاقاً. بل يكاد يكون فخراً. لماذا يكاد يكون؟ هو فخر أو وصمة عار.

 أتحب أن أقول لها مثلاً إن هذا الأمر يكاد يكون وصمة عار؟ في الواقع، أنا فخورة جدّاً بأبي لأنه كان يحمل أفكاراً كثيرة، كثيرة جداً، ولهذا رموه في غياهب السجن. أظن أن أبي حالياً لا يزال يحمل أفكاراً، أفكاراً عظيمة. لكن من المؤكّد تقريباً أنه لا يقولها لأحد، لأنه إن قالها، حين سيخرج من حرية ليعيش في حرية، يمكنهم أن يعيدوه مرّة أخرى إلى حرية. أترون كم هي عظيمة هذه الكلمة؟

* mario benedetti شاعر وقاص وروائي وكاتب مسرحي أوروغواياني (1920 – 2009) عرفه قرّاء العربية بشكل خاص من خلال روايته “الهدنة”.

ترجمة عن الإسبانية إبراهيم اليعيشي

===========================

خمسة أحلام

في المجموع، رأيت في منامي إدموندو بيلمونتي خمس مرات. بيلمونتي رجل أربعينيّ نحيف وتعبير وجهه خبيث، ممقوت في كل مكان وموضوع إجباري في كل محادثة على طاولات الموظفين أو الصحافيين.

في أول حلم، كان بيلمونتي يتجادل مطولاً وبشراسة معي. لا أتذكر جيداً موضوع حديثنا، لكن نعم أتذكر أنه كان يكرّر على مسامعي كأنه يقرع على الطبل. “أنت شخص جريء، تبتكر جنحاً لاتهام الآخرين” وأحياناً كان يضيف: “أنت تتهمني مع أنك تعلم علم اليقين أن كل هذا كذب” أنا كنت أظهر له الوثائق التي تورطه وهو كان ينتزعها من يدي ويمزقها. وفي وسط هذا الخراب بالذات استيقظت.

في الحلم الثاني، كان يخاطبني بحميمية أكبر ويبتسم بسخرية. تهكمه كان مبنياً على بعض الشيب المبكر الذي ظهر في شعر رأسي. في الأخير، الدعابة انتهت بقهقهة نهائية مسموعة، والتي بطبيعة الحال أيقظتني من نومي.

في الحلم الثالث كنت أقرأ شيئاً للكاتب الإيطالي سيفيفو وأنا جالس على مقعد في ساحة كاغانشا، هو كان يقترب مني، إلى أن أخذ مكاناً بجانبي وبدأ يحكي لي الدوافع المعقدة التي جعلته يجرح إلى حد الموت سنة 1995 أحد معلقي كرة القدم.

من المنطقي أنني رحت أسأله كيف أنه يعيش مسروراً إلى هذا الحد رغم ما فعله، وكيف أنه يمشي في الأرض كأنه سيّد الكون، ساعتها كان يعود إلى الابتسام بسخرية: “أتريد أن أحكي لك السر؟ لكنني استيقظت بعد هذا السؤال مباشرة.

في الحلم الرابع كان يحكي لي بترف التفاصيل أكبر حب عرفته حياته المضطربة، وهو حبّه لمومس متألقة تعمل في شارع بيريو، والتي بعد خمس سنوات من علاقة إيروتيكية مدهشة جمعته بها لم يكن في وسعه عمل شيء آخر غير خنقها لأنها كانت تخونه مع رجل ألباني عديم الشأن.

أصررت من جديد على سؤالي المعتاد (وكيف أنه يمشي حراً طليقاً). “تجارة المخدرات يا عزيزي، تجارة المخدرات” كانت دهشتي قوية جداً إلى درجة أنني استيقظت وأنا ما أزال مفزوعاً.

أخيراً، في حلمي الخامس والأخير ظهر بيلمونتي الفريد من نوعه في مكتبي. كان سلوكه عنيفاً جداً إلى حد اللامعقول، لم أستطع معه أن أوقف أسناني عن الاصطكاك.

– لماذا وشيت بي أيها التافه؟ -كانت هذه الجملة مقدمته الصاخبة- أنت تحسب نفسك محترماً وعزيز النفس أليس كذلك؟ طالما حذرتك أن اللعب معنا لا ينفع. وأنت أيها الغبي أردت اللعب. لهذا لا تتفاجأ ممّا هو قادم.

فتح بيلمونتي فجأة حاملة الأوراق وأخرج منها مسدساً براقاً. اعتدلت في جلستي مفزوعاً حقاً، لكن قبل أن أتلعثم أو أن أسأل شيئاً، أطلق عليّ بيلمونتي عيارين ناريين. واحد أصابني في الرأس والآخر في الصدر. الغريب هو أنني على عكس المألوف لم أستيقظ من هذا الحلم الأخير بعد.

*ترجمة عن الإسبانية: إبراهيم اليعيشي

============================

ما الذي يضحكك معالي الوزير؟

في صورة واضحة

على صفحةٍ في الجريدة

معالي وزير المستحيلات

رأيتُ وجهك البسيط مفعماً بالسرور

منتعشاً أشدّ انتعاش

وضاحكاً للغاية

سأكون فضولياً

معالي الوزير

ما الذي يضحكك؟

من نافذتك

يظهر شاطئ البحر

لكنّ أحياء الصفيح لا تُرى

لأولادك عيونٌ آمرةٌ

بينما لآخرين نظراتٌ حزينة

هنا في الشارع

تحدث أشياء

لا يمكن حتى ذكرها

الطلبة والعمال

يضعون النقاط

على الحروف

لهذا أقول، معالي الوزير،

ما الذي يضحكك؟

حضرتك تعرف

أكثر من أيّ شخص

القانونَ المرّ

في هذه البلدان

أنتم قُساةٌ مع شعبنا

لكن لماذا في منتهى الخنوع

مع آخرين؟

كيف تخونون إرث البلاد

بينما الأميركيّ

يقبض منّا الأضعاف المضاعفة؟

كيف تخونون

حضرتُك والآخرون المتملّقون والهرِمون؟

لهذا أقول

معالي الوزير

ما الذي يضحكك؟

هنا في الشارع

حَرسُك يقتلون والقتلى أُناسٌ بسطاء

والذين ينجون

يبكون حنقاً

يفكّرون دون شكّ في الانتقام

هناك في الزنزانة

رجالك يعذِّبون الناس

وهذا لا يُجدي،

بعد كلّ ذلك

حضرتُك ستكون السارية

الأكبر في سفينةٍ

تغرق

سأكون فضولياً

معالي الوزير

ما الذي يضحكك

ما الذي يضحكك؟

** ترجمة عن الإسبانية إبراهيم اليعيشي

=======================

بعد طلب الصفح من باشو.. مقدمة “ركن الهايكو

أنا قارئ للهايكو منذ مدة طويلة، لكني أعترف بأنني مدين إلى خوليو كورتثار أوَّل من فتنني بشكله الشعري، الذي كان عنوان الكتابِ الذي نُشر بعد رحيله ويحمل اسم “عدا شمس الغروب” مأخوذاً من هايكو شهير لِماتسوو باشو (1644-1694):

“هذه الطريق

لا أحد يجوبُها الآن

عدا شمس الغروب”

وسنوات بعد ذلك، علمتُ أن الترجمة كانت لأوكتافيو باث (بتعاون مع إِيكِيشِي هَايَاشِيَا).

يعود أصل الهايكو، في صورته المقطعية الصارمة، 5-5-7، إلى القرن السادس عشر، ويربطُهُ بعض المتبحرين شكلياً بالكَتاوُتا، وهي قصيدة موجزة تتأرجح بين صورة 5-7-5 و5-7-7؛ وبعضهم يَشْتَقُّونَهُ من الْهَايْكَاي الذي كان يُبْدَعُ وسط الجموع، وكانت أبياته تصل إلى المائة. وتدريجياً شَرَعَ شَكْلُ 17 مقطعاً يستقرُّ على التركيبة الصارمة لِـ 5-7-5، التي تُحدث -دون أدنى شكٍّ- أثراً شعرياً بالغ الوقع.

ومع ذلك، فلقد وُجِدَتْ، حسبما يبدو، أشكالٌ رائدة للهايكو: شوكا، وتانكا، وسيدوكا، وعلى الخصوص رِينْغَا، الأغنية المتوالية، ثمرةُ شعراء مختلفين، تلك التي أدخلتِ العنصرَ الاحتفاليَّ في الأدب الياباني؛ في كل هذه الأشكال تبدو الأبياتُ ذات المقاطع الخماسية والسباعية في تناسق متباين، وكذلك شُرِع في تثبيت مفهوم الفصل الطبيعي. ويستحق الجهد توضيح أن القافية تكاد لا تُستعمل في هذا الوعاء الغنائي الخاص جداً؛ وفي مقابل ذلك فقد استُعمِلت كثيراً وبما فيه الكفاية في الترجمات.

وأنصح على الخصوص، ضمن هذا الاستعراض التاريخي، بمراجعة الدراسة الجيدة والموثقة التي أنجزها فرناندو رودريغيث إثكييردو بعنوان “الهايكو الياباني.. تاريخ وترجمة”. وكي لا نخرج عن المساهمين فيه بالقشتالية، فإن هنالك دراسات متنوعة وترجمات لريكاردو دي لافوينتي ويوتاكو كاواموتو (1992)، وأنطونيو كابيثاس (1997)، وكذلك بعض الترجمات الرفيعة، التي تكون دوماً، على وجه التقريب، مزدوجةَ اللسان، وهي لشعراء الهايكو مثل ماتسوو باشو ويوسا بوسون وإيسا كوباياشي وماساوُكا شيكي.

وفي أميركا اللاتينية، تُعتبر الدراسة الأكثر جدِّية واطلاعاً تلك التي أنجزتها الباحثة غلوريا ثِيِدي-إيشِّيفيرِيَّا بعنوان “الهايكو في الشعر الغنائي المكسيكي” (1967) المرتكزة على أطروحة دكتوراه بالعنوان ذاته، قُدِّمت في جامعة إِييِّنْواس سنة 1965.

” حظي الهايكو بمترجمين طيّبين لكن لم يحظ بمبدعين أصلاء”

إن المعلِّم الأكبر ومبدع الهايكو هو، من دون أدنى شك، ماتسوو باشو، الذي أفردَهُ باث، بتعاون مع أيْكيشي هاياشييَا، دراستَه المتميِّزة “ماتسوو باشو.. دروب أوكو” (1970). ومع ذلك، ومثلما يشير جيداً فرناندو رودريغيث إثكييردو فإنَّ “باشو لا يمثل قطْعاً جذرياً مع الماضي الأدبي. إن تكوينه الجمالي والثقافي كان عميقاً جداً، وبفضله تمكَّن من أن يتمثل روحَ الثقافة اليابانية. ويعترف هو نفسه، أنه مدينٌ في الهايكو لمدرسة دانتين. لقد عمل باشو على إنعاش الهايكو، لكنْ من دون الاستغناء عن النزعات التي كانتْ قد أُقحِمتْ في مسيره التطوُّري”.

وجاءت بعد باشو لائحةٌ طويلة من أسماء مؤلِّفي أشعار الهايكو مثل أونيتسور (1660-1738)، وضمنهم امرأة هي شييُّو (1701-1775)، وتنيغوتشي بوسون (1716-1783)، وإيسا كوباياتشي (1762-1826). وفي القرن التاسع عشر ظهر ماساوكا شيكي، الذي أدخلَ، بعد كثير من الشعراء المتديِّنين، حضورَه باعتباره غنوصياً.

ويُعد شيكي أقرب إلى بوسون منه إلى باشو، وإنْ كان قد توفي وعمره لم يتجاوز 35 سنة فقط، فهو واحد من أبرع شعراء الهايكو الكلاسيكي. وفي القرن العشرين، ظهرت نزعةٌ جديدة؛ “شينكايْرو”، جعلت الشعراء اليابانيين الجُدد يبتعدون عن الهايكو الكلاسيكي وصرامته التقليدية.

ومنذ بدايات القرن العشرين، شرع الهايكو يبسط تأثيره على شعراء الغرب، خصوصاً على الشاعر الفرنسي بول لويس كوشو والإنكليزي ب.هـ. شامبرلين، وكذلك على بعض الإسبان. ولم يكن من المألوف العثور في الشعر الغنائي الغربي (خصوصاً البرناسي والانطباعي) على الاستنساخ الأمين للنموذج الشهير 5-7-5، ولا حتى في الترجمات. ففي إسبانيا، وكما أبرز ريكاردو دي لافوينطي، ظهرتْ آثار (آثار فحسب) للهايكو لدى الأخوين ماتشادو، وخوان رامون خيمينث، وغيِّين، وغارثيا لوركا، وعلى الخصوص عند خوان خوسي دومينشينا، مؤلِّف هايكو تقليديٍّ جداً مثل قوله: “طائرٌ ميِّت/ أيُّ احتضار للريش/ في الصمت!”.

وفي أميركا اللاتينية، كان الشاعر الأقرب إلى الهايكو بلا ريب هو خوسي خوان تابلادا. ومع ذلك، ومثلما تشير ثِيِدي-إيشيفيرِيَّا، “لم يحاول الحفاظ على المقاطع 17 التي للهايكاي [أو الهايكو] الياباني؛ فقط في ثلاث قصائد من قصائد ذات نهار… يقترب من المقاطع 17 التقليدية، وإنْ كان دون التوزيع التقليدي للأبيات الثلاثة التي من 5-7 و5 مقاطع”. من جهة أخرى، فإن تابْلادا يلجأ دوماً إلى القافية، وهي وسيلة عادة ما يتحاشاها الشعراء اليابانيون.

وكيفما كان الأمرُ، فإن العمل الذي قام به تابلادا بإدخال الهايكو إلى الشعر المكسيكي كان له تأثير في كثير من شعراء ذلك البلد. ويكفي أن نشير إلى رفائيل لوثانو وإلى آخرين من شعراء ما بعد الحداثة؛ مثل خوسي غوروستيخا، وخايمي ترِّيس بوديت، وخابيير بيَّاوروتيا، وكارلوس بيِّيثِر، وإلياس ناندينو وآخرين “معاصرين”. وكذلك، وأساساً، في أوكتافيو باث، وفي شرائح متأخِّرة جداً، مثل خوان بورَّاس سانشيث وكارلوس غايتان. وتقتضي الإشارة إلى أن تأثير الهايكو في كل هذه الأسماء تقريباً كان بالأحرى غير مباشر.

” بعد طلب الصفح من باشو أعتبر الهايكو وعاءً خاصاً بي”

والغريب، أن إشبيليَّاً هو خوسي ماريا غونثالث دي ميندوثا، الذي اعتُبر مكسيكياً لأنه عاش طويلاً في المكسيك، وأحدَ المعجبين الكبار بِتابْلَادا، هو واحد من القلائل الذين كانوا أوفياء للبنية التقليدية 5-7-5، كما هو الحال في هذا الهايكو: “النبرة الحمراء/ لشفتيْك تناديني/ حيث أحترق”، أو في هذا الآخر: “حياتي خرساء/ لا عشيقة ولا صداقات…/ آه أجل! القمر”.

في ما يخصُّني، لم أزر اليابان ولا عرفتُ لغته، ولا أنا خبير في تاريخ الهايكو وتطوّره. حقيقة، قرأتُ أشعارَ الهايكو جيداً واستمتعتُ بها في ترجمات جيدة، العديدَ من أشعار الهايكو في نماذجها التقليدية، التي أسَرَتني دوماً. ويقتضي التوضيح، أني لمجرِّد تقديمي ضمن هذا المؤلَّف أزيد من عشرين ومائتي قصيدة هايكو من حصيلتي الخاصة، لا أعتبر نفسي “هَايْخِين” (هكذا يُسمَّى في اليابانية من يكتب الهايكو) من ريُّو دِي لابْلَاتا.

ببساطة، الهايكو التقليدي، كشكل من الشعر الغنائي، تمثَّلتُه دوماً باعتباره تحدِّياً، في بنيته الثابتة مثلما في اقتضابه المفروض الذي يصيِّره أكثر اقتصاداً، على سبيل المثال، من السوناتة، التي لربَّما كانت في الشعرية الإسبانية البنيةَ الأكثر صرامة. بـ17 مقطعا فقط، وبتوزيع غير متغيِّر (5-7-5)، يشكل الهايكو في حد ذاته وحدةً، قصيدةً في حدِّها الأدنى ومع ذلك فهي كاملة. هنا تكمن رؤيتُها الآنية، وشرطُها الوَمضِيِّ، وأحياناً لمحتها الفكاهية أو الساخرة. لقد خلَّف باشو للاحقين هذا التعريف الغريب: “الهايكو هو ببساطة ما يحْدُث في هذا المكان، في هذه اللحظة”.

وكذلك يُمثِّل جزءاً من هذا التحدي أن الهايكو إذا كان قد عثر في أميركا اللاتينية على مترجمين طيِّبين بل جيِّدين، فإنه في المقابل لم يَحْظَ فيها بمبدعين أُصلاء. فباستثناء المشار إليه تابْلادا، فإن الآخرين الذي تجرَّؤُوا على هذا النموذج قاموا بعمل خجول ومُشَتَّت، بل إن تلك المحاولات حدثت تقريباً بشكل حصري في المكسيك وما يجاورها. وتابلادا نفسُه، لم يحصر نفسه، على وجه التقريب، في النموذج التقليدي، وإن كان يلزم الاعتراف بأن أفضل إنجازاته حقَّقها حين لم ينسلخ عن 5-7-5، مثلاً: “قِطع طين/ عَبْر دروب شبه ظِّل/ تنط العلاجم”. وفي البيرو، هنالك الحالة المتفرِّدة لأرطورو كُورْكْوِيرا، الذي نشر في مرَّات عديدة “نوح الهاذي”، من دون أن يُلحق به أيَّ قصيدة هايكو بالمعنى الصريح، ومع ذلك فهو يُفصح عن تأثُّر مُتمثِّل جداً، يقودُه إلى كتاب أصلي وومْضِيٍّ.

في ريُّو دي لابلاتا، وفي أميركا الجنوبية عموماً، كان الهايكو يكادُ يكون مجهولاً باعتباره قراءة (لا يلزم أن ننسى الأرجنتيني كازويا ساكاي، الذي مع ذلك نشر في المكسيك كتابه “اليابان: نحو أدب جديد” (1968) وبالطبع باعتباره نوْعاً يُطْرَق).

حالٌ متفرِّدة هو خورخي لويس بورخيس، الذي كان مطَّلعاً جيداً على الشعر الياباني. ففي 1972، كان قد أدرج ست قصائد طانكا في ديوان “ذهب النمور”، لكنه في ديوان “شِفرة” (1981)، الكتاب الذي أهداه إلى ماريا كوداما، هناك حيث أدرج 17 قصيدة هايكو أصلية، وليس ترجمات (الغريب أن رقم 17 يتناسب مع العدد الإلزامي لمقاطع الهايكو التقليدي). جميعهم التزموا البنية الثابتة الموروثة عن باشو (5-7-5). وضروري التنبيه إلى أنه في هذه القصائد ذات الحد الأدنى المتأخرة زمنياً توجد نماذج من مستوى رفيع. وبخلاف تابلادا، فإن بورخيس حين يختار الهايكو، لا يحيد ولو مرَّة واحدة عن المعيار التقليدي.

وفي ما يخُصُّني، واضح أنني لم أنصرف إلى تقليد شعراء يابانيين، ولا حتى إلى إدراج صُوَرهم ومواضيعهم المفضلة. بالكاد كانت لي الجرأة على التوغل في هذه النماذج الشعرية الغنائية، لكنْ ليس بالاستعانة بالمبتذل الياباني الجاهز، وإنما بقلقي أثناء ذهابه وإيابه، ومناظري الطبيعية، وأحاسيسي، التي هي بعد كل شيء لا تختلف كثيراً عما في باقي أعمالي الشعرية.

أن أُغلِق في 17 مقطعا (وإضافة إلى ذلك بانشطارات مسبقة) على إحساس، أو شك، أو رأي، أو شعور، أو مَنْظر، أو حتى مُلحة موجزة، غدا بالنسبة إلي نوعاً من اللعب. لكن المرء بعد ذلك يشرع في التقاط الإمكانيات الجديدة في البنية العتيقة. هكذا بدأت الصعوبة الشكلية تتحوّل إلى إغراء، والاقتضاب شكلاً للتوليف مثيراً.

الآن، وبعد طلب الصفح من باشو، وبوسون، وإيسا وشيكي، أعتبر الهايكو وعاءً خاصاً بي، وإن كان مضموني- كما لا يخفى- لاتينوأميركياً. وفي حالتي، لا يتعلق الأمر بترجمات، تلك التي كثيراً ما تستدعي أصباغاً وتنويعات شكلية لا تظهر في النموذج التقليدي، لقد رغِبْتُ لقصائدي من الهايكو ألَّا تحيد كيفما كانت الحال عن شرط 5-7-5. هذا الوفاء البنيوي هو، بعد كل شيء، الشيء الوحيد ذو الطابع الياباني في هذا العمل المتواضع اللاتينوأميركي.

(ميناء بويِّنْسا، ميُّورقة-مدريد، 1999)

■ ■ ■

إنْ كانت الشمسُ

عند الغروب ذكرى

فأنا الآن لا أذكُرُ

■ ■ ■

شتاءٌ شتاءٌ

يروقني الشتاءُ

إنْ كان فيه دفءٌ

■ ■ ■

جوائز ما بعد الرَّحيل

تُمْنَحُ بتقزُّزٍ

وبعض أسفٍ

■ ■ ■

والفائز

لا تهتزُّ منه شعرةٌ واحدة

هنالك في رَمْسِهِ

■ ■ ■

الديانات

لا تنقذ/ إنها مجرَّد

عائق

■ ■ ■

تَمُرُّ الصواريخُ

تُخْمَةُ الهمجية

المعَوْلَمة

■ ■ ■

وبعد كلِّ شيء

الموت محض علامة

على أن حياة كانتْ

■ ■ ■

الأوراق اليابسة

شبيهة بوصية

شجرة الكَسْتَنَة

■ ■ ■

أسوأ ما في الصدى

أنه يقول

الفظاعاتِ عيْنَها

■ ■ ■

موتُنا

لا يَحْسُنُ نسيانُه

ولا تذكُّرُه

■ ■ ■

المشاعرُ

بريئةٌ

كالأسلحةِ البيضاءِ

■ ■ ■

ستتذَكَّرُ الفراشةُ

إلى الأبد

أنها كانت دودة

■ ■ ■

قليلةٌ هي الأشياءُ

الأكثرُ صعقاً

مثل الصمتِ

■ ■ ■

إنها أيادٍ خرقاءُ

لعازف بيانو أو حدَّادٍ

تلك التي لا تتكلم

■ ■ ■

البشر يمقتون

يتبجحون يحلمون

لكنّ الطيور تحلِّق

■ ■ ■

السارقان

نظرا إلى المسيحِ

وتبادلا النَّظر

■ ■ ■

كل منتحِرٍ

يعلم أين تَكْبِسُ عليهِ

الريبةُ

■ ■ ■

اسمعيني اسمعي

أيتها الفتاة العابرة

قَبِّلي روحي

■ ■ ■

لا حبورَ يكون

أبهى غبطةً من طلعة

الفَرَحِ

■ ■ ■

الأشباحُ

إنْ لم تَخْتَفِ

فَخُذْ حذرَكَ

■ ■ ■

يروقني

أن أرى كلَّ شيء من بعيد

لكن معكِ

■ ■ ■

لستُ أعرفُ اسمكِ

أعرفُ النظرةَ

التي تَنْطَقِينَه بها فقط

■ ■ ■

وبعد كل شيء فعارضة

الأزياءِ لا تدري

أنها مومسٌ

■ ■ ■

كلُّ استزراعٍ للشَّعَر

يُدْمِجُ خُصَلات

لمالكٍ وَلَّى

■ ■ ■

الأرواحُ الحزينةُ

الأرواح التي يجرفها الشيطانُ

كلُّها أرواحٌ

■ ■ ■

كلُّ ناحيةٍ

لها مُتَعَصِّبُوهَا

الذين تستحِقُّهم

■ ■ ■

الماشون

فوق أنهار النبيذ

يَطْفُونَ أحياناً

■ ■ ■

يمكنُ أن أموت

لكني لا أقبلُ أن تموتَ

الإنسانيةُ

■ ■ ■

حينما الكربُ

يصدرُ عن السذاجةِ

يمكنُ أن يغدوَ حُلْوًا

■ ■ ■

هَبِينِي ملاذاً

بقدْرِ كلِّ الحنان

الذي أوليتكِ

■ ■ ■

حينما تضحكين

تصحبُكِ عينايَ

بعَبَراتٍ

خلالَ النومِ

يكون العشاقُ أوفياء

مثل حيوانات

■ ■ ■

في كلِّ حكايةٍ

يكون الصّفحُ والضغينةُ

مَحَطَّتَيْنِ

■ ■ ■

أيها العجوزُ المُحنَّكُ

ما عُدتُ أريدُ أنْ أعيشَ

رُعْباً آخرَ

■ ■ ■

إن تنادِيكِ يدايَ

في غمرةِ الليلِ

يحضرني نهداكِ

■ ■ ■

المنفِيُّ

غداً يتَكّيَّفُ مع ملل

الحنينِ

■ ■ ■

السنونوةُ

العائدة إلى ماضيها

لم تعثرْ على العُشِّ

■ ■ ■

الصَّدَفَةُ

تُخلّف في مسمعي

نداءاتٍ قديمةً

■ ■ ■

في حال وجود

أنبياءٍ فليُخْرسوا

نُبُوءَتَهُمْ.

■ ■ ■

لا أريد أن أراكِ

بقيَّةَ العامِ

أي حتى الثلاثاء

*يُعَدُّ Mario Benedetti من أبرز كُتَّاب أميركا اللاتينية انتشاراً. ولد في باسو دي لوس توروس في أوروغواي (1920-2009)، اشتغل لمدة تاجراً ومحاسباً وموظفاً عمومياً وصِحافياً، ثم انتقل إلى بوينوس آيريس بالأرجنتين، حيث استقر ما بين 1938-1941، ليعود إلى مونتيفيديو عاصمة الأوروغواي سنة 1945 كي يشتغل ضمن فريق هيئة تحرير المجلة الأسبوعية “لامارشا” إلى غاية 1973، السنة التي غادر فيها وطنه لأسباب سياسية، كي يستقر في إسبانيا، منفاه الاختياري الذي لم يبرحه سوى قبل وفاته بقليل. لماريو بِنِدِيتِي مجموعة من الدواوين الشعرية، كما أصدر مجاميع قصصية أشهرها “المونتيفيديون” التي أظْهرته كاتباً متميزاً، وهو ما أكدته روايته ” الهدنة” التي أدخلته المشهد الإبداعي العالمي، ذلك أنها طُبعت مئات المرات، كما ترجمت إلى أزيد من عشرين لغة، من بينها العربية، وأُخْرِجت سينمائياً ومسرحياً وتلفزياً وإذاعياً. حصد بنيديتي خلال مسيرته الإبداعية العديدَ من الجوائز أهمَّها “جائزة الملكة صوفيا للشعر الإيبروأمريكي” عقِبَ إصداره في نوفمبر 1999 مجموعته ” ركن الهايكو” الذي نقدِّمُ هنا ترجمةَ توطئته إلى العربية وبعضَ الهايكوات.

** الترجمة عن الإسبانية مزوار الإدريسي

=====================

عندما كنا أطفالا

عِنْدمَا كُنّا أَطْفَالا

كانَ كِبارُ السِّنِّ فِي الثّلَاثِينَات مِنَ الْعُمْر

كَانَت البُرَيْكَةُ مُحِيطًا

وَلَم يَكُن ثَمّةَ شَيءٌ اسْمُه الموت.

وَعِندَما كُنّا شَبابًا

كانَ كِبارُ السِّنِّ فِي الْأَرْبَعينَات مِنَ الْعُمْر

كانَت الْبِرْكَةُ مُحِيطًا

وَكَانَ الْمَوْتُ مُجَرّدَ كلمة.

عِنْدَمَا تَزَوّجْنا

كانَ كِبارُ السِّنِّ فِي الْخَمْسينَات مِنَ الْعُمْر

كانَت الْبُحَيْرَةُ مُحِيطًا

وَكانَ الْمَوْتُ مَوْت الآخرين.

الْآنَ وَقَدْ أَصْبَحْنَا مُحَارِبِينَ قُدَامَى

تَوَصّلْنَا إِلَى حَقِيقةِ

أن الْمُحِيطَ فِي نِهايَةِ الْأَمْرِ هُوَ الْمُحِيط

وَلَكِنّ الْموْتَ بَدَأَ يُصْبِحُ مَوْتَنَا.

————————-

كم تجهلين أني في حاجة إلى صوتك

كم تَجهلين أنِّي في حاجةٍ إلى صوتِكِ

أنِّي في حَاجةٍ لنظراتِكِ في حاجةٍ لكلماتِكِ التي تَملأني

أنا في حاجةٍ شديدة لسلامكِ الدَّاخلي

أنا في حاجةٍ لضوءِ شفاهكِ

لا أستطيع أن أستأنف مَسيري

لا أستطيع

فكري يعجز عن التَّفكير

لا يستطيع أن يفكّر في غيركِ

أنا في حاجةٍ لوردةِ يديكِ هذا الشغف لكلِّ الأفعال

مع هذه العدالة التي تلهمينني بها

من أجل كلِّ ما سيُشكِّل شوكتي

ينبوع حياتي أصابه النُّضوب

مع قوةِ النسيان

أنا الآن أحترق

وما أريده قد وجدته مسبقاً

ورغم ذلك، أفتقدكِ.

———————————

قلبي درعي

لأنني أمسك بكِ لكني لا أملككِ

لأني أفكر فيك

لأن الليل بعيون مفتوحة

لأن الليل يمر وأنا أقول حبي

لأنك جئت لاستعادة صورتك

وأنك الأفضل من كل صورك

لأنك جميلة من القدمين حتى الروح

لأنك لطيفة من الروح إلى أنا

لأنك تختبئين بسلام داخل الكبرياء

صغيرة وحلوة

ياقلبي، يا درعي

لأنك ملكي

لأنك لست لي

لأنني أنظر إليك وأموت

وهو أسوء من الموت

إذا لم أنظر إليك ياحبيبتي

إذا لم أنظر إليك

———————————–

عيون جافة

البكاء الأشد حزناً

هو بكاء العيون الجافة

الذي يبكى بذاكرة أو بدونها

بالحلق، بالجمجمة

أو بآلات الحصاد.

من قبل كنت أبكي الحروب المجنونة

بأساطيرها من الدماء والجسارة

كنت أبكي المنظر الطبيعي الجريح من الارتجافات

كنت أبكي المتعبين من النظر للسماء.

لكن العيون جفت،

حكيمة جفت ومستيقظة،

شريدة لا تعرف إلى أين تنظر

ولا إلى أي شيء تتطلع

إنها عيون مبهورة، رمادية.

لكن البكاء الجاف هو السور

الذي ترتطم به كل الازدراءات

ويحيا المرء باحثاً عن نفسه

—————————————-

تمثال

خلف كل تمثال ثمةَ كائن حيّ

صاحب أسلحة أو أغصان

رغم ذلك هناك قانون سحري

وهو أنه قبل أن يكون مرمراً

أو حجراً أو برونزاً

يجب أن يكون ميتاً دون أدنى شك

أن يكون تمثالاً في الفراغ لهو أمر قاسٍ جداً.

وتمر شاحنات وحافلات

ودرّاجات نارية وقطارات

ولا أحد يكلف نفسه عناء السؤال

من هو فلان بالغ القِدَم هذا؟

مرة تأتي سنونوة

ببزقتين ضروريتين

أو دوريّان يبللهما الضباب

وينقران الأذنين الصلبتين لذلك السيد

الذي لا يعطيهما فُتات الخبز.

التمثال المسكين يراكم أمطاراً

————————–

أنتظرك

أنتظرك حتى يغدو الليل نهارًا،

بتنهيدات آمال ضائعة.

لا أظن أنك ستأتين،

أعرف ذلك، أعرف أنك لن تأتي أبدًا.

أعرف أن المسافات جارحة،

أعرف أن الليالي باردة جدًا،

أعرف أنك لستِ هنا.

أظن أني أعرف كل شيء عنك.

أعرف أن النهار سريعًا ما يغدو ليلًا،

أعرف أنك تحلمين بغرامي،

غير أنك لا تقولين،

أعرف أني أحمق لأني أنتظر،

وأعرف أنك لن تأتي أبدًا.

أنتظرك حين ليلًا ننظر للسماء،

أنتِ هناك،

وأنا هنا،

بحنين لتلك الأيام حيث

خلّفت القبلة طريقًا للوداع،

ربما لبقية حياتنا.

مأساًة أن أتحدث هكذا.

وحين يغدو النهار ليلًا،

وحين يخفي القمرُ الشمسَ الملتهبة،

أشعر بالوحدة، أعرف،

أبدًا لن أعرف في حياتي

مثلما أعرف الآن أني وحيد جدًا،

وأنك لستِ هنا.

لهذا الشعور أعتذر لك،

أبدًا لم تكن نيتي إهانة.

أبدًا لم أحلم بعشقك،

ولا أن أشعر بك هكذا.

هوائي ينتهي مثل ماء في صحراء،

وحياتي تفنى حين لا تهجرين داخلي.

ما من أمل لي إلا أنتِ،

وأنا لست هناك…

ولماذا لست هناك؟

ستسألين…

لماذا لم أركب هذا الباص الذي يوصّلني إليكِ؟

لأن عالمي هنا لا يسمح لي بالحياة هناك،

لأن كل الليالي تعاقبني كلما فكرت فيكِ.

ولماذا لا أنساكِ مرة واحدة؟

لماذا لا أعيش مرة واحدة؟

لماذا مرة واحدة…؟

———————————-

لا تبتعد

لا تبق جامداً

على حافة الطريق

لا تجمد الفرح

لا تعشق على مضض

لا تبتعد الآن

أو أبداً

لا تبتعد

لا تمتليء بالسكينة

لا تنظر إلى العالم

كركنٍ بسيط

وهاديء.

————————————–

لا تستسلم

لا تستسلم

مازال الوقت باكراً

للوصول والعودة من جديد

لتتقبل ظلالك

————————————-

=====================

الأم الآن

    منذ اثني عشر عاما

    عندما اضطررت للذهاب

    تركت والدتي من نافذتها

    أبحث في الطريق

    الآن أستعيدها

    فقط مع فرق قصب

    مرت اثني عشر عاما

    قبل نافذته بعض الأشياء

    المسيرات والغارات

    هروب الطلاب

    الحشود

    القبضات المسعورة

    والغاز من الدموع

    الاستفزازات

    طلقات بعيدا

    الاحتفالات الرسمية

    أعلام سرية

    على قيد الحياة تعافى

    بعد اثنتي عشرة سنة

    أمي لا تزال على نافذتها

    أبحث في الطريق

    أو ربما لا ينظر إليها

    فقط قم بمراجعة الدواخل الخاصة بك

    لا أعرف ما إذا كان من زاوية العين أم لا

    حتى دون أن يرمش

    صفحات بني داكن من الهواجس

    مع زوج أمه الذي صنعه

    تصويب الأظافر والأظافر

    أو مع جدتي الفرنسية

    الذي يقطر التعاويذ

    أو مع أخيه المنفصل

    الذي لم يرغب في العمل

    الكثير من الالتفافات التي أتخيلها

    عندما كانت مديرة في متجر

    عندما صنع ملابس الاطفال

    وبعض الأرانب الملونة

    الذي امتدحه الجميع

    أخي المريض أو أنا مصاب بالتيفوس

    والدي الطيب المهزوم

    لثلاثة أو أربعة أكاذيب

    لكنها تبتسم ومشرقة

    عندما كان المصدر جنوكتشي

    تتحقق من دواخلها

    سبعة وثمانين سنة من الرمادي

    استمر في التفكير مشتت الانتباه

    وبعض لهجة الرقة

    لقد انزلق بعيدًا مثل الخيط

    أنت لا تقابل إبرتك

    كأنه يريد أن يفهمها

    عندما أراها كما كانت من قبل

    إضاعة الطريق

    ولكن في هذه المرحلة ماذا بعد

    أستطيع أن أفعل ذلك يروق لها

    بقصص حقيقية أو مخترعة

    اشتري له جهاز تلفزيون جديد

    أو أعطه عصاه.

======================

الأنا الأخرى

ترجمة: يوسف امساهل

***

كان فتى عاديا: تتآكل سروايله من جهة الرُّكب، يقرأ الحكايات المصورة و يصدر الضوضاء عندما يأكل ويضع أصابعه في أنفه ويشخر أتناء القيلولة. اسمه أرماندو كوريينتي، كان عاديا في كل شيء ما عدا في شيء واحد: كانت لديه أناً أخرى.

كانت الأنا الأخرى تُظهر في نظراته شيئاً من الشاعرية، فقد كان يقع في حب الممثلات و يكذب بحذر وتتحرك مشاعره عند مغيب الشمس.

كانت الأنا الأخرى تشغل بال الفتى وتشعره بعدم الارتياح أمام أصدقائه. من ناحية أخرى، كانت الأنا الأخرى كئيبة ولهذا  فقد عجز أرماندو عن التصرف بفظاظة كما كان يتمنى.

ذات مساء عاد أرماندو متعباً من العمل، خلع نعليه و حرك أصابع رجليه ببطء وشغل المذياع.  كان موتسارت على الراديو لكن الفتى استسلم للنوم.عندما استيقظ، كانت الأنا الأخرى تبكي بحرقة. في أول وهلة، لم يكن الصبي يعرف ماذا يفعل ، لكنه استجمع قواه بعد ذلك وأمطر الأنا الأخرى بوابل من الشتائم. لم تنبس الأنا الأخرى ببنت شفة لكنها انتحرت صباح اليوم الموالي.

في البداية، كانت وفاة الأنا الأخرى بمثابة صدمة قوية لأرماندو المسكين، لكنه سرعان ما فكر أنه ربما صار بإمكانه أن يصبح فظاً بشكل كلي. هذا الاعتقاد أحيى آماله وقوى عزيمته.

لم يدم على حداده سوى خمسة أيام، حينما نزل للشارع ليتباهى بفظاظته الجديدة والمتكاملة. من بعيد أبصر أصدقائه وهم يقتربون، فغمره ذلك بالسعادة، لينفجر على الفور ضاحكاً.

وبالرغم من ذلك، فهم لم ينتبهوا لوجوده حينما مروا بجانبه. والأدهى من ذلك، أنه سمعهم يقولون: “مسكين يا أرماندو. يظن أنه يبدو قويا ومعافى”.

لم يجد الفتى بُدّاً من التوقف عن الضحك، وفي نفس الوقت شعر باختناق بمحاذاة عظمة القصّ شبيه بالشوق والحنين إلى الماضي. لكنه لم يستطع أن يشعر بالكآبة الحقيقية لأن الأنا الأخرى سبق وأن سلبت منه الكآبة كلها.

***

……………….

===========================

بطاقة

Mario Benedetti شاعر وروائي ومسرحي وناقد أدبي من الأوروغواي (1920 – 2009)، لديه أكثر من خمسين عملاً، أدبيّاً معظمها مترجم إلى لغات أجنبية. نُفي عن بلده لأسباب سياسية. له العديد من الكتب والروايات، أشهرها “الهدنة” (1960)، و”ربيع العمر المكسور” (1982). وفي الشعر: “يوميّات” (1979)، و”جغرافيا” (1984)، و”العالم الذي أتنفّسه” (2000)، و”الحبّ، النساء والحياة” (1995).

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى