مراجعات الكتب

“رسائل إلى مُعذّبي”.. قراءة سجنية على ضوء سقوط الأسد/ أنس الأسعد

10 ديسمبر 2024

لم تكن لحظة إطاحة حُكم الشاه في إيران عام 1979 سوى نقطة البداية لنشوء نظام جديد صار مع الزمن أشدّ بطشاً ضدّ محكوميه، وفوقها ذا نزعات توسّعية إقليمية، راح يستكمل مسيرة تشييد السجون والاستبداد بدل تحقيق الخلاص. نستذكر تلك اللحظة الإيرانية، ونحن نشهد اليوم أياماً سورية عظيمة، يسقط فيها ديكتاتور سورية الهزيل، الوكيل الفاشل لذلك النظام، ويفرّ من دمشق إلى موسكو، في سيناريو مُنحَطٍّ بدرجات كثيرة عن “صِنوه” الفارّ محمد رضا بهلوي شاه إيران السابق.

هرب بشار ذليلاً غير مأسوف عليه؛ وفي الطريق لترتيب وإعلان ذلك، كانت قيود السوريين تتحطّم، وتتفتّت جدران السجون أمامهم حتى وصلوا إلى “باستيل” سورية، سجن صيدنايا المُرعِب، فخرج من أحشاء أعتى قلاع النظام الأمني آلاف المعتقلين في مشهدٍ لا يُمكن لإنسانٍ أن يُمسك دموعه أمامه.

وعلى ضوء ما سبق، نقف في هذه السطور عند مذكّرات الصحافي والمترجم والناقد السينمائي، العضو السابق في حزب “تودِه” الشيوعي، هوشنغ أسدي (1950)، والتي صدرت الترجمة العربية منها حديثاً، تحت عنوان “رسائل إلى مُعذِّبي: الحبّ، الثورة، والسجن في إيران” (2010)، عن “مركز المحروسة” بتوقيع المترجم ماجد عاطف.

يبدو العمل نموذجاً عن أدب السجون، من حيث اللغة الصحافية السريعة، والانقلابات التراجيدية التي يحرص الكاتب المَنفي إلى باريس منذ عام 2003 على إيرادها بين المشهد والآخر، وكذلك التداعيات الحُرّة التي يتطلّبها “أدب الرسائل” الممزوج بالسيرة الذاتية على غرار تذكُّر الأُمّ وملاعب الطفولة والحبيبة الأولى. كلُّ ما سبق لمساتٌ نموذجية حاضرة.

ولو ذهبنا أبعد في التحليل الخطابي بين المُرسِل (الضحيّة) والمُرسَل إليه (الجلّاد)، أي “الأخ حميد” (سيُصبح سفيراً لإيران لاحقاً)، لأَمكننا التحدُّث أيضاً عن ملامح قوية لـ”أدب الصدمة”، وهذه مُشترَكَات تجد صداها في نماذج سورية من أدب السجون، والأمثلة هنا كثيرة: “القوقعة” لمصطفى خليفة (تقف شابّة سورية في ساحة سعد الله الجابري بحلب، وترفع الكتاب بيد ورواية “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” لخالد خليفة بأُخرى، صورة أيقونية عن حلب التي نُريد)، و”ماذا وراء هذه الجدران” لـ راتب شعبو، و”بالخلاص يا شباب” لياسين الحاج صالح، و”نيغاتيف: من ذاكرة المعتقلات السياسيات (رواية توثيقية)” لروزا ياسين حسن، و”إلى ابنتي” لهنادي زحلوط، و”خمس دقائق وحسب: تسع سنوات في سجون سورية” لهبة دباغ، و”الرحيل إلى المجهول” لآرام كرابيت، و”كمن يشهد موته” لمحمد ديبو، و”خيانات اللغة والصمت” لفرج بيرقدار، و”أجنحة في زنزانة” لمفيد نجم.

لكن ما يُميّز تجربة أسدي الاعتقالية (1983 ـ 1989) أنّ شيئاً من الشواش انتاب صاحبها الذي لم يعرف في بداية الأمر من هو جلّاده، فالشاه كان قد سقط قبل ثلاثة أعوام، فمَن الذي تولّى إدارة الاعتقال بعده؟ وهنا نستعيد تجربةً مشابهة، إلى حدّ ما، مرّ بها السياسي السوري البعثي حديثة مراد (1929 – 2018) وثّقها في كتابه “تجربتان، سلطة واعتقال: كي لا يضيع جيل آخر” الذي يروي فيه انتقاله من السلطة إلى الاعتقال مباشرة، من دون المرور بنشاط مُعارِض، إذ أطاح انقلابُ البعثي حافظ الأسد 1970 رفاقَه ومنهم الجناح البعثي (صلاح جديد) الذي حُسِب مراد عليه. طبعاً لم يكن أسدي بالسُّلطة مباشرة، لكنّ تقارُباً بين اليسار والخمينيّين حينها كان قائماً.

“مشترك” اسم السجن الأبرز في مذكّرات أسدي، حيث قضى فيه أشنع لحظات العذاب، لكن أهمية الكتاب، رغم لغته الصحافية غير المؤطّرة وتداعياته السريعة في كثير من الزوايا، تأتي من كون صاحبه خاض تجارب سجنية سابقة أيضاً، ففي الفصل الرابع يتحدّث الكاتب عن لقائه حين كان عمره 24 عاماً، بعلي خامنئي في السجن زمن الشاه، الذي كان في السادسة والثلاثين من عمره قبل أن يصبح مرشداً للثورة الإسلامية، حيث قضى الرجلان قرابة أربعة أشهر في زنزانة واحدة يتبادلان آراء متناقضة في السياسة وأيّ وجه لإيران يريد كلٌّ منهما، وأُخرى متقاربة نوعاً ما في تذوّق الأدب الفارسي القديم، مع فارق أن خامنئي كان في ذلك الحين مدخّناً شرهاً، وفقاً لأسدي، وعند هذا الحدّ نَعي تماماً مدى التقارب السياسي الذي أشرنا إليه والذي يقود إلى مثل هذه “الشَّرَاكات النضالية”، إن جاز التعبير.

سجون أُخرى تُطالعنا أسماؤها في مذكّرات أسدي مثل “إيفين” و”قزل حصار” و”رجائي شهر”، وكلّها رغم فظاعتها، تبدو حين نقارنها بالمسالخ البشرية التي بناها حافظ وبشار، مجرّد أماكن احتجاز بظروف قاسية، لا قلاع تبتلع البشر وتطحن عظامهم كما هو الحال مع “سجن تدمر” (دمّره تنظيم داعش عام 2015، وطمَس معالم جريمة بعثية كان يجب أن تعرفها أجيال سورية في المستقبل، كي لا يضيع جيلٌ آخر)، أو “سجن صيدنايا” (أكتب هذه الكلمات الآن، وما زالت بعض الأخبار تتناقل عن إمكانية وجود معتقلين في السجن المُرعب، بالبلدة التي تقع على بعد 30 كم شمالي دمشق، وأنّ أحداً لا يستطيع اختراق الجدران أو فكّ تشفير البوّابات)، فضلاً عن سجون أُخرى تابعة لأفرع أَمنية لا تكاد تخلو منها مدينة سورية.

نبقى مع إسقاط الأبد السوري الذي يُشكّل بحقّ فاتحة لعهد جديد يجب أن يكون مرتكِزاً على حياة الإنسان وقيمتها، بعيداً عن قذارة المصالح الإقليمية والشعارات التي دمّرت حيواتنا – نحن السوريّين – لعقود. مشهدٌ آخر يُضيف إلى الكتاب الذي بين أيدينا راهنية، فضلاً عن انحِساب الجلّادَين على محور سياسي واحد وعلاقة تبعيّة نظمت رؤيتهما الاحتقارية لشعبَيهما المحكومَين السوري والإيراني، وفي هذا المشهد يتحدّث معتقل سوري مُحرَّر عن أنّ اسمه وآخرين كان موجوداً على لائحة الإعدامات اليومية التي تُجرى في سجن صيدنايا، ولو تأخّر خلاص المعتقلين يوماً أو بضع يوم كان يُمكن أن يُنفّذ الحُكم بحقّهم، وهذا مشابه لما حدث مع نائب رئيس تحرير صحيفة “كيهان”، قبل أن يُطاح الشاه، إذ صدر قرار العفو بحقّه ورفاقه بشكل فجائي بعد مذبحة في “سجن إيفين”، والتي شملت إعدام أكثر من 4500 معتقل، ولم ينجُ سوى 500 كان هو واحداً منهم. والمجازر السجنية هذه لها أسبقيات، إن لم نقل أساساً أول، على يد الأخوين رفعت وحافظ الأسد، وما ارتكباه بمجزرة سجن تدمر عام 1980.

ومن خلال هذين المثالَين، حيث يرى السجين الحياة في اللحظة الأخيرة تماماً، أي وهو يُساق إلى الإعدام، يُمكننا أن نتساءل: أيّ وظيفة يشغلها الجلّاد داخل منظومة “تفاهة الشرّ”؟ لو استعرنا من حنا أرندت عنوان كتابها الشهير. فلنتصوّر مثلاً لو أن تأخيراً أعاق الوصول إلى “سجن صيدنايا”، من غير المستبعد أن يُنفّذ الجلّادون أحكامهم اليومية ثم تسير الأمور بشكل مُعتاد، يَطحن “الموظّفون” الجثامين بالمكابس، ثم يسقط السجن بعد ثلاث أو أربع ساعات، وبعدها تُعلن البلاد حُرّة بفرار التافه الأكبر منها، في منظومة الشرّ هذه الجميعُ سجينُ دوره داخل وخارج السجن.

بكلمة أخيرة، تتقاطع مصائر كُتّاب أدب السجون السوري المنفيّين مع مصير الكاتب الإيراني هوشنغ أسدي، كلّهم اليوم يعيشون في المنافي بعد تجارب مريعة تشلّ الألسنة، وهنا يجبُ القول: إنْ كان من شيء يجب أن يُحصِّن سوريّة والسوريّين، أو “يُطمئنهم”، وفقاً للمصطلح السائد في أيام الخلاص والقلوب الخضراء هذه، هو ألّا تُقام مؤسسة سجنية يكون فيها “الكرسي الألماني” (من أشهر أدوات تعذيب في السجون السورية) أهمّ من أجسادنا وحيواتنا مرّة أُخرى، أن تجعلنا صُور تدمر وصيدنايا الفظيعة نشعر بالعار من الماضي الأسدي، وأن تُؤلّف هذه الذاكرة المؤلمة دراسات سجنية مقروءة بحثياً وأرشيفياً في جامعات وطنية، وألّا تُنسى أو تُكنَس… حتى لا يضيع جيلٌ آخر.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى