سوق الأفكار المضلِّلة: هل يتسوّق الناس لشراء الحقيقة؟/ دان ويليامز
23 يناير 2025
ترجمة: سارة حبيب
هل بوسع مواطني الديمقراطيات الليبرالية الحديثة – المجتمعات الديمقراطية التي تحفّز مجالًا عامًا مزدهرًا غير مقيد برقابة وتحكم بالمعلومات يمارسها الأعلى على الأدنى- أن يشكّلوا آراء سياسية دقيقة ومطلّعة؟ في منشوري الأخير، استكشفتُ أربعة أسباب تدعو إلى التشاؤم في هذا الخصوص: التعقيد، تعذر الرؤية، الجهل العقلاني، والإدراك ذو الدافع السياسي. أما في هذا المنشور فسأبتعد عن التحيزات والتقييدات على المستوى الفردي وأركّز على الظروف الاجتماعية الأوسع التي تهيكل وسائل الإعلام والمجال العام ضمن المجتمعات المفتوحة (المجتمعات الديمقراطية التي تشجّع تبادل الأفكار الحر والمفتوح).
تقول واحدة من الأفكار الرائجة إن “الحقيقة” سوف تنبثق من سوق أفكار حر ومفتوح. وعلى الرغم من كون هذا التفاؤل مغريًا في بعض النواحي، فهو ساذج.
ذكرتُ بعض المشاكل التي يواجهها في المنشور الأخير.
على سبيل المثال، بخلاف معظم الخدمات والسلع الاستهلاكية، من غير الواضح كيف يمكن للمواطنين العاديين أن يقيّموا على نحو موثوق الأفكارَ المتداولة ضمن المجال العام. فاكتشاف الحقيقة حول المسائل السياسية المعقدة يمثّل تحديًا كبيرًا. إذا كان الناس يبيعون اللاحقائق – أفكار مبسّطة، لا أساس لها، أو غير دقيقة- فكيف يمكن للمواطنين العاديين أن يعرفوا؟
من غير الواضح أيضًا ما الذي سيدفع معظم المواطنين لاكتساب معلومات سياسية، ناهيك عن الانخراط في نقاش سياسي يستغرق الكثير من الوقت، في نظام – ديمقراطي- ليس للناخبين الأفراد فيه أي رأي تقريبًا في القرارات الجماعية.
في هذا المنشور، سأستكشف مسألة أخرى، مسألة كتبتُ عنها في مكان آخر، في بحث أكاديمي منشور وفي هذه المدونة: من الناحية العملية، غالبًا ما يعمل “سوق الأفكار” ضمن الديمقراطيات الليبرالية كسوق تسويغات؛ اقتصاد معلوماتي يتنافس فيه الخبراء، الصحافيون، المفكرون، والمنابر الإعلامية لإنتاج تبريرات للمزاعم، السرديات، والقرارات التي حظيت بقبول قبائل سياسية وثقافية مختلفة في المجتمع. لكن بدايةً من المفيد النظر في نقد مختلف للغاية – وأكثر تأثيرًا- للافتراضات المتفائلة التي ترتبط بمفهوم سوق الأفكار.
سردية المعلومات الخاطئة
كما أشرتُ مرارًا في مدونتي، أحد الطرق السائدة التي يحاول بواسطتها اليوم الصحافيون، علماء الاجتماع، والسياسيون أن يفهموا المشاكل المعرفية (الإبستمولوجية) في المجتمع تشمل مفهوم “المعلومات الخاطئة” (أو “المعلومات الزائفة” التي تعرَّف غالبًا على أنها “معلومات خاطئة متعمدة”).
وفق هذه السردية – التي سأدعوها “سردية المعلومات الخاطئة”- اختبرتْ الديمقراطيات الغربية مؤخرًا انفجارًا في المعلومات الخاطئة ارتبط بشكل رئيسي بوسائل التواصل الاجتماعي، سياسيّ اليمين الشعبويين، وحملات التأثير الأجنبية (الروسية مثلًا). في النتيجة، أصبح الكثير من المواطنين يتبنون تصورات خاطئة – على سبيل المثال، نظريات مؤامرة، إنكار انتخابي، اعتقادات مناهضة للعلم، وما إلى ذلك- تقودهم إلى اتخاذ قرارات سيئة، مثل التصويت للديماغوجيين، مهاجمة مؤسسات ديمقراطية، ورفض نصائح الصحة العامة.
على الرغم من أن هذه السردية مؤثرة للغاية – وتقريبًا مهيمنة في بعض أجزاء المؤسسات الأكاديمية ووسائل الإعلام- بعض الباحثين المعارضين لها (بمن فيهم أنا) انتقدوها. وتستند سرديتهم المضادة عادة إلى ثلاثة أفكار أساسية.
السردية المضادة
أولًا، بينما تفترض سردية المعلومات الخاطئة أن الناس سذّج ومن السهل إمالتهم بواسطة ما يقرأون أو يرون، تلاحظ السردية المضادة أن الناس “يقظون معرفيًا”؛ إنهم، بالأحرى، أقرب إلى كونهم كثيريّ التعنت من كونهم سريعيّ التصديق. حتى من عمر مبكر، يكون البشر متعلمين اجتماعيين متشككين، يقيّمون معقوليّة الرسائل وموثوقية حاملي الرسائل بطرق معقدة، ونزّاعة إلى الشك غالبًا. لهذا السبب، معظم المحاولات للتلاعب برأي الجماهير تفشل، حتى عندما تكون ممولة ومكثفة بصورة استثنائية.
نظرًا لهذا، يبدو من غير المحتمل أن يغيّر الناس مواقفهم بصورة جذرية وبشكل جماعي بفعل روايات إخبارية كاذبة غريبة ونظريات مؤامرة لا أساس لها تنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي.
ثانيًا، يشير مؤيدو السردية المضادة إلى أن المعلومات الخاطئة نادرة نسبيًا في الديمقراطيات الغربية. بكلمات أخرى، على الأقل إذا كان الباحثون يقصرون تركيزهم على المعلومات الخاطئة الواضحة للغاية مثل الأخبار الكاذبة (بالمعنى الاصطلاحي للروايات الإخبارية المفبركة بشكل كامل)، فإن معظم الناس يصادفون القليل جدًا منها في حميتهم الإعلامية. يعود هذا في جزء منه إلى أن معظم الناس – منطقيًا، نظرًا لقلة تأثير تصويتهم على السياسات- لا يولون الكثير من الاهتمام لـِ”الأحداث الجارية”. لكنْ، يعود ذلك أيضًا إلى أن الناس الذين يولون الاهتمام فعلًا يتابعون بصورة غالبة أخبارَ الاتجاه السائد التي نادرًا ما تنشر أخبارًا كاذبة أو معلومات خاطئة منخفضة الجودة.
أخيرًا، يشير مؤيدو السردية المضادة إلى أن المعلومات الخاطئة غالبًا ما تعظ الجوقة (أي أنها تخاطب من هم سلفًا مقتنعون بها). أي، عكس الصورة الشائعة لمن هم خلافًا لذلك أناس عاديون يصادفون فيديو على تيك توك، يدخلون في دوامة، وينتهون إلى أن يصبحوا مؤمنين بالكيو آنون (QAnon)، تقترح البحوث أن المعلومات الخاطئة تلبي شريحة غير عشوائية من السكان تتسم بسمات معينة مثل نظرة تآمرية جدًا للعالم، قلة ثقة (غالبًا انعدام ثقة نشط) بالمؤسسات، وعداء حزبي عارم (أي، كراهية عميقة للأعداء الأيديولوجيّين).
“عندما ينظر جمهور عام 2515 إلى الوراء نحو جمهور عام 2015، سيكون مستوى ازدرائهم لكيفية انشغالنا بالنقاش السياسي مماثلًا تقريبًا لمستوى الازدراء الذي نشعر به إزاء محاكمات الساحرات في سايلم عام 1692”
بسبب هذا، يبدو من غير المحتمل أن تغيّر المعلومات الخاطئة تصرفات الناس كثيرًا. بالأحرى، ما يحدث على ما يبدو هو أن الناس ذوي النظرة المعينة للعالم والمقاصد المعينة الموجودة مسبقًا يبحثون عن معلومات ملائمة، بما فيها المعلومات الخاطئة. أي، يبدو أن المعلومات الخاطئة تدل على مشاكل مجتمعية أعمق من دافعها خارجي المنشأ.
وفق تعبير ساشا آلتي وزملائه: “تأثير المعلومات الخاطئة على سلوك الناس مبالغ فيه إذ أن المعلومات الخاطئة غالبًا ما ‘تعظ الجوقة‘”.
ذعر أخلاقي؟
نظرًا لهذه الأفكار الثلاثة، غالبًا ما يزعم مؤيدو السردية المضادة أن الإخطارية الحديثة (إثارة المخاوف والتنبيه إلى المخاطر من غير داع) حول المعلومات الخاطئة تصل إلى نوع من “الذعر الأخلاقي”؛ نوع من هستيريا مؤسسة ليبرالية غير مدعومة أبدًا بالأدلة العلمية التي تخص تفشي المعلومات الخاطئة وأضرارها.
من ناحيتي، سبق أن أيّدت نسخة من هذه السردية المضادة. مع ذلك، إنها تواجه اعتراضًا واضحًا: يبدو أنها تقتضي ضمنًا تحليلًا متفائلًا غير معقول لوسائل الإعلام، النقاش السياسي، آراء الخبراء، والتي يتضمن معظمها محتوى وتغطية أحداث تبدو، حسنًا، فظيعة؛ على الأقل نسبة إلى مثال أعلى من التحليل وتبادل المعلومات المدروسين، المتوازنين، الموضوعيين، العقلانيين، والمنصفين.
ووفق قول فيليب تيتلوك الذي فضح بحثه العلمي أنه حتى التعليق الأكثر “خبرة” على الأحداث لا يُعتمد عليه ومفرط في الثقة:
ورغم أنه ربما متفائل أكثر من اللزوم حول المستقبل – أشك في أن الأمور ستكون أفضل بكثير خلال 500 سنة- هذا التقييم القاسي للحاضر يبدو صائبًا. حتى إن كانت المعلومات الخاطئة الواضحة نادرة نسبيًا في البيئة الإعلامية (في الديمقراطيات الغربية، على الأقل)، يبدو مما لا ريب فيه أن المعلومات التي هي إلى حد كبير منخفضة الجودة – متحيزة، انتقائية، منتقاة، غير موثوقة، وما إلى ذلك- واسعة الانتشار.
سردية مضادة للسردية المضادة
إذا توخينا مزيدًا من الدقة، يمكن عرض ما يقلق في السردية المضادة على النحو التالي:
أولًا، حتى إن كانت الأخبار الكاذبة وغيرها من المعلومات الخاطئة ذات الجودة المنخفضة نادرة جدًا وغير ذات تأثير في الديمقراطيات الغربية، يبدو من المفروغ منه أن ثمة كمية هائلة من المحتوى المضلِّل جدًا (على سبيل المثال، محتوى انتقائي، منتقى، متحيز، إلى آخره) في الخطاب السياسي، آراء الخبراء، والتغطية الإعلامية.
ثانيًا، حتى إن لم يكن الناس سهلي الانخداع وكانت المعلومات الخاطئة تعظ الجوقة غالبًا، التيقظ المعرفي ليس سحريًا – باستثناء تجاهل المعلومات كلّها ببساطة، ليس ثمة طريقة لأن يكون المرء محميًا تمامًا من أن يقبل محتوى زائفًا أو مضلِّلًا- وثمة دليل على أن الإخبار الانتقائي، الذي يميل إلى طرف، والمتحيز، يغيّر مواقف الناس وتصرفاتهم.
نظرًا لذلك، ما نحتاج إليه، حسب اعتقادي، هو إطار نظري يمكن أن يوفّق بين أربع أفكار:
1. البشر يقظون معرفيًا.
2. المعلومات الخاطئة الواضحة (مثل الأخبار الكاذبة) نادرة نسبيًا.
3.المعلومات الخاطئة غالبًا ما تعظ الجوقة.
4.المعلومات المضلِّلة أكثر انتشارًا وتأثيرًا بكثير.
حسب رأيي، يقدم مفهوم سوق التسويغات (جعل الأشياء تبدو منطقية) طريقةً هادية لدمج هذه الحقائق.
بدايةً، سأتحدث بالتفصيل عن كيفية فهم مثل ذلك السوق. ومن ثم سوف أشرح لماذا يندر أن تأخذ التسويغات شكلَ معلومات خاطئة واضحة ولماذا يمكن أن تكون مؤثرة حقًا – وضارة- رغم أنها، نوعًا ما، تستجيب لـِ”مطلب الجمهور” فحسب.
سوق التسويغات
يقوم مفهوم سوق التسويغات على أربع أفكار بسيطة.
1. الجدل
أولًا، غالبًا ما يكون الناس – النخب، الناشطون، الحزبيون، الناخبون المتحمسون، وما إلى ذلك- مدفوعين لاتخاذ أو تأييد مزاعم وقرارات مثيرة للجدل. وهذا يشمل:
سياسات وتصرفات أحزابهم السياسية، حركاتهم السياسية، وقادتهم السياسيين المفضلين.
السرديات ذاتية المنفعة والتي تعمل لخدمة حلفها. (يتضمن الكثير من الخطاب السياسي تنويعًا على الثيمة التالية: “أنا وحلفائي عقلانيون، خيّرون، وعادلون، وبالتالي نستحق السلطة، المكانة، والنفوذ؛ منافسونا وأعداؤنا يشكلون تهديدًا غير عقلاني وشرير على المجتمع”).
أيّ معتقدات وأيديولوجيات تكون محدِّدة للهوية لقبائل سياسية وثقافية معينة وتعمل كمصدر ربط بين الناس وإعطائهم مكانة؛
بداهات قوية إنما موسومة بالعار (على سبيل المثال، بداهات تآمرية ومشكِّكة باللقاح).
2. لعبة إعطاء تسويغات والتماس أسباب
ثانيًا، عندما يتخذ البشر، أو يؤيدون، مزاعم أو قرارات – على سبيل المثال، مزاعم أو قرارات متنازع عليها، تؤذي مصالح بشر آخرين، أو تنتهك معايير- فإنهم يكونون مدفوعين بقوة لمشاركة أسباب؛ دلائل أو حجج بوسعهم استخدامها لتبرير أنفسهم أمام الآخرين وكسب دعم اجتماعي. عمومًا، يرتبط معظم الاستدلال البشري – توليد الأسباب وتقييمها- بعمليات اجتماعية كالإقناع، النقاش، وإدارة السمعة. نظرًا لذلك، دوافع تأييد مزاعم أو قرارات مثيرة للجدل تخلق حاجة إلى التسويغات.
في الحياة الاجتماعية العادية، عادة ما تقع مهمة إنتاج التسويغات على عاتق الأفراد الذين يتخذون القرارات ذات الصلة. إذا انتهكتُ معيارًا ما، فإن مهمة محاولة تبرير انتهاكي للمعيار – إقناع الآخرين أن ذلك لم يكن انتهاكًا حقًا، على سبيل المثال، أو أنه كان انتهاكًا لكن الظروف تبرره- تقع عليّ. لكن، في بعض الظروف، يستعين البشر بمصادر خارجية وينقلون مهمة إنتاج التسويغات إلى الآخرين.
تشمل الأمثلة الأكثر شيوعًا مهنًا مثل المحامين، الناطقين الرسميين، فِرق العلاقات العامة. على سبيل المثال، عمل الناطق الرسمي الرئاسي ليس – في آخر المطاف- اكتشاف حقيقة العالم أو نقلها. إنه بالأحرى الوصول إلى نتيجة محددة مسبقة – “تصرفات الرئيس حكيمة، عقلانية، وعادلة”- واختيار المعلومات، صياغتها، وتنظيمها بطرق تفضي إلى تسويغها.
في مقابل جهدهم الإدراكي، يكافأ هؤلاء بسخاء.
3. الحاجة الكبيرة إلى تسويغات
يقودني هذا إلى النقطة الثالثة: تنشأ ظاهرة مشابهة للغاية في وسائل الإعلام وبين الخبراء السياسيين، المعلقين على الأخبار، وأصحاب الرأي المحترفين، وإن يكن بطرق أكثر تصاعدية (من الأدنى للأعلى)، أقل رسمية، وأكثر عرضة لخداع الذات.
عمومًا، عندما يزوّدنا الناس بمعلومات متعلقة بأهدافنا واهتماماتنا، نكافئهم. تمامًا مثلما نكره أولئك الذين ينشرون معلومات خادعة أو غير موثوقة ونستهجنهم، فإننا نحب مصادر المعلومات الجيدة، نعجب بها، ونشعر تجاهها بالامتنان. في الواقع، يعتقد بعضهم أن شكلًا مميزًا من المكانة الاجتماعية في نوعنا البشري – السمعة الاجتماعية- قد تطورَ عبر عملية “يدفع” فيها الناس لمصادر المعلومات الجيدة بمنحهم الإعجاب، التبجيل، والاحترام لقاء الوصول إلى المعلومات التي يقدمونها. سواء أكان هذا صحيحًا أم لا، فإن نظامًا معقدًا من المكافآت والعقوبات الاجتماعية – المعايير، السمعة، الاستحسان/ عدم الاستحسان الاجتماعي، وألعاب المكانة- ينظّم التواصل وتقسيم الجهد الإدراكي في حياة البشر الاجتماعية.
يصح هذا بذات القدر على التسويغات. تمامًا كما أننا ممتنون للمعلومات الموثوقة التي تساعدنا في تحقيق أهدافنا، فإننا نحب، نعجب، ونذعن لأولئك الذين يزودونا بأدلة وحجج يمكن لنا استخدامها لتبرير قراراتنا، حماية سمعتنا، وحشد الدعم الاجتماعي.
بالطبع، في معظم الحالات، تفوق أثمان إنتاج تسويغات للآخرين هذه المكافآت الاجتماعية. لهذا، عادة ما تقع مهمة إنتاج التسويغات على عاتق الأفراد الذين يسعون لتبرير مزاعمهم أو قراراتهم، ما عدا في حالة النخب الذين يتمتعون بما يكفي من السلطة، الثروة، والنفوذ لتعويض الآخرين لقاء تزويدهم بتبريرات مفيدة، ذاتية المنفعة.
لكن، تختلف الأمور للغاية في السياسات الديمقراطية. ففي ذلك السياق، تكون دوافعُ تأييدِ مزاعم وقرارات محددة واسعةَ الانتشار بين أفراد قبائل المجتمع السياسية والثقافية المختلفة. في النتيجة، المكافآت الاجتماعية – المنافع المحتملة- لقاء إنتاج محتوى يسوّغ تلك المزاعم والقرارات تكون أكبر بكثير. نظرًا لهذا، أولئك الذي يصبحون مصادر موثوقة لتقديم ذخيرة فكرية عالية الجودة لجماعات المجتمع السياسية أو الثقافية واسعة النطاق يكون بوسعهم ربح اهتمام هائل، مكانة كبيرة، ومكاسب مالية هائلة.
4. سوق التسويغات
يقودنا هذا إلى الفكرة الرابعة والأخيرة: هذه العملية التي يتنافس فيها الناس – الخبراء، المعلقون، المفكرون، والمنابر الإعلامية، وما إلى ذلك- لربح المكافآت الاجتماعية والمالية من خلال العمل كمحامين وناطقين رسميين فعليين لقبائل مختلفة في المجتمع يمكن فهمها كنوع من السوق. في الواقع، إنها سوق أفكار، عدا أنه بدلًا عن أن تتصرف الجماهير كسعاة نزيهين إلى الحقيقة، فإنهم يتسوقون لشراء تسويغات عالية الجودة للتصرفات، السياسات، والسرديات التي يدعمونها.
بصورة أكثر تحديدًا، تتضمن هذه السوق:
العرض والطلب: منابر إعلامية، مؤثرون، خبراء، مفكرون، وما إلى ذلك، يخلقون معلومات تلبي حاجة الجمهور إلى تسويغات لتصرفات، سياسات، وسرديات محددة، ويقومون بنشرونها.
المنافسة: تمامًا كما تتنافس الشركات بتقديم منتجات أفضل أو تخفيض الأسعار، يتنافس منتجو التسويغات بتقديم دلائل وحجج أكثر إغراء وإقناعًا. وكلما كانت سوق الأفكار أكثر حرية، ازدادت حدّة المنافسة، إذ ينجذب المستهلكون على نحو غريزي نحو المصادر التي تبرّر قراراتهم وسردياتهم المفضلة وتصادق عليها على نحو أفضل.
التخصص: يكرّس منتجو التسويغات وقتهم، طاقتهم، وبراعتهم للمكان الذي يكبسون فيه أفضل المكافآت، ما يولّد تخصصًا إذ يستهدف منتجو التسويغات الحاجةَ التي لم تتم تلبيتها.
وسيلة التبادل: رغم أن المال ينتقل من يد إلى أخرى غالبًا في أسواق التسويغات – خذ مثلًا الدفع لقاء اشتراك بجريدة ما أو بمنصة سبستاك- تشمل وسيلة التبادل الأكثر أساسية مكافآت اجتماعية مثل الاهتمام، المصداقية، والمكانة. (بالطبع، يمكن غالبًا استخدام هذه المكافآت الاجتماعية لكسب المال، على سبيل المثال، من خلال بيع المعلنين حقَّ الوصول لجمهور الشخص).
إيضاحات
كل هذا مجرّدٌ للغاية. المثال الملموس الأبسط عن هذه الديناميكيات هو وسائل الإعلام الحزبية.
عمومًا، يحتاج الحزبيون إلى المعلومات -الأدلة والحجج- التي تسوغ التصرفات، السياسات، والسرديات التي يفضلها حزبهم السياسي. على مستوى الفرد، يحفّز هذا إدراكًا ذا دوافع سياسية. لكنه أيضًا يولّد حاجة واسعة إلى التسويغات الحزبية، إذ “يميل المستهلكون إلى اختيار وسائل الإعلام التي تنسجم تحيّزاتها مع تفضيلاتهم أو معتقداتهم المسبقة”، وبهذا “الميل لاختيار الأخبار بناء على توافق متوقع، يصبح الأقوى بين الحزبيين الأكثر التزامًا سياسيًا”.
رغم أن بعض الناس يصورون هذه الحاجة كرغبة بالحصول على الحقيقة من مصادر موثوقة، تقترح بعض الأبحاث أن الحزبيين لا يلغون حاجتهم إلى محتوى متحيز حتى عندما يعلمون أنه متحيز طالما أنه يدعم جانبهم السياسي.
واستجابة لهذه الحاجة، تتنافس المنابر الإعلامية الحزبية، مثل فوكس نيوز، جي بي نيوز، إم إس إن بي سي، إلى آخره، والخبراء، مثل تاكر كارلسون، راتشيل مادو، لاختيار وخلق وصياغة أدلة وحجج تروق للجماهير الحزبية. بكلمات أخرى، “تختار المنابر الإعلامية المختلفة الحقائق بالفعل، تناقشها، وتقدمها بشكل مختلف، وهم يفعلون ذلك بطرق تميل لأن تحابي بشكل منهجي أحد طرفي الطيف السياسي أو الآخر”.
تعمل هذه الديناميكية في سياقات أخرى عديدة.
على سبيل المثال، الأقليات الهامشية، المتطرفة، والتآمرية غالبًا ما تخلق اقتصاد سمعة اجتماعية يمكن فيه للناس أن يصبحوا صغارَ مشاهير من خلال إنتاج محتوى يلبي السرديات المعرِّفة للهوية.
علاوة على ذلك، الصراع العسكري بجميع أنواعه – خذ مثلًا الصراع العربي/ الإسرائيلي أو الروسي/ الأوكراني- يفضي حتمًا إلى لعبة مكانة مثمرة يمكن فيها للمفكرين، الخبراء، الصحافيين، والمنابر الإعلامية أن يحققوا نجاحات كبيرة من خلال إثبات وتسويغ تفسيرات التاريخ والأحداث الجارية التي تفضّلها الأطراف المتنافسة.
خلاصة القول:
أسواق التسويغات تلبي حاجة قبائل المجتمع الثقافية والسياسية المؤثرة إلى تبريرات لسردياتهم وقراراتهم المفضلة.
هذه الأسواق قابلة للتنبؤ بناء على سمات عامة لسيكولوجيا البشر ونشاطهم الاجتماعي.
إنها تلقي الضوء على أنماط عامة تلاحَظ في وسائل الإعلام، آراء الخبراء، والنقاش السياسي.
التسويغات ليست معلومات خاطئة
على المستوى الأكثر تجريدًا، “التسويغ” هو أي معلومة يمكن أن تبرر مزاعم أو تصرفات محدَّدة مسبقًا.
خذ “الكذبة الكبيرة”، على سبيل المثال. كان ترامب وداعمو ترامب مدفوعين للاعتراض على شرعية الانتخابات الرئاسية عام 2020 وقلبِ نتيجتها. وقد خلق هذا حاجة ماسة إلى التسويغات؛ أدلة وحجج بوسع الترامبيين استخدامها لتبرير هذه السردية المتحيزة ذاتية المنفعة. استجابة لذلك، نشأت بيئة إعلامية مزدهرة، قامت بنشر “أدلة” على وجود تزوير في الانتخابات، شهادة من مصادر موثوقة تشكّك بالانتخابات، وتحليلات إحصائية حاذقة لأنماط تصويت مصمَّمة لإظهار التزوير في الانتخابات.
لهذه الأسباب، تميل التسويغات لأن تكون مضلِّلة. فوظيفتها ليست إخبار الناس بالحقيقة بل تبرير الخلاصات التي تم تفضيلها لأسباب مستقلة عن حقيقتها. نظرًا لهذا، عادة ما يكون تسويغ المعلومات انتقائيًا، ملفقًا، مُقدّمًا، ومنظَّمًا بطرق خادعة.
مع هذا، نادرًا ما يأخذ شكل المعلومات الخاطئة.
في الحقيقة، ليس من الواضح أبدًا ما الذي يُفترض أن يشير إليه تعبير “معلومات خاطئة”. مع هذا، معظم أبحاث المعلومات الخاطئة تركز على المعلومات الخاطئة الواضحة، منخفضة الجودة، مثل الأخبار الكاذبة. ومن ثم تقدّر مدى الانتشار الكلي للمعلومات الخاطئة في البيئة الإعلامية من خلال حساب تعرض الناس للمواقع منخفضة الجودة التي تنشر مثل ذلك المحتوى.
وفق هذا الفهم، يُعتَبر التسويغ والمعلومات الخاطئة مفهومين متمايزين، وعلينا أن نتوقع من منتجي التسويغات الأكثر تأثيرًا أن يمتنعوا عن نشر معلومات خاطئة بحتة.
ثمة سببان لهذا.
أولًا التسويغات في نهاية المطاف تؤدي وظائف اجتماعية تتمثل بالإقناع، المناقشة، التعبئة، وإدارة السمعة. ولأن المعلومات الخاطئة عمومًا غير مقنعة ويمكن تكذيبها بسهولة، فهي لا تؤدي هذه الوظائف بشكل جيد.
ثانيًا، سوف يتسوق الناس هنا وهناك لأجل منتجي تسويغات ذوي مصداقية وجديرين بالثقة. وبقدر ما يكتسب الخبراء، الصحافيون، أو المنابر الإعلامية سمعة صانعي أخبار كاذبة، يقوّض هذا من قيمة نتاجهم.
المقارنة مع المحامين والناطقين الرسميين تفيد هنا. إن المحامين لا يختلقون الأشياء فحسب، بالأحرى، هم بارعون جدًا في اختيار معلومات دقيقة، صياغتها، تقديمها، وتنظيمها بطرق بالغة التحيز. ينطبق الأمر ذاته على المنابر الإعلامية والمعلّقين الذين يؤدون مهمة تسويغية. وعندما يتعلق الأمر بالإعلام الحزبي، على سبيل المثال، ثمة إجماع على أنه:
“كل التقارير(المتحيزة) تستند إلى ذات مجموعة الحقائق التحتية. لكن، من خلال الحذف الانتقائي، اختيار الكلمات، المصداقية المتباينة المنسوبة للمصدر الأساسي، يوصل كل منها انطباعًا مختلفًا اختلافًا جذريًا حول ما حدث حقًا”.
وعظ الجوقة؟
مع ذلك، هل يهم أيٌّ من هذا؟ إن تسويغ المعلومات يعظ الجوقة. إنه يعمل فحسب على تبرير المزاعم، السرديات، أو القرارات التي كان البشر سلفًا مدفوعين لاتخاذها أو تأييدها. فهل هو، إذًا، غير ضار؟
إنه موضوع كبير – وهذا المنشور سلفًا طويل على نحو مفرط- لكنني سأختم بأن أنظر باختصار في السبب الذي يجعل المعلومات المتداولة ضمن أسواق التسويغات تكون في الآن ذاته استجابة لحاجة الجمهور ومصدرًا لسوء الفهم واتخاذ القرارات المجتمعية السيئة.
هذه الأضرار – أو على الأقل تلك التي سأركز عليها هنا- هي في النتيجة متجذرة في سمة أساسية للتسويغات: عكسَ الروايات الإخبارية الكاذبة السخيفة ونظريات المؤامرة العجيبة، التسويغات معدَّة لأن تكون مقنعة حقًا.
التحصين
البشر مدفوعون بقوة لإنتاج أسباب تبرر معتقداتهم وقراراتهم. بهذا المعنى، معظم الاستدلال هو تسويغ لاحق. إنه يتسم بروح المحاماة. مع هذا، كما يشير هوغو مرسييه ودان سبيربر، تمامًا كما بوسعك أن تعيّن محامي دفاع بارع ليدافع عن براءتك، بوسعك أيضًا أن تعيّن واحدًا يقوم بدور استشاري، بحيث يعلّمك متى تكون تصرفات معينة غير قابلة للدفاع عنها. في تلك الحالة، عدم القدرة على تسويغ قرار ما يكون سببًا قويًا لعدم اتخاذه.
ينطبق شيء مماثل على علم النفس البشري عمومًا. عندما لا يمكن تسويغ المزاعم أو القرارات، نكون عادة مدفوعين لتجنبها أو التخلي عنها ما لم نكن نتمتع بالكثير من السلطة بحيث لا نعتمد على الاستحسان أو الدعم الاجتماعي. هذه الحقيقة – أن الحكم البشري وعملية صنع القرارات خاضعة عمومًا لقيد تسويغ قوي- تحد من الإسراف في التحيز. على سبيل المثال، رغم أن الكثير من البشر متحيزون إزاء معتقدات تعظيم الذات، يكون لتعظيم الذات عادة حدود قوية: يعتقد الناس أنهم أفضل ممّ هم في الحقيقة، لكن أفضل بقليل فحسب؛ بقدر ما يكون بوسعهم تسويغ ذلك ذاتيًا ليس إلا.
إحدى مشاكل سوق التسويغات هي أنها تُضعف هذا القيد، ما يمنع الناس من التخلي عن المعتقدات والتخمينات التي لا أساس لها. أي، حتى عندما لا تجعل التسويغاتُ الناسَ يتبنون أنواعًا مختلفة جذريًا من المعتقدات أو القرارات، فإن التيار الثابت من التسويغات عالية الجودة التي يقدمونها بوسعها أن تحصّنهم في خلاصات متحيزة كانوا لولا ذلك ليكونوا مجبرين على التخلي عنها.
2. التطرف
المشكلة الأخرى التي تعاني منها أسواق التسويغات هي أن التعرض المستمر للتسويغات المتحيزة يمكن أن يقود الناس لتبني معتقدات متطرفة على نحو متزايد، وهو يفعل ذلك بالفعل.
أظهرت البحوث المتعلقة باستقطاب المجموعة أن مجموعات البشر ذوي الأفكار المتشابهة تميل لأن “تذهب للحدود القصوى”. على سبيل المثال، مجموعة من الليبراليين المؤيدين نوعًا ما لحرية الإجهاض من المرجّح أن يصبحوا أكثر تأييدًا لحرية الإجهاض بكثير بعد فترة من التباحث واحدهم مع الآخر. ورغم أن إحدى الآليات التي يحدث هذا من خلالها متعلقة بالسمعة، آلية أخرى – أكثر عادية – هي ببساطة أن الناس ضمن المجموعات متشابهة الأفكار معرضون لعينة من الأدلة والحجج تحمل الكثير من الميل لطرف ما.
ينطبق شيء مماثل على أسواق التسويغات: التعرض المستمر لمعلومات التسويغ التي تنتجها يمكن أن يدفع الناس نحو نسخ أكثر تطرفًا من آرائهم وسردياتهم المفضلة.
لاحظ هوغو مرسييه فيما يخص التأثيرات الاستقطابية لوسائل الإعلام المتحيزة ما يلي:
“لا ينجم الاستقطاب عن كون الناس مستعدين لقبول تبريرات سيئة لآراء يحملونها سلفًا بل من كونهم معرّضين للكثير جدًا من التبريرات الجيدة (الكافية) لهذه الآراء، ما يقودهم إلى تطوير آراء أقوى أو أكثر تيقنًا”.
3. الفائض المقنع
أخيرًا، يمكن أن تكون لأسواق التسويغات تأثيرات خفية عندما يؤثر المحتوى التسويغي المتداول ضمنها على الناس خارج قاعدة المستهلكين الأصلية.
على سبيل المثال، يمكن للناس الذين يحصلون على التبريرات من خبرائهم ومنابرهم الإعلامية المفضلة أن يستخدموا تلك التبريرات بعد ذلك في محادثاتهم ومناقشاتهم مع الآخرين. (في الواقع، تشكّل هذه الفائدة الوظيفةَ القصوى للتسويغات). أو، ما أن تنشأ بيئة إعلامية مزدهرة كاستجابة لحاجة الجمهور إلى معلومات تسويغية من نوع معين، غالبًا ما يكون سهلًا على الناس خارج الجمهور الأصلي أن يصبحوا معرضين لمحتواها.
في العموم، هذا هو تفسيري الأولي لأن يبدو شخص مثل روبرت مردوخ صاحب تأثيرٍ سياسي كبير وخفي: رغم صورته كمتلاعب محترف بالرأي العام، تتألف موهبته بشكل أساسي من تأسيس منابر إعلامية ذات تأثير كبير في تلبية حاجة المستهلك؛ تحيزات الجمهور، تفضيلاته، وحساسياته. لكن، ما أن تصبح مثل تلك المنابر الإعلامية المزدهرة قيد التشغيل، يصبح سهلًا على الناس خارج قاعدة الجمهور الأصلي أن يصبحوا معرضين لمحتواها وتغطيتها ذات الميل لطرف ما، ومقتنعين بهما.
عودة للوراء
بهذا أختتم منشوريّ الطويلين إلى حد غير معقول واللذين يستكشفان التحديات المعرفية للمجتمعات المفتوحة. لكن، في حين أن الأول رسم صورة قاتمة للتحديات والتحيزات على مستوى الفرد، فإن هذا المنشور يفنّد الفكرة المتفائلة القائلة بأن إطلاق عنان أفراد متحيزين ضمن سوق أفكار حرة وتنافسية سوف يولد أوتوماتيكيًا الحقيقة والتنوير. بالأحرى، سوق أفكار العالم الحقيقي تستجيب ببساطة لتحيزات الناس، وهي في جزء منها تجعلها تتفاقم.
بالطبع، حتى الآن، ركزتُ حصرًا على التحديات المعرفية التي تواجهها المجتمعات المفتوحة. ورغم أنه يبدو أن هذا التركيز المتشائم يلتقط الجودة – أو الافتقار إلى الجودة الجلي- التي يتمتع بها المجال العام في الكثير من الديمقراطيات الليبرالية، سيكون من الإنصاف أيضًا الإشارة إلى أن هذا التحليل المتشائم متحيز.
إذا كان التحيز، التحريف والوهم، متفشية جدًا ضمن المجتمعات المفتوحة، ما الذي يفسر أن الكثير من الناس – ربما عدد غير كاف، لكن الكثير رغم ذلك- يبدون متعقّلين ومطّلعين؟ ولماذا تكون المجتمعات المفتوحة، رغم كل عيوبها، متفوقة عمومًا – اجتماعيًا، سياسيًا، ومعرفيًا حقًا- على المجتمعات المغلقة بأنواعها المختلفة؟
سوف أعود إلى هذه الأسئلة في منشور مستقبلي، لأركّز على السمات الإيجابية للمجتمعات المفتوحة. وسوف أستكشف أيضًا كيف يمكن لنا (نحن الذين ندافع عن المُثل العليا لمثل تلك المجتمعات) أن نعالج بعض التحديات المعرفية التي حدّدتُها في هذين المنشورين.
(*) دان ويليامز: كاتب، وأكاديمي متخصّص في الفلسفة. حاصل على دكتوراه من جامعة كامبردج عام 2018. يكتب في مجالات الفلسفة، العلوم الاجتماعية، التطور، الذكاء الاصطناعي، والسياسة.
رابط النص الأصلي:
المترجم: سارة حبيب
ضفة ثالثة