ما هي الديمقراطية؟/ كلود لوفور
28 يناير 2025
ترجمة وتقديم: حسونة المصباحي
تقديم
يُعتبرُ الفرنسي كلود لوفور (1924-2010) من أبرز المفكرين الغربيين الذين اهتموا في مجمل أعمالهم بمسألة الديمقراطية والأنظمة الشمولية. وبعد الحرب العالمية الثانية أسس برفقة المفكر اليوناني كورنيليوس كاستورياديس جمعية “الحضارة والبربرية” التي ركزت اهتمامها على نقد الماركسية في فترة ذوبان الجليد الستاليني (نسبة إلى ستالين) وكشف الجرائم التي ارتكبت خلالها ضد الحرية. وعلى مدى مسيرته الفكرية، ظل لوفور متأثرًا بكل من الإيطالي ماكيافيلي والفرنسي دو توكفيل.
وفي سنة 1999، ألقى كلود محاضرة باللغة الإنكليزية في كوريا الجنوبية تحت عنوان: “ما هي الديمقراطية؟” محاولًا أن يرسم فيها الفرق بين الديمقراطية والرأسمالية، ومحاولًا أيضًا أن يُوضح أن الديمقراطية يمكن أن تفقد قوتها بسبب تنامي القومية والفاشية. ولعل هذا ما يحدث اليوم في البلدان الغربية التي تشهد تصاعدًا مخيفًا للأحزاب والمنظمات اليمينية والشوفينية المتطرفة.
هنا ترجمة لهذه المحاضرة عن اللغة الفرنسية:
على خلفية الانتقادات الموجهة إلى المجتمع الحديث، شرعت الحركات الشمولية في التصاعد والتنامي زاعمة أنها قادرة على تقديم حلول اجتماعية واقتصادية وفلسفية للأزمة. وفي النهاية ظهر أن هذه المغامرة محمّلة بمنفذ غير مسبوق باتجاه البربرية التي تركت معسكرات الاعتقال والإبادة الجماعية والذكريات الأشدّ رعبًا. ولا تنقطع محاكمة الحداثة في عصرنا عن إيجاد البراهين والحجج الصلبة. ومع انهيار الشيوعية في كل من الاتحاد السوفياتي وبلدان أوروبا الشرقية، شهد نسق الجدل السياسي تغيّرًا. فهناك إدانة للفساد المتصاعد للديمقراطية في البلدان التي ترسّخت فيها منذ أمد طويل، لكن من دون تصور لمجتمع مختلف جذريًّا. في نفس الوقت نحن نُعاينُ تطور مجتمعات ما بعد الشيوعية لكي نعرف إلى أيّ مدى انخرطت هذه البلدان في المسار الديمقراطي. لكن في الحالتين، يبدو أنه من الأفضل أن نوضح بدقة ماذا نعني بحكومة ديمقراطية أو بمجتمع ديمقراطي. ولإضاءة الوضع، يبدو لي أن أفضل طريقة هو البحث عن ما يُميّزُ الديمقراطية عن الليبرالية. لكن التمييز هنا لا يعني التعارض والتضاد لأن الديمقراطية الحديثة هي بالتأكيد ديمقراطية ليبرالية. لكن يبقى أن نتساءل إذا ما كانت الليبرالية الاقتصادية أو الليبرالية السياسية كافية لكي نفهم مصدر المجتمع الديمقراطي وخصائصه.
في البداية، يبدو لي أنه من الأفضل أن أبدي بعض الملاحظات حول الليبرالية الاقتصادية وحول نظرية التبادل الحر والتجارة الحرة. من هذه الناحية تكون وضعية بلدان أوروبا الشرقية مفيدة ومُنوّرة للغاية. ففي هذه البلدان كان نجاح الأيديولوجيا الليبرالية مهمًا جدًا. ومن دون أي شك هو ناتج عن الانهيار المدوي للاقتصاد الذي يقوم على التخطيط وعلى الملكية العامة. وللقطع مع هذا النظام، لم يكن هناك خيار غير السوق الحرة والملكية الخاصة. وفي اللحظة الراهنة، نحن نُلاحظُ أن الذين لم يتنكروا للشيوعية بقطع النظر عن أنهم منحوا أحزابهم أسماء جديدة، يُقرّون بأن السوق الحرة أمر لا رجوع فيه. مع ذلك علينا أن نشير إلى أن النظام الاقتصادي الجديد مرتبط بمختلف الظروف التي لم يأخذها الليبراليون بعين الاعتبار. كيف يمكن للسوق أن تتطور بشكل صحيح في غياب سلطة الدولة القادرة على التحكم فيه؟ وفي غياب موظفين مهمتهم القيام بعمل عمومي على مسافة من المصالح الخاصة؟ وفي غياب قضاء مستقل وقضاة مستقلين حظوا بتكوين مهني خاص، ويحصلون على امتيازات تحميهم من شر الفساد والرشوة؟ وفي غياب “وسط” اجتماعي يكون واضحًا ودقيقًا فيه الفرق بين ما هو محرّم وما هو مشروع، وفيه يقدّم المسؤولون البرهان على أنهم ملتزمون بالقانون وبالمسؤولية الشخصية؟ وفي النهاية، في غياب الصمود الجماعي الذي به يواجه العمال شهوات الحكام الجدد الذين أفرزهم مسارُ الإنتاج الجديد؟ لكن للأسف نحن نلاحظُ أن المرحلة الشيوعية قضت على الاعتقاد في إدارة حرة، وعلى فصل السلطات، وقوّضت مفهوم القانون والمسؤولية الشخصية، ومنعت النقابات الحرة في أغلب البلدان تقريبًا. وكانت النتيجة أن قادة ما بعد الشيوعية أثاروا زوبعة عنيفة في المجتمعات الشرقية باختيارهم للنظام الليبرالي ليس فقط لأنهم لم يكونوا مهيئين لمواجهة مشاكل الإدارة الجديدة، وإنما لأنهم يجهلون ما تحتمه الظروف السياسية للسوق، وماذا تعني استمرارية المصلحة العامة.
والحقيقة أن الليبرالية هي نقيض الشيوعية. لكن في عالم ما بعد الشيوعية، تبدو بشكل مفارق حتى لو أنها واردة من الغرب، وكأنها نتيجة طبيعية له. وهنا نحن نلاحظ أن أنانية التملك في المعنى الذي منحه إياها المفكر السياسي G .B.Macpherson (1911-1987) والبحث الأعمى عن الربح لا يواجهان أية عراقيل في مجتمع دمرته السيطرة الشيوعية. وهناك حيث لا يعتقد الناس في قواهم الخاصة، وهناك حيث فقدوا أدنى المعايير الأخلاقية الخاصة والعامة، تكشف الليبرالية الاقتصادية عن جوانبها الأشد خطورة، حيث الأكثر ضعفًا يتحمّلون صدمة التحولات الاقتصادية، أما المهرّبون والمنتمون لعصابات المافيا، فإنهم المستفيدون الأكبر من كل ذلك. في نفس الوقت، تتعرّض قيمة الحريات المدنية والسياسية للسخرية والانتقاص من شأنها. ومطلب الأمن يتفوق على أي اعتبار آخر. ويلاحظ آدام ميشنيك، أحد أبرز قادة النقابات البولونية التي لعبت دورًا أساسيًا في الإطاحة بالنظام الشيوعي، والذي يشرف اليوم على صحيفة في فرسوفيا، أن العلاج الوحشي الذي مارسه الليبراليون كانت له نفس النتائج في كل بلدان أوروبا الشرقية. وقبل ذلك كانت الشيوعية توفر الأمن في مقابل الاستعباد. وانعدام الأمن ولّد مشاعر كبت وحرمان عنيفة وأفضى إلى ظهور القومية الشوفينية. وهذا الجانب يستحق التوضيح. إن تشكل الدول الشمولية لم يكن مفهومًا أبدًا من قبل الليبراليين الذي ظلوا دائمًا مركزين انتباههم على جانب اقتصادي فقط. وهم يُلحّون على خرق القوانين “الطبيعية” للسوق الناتج عن الوهم الذي بحسبه يمكن للدولة أن تخطط لمجمل علاقات الإنتاج. إلاّ أنهم أخفوا أن الخطوط العريضة للنظام الشيوعي كانت قد حُدّدت قبل التحول الذي حدث بين سنة 1929 وسنة 1930. لكن يجدر بنا أن نُذكّر أن الهدف الأساسي للينين كان الحرية السياسية. لذا أظهر أنه قادر على أن يتقبل ولو لفترة قصيرة، فضيلة التجارة، في حين أنه كان يقوم بتقوية أجهزة المراقبة السياسية ضد المعارضين. وعلينا أن نضيف أيضًا أنه لا الفاشية ولا النازية احتاجا إلى إلغاء الملكية الخاصة ونظام السوق رغم أنهما قاما برسم بعض حدود لهما بهدف إقامة نظام شمولي. واليوم لا يزال الليبراليون بنفس العمى أمام التحولات الخطيرة ذات الطابع السياسي. وهم يجهلون أن التماسك الاجتماعي لا يمكن أن يظل قائمًا إلاّ إذا ما بقي بين السكان الشعور المشترك بالانتماء إلى نفس المجموعة من دون أن يكون هناك براهين وحجج تشير إلى هوية جماعية. من هذا الجانب، تمارس الدولة مسؤولية خاصة. ولكي نعاين ذلك، يكفينا أن نذكّر بحالة ألمانيا: إن إعادة توحيد شطريها كان يمكن أن يؤدي إلى أزمة اجتماعية عميقة تكون نتائجها غير متوقّعة لو أن القادة السياسيين لألمانيا الفيدرالية لم يبذلوا جهودًا مالية هائلة لتحقيق اندماج أكبر عدد ممكن من المواطنين الجدد. وفي بلدان ما بعد الشيوعية نحن نعاين بروز التطلعات القومية. ونحن لا نقصد اعتبار هذه التطلعات كإخلال لاعقلاني يمكن أن تسبب اضطرابات في قوانين السوق المُفترضة – خصوصًا إذا ما كان الأمر يتعلق بتحرر تلك القوميات الصغيرة من الهيمنة الاقتصادية والثقافية للجار الأكثر قوة منها. ثم إن المشاعر القومية يمكن أن تتحول بسهولة إلى قومية عنيفة. وهذا الخطر الذي لا يُعيره الليبراليون اهتمامًا كبيرًا استفحل في كل مكان، وليس فقط في بلدان أوروبا ما بعد الشيوعية. لذلك أصبحت القومية أكبر خصم للديمقراطية. وفي حين تربط الديمقراطية الاجماع بتعدّد الآراء، تحاول القومية أن تفبرك الإجماع دائمًا مُحوّلة الخصم إلى عدو ومانعة كل تعبير عن الرأي المخالف وكل معلومة أو خبر يُفترض أن يكون مًضرًّا بوحدة الأمة.
بالإضافة إلى ذلك لا يأخذ الليبراليون بعين الاعتبار بعض الظواهر الاجتماعية. فمن جانب هم يرون أنه يتوجّبُ على بلدان ما بعد الشيوعية، أو البلدان التي في طور النمو أن تتّبع نفس الطريق الذي سلكته في القرن التاسع عشر الدول الغربية الأكثر تقدّمًا. غير أن العالم كان قد شهد تغيّرات وتحولات هائلة منذ ذلك الحين. والبلدان التي في طور النمو لا يمكن حشرها في فترة ما قبل الرأسمالية بسبب انخراطها في المبادلات العالمية، وبسبب الحساسية الجديدة التي طوّّرها السكان تجاه الضروريات الخاصة بنمط العيش الحديث – أقول هذا بشكل عابر لما هو أفضل ولما هو أسوأ. من جانب آخر، يُخفي الليبراليون أن تطور الرأسمالية الغربية كان مُرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بسلطة الدولة، والأكثر من ذلك بالمؤسسات الديمقراطية. وبالفعل، لم يستطع الرأسماليون في المنتصف الأول من القرن التاسع عشر، تجنب مراقبة السلطات العامة المهتمة باستغلال القوى البشرية وبتعدد القوانين الاجتماعية من جانب، ومن جانب آخر الصمود المتصاعد لمنظمات العمال. ولم يكن هؤلاء العمال مهتمين فقط بوضع مشروع ثوري، وإنما كانت تُحرّكهم أيضًا إرادة التعريف بحقوقهم المشروعة في المجتمع الجديد، وحتمية الاعتراف بالنقابات، وبحق الاضراب، وفي المقام الأول “الحق في الحصول على حقوق” بحسب حنه آرندت، كل هذه المطالب انبثقت في إطار مجتمع بورجوازي كانت مبادئ الحقوق الكونية قد فُرضت عليه حتى ولو أن الطبقة المهيمنة كانت دائمًا تستفيد من ذلك. وعكس ما كان يدافع عنه ماركس الذي شدّد في نقده للمجتمع البورجوازي على أن حقوق الانسان شكلية فقط، يجدر بنا أن نؤكد على أن الثورة البورجوازية هي مصدر كل التحولات الموضوعية التي شهدتها البنية الاجتماعية. وعلى مدى القرن التاسع عشر، لم يكن عدد السكان، يكفّ عن التصاعد، وأيضًا عدد الواعين بحقوقهم والمستعدين للدفاع عنها. باختصار: في حين تسعى الديناميكية الرأسمالية إلى الفصل بين الطبقات، وإلى تقرّض وتفتّت الروابط الاجتماعية، تسعى الديناميكية الديمقراطية إلى اندماج الأفراد بتوسيع روح المواطنة.
وبالتأكيد، أنا لا أنفي هنا ما هو رابط بين الرأسمالية والديمقراطية. كل واحدة منهما نابعة من انهيار نظام اجتماعي تراتبي في داخله يكون الأفراد مندمجين في شبكات روابط شخصية. وبعيدًا عن تخفيض اتساع السوق، تحمل الرأسمالية علامة التحول التاريخي الذي لا يمكن تحديد مصدره بدقة لأن معناه سياسي وديني وثقافي وأيضًا اقتصادي وتكنولوجي.
هذه الملاحظات تُحرّضني على إعادة تحليل معنى الليبرالية السياسية. وفعلًا لا بدّ من التمييز بين نمطين من الليبرالية؛ الأولى تقودنا إلى معالجة الموضوع السياسي كما لو أنه مُتَفرّع عن العلاقات المرتبطة بالاقتصاد الذي يُمثل الواقع بالنسبة لها، ولا يهمّ أن تنتمي كل من البنية التحتية والبنية الفوقية إلى النظرية الماركسية لأن هذا أمر ضمني في الليبرالية. أما في الثانية، فإن الوعي السياسي يبدو كما لو أنه مُعترف به. وهنا يجدر بنا أن نذكّر بأن المفكرين الليبراليين الكبار في فرنسا أي دو توكفيل، وبنجامين كونستان، وغيزو، لم يهتموا أبدًا بالمسألة الاقتصادية. وبالنسبة لأغلبهم، تفترض الدولة وجود دستور مكتوب ضامن للحريات الفردية، ونظام تمثيلي بتعدّد الأحزاب والفصل بين السلطات. غير أن النموذج لا ينطوي بالضرورة على الاعتراف بالمبادئ الديمقراطية. وكان غيزو، قائد التيار الليبرالي في زمن عودة السلالة الملكية إلى الحكم بعد الثورة، خصْمًا شرسًا للانتخابات العامة، وبعد ثورة 1848، دان الديمقراطية بقوة. لكن وكما أبرزه المثال الأميركي، وأكده تطور الدول الأوروبية الكبرى، كانت الليبرالية مُتطابقة مع الديمقراطية. وهنا أرغب في تقديم البراهين الأساسية المقدمة لصالح الدولة الليبرالية المعتمدة كدولة للقانون الليبرالي.
البرهان الأول يحظى بدفاع كانط. وهو يقول لنا بأن دولة القانون مُتطابقة مع العقل، ونشأتها، والأفضل من ذلك، اكتشافها، تعبير عن المرور من التبعية إلى الاستقلال، أي عندما لا يمكن للناس أن يكونوا خاضعين لقوانين لم يكونوا قد وافقوا عليها. ويمكن الاعتراض على هذه الرؤية وكأنها غير تاريخية جذريًا. وعلى خلفية هذا، يمكننا أن نتساءل كيف ولماذا أصبحت الإنسانية واعية فجأة بأنها كانت مُستلبة دائمًا، ومُبعَدَة عن التمييز؟ أما من ناحية الشكل، هل يمكننا بكل بساطة تحويل مفاهيم التبعية والاستقلال إلى حقل السياسة؟ وهل يمكننا التقليص من الفرق بين الديمقراطية والاستبداد (هذا إذا ما نحن افترضنا بأن نموذج الأنظمة الملكية الأوروبية يمكن أن توصف بالاستبدادية) إلى الاختلاف بين سن الكهولة وسن الطفولة؟ وفي النهاية، هل يمكن أن نفكر بأن “دولة القانون الليبرالي” تُمثّلُ بروز مجموعة مُكوّنة للمرة الأولى من كائنات عاقلة؟ بالنسبة لهذا السؤال، يبدو لي جواب مونتسكيو أكثر صوابًا: “في أمّة حرة، يكون من غير المفيد أن الأفراد يفكرون بشكل سيء أو بشكل جيد. يكفي أن يفكروا: من هنا تنبثق الحرية، التي تكون ضامنة لمضاعفات وتبعات مثل هذا التفكير. وبالنسبة لحكومة استبدادية، يكون الأمر مُفسدًا إذا ما كان التفكير سيئًا أو جيدًا. يكفي أن نفكر لكي يُصاب مبدأ الحكومة بالصدمة” (روح القوانين – الكتاب التاسع عشر).
البرهان الثاني لصالح الدولة الليبرالية اتخذ أهمية في حلقات الباحثين في العلوم الاجتماعية خلال العقود الأخيرة. بالنسبة لهم، بما أن المجتمع مُكوّن من أفراد مستقلين عن بعضهم البعض، فإن النظام السياسي الضروري لتأمين الوحدة والتلاحم الاجتماعي لا بد أن تكون له سلطة غير مشروطة، مهما كان مصدرها، وبمنافسة حرة وسلمية بين الذين يمارسونها على قواعد اللعبة المحددة مُسبقًا. وبإمكاننا أن نُعارضَ هذه الرؤية ونقول إنها غير تاريخية إذ أننا لا نجد في أيّ مكان أفرادًا مستقلين، وإذا ما نحن افترضنا أنهم يبرزون في المجتمعات الحديثة، فإن السؤال يظل قائمًا إذ كيف تحرروا من سلطة غير مشروطة. وإذن علينا أن نعترف بأن الليبرالية السياسية، عمومية أو براغماتية، لا تتوصّل إلى إدراك أن الديمقراطية ليست مجرد جهاز قضائي- سياسي، وإنما هي شكل جديد للمجتمع. إن الفضل الكبير لتوكفيل أنه بحث عن خصائص الديمقراطية في الدولة الاجتماعية. بالنسبة له، خلافًا للمجتمع الأرستقراطي المؤسس على مبدأ التراتبية، تقوم الديمقراطية على المساواة بين الظروف. وهنا لا يجدر بنا أن نكتفي بملاحظة التضاد الحدثي، وبالاختلاف بين مجتمعين. إن المقارنة بين نمطين من المجتمع يجعلنا في مواجهة نظامين رمزيين. في “النظام القديم”، يكون التمييز الطبيعي بين المراتب و”الدرجات” شاهدًا على اعتقاد جماعي في القانون الذي يتحكم في الكون بأسره. ومفترض أن يكون هذا القانون صادرًا عن الله لكي يُطبّق على الأرض، في حدود الأمة، من قبل الملك. وعوض أن يكون مستبدًا، كان الملك يبدو تقليديًا كما لو أنه الوسيط بين الشعب والله، وقد ظل يحتفظ بجزء من هذه القداسة حتى القرن الثامن عشر، رغم ما حققته اللائكية من تقدّم في المملكة.
حتى المدافعون الأشد تحمسًا للنظام الملكي كانوا يقبلون بأنه لا بد من احترام تقاليد وتراتبية الملكية. وإذن لا تنبثقُ العدالة من الملك الذي مُخصّب بها، كما هو مخصب بالقداسة الإلهية. وهو منذور للموت مثل كل كائن بشري، لكنه خالد وأبدي في ممارسته للسلطة. بهذا المعنى، كان جسد الملك يُقدّم صورة للحضور الدائم، ولوحدة ونظام الحكم الملكي. وبقطع النظر عن هذه الرمزية، كان مكان السلطة يبدو “مكانًا آخر”. وانطلاقًا من هذا المكان، يمكننا أن ننظر إلى شكل المجتمع بطريقة طبيعية ومشروعة.
بالنسبة للديمقراطية نحن نلاحظ تحوّلًا من الصنف الرمزي. ومهما كانت سيرورة المساواة بين الظروف، فإنه لا يكفي أن نأخذ التحول السياسي بعين الاعتبار، بل علينا أن نفعل ذلك مع ظاهرة “فصل السلطة”. وحالما يتفتّتُ الإيمان بجسد الملك المنذور للموت، ولا يُسمح لأيّ كان بتمثيل الشعب في شخصه، ولا يمكن للسلطة أن تُختطّ في مكان آخر. لكن لا يعني هذا أن السلطة يمكن أن تكون داخل المجتمع كوظيفة سياسية مُحمّلة بأعمال خاصة: مكان السلطة محكوم عليه بأن يكون مكانًا فارغًا. وهو يستمر في الإشارة إلى أن المجتمع خارج ذاته، وهو مرجع انطلاقًا منه يمكن رسم حدود المجموع لكي يعي الأعضاء بأنهم ينتسبون إلى نفس الفضاء السياسي. ولنقل إن التمييز بين ما هو رمزي وما هو واقعي معترف به ضمنيًا من قبل الجميع. وعندما ينمحي وجه “الآخر”، يصبح وجود “الآخر” أكثر رسوخًا من ذي قبل. ومنذئذ يصبح أولئك الذين يُمارسون السلطة منذورين للموت والفناء، وعليهم أن يبحثوا دائمًا عن الشرعية لتمثيل الشعب. وقد اعتدنا أن نقول بأن الشعب يتحكم في السلطة، إلاّ أن هذا التأكيد يظل غامضًا ومُبهمًا، إذ أنه في الوقت الذي من المفروض أن تتجلى فيه من خلال الانتخابات العامة، يتشتّتُ الشعب ويتفرّق إلى عدد وافر من الأفراد الغرباء عن بعضهم بعضًا. وتكون صورة الشعب الواحد قد انمحت، ولا يمكن للوحدة أن تتملّص من التعددية. وعندما يختفي جسد الملك، تختفي أيضًا صورة الشعب الواحد، وتكف الأمة بدورها عن أنها تمثّلُ جسدًا، ومجموعة عضوية.
ولكي نعود باختصار إلى المقترح الذي يقول بأن الديمقراطية هي شكل جديد للمجتمع، يجدر بي أن أشير إلى ثلاث ظواهر تُرافقُ فصل السلطة.
أول ملاحظة هي أن هناك تمييزًا بين القانون والسلطة. وبمعنى ما، تصبح ممارسة السلطة العامة خاضعة للقانون. إلاّ أن القانون نفسه، أو الأفضل من ذلك، فكرة القانون، لا يمكن أن يعود إلى مصدر شكلي. وفي حين تُحافظ القوانين الوضعية دائمًا على شيء نسبيّ، يكون محرّمًا على أي أحد أن يُكلّفَ نفسه الإعلان عن القانون. ففي الديمقراطية ليست للمجموعة هذه السلطة. وقد كان توكفيل يؤكد على أنه إذا ما عاين أن هناك قانونًا جائرًا يُدافع الشعب عنه إلاّ هو، فإنه لن يتراجع عن قراره، وسيظل معارضًا لهذا القانون. ومع مكان السلطة، تختفي مكانة “القاضي الأكبر”. ومنذئذ يُحرّضُ كل واحد على أن يحكم بنفسه. موضوعيًا، تقود هذه العلاقة الجديدة تجاه القانون إلى انبثاق قوانين جديدة. وبإمكان المجموعات البشرية إن كانت قادرة على ذلك، أن تُعرّف بمطالبها باسم القانون. وأيضًا ليس هناك معايير نهائية للمعرفة الإنسانية. والسلطة الدينية أو السياسية ليست مُؤهلة لتحديد ما هو مشروع وغير مشروع في مجالات العالم، أو الأدب، أو الاستيتيقا. كل شيء يحدث وكأن في كل واحد من هذه المجالات، تظل الحركة في بحث دائم عن جوهرها نفسه.
الملاحظة الثانية: إن التمييز الواضح بين ما هو سياسي وما هو غير سياسي يجعل من المحتمل بروز مجتمع مدني قوي على مسافة من الدولة أو منفصل عنها، ومن هنا اتساع فضاء عام فيه تتواجه المصالح، والآراء، والمعتقدات، وأنماط العيش. وبذلك يصبح المجتمع الديمقراطي مجتمعًا يعتمل بالصراعات والنزاعات.
الملاحظة الثالثة: فرد من نمط معين يطمح إلى البروز مع اختفاء نظام اجتماعي يبدو محبوسًا في عالم يتحكم فيه الله، أو القوى الخارقة أو العقل. وهذا الفرد يبرز على خلفية اختفاء شبكة تبعيّات شخصية التي من المفروض أن تكون موجودة من قبل في كل خيار انساني. ويؤكد توكفيل على أن الفرد مهدّد بالغرق في المجموع وبالخضوع إلى قوى جديدة ومجهولة. لكن من جانب آخر، يُحرّض هذا الفرد نفسه على التساؤل، وعلى المواجهة مع الآخر. وهو يقوم بتجربة جديدة في مجال الغيرية في علاقته مع نفسه كما في علاقته مع الآخرين.
الحيرة تهدّد الديمقراطية. وعندما تحرم أزمة اقتصادية أو حرب عددًا كبيرًا من الناس من الأمن المادي، فإنه يكون من غير المؤكد أن يسمحوا بمثل هذه الحيرة وهذا التردّد. لكن أليس علينا أن نقبل بأن العيش المشترك في غياب دلائل وإشارات اليقين، له معنى أخلاقي؟
المترجم: حسونة المصباحي
ضفة ثالثة