سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسة

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 28 كانون الثاني 2025

حرية إلى الأبد: كل المقالات والتحليلات والحوارات التي تناولت انتصار الثورة السورية اعتبارا من 08 كانون الأول، ملاحقة يومية دون توقف تجدها في الرابط التالي:

سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

—————————————-

معاذ الخطيب في محاضرة المركز الثقافي في كفرسوسة

1_ قبل الحديث عن الإنتقال من عقلية الثورة إلى عقلية الدولة يجب أولا أن ننتقل من عقلية الجماعة إلى عقلية المواطنة ، ومن فقه الدعوة إلى فقه الدولة

2_ الحكم الإسلامي هو حكم مدني ولا يتعارض مع مفهوم الوطنية والمواطنة بل على العكس الإسلام أتى ليعزز دور هذين المفهومين

3_ وثيقة المدينة التي وضعها الرسول عليه الصلاة والسلام وفيه تفاهمات بين مكونات مختلفة من مجتمع المدينة مسلمين ويهود ونصارى يعتبر مثالا لمفهوم العقد الإجتماعي والذي تكلم عنه جان جاك روسو

4_ إقامة الحدود الشرعية هي وسيلة وليست غاية وفي حال تغيرت المعطيات على الصعيد الإجتماعي أو الإقتصادي أو الدولي عندها يكون تعطيل الحدود واجبا دينيا وفي سيرة عمر الفاروق الكثير من القصص التي تكرس من مرونة الشريعة الإسلامية

5_ الإسلام أباح العمل للمرأة في جميع المجالات بلا استثناء من الرئاسة والقيادة والسياسة ويجب أن نفهم بعض النصوص الدينية ضمن سياقها العام وليس ضمن ثقب الإبرة

6_ ما كان للثورة أن تنجح وما كان للمجتمع السوري أن ينهض بدون دور المرأة المحوري فهي كانت الناشطة التي عانت في أقبية المخابرات والطبيبة في المستشفيات الميدانية وربة المنزل التي أنتجت الثوار الذين حرروا البلد

7_ يجب أن نركز دائما على فقه الأولويات في مفهوم المصلحة العامة والإبتعاد عن الدخول والتقوقع ضمن الحزب أو الآيديولوجيا أو الجماعة أو المذهب

8_ علينا أن نتقبل الجميع ونبتعد عن المماحكات السياسية والجدالات البيزنطية وأن نوسع الأفق في فهم بناء الدولة والمصلحة العامة

9_ في سياق الحديث عن التعامل مع القضية الفلسطينية من المهم أن نعلم أن من يقرر هم أصحاب الأرض ونحن لا نقرر عنهم وعلينا أن ننهض ببلداننا عسكريا واقتصاديا وتكنولوجيا قبل الدخول في نقاش الحرب مع العدو والحلول السياسية ، ولطالما استثمرت الأنظمة في هذه القضية لقهر الشعوب وإعادتها ألف سنة إلى الوراء

10_ كرامة الإنسان وحريته هي القضية المركزية ، وإن تحرير معتقلة تتعرض للإغتصاب في سجون الطاغية أولى من جميع قضايا العالم

11_ كل ما هو قطعي دينيا من حيث الثبوت والدلالة يجب أن يتوافق مع ما هو قطعي عقليا وعلميا

———————————–

المعارض السوري برهان غليون: هذا موقفي من مؤتمر الحوار الوطني وهذه نصيحتي للشباب

——————————-

مقاربات عملية لحل معضلة قسد في إطار سوريا الجديدة/ خلف علي الخلف

تحديث 28 كانون الثاني 2025

تُعتبر قسد (قوات سوريا الديمقراطية) واجهة ومحور الإدارة الذاتية فيما أُطلق عليه إقليم “شمال شرق سوريا”، وتشكل محورًا جدليًا في النقاشات السياسية المتعلقة بالجزيرة السورية وحوض الفرات.

على مدى سنوات، أثارت هذه القوات تساؤلات عميقة حول دورها السياسي والعسكري، وعلاقتها بالمكونات المحلية والجهات الخارجية. بينما يراها البعض قوة ضرورية لإدارة المنطقة بعد القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي وانتشار الفوضى والانقسام في سوريا، يصفها آخرون بأنها ميليشيا مسلحة قامت بدور عسكري في قتال تنظيم الدولة الإسلامية، لكنها أقامت كياناً شمولياً استبدادياً مرتبطاً بأجندات خارجية. ومع تطورات المشهد السياسي والميداني، أصبحت الحاجة لإيجاد حل لمعضلة قسد ملحة لضمان استقرار الجزيرة وحوض الفرات ومستقبلها، وبالتأكيد سوريا الجديدة بعد الخلاص من الطغمة الحاكمة السابقة.

استعراض الآراء حول قسد

لابد أن نذكر بداية أن قسد فرضت التجنيد الإجباري كسلطة أمر واقع في المناطق التي تسيطر عليها، وهي ذات غالبية عربية، وبالتالي فإن القوات الرئيسية غالبيتها من العرب، لكن قياداتها من حزب العمال الكردستاني التركي. كما أن جميع مفاصل الإدارة المدنية والأمنية تحت سيطرة عناصر هذا الحزب. وعليه، تتباين الآراء حول قسد ودورها في الجزيرة وحوض الفرات ومستقبل سوريا.

1. الرفض المطلق لإدارة قسد الحالية:

يرى البعض أن قسد تُدار فعليًا من قبل حزب العمال الكردستاني (بي كي كي)، مما يجعلها بعيدة عن مصالح سكان المنطقة. يُتهم الحزب بفرض أيديولوجية شمولية على غرار البعث، مع استحواذ كامل على الموارد الاقتصادية دون تحقيق استفادة حقيقية للسكان المحليين. هؤلاء يطالبون بحل قسد وتسليم المنطقة للإدارة الجديدة في سوريا، ويرون إلى الكرد كجزء من السوريين لا يجب أن تُقر لهم حقوق خاصة.

2. إشكالية العلاقة مع بي كي كي:

تُثار مطالب متكررة بضرورة فك ارتباط قسد بحزب العمال الكردستاني كخطوة أساسية لبناء ثقة محلية ودولية. يُنظر إلى هذا الارتباط كعقبة أمام قبول قسد كممثل شرعي لسكان الجزيرة وحوض الفرات، سواء من قبل المكونات العربية أو حتى من الأطراف الكردية الأخرى مثل المجلس الوطني الكردي، للتفاوض مع الإدارة السورية الجديدة على حل وطني يضمن حقوق سكان المنطقة وعلى رأسهم الكرد.

3. الحفاظ على البنية الإدارية والأمنية المنجزة:

يشير البعض إلى نجاح قسد في توفير الأمن والخدمات الأساسية في مناطقها، ومنع وقوع عمليات قتل على أساس قومي أو طائفي. يطالب هؤلاء بالحوار والتفاوض بدلًا من التصعيد العسكري، إذ يعتبرون أن استهداف قسد عسكريا سيؤدي إلى نزاعات جديدة ويدفع السكان نحو مزيد من النزوح والفوضى وتأجيج أحقاد مستدامة بين العرب والكرد من سكان المنطقة. يرى هؤلاء أنه يمكن للإدارة السورية الجديدة الاستفادة والبناء على ما أنجزته قسد من بنية إدارية وعسكرية ودمجها مع المستوى الوطني مع إقرار حقوق الكرد كجماعة إثنية.

4. الدور الدولي والأميركي:

أما على المستوى الدولي؛ فلا يمكن تجاهل دور التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة في دعم قسد بدءا من نشوئها، باعتبارها حليفًا رئيسياً ضد تنظيم الدولة الإسلامية. يشير محللون إلى أن استمرار الدعم الأميركي مرتبط بمصالح جيوسياسية تتجاوز حدود سوريا ومحاربة تنظيم الدولة الإسلامية شبه المنقرض، مثل احتواء النفوذ الإيراني. آخرون يرون أن الإدارة الجديدة في عهد ترامب قد تتخلى عن قسد في إطار تخليها عن “الإيديولوجيا الأوبامية” ومخرجاتها في الشرق الأوسط وستغض الطرف عن أي عمل عسكري تقوم به تركيا والفصائل السورية المسلحة التابعة لها وتحمل مسمى “الجيش الوطني” كما فعلت سابقا. أما الجزء الأوروبي من التحالف الدولي الذي تبرز فيه فرنسا فهو يسعى بشكل معلن لإبقاء قسد مستقلة من أجل مماحكة تركيا وابتزازها سياسيا في قضايا لا تتعلق بسوريا، حتى مع تصنيف حزب العمال الكردستاني كمنظمة إرهابية في الاتحاد الأوروبي، لكن هذا التمسك لن يصمد في حال قررت الإدارة الأميركية الجديدة التخلي عنها. خصوصا أن المهام التي تقوم بها يمكن ‘تلزيمها’ للإدارة السورية الجديدة كمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي والإشراف على مخيمات الاعتقال لعناصره السابقين.

أسباب المعضلة وتعقيداتها

حظيت قسد منذ نشوئها بدعم عسكري ومالي دولي قادته أمريكا، التي عجزت عن تأهيل قسد وجعلها مقبولة في محيطها الإقليمي وكذلك من السكان المحليين في إقليم الجزيرة وحوض الفرات، لأسباب عديدة:

الاستئثار بالقرار والإدارة: رفض قسد المشاركة في إدارة الجزيرة وحوض الفرات مع المكونات المحلية عزز الإحساس بالإقصاء ورفض بقائها ينطبق هذا على إقصاء العرب والسريان والكرد الذين لا يتبنون رؤيتها حول مستقبل الكرد في سوريا والمنطقة. بل إنها تجاهلت الطلبات الدولية لإشراك فعلي للسكان في الإدارة المدنية التي أنشأتها.

الأجندة الأيديولوجية: فرض قسد نظاماً سياسياً وإدارياً شمولياً يستند إلى فكر حزب العمال الكردستاني أثار استياءً واسعًا. لم يقتصر ذلك على الهيكلية الإدارية والأمنية والعسكرية بل امتد ليشمل التنظيم المجتمعي ومناهج التعليم وسياسات الإعلام والتثقيف الحزبي على غرار البعث البائد والأحزاب الشمولية التي مضى زمنها.

الأوضاع الجيوسياسية: طول حدود الجزيرة مع تركيا، التي تعتبر قسد تهديدًا أمنيًا عال المستوى، بسبب ارتباطها بحزب العمال الكردستاني الذي ينفذ عمليات في تركيا التي تصنفه إرهابيا كما عديد من دول العالم، يعقّد إمكانية قبول قسد كممثل مقبول لسكان المنطقة في التفاوض مع الإدارة السورية الجديدة للوصول إلى حل وطني شامل وإعادة توحيد البلاد تحت سلطة دمشق.

اقتراح خطوات الحل

1. فك الارتباط مع حزب العمال الكردستاني:

هذه الخطوة أساسية لتخفيف الضغوط الدولية والإقليمية على قسد، ولبناء جسور ثقة مع المكونات المحلية. يجب أن تُظهر قسد استقلالية سياسية واضحة عن حزب العمال وتُثبت التزامها بمصالح سكان الجزيرة وحوض الفرات وإشراكهم في صنع قرارها.

2. تشكيل إدارة مشتركة:

يتطلب حل معضلة قسد تشكيل إدارة سياسية بشكل عاجل تشمل كافة مكونات الجزيرة وحوض الفرات، بما يضمن تمثيلًا حقيقيًا للعرب، الكرد، والسريان، والأقوام الأخرى. عندها يمكن أن تكون قسد جزءاً من الحل الوطني وطرفا مفاوضا حول مصالح السكان عبر هذه الإدارة لا أن تنفرد قيادتها بالمفاوضات، هذا سيشكل نطاق حماية للكرد أنفسهم.

قد لا يريد السكان غير الكرد الارتباط بمظلة قسد للتفاوض حول مصالحهم مع الإدارة السورية الجديدة في إطار الحل الوطني العام، لكنها في الحد الأدنى ستكون شريكا مقبولا في تمثيل كرد المنطقة نظرا لوجود أحزاب كردية أخرى أقصتها قسد.

3. إعادة هيكلة القوات العسكرية:

يجب تحويل قسد إلى قوة عسكرية احترافية غير أيديولوجية تدمج مع قوات وزارة الدفاع المزمع تشكيلها بعد تسريح المجندين وذلك في إطار الحل السياسي الوطني الشامل.

4. ضمانات دولية للحوار:

يتعين على الولايات المتحدة بشكل خاص لعب دور الوسيط في المفاوضات بين قسد وبقية الأطراف السورية بما فيها التشكيلات السياسية الكردية الأخرى غير المرتبطة بها، لضمان التوصل إلى اتفاق يعزز الاستقرار ويحد من التدخلات الخارجية في سوريا الجديدة. وفي حال عدم رغبة الإدارة الأميركية الجديدة في الانخراط السياسي المباشر في عمليات التفاوض تشكل السعودية بديلا مقبولا من جميع الأطراف بما فيها أميركا لرعاية هذه المفاوضات وضمان تنفيذ مخرجاتها.

5. التنمية الاقتصادية:

بالتوازي مع المطالبة بضمان حقوق الكرد في سوريا الجديدة يجب على قسد وغيرها من التشكيلات الكردية والعربية والسريانية مطالبة الإدارة السورية الجديدة بتحقيق التنمية المستدامة في الجزيرة وحوض الفرات وهو أمر ضروري ليس فقط لأنه من حق السكان بل لأن التنمية المتوازنة والعادلة لها دور كبير في تخفيف الاحتقان بين المكونات السياسية في المنطقة. ينبغي أن تركز الإدارة المستقبلية في سوريا على مشاريع تنموية تسهم في تحسين مستوى المعيشة للسكان كافة، بدلًا من استخدام الموارد لخدمة المركز كما فعلت السلطة السابقة أو لخدمة أجندات حزبية كما فعلت قسد.

6. التفاوض مع تركيا:

لا يمكن تجاوز العلاقة مع تركيا في أي حل مستقبلي. ينبغي على قسد أن تسعى لتفاهمات مع أنقرة، بعد أن تتخلى عن علاقتها بحزب العمال الكردستاني وتطمئن تركيا بأنها تشكيل وطني سوري يسعى لحماية مصالح المنضويين تحت لوائها على الأرض السورية فقط حتى من غير الكرد.

7. مؤتمر وطني جامع:

إن المؤتمر الوطني الجامع الذي أعلن عنه مرارا يجب أن يضم كافة الأطراف السورية بما فيها قسد، ويضم ممثلين وفاعلين عسكريين وسياسيين و اجتماعيين وثقافيين حقيقيين لهم وزن ويحظون بالنزاهة والإحترام في محيطهم بعيدا عن الارتجال والاستسهال والمحسوبيات والانتهازية والتسلق. يفترض أن يكون هذا المؤتمر الوطني منصة لطرح الأفكار ومناقشتها وبلورة رؤية موحدة ملزمة من أجل مستقبل سوريا ومن ضمنها إقليم الجزيرة وحوض الفرات الذي نال سكانه الحيف منذ نشأة الكيان السوري ونال الكرد فيه حيفا مضاعفا.

ايلاف

———————————

عن لبناننا وسوريتنا والأصوات التي ترفض التعلم/ أكرم البني

هل يصح تبرير الموقف المستفز بأنه رد فعل “مشروع” على ممارسات عنصرية تعرض لها اللاجئون السوريون

آخر تحديث 28 يناير 2025

هو أمر مفهوم تعاطي سلطة الوصاية السورية البائدة مع الوطن اللبناني ككيان ملحق بها، وحتى اعتباره مجرد محافظة من المحافظات السورية، وهو أمر مفسر حين تبدي بعض القوى القومجية وأصحاب المرجعيات الأيديولوجية الشمولية، عدم رضاها، على توسع متصرفية لبنان، لتضم إلى جانب الجبل كلا من بيروت وطرابلس وبعلبك والجنوب، مجاهرة برغبتها في عودة الأمور إلى ما كانت عليه في ظل السلطنة العثمانية وقبل ولادة ما عرف بلبنان الكبير. لكن ما ليس مفهوما أو مفسرا أن تتنطح شخصيات محسوبة على المعارضة السورية الديمقراطية، فترفض وجود وطن لبناني مستقل، وتستسهل هتك حق الشعب اللبناني في إعلان جمهوريته، قبل مئة عام، والادعاء بأن ما يستحقه فقط هو متصرفية جبل لبنان، وذلك من دون أن يعيروا أدنى اهتمام للمبادئ التي يدّعون أنهم يؤمنون بها، وتاليا للحق المشروع لأي جماعة بشرية تقرير مصيرها واختيار ماهية المكون الاجتماعي والسياسي الذي ترغب في الانتماء إليه.

هل يصح تبرير هذا الموقف المستفز لمعارضين سوريين محسوبين على الفكر الديمقراطي وحقوق الإنسان على أنه نكاية أو رد فعل “مشروع” على ممارسات عنصرية تعرض لها اللاجئون السوريون، ولسان حال بعضهم يتساءل: بأي حق يتطاول هؤلاء اللبنانيون على نزوح سوريين إلى أرض هم أصحابها أساسا؟ وهل يمكن تسويغ ذلك على أنه تفريغ لاحتقان اعتمل في نفوس السوريين جراء توغل “حزب الله” اللبناني إبان ثورتهم في دعم النظام البائد واستباحة أرواحهم وعمرانهم؟ ثم لم لا يقيمون اعتبارا لحقيقة أن كثيرا من اللبنانيين لم تكن ترضيهم تلك الشعارات العنصرية البغيضة ضد اللاجئين السوريين، ولا الدور القمعي والتدميري الذي لعبه “حزب الله” في سوريا، لتمكين سلطة حليفه المجرم؟

لكن يبقى الأسوأ أن يتم الدفاع عن تلك الاندفاعة المستهترة بالوطن اللبناني بذريعة أنه كيان صنعه الاستعمار الفرنسي على حساب الجغرافيا السورية، يحدو ذلك غالبا، اصطفاف جديد يروج لأفضلية عودة السلطنة العثمانية ليعود لبنان إلى متصرفيته، وتعود سوريا إلى اتساعها، وكأن الوجود العثماني كان من عظام الرقبة وليس احتلالا أو استعمارا أيضا، وكأن اقتطاع لواء اسكندرون مثلا والسيطرة العسكرية التركية على عفرين وغرب إدلب ليس انتهاكا للجغرافيا السورية وحقوق السوريين الوطنية.

لا يختلف اثنان على أن ما بين سوريا ولبنان من علاقات وروابط يندر أن تتوفر بين شعبين، فعداكم عن قوة واتساع التداخل الجغرافي والديموغرافي، ثمة أواصر قربى ومصاهرة كثيرة وتقاليد اجتماعية متشابهة تجذرت عبر الأجيال. لكن ذلك وللأسف، لم ينعكس بتاريخ صحي مشترك، ولم تسر الأمور عموما على ما يرام بين البلدين، بل شهدت عددا من المشكلات تراكمت عبر عقود جراء تباين الأنظمة والخيارات السياسية والاقتصادية بينهما، وزاد الطين بلة وجعل تلك المشكلات مزمنة وعميقة، دخول النظام السوري بقواته العسكرية الى لبنان عام 1976 لفرض سيطرته ووصايته على هذا البلد والتحكم في مقدراته ومصائر أهله، وتحويله إلى ورقة لتعزيز نفوذه الإقليمي، مستقويا بعناوين متنوعة، منها: تحصين سوريا وجبهة الممانعة من مخاطر إمبريالية وصهيونية محتملة قد تأتي من الخاصرة اللبنانية الرخوة، ومنها الادعاء بوحدة المسار والمصير… إلخ. الأمر الذي تجلى في تعاون وتناغم فريدين بين النظام السوري البائد و”حزب الله”، قمعا وإرهابا واغتيالا، لتطويع الشعبين اللبناني والسوري، ووأد الحلم المشترك لرواد الاستقلال في تأسيس دولتين مستقلتين تقيمان أوثق العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية بينهما، والأسوأ توافقهما على رهن المجتمعين لمشروع خارجي، تجسده مصالح إيران التوسعية ومأربهم في تحويل الأوطان إلى أوراق قوة يستثمرونها في معارك تعزيز السيطرة الداخلية والتنافس على النفوذ الإقليمي، حتى لو أدى الأمر إلى تفتيت هذه الأوطان طائفيا، وزرع التفرقة والحقد بين أبنائها، ولا يغير هذه الحقيقة بل يؤكدها اعتمادهم على خطاب أيديولوجي يقوم على استثارة العواطف الوطنية وإشعال فتيل الحماسة في مواجهة الأجنبي، وعلى شعارات تحرير فلسطين ومواجهة الصهيونية والتصدي للشيطان الأميركي الأكبر، وهي شعارات فارغة كشف الناس زيفها وعافتها نفوسهم.

وربطا بنتائج الحرب الإسرائيلية على لبنان وما خلفته من تحجيم وزن “حزب الله” ودوره المهيمن، وربطا بسقوط نظام الإجرام السوري وحلول سلطة جديدة مؤقتة في إدارة البلاد، لم تعد سوريا ذاتها ولم يعد لبنان نفسه، فقد تحرر البلدان من منظومة الوصاية الإيرانية، ومُنح كل منهما فرصة لتصحيح علاقة السلطة مع المجتمع والاحتكام لدولة القانون والمؤسسات، وهي فرصة ثمينة، من دون استغلالها لا يمكن لأي منهما معالجة الأزمات المستفحلة وحالة الخراب المعممة، الأمر الذي يستدعي من الجارين المبادرة لصياغة علاقة مختلفة بينهما على أسس جديدة تأخذ في الاعتبار نتائج ما حصل، وتقضي باحترام إرادة كل بلد في اختيار حاضره ومستقبله ما يمهد الطريق للانتقال إلى بناء قاعدة من الثقة والتفاعل الخلاق بين الشعبين.

ونسأل، استنادا لما سبق: أليس أعداء الحرية والتنوع، ومدمنو الإلغاء والإقصاء، ومخربو فرص الخلاص للشعبين اللبناني والسوري، هم المستفيدون أساسا من الطعن اليوم بالوطن اللبناني ومن تجاهل التطورات السياسية والتاريخية التي شهدتها المنطقة خلال القرن الماضي، وتاليا تجاهل واقع استقلال لبنان وسيادته المعترف بهما دوليا منذ عام 1943؟ثم أليس من مصلحتنا جميعاتجنب جر العلاقات السورية- اللبنانية إلى مزيد من التصعيد والتوتر، ولنقل إننا في غنى عن تسعير هذا الجو من العداء والتنابذ بين اللبنانيين والسوريين وما قد يرافقه من تداعيات سلبية على حاضرهما ومستقبلهما، في الوقت الذي يعاني فيه الشعبان من ويلات الحروب ومن تربص أعداء كثر بهما؟

هل سيطول الزمن كثيرا حتى نتعلم مما كابدناه أن الاعتراف بالآخر وحقوقه هو المدخل الوحيد والدائم لكسب تعاطفه وصداقته، وأن خير ما يفيدنا، كلبنانيين وكسوريين، هو تعزيز أواصر العلاقات الندية والاحترام المتبادل،وبناء علاقات متحررة من كل قهر وتمييز وتعالٍ،وما عدا ذلك كان وسوف يبقى ضارا ومدمرا؟

وتالياألا يفترض أن نتواضع قليلا ونتعظ مما وصلنا إليه؟ ومن تجارب كثيرة لا تزال مرارتها طازجة، جراء الطعن في حقائق الآخرين وحقوقهم وافتعال العداء معهم استقواء بحسابات أنانية وأوهام تاريخية؟

ثم ألا يستحق أن نأخذ في الحسبان حساسية هذه الاندفاعة المرضية التي تهتك استقلال لبنان في الوعي الجمعي اللبناني، في تغذية التطرف السري، وتأثير ذلك على العلاقات المعقدة والمشوهة التي فرضت عنوة بين البلدين؟

لم يقرأ التاريخ جيدا من يحمّل الشعبين السوري واللبناني التداعيات السلبية والشروخ الحاصلة بينهما، والتي ما كان لها أن تتعمق لولا سياسات القمع والهيمنة والفساد التي مارسها النظام السوري البائد وحلفاؤه في لبنان، ولم يقرأ التاريخ جيدا من يكرر إثارة الشكوك باللبنانيين ويدعي أن غالبيتهم لا تكنّ ودا لسوريا وللشعب السوري، فالشعب اللبناني رغم معاناته من ارتكابات النظام السوري البائد، أظهر في أهم المحطات والمحن السورية حرصا وعزما لافتين في إسناد الشعب السوري في نكباته.

عام 2006، وقّع ما يقارب الثلاثمئة مثقف وسياسي وناشط سوري ولبناني إعلانا مشتركا طالبوا فيه بتصحيح جذري للعلاقات السورية- اللبنانيةالتي أصابها الخلل نتيجة الوجود العسكري والأمني السوري طيلة عقود.وهو إعلان يبدأ بالاعتراف السوري النهائي باستقلال لبنان وبترسيم الحدود والتبادل الدبلوماسي بين البلدين، ويصل إلى المطالبة بالاحترام المتبادل لأي اختلاف في الأنظمة السياسية والاقتصادية واعتباره مصدر غنى وتنوع يعزز فرص التعاون والتنسيق والتكامل بينهما. وقد جاء رد فعل النظام السوري البائد سريعا حين شن حملة قمعية واضحة ضد الموقعين السوريين على الإعلان، اعتقالا وحصارا وفصل العشرات منهم من أعمالهم أو تسريحهم من وظائفهم.

أما اليوم، وبعد أن جرت مياه كثيرة خلال السنوات المنصرمة، فلا يزال بعض المعارضين السوريين يصرون على الاستهتار بالوقائع الملموسة، ويتعمدون نشر الشكوك والأوهام حول الوطن اللبناني وبأنه جزء من سوريا، وكأنهم يتقصدون نسف جوهر “إعلان بيروت- دمشق، دمشق- بيروت مع أن بعضهم لم يعارضه يومها، بل كان من أشد المتحمسين له، بما يعني التنكر للخيار الصائب الذي رسمه هذا الإعلان في بناء علاقات صحية وعادلة بين سوريا ولبنان، على قاعدة جديدة من احترام الحقوق والمصالح المشتركة واختيار مسار التفاعل والتكامل بين جارين لا غنى لأحدهما عن الآخر، الأمر الذيبات يتطلب اليوم، وبعد ما حصل من متغيرات نوعية، انفتاحا سياسيا جريئا وغير مشروط بين الدولتين وعملا ثقافيا ومدنيا وشعبيا في سوريا ولبنان، في محاولة التخفيف من حالة الاحتقان السائدة، وإعادة نشر صورة صحية لعلاقات بين البلدين على أسس ديمقراطية تضمن المصالح المشتركة والاستقرار المتبادل، ما قد يمهد لتكريس وعي جديد يتمثل جيدا دروس وحقائق ما حدث ويحدث، ولا ينساق في دوامة الفعل ورد الفعل أو خلف تحليلات تآمريه أو وراء أوهام أنانية لا طائل تحتها.

المجلة

———————————

لا تدعوا التنافس الجيوسياسي يفسد عملية الانتقال في سوريا/ فولكر بيرتيس

على الجهات الخارجية أن تضع احتياجات البلاد فوق مصالحها الضيقة

الثلاثاء 28 يناير 2025

مع سقوط النظام في سوريا، تواجه البلاد مرحلة انتقالية مع تطلع القوى الدولية إلى تحديد علاقاتها مع القيادة الجديدة. أبرز القضايا هي تجاذب القوى العالمية حول كيفية دعم الانتقال السياسي، مع تزايد الانقسامات في مجلس الأمن الدولي، وصعوبة الاتفاق على الدعم في ظل الظروف المتغيرة. تركيا، وروسيا، ودول الخليج، والاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، جميعهم يضغطون على القيادة السورية الجديدة لتحقيق مصالحهم، مما قد يعوق استقرار العملية الانتقالية.

في ديسمبر (كانون الأول) 2024، انهار نظام بشار الأسد مثل بيت من ورق. استولت قوات المعارضة بقيادة مقاتلين من “هيئة تحرير الشام” على مدينة حلب شمال سوريا، قبل أن تتجه جنوباً في هجوم خاطف. وعند وصول تلك القوات إلى دمشق بعد أكثر من أسبوع بقليل، بات واضحاً أن قوات الأمن التابعة للحكومة لم تكن مستعدة للقتال من أجل النظام، ففر الأسد، بعد ما يقرب من 25 عاماً في السلطة، إلى موسكو. وأصبح زعيم “هيئة تحرير الشام”، أحمد الشرع، رئيساً للدولة السورية بحكم الواقع، وعين حكومة موقتة، وأعلن جدولاً زمنياً للانتقال السياسي في البلاد.

الهجوم الذي شنته قوات المعارضة استفاد من التحضير الدقيق ودعم تركيا، التي تحتل مناطق في شمال سوريا وتوفر طريق الوصول الآمن الوحيد إلى إدلب، حيث كانت “هيئة تحرير الشام” متمركزة. ومع ذلك، لم يتوقع معظم المراقبين سقوط النظام بهذه السرعة. لقد قللوا من تقدير اعتماد الأسد المستمر على الداعمين الخارجيين الذين ساعدوه في البقاء خلال الحرب الأهلية السورية، التي بدأت عام 2011 بعد أن قمعت الدولة المظاهرات السلمية بعنف، لكن الصراعات الدائرة في أماكن أخرى جعلت حلفاء الأسد الرئيسين غير قادرين أو غير راغبين في الدفاع عنه: فروسيا كانت منشغلة بحربها في أوكرانيا، وإيران منهكة وعاجزة عن حماية وكلائها، و”حزب الله” في لبنان ضعيفاً بسبب معركته مع إسرائيل.

بعد سقوط النظام، سعى ممثلون عن الولايات المتحدة وأوروبا والأمم المتحدة للتعرف على قادة سوريا الجدد. ونظرت المنظمات الإنسانية العاملة في إدلب إلى “هيئة تحرير الشام” وحكومتها المحلية بحكم الأمر الواقع باعتبارهما فاعلين براغماتيين. ومع ذلك، فإن “هيئة تحرير الشام” كانت نشأت في الأصل في منتصف العقد الثاني من القرن الـ21 من جبهة النصرة، الفرع السوري لتنظيم القاعدة. ومنذ ذلك الحين، أعلنت الهيئة قطع علاقتها بتنظيم القاعدة وحاولت التخلص من جذورها المتطرفة، لكن الولايات المتحدة والأمم المتحدة وغيرهما، ما زالوا يصنفونها كمنظمة إرهابية. ونتيجة لذلك، أبدى صانعو السياسات والمسؤولون قلقاً في شأن نوايا أعضائها وأيديولوجيتهم، متخوفين من احتمال المساهمة في قيام دولة جهادية.

إن سوريا تقف على أعتاب المجهول، ويبدو أن الغالبية العظمى من السوريين، بمن فيهم رجال الأعمال والسلطات الدينية في البلاد، وأولئك العاملون في جهازها البيروقراطي الكبير، ولكن المتمرس، يؤيدون الانفصال التام عن الفساد وسوء الإدارة اللذين كانا سائدين خلال حكم الأسد. ولكي تؤدي هذه المرحلة الانتقالية في سوريا إلى تغيير إيجابي، لا يمكن أن تصبح ساحة لصراع جيوسياسي. فعلى مدى عقود من الزمان، نبذ عدد من القوى الإقليمية أو العالمية نظام الأسد، وحاولوا تغييره من دون جدوى، أو تعاملوا معه، أو التفوا حوله، من أجل تحقيق مصالحهم الخاصة. لكن لم يعد بإمكان هذه الأساليب أن تستمر، وسوريا تستحق فرصة للمضي قدماً والتخلص من بؤس سنوات حكم الأسد، حتى لو لم يتضح بعد أي نوع من القادة سيكون عليه الشرع أو شخصيات أخرى من “هيئة تحرير الشام”. إذا ركزت الحكومات الأجنبية والهيئات الدولية على مصالحها الضيقة وفرضت شروطاً مرهقة على المساعدات، فمن المؤكد أن عملية الانتقال في سوريا ستتعثر. عوضاً عن ذلك، يجب عليها دعم سوريا في جهودها الرامية إلى إعادة بناء اقتصادها والانفتاح على العالم وإحلال السلام والوئام داخلياً.

مد يد العون

بعد سنوات من الحرب والقمع والدمار والتهجير التي أدت إلى تدهور الأوضاع الاجتماعية الاقتصادية والإنسانية في سوريا، ستحتاج البلاد إلى الدعم الدولي لإنجاح انتقالها السياسي. ولن يتسنى لها أن تبدأ في إعادة الإعمار وإقناع اللاجئين والشركات المنفية بالعودة وجذب الاستثمارات إلا من خلال الاستقرار. وسيكون للأمم المتحدة، على وجه الخصوص، دور محوري تلعبه، ويتعين على حكام سوريا الجدد أن يسعوا بفاعلية إلى الحصول على دعمها.

تمتلك الأمم المتحدة بالفعل مبعوثاً خاصاً لسوريا، فضلاً عن قرار صادر عن مجلس الأمن في عام 2015 كلف المنظمة الدولية بمهمة تسهيل عملية سياسية لإنشاء “حكم موثوق وشامل وغير طائفي” في سوريا. لا يزال هذا الهدف يتماشى مع تطلعات الشعب السوري، لكن الآليات الموضوعة لتحقيقه لم تعد صالحة، إذ إن القرار كان صدر للتعامل مع نظام لم يعد موجوداً الآن. وعلى مدار سنوات، عمل المبعوث الخاص على تسهيل المحادثات حول دستور جديد أو منقح لسوريا بين وفود صغيرة من الحكومة وفصائل المعارضة المتمركزة في الغالب في تركيا. لكن هذه المحادثات لم تسفر عن أية نتائج وأصبحت بمثابة بديل عن مفاوضات جوهرية حقيقية حول السلام والتغيير السياسي الفعلي. علاوة على ذلك، فإن “هيئة تحرير الشام”، الكيان الذي يتولى السلطة الآن، كانت مستبعدة تماماً من أية عمليات تديرها الأمم المتحدة، نظراً إلى تصنيفها كمنظمة إرهابية.

في الواقع، يسعى القادة الجدد إلى طي صفحة الماضي، سواء في ما يخص نظام الأسد أو في ما يتعلق بنهج المجتمع الدولي تجاه سوريا خلال العقد الأخير. وبدأ الشرع وحكومته الانتقالية في التحضير لعقد مؤتمر وطني لمناقشة مستقبل البلاد والاتفاق على دستور جديد، بيد أن فصائل المعارضة التي تعاملت معها الأمم المتحدة وعدد من العواصم العالمية لن تكون ممثلة ككيانات منفصلة. ومع ذلك أشار القادة الجدد إلى أنهم سيكونون منفتحين على دمج أفراد من فصائل المعارضة هذه في المؤتمر وفي عملية الانتقال الأوسع نطاقاً. ويبدو أن الشرع وشركاءه يدركون الطابع التعددي للمجتمع السوري المتنوع عرقياً ودينياً، ويعلمون أن عليهم أن يحترموا هذا التنوع إذا أرادوا بناء شكل مستدام من أشكال الحكم، والواقع أن الجماعات المسلحة التي أطاحت بالنظام هي نفسها ائتلاف يضم خلفيات أيديولوجية وإقليمية مختلفة. في الوقت الحالي، يبدو أنها تحظى بدعم شريحة واسعة من المجتمع السوري، ولكن مع انتهاء النضال الموحد ضد النظام المخلوع، ستظهر حتماً خلافات حول السلطة والموارد.

يجب أن تتجاوب الأمم المتحدة مع هذا المشهد المتغير، ونظراً إلى الانقسامات داخل مجلس الأمن، فإن الاتفاق على قرار جديد سيكون أمراً صعباً، ولكن من الممكن تحقيقه، خصوصاً إذا تجنبت الحكومة السورية الجديدة الانجرار إلى صراعات جيوسياسية. ويتعين على مجلس الأمن أن ينشئ بعثة جديدة على الأرض أو يحول مكتب المبعوث الخاص في جنيف إلى بعثة مقرها سوريا مع تفويض واضح لدعم عملية الانتقال. وسيشمل ذلك تقديم الدعم الفني لأية عمليات سياسية أو دستورية بقيادة سورية، مع الاستفادة من تجارب هيئات الأمم المتحدة المختلفة في عمليات الانتقال السياسي وبناء السلام في بلدان أخرى. وينبغي للبعثة في سوريا أن تساعد أيضاً في إرساء سيادة القانون من خلال بناء جهاز شرطة موثوق وإصلاح القطاع الأمني، فضلاً عن إصلاح المنظومة القانونية، وحماية حقوق الإنسان، وإيجاد سبل لتحقيق المصالحة والتوافق. ووفقاً لتقديرات البنك الدولي، فإن أكثر من نصف سكان سوريا نزحوا داخلياً أو خارجياً منذ بداية الحرب الأهلية، مما يستلزم وضع خطط فعالة لإعادة دمج العائدين. ويمكن للأمم المتحدة الاستفادة من خبرات الدول الأعضاء مثل كولومبيا أو جنوب أفريقيا لدعم عملية عدالة انتقالية تتعامل مع انتهاكات حقوق الإنسان المروعة التي ارتكبها نظام الأسد، والمساعدة في منع الهجمات الانتقامية بين المجتمعات السورية أو داخلها. وعلاوة على ذلك، ينبغي للأمم المتحدة أن تواصل جهودها الرامية إلى تنسيق المساعدات الإنسانية وتعزيز التنمية والاستدامة.

لكن الدعم المادي لإعادة إعمار البلاد سيقع في الغالب على عاتق الجهات التي لديها مصلحة خاصة في استقرار سوريا، على غرار دول الخليج العربي، والاتحاد الأوروبي، وربما الولايات المتحدة. إن احتياجات سوريا هائلة، وتقدر بمئات المليارات من الدولارات. إذ انخفض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في سوريا إلى أقل من النصف منذ بداية الحرب الأهلية. وتدهور النظام الصحي بصورة كبيرة. ودمرت المناطق السكنية والبنية التحتية الاجتماعية في المدن التي كانت تسيطر عليها المعارضة. وفي سبيل تحفيز فرص العمل والتعافي الاقتصادي، يجب أن تركز جهود إعادة الإعمار أولاً على البنية التحتية للطاقة والرعاية الصحية والإسكان. ولا بد من أن يكون هذا الدعم قوياً وعاجلاً، إذ إن أي تأخير في تحقيق انتعاش اقتصادي واضح وسريع من شأنه أن يؤجج السخط وبالتالي يعرض انتقال سوريا نحو نظام سياسي شامل وتعددي للخطر، مثلما حصل في الانتقالات الفاشلة في تونس والسودان بعد الإطاحة بقادتهما في عامي 2011 و2019 على التوالي.

لقد فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات واسعة النطاق على نظام الأسد، بما في ذلك حظر الأسلحة، والقيود على المعاملات المالية، وضوابط صارمة على الصادرات، إضافة إلى حظر الاستثمارات في قطاع الطاقة السوري واستيراد النفط السوري. والآن بعد رحيل الأسد، أصبحت هذه التدابير عقبات رئيسة أمام إعادة تشغيل عجلة اقتصاد البلاد ويجب إما رفعها أو تعليقها على الفور. لكن هذه العقوبات تختلف عن مئات العقوبات الأخرى المفروضة على الأفراد أو الكيانات التي ساعدت في إثراء عائلة الأسد أو تنفيذ سياسات النظام القمعية، ويجب أن تظل هذه العقوبات قائمة لمساعدة السلطات السورية الجديدة على ملاحقة الجناة واستعادة الأموال المنهوبة.

اتركوا التنافس الجيوسياسي جانباً

إن القوى العالمية قد تميل إلى استغلال بدايات سوريا الجديدة لتحقيق مكاسبها الخاصة، لكن جر الحكومة الموقتة إلى صراعات إقليمية أو دولية قد يؤدي إلى إفشال عملية الانتقال السياسي. في الحقيقة، لا تشكل الجغرافيا السياسية أولوية حالية لقادة سوريا الجدد. فعلى سبيل المثال، امتنع أعضاء الحكومة الانتقالية، على رغم خلفياتهم الإسلامية، عن استخدام خطاب معاد لإسرائيل. فقد صرح وزير الخارجية السوري الجديد أسعد حسن الشيباني لقناة “الجزيرة” في أول أيام السنة الجديدة أن سوريا تسعى إلى “السلام والازدهار” وأن أية “قضايا عالقة بين سوريا وإسرائيل”، بما في ذلك التوغلات الإسرائيلية خارج خطوط فض الاشتباك التي تفصل بين البلدين، ستحل من خلال “مفاوضات سلمية”. إن استخدام مثل هذه اللغة يعد أمراً لافتاً، وكذلك الإشارة إلى إسرائيل باسمها بدلاً من “الكيان الصهيوني” الذي كان شائعاً في عهد نظام الأسد.

واستطراداً، قررت الحكومة الانتقالية التعامل بحذر مع روسيا، الداعم الخارجي الرئيس للنظام السابق. فبعد سقوط الأسد، انسحب الجنود الروس، المنتشرون في مختلف أنحاء البلاد، بسرعة إلى القاعدة الجوية والبحرية الروسية على ساحل البحر الأبيض المتوسط ​​في سوريا. ووفقاً لسلطات الجمارك السورية، ألغت الحكومة منذ ذلك الحين اتفاقاً استثمارياً مدته 49 عاماً مع شركة “ستروي ترانس غاز” الروسية لإدارة وتوسيع ميناء طرطوس الذي يضم القاعدة البحرية الروسية، لكن لا يزال من غير الواضح ما يعنيه هذا القرار فعلياً بالنسبة إلى حقوق الرسو للسفن الروسية، أو بالنسبة إلى مستقبل القاعدة الجوية الروسية في حميميم. قد ترغب السلطات السورية في التفاوض حول التفاصيل أو حتى السماح ببعض الوجود الروسي المحدود في مقابل الحصول على دعم موسكو في مجالات أخرى. ومع ذلك، قد تقرر روسيا من تلقاء نفسها أن الانسحاب الكامل لقواتها أكثر أماناً، نظراً إلى الدور الحاسم الذي لعبه سلاحها الجوي في تدمير المدن السورية الكبرى وما خلفه ذلك من كراهية تجاهها.

في المقابل، أعاد حكام سوريا الجدد العلاقات الدبلوماسية مع أوكرانيا، بل وتحدثوا حتى عن “شراكة استراتيجية” بين البلدين. ومع ذلك لا ترغب سوريا في أن تجد نفسها عالقة وسط تنافس جيوسياسي، ومن المؤكد أن قادتها لا يحتاجون إلى مواجهة مع روسيا، أو دعمها لما تبقى من نظام الأسد. وتهدف الحكومة الجديدة إلى إبقاء روسيا خارج الشؤون الداخلية السورية، من دون إغلاق الأبواب أمامها. وهي تعترف بأن روسيا “دولة مهمة في العالم”، على حد تعبير الشيباني، وترى فيها شريكاً مستقبلياً محتملاً. وقد تسعى حتى إلى كسب ود روسيا الآن، إذ إن سوريا لن تكون قادرة، في الأقل خلال الأمد القريب، على استبدال أسلحتها الحالية، التي تكاد تكون جميعها روسية، أو الاستغناء عن الخبرات الروسية المرتبطة بالبنية التحتية المدنية التي بنتها موسكو، بما في ذلك محطات الطاقة والسدود.

ستستفيد الولايات المتحدة ودول غربية أخرى إذا أغلقت سوريا القواعد الروسية، مما يحد من قدرة وصول موسكو إلى البحر الأبيض المتوسط وأفريقيا، ولكن ينبغي ألا تضغط هذه الدول على دمشق للقيام بذلك، وألا تربط الدعم أو تخفيف العقوبات بأي مواقف تتعلق بالسياسة الخارجية، فمطالب مثل هذه سترهق الانتقال السياسي في سوريا، وتصرف الانتباه عن الأولويات التنموية الأكثر إلحاحاً، وترسل رسالة إلى الشعب السوري مفادها بأن العقوبات على نظام الأسد لم تكن تهدف في الأساس إلى إنهاء القمع الوحشي، بل إلى تحقيق أجندة جيوسياسية غربية، وهو السرد الذي روج له النظام القديم بين مواطنيه لسنوات. وعلاوة على ذلك، إذا أسهم السعي إلى تلبية الشروط الغربية في دفع الحكومة الانتقالية إلى صراع مفتوح مع روسيا أو أحد داعمي الأسد الآخرين، فلن تكون أية دولة غربية مستعدة للتدخل لمنع عدم الاستقرار الذي سيترتب على ذلك.

واستكمالاً، يجب على الجهات الدولية الأكثر تأثيراً في الشأن السوري، والأكثر انخراطاً مع الجاليات السورية، أن تمارس درجة كبيرة من ضبط النفس. فتركيا، على سبيل المثال، هي المستفيد الرئيس من التغيير في سوريا، ولكن بعض أفعالها قد يشكل خطراً على الانتقال السياسي. في الواقع، تسعى أنقرة إلى تحقيق هدفين متناقضين في سوريا: فهي تريد جاراً مستقراً، في الأقل لكي تضمن عودة معظم اللاجئين السوريين، البالغ عددهم أكثر من 3 ملايين في تركيا، إلى وطنهم، لكنها توسع في الوقت نفسه حربها التي دامت لعقود ضد “حزب العمال الكردستاني” (PKK) إلى الأراضي السورية من خلال شن حرب، جزئياً بالوكالة، ضد “قوات سوريا الديمقراطية” (SDF)، وهو تحالف يقوده الأكراد ويضم الميليشيات المدعومة من الولايات المتحدة. ويتعين على الولايات المتحدة وأوروبا أن تجريا محادثة صريحة مع أنقرة، الحليف في الناتو، حول مصالح تركيا ومخاوفها المتعلقة بسوريا، والتوضيح أن تحقيق انتقال مستقر يستلزم منح الأكراد السوريين، بمن في ذلك المجموعات التي أدارت جزءاً كبيراً من الشمال الشرقي خلال العقد الماضي، دوراً في الحكومة السورية.

ويتعين على الدول الأوروبية أيضاً أن تتصرف بمسؤولية لكي تتجنب زعزعة استقرار عملية الانتقال في سوريا. فبعد تركيا ولبنان، تستضيف أوروبا أكبر عدد من اللاجئين السوريين. وبدلاً من الانصياع للتيارات الشعبوية والمطالبة بعودة سريعة للاجئين، يجب على القادة الأوروبيين صياغة سياسات يمكن من خلالها للسوريين النازحين المساهمة في إعادة إعمار وطنهم سواء عادوا أم لا، وبالتالي المساعدة في بناء علاقات متينة قائمة على الشعوب بين سوريا وأوروبا.

إن دعم عملية الانتقال يعني أيضاً احترام سيادة سوريا، ففي الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية (المعروف أيضاً باسم داعش)، على سبيل المثال، اعتمدت الولايات المتحدة والتحالف الدولي ضد “داعش”، وهي مجموعة تقودها واشنطن وتضم أكثر من 80 دولة عضواً، على “قوات سوريا الديمقراطية” باعتبارها شريكاً رئيساً لها على الأرض في سوريا. يجب على التحالف دعوة سوريا للانضمام إلى صفوفه، مما سيمثل اعترافاً بالسيادة السورية ومسؤولية الحكومة في المساعدة على التصدي للتهديد المتبقي من “داعش”. لدى الولايات المتحدة وجود عسكري محدود في سوريا لمحاربة خلايا “داعش” النشطة، وينبغي لهذه القوات أن تبقى، وأن تواصل عملها بالتنسيق مع “قوات سوريا الديمقراطية” ومع الحكومة الجديدة في دمشق. من جانبها، يجب على الحكومة السورية أن تتولى، عندما تصبح جاهزة، إدارة مخيمي الاعتقال في الهول وروج في الشمال الشرقي، اللذين تديرهما “قوات سوريا الديمقراطية” ويحتجزان نحو 9 آلاف مقاتل من “داعش” ونحو 40 ألف نازح.

في نهاية المطاف، سيقع على عاتق القادة الجدد في سوريا مهمة إبقاء البلاد على مسار يضمن استمرار المساعدات الدولية، ولكن أولاً يتعين على العالم أن يمهد الطريق، وأن يقاوم إغراء السماح للمصالح الجيوسياسية الضيقة بعرقلة التعاون اللازم لإعادة إعمار سوريا. وفي سبيل تحقيق السلام والاستقرار، تحتاج سوريا إلى مساعدة من الشركاء الحاليين والمستقبليين، ليس أولئك الذين يفرضون رؤاهم عليها، بل الذين يساعدون البلاد في تحقيق رؤيتها الخاصة.

مترجم عن “فورين أفيرز” 24 يناير (كانون الثاني) 2025

فولكر بيرتيس هو زميل زائر مميز في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية.

—————————–

التعامل مع الإسلاميين… الوصفة المجرّبة الفاشلة/ محمد أبو رمان

28 يناير 2025

يمثّل الإسلام السياسي اليوم قوةً محرّكة ضدّ الوضع القائم في دول عربية كثيرة، ويشكّل الخيار الرئيس لأغلب الشعوب العربية في الاحتجاج وعدم القبول بالوضع الحالي، وفي البحث عن أيّ أفق سياسي. تاريخياً وجدت الدول العربية صعوبةً شديدةً في القضاء على هذا التيّار، فمنذ ما يزيد على 70 عاماً، بات “الإسلام السياسي” خصماً عنيداً، يكاد يكون لسان حال عديد من الأنظمة العربية: ما لهذا العدو لا يموت؟! هل استنفدنا الأدوات كلّها في هزيمته والقضاء عليه وإيجاد بدائل منه، علمانية أو حتى دينية مختلفة، من طريق القوة أو الاحتواء أو العسكرتارية أو السياسة؟! ما السرّ وراء هذا الشبح الإسلامي، الذي تعجز الدول العربية عن مواجهته، ويرتبك الغرب في التعامل معه، وتراه إسرائيل عدوّاً متربّصاً أخطر من الأنظمة الحالية على المدى البعيد؟!

المفارقة أنّ كثيراً من الباحثين والخبراء الذين تنبّأوا في أكثر من مناسبة بانتهاء الإسلام السياسي، سواء في منتصف التسعينيّات، ثمّ في مرحلة ما بعد “الربيع العربي” أيضاً أساؤوا التقدير والتحليل، فالإسلاميون كلّما بدوا وكأنّهم في خسارات كبيرة، وأنّهم قوىً آفلةٌ، يعودون بصيغ واستراتيجيات وقيادات جديدة، ويعود الباحثون مرّة أخرى لمحاولة فهم هذه الظاهرة وأسبابها وسياقاتها، فإذا نجحت الأنظمة العربية في التعامل مع القوى الإسلامية عبر العملية السياسية وإقصائهم منها، أو عبر إضعافهم في صندوق الاقتراع، يخرج لهم الفريق الآخر من الإسلاميين المسلّحين، الذين يرون السلاح والثورة طريقين وحيدين لمواجهة هذه الأنظمة وأجهزتها الأمنية، وإذا تراجع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) فترةً، وقرّر أن يعيد بناء قدراته، وانتظار الظرف الأنسب، تعود حركة حماس إلى الواجهة في عملية “طوفان الأقصى”، وتهزّ، ليس إسرائيل فقط، بل المنطقة، بل المجتمع الدولي بأسره.

وعندما يصمت العالم العربي ويعجز عن مواجهة إسرائيل، ويكتفي بالنظر إلى المجزرة التي لحقت بالشعب الفلسطيني في غزّة، فإن ذلك يؤذن بصعود جديد للإسلامية الراديكالية، كما حدث مع جميع موجات هذه الحركات، عبر العقود السابقة، ثمّ تبدأ “نسخة جديدة” غير مسبوقة بالبروز، هي الجهادية المحلّية، هيئة تحرير الشام، التي أسقطت نظام بشّار الأسد. كذلك، لم يعد الإسلاميون لاعباً محلّياً، بل أصبحوا فاعلاً إقليمياً مهمّاً، وجزءاً من السياسات الدولية والإقليمية، فصعود هيئة تحرير الشام يرتبط بالدور التركي في المنطقة، بينما حزب الله في لبنان، وكتائب القسّام في غزّة، جزء من المحور الإيراني. حتى في داخل “حماس” نفسها، هنالك جناح أقرب إلى الإيرانيين وآخر إلى الأتراك.

من الواضح أنّه بعد ما يقارب من عقد ونصف من “الربيع العربي” والثورة المضادة، فإنّ الإسلاميين لم ينتهوا (ولن يتراجعوا)، ليس بالضرورة لأنّهم أقوياء جدّاً، أو يقدّمون مشروعات مستقبلية تحمل الحلول والآفاق المتاحة، بل لأنّهم يمثّلون الوجه الآخر لأزمة النظام الرسمي العربي على صعيد الشرعية السياسية والتنمية، والفشل في التعامل مع التحدّيات الداخلية والخارجية. فالإسلاميون هم البديل الوحيد حالياً المتاح أمام الشرائح الغاضبة والمحبطة من المجتمعات والشعوب العربية. فالحكومات التي قايضت الأمن بالديمقراطية والحرّية، جعلت من الأمن سلاحاً قاسياً مهيناً لكرامة الإنسان العربي، ولم تنجح في توفير الأمن الشمولي بأبعاده الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ولم تقدّم أيَّ شيء لأهل غزّة في مواجهة حرب الإبادة الإسرائيلية، بالرغم من أنّ الشعوب دفعت من ثرواتها ثمناً باهظاً وكبيراً، على حساب الرفاه والحرّية، بذريعة بناء جيوش عربية قوية، والأسلحة الحديثة التي لم ترها الشعوب إلّا في معاركَ داخلية، كما يحدث في السودان وليبيا، وحدث سابقاً في سورية. لم تعد لعبة “شيطنة الإسلاميين” قادرةً على إقناع جيل الشباب، الذي يحمل عبء الفشل العربي في السياسة والاقتصاد والتنمية والحرّية، بأنّ الوضع الراهن أفضل من التغيير.

وعلى النقيض من مقولة ماركس التاريخية “الدين أفيون الشعوب”، فإنّ الوازع الديني – العاطفي، الذي توظّفه الحركات الإسلامية في خطابها التعبوي ضدّ الوضع القائم بات أقرب إلى “لاهوت التحرير”، ما دامت الأنظمة القائمة لا تقدّم خيارات مقنعة على صعيد الديمقراطية والحرّية والعدالة الاجتماعية، أو حتى مواجهة التحدّيات الخارجية والإقليمية، والقوى السياسية الأخرى، مثل الليبراليين واليساريين، لا تزال عاجزةً عن تقديم بدائلَ شعبيةٍ للإسلام السياسي، الذي لا يزال منذ أكثر من ثلاثة عقود هو القوى الشعبية المهيمنة في دولٍ عديدة.

الجانب الآخر من قوة الإسلاميين مرتبط بعدم حسم مسألة العلاقة بين الدين والدولة في العالمين العربي والإسلامي، ما يشكّل مصدرَ قوة لهذه التيّارات، التي يسهل عليها توظيف الدين في مواجهة “التيّارات العلمانية”، بخاصّة أنّ استطلاعات الرأي في العالم العربي من العديد من الجهات، مثل الاستطلاع الذي تجريه مؤسّسة فريدريش أيبرت، والباروميتر العربي، تؤشّر على أنّ الدين لا يزال حاضراً بقوة في المجال العربي، وأنّ محاولات العلمنة التي جرت على مرّ عقود طويلة لم تكن ناجحة، لأنّها كانت ذاتَ طابع قسري من أعلى إلى أسفل، كما يشير نادر هاشمي في كتابه المهمّ “الإسلام والعلمانية والديمقراطية الليبرالية”.

بكلمات أخرى، الطريق إلى تجاوز الإسلام السياسي، كما أثبتت التجارب السابقة بصورة كبيرة، ليس الإقصاء أو التحجيم أو السجون أو الاعتقالات أو حتى النفي، بل الإدماج أكثر في العملية السياسية، واستدخالهم في اللعبة، وتطوير خطاب إسلامي متصالح مع الديمقراطية والتعددية، وأكثر واقعيةً، وهي عملية مفتاحها مرتبط بالديمقراطية، العنصر الرئيس الغائب في هذه المعادلة. وعلى النقيض من ذلك، فإنّ الحلول الأمنية لم تؤدِّ إلا إلى تعزيز الأزمة العربية، والعجز عن بناء دول مدنية حديثة تتأسّس على قيم المواطنة والتعددية

العربي الجديد

لتحميل كتاب

الإسلام والعلمانية والديمقراطية الليبرالية”/ نادر هاشمي

——————————-

حرب المناشير: النساء في مواجهة الهيمنة على الفضاء العام/ فرح يوسف

27.01.2025

الجدران التي تحولت إلى لوحات إرشادية تُحدد ما يجب أن ترتديه النساء، أصبحت ساحة للصراع على معنى الفضاء العام ومعايير الحرية. هذا الاشتباك لا يكشف فقط عن معركة على التفاصيل اليومية، بل يوضح أن الانتقال الديمقراطي في سوريا يمكن أن يبدأ من هنا، من جدران تصر على أن تكون شاهدة على الحرية، لا أدوات للقمع.

على مدار عقود، وبصورة خاصة في السنوات الخمسة عشرة الأخيرة، خاضت النساء في سوريا معارك صعبة لنيل حقوقهن السياسية والمدنية. لكن مع كل خطوة إلى الأمام، تظهر موجات جديدة تسعى لإعادة النساء إلى المربع صفر، فيصبح النقاش محصوراً في قضايا اللباس والمظاهر الخارجية. من بين هذه الممارسات، ما صنفته الإدارة الجديدة على أنه “تصرفات فردية”، مثل حملات دعوية تمثّلت بتعليق منشورات إرشادية في الشوارع تحدد اللباس الشرعي للنساء، وإجراء حملات دعوية ميدانية تتضمن توزيع ألبسة إسلامية على النساء. قوبلت هذه الحملات بمنشورات مضادة تشدد على حرية اللباس للنساء، بمختلف أشكاله.

في خضم هذا المشهد، يبرز سؤال محوري: هل علينا الاستجابة لهذه الموجات التقييدية والانخراط في معركة الرد عليها؟ أم يجب الترفع عنها والمضي قدماً من حيث وصلنا في النضال النسوي؟ النقاش هنا لا يدور فقط حول طبيعة الرد، بل حول جدواه في ظل المشهد السياسي والاجتماعي الحالي. فالانجرار إلى هذا النوع من الجدالات قد يعيد صرف الأنظار عن قضايا المساواة السياسية والاقتصادية. في المقابل، تجاهل هذه التصرفات قد يُفسر كتخاذل أمام محاولات تقويض مكتسبات حققتها النساء بجهود نضالية طويلة، وتكون فاتورته باهظة على المدى الأبعد.

وضع المناشير في سياقها السياسي أو حملات اللباس الشرعي: تصرفات فردية أم منهجية منظمة؟

في معرض التفكير بالسؤال النسوي: نرد أو لا نرد، وكيف نرد؟ يتوجب قراءة هذه “التصرفات الفردية” في سياقها السياسي والاجتماعي الأوسع.

تُظهر السياسات والتصريحات الأخيرة للحكومة الجديدة في سوريا، توجهاً واضحاً نحو إعادة هيكلة أدوار النساء في المجتمع ضمن إطار تقليدي، يُعيد تأكيد ما يجري تقديمه بوصفه “الفطرة الطبيعية” للمرأة. في هذا الإطار، شكّلت تصريحات عائشة الدبس مديرة مكتب شؤون المرأة، وعبيدة أرناؤوط المتحدث باسم الإدارة السياسية التابعة لإدارة العمليات العسكرية في سوريا، مؤشراً أوضح على هذا التوجه. أكدت الدبس ضرورة أن “تتبنى المنظمات النسوية النموذج الذي تسعى الإدارة الجديدة إلى بنائه”، مشيرةً إلى أن “الاختلاف الفكري غير مرحب به” معها، مركزةً على دور المرأة “الفطري” داخل الأسرة. من جانبه، صرح أرناؤوط أن “طبيعة المرأة النفسية والبيولوجية لا تتناسب مع مناصب قيادية مثل وزارة الدفاع”، مما يعكس رؤية تمييزية تُقصي النساء عن الأدوار القيادية.

أما على صعيد السياسات التي تعكس هذا الخطاب، فقد جاءت تعديلات المناهج الدراسية لتلغي شخصيات تاريخية نسائية بارزة مثل الملكة زنوبيا وتهمّش المحتوى الفلسفي، وبرروا هذا التعديل بأنه حذف من مناهج الديانة الإسلامية فقط. إضافة إلى ذلك، انعكست هذه الرؤية في حالات الفصل الجنسين داخل وسائل النقل العام، وهو إجراء يهدف – وفقاً للتبريرات غير الرسمية – إلى فرض معايير اجتماعية جديدة ترتكز على تقاليد الفصل بين الجنسين. كما جاءت تصريحات منسوبة إلى مدير إدارة رخص القيادة، عبد العظيم صادق، شددت على حصر تدريب النساء على القيادة بمدربات نساء، لتعزز هذا النهج، إذ اعتُبر ذلك وسيلة لتقليل التوتر الذي قد تشعر به النساء عند وجود مدربين ذكور، مما يعكس خطاباً يُعيد تعريف أدوار المرأة بناءً على “طبيعتها” المفترضة. ولعل الإشارة الأكثر وضوحاً تتمثل في تعيين شادي الويسي وزيراً للعدل في الحكومة المؤقتة، وعدم التراجع عن هذا التعيين، أو حتى إصدار توضيح حول إشرافه على عمليات إعدام لنساء بتهم “الإفساد والدعارة”، موثقة بالفيديو ومنتشرة على نطاق واسع.

برغم وضوح التوجهات التقليدية للإدارة السورية الجديدة في ما يتعلق بالنساء، إلا أن هناك تخبطاً ملحوظاً وتراجعاً عن بعض التصريحات والإجراءات، يعكس عدم استقرار هذا الخطاب. يبدو أن جزءاً من هذا التراجع يعود إلى ضغط الاحتجاجات الشعبية والنسوية، التي رفضت السياسات التقييدية وحاولت التصدي لمحاولات تقليص حقوق النساء. مع ذلك، هذا التراجع لا يبدو مبنياً على مراجعات فكرية حقيقية أو حوارات مستنيرة تشمل خبيرات نسويات، أو خبراء في قضايا النوع الاجتماعي، بل محاولة لتخفيف حدة الانتقادات في ظل تصاعد الرفض الشعبي لهذه التوجهات.

في المقابل، تجد الإدارة الجديدة نفسها في ورطة معقدة بين إرضاء التيارات التقليدية المتشددة داخلها، التي تسعى إلى فرض رؤية محافظة تقيّد دور النساء، وبين تلبية متطلبات المجتمع الدولي.

صرح العديد من الفاعلين الدوليين بأنهم سيراقبون سياسات الإدارة وأقوالها، مؤكدين أن منح الشرعية للإدارة الجديدة سيكون مشروطاً جزئياً بالالتزام بالمساواة بين الجنسين وضمان حقوق النساء. هذا التوازن بين الضغوط الداخلية والخارجية يضع الإدارة في موقف غير مستقر، حيث تبدو سياساتها مترددة ومجزأة، مما يثير تساؤلات حول جدية التزامها بتعزيز المساواة، ومدى قدرتها على تقديم رؤية تنموية شاملة وعادلة تراعي حقوق النساء ضمن عملية بناء مستقبل البلاد.

تُظهر السياسات والتصريحات الأخيرة للحكومة الجديدة في سوريا، توجهاً واضحاً نحو إعادة هيكلة أدوار النساء في المجتمع ضمن إطار تقليدي، يُعيد تأكيد ما يجري تقديمه بوصفه “الفطرة الطبيعية” للمرأة.

القوى الديمقراطية في قلب المعادلة

هذا الحصر للمصير السياسي في سوريا، بين رؤية الحكومة المؤقتة وضغوط المجتمع الدولي، ليس فقط تقليص للانتقال ورسم المستقبل للطرفين، بل هو أيضاً تجاهل لدور القوى الديمقراطية السورية التي يجب أن تأخذ مكانها المشروع والضروري في هذه المرحلة الحساسة. لا يمكن الحديث عن مستقبل عادل وشامل من دون تمكين هذه القوى من قيادة مشروع تغييري يعتمد على قيم الحرية والكرامة والمساواة. وفي هذا السياق، أجد نفسي مدافعة عن النضال السلمي بكل أشكاله، خصوصاً النسوي منه، الذي يُثبت مرة تلو الأخرى أنه قادر على تفكيك منظومات القمع، وإعادة بناء المجتمع على أسس تعكس تطلعات جميع فئاته. النضال النسوي هو استراتيجية مستدامة لزرع قيم المساواة في عمق العملية التغييرية، وهو ما يُعد ضرورياً في مواجهة محاولات تهميش النساء وإقصائهن عن مواقع القيادة وصنع القرار.

تعكس مسألة “مناشير اللباس”، التي أُطلق عليها بسخرية “حرب المناشير”، بُعداً أعمق يتعلق بالصراع على هوية الفضاء العام في مرحلة ما بعد النزاع. المناشير هنا أداة مقاومة سلمية تعبّر عن محاولات استعادة هذا الفضاء كمنصة للتعددية والتنوع، في مواجهة مساعٍ لفرض أيديولوجيا واحدة تُرسم بأدوات القوة. هذا الشكل من النضال السلمي يكشف عن إدراك لأهمية الرموز والدلالات البصرية في تشكيل الوعي الجمعي، وإعادة تعريف علاقة المواطنين ببيئتهم العامة، خاصة في مجتمعات تسعى للخروج من سنوات طويلة من الهيمنة العسكرية أو الأيديولوجية.

ما يجعل هذا الصراع أكثر تعقيداً هو أن المناشير بدايةً، جاءت من شعور بالدعم من جهات مسلحة تدّعي شرعية دينية وسياسية، حتى وإن لم يكن دعماً معلناً. وهو ما يُبرز أزمة غياب العدالة الانتقالية وآليات الديمقراطية في إدارة المرحلة الحالية. فضاء الشارع، الذي من المفترض أن يكون مساحة للتعبير الحر والتفاعل الاجتماعي، يتحول إلى ميدان لإعادة إنتاج الهيمنة، حيث تُستخدم أدوات ظاهرها بسيط كالمناشير والملصقات، لتثبيت سلطة جديدة تدّعي أحقيتها بإعادة تشكيل المجتمع وفق رؤيتها الأحادية. في هذا السياق، يصبح الدفاع عن التعددية في الفضاء العام مواجهة رمزية لرفض الاستبداد، ومحاولة لتثبيت حقوق المواطنين في رسم ملامح مجتمعهم.

النضال السلمي وأدواته التقليدية، مثل المناشير والملصقات والشعارات في الفضاء العام، يحملان أهمية مزدوجة؛ رمزية وعملية. على المستوى الرمزي، يعبّر النضال السلمي عن قوة الموقف الأخلاقي، حيث يواجه القمع والتسلط من دون اللجوء إلى العنف، مما يجعله أداة شرعية تتحدى سرديات السلطة التي غالباً ما تُبرر إجراءاتها بذريعة حفظ الأمن أو مكافحة التمرد. هذه الأدوات التقليدية تكفل قدرة الأفراد والجماعات على إيصال أصواتهم والاحتفاظ بحيز من السيطرة على واقعهم، حتى في ظل اختلال موازين القوة.

أما على المستوى العملي، فإن هذه الأدوات تمتلك فعالية كبيرة في خلق مساحات تفاعلية ومفتوحة للتعبير والتواصل داخل المجتمعات، خاصة تلك التي تعاني من القمع أو التقييد السياسي. المناشير والملصقات، برغم بساطتها، تُعيد تعريف العلاقة بين المواطن والفضاء العام، بجعل الجدران والأسطح الرمزية وسيلة لإعادة بناء هوية جماعية مقاومة. في بيئات ما بعد النزاع، تصبح هذه الأدوات التقليدية بمثابة بذور لخلق وعي مجتمعي جديد، يُقاوم محاولات الهيمنة ويفتح المجال لنقاشات حول التعددية والحقوق والمساواة.

بالإضافة إلى ذلك، النضال السلمي قادر على استقطاب التعاطف والتأييد الشعبي والدولي، إذ يظهر كخيار حضاري ومنظم يعبّر عن تطلعات مشروعة من دون الانزلاق إلى دوامة العنف. هذا التأييد يصبح ركيزة لدعم الحركة الحقوقية والسياسية، مما يمنحها قدرة أكبر على التأثير في معادلات السلطة، حتى في أكثر الظروف تعقيداً. لذا، فإن أدوات النضال السلمي ليست مجرد وسائل مؤقتة أو ردود فعل، بل هي استراتيجيات مستدامة لإحداث التغيير وترسيخ ثقافة مقاومة عادلة وتقدمية.

والجمهور المستهدف هنا هو السلطة والمجتمع على حد سواء. تعليق منشور على جدار أو كتابة عبارة في ساحة عامة هو إعلان صريح للسلطة بأن هناك من يراقب، يعترض، ويُصر على استعادة الفضاء العام ليعكس تنوع المجتمع. أما بالنسبة للمجتمع، فهي رسالة تفتح باب التأمل والتساؤل، وهي دعوة واضحة للانحياز إلى قيم التعددية والحرية. للسلطة، هي تذكير دائم بأن الصمت لن يكون خياراً مستداماً، وأن أي محاولة لتقليص المساحات العامة أو تهميش الأصوات ستواجه حضوراً مستمراً على الجدران وفي الشوارع، حضوراً يعيد التأكيد على أن الفضاء العام ملك للجميع، وأن فرض الإقصاء سيُقابل بحضور مستمر في الشوارع، على الجدران، وفي كل زوايا الفضاء العام.

توازي المسارات: قوة التنوع في النضال

لم أستغرب مقابلة المنشورات المضادة التي تدافع عن حرية اللباس برفض من فئة اعتادت التقليل من أهمية هذه القضايا، معتبرةً إياها هامشية وغير مركزية، بل ربما محاولة لحرف النظر عن القضايا الكبرى. لكن هذا المنطق يتجاهل حقيقة أن السكوت ليس خياراً في مواجهة محاولات فرض الهيمنة حتى على التفاصيل اليومية. ويعكس تجاهلاً عميقاً للتشابك بين ما يُعتبر “صغيراً” أو “رمزياً” وبين القضايا الكبرى التي تتعلق بالحريات والعدالة. حرية اللباس ليست معزولة عن نضال أشمل يتناول سيطرة السلطة على أجساد الأفراد واختياراتهم اليومية، فهي جزء من مقاومة تسعى لاستعادة الحق في تقرير المصير الشخصي، الذي يُعتبر في قلب أي مشروع تحرري أو ديمقراطي.

لا يمكن فصل هذه القضية عن الحقوق السياسية والاجتماعية، إذ إنها تكشف البنية الثقافية والفكرية للأنظمة القمعية، السياسية والمجتمعية، التي تستخدم التفاصيل اليومية أداةً للهيمنة. الدفاع عن حرية اللباس لا يحرف النظر عن القضايا الكبرى، إذ إنه يعزز الفهم العميق للرابط بين التفاصيل اليومية والمعركة الأوسع من أجل الحرية والتحرر.

أحد أبرز الأمثلة هو النضال النسوي في إيران ضد فرض الحجاب الإجباري، حيث أصبحت قطعة القماش رمزاً للمقاومة في وجه نظام شمولي يسعى لفرض سيطرته على أجساد النساء، وعلى حرياتهن الشخصية والاجتماعية والسياسية. هذه الحركة النسوية لم تُعتبر انحرافاً عن القضايا الكبرى، على العكس أثبتت أنها جزء لا يتجزأ من النضال العام ضد القمع والاستبداد.

من المهم أن نشير هنا إلى أن النضال من أجل الحرية والعدالة ليس مساراً أحادياً، إنما شبكة من القضايا التي تتطلب توازي المسارات لتحقيق تغيير جذري ومستدام. تتداخل اليوم في سوريا القضايا السياسية، الاجتماعية، والثقافية بشكل يجعل من المستحيل حل إحداها بمعزل عن الأخرى. هنا، يصبح العمل ضمن مسارات متعددة أمراً حتمياً وضرورة عملية، حيث تركز كل مجموعة على جانب محدد، لكن هذه التعددية في الجبهات تحتاج إلى تنسيق وثيق يضمن ألا تتحول إلى تشتت أو تضارب في الأهداف.

ما يجعل هذا النموذج فعّالاً هو إدراك أن كل قضية، مهما بدت صغيرة أو رمزية، هي جزء لا يتجزأ من منظومة النضال الأكبر. الدفاع عن حرية اللباس، على سبيل المثال، لا يتعلق فقط برفض الهيمنة على أجساد النساء، بل يرتبط بشكل أعمق بمعركة استعادة الفضاء العام كمساحة للتعددية والاختلاف. في المقابل، التركيز على القضايا السياسية الكبرى مثل الانتقال الديمقراطي، يعزز السياق الذي يجعل هذه الحريات الفردية ممكنة ومحمية. التنسيق هنا لا يعني بالضرورة توحيد الجهود في اتجاه واحد، فالهدف خلق تفاعل ديناميكي بين المسارات المختلفة، بحيث تصبح كل معركة إضافة نوعية تدعم الأخرى.

توازي المسارات، إذا نُفذ بشكل صحيح، يمنح الحركة النضالية عمقاً ومرونة. فهو يسمح لكل مجموعة بالتركيز على خبراتها وأولوياتها، بينما يعمل التنسيق على إبقاء الأهداف الكبرى واضحة. بهذا الشكل، لا تصبح معركة اللباس أو الفضاء العام عنصراً محورياً في مشروع أشمل لإعادة بناء المجتمع على أسس أكثر عدالة وتعددية. هذه الرؤية تُخرجنا من حصر النضال في رد الفعل، باتجاه استثمار في استدامة النضال عبر خلق منظومة متكاملة تعمل في انسجام، حتى لو اختلفت أولوياتها ظاهرياً.

الجدران التي تحولت إلى لوحات إرشادية تُحدد ما يجب أن ترتديه النساء، أصبحت ساحة للصراع على معنى الفضاء العام ومعايير الحرية.

هذا الاشتباك لا يكشف فقط عن معركة على التفاصيل اليومية، بل يوضح أن الانتقال الديمقراطي في سوريا يمكن أن يبدأ من هنا، من جدران تصر على أن تكون شاهدة على الحرية، لا أدوات للقمع.

 – كاتبة وناشطة سياسية سورية

درج

——————————

بين دعم الحكومة ونقدها… التوازن لإنقاذ سورية/ يمان دابقي

28 يناير 2025

مضى أقل من شهرين من عمر حكومة تصريف الأعمال في دمشق التي تشكّلت بعد إسقاط النظام السوري. كانت المدّة كفيلةً بإحداث انقسام كبير بين المكوّنات السورية على اختلاف ألوانها، وانتماءاتها، فساد الانقسام بين منتقد القرارات والسلوكات الصادرة من الحكومة ومؤيدٍ لها، وما بينهما فئة سورية التزمت الصمت، واكتفت بدور المراقب ريثما تنتهي المدّة للحكومة الحالية، وقد حدّد نهايتها قائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع في مارس/ آذار المقبل.

حينما شكّل الشرع حكومته الحالية وبدأ في تعيين الوزراء على أساس الولاءات لا الكفاءات، كان السوريون في أجواء احتفالية، يعبّرون عن فرحتهم بإسقاط النظام، وتحرير المعتقلين، ومشاهدة قصور الأسد ودخول قاعاتها، والتقاط الصور مع قيادات هيئة تحرير الشام، التي نُسب إليها الفضل الأول في إسقاط النظام، بعد مشاهد الانضباط حين دخول المدن وفرض الأمن ومنع حالات الانتقام بين المعارضين والمؤيدين لنظام الأسد، خصوصاً في معاقله في أرياف حمص وحماة والساحل السوري، وتلك أجمع السوريون على أنها أحد أكثر إنجازات هيئة تحرير الشام أهميةً لمنع انزلاق سورية في أتون حرب أهلية وخوضها في الدم والثارات الفردية. كما أنّ هروب معظم قيادات النظام من الصفَّين الأول والثاني، الذي قاد إلى حلّ الجيش وتفكيك الأفرع الأمنية، أسهم إلى حدّ كبير في إبعاد السيناريو الليبي من سورية، إذ تصدّرت المشهدَ فصائلُ المعارضة السورية، وظهرت في موقف موحّد بقيادة هيئة تحرير الشام.

هذان الإنجازان، لولا تحقّقهما في سورية بأيدي هيئة تحرير الشام، لكنّا رأينا حملات تخوين رسمية للشرع، وتحمليه مع فصيله ذي التوجه الإسلامي مسؤولية انزلاق البلاد في مستنقع الحروب الدامية. ربّما هذا ما قاد بعضهم، من باب تقدير الصانع ووعي مبنيٍّ على معرفة سابقة لما حدث من أمور كانت قبل شهرين في خانة المستحيلات، إلى أن يُوجّل تصويب سهام النقد على سلوكات هيئة تحرير الشام في إدارتها البلاد، أو إلى أن يختار التحفّظ على ملاحظاته، انطلاقاً من قاعدة إعطاء فرصة للواصلين الجُدد إلى دمشق، وواجب دعمهم ضرورةً أولى لاستعادة الدولة، ومنع الفوضى، وتحقيق الاستقرار النسبي في البلاد، وهذه منطلقات لم تخطر في بال السوريين من باب الترف أو الاختيار والتفضيل، بل هي توجيه المرحلة الحالية، مرحلة التأسيس المهمة لوضع سورية في سكة النهوض، والتعافي الدوري، ولن يُكتب لها النجاح إذا لم تشهد سورية حالةً من الاستقرار النسبي، وفرض الأمن في كامل البلاد، وتدوير عجلة الاقتصاد.

إذاً، الأمن والاقتصاد هما المُحدّدان الرئيسان اللذان ارتكزت عليهما حكومة الشرع في إدارة المشهد السوري، وتعتبر أن من دونهما لا يمكن إنقاذ سورية من تركة الأسد، ومن دونهما أيضاً لا يمكن التقدّم بخطوات مصيرية في سورية، كعقد مؤتمر حوار وطني بين السوريين، أو تفعيل العدالة الانتقالية ومحاسبة المجرمين، أو تشكيل دستور وإجراء انتخابات، وينطبق ذلك على ملفّ العلاقات الخارجية، في موضوع رفع العقوبات، وانتزاع شرعية دستورية، وإقناع الدول بالمواظبة في التوافد إلى دمشق، والتعامل مع شخصيات الحكومة الحالية، والسعي الدؤوب لتطمينهم على مصالحهم ومستقبلها مع سورية. ذلك كلّه من أجل كسب الجميع من دون استثناء، وقبولهم بالانفتاح على الحكومة، وجذب الاستثمارات، والمساعدات، في قطاعات الحياة السورية كافّة، لكن أيّ دولة لن تخطو إلى الأمام في ملفّ ضخّ الأموال والاستثمارات ما لم تر بشكل ملحوظ نوعاً من الاستقرار الأمني والمجتمعي في سورية، ومشاهدتها قيادةً قويةً في دمشق تعي تماماً التحدّيات التي تُواجهها على الصعيدين الداخلي والخارجي.

استناداّ إلى معادلة الأمن والاقتصاد، استنبطت حكومة تصريف الأعمال قراراتها، ووظفت كامل الأجواء السورية لإنجاحها، فأصدرت في البدء عفواً عامّاً عن قوات النظام البائد (ممن لم تتلطّخ أيديهم بقتل السوريين)، وأنشأت مراكز تسوية في المحافظات السورية كلّها، وكان لافتاً الإقبال الكبير من عساكر ومجنَّدين لتسوية أوضاعهم، وتسليم سلاحهم، ومَن رفض ما زال يواجه الحملات الأمنية المستمرّة، مع التأكيد هنا أنّ أحمد الشرع، ووزير خارجيته أسعد الشيباني، ووزير الدفاع مرهف أو قصرة، صرّحوا في أكثر من مناسبة بأنّ قتلة السوريين من ضباط النظام ومَن شاركوا في إبادتهم سيحاسبون في مرحلة لاحقة وفق القانون السوري والقضاء الذي يحتاج إلى إعادة هيكلية.

تماشياً مع ملفّ الأمن، أصدرت الحكومة قرارات داخلية شابها كثير من السجال وتصويب سهام النقد، وصلت أحياناً إلى الهجوم والتخوين من منطلق العداء للإسلاميين، كسلسلة التعيينات التي قرّرتها الحكومة لإشغال شخصيات في مناصب وزارية، وفي مؤسّسات الدولة ومجالس المحافظات، فظهر شبه إجماع سوري عامّ على أنّ التعيينات هي من لون واحد، في الإشارة إلى اتّباع الحكومة نهجَ الإقصاء والتفرّد بالسلطة على حساب الكفاءات والثوريين من السوريين، الذين امتلكوا خبرات متراكمة، وكفاءات علمية، يرون أنفسهم أحقّ من كثير من الشخصيات التي تصدّرت المشهد اليوم، وهناك من رأى في نهج إدارة الحكومة الذي كان في إدلب منذ 2017، معتبرين أن عقلية الجماعة لا زالت طاغيةً على المشهد، وهي لا تتناسب مع منطق الدولة، ومنافية لتصريحات الشرع نفسه حينما أعلن انتهاء الثورة والانتقال إلى منطق الدولة.

يتساءل بعضهم في هذا الصدد: عن أيّ دولة نتحدّث في وقت ما زالت الحكومة تنغلق على ذاتها، ولا ترضى حتى بانفتاح جزئي، وبمشاركة بقيّة القوى السياسية، ومنظّمات وكيانات سورية ثورية، وأصحاب كفاءات، وأطياف أخرى تُمثّل شرائح المجتمع كلّها. هذا النقد البناء مهم ويجب أن يدوم، وأن يعلو صوته، لأنه يحمل مطالب محقّة، ومشروعة للسوريين كلّهم، وأكثر من ذلك، إنّ الانتقادات الموجّهة الرافضة قرارات الحكومة في ملفّات الاقتصاد والتجارة والجمارك وتغيير المناهج ودور المرأة وتسريح الموظّفين وتعطيل التلفزيون السوري وغياب الشفافية ورفض تعويم شخصيات كانت شريكةً في إجرام النظام، كإعادة تعيين ديالا دياب في منصب وزيرة الثقافة، والرفض الشعبي والامتعاض من تأخير العدالة والمسامحة مع فلول وشبّيحة النظام، وملفّ الرواتب، والاعتراض على الاعتراف ببعض الجامعات الخاصّة، وتجاهل تفعيل الخدمات في بعض المحافظات على حساب المركز، وتهميش المخيّمات، ونسيان أهالي المعتقلين والشهداء وجبر خاطرهم… جميعها مطالب محقّة.

وحمّلت فئةٌ واسعةٌ من السوريين الحكومة المسؤولية، ومنهم من بشّرها بالفشل وبإدخال البلاد في مهدّدات جديدة، بما فيها فتح البلاد أمام التدخّل الخارجي، أو التبشير بسيناريو التقسيم، وغيرهم من النقّاد لديهم توجّهات يسارية وعلمانية امتعضوا من النَفَس الإسلامي لحكومة تصريف الأعمال، وحكموا عليها بالفشل المسبق. حقيقة الأمر نحن أمام انقسام كبير بين السوريين مردّه الأوّل للإحساس بالغبن والإقصاء، والخوف من المجهول وما ينتظر مستقبل البلاد، وبدأت الأصوات ترتفع بعد أن خفتت مظاهر الأفراح بإسقاط النظام، على مقولة “راحت السكرة وإجت الفكرة”. وبالطبع، الجميع محقّ في موقفه، وكلّ طرف يُمسك جزءاً من الحقيقة، فالذي تحفّظ على ملاحظاته تجاه الحكومة الحالية وتغاضى عنها إلى حين، من منطلق دعمه لها واجباً لا ترفاً، هو محقّ. ومن قفز فوق تلك القاعدة وفتح باب النقد على مصراعيه، ولاحق الحكومة في كلّ صغير وكبيرة، من دون النظر إلى إنجازاتها، هو محقّ أيضاً. فهذا، وإن لم ينكر فضل الحكومة في إسقاط النظام، إلّا أنّه لا يستيطيع (ولا يقبل) أن يتزحزح الواقع، فهو مقياس لأداء الحكومة، ولا يقبل بمحدّداتها التي انطلقت منها في تثبيت معادلة الأمن والاقتصاد.

المطلوب إذاً إحداث نوع من التوازن بين دعم الحكومة ونقدها ضرورةً لإنقاذ سورية، وإخراجها من مرحلة المخاض إلى الولادة الحقيقية، ولادة الدولة السورية بالحدّ الأدنى من المقومات، وهذا يعني عدم تبنّي النقد لأجل النقد فقط، انطلاقاً من قناعات شخصية (ربّما من باب العداء للإسلاميين)، ولا يتطلّب اتخاذ موقف المدّاح للحكومة لكونها أسهمت فقط في إسقاط النظام. والمرحلة التي تمرّ فيها سورية مصيرية، ويتحتّم على السوريين التعاطي مع الحكومة الحالية والمساهمة في نجاح فترتها المؤقّتة، وعدم تشويهها وتخوينها، فإذا كانت الدول الغربية والعربية أجمعت على إعطاء فرصة لحكومة الشرع لاختبار مدى الأقوال والأفعال، فمن الأولى بالسوريين أن يعطوا الحكومة فرصتها الحالية، وعدم إطلاق أحكام مسبقة، مع بقاء خطّ النقد البنّاء موجّهاً لها، لتصويبها وتصحيح المسار.

الشعب السوري الذي أسقط النظام، وكسر شوكة إيران وروسيا في سورية، ودفع تضحيات كبيرة ثمناً للتغيير والحرّية، لن تقف أمامه بعد الآن أيُّ عوائقَ للتغيير وتطبيق منجزات الثورة، فإذا أجمع الغالبية في مارس/ آذار المقبل على تشكيل حكومة تكنوقراط، فلن يستطيع أحمد الشرع أن يجابه الإرادة الشعبية، فما نعيشه اليوم ليس نموذجاً سوريّاً مصغّراً كما كان الحال في مدينة إدلب، إنها سورية الكبيرة على امتدد 185 ألف كيلومتر مربع، وهي مساحة تتخطّى في نهاية المطاف كامل قدرات هيئة تحرير الشام.

العربي الجديد

—————————–

إعادة الروح إلى الثقافة السورية/ فوّاز حداد

28 يناير 2025

بعد محاولات تغييبها طوال ما يزيد على نصف قرن في ظلام الديكتاتورية، آن الأوان لتستعيد الثقافة السورية دورها، تكاد أن تبدأ من الصفر، لولا كوكبة من المثقّفين والأدباء السوريّين، استطاعت أن تمنح الثقافة مكانة رفيعة، وأثبتت حضوراً متميّزاً، فالظلام لم يكن شاملاً. كانت هناك شعلة لم تنطفئ طوال هذا الزمن.

تستدعي الواقعية النظر إلى الماضي الأسود، فالتركة ثقيلة، والأمراض مستفحلة، خاصّةً في ما أصاب الثقافة من تشويه مع مرور الزمن، تحت تأثير ثقل نظام بوليسي، تَسلَّط على جميع مناحي الحياة، ولم يستثن كلّ ما له علاقة بالإعلام والصحافة، والثقافة، والأدب، والفنون. وكانت للمخابرات اليد الطولى في ترسيخ رقابة انعكست على أداء المثقّفين الذين لم يعدموا الوسائل للمجابهة، كما للتحايل عليها.

طاولت الرقابة أجيالاً من الكتّاب في العمق، إلى حدّ أنّه بات هناك رقيب زُرع في داخل كلٍّ منّا، ما يوجب التخلّص منه، ولو أنّه التصق بنا، واعتدنا وجوده حتى أصبح جزءاً منّا، نلاحظه حتى عند الذين خرجوا من سورية، ولم يتخلّص بعضهم منه بعد. بالتالي لا يمكن لوم الأدباء الذين بقوا في الداخل على عدم قيامهم بمعارضة فعّالة يمكن أن تُشكّل تحدّياً للنظام، على الرغم من خراب البلد والبؤس الشديد وانكشاف الآلة الرهيبة للقتل والنهب، لم تنعكس في كتاباتهم، كانت فوق طاقة أُدباء عُزّل، سلاحهم القلم والكلمة، أُدباء عزّل من دون أيّ حماية، مواجهة نظام قاتل جبّار، مع هذا دفع المثقّفون حصّتهم من الضحايا لدى الاحتجاج أو المبادرة بفعل إغاثي. ما وقع على أدباء وصحافيّين ومسرحيّين لم يكن أقلّ من الموت، كاعتقال الممثّل زكي كورديللو مع ابنه مهيار، الطالب في “المعهد العالي للفنون المسرحية” بدمشق، واللذين لم يظهر لهما أثر حتى الآن، والإعدام الميداني للروائي إبراهيم خريط مع ولديه، واختطاف الروائي محمد رشيد الرويلي وقتله، ووفاة فنّان الكاريكاتير أكرم رسلان تحت التعذيب، واستشهاد السينمائي باسل شحادة، وغيرهم كثُر نالت الاعتقالات في السجون سنين طويلة من حياتهم.

وقع الأدب في أسر نظام المخابرات طوال فترة الأسدَين، وبلغ الذروة خلال فترة الثورة والحرب، ونجا منه الذين غادروا، لكنّ الذين في الداخل كان الأذى عليهم مضاعفاً، ولا من جدوى لتضحيات مجّانية، في زمن القتل المجاني. كانت المقاومة في عدم الانجرار وراء دعاياته وادّعاءاته.

في هذا المجال، نحن بغنىً عن التعرّض لصنف من المثقّفين الرماديين الذين زعموا أنّهم المعارضة الوطنية الواعية، وكانوا ضدّ الثورة تحت ذريعة أنّهم ضدّ الإرهاب، ومتوافقين مع النظام بدعوى علمانيته، وكان دفاعهم عمّا أطلقوا عليه أخطاء النظام وجرائمه ووحشية الشبّيحة، حوادث جانبية يُمليها القضاء على العصابات المُسلّحة، وكانت لهم علاقات طيّبة مع المخابرات لن نحاول تفسيرها، ما سمح لهم بحرّية الحركة في الداخل والخارج، واتّهام أدباء الخارج بالطائفية والإسلام السياسي والإرهاب، والإسهام بسفك الدّم السوري، ولم يتورّعوا عن تخوين المعارضين، وكانت انتقاداتهم لا تقلّ عن إخباريات كيدية لأجهزة الأمن، مع أنّهم لم يكونوا مُضطرّين لإبداء الولاء. لن نُراهن عليهم ولا على ضمائرهم. كانت إساءتهم للثقافة بالذات، فغدت ذات سمعة سيّئة، باتخاذهم مواقف مرائية إلى جانب الطغيان وتسويغه، والتظاهر في الوقت نفسه بانتقاده، والذرائع متوافرة في الحالين، فثقافة الرياء تستطيع أن تكون بوجهين.

يمتلك المثقّفون اليوم في سورية حرّياتهم، طالما لديهم أقلامهم وضمائرهم. إنّ الحاجة ماسّة إلى استعادة الجدل الديمقراطي والعلماني والديني على الأرض، وليس من بُعد، من خلال الواقع لا التنظير المجرّد، والأفكار المسبقة، والأيديولوجيات الجاهزة. وعلى سبيل المثال، إدراك أنّ السوريّين شعب متديّن بمختلف طوائفه، ما لا يتعارض مع علمانية منفتحة، كما في التصدّي لإشكالية الأكثرية والأقلّيات. إنّ وضعها في نصابها الحقيقي امتحان للثقافة في توجّهاتها، نحو وحدة البلد، لا تكريس الحالة الطائفية. نحن السوريّين، إذا أردنا سورية موحّدة، فلا أكثرية ولا أقلّيات، لا تقسيم ولا امتيازات، انتماؤنا إلى سورية فقط، حماية للجميع.

بالنسبة إلى الداخل السوري، بداية يجب العمل على فصل اتحاد الكتّاب عن الدولة. إن استقلالية المثقّف أولوية، وألّا يكون تابعاً لأيّ سلطة سياسية، وليس طوع أمر الدولة ولا عدوّاً لها.

إنّ فصل الأدب عن الأنظمة والتحرُّر منها، وإدراك أنّ الحرية لا مساومة عليها ولا تنازل عنها، كانت مكافأة الثورة للسوريّين على ما أصابهم طوال عقود، فلا تبديد لها، ولا انصياع إلّا للضمير، وما نعتقد أنّه حقيقة، لن نرسم طريقاً، أو خريطة طريق، ولن ننصح بوسائل وأساليب… على المثقّفين اكتشاف حرّيّاتهم، وكلّما كانت مسؤولة، كانت أكثر حرّية.

إنّ في بثّ الروح في الثقافة ما يعود بنا إلى أنّها مادّة للصراع والحوار والجدل، لن تشقّ طريقها نحو المستقبل، إن لم تستعِد سلاحها؛ العقلانية. إنّ العمل على تفعيلها في ظروف دقيقة فرصة سانحة لإجراء متغيّرات ضرورية، ربما كانت جذرية.

ما تركه نظام الأسد من مخلّفات لا يستهان بها، الكذب والتزييف والرضوخ والنفاق والرياء وإخفاء الحقائق، الولاء، وقمع حرّية التعبير وقانون الصمت… هذا ما يجب التخلُّص منه، والتعاطي مع قضايا جدّية ومصيرية ترسم مستقبل الثقافة في سوريّة جديدة، تولد من جديد، المثقّفون على موعد معها.

نحن على عتبة الخروج من العتمة إلى النور، وليست مجرّد خطوة. إنها انتقال من عصر إلى عصر.

* روائي من سورية. والمقال ورقة قُدّمت إلى “ملتقى لندن لدعم سورية”، كانون الثاني/ يناير 2025

 العربي الجديد

——————————-

نداء: امنعوا سوريي الخارج من الانتخاب/ عمر قدور

الثلاثاء 2025/01/28

في حديثه إلى قناة “العربية” قبل حوالى شهر، وضع السيد أحمد الشرع قائد الإدارة السورية الجديدة، مدة أربع سنوات كهدف لإجراء أول انتخابات سورية، بعد إقرار دستور جديد وقوانين انتخاب. حينها رأى البعض هذا السقف الزمني أبعد مما ينبغي. والحق أنه قد يكون سقفاً طموحاً بناءً على ربطه من قبل السيد الشرع بعودة اللاجئين ومشاركتهم في العملية الانتخابية، وهو يبقى طموحاً حتى إذا اقتصرت العودة على لاجئي المخيمات في الداخل وفي دول الجوار.

إذا كانت الانتخابات السياسية تعبّر عن مصالح السكان، وصراعاتهم السلمية، فالانتخابات السورية المرجوّة لن تكون هكذا، لا لأنها ستكون بمثابة تمرين أول على العملية الديموقراطية، لكن لأن السوريين لن يصبحوا جاهزين (على الأرجح) في المدى المقرَّر كي يؤسسوا لمصالحهم في سوريا الجديدة، ويبنوا عليها خياراتهم السياسية. ما وصلت إليه سوريا من دمار وانقسام هو جانب مهم من المعضلة، يُضاف إلى الإرث الفادح الأسدي، فأسوأ ما فعله الأسد لم يتوقف عند منع حرية التعبير والحريات السياسية؛ هو أيضاً ألغى علاقات المصالح وصراعاتها بين السوريين، لتصبح علاقة كلّ منهم بالسلطة على حدة. وبهذا ألغى الاجتماع السياسي والوطني معاً.

مصيبة غياب الحامل الاقتصادي للسياسة تتجلى اليوم في الأفكار التي تظهر بعيدة عن الواقع البائس، ليفصح أنبلها عن حسن نوايا إزاء المستقبل ليس إلا. في حين يزاحم على الصدارة أكثرها تطرفاً، ويتمكّن المتطرفون بأصواتهم العالية من حجز مكان بارز على منصات السوشيال ميديا. وهكذا تبدو النوايا الحسنة بلا أنياب كتلك التي لنظيرتها المتطرفة.

من الطريف ربما أن يكتب سوريون، سمحت أوضاعهم الإدارية والمعيشية بالذهاب إلى سوريا فور إسقاط الأسد، أن الواقع الذي شاهدوه في سوريا مختلف عمّا هو متداول على وسائل التواصل الاجتماعي. إلا أن منشوراتهم هم أنفسهم على وسائل التواصل تخوض في النقاشات أو المهاترات ذاتها، أي أنها لا تضيف جديداً، ولا تخوض في ذلك المختلف، والأقل مدعاةً للتشاؤم بحسب كليشيه صارت متداولة بلا تمحيص في دلالاتها. ونعلم أن نسبة كبرى من الزائرين ستعود إلى مواطن لجوئها، أي أن أفرادها سيعودون إلى الموقع الذي ينتقدونه الآن من سوريا.

قبل سقوط الأسد، كان مرفوضاً ذلك الكلام عن سوريي الداخل والخارج، لأن معظمه كان يصبّ في منحى تعنيف اللاجئين إلى الخارج فوق مأساة اقتلاعهم من بلدهم. بالطبع، القسمة النظرية بين داخل وخارج تهمل أن الداخل ليس واحداً، وأن الخارج ليس كذلك أيضاً. لكننا، بعد إسقاط الأسد، نفترض أن تتناقص ثم تتلاشى عواملُ الإكراه التي تجبر السوريين على البقاء في الخارج بخلاف إرادتهم. ونفترض أيضاً عودة الحياة إلى طبيعتها في سوريا، العودة التي تتضمن نشاطاً اقتصادياً لا تحتكره السلطة على غرار العهد البائد، وهذا النشاط بطبيعته سيؤثّر على الأفكار والآراء والتحالفات السياسية المستقبلية.

الافتراض الأساسي، في حال توفرت السياسة، هو أن تكون أصوات السوريين في الخارج امتداداً لأصوات نظرائهم في الداخل، لأن الذي يحدث وذاك المطلوب حدوثه هما في الداخل أصلاً. الواقع مختلف عن الافتراض النظري، إذ تسهل ملاحظة ميل نسبة كبيرة من سوريي الخارج إلى التطرف بالمقارنة مع الداخل، والفئة المعنية هي ألوف أو عشرات ألوف السوريين الذي يعبّرون عن آرائهم على وسائل التواصل الاجتماعي، وللبعض منهم عدد كبير من المتابعين ما يوحي بتأثيرهم على الرأي العام.

جراء الإبادة والتهجير الأسديين، هناك عائلات بأكملها تشردت في الشتات، وهناك عائلات انقسمت بين داخل وخارج، وهناك عائلات بأكملها صارت في بلدان اللجوء الغربي وهي من مناطق أقلّ تضرراً بعد الثورة، وأقلّ تعرّضاً لملاحقة المخابرات. في الحصيلة هناك عدد ضخم من سوريي الخارج ليسوا على تماس مباشر مع الداخل، ومعرفتهم بالأخير توقفت مع نزوح أهاليهم. هؤلاء لا يستنبطون آراءهم من الواقع السوري، بما أنهم منقطعون عن تفاصيله وحساسياته، ما يسهّل عليهم أن يشطحوا بتطرفهم كما يشاؤون. وهذا يلاقي على وسائل التواصل الاجتماعي ميلاً عاماً إلى الشعبوية والتطرف اللذين يأتيان بمتابعين ولو على سبيل الفضول.

من السهل على السوري المنقطع فعلياً عن الداخل أن يشجّع الآن أي فعل لا يخدم السلم الأهلي، بما أن أحداً مقرَّباً منه لن يكون ضحية العنف الأهلي إذا اندلع. من السهل عليه مثلاً التشجيع على الهجوم على قسد، مثلما من السهل على مناصر لقسد في الخارج أن يشجّعها على القتال حتى آخر كردي. الاثنان أشدّ تطرفاً من الجهة التي ينحاز كلّ منهما إليها، بما أن تلك الجهة تتصرف بموجب حساباتها الواقعية لا بموجب شعارات التطرف القومي. ومن السهل، في مثال ثانٍ، أن يسارع المتطرف ذاته إلى مباركة تعديلات في المنهاج الدراسي تنتقص من حق التلامذة في الوصول إلى المعلومة، بينما أبناؤه في مدارس غربية تسهّل الوصول إلى هذا الحق عبر المنهاج وخارجه.

في السياق نفسه، لا يخجل متطرف أو متطرفة من البتّ بصحة أو عدم صحة أخبار واردة من قرية سورية لم تسبق لهما معرفتها، ولا يردعهما انكشاف جهلهما عن تكرار ذلك، ولا يردع أمثالهما عن تصديقهما لاحقاً. وإذا كانت وسائل التواصل في وقت ما بمثابة الوطن الافتراضي البديل عن الوطن الواقعي غير المتاح، فإنها بالنسبة لهؤلاء المتطرفين الوطن النهائي، والوطن الأمثل لجهة التفلّت من المسؤولية، ومن أي عقاب أيضاً. من هذه الناحية، يمكن تشبيه وسائل التواصل بسوريا الأسدية التي يودّ معظم السوريين الخلاص من إرثها.

بالنسبة للتطرف السوري، لا نجازف بالقول إنه ليس ابناً بالمعنى المباشر للظلم، والفكرة الرائجة عن تسبب المظالم بالتطرف لا ينبغي فهمها ميكانيكياً. فالأكثر تأذياً بين السوريين ليسوا الأكثر تطرفاً، والمظالم توجِد بيئة خصبة للذين يستثمرون فيها مزايدين بالتطرف، أما الربط الميكانيكي بين الأمرين فهو بدوي عشائري ثأري.

التطرف في مؤدّاه الأخير معادٍ للديموقراطية، لأنه مشروع سلطة لا تعترف بالآخر المختلف. ظاهرياً، يبدو كأن ذلك منصرف إلى الآخر، الطائفي أو العِرقي، إلا أن المعتدلين (من المذهب أو العرق نفسه) هم أول الضحايا الفعليين. مع ذلك، الخشية من المتطرفين يجب ألا تحجب أولوية الديموقراطية والسياسة، بوصفهما أيضاً من أدوات محاربة التطرف. أما العنوان الذي بدأنا به، وغايته منع المتطرفين من الانتخاب، فهو بالتأكيد على سبيل المبالغة؛ المبالغة اللطيفة مقابل ما يتحفوننا به على مدار الساعة.

المدن

——————————–

الصحافيون في سوريا: هل انتهت “المعركة”؟/ مصعب الياسين

28.01.2025

على رغم التحسّن الواضح والملحوظ في حرية الصحافة في سوريا، لكن “تَركة” نظام الأسد ما زالت مستمرّة، ففي تقرير خاص أصدره المركز السوري للحريات الصحافية في رابطة الصحافيين السوريين، تبيّن أن ثمة 27 صحافياً ما زالوا مجهولي المصير حتى اللحظة، وأن هذه الحالات تمثل جزءاً من سلسلة الجرائم والانتهاكات الجسيمة التي تعرض لها الصحافيون والإعلاميون على مدار السنوات الماضية.

أوضحت الرابطة أن نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد وأجهزته الأمنية يتحمّلون الجزء الأكبر من المسؤولية عن تغييب هؤلاء الصحافيين، الذين استُهدفوا بشكل ممنهج بسبب نشاطهم الإعلامي ودورهم في إيصال الحقيقة.

وأشارت الرابطة إلى أن “استمرار هذا التجاهل لمصير الصحافيين المُختفين قسرياً يؤكد غياب العدالة، ويبرز الحاجة الملحّة الى تضافر الجهود المحلية والدولية للكشف عن مصيرهم وضمان محاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم”.

جريمة التغييب والاختفاء القسري التي مارسها النظام السابق لا تقتصر على السوريين، بل طاولت أيضاً صحافيين أجانب، أبرزهم الصحافي الأميركي أوستن تايس، ومن قبله الصحافي كيفن دوز الذي خرج من سجون الأسد وأفرد “درج” زاوية نقل فيها شهادته حول اعتقاله الذي طال أربع سنوات، أما تايس فلم يُعرف مصيره إلى الآن.

تجدر الإشارة الى أن دوز حصل على تعويض مادي ضخم في الولايات المتحدة الأميركيّة من  صندوق ضحايا الإرهاب في أميركا، والذي يموَّل من عائدات الغرامات المأخوذة من الأشخاص في الولايات المتحدة الذين ينتهكون العقوبات التجارية، ويأتي ذلك  بعد دعوة قضائية رفعها ضد نظام الأسد.

“الحالة المثالية” للصحافي الأميركي ما زالت بعيدة التحقيق في سوريا، خصوصاً مع غياب آليات لتحقيق العدالة الانتقاليّة بدايةً، وعدم الحديث عن تعويضات أو مساعدات لأسر هؤلاء المختفين أو من قتلوا تحت التعذيب،  الشأن الذي يطالب به الأهالي حسب تعبير الناشطة والمعتقلة السابقة بيان ريحان.

كذلك، لم تُكشف إلى الآن ملابسات خطف مصور وكالة الأنباء السورية (سانا) ابراهيم عجاج وقتله، على رغم الإدانات التي رافقت هذا الانتهاك، لنكون أمام أول حالة اغتيال لصحافي بعد سقوط النظام في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024. هذه الحادثة ترافقت مع انفتاح سوريا على وسائل الإعلام العربية والدولية وتقديم تسهيلات لعمل الصحافيين، مع ذلك ما زالت بعض المناطق خارج التغطية الإعلاميّة، منها ريف حمص الذي شهد انتهاكات وثّقها ناشطون محليون.

وثّقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان في تقرير صدر عنها في أيار/ مايو الفائت مقتل 717 من الصحافيين والعاملين في مجال الإعلام في سوريا منذ آذار/ مارس 2011، مشيرةً إلى أن النظام السوري يتحمّل المسؤولية الكبرى عن الانتهاكات بحق الصحافيين. وسجّلت الشبكة 1358 حالة اعتقال وخطف بحق صحافيين وعاملين في مجال الإعلام، بينهم 9 سيدات و17 صحافياً أجنبياً ما زالوا قيد الاعتقال أو الاختفاء القسري، و392 منهم لا يزالون قيد الاعتقال أو الاختفاء القسري على يد قوات النظام السوري. وبحسب منظمة “مراسلون بلا حدود”، احتلت سوريا في العام الحالي المرتبة 179 من أصل 180 دولة على سلم حرية الصحافة حول العالم.

“كنا نعمل على توثيق التطورات الميدانية مع رؤيتنا للطائرة الحربية التابعة لقوات النظام تحوم فوقنا، وما هي إلا لحظات حتى انقضّت باتجاهنا وأطلقت صواريخها الشديدة الانفجار لتنهي حياة زميلنا أنس”…. بصوت مبحوح وكلمات مرتعشة من الحزن نقل الإعلامي عمر حج قدور لـ”درج” اللحظات الأخيرة من حياة الصحافي أنس خربوطلي أثناء عمله الميداني في مدينة مورك شمال حماة.

في 4 كانون الأول/ ديسمبر 2024، وبينما  كان أنس خربوطلي، مراسل وكالة الأنباء الألمانية dpa، يعمل على توثيق التطورات الميدانية شمال محافظة حماة بين فصائل المعارضة وقوات النظام، رصدته إحدى طائرات النظام الحربية وعدداً من زملائه الصحافيين بالقرب من مدينة مورك واستهدفتهم، فقُتل أنس على الفور وفي يده كاميرته التي رافقته لسنوات طويلة في عمله الصحافي.

رئيس تحرير وكالة الأنباء الألمانية سفين جوزمان، قال: “نحن جميعاً في وكالة الأنباء الألمانية نشعر بالصدمة والحزن العميق لوفاة أنس الخربوطلي… من خلال صوره، لم يوثق أهوال الحرب فحسب، بل عمل دائماً من أجل الحقيقة”.

أنس الذي هُجّر قسرياً من ريف دمشق، كان يحلم بالعودة إليها وإلى منزله، فاستشهد قبل أن يفرح مثل الكثير من السوريين بعودتهم الى ديارهم بعد فرار الأسد من سوريا.

بدأ أنس عمله كمصور صحافي في 2015 وانضم إلى وكالة “د ب أ” بعد عامين، بحسب الوكالة، وحصل على “جائزة المراسل الشاب” ضمن جائزة “بايو” الفرنسية المرموقة عن تغطيته الحرب في 2020، وفاز في مهرجان “جوائز سوني العالمية للتصوير” عن فئة الرياضة عام 2021.

شارك عدد من الصحافيين في تشييع أنس في مدينة بنش شمال غربي سوريا، ودُفن في مقبرة الشيخ ثلث في مدينة إدلب. وعلى رغم أن لحظة دخول دمشق شكلت علامة فارقة بالنسبة الى الصحافيين السوريين، إلا أن عدداً منهم اعتبروها منقوصة بسبب غياب زميلهم أنس عن المشهد، لا سيما أنه لم يشهد تحريرها من نظام الأسد.

قضى الى جانب  أنس، 5 صحافيين سوريين بنيران قوات النظام والميليشيات التابعة لها، وقوات سوريا الديمقراطية، خلال معركة ردع العدوان التي أطلقتها فصائل المعارضة في الثلث الأخير من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، وانتهت بفرار بشار الأسد ونظامه من سوريا واستلام الفصائل السورية مقاليد الحكم فيها.

في 30 تشرين الثاني، قُتل الصحافي مصطفى الساروت بنيران مسلحين تابعين لقوات النظام  في حي الأشرفية في حلب، حيث كان يغطي التطورات الميدانية، ودخول فصائل المعارضة الى المدينة بعد فرار قوات النظام منها.

مقتل الساروت جاء بالتزامن مع مقتل الصحافيين أحمد العمر وعلاء الأبرش، اللذين قُتلا خلال الأحداث نفسها.

عمل الساروت مصوراً لدى الكثير من الوكالات الإعلامية المحلية والدولية، أبرزها TRT World‎‏، وكانا عضواً في مركز حلب الإعلامي.

عمل الساروت على تغطية التطورات الميدانية في مدينته حلب، التي حالت قوات النظام دون عودته إليها، فقتلته وهو يجول بسيارته لتوثيق الأحداث. وقبل 4 ساعات من مقتله، سجل الساروت فيديو له ولأصدقائه من ساحة سعد الله الجابري، يوثق فيه فرحتهم بالعودة إلى مدينتهم حلب بعد سنوات طويلة من النزوح القسري.

– صحافي سوري

درج

—————————————-

موسكو وطهران: اتفاقية لتعويض خسارة سوريا/ بادية فحص

27.01.2025

لا شك في أن هناك الكثير من الاستحقاقات الداخلية والخارجية أمام روسيا وإيران، أغلبها له علاقة بعودة ترامب إلى البيت الأبيض؛ وإن أنكرتا ذلك، لذلك سعتا إلى إبرام هذه الاتفاقية، وأسرعتا في توقيعها رسمياً قبل تسلم الأخير مقاليد السلطة بثلاثة أيام، وحرصتا على جعلها غير مستفزة بأي شكل من الأشكال للإدارة الأميركية أو لترامب بالتحديد.

وقّع الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والإيراني مسعود بزشكيان اتفاقية تعاون وشراكة استراتيجية في موسكو في 17 كانون الثاني/ يناير الحالي، شملت “التعاون الاقتصادي والتجاري في مجال الطاقة والبيئة، فضلاً عن القضايا المتعلقة بالدفاع والأمن”. 

وادّعت طهران أن الاتفاقية لا تهدف إلى إنشاء تحالف عسكري مع موسكو، برغم أنه جاء في إعلان الاتفاقية أن التعاون بين موسكو وطهران في مجال الدفاع والأمن سيكون أولوية.

منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية، لم تغامر طهران في إرسال جنود إيرانيين للقتال إلى جانب الجيش الروسي في أوكرانيا، وظلت حذرة أيضاً من إرسال مقاتلين من قواتها الوكيلة من أصول أفغانية وباكستانية وعراقية ممن يعيشون على أراضيها، لكن هذا الحذر لم ينسحب على التعاون العسكري مع موسكو، فالجيش الروسي يستخدم في حربه ضد أوكرانيا، طائرات بدون طيار إيرانية الصنع من نوع “شاهد”، ولهذا لن تضيف الاتفاقية شيئاً مهماً إلى التعاون العسكري، سوى أنها ستضاعف حجمه ونوعه. في المقابل، سوف تستمر موسكو في الإشراف على صناعة الصواريخ الإيرانية وتطويرها كما تفعل، ومن المتوقع أن تزوّد طهران بالمختصين وببعض التقنيات اللازمة لتطوير طموحها النووي.

النقطة الأكثر أهمية التي لحظتها الاتفاقية، هي ممر النقل الدولي الذي يربط ميناء سانت بيتربرغ في روسيا بميناء مومباي في الهند، وما بين المدينتين من معابر برية وبحرية تمر في جزء كبير منها في الأراضي الإيرانية وفي بحر قزوين والجهة الإيرانية من الخليج العربي.

هذا الممر التجاري مهم جداً بالنسبة إلى روسيا، بما يملكه من حيوية اقتصادية وبما يتمتع به من جغرافية مترامية، ومن المؤكد أن اتفاقية التعاون بشقها الاقتصادي، ستؤدي إلى تحسين بنيته التحتية، التي تعاني من أضرار مزمنة بحسب المتابعين، مما سينعش الوضع الاقتصادي للدول الواقعة على جانبيه، وعلى رأسها إيران.

لكن الأهم من توقيع الاتفاقية هو توقيتها، أولاً، لأنها ظهرت في وقت تواجه فيه الدولتان الصديقتان (روسيا وإيران) عقوبات دولية قاسية، تأثرت بها إلى حد كبير علاقاتهما التجارية، وحتى السياسية في بعض الأحيان. إنما بفضل التوتر بين الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، على خلفية الحرب الروسية الأوكرانية، عادت واستقرت العلاقة بينهما، وأصبحتا أكثر تقارباً من ذي قبل، وظهر هذا التقارب على شكل هذه الاتفاقية، التي تسعى إلى إنشاء نظام جديد له ثقل سياسي واقتصادي وأمني بمواجهة النفوذ الأميركي في المنطقة.

وعن هذا كتب وزير الخارجية الإيرانية عباس عراقجي أن “إيران وروسيا تعملان على إنشاء نظام جديد إنطلاقاً من مسؤوليتهما التاريخية”، فيما أكد نظيره الروسي سيرغي لافروف أن واحداً من أهداف هذه الاتفاقية، هو “إنشاء قدرة دفاعية موثوقة”.

ثانياً، لأن توقيع الاتفاقية حصل قبل ثلاثة أيام من تنصيب الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، وكأن طرفيها (روسيا وإيران) أرادا إرسال إشارات إلى من يهمه الأمر، عن قيام تحالف دولي جديد في “الشرق”، برغم أن كلاهما سارع إلى نفي أن يكون موعد التوقيع له علاقة بتنصيب ترامب، وأن التوقيت كان مجرد مصادفة لا تحوي أية رسائل ولا تحتمل أية تكهنات.

أمر آخر أكثر أهمية دفع بالدولتين الصديقتين إلى ترتيب هذه الاتفاقية، هو سقوط نظام بشار الأسد في سوريا. هناك جو داخلي إيراني يزعم أن الحكومة السورية سقطت، لأن حليفتيها إيران وروسيا لم تدافعا عنها، ووقفتا على حياد من الأحداث والتغييرات المفاجئة التي شهدتها خلال 11 يوماً، وربما انسحبتا إلى قواعدهما أو خارج البلاد، لتسهّلا تقدّم قوات المعارضة، وهذا كله بناء على نصائح دولية، وهما الآن تحاولان الالتفاف على هذه الخسارة الاستراتيجية وملء الفراغ الذي تركته سوريا، بابتداع هذا النوع من الاتفاقيات، لتبدوَا متماسكتين ومسيطرتين.

بعد هروب الأسد فقدت روسيا نفوذها في سوريا، وهذا سيؤثر على نفوذها في المنطقة لاحقاً، إضافة إلى أن مسألة احتفاظها بقواعدها ومطاراتها العسكرية في سوريا باتت مسألة وقت، ورهناً بالتفاهمات الدولية حول سوريا التي لم تتضح بشكلها الكامل والنهائي بعد، كما أن خروج إيران النهائي من سوريا وانكفاءها في لبنان بعد هزيمة “حزب الله” في “حرب الإسناد”، سيؤثران حتماً على نفوذها في المنطقة، وعلى تحكمها بالحدود اللبنانية الجنوبية والقرار السياسي اللبناني الداخلي، في هذه الحال، بدت الاتفاقية إنقاذاً للطرفين، وانتشالاً لهما من قاع “الهزيمة” التي مُنيا بها في سوريا.

لا شك في أن هناك الكثير من الاستحقاقات الداخلية والخارجية أمام روسيا وإيران، أغلبها له علاقة بعودة ترامب إلى البيت الأبيض؛ وإن أنكرتا ذلك، لذلك سعتا إلى إبرام هذه الاتفاقية، وأسرعتا في توقيعها رسمياً قبل تسلم الأخير مقاليد السلطة بثلاثة أيام، وحرصتا على جعلها غير مستفزة بأي شكل من الأشكال للإدارة الأميركية أو لترامب بالتحديد، فهما تدركان العواقب الوخيمة لاستفزاز من هذا النوع، وتعرفان أنه يتعارض مع مصالحهما الوطنية والاستراتيجية، خصوصاً أن ترامب لم يأتِ بعد على ذكر طبيعة العلاقة المستقبلية، أو كيف ستكون طريقة التعاطي مع موسكو وطهران، في عهده.

– صحافية وكاتبة لبنانية

درج

——————————

سوريا وفرصة سردية عربية جديدة/ ناجي أبو خليل

27.01.2025

برغم الإجماع الظاهري على دعم خيارات الشعب السوري، يكشف تحليل التغطية الإعلامية للقنوات العربية الرئيسية، “الجزيرة” القطرية، و”الحدث” السعودية، و”سكاي نيوز عربية” الإماراتية، المرتبطة بحكوماتها التي تملك حصصاً فيها، عن سرديات متباينة.

المادة مترجمة عن موقع “أورينت لوجور”

La Syrie et l’opportunité d’un nouveau récit arabe – L’Orient-Le Jour

السقوط المذهل وغير المتوقع لنظام الأسد وسيطرة “هيئة تحرير الشام” على دمشق، يفتحان آفاقاً جديدة للمنطقة، إذ يبدو أن الرأي العام العربي يحتفل برحيل من كان اسمه مرتبطاً بالوحشية، وتجارة المخدرات، والتواطؤ مع إيران، ومع ذلك، تختلف ردود فعل الحكومات العربية تجاه هذا التطور.

برغم الإجماع الظاهري على دعم خيارات الشعب السوري، يكشف تحليل التغطية الإعلامية للقنوات العربية الرئيسية، “الجزيرة” القطرية، و”الحدث” السعودية، و”سكاي نيوز عربية” الإماراتية، المرتبطة بحكوماتها التي تملك حصصاً فيها، عن سرديات متباينة.

لقد أثبتت هذه القنوات دورها المركزي كأدوات تأثير ودبلوماسية لصالح حكومات الخليج، لا سيما منذ أحداث الربيع العربي. ومع ذلك، فإن حجم التحولات في سوريا وعدم القدرة على التنبؤ بها، يشكّلان تحدياً للسرديات الأيديولوجية الموروثة من عقد 2010، التي كانت مبنية حول الانقسام العمودي بين معسكر إسلامي/ ثوري تقوده الدوحة وأنقرة من جهة، ومعسكر عسكري مناهض للإسلاميين تقوده الرياض وأبوظبي من جهة أخرى. بينما تبدو هذه السرديات غير ملائمة للوضع الحالي، حيث يُعاد تشكيل المصالح الجيوسياسية بسرعة، يتبين أن القنوات الثلاثة لم تتوصل إلى استنتاجات متطابقة بشأن التطورات.

تحليل الأخبار العاجلة المنشورة من قبل القنوات الثلاثة على مواقعها وحساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى نشراتها الإخبارية والبرامج المخصصة لسوريا بين 24 كانون الأول/ ديسمبر و1 كانون الثاني/ يناير، يؤكد هذه الملاحظة. خلال هذه الفترة، ركز اهتمام الرأي العام السوري والدوائر الدبلوماسية الغربية بشكل خاص، على موضوعين رئيسيين: قضية الأقليات من جهة، والاشتباكات بين تركيا والقوات الكردية في شمال شرق سوريا من جهة أخرى.

حفلات عيد الميلاد كأول اختبار 

بينما تسعى “هيئة تحرير الشام” إلى جعل نهجها التصالحي تجاه الأقليات وسيلة لكسب الشرعية الداخلية والدولية للإدارة الجديدة، حظيت الحوادث الأولى منذ تحرير دمشق، التي شملت المجتمعات المسيحية والعلوية، بمتابعة دقيقة من القنوات الثلاثة، وقد ساهمت هذه التغطية في تشكيل تصوّر جمهور كل منها عن المجموعة.

في ليلة 23-24 كانون الأول/ ديسمبر، أقدم مسلحون على إحراق شجرة عيد الميلاد في قرية السقيلبية المسيحية بالقرب من حماة. ووفقاً ل”المرصد السوري لحقوق الإنسان” فإن هؤلاء المسلحين من أصول أوزبكية، وينتمون إلى جماعة “أنصار التوحيد” المرتبطة بالتحالف، الذي استولى على السلطة في دمشق في 8 كانون الأول/ ديسمبر الماضي. وعلى الرغم من أن “هيئة تحرير الشام” سارعت إلى إرسال مسؤولين إلى الموقع لاحتواء الحادثة، فقد أثارت  مظاهرات في الأحياء المسيحية في دمشق، وأحدثت عاصفة من التفاعلات على وسائل التواصل الاجتماعي. 

كما أن مقطع فيديو آخر يُظهر إحراق ضريح رجل دين علوي في حلب أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر، قد أجّج التوترات مرة أخرى في 24 و25 كانون الأول/ ديسمبر، مما أدى إلى مظاهرات في المناطق العلوية مثل طرطوس وحمص واللاذقية.

قامت قناة “سكاي نيوز” منذ 24 كانون الأول/ ديسمبر، بتغطية واسعة لهذه الحوادث، حيث بثت عدداً من التقارير، ونشرت أكثر من خمس برقيات خلال يومين. ومن خلال هذه الحوادث  المعزولة نسبياً، نسجت القناة رواية شاملة حول التهديد الذي يواجه الأقليات في سوريا. على سبيل المثال، بثت تقريراً عن بلدة معلولا في 24 كانون الأول/ ديسمبر، وهي قرية مسيحية سيطرت عليها “جبهة النصرة” في عام 2013، مما سلط الضوء على الماضي الجهادي ل”هيئة تحرير الشام” وموقفها العدائي تجاه الأقليات. 

وعلى عكس قناتي “الجزيرة” و”الحدث”، استمرت “سكاي نيوز” في الإشارة إلى زعيم “هيئة تحرير الشام” باسمه الحركي “أبو محمد الجولاني”، رافضة الاعتراف بالتحول الذي يدّعيه، حيث بات يُعرف الآن بأحمد الشرع، ويقوم بخطوات عدة تهدف إلى تهدئة التوترات مع الأقليات.

من جهتها، تجاهلت قناة “الجزيرة” حادثة إحراق شجرة عيد الميلاد تماماً، واكتفت بنقل تصريحات ممثل الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية على حسابها في “تويتر”، الذي انتقد المتظاهرين. وعلى العكس، غطت “الجزيرة” بشكل واسع احتفالات عيد الميلاد في 25 كانون الأول/ ديسمبر، مقدّمة صورة إيجابية عن أوضاع المسيحيين في سوريا ما بعد الأسد. 

وفيما يتعلق بالمظاهرات العلوية، فضلت القناة التركيز على الاشتباكات المسلحة وأعمال التخريب، التي نُسبت إلى مؤيدي النظام السابق، وفقاً للتصريحات الرسمية لوزارة الداخلية. كما تبنت “الجزيرة” رواية الشرطة في حلب التي اتهمت عناصر موالية للأسد بإحراق الضريح العلوي خلال تحرير المدينة. بشكل عام، قد توحي تغطية “الجزيرة” بعدم رغبتها في إحراج الإدارة الجديدة في دمشق.

اعتمدت قناة “الحدث” موقفاً أكثر توازناً. فقد غطت المظاهرات العلوية مع الإشارة إلى محاولات مزعومة لزعزعة الاستقرار، تقف وراءها عناصر من النظام السابق وإيران. كما تناولت القناة حادثة إحراق شجرة عيد الميلاد والمظاهرات في الأحياء المسيحية، لكنها نقلت أيضاً تصريحات مطمئنة لمسؤولين دينيين، قللوا من تأثير هذه الحوادث، واستبعدوا مسؤولية الإدارة الجديدة عنها. وبرغم تغطيتها للحوادث، امتنعت القناة عن التكّهن بمدلولاتها السياسية أو الأمنية.

القضية الكردية

تلعب القضية الكردية دوراً رئيسياً في تشكيل التصورات حول المجموعة، خاصة لدى الرأي العام الغربي، الذي تم توعيته حول مصير الكرد، ودورهم في محاربة تنظيم “داعش”. لذا، فإن تغطية القنوات الثلاثة للمعارك في شمال شرق سوريا بين القوات الكردية والقوات الموالية لتركيا، تتأثر بمواقف عواصمها تجاه الإدارة السورية الجديدة وتجاه أنقرة.

بالتزامن مع هجوم “هيئة تحرير الشام” انطلاقاً من إدلب في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر، شن “الجيش الوطني السوري” المؤلف من فصائل موالية لتركيا، هجوماً على المناطق التي تسيطر عليها “قوات سوريا الديمقراطية”، التي تهيمن عليها مجموعات كردية مسلحة مثل “وحدات حماية الشعب” وعناصر من “حزب العمال” الكردستاني، الذي تصنّفه الولايات المتحدة وتركيا كمنظمة إرهابية.

قدّمت قناة “سكاي نيوز” تغطية واسعة لهذه المواجهات، وصورت “قوات سوريا الديمقراطية” في موقف دفاعي أمام “الجيش الوطني السوري”، واعتمدت القناة الإماراتية على سردية تحذر من النفوذ التركي في سوريا، مستشهدة بتصريحات الأطراف الكردية. فعلى سبيل المثال، ترفض القناة استخدام الاسم الرسمي للقوات الموالية لتركيا، وبدلاً من ذلك تصفها بـ”الفصائل المسلحة الموالية لتركيا”. 

أما “الجزيرة” فقد أولت القليل من الاهتمام لهذه الحوادث، وتبنت وجهة نظر مؤيدة لأنقرة، حيث نقلت تصريحات المسؤولين الأتراك، بمن فيهم الرئيس أردوغان، مشيدة بـ”دورهم التاريخي” ومساعدتهم الشعب السوري. وركزت القناة على المعارك بين “الجيش الوطني السوري” و”حزب العمال” الكردستاني، بما يتماشى مع الرواية الرسمية التركية، مع تقليل الإشارة إلى “قوات سوريا الديمقراطية”، التي تحظى باعتراف دولي لدورها في محاربة تنظيم “داعش”، جنباً إلى جنب مع التحالف الدولي.

من جهتها، قدمت قناة “الحدث” سرداً أكثر توازناً، حيث عكست تطلعات الكرد المدنية في سوريا الجديدة، إلى جانب المخاوف الأمنية التركية المرتبطة بوجود عناصر من “حزب العمال” الكردستاني على حدودها الجنوبية.

تمنح القناة منصة للمسؤولين الكرد من خلال استضافتهم بانتظام في برامجها، ومن خلال مراسلها في القامشلي، لكنها تتجنب انتقاد أنقرة بشكل مباشر. وعلى الرغم من هذا التوازن النسبي، يشير سرد “الحدث” إلى “قوات سوريا الديمقراطية” عند الحديث عن القوات الكردية، لكنها تمتنع عن استخدام اسم “الجيش الوطني السوري” للإشارة إلى القوات الموالية لتركيا.

الأيديولوجيا مقابل البراغماتية: نحو تجاوز السرديات الانقسامية؟

تواصل قناتا “سكاي نيوز” و”الجزيرة” اعتماد سرديتين متناقضتين، تستندان إلى الانقسام العمودي للعالم العربي الذي سبق الإشارة إليه. تتبنى “سكاي نيوز” موقفاً نقدياً، محذرة من تصاعد نفوذ الإسلاميين في دمشق، ومن النفوذ التركي الذي تعتبره تهديداً. يعكس هذا الموقف حالة مستمرة من الشك الأيديولوجي تجاه الحركات الإسلامية. 

أما “الجزيرة” فتتماشى مع سردية محور أنقرة/ الدوحة، حيث تتشارك تقارباً أيديولوجياً مع التيار الإسلامي. ومع ذلك، وأمام تعقيد الوضع السوري، تفضّل القناة إعادة توجيه تغطيتها نحو غزة، حيث يحظى سردها المؤيد للفلسطينيين بإجماع أوسع في العالم العربي.

على النقيض، تتميز قناة “الحدث” بنهجها البراغماتي. ترى القناة في سقوط نظام الأسد فرصة استراتيجية لتقليص النفوذ الإيراني وتعزيز الاستقرار الإقليمي، ويبدو أنها تتبنى نهجاً أقل أيديولوجية، تراهن فيه على إمكانية إعادة تأهيل قيادة “هيئة تحرير الشام”.

في 30 كانون الأول/ ديسمبر، عكست المقابلة الحصرية التي أجرتها قناة “العربية”؛ الشبكة الأم ل”الحدث”، مع أحمد الشرع هذا التوجه. هذه المقابلة، التي تُعدّ الأولى له مع قناة عربية، تمثل انفتاحاً سياسياً مهماً تجاه الرياض، ولحظة بارزة في تجاوز السرديات الجامدة والانقسامية التي قسّمت العالم العربي خلال العقد الماضي.

كما تتيح هذه المقابلة إمكانية بروز خطاب جديد يركز على الاستقرار والازدهار الإقليميين، بما يتماشى مع التحول في السياسة الذي تبنته الرياض خلال العامين الماضيين.

بقلم ناجي أبو خليل 

مؤسس شركة “مسار” للاستشارات ومديرها، وهي شركة متخصصة في الاتصال السياسي والاستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. لا ترتبط “مسار” بأي علاقات تجارية مع الجهات المذكورة في المقال، ولا مع أي جهات تابعة لها.

درج

—————————————-

كيف تبدّل حالنا اليوم؟ دروسٌ من الثورتين اللبنانية والسوريّة / غدي بو كامل

28.01.2025

مع بداية هذا العام، فُتحت لنا نافذة في آخر هذا النفق المظلم ونحن نتلمّس الجدران ونخطو تجاه النور رويداً. نحن من تعوّدت أعيننا على الظلام نخاف أن يعمينا نور النافذة فنتعثّر ونرقد مكاننا. لكننا قطعنا درباً طويلاً. فلنستلهم من المحنات التي اجتزناها القليل، عسى أن تلائمنا بعض الظروف ونصنع بإرادتنا نحن البعض الآخر، فربما نستحق أن نعتاد الفرحة والأمل.

كيف أستطيع وصف حالنا، نحن سكّان هذا الشرق المشؤوم، وكيف يتبدّل مع حلول عام 2025؟! وكأنّ لعنةً كانت قد انزاحت عن هذا المكان وها هي تنفك عنا اليوم.

حلّ هذا العام بدون طاغية دمشق الذي حكم بالحديد والنار. وأصبح للبنان رئيس جمهورية حدّد بخياراته الإصلاحية أولويات المرحلة، ورئيس وزراء قانوني دولي ذو مصداقية. تجددت في نفوس اللبنانيين شعلة الأمل، والحلم، ولو بحذرٍ، ببناء دولةٍ ومستقبلٍ أفضل.

 في فلسطين، حملت بداية هذا العام لأهل غزّة اتفاق وقف إطلاق النار وفسحةً لالتقاط الأنفاس وتضميد الجراح ولملمة ما تبقّى من الإنسانية والعدالة في هذه الحفرة العميقة التي نرقد جميعنا في قعرها. كيف نُخرج أنفسنا من المشهد لوهلةٍ ونحاول أن نفهم كيف حدثت هذه التغيرات وكيف نشعر تجاهها؟

كيف للبنانيين واللبنانيات الذين تُركوا لمصيرهم قتلى وجرحى ونازحين بلا مأوى في الحرب الأخيرة، أن يصّدقوا أن هذا كله لن يتكرّر مجدّداً؟ كيف لمن خسروا مدخرات حياتهم في المصارف أن يسترجعوا ثقتهم بها بعد الآن؟ كيف للسوريين والسوريات الذين عاشوا سنين عمرهم خائفين من أن تشي الجدران بأسرارهم، أن ينطقوا ويعبّروا؟ كيف للأطفال الذين وُلدوا في سجون الأسد أن يتخيّلوا فراشةً أو لعبةً أو مدينة؟ كيف لأبناء غزة أن يفرحوا فيما جراحهم لم تلتئم بعد؟ كيف يحلمون بالأمن والأمان وهم أسرى الركام والدمار؟ أطرح هذه الأسئلة من دون أحكام، فأنا أسأل علّني أفهم حالنا، أو أعبّر عنه.

حالنا اليوم مألوفٌ وغريبٌ في آن، فالفرحة تخيفنا وتقلقنا، وكأننا على يقين بأن الألم والمعاناة سيعودان. نحن نخاف الأمل والحلم، نخشى أن نتخيّل واقعاً مختلفاً. نحن لا ننتظر من يقمعنا أو يقتلنا. نحن أصبحنا نقمع ذاتنا، ونوبّخ عقولنا إذا ما سمحت لنفسها بأن تتصوّر عالماً آخر أجمل من عالمنا. نحن نكمُّ أفواهنا قبل أن تقوى على التعبير عن هذا العالم الذي نريده ونفزع من خسارته حتى قبل أن نبنيه.

أمام هذا الحال، لا بد منّا أن نستلهم من التاريخ كيف تحدث التغيرات، ربما نستطيع عقلنة ما نشعر به اليوم. كيف انتصرت ثوراتٌ وسقطت أنظمةٌ وبنيت دولٌ وتبددت أخرى؟ إذا راقبنا هذه التغيرات نرى أن تقاطع الظروف بمواقيتها وأماكنها تُبدّل الأحوال، وتُحدث طفراتٍ في التاريخ تعيد تذكيرنا بأن الأبد لا يخلّدُ وأن الإحباط ليس قدرنا.

هكذا سقط الأسد، إذ تلاقت الظروف محليّاً وإقليمياً ودولياً. فالنظام تآكل داخلياً وجيشه لم ينهض للقتال. وإقليمياً، أُنهك حزب الله بعد حربه مع إسرائيل ولم يقوَ على إنقاذ الأسد كما فعل سابقاً. أمّا دولياً، فروسيا المنشغلة بحرب أوكرانيا التقت مع تركيا وإيران لتُخرج نفسها من وحل الحرب السورية بأقل الخسائر. هكذا تقاطعت العوامل لتنتج واقعاً مختلفاً لسوريا والسوريين. وربما يصعب تحديد السبب المباشر وراء حدثٍ بهذا الحجم مثلاً، لكن التقاط هذه الظروف وترتيبها يعطياننا تفسيراً منطقيّاً قد يكتفي البعض به.

لكن العامل الأهمّ الذي غالباً ما يسقط عنّا سهواً هو إرادتنا، نحن الأناس العاديين، وقدرتنا على تغيير مسار الأحداث. فلو لم يخرج مئات الآلاف من السوريين الى شوارع سوريا هاتفين “ما في للأبد” في الـ2011 والسنوات اللاحقة، لما سقط الأبد اليوم.

أمّا في لبنان، فلا شك في أن التغيرات والظروف الجيوسياسية غالباً ما تسيطر على قراءتنا وتحليلنا للأحداث. لكننا بحاجة إلى التفكير في دورنا ومبادرتنا نحن أبناء هذا البلد الراغبين في تغيير واقعنا السياسي والاجتماعي. صحيحٌ أن التغيير لم يأت لبنانياً بحتاً كما نأمل، لكن لا بد لنا أن نبني على هذا التقدم مستقبلاً. فعلى رغم الحديث عن الضغوط الخارجية التي أدت إلى انتخاب الرئيس جوزاف عون، يبقى هنالك عنصر لبنانيٌّ أساسي، وهو كيف مثّل خطاب القسم مرآةً للخطاب السياسي النقيض للنظام الطائفي التحاصصي الميليشياوي السائد. هذا الخطاب البديل تطوّر على مر السنين منذ عام 2005 مع طرد نظام الأسد من لبنان إلى 2011 والحراك المدني، فالـ2015 ومواجهة عجز السلطة عن حل أزمة النفايات، وتبلور في تظاهرات 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019.

أصبح خطاب 17 تشرين الذي طُرح في صلبه بناء الدولة والحقوق المدنية والحريات ومحاربة الفساد، هو المرجع والمعيار للكتل النيابية التي التحقت بالسرب وسمّت نواف سلام لرئاسة الوزراء. كذلك، فإن تكليف سلام جاء بعد مناورة برلمانية قادها نوّابٌ وصلوا إلى البرلمان نتيجة حملاتٍ شعبيةٍ بموارد محدودة للغاية بذلت جهداً في التنظيم والمبادرة في الانتخابات النيابية عام 2022، ولأن 300 ألف لبناني ولبنانية قرّروا التخلي عن الثنائيات الطائفية، ونجحوا بإيصال خيارٍ مغاير إلى مجلس النواب أتى بثماره اليوم. أضف إلى ذلك ضغط الرأي العام والناشطين والناشطات الذين نجحوا بوضع الكتل النيابية أمام خيار بناء الدولة المتمثل بتسمية نواف سلام وإلّا استكمال نهج اللادولة مع نجيب ميقاتي ومنافسه بالسوء فؤاد مخزومي.

أما في ما يتعلق بوقف إطلاق النار في غزة، فما لا شك فيه أن لترامب اعتبارات جيوسياسية مختلفة تتعلق بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة وإعادة توزيعها الموارد الدبلوماسية والعسكرية بين أوكرانيا والصين وأماكن أخرى في العالم. ومع ذلك، فإن هذه الاعتبارات والمصالح متشابكة أيضاً مع الزخم المناهض للحرب سواء ضمن المجتمع المدني الأميركي والحركات التي بدأت في الجامعات، أو على مستوى العالم والقضايا ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، والسخط تجاه انتهاكات إسرائيل التي عبرت عنها بلدان عدة في الجمعية العامة للأمم المتحدة.

أما الأهم فيكمن في عزيمة أهل غزة من مراسلين ومراسلات، الذين وثّقوا جرائم إسرائيل وأوصلوا أصوات أطفال غزة إلى العالم، وأطباء ثابروا على تضميد الجراح رغم تدمير إسرائيل معظم المستشفيات والمراكز الصحية، وكل الذين صبروا طوال هذه الحرب. هذه حياتهم وهذا مخاضهم. هم أحرارٌ أن يفرحوا، أن يتألموا، أن يشعروا، أن يعبّروا.

مع بداية هذا العام، فُتحت لنا نافذة في آخر هذا النفق المظلم ونحن نتلمّس الجدران ونخطو تجاه النور رويداً. نحن من تعوّدت أعيننا على الظلام نخاف أن يعمينا نور النافذة فنتعثّر ونرقد مكاننا. لكننا قطعنا درباً طويلاً. فلنستلهم من المحنات التي اجتزناها القليل، عسى أن تلائمنا بعض الظروف ونصنع بإرادتنا نحن البعض الآخر، فربما نستحق أن نعتاد الفرحة والأمل.

درج

——————————-

إصلاح مصرف سوريا المركزي… تغيير القيادة لا يكفي/ حايد حايد

يمكن أن تُمهد التدابير المؤقتة الطريق أمام رفع العقوبات المستهدفة

آخر تحديث 28 يناير 2025

سجلت الإدارة التي كلفتها “هيئة تحرير الشام” حدثا تاريخيا في الثلاثين من ديسمبر/كانون الأول، حين عينت الدكتورة ميساء صابرين كأول امرأة تتولى منصب حاكم مصرف سوريا المركزي. وقد أحيت مؤهلاتها وخبرتها المهنية المثيرة للإعجاب الأملَ في نفوس الكثير من السوريين، مع الأخذ بعين الاعتبار الأهمية الرمزية لتعيينها في مؤسسة لطالما سيطر عليها الرجال.

وفي حين يتسم تعيين الدكتورة صابرين بأهمية رمزية، فإنه لا يستطيع بحد ذاته معالجة القضايا البنيوية الراسخة في البنك المركزي. فعلى مدى عقود من الزمان، كان المصرف مؤسسة تستخدم كأداة للتلاعب السياسي والمالي في ظل حكم نظام بشار الأسد. وقد ساهم هذا الاستخدام السيئ في الانهيار الاقتصادي للبلاد وجعل المصرف هدفا للعقوبات الدولية. وقد فُرضت هذه العقوبات في المقام الأول بسبب دور البنك في تمويل قمع الأسد، وأدت إلى شلل النظام المالي السوري، وتقييد المعاملات الدولية، وتكثيف المصاعب التي يواجهها السوريون العاديون.

وتتطلب معالجة هذا الإرث الثقيل أكثر من مجرد تغيير رمزي على مستوى القيادة. فلا بد من إبعاد البنك المركزي عن السياسة ومنحه استقلالية كاملة وصلاحيات كاملة لا بد منها لاستعادة الثقة وتبديد المخاوف المتعلقة بقيادة “هيئة تحرير الشام” الانتقالية وتخفيف العقوبات وإعادة تدفق الأموال إلى سوريا.

أداة للاستغلال

لقد أصبح البنك المركزي في ظل حكم الأسد أداة للسيطرة الحكومية بدلا من كونه حارسا للاستقرار النقدي. كما استُغل البنك لتمويل المحسوبية في النظام ودعم اقتصاد الحرب بدلا من الوفاء بولايته لضمان الاستقرار الاقتصادي.

وقد استُنفد الاحتياطي الأجنبي بهدف تمويل الحملات العسكرية للنظام وحسابات الأسد الشخصية في الخارج، في حين أدت المخططات المالية المشبوهة والتلاعب بالعملة إلى إثراء الموالين والمحسوبين، وهي ممارسات دمرت السكان على نطاق أوسع.

وكانت العواقب كبيرة الأثر، إذ فرضت الحكومات الغربية، بما في ذلك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوباتٍ على البنك المركزي بسبب تسهيله الفساد ودعمه الجهود العسكرية للأسد وتمكينه الشبكات المرتبطة بالقمع. كما أدت هذه العقوبات إلى حظر المعاملات المالية الشخصية إلى سوريا، وهو الأمر الذي حال دون تمكن الكثير من المغتربين من إرسال التحويلات المالية إلى أسرهم؛ وهي بمنزلة شريان حياة اقتصادي لعدد لا يحصى من الأسر.

الحاجة الملحة إلى الاستقلال

ليس وجود مصرف مركزي يتمتع بالاستقلالية ترفا زائدا، بل هو ضرورة لاقتصاد يعمل على نحو سليم. إن المصارف المركزية المستقلة تكون في موقع أفضل لإعطاء الأولوية للاستقرار الاقتصادي طويل الأجل على المكاسب السياسية قصيرة الأجل. إذ يمكنها مقاومة السياسات النقدية المتهورة، والحفاظ على الانضباط، وبناء الثقة العامة في النظام المالي.

ويكتسب تأمين استقلالية مصرف سوريا المركزي في السياق الانتقالي الجاري في سوريا أهمية خاصة بالنظر إلى الدور البارز الذي تلعبه “هيئة تحرير الشام” في الحكومة المؤقتة. وكان تصنيف الكثير من الجهات الفاعلة الدولية “هيئةَ تحرير الشام” كمنظمة إرهابية قد أثار قلقا لدى الحكومات الأجنبية ولدى المستثمرين، ما تسبب في تعقيد الجهود الرامية إلى تخفيف العقوبات أو جذب الاستثمارات.

لهذا تُعتبر حماية البنك المركزي من نفوذ “هيئة تحرير الشام” أمرا ضروريا. كما أن ضمان عمل المؤسسة على نحوٍ مستقل وشفاف من شأنه أن يساعد في تخفيف المخاوف من أن يتم استغلالها من قبل قيادة ذات تاريخ مثير للجدل. وسوف يتطلب تحقيق هذه الغاية آليات داخلية قوية لعزل البنك عن أي مجموعة سياسية أو عسكرية، إلى جانب هياكل الرقابة التي تلهم الثقة بين السوريين والمجتمع الدولي.

كما أن ترسيخ الاستقلالية من شأنه أن يُسرع عملية رفع العقوبات. ويُمكن لمصرف سوريا المركزي من خلال قطع الروابط مع أي سلطات سياسية أو عسكرية- سابقة كانت أو حالية- أن يثبت التزامه بالإصلاح وخدمة الشعب السوري. ومن شأن السياسات الشفافة، والتقارير العامة، وآليات المساءلة أن ترسل رسالة قوية إلى الجهات الفاعلة الدولية مفادها أن المؤسسة يجري إعادة بنائها كقوة من أجل العدالة الاقتصادية والاستقرار.

خطوات مؤقتة نحو حل طويل الأمد

وقد يتطلب إرساء الاستقلالية الكاملة للبنك المركزي في نهاية المطاف اتخاذَ قرارات تتجاوز نطاق القيادة الانتقالية الحالية. ومع ذلك، يمكن وينبغي اتخاذ خطوات فورية. ويمكن للهيئة المؤقتة إصدار توجيهات لضمان عمل البنك على نحو مستقل وشفاف خلال هذه المرحلة الانتقالية، تمهيدا لإصلاحات أكثر استدامة في ظل السلطات المستقبلية.

ويمكن أن تُمهد هذه التدابير المؤقتة الطريق أمام رفع العقوبات المستهدفة، وهو الأمر الذي يسمح للبنك المركزي بإعادة الاتصال بالنظام المالي العالمي. ومن شأن مثل هذه التغييرات أن تسهل تدفق التحويلات المالية، وتفتح الباب للوصول إلى الأموال الإنسانية، وجذب الاستثمارات الضرورية لإعادة الإعمار والتعافي الاقتصادي.

ويمكن أن يساعد مصرف سوريا المستقل في استقرار العملة، وتعزيز الاستثمار. ويمكنه أيضا تعزيز العدالة الاقتصادية من خلال إيلاء الأولوية لحاجات السوريين العاديين على حساب مصالح النخب المتجذرة.

إن الشفافية مهمة بالقدر نفسه. ويجب على البنك المركزي نشر تحديثات منتظمة حول السياسات النقدية، وإصدار تقارير مالية مفصلة، وإنشاء آليات للمساءلة العامة. ومثل هذه التدابير حيوية لإعادة بناء الثقة في مؤسسة طالما كانت عرضة للتلاعب. ويمكن لسوريا ضمان أن تصبح هذه الإصلاحات أساسية لحكم البلاد في المستقبل من خلال إيلاء الأولوية لهذه الإصلاحات حاليا، حتى في ظل السلطات الانتقالية.

كما أن إرساء استقلالية البنك المركزي ليس مجرد ضرورة اقتصادية بالنسبة إلى سوريا، بل هو ضرورة أخلاقية. فهو يوفر فرصة للانفصال عن إرث الفساد وسوء الاستخدام، وإعادة بناء الثقة العامة، وإنشاء نظام مالي يخدم جميع السوريين.

وتتوافر لقيادة الدكتورة صابرين القدرة على لعب دور في هذا التحول، ولكن التقدم الحقيقي سيتطلب إصلاحات جريئة والتزاما ثابتا من جميع قطاعات المجتمع السوري. وعندها فقط يمكن للبنك المركزي تحقيق إمكاناته كحجر أساس للاستقرار والازدهار لمستقبل سوريا.

المجلة

———————————

عن حزنٍ تَكشَّف: قليلٌ من الحياة، كثير من تَقفّي الأثر/ حلا الحميدان

28-01-2025

        في تلك الليلة، تحديداً في الساعة الخامسة صباحاً بتوقيت دمشق، أرادت أمي أن تُزغرد، أو تهلهل كما تحب أن تقول، وطلبتُ منها ألّا تفعل. اكتفينا بالبكاء والتحديق في عينَي والدي الذي انشغل بمقاطع مصوّرة لمعتقلين صاروا أحراراً، وبتنا نرى أقدامهم على الإسفلت.

        قبل ذلك بساعاتٍ قليلة كنا خائفين من عناصر فرع الخطيب الواقع في نهاية الشارع، وفي تلك اللحظة أقلقني إعلان الاحتفال، فقد سمعنا عن تسليح النظام البائد لشبّان من الحي تحضيراً لمواجهةٍ مُحتملة. ولأن الخوف شعورٌ تأصَّلَ في داخلنا، فلم ينتزعه فرار الوحش الأكبر، ذلك أننا عشنا حياةً بأكملها مبنية على الخوف من الاختفاء وتلاشي الأثر.

        ولكن ببساطةٍ شديدة التعقيد: هربَ الأسد، وانطلقَ الرصاص الاحتفالي. تحصَّنَ البعض في بيوتهم، ونزل آخرون إلى الشارع ليشهدوا «اللحظة التاريخية»، وبدأت أُخريات رحلتهنّ في البحث عن أحبّائهن.

        وحيدةٌ في رحلة تقفّي الأثر

        هرب. ارتدت أم حازم عباءتها السوداء الرقيقة وركضت مع عشرات النساء والأطفال من ذوي المُغيَّبين. بَحثَتْ عن أسرع طريقةٍ تُوصلها من جنوب دمشق إلى ما يُعرَف بالمسلخ البشري، سجن صيدنايا، ليتطوّع أحد الأقارب في الحي بأن يأخذهم في سيارة نقلٍ صغيرة.

        تصفُ أم حازم الطريق الواصل للسجن بأنه «يوم الحشر». تسكتُ طويلاً وتتذكر رائحةً وصفتها بـ«الزنخ» تنبعث من المكان، تذكرُ الله في حديثها وتطلبُ الرحمة وهي تصف مسرح جريمة، بعينين واسعتين تدمع وتُكمل: «ريحة زنخ، ورطوبة، ودم، وما في حدا».

        على مدار الأيام الثلاث التالية ذهبت أم حازم إلى جميع الأفرع الأمنية في دمشق، فقد أَمِلت بوجود زنازين لم تُفتَح بعد، فتعثُرَ على زوجها، وإخوتها الاثنين. أرادت أن تُصدّق الشائعات التي انتشرت عن سجون سرية تحت كل دمشق، فبحسب تعبيرها: «كنّا عايشين على أمل»، وهروب الأسد مع استمرار التغييب القسري لا يعني لها إلّا ويلات مضاعفة.

        عادت أم حازم في العام الفائت إلى بيتها الذي نهبه أزلام النظام في الحجر الأسود، ولأنها عاشت في بيوت وغرف مُستأجرة حول دمشق خلال السنوات العشر الفائتة، اعتادت على انقطاع التيار الكهربائي وعدم مشاهدة الأخبار على قنوات التلفاز، لذلك انتظرت تصريحاً حكومياً ينتشر في المدينة يُطمئِنُ قلبها.

        سألت جميع من قابَلَتهم عن مُحاسبة الجلادين، عن مصير نصف رجال العائلة، عن المحاكم الدولية. وجّهت أسئلتها إلى عناصر الفصائل في الأفرع الأمنية، ومجهولين في الشوارع، وموظفين، وحصلت على جوابٍ باردٍ ومتعاطف مع شؤون كبرى يتوجّب على السلطة الحالية حلّها، لتؤكّد أم حازم في كل مرّة: «دم جوزي وأخوتي مو شغلات صغيرة».

        تمحورت حياة أم حازم  قبل سقوط النظام حول حماية نفسها وأولادها الثلاثة من الاعتقال، والعيش المستور، وانتظار زوجها. ورغم محاولات الأقارب لإقناعها بالسفر مع أولادها خارج البلاد، كان جوابها حازماً: «أخاف يطلع وما يلاقي حدا منّا». ولم تتوقف يوماً عن الحديث عنه، وعن حبه لأم كلثوم التي كانت لا تُطيق سماع صوتها. صارت تسمعها اليوم، وتتذكّره في أغانيها. وتعلّمتْ جيداً كيف تذكره في دوائر الثقة، وهذا ما تعلّمناه بدورنا جميعاً، نحن الذين وَصَمَهُم النظام السابق بالعيش في «سوريا المفيدة».

        بعد سنوات من الإعاقة الاجتماعية والمساحة المحدودة في دوائر الثقة، والعائلة الضيقة لا الممتدة، أَحكمنا إغلاق أبواب بيوتنا، وداخل البيت راقبَنا النظامُ الأسديُ جيداً، حتى عَزَلَنا عن كل ما يجري حولنا. لهذه الأسباب ربما لم تنتبه أم حازم ونساء أخريات لإعلان من جهة غير حكومية مفاده أن «أغلب المختفين قسرياً لدى النظام قد قتلوا»، كما لم ينتشر إعلان الدفاع المدني عن انتهاء عمليات البحث عن معتقلين في صيدنايا بين المتجمهرين أمام المعتقلات ينتظرون معلومة عن أحبّائهم.

        وأمام كل هذه الفوضى، اكتفت حكومة تصريف الأعمال بمتابعة ما يجري مثلنا، دون أي تصريح رسمي، ودون أي تواصل مع أهالي المُغيَّبين والمُغيَّبات، ما دفع العائلات للبحث بأنفسهم في المعتقلات والجوامع والمشافي والشوارع والساحات، وهذا بدوره قد سهّلَ انتشار الشائعات.

        وحيدٌ في رحلة تقفي الأثر

        هرب. ودمشق التي ظلّت عاديةً ومُغلقةً ومفصولةً عن العالم فتحت أبوابها للجميع، وارتفعت الكاميرات في المعتقلات؛ مسارح الجريمة الموصوفة، ونقلت للعالم كلّه وثائق رسمية مرمية على الأرض، ووثائق أخرى عليها آثار أقدام. كل قصاصة ورقٍ قد تحمل إجابةً بشأن واحدٍ من أفراد عشرات آلاف العائلات المُلتاعة. ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بأهمية هذه الوثائق، وأكدت جهاتٌ حقوقية ضرورة صَونها، وهذا ما توقعت بديهياً أنه سيحصل.

        رأيتُ نفسي في اليوم الرابع في فرع فلسطين، أبحثُ عن عزيزٍ مُغيَّب. أمام أسوار الفرع الضخمة بكيت، وقرأت الفاتحة، لم أعرف التصرّف الصحيح يومها. قلت لصديقي إنه كان علينا جلب قفّازاتٍ لتجنب تلويث أي دليل، واتفقنا أنه لا داعيَ لذلك طالما أننا لن نمسَّ شيئاً.

في مدخل الفرع، وقعت عيني على كومةٍ من جوازات السفر المرمية على الأرض، وعلى الطاولة كومة من الهويات الشخصية، ونساء ورجال كلٌّ منهم أمسكَ دفتراً كبيراً يبحث فيه عن أي شيء: دفاتر إخلاء سبيل، أخرى للأمانات، ودفتر للصادر والوارد، وغيرها تضمّنت معلوماتٍ عن معتقلين بدون أسماء؛ فقط أرقام.

تعرّفتُ على مجد القادم من إدلب ليبحث عن أخواله. أمسكَ أحد الدفاتر وسأل الرجال من حوله عن أسماء أولادهم، وجلس يبحث عنهم جميعاً. بحلول المساء لم يعثر مجد على شيء، وتبادلَ معنا الأرقام للتواصل وأسماءَ الأفرع الأمنية التي سيزورها، وعلى مدار يومين تشاركتُ مع مجد البحث، والدُّعاء.

لم يُكمل مجد العشرين من عمره. يخبرني أنها زيارته الأولى إلى دمشق، وأنه سيعود إلى إدلب خلال يومين ليطمئنَّ على جدته.

في اليوم التالي فقدَ مجد الأمل بالعثور على دليل يؤكد دخولَ أخواله إلى فرع فلسطين بعد أن قلّبَ سجلات الوارد في عام اعتقالهم مرتين، وبدأ عملية البحث حسب قيد النفوس. طلب منا جميعاً أن ننتبه لأي اسم من خان شيخون، ثم وجد اسم أحد المُغَيّبين من خان شيخون، وصَوَّرَ الصفحة وحاولَ أن يُراسل العائلة. طلب من الجميع التقاط الصور وإرسالها له لينشرها على صفحات الفيسبوك، ثم رتّبَ الدفاتر التي قَلَّبَ صفحاتها، ووضعها في غرفة الحراسة وعاد إلى إدلب.

بعد أسبوع على سقوط النظام، أخبرونا أن الوثائق كلّها جُمعت ونُقلت إلى المربع الأمني في كفرسوسة، وستُحفَظ و تُؤرشَف وسيتواصلون معنا. توجّهنا إلى هناك، وبالفعل تمّ حظر دخول الأهالي، ووحدها الكاميرات المُصرَّح لها دخلت وصورت وعبثت كما تشاء، واقتصرَ التواصل مع العائلات على ورقةٍ على بوابة المربع الحديدية، كُتبَ فيها: تم فتح جميع السجون وإخراج جميع المعتقلين من المربع الأمني.

عن حزنٍ تَكشَّف

هرب. انزاحَ الخوف، واستطاعت آلاف العائلات داخل سوريا إشهار حزنها والاعتراف بأولادها بعد أن قالوا لسنوات: مفقودون، مختطفون، أو أموات. هذه لحظة الانكشاف: إنهم مُغيَّبون ونريدهم. طبعوا صورهم مع أرقام للتواصل وعلّقوها على عمود ساحة المرجة: «ساحة الشهداء».

قدِموا من الرقة، والحسكة ودير الزور وحلب وبانياس وعشرات المدن الأخرى، وتجمّعوا لأسابيع. بعد عشرة أيام على سقوط النظام جاء أحد الشبّان وادّعى أنه مُحَرَّرٌ سابقٌ من سجن صيدنايا، وتعرّفَ على صاحب إحدى الصور المُعلقة وأخبر والده أنه صادف ابنه محمود منذ عامين في المُعتقل، وترك والد محمود في حيرةٍ يفكّر بما حلّ بابنه خلال عامين. ذهب إلى مشفى المجتهد، وحمد الله لأنه لم يجد جثته. ربما نجا، تعلّقَ بالأمل، وعاد إلى ساحة المرجة دون أن يعرفَ الحقيقة.

انتشرت الشائعات على مدار ثلاثة أسابيع عن برّاداتٍ نقلت المُعتقلين قُبيل سقوط النظام إلى أماكن مجهولة، وعن شُبان رَحَّلهم النظام على متن طائراتٍ سريّة لبيع أعضائهم، وعن مقابر جماعية، ولم يخرج تصريحٌ حكوميٌّ واحد.

وفي ظل هذا التجاهل الحكومي، نَظَّمت ناشطات وناشطون وقفةً للتضامن مع أسر ضحايا المعتقلات، وللمطالبة باتخاذ إجراءاتٍ داعمة وفورية ومحاسبة المتورطين وإنهاء حقبة الاعتقال السياسي في سوريا. وعلى عكس كل التجمّعات الأخرى، لم يتوسّط التجمع أحد العناصر أو المحسوبين على السلطة الجديدة ليقول: «مطالبكم مُحقة وصوتكم سيصل».

لكنه هرب. حتماً هي لحظة تاريخية، وقد دخلَتْ إلى الشارع كلماتٌ جديدةٌ لم نستخدمها من قبل: العدالة، مثلاً. نتعلم استخدام كلمة العدالة، فتقوم مجموعة من الشبان باقتلاع صور المُغيَّبين قسراً بواسطة فُرَشٍ خشنة ضمن حملة «رجعنا يا شام» لتنظيف مدينة دمشق، والتي قام بها الدفاع المدني بالتنسيق مع مجلس محافظة دمشق وبالتعاون مع مؤسسات وجمعيات خيرية وفرق تطوعية وفعاليات اقتصادية وناشطين.

نتعلّمُ استخدام مُصطلح العدالة الانتقالية، ونسمع عن مجموعة «سواعد الخير» التي قامت بطلاء جدران إحدى الزنازين في فرع الأمن السياسي في اللاذقية، بموافقة السلطة القائمة.

يُنظّم أهالي المُغيَّبين والمُغيَّبات وقفةً احتجاجيةً أمام فرع الخطيب لحماية الأفرع الأمنية وصون الوثائق التي قد تساعد عائلاتٍ على كشف المصائر، ويشاركهم الاحتجاج قوات الأمن العام، وبعدها بأسبوع يُقابِل قائد الإدارة السورية الجديدة السيدة ديبرا تايس والدة أوستن تايس، الصحفي الأميركي المُغيب في سوريا، ويأتي هذا اللقاء مُختاراً وفقاً لما يُلائم «الشؤون الكبرى».

يترك سلوك حكومة تصريف الأعمال أسئلةً وتكهناتٍ كثيرة، حول ما إذا كان تَساهُلاً ممنهجاً أو أنه ناتج عن سوء إدارة كبرى، ولكن في كل الحالات، هل سنتمكن من استخدام كلمة عدالة دون كشف المصائر؟ ودون ضامن لانتهاء حقبة الاعتقال السياسي والتغييب القسري؟

هرب. وحتى اللحظة مئات آلاف العائلات السورية تبحث وحيدةً عن أي أثر يضمّد الجراح المفتوحة.

هرب. ولا تزال أم حازم تعجز عن العودة إلى البيت والنظر في عيون والدتها، التي انتظرت «اثنين من زينة الشباب»، واليوم تنتظر أي خبر أو حقيقة أو أثر لهما.

موقع الجمهورية

——————————-

تشكيل جيش سوريا الجديد.. العقبات والتحديات/ فايز الأسمر

2025.01.28

14 عامًا مضت، مليئة بالتهجير والنزوح والتدمير والجرائم البشعة، وحرب الإبادة الجماعية التي ارتكبها نظام الأسد الدموي المجرم، بواسطة جيشه وقواته الأمنية وداعميه الإقليميين والدوليين، وعشرات الميليشيات الطائفية العابرة للحدود بحق الشعب السوري. الشعب الذي اضطر أبناؤه بعد أشهر من بدايات الثورة وعلى كامل الجغرافيا السورية إلى ترتيب صفوفهم وتنظيم أنفسهم بسرعة، والاتجاه مرغمين للعمل المسلح، حيث قاموا بتشكيل مجموعات وفصائل مناطقية كثيرة بأسماء وروايات مختلفة حملت السلاح ردًا على سياسات القمع والإجرام والإرهاب غير المسبوق الذي واجهوه بالمظاهرات السلمية التي كانت شعاراتها تدعو إلى تغيير سلوك النظام المخابراتي القمعي، والقيام ببعض الإصلاحات السياسية والاقتصادية والمعيشية. ولكن تعنت النظام، ودموية جيشه وقوات أمنه، ما لبثت أن طورت أهداف الثورة إلى المناداة بشعارات إسقاط حكم آل الأسد بكافة رموزه وأركانه.

الفصائلية وتأخر إسقاط النظام

لا شك أن طول فترة الثورة والمعاناة الكبيرة المؤلمة وعظم التضحيات التي قدمها الشعب السوري، وبقاء الأسد ونظامه في الحكم القمعي طيلة هذه المدة حتى سقوطه في 8 كانون الأول 2024، كان له العديد من الأسباب التي لا مجال لذكرها كلها الآن. ولكن يأتي على رأس هذه الأسباب التدخل والدعم الروسي والإيراني السياسي والعسكري والمادي الذي تلقاه الأسد منهم طيلة 14 عامًا. أما السبب الأهم والمتصل بالثورة نفسها فأتصور أنه كان مرتبطًا بالفصائل المناطقية الكثيرة التي تشكلت في حينها، وأصبحت بشكل أو بآخر بإرادتها أو بدونها مرتهنة للدول الداعمة والممولة. وهذا بكل تأكيد ما جعل بنادق الثوار والفصائل المسلحة مشتتة ومرهونة لمن يدعمها ويقدم لها السلاح والمال. وعليه، فقد أصبح دعم غالبية الدول العربية والإقليمية للثورة مرتبطًا بما تتطلبه مصالح هذه الدول، بل وحتى حسب ما تتطلبه مصالح واستراتيجيات واشنطن والدول الغربية الكبرى التي تخدم في غالبها مصالح إسرائيل في المنطقة، دون أي حسابات أو مراعاة لمصالح الشعب السوري ومعاناته وتضحياته.

في الواقع، لقد شكل الدعم الإقليمي المشروط للفصائل طيلة أعوام الثورة بقاء هذه الفصائل متفرقة ولا يجمعها أي جسم عسكري مؤسساتي حقيقي واحد طيلة 14 عامًا. بل ووصل الأمر إلى حدوث اقتتالات كثيرة فيما بينها لأسباب في غالبها مستندة إلى مصالح ومكاسب ضيقة وحتى حسب الإرادات والتوجيهات الخارجية. وهذا ما تسبب في ابتلاع فصائل لأخرى، وشيطنة فصائل ثانية ذات التوجهات الإسلامية ووصفها بالإرهاب، خاصة بعد تصنيف بعض الدول العربية لجماعة الإخوان المسلمين على أنها منظمة إرهابية. وهذا جعل كل من يدور في فلك الجماعات الإسلامية من قريب أو بعيد يُنعت ويوصف غالبًا بالإرهاب. وبهذا تشتت مسار الثورة حينها وأصبح توجه الدول لحربهم على الإرهاب هو الطاغي والمسيطر.

التحديات ما بعد سقوط الأسد وانحلال عقد جيشه الفاسد

بعد تضحيات عظيمة قدمها الشعب السوري وثواره، وبفضل وعون وتوفيق من الله، فقد سقط أخيرًا نظام الأسد البائد، وتهاوى جيشه الطائفي المجرم، وانحل عقد فروع أمنه الإرهابية، ودانت السيطرة المتقطعة لإدارة العمليات على حكم البلاد. وذلك بسبب استمرارية سيطرة ميليشيات قسد الإرهابية وبدعم أمريكي على أجزاء هامة وغنية بخيراتها من الجغرافيا السورية، ناهيك عن التحديات والإرث الضخم من الويلات، والصعوبات الاقتصادية والخدمية والمعيشية والأمنية الذي تركها الأسد وكبار مجرميه وراءهم.

لا شك أن الإدارة الجديدة برئاسة السيد أحمد الشرع ومنذ الأيام الأولى للسيطرة على البلاد، فإنها قد وضعت الملف الأمني على رأس الأولويات والاستحقاقات الكثيرة المطلوبة منها، بل والمصدر الأول للهم والاهتمام، وخاصة بعد تصريح الشرع بأن “منطق الدولة يختلف اختلافًا جذريًا عن منطق الثورة”. وأنا هنا لا بد أن أؤكد أيضًا على أن منطق الفصائلية المقيتة التي دامت كل هذه الأعوام أيضًا يجب أن ينتهي إلى غير رجعة أمام عظم مؤسسة الجيش الوطني المزمع تأسيسه، بقواه البرية والبحرية والجوية وصنوف القوات، والإدارات والهيئات والفروع الاختصاصية. وبالتالي يجب أن يكون هناك اندماجًا حقيقيًا كاملاً لا شكليًا ولا صوريًا لهذه الفصائل في مؤسسة الجيش القادم، دون أي تردد أو تذمر من أحد، وأن ذلك سيحصل سلمًا أو بالقوة. إذ أنه من غير المقبول أن يكون هناك سلاح منفلت خارج عن سيطرة الدولة الشرعية، أو وجود أي أجسام وتكتلات على أساس إثني أو طائفي أو أيديولوجي في مؤسسة الجيش القادم. وإلا فإن هذا الجيش سيكون مجرد ميليشيات فوضوية متصارعة، غير منسجمة وستتبع بأحسن الأحوال لأمير الحرب هذا أو ذاك.

في الواقع، فإن مسألة تشكيل الجيش الوطني والاستقرار الأمني لسوريا هي من أهم الاستحقاقات والأولويات التي تهتم بها حكومة دمشق الآن. ولكن عملية تشكيل “الجيش السوري الجديد” وتسليحه حقيقة لا يبدو أنها ستكون مهمة سهلة أو سلسة للقيادة في دمشق، وذلك لوجود عوائق وتحديات ليست بالسهلة وستقف في وجه هذا الاستحقاق الهام، والتي من أهمها:

    طبيعة وخلفيات التشكيلات وتبعيات قادتها التي من المفترض أن تقبل حل نفسها في الأيام المقبلة، وتندمج طوعيًا وبشكل حقيقي ضمن جسم عسكري مؤسساتي واحد، يتبع لوزارة الدفاع صاحبة القرار المركزي الوحيد. وعدم إبداء أي ممانعة أو تنافسات على المناصب والكراسي.

    مشكلة تسليح الجيش وتدريبه، خاصة بعد أن دمرت إسرائيل بغاراتها الجوية الكثيفة منذ اليوم الأول لسقوط الأسد أكثر من 85٪ من القدرات التسليحية البرية والبحرية والجوية للجيش المستقبلي. بل وسيطرت على أكثر من 400 كم من الأراضي السورية في محيط منطقة اتفاقية فض الاشتباك الموقعة في عام 1974، والتي اعتبرها نتنياهو لاغية وضرب بها عرض الحائط. ثم إن تسليح الجيش هل سيكون شرقيًا أم أمريكيًا أو أوروبيًا وتركيًا؟ وهل ستسمح إسرائيل بتسليح الجيش الجديد بأسلحة استراتيجية هجومية ودفاعية، أم ستبقى قدرات وتسليح هذا الجيش بجميع قواه وصنوفه لا تتعدى بأن يكون فقط قادرًا على حراسة وتأمين الحدود وحفظ الأمن الداخلي للبلاد؟

    فصائل الجنوب والتخوفات المشروعة لإدارة العمليات بشأن الفيلق الخامس، واللواء الثامن الذي كان جزءًا من فصائل التسويات وتبعيتهم السابقة والمشبوهة للروس. ولاسيما أن قائدهم أحمد عودة في مواقفه اللاوطنية يضع حتى الآن العصي في الدواليب، ويطالب ببقاء آلاف من مسلحيه ككتلة واحدة في الجيش القادم وأن يكون لهم خصوصية مناطقية دونًا عن جميع الفصائل.

    المعضلة الأكبر هي السلاح المنفلت، ومشكلة تسليم قسد لسلاحها، وحل ميليشياتها أو دمج أعداد متفق عليها في الجيش الجديد، وتحديد مصير سيطرتها على أجزاء واسعة من البلاد الغنية بخيراتها النفطية والزراعية والمائية. وخاصة أن قيادات قسد ترفع سقف مطالبها بأن تبقى ميليشياتها ككتلة واحدة في الجيش القادم، وتكلف بأمن مناطق سيطرتها، وهذا ما لا يقبله أي سوري وطني.

ختامًا

لا شك بأن بناء مستقبل مستقر وهادف لفترة ما بعد سقوط نظام الأسد المجرم يتطلب من أصحاب القرار والمختصين في مؤسسة الجيش والأمن البدء فورًا باتخاذ الإجراءات اللازمة لمعالجة حقيقية وجذرية لتحديات الواقع العسكري والأمني الحالي. وهذا لا يكون وفق أسسه السليمة إلا بوجود أهداف وتصورات ورؤية استراتيجية شاملة وكاملة تُتجاوز فيها الحلول المرحلية المؤقتة والترقيعية، والاتجاه نحو بناء مؤسسات قوية ومستدامة. وأن يتم تشكيل وتنظيم وبناء الجيش الوطني ليكون بلا أدنى شك مؤسسة انضباطية احترافية جامعة لجميع السوريين بكل أطيافهم الإثنية والعرقية والطائفية، دون أن يغفل عن هيكلة وتنظيم وبناء المؤسسات الأمنية بجميع مسمياتها لتكون أدوات حامية للشعب لا مرهبة له. وبالتأكيد فإن إنجاز هذين الهدفين سيشكلان الأساس المتين لبناء دولة سورية قوية وذات سيادة.

تلفزيون سوريا

—————————————-

السوريون العلويون والخوف الفطري من المجهول: جذور تاريخية وتحديات راهنة

2025.01.28

في ظل تداعي الأوضاع في الساحل السوري وحمص وريف حماة، وخروج أصوات من داخل الطائفة العلوية تدعو للتدخل الخارجي والوصاية الأجنبية، من الضروري لفت النظر في هذه الفترة الحرجة إلى تشابه هذه الأصوات مع أصوات لطالما علت من الطائفة للحماية خوفًا من الغالبية السنية في البلد. وللحديث بشكل شفاف عن الأسباب الحقيقية وراءها، يجب فهم أن خوفًا غريزيًا يتشبَّع به أبناء الطائفة منذ الصغر.

تاريخ الطائفة العلوية في سوريا يعود إلى القرن العاشر الميلادي مع الدولة الحمدانية وهجرة الإمام الخصيبي إلى سوريا من العراق. الكثير من الباحثين اهتموا عبر الزمن بتاريخ هذه الطائفة، حيث يعتبرونها من الطوائف ذات العصبية القوية في التاريخ المعاصر. وبالرغم من خروج العديد منهم من موطنهم التاريخي في جبال الساحل في أوائل القرن الماضي، فإن تاريخهم المشترك الناتج عن ماضي طويل من الوجود المنحصر في منطقة جغرافية واحدة كوَّن لهم ضميرًا مشتركًا يرتبط به معظم أبناء الطائفة ويقود تحركاتهم كمجتمع عبر الزمن.

هذا الماضي يُنسَج كقصة واحدة يحكيها الكبار للصغار، وهي قصة استبداد واضطهاد طائفي من قبل الغالبية السنية في سوريا. هذا الاضطهاد في رأيهم يدفعه عقلية متشددة ترفض العلويين كمسلمين وتريد القصاص منهم بسبب خروجهم عن الإسلام. الكثير من الأمثلة التاريخية التي تصب في هذه الرواية يُستشهد بها، من قتل السلاجقة والمماليك لهم وحرق أراضيهم، حتى فتوى ابن تيمية في عام 1317 ميلادية ضدهم، التي تعتبر مفصلًا تاريخيًا في حياة الطائفة العلوية، إذ اتجهوا بعدها إلى الباطنية والسرية التامة في ممارسة دينهم خوفًا من الاضطهاد.

البعد السياسي وليس الديني للاضطهاد:

تظهر قراءة تاريخية لتاريخ العلويين في سياق عام مرتبط بأحوال البلد في الفترات التي جرت فيها هذه الحوادث البعد السياسي لها. فالسلاجقة اضطهدوا العلويين بعد وقوف بعضهم في جانب أعدائهم البيزنطيين في اللاذقية. والمماليك عانوا من هجمات الصليبيين واحتضان العلويين لهم في جبالهم لوقت طويل، مما أدى في فترة غزو المغول لدولة المماليك إلى زيادة الضغط على المماليك وقيامهم بإرسال بعثات عسكرية للعلويين لقمعهم وإعادتهم إلى سلطة الدولة. وفي نفس السياق، أصدر ابن تيمية فتواه الشهيرة ضد العلويين، والتي كانت تشمل أيضًا طائفة الموحدين الدروز، والتي أعطت بعدًا شرعيًا لحملة المماليك. وكانت الفتاوى سائدة في حملات السلطة والحكام في دمشق عموما لشرعنة التحركات العسكرية والسياسية. وحتى الحملات العسكرية التي شنها العثمانيون ضد العلويين في مطلع القرن السادس عشر، كانت جزءًا من حملة أوسع استهدفت العديد من الجماعات الشيعية في سوريا، وذلك بسبب مخاوف العثمانيين من احتمال تعاون هذه الجماعات مع الدولة الصفوية الشيعية، التي كانت تخوض حربًا طويلة مع العثمانيين آنذاك.

هذه القراءة لا تنكر تاريخ الاضطهاد الطويل في سوريا في حق العلويين، ولا تصب في مصلحة تخوينهم أو اتهامهم بالاصطفاف مع جهة ضد أخرى، فتاريخ بلد الشام كثيف ومتشعب وكثرت الممالك والإمبراطوريات التي مرت من هنا، وكل واحدة عملت لتضمن استقرارها وبقاءها. لكن الهدف الرئيسي هو إبراز البعد السياسي لكل من هذه الحوادث المؤسفة وضرورة فهمها في هذا السياق، وليس تصويرها كنتاج عصبية دينية تكفيرية ضد أبناء الطائفة يقود إلى تعميم خاطئ بحق أي سلطة مسلمة سنية تحاول أن تقود البلد وبحق طيف كبير من السوريين.

العلويون تحت الانتداب الفرنسي:

بعد الخروج من سلطة العثمانيين، وجد بعض العلويين في الانتداب الفرنسي فرصة للخروج من عزلتهم في الجبال الساحلية، والعديد منهم انخرطوا كضباط في الجيش الفرنسي الوطني آنذاك في أوائل العشرينيات، وهذا الجيش شكَّل نواة الجيش السوري بعد الاستقلال. لذلك نرى لاحقًا أثر الضباط العلويين في الجيش السوري، حيث أن كبار الضباط كحافظ الأسد ومحمد عمران وصلاح جديد استطاعوا الانقلاب على الحكومة السورية لاحقًا. هذا الاقتراب من الفرنسيين أحد أسبابه وجود تيار فكري انفصالي في ربوع الطائفة العلوية يجد بعض جذوره في الخوف الذي تحدثنا عنه، وحاولت الطبقة الوطنية السنية في بلد الشام آنذاك محاربته، وهذا كان من أسباب فتوى الشيخ أمين الحسيني في عام 1936 بأن العلويين مسلمون، وذلك لاستدراجهم إلى صفوف الوطنيين الذين كانوا يحاربون الانتداب وللتخفيف من التقسيمات الطائفية التي استغلها الفرنسيون للبقاء في سوريا.

لكن التيار الانفصالي كان في أوجه في ذلك الحين، حيث كتب الشاعر محمد سليمان الأحمد المعروف ببدوي الجبل في رسالة إلى ليون بلوم وزير الخارجية الفرنسي في عام 1936 يحثه فيها على عدم توحيد سوريا وإعطاء العلويين في جبال الساحل استقلالهم في حال انتهاء الانتداب:

“إن روح الكراهية والتعصب التي تسكن قلوب المسلمين العرب ضد كل من هو غير مسلم، هي الروح التي يغذيها الدين دائمًا، فلا أمل في تطورها. ومن هنا فإن القليات في سورية، في حالة إلغاء الانتداب، سوف تتعرض لخطر الموت والإبادة، بغض النظر عن أن ذلك من شأنه أن يضع حدًا لحرية الفكر والاعتقاد.”

وهذا يعود ليشير إلى الاعتقاد السائد لدى ثلة من العلويين أن هناك كراهية لدى الغالبية السنية ضدهم كطائفة دينية، وأنه سيتم قتلهم عن بكرة أبيهم في حال غياب وصاية دولية أو في حال استلم المسلمون السنة السلطة في دمشق.

الخروج من هذا الاعتقاد والانخراط في سوريا الجديدة:

يظن العديد في سوريا أن العلويين تمتعوا في ظل آل الأسد بالكثير من الفوائد لكونهم من أبناء الطائفة التي تنتمي لها عائلة الأسد، والأمثلة على الخطأ في هذا الاعتقاد كثيرة جدًا. لكن وجود آل الأسد في سدة الحكم أعطاهم أمانًا لممارسة حرياتهم دون الخوف من الاضطهاد، وقد عوَّل النظام في العديد من المرات على خوفهم القديم في اجتذابهم إلى صفه مما أدى لسقوط عشرات الآلاف من الضحايا من أبناء الطائفة دفاعًا عنه.

والآن، في غياب هذا النظام نجد الخوف الغريزي عند بعض العلويين يتصاعد من جديد، وصولًا إلى محاولة تصوير ما يحدث من تجاوزات على أنه سياسة ممنهجة لقتلهم، وهذا مع اعترافهم بأن معركة تحرير سوريا غلب عليها العفو، مما سهل على الثوار الدخول إلى الدون دون مقاومة تُذكر.

وأخيرًا، أتمنى أن يخرج أبناء الطائفة من قوقعة الخوف الزائدة وأن يتبنوا الثورة السورية بالكامل، وبهذا لا أقصد حكومة الإنقاذ في دمشق، بل الحراك الثوري بكل أطيافه الذي كلَّله إسقاط النظام السابق، والانخراط في الحوار الوطني الذي يحدث حاليًا بشكل غير مؤطر والذي ينتظر العديدون تأطيره قريبًا. وأن يتركوا مطالب العفو العام غير المقبولة من أي طرف، وأن ينأوا بأنفسهم عن التحدثيات المشبوهة باسمهم، فلأن الكثيرين منهم لديهم أسباب مخفية لفشل محاولات قيام سوريا الجديدة خوفًا من الحسابات لهم أو لقربائهم. وأخيرًا، أن يعطوا أولوية واضحة لا شك فيها لوطنيتهم ولانتمائهم لسوريا قبل انتمائهم الديني الطائفي، فسوريا الآن تشهد حرية سياسية كانت غائبة لأكثر من 60 عامًا، وهي فرصة تاريخية لبلورة أفكارهم السياسية، والعمل مع أبناء بلدهم، والمشاركة في المهمة الصعبة للغاية وهي بناء سوريا ما بعد الأسد.

المصادر:

[1] القليات في السلطة: العلويون السوريون، كتاب: الدور السياسي للقليات في الشرق الأوسط، تأليف بيتر غوبسر.

[2] دائرة الخوف: العلويون السوريون في الحرب والسلم، ليون ت. غولدسميث.

[3] Talhamy, Y. (2010). The Fatwas and the Nusayri/Alawis of Syria. Middle Eastern Studies.

[4] هناك اعتقاد سائد أن خمسة من قادة الطائفة وقعوا هذه الرسالة ولكن تبين لاحقًا أن الوثيقة الحقيقية المحفوظة في الأرشيفات الفرنسية تم إرسالها من قبل بدوي الجبل فقط، والتواقيع الباقية تم تزويرها في ثمانينيات القرن الماضي في كتاب كتبه موسى أبو الحريري وهو اسم مستعار لجوزيف قزي.

[5] The separatist Alawi petition to the French Prime Minister Léon Blum (1936): reliability, background and aftermath.

[6] The Politics of Sectarian Insecurity: Alawite ‘Asabiyya and the Rise and Decline of the Asad Dynasty of Syria.

google news

تلفزيون سوريا

—————————–

سوريا بين إعادة التدوير وبناء المستقبل/ شيار خليل

2025.01.28

إعادة بناء الاقتصاد السوري يتطلب أكثر من مجرد إصلاحات ظاهرية أو دعوات للمصالحة مع الواقع القائم، إنه مشروع مصيري يتطلب مواجهة حقيقية مع منظومة الفساد التي أضعفت أسس الدولة وأفقرت شعبها، لا يمكن تحقيق هذا الهدف من خلال إعادة تدوير شخصيات ورموز ارتبطت بشكل وثيق بالفساد والاستغلال، كما هو الحال في حالة بعض رجال الأعمال المعروفين مثل محمد حمشو، الذي أثار استقباله في سوريا مؤخراً احتجاجات شعبية واسعة ودعوات للتصدي لمحاولات إعادة تأهيله سياسياً واقتصادياً.

يدرك الشارع السوري أن عودة شخصيات مثل محمد حمشو إلى الواجهة ليست سوى استمرار لنمط اقتصادي يعيد إنتاج الفقر وعدم المساواة، فالاحتجاجات التي اندلعت رفضاً لهذه العودة تعبّر عن وعي متزايد لدى الناس بخطورة هذا المسار، ورفضهم القاطع لاستمرار استخدام الدولة كأداة لخدمة مصالح نخبة ضيقة على حساب الأغلبية الساحقة.

هذه الاحتجاجات ليست مجرد رفض لشخص بعينه، بل هي تعبير عن رفض أوسع لمنظومة اقتصادية تقوم على المحسوبيات والاحتكارات.

من هنا، إن الاعتماد على هذه النخب الاقتصادية المأزومة يعيد إلى الأذهان مقولة الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل، جوزيف ستيغليتز: “الاقتصادات التي تُبنى على الفساد والمحسوبية تظل دائماً عاجزة عن تحقيق التنمية الحقيقية، لأن الفساد يستهلك موارد البلاد ويقتل روح الابتكار والتنافسية”، وهذا تماماً ما يعاني منه الاقتصاد السوري اليوم، الفساد لا يقتصر على سرقة المال العام، بل يمتد ليقتل فرص النمو الحقيقي ويعزز الانقسامات الاجتماعية.

في المقابل، الاقتصاد الناجح هو الذي يعتمد على الكفاءات والابتكار وليس على الولاءات الشخصية، وكما قال الاقتصادي الشهير ميلتون فريدمان: “السوق الحر لا يعني غياب القواعد، بل يعني وجود قواعد عادلة تطبق على الجميع دون استثناء”.

سوريا بحاجة إلى سوق اقتصادي يستند إلى الشفافية، حيث يتم تطبيق القوانين على الجميع دون تمييز، وحيث تُمنح الفرص بناءً على الكفاءة وليس العلاقات السياسية.

الاحتجاجات ضد “حمشو” وأمثاله يجب أن تكون نقطة انطلاق لإعادة التفكير في أولويات الاقتصاد السوري، يجب أن يتوقف التلاعب بمقدرات الوطن لصالح فئة صغيرة، ويجب أن تبدأ عملية إعادة بناء الاقتصاد عبر استقطاب الكفاءات السورية الموجودة في الخارج، الذين نجحوا في بيئات اقتصادية قائمة على الشفافية والعدالة، فهؤلاء المستثمرون يمتلكون الخبرات ورؤوس الأموال التي يمكن أن تعيد سوريا إلى خريطة الاقتصاد الإقليمي، لكنهم يحتاجون إلى ضمانات حقيقية وليس إلى وعود فارغة.

تجارب الدول التي خرجت من أزمات مشابهة تظهر بوضوح أن النجاح يبدأ من مواجهة الماضي بجرأة، رواندا، على سبيل المثال، نجحت في النهوض من أزمتها لأنها اعتمدت على محاسبة الفاسدين وخلق بيئة استثمارية شفافة، كما أكد الرئيس الرواندي بول كاغامي: “المصالحة الحقيقية تبدأ من المحاسبة وتحقيق العدالة، وليس من التجاهل أو النسيان”.

الحل في سوريا ليس بإعادة شخصيات مثل “حمشو” إلى الواجهة، بل بفتح الأبواب أمام جيل جديد من رجال الأعمال والمستثمرين الذين يؤمنون بالعمل الشريف والابتكار.

الاقتصاد السوري بحاجة إلى من يبنيه على أسس جديدة تعيد الثقة بين الدولة والمواطن، وبين النظام الاقتصادي ورأس المال السوري في الداخل والخارج. كما قال الاقتصادي الكلاسيكي آدم سميث: “الثروة الحقيقية لأي أمة تكمن في قدرتها على تحقيق العدالة والإنصاف بين مواطنيها”، هذه العدالة يجب أن تكون جوهر أي إصلاح اقتصادي في سوريا.

العدالة والمحاسبة يجب أن تكونا حجر الأساس لأي عملية إصلاح اقتصادي أو سياسي حقيقي في سوريا، إنّ استمرار التعامل مع شخصيات اقتصادية تورّطت بشكل مباشر أو غير مباشر في إطالة عمر النظام ودعمه مادياً ولوجستياً، ليس مجرد خطأ، بل هو تعميق لجراح السوريين وإطالة لمعاناتهم.

هؤلاء الذين جمعوا ثرواتهم من خلال دعم الفساد واستغلال موارد البلاد كانوا جزءاً لا يتجزأ من المنظومة التي دفعت بالبلاد إلى حافة الانهيار، ويجب أن يخضعوا للمساءلة، لا أن يتم إعادة تأهيلهم تحت شعارات المصالحة أو الضرورات الاقتصادية.

لا يمكن بناء اقتصاد جديد على أنقاض اقتصاد قائم على الفساد والمحسوبية، محاسبة هؤلاء الفاعلين ليست مجرّد مطلب أخلاقي، بل هي شرط جوهري لإعادة الثقة بين الدولة والمواطن، ولإرسال رسالة واضحة بألا أحد فوق القانون.

وكما قال الاقتصادي الكبير توماس بيكيتي: “المجتمعات التي تفشل في معالجة جذور عدم المساواة تفقد استقرارها وتصبح عرضة للاضطرابات”، وهذا هو الحال في سوريا اليوم، حيث أصبح الفساد وعدم المحاسبة هو السمة المميزة للنظام الاقتصادي.

إذا أرادت سوريا أن تنهض، فإنها بحاجة إلى بناء اقتصاد قائم على الكفاءة والابتكار، اقتصاد يفتح الأبواب أمام السوريين في الداخل والخارج للمساهمة في إعادة الإعمار، وهذا لن يتحقق من دون إنشاء منظومة عدالة حقيقية تكفل حقوق الجميع وتضمن محاسبة من تورطوا في إفقار الشعب السوري واستغلال موارده.

وإنّ إعادة بناء المؤسسات الاقتصادية يجب أن تكون مترافقة مع خطوات جادة لاستقطاب الكفاءات السورية المهاجرة، وتقديم ضمانات تحمي استثماراتهم من الاستغلال والفساد.

سوريا بحاجة إلى إعادة تعريف مفهوم العدالة، ليس فقط كقيمة إنسانية، ولكن كركيزة أساسية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وإن تجاهل هذه الخطوة يعني الاستمرار في دوامة الفوضى وعدم الاستقرار.

العدالة ليست رفاهية أو خياراً، بل هي ضرورة لبناء مستقبل يليق بالسوريين، مستقبل يضع حداً للفقر والفساد، ويعيد للوطن صورته كدولة قادرة على تحقيق الإنصاف والتنمية، ومن دون هذا المسار، ستظل سوريا أسيرة الماضي ورموزه، ولن تكون هناك فرصة لبناء مستقبل حقيقي.

تلفزيون سوريا

—————————————

في تماهي الصوت الكردي مع خطاب قسد ونظيراتها- إلى حسين عيسو ومشعل تمو/ أحمد الشمام

2025.01.28

تحدث مسعود البرزاني منذ يومين عن فدرالية سورية تحت عنوان عريض يقول به البعض؛ إنّ الفدرالية ليست مقدمة تمزق، معولين على نسيان ما تم طرحه قبل عقدين من قبل حزبي الأبد الكردي في العراق عن فدرالية لا تمزق، وعلى نسيان أن صاحب الحديث نفسه منذ بضع سنين تجاوز ما نظَّر له سابقا، وطرح الانفصال الكردي في شمال العراق على الاستفتاء، وخيبته القوى الدولية جميعها، وتوازيا مع ذاك الحدث خرجت دراسة لمؤسسة دولية غربية حينها؛ بنتيجة مفادها أن موقف الأكراد السوريين حول الانفصال في العراق كان أكثر تشددا من كرد شمال العراق حينها.

سورياً؛ ورغم سعي الأكراد الحميم والمحق عن أبطال ورموز خاصة بهم، ومحاولة جعلهم أيقونات مضيئة، ثمة رموز ثورية حقيقية تم إغفالها عن عمد؛ إذ بعد تحرر دمشق وهيجان السوريين في البحث عن معتقليهم؛ سعيت في البحث عن الصديق الكاتب والناشط حسين عيسو؛ الكردي الذي قال في الحسكة عند اندلاع الثورة “علينا البحث عن حقوق مواطنة وديمقراطية فلا قيمة لدولة تحقق قوميتي، وتخنقني بحجة عداء الجميع للكرد لتكرس سلطتها بما يشبه قانون الطوارئ، وتورِّث الحكم والسياسة في عائلة أو قبيلة؛ فمثلما استلم الأسد الابن الحكم من أبيه، وطُوِّعت الدولة لرامي مخلوف؛ ورث مسعود البرزاني الرمزية والقيادة من أبيه واحتكرها، وتم تطويع الإقليم لـ”نيجرفان برزاني” تماما مثل رامي مخلوف، ولا يهمني تحقيق دولة كردية تفصلني عن جيراني العرب وتميزني عليهم مقتفية آثار البعث العربي”.

تلك الكلمة قالها لوفد من الأحزاب الكردية حينها فخرجوا من منزله دون عودة، بعد شهرين من ذاك اللقاء تم تغييبه من النظام ولم نجد له أثرا حتى الآن، نحن أصدقاؤه السوريون الباحثون عنه من العرب والكرد، ولم تفكر به الأحزاب التي أنجزت الثقافة الحزبية، والترويج والأيقنة؛ وحولت المظالم المحقة إلى عقدة مظلومية؛ فحققت قوة بذلك ثم انشغلت بصراع المصالح والقوى، ادعت احتراف السياسة وتركت لمثقفي الممالأة أن يكونوا ملكيين أكثر من ملكها العضوض الذي لم يتحقق بعد. مما لا يمكن نكرانه أن الوسط الثقافي السوري بات حائرا في البحث عن مكان يعلو فيه الصوت الكردي المعتدل الذي ألفناه وتم تغييبه بحمى الضجيج، حتى بات علينا أن نواجه أنفسنا بمسؤولية أنا حيال ظاهرة يراد صناعتها؛ وهي انقراض أو ندرة الصوت الكردي الذي تمت محاربته والتعتيم عليه، تحت وطأة خطاب قومي مسيس لدرجة بات يبدو الخطاب الوطني المعتدل لفرد أو مثقف ثائر ناشزا وخارجا عن السرب وخائنا للقضية.

إن أي تشويه مرسوم لبنية ما من قبل جهة أو سلطة؛ لا بد أن يمر عبر أدوات من تلك البنية سواء من سوادها وعامتها أو نخبها، ومما لاشك فيه أن عملية تشويه حقيقية جرت بيد نظام الأسد؛ تم العمل عليها على سائر البنى الاجتماعية المشكلة للمجتمع السوري، ولئن كان الأسد الفاعل فيه؛ فإن أدواته كانت من تلك البنى عبر شخصيات استثمرها أو صنعها؛ سعيا لذاك التشويه لأجل بناء مجتمع التفارق والتناقض المضمر تحت غطاء من الاتساق القسري في مجتمع يحكمه الإذعان والخضوع لا المواطنة، لسنا بوارد إدانة تلك الأدوات التي فضحتها بيئاتها وتعرت قبل سقوط النظام وبعده، بل بوارد التمييز  بين تلك الأدوات من شخصيات اعتبارية وجماعات حزبية وأضدادها الموضوعيين في الوسط الكردي، حيث ضاعت بوصلة تحديدها وتمييزها لئلا يبدو الصوت الكردي الطافي على السطح كتلة واحدة ونتسلح بأحلامنا عن كرد طيبين وكأنهم انقرضوا وهم ليسوا كذلك، فهم أعلى حتى من أحلامنا وليسوا ندرة بل تم تغييبهم عمدا.

من المثير أن الإعلام والدراسات الحديثة بحثت في ممارسات نظام البعث لتشويه المجتمع السوري، وتمزيقه، وزرع بذور التنابذ والفرقة فيه؛ ريف /مدينة، مدينة /مدينة أخرى، مسلم /مسيحي، سنة /طوائف، ثم بحثت ممارساته في مرحلة الثورة وجهوده في أسلمتها، وتشويه الأقليات الطائفية عبر تعويم من صنعهم من أبنائها، وكبت صوت من خالفهم، في حين غفل -الإعلام والثقافة والدراسات -عن عمليات تشويه النظام للأكراد؛ عبر من صنعه منهم، أو دفعه للشطح والتطرف تبعا لمستويين قديم قبل الثورة، وحديث في مرحلتها.

قبل الثورة كان النهج عبر منع الجنسية عن محروميها للإبقاء على قضية مطلبية تفيد في تحزب الكرد؛ مع التنظير في الوسط السوري لتخوين الكرد عموما، فضمن بذلك الدفع بالنزوع القومي المتطرف نحو التصاعد لتثبيت سرديته عنهم من جهة، وضمن تحزب العرب السوريين ضدهم من جهة أخرى؛ مع ضبط أن يكون هذا التنابذ متسقا مع سياساته في تثبيت حكمه، وألا تخرج عن قمقمٍ حدد أبعاده وحدوده بالحديد والنار.

أما النهج الذي اتبعه في مرحلة الثورة فيتلخص بتشويه الكرد عبر النسق المعوَّم سياسيا من كتل وأحزاب؛ دأبت على رفع سقف شعاراتها حتى أصبحت تتفق وسرديته السابقة عنهم قبل الثورة، سواء بإدخال حزب العمال إلى سوريا، أو عبر أحزاب استقلت من تأثيره المباشر وشطحت ببرامج وثقافة التنابذ والتفارق مع الكل السوري، سعيا لاختزال الصوت الكردي، وتحويل أبنائنا الكرد إلى حشود تصفق، ولا يغيب عن أحد أن الأحزاب عموما تقتات على ذهنية التفارق لضمان بقائها وتظهيرها على الصوت المستقل الذي تم اعتسافه منذ بدء الثورة وشهدناه في تنسيقيات الشباب الكرد بالقامشلي والحسكة وأريافهما، وأمام حقيقة أن الشعوب تجاوزت نخبها في الربيع العربي، تأتي حقيقة أن النخب تسلقت ظهر  الشعوب وحراكها، لنتلمس سبق الشباب الكرد للعرب في القامشلي وشاركتهم لهم في الحسكة، بل سبق أولئك الشباب للأقليات الدينية في الانضمام للثورة والخروج العفوي، ثم سيطرة الأحزاب على شارع التظاهر الكردي الذي كان سندا للثورة وعانى الحصار والتفتيت والتشريد، حينها لم يقم النظام بضرب أحد الأحزاب؛ بل ضرب التنسيقيات المستقلة للشباب الكردي، وترك لبقية النخب السياسية أن تفكك الباقي؛ ما يكشف الأسباب الحقيقية وراء تغييب الكاتب حسين عيسو في الحسكة، بالتوازي مع خطة اغتيال الشهيد مشعل تمو في القامشلي، مشعل الذي عبر عن شارع كردي عريض بخطاب وطني جامع بطرح ضرورة أن تندغم مظلومية الكرد الآن ضمن مظلومية الشعب السوري بكامله، وأن “علينا أن نسعى لجعل القضية الكردية وطنية بامتياز وأن تكون جزءا من حراك الشعب السوري “.

كشعب سوري تحرر وانعتق من ربقة الأسد؛ وعليه أن يمد الجسور بين البنى التي تعرضت للتشويه؛ يجدر بنا حيال ذلك البحث عن الشارع الذي تم تفكيكه وعن الشباب الكرد الذين تم نسف تنسيقياتهم، حيث لم يظهر بعد على السطح تيار كردي يعبر عن المسعى الوطني في سني الثورة؛ التي شهدنا فيها محاربة لتيار المستقبل الكردي الذي أسسه الشهيد مشعل تمو، وتم تغييبه عن المشهد السياسي الكردي عمدا؛ ثم محاصرته وفقا لتصريح أحد أعضاء قيادته فاضطر لتغيير اسمه إلى “تيار مستقبل كردستان سوريا”، قبالة ذلك علينا مواجهة أنفسنا أولا، وأحزاب المجلس الوطني الكردي ثانيا كسوريين، لتوسيع هامش التمثيل السياسي الكردي واحتضانه؛ حيث لم يبق منه سوى النزر اليسير معبرا عنه برابطة المستقلين الكرد، وانتظار انطلاق كتل كردية جديدة خارج رقعة سيطرة قسد وأحزاب المجلس الوطني في ريف حلب وبلدان الشتات؛ رغم صعوبة عملها في شارع تم تأطيره واستنفار حشوده، للتمييز بين خطاب ثقافي يشتغل على مشتركات السوريين الوطنية. لا بد من تعرية خطاب بعض المثقفين الذين يعملون على المماهاة بين الكرد وقسد؛ مع قبول ضمني لأحزاب المجلس الوطني الكردي بما يشبه مبدأ الاستفادة من النزعة القومية في فورتها الطاغية لتجييرها لصالح رؤية كردية مستقلة عن السقف الوطني السوري؛ تحت مبدأ المصلحة الكردية العليا وعلى حساب الخطاب الوطني الجامع لسوريا كدولة وطنية يبنيها الجميع، وإعادة المغيَّب الأهم في المجال الكردي وهو الشارع الذي تم اعتسافه منذ سني الثورة الأولى، وإعادة إحيائه بعد أن صار شتاتا متفرجا عاجزا، أو مراعيا للموجة العارمة في ارتفاع المد القومي ضمن الصفوف الحزبية لطرفي التمثيل الكردي قسد وأحزاب المجلس الوطني.

تلفزيون سوريا

—————————–

سوريا أولا وثانيا وثالثا/ حسان الأسود

2025.01.28

بالنظر إلى حالة التردّي السحيقة التي ترك النظامُ البائدُ سوريا عليها، فإنّ كل خطابٍ سوريٍ وكلّ فعلٍ ونشاطٍ يجب أن ينطلق من نقطة البحث عن المصلحة السورية في إعادة بناء الدولة، وأن يصل إلى نتائج عملية تنسجم والظروف الدولية والإقليمية والداخلية الراهنة. توصيف الحالة مهمٌ لمعرفة الواقع وتحديد الصعوبات والتحديات، كما إنّه ضروري لمعرفة الأصدقاء والحلفاء وتمتين العلاقات بهم، ولتجنّب الأعداء وتجميد الصراعات معهم.

يقول الواقع الدولي إنّ المنافسة العالمية على أشدّها بين قطبين عملاقين، الولايات المتحدة الأميركية والصين، وأنّ أميركا ستذهب إلى هذه المواجهة بسياسة حمائية انعزالية على الصعيد الجماعي، أي أنها ستتخلى عن الانخراط بالعمل المشترك مع الحلفاء التقليديين، لكنها ستذهب إلى تعزيز العلاقات الثنائية. بدأت مظاهر هذه السياسة عندما شجّعت أميركا خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وعندما كافأتها بعقد اتفاقيات ثنائية تفضيلية كبيرة معها.  وتعززت هذه السياسة مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، فكانت أولى قراراته الكبرى الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ ومن منظمة الصحة العالمية، وهذا الانسحاب من أكبر تجمعين دوليين للعمل الجماعي له تداعياته الكبيرة على النظام الدولي. لم يتطرّق ترامب لموضوع حلف الناتو، لكن لا أحد يدري كيف يمكن له التصرف لاحقًا، وعودته للتهديد بحلّ الحلف ستضع أوروبا كلها أمام استحقاقات جديدة قد تودي بالاتحاد الأوروبي الذي يشهد انقسامات حادة داخله أساسًا. كذلك تذهب الصين باتجاه العمل الثنائي من خلال التعاقد مع الدول التي يمر بها مشروعها العملاق “الحزام والطريق”، لكنها لا تهمل العمل الجماعي بالمقابل، فمن خلال منظمة شنغهاي للتعاون تحاول بناء جبهة منافسة لمنظومة السبعة الكبار الغربية. قد يستتبع التنافس الأميركي الصيني أحلافًا إقليمية هنا وهناك، وهذا ما يجب أن نضعه نحن السوريين باعتبارنا عند التخطيط لمستقبل بلادنا.

على الصعيد الإقليمي ثمّة انزياحات كبرى، فالمنافس الإيراني بات الآن خارج اللعبة تمامًا أو على وشك أن يخرج منها نهائيًا. بالمقابل توسعت الخطوات التركية نحو المشرق العربي، فعلاقاتها تمرّ بأفضل مراحلها مع دول الخليج العربي وإفريقيا وخاصة السعودية ومصر، لا تخفي تركيا غبطتها بالتحول الجذري في بنية النظام الحاكم في سوريا، لكنها بالمقابل تخشى أن يحسب هذا النظام عليها كليًا، مما يعني تحملها نتائج سلوكه السياسي ويثقل كاهلها بأعباء الكلفة الاقتصادية الهائلة اللازمة لدعمه وتثبيت أركانه. أمّا اللاعب الخليجي فهو قادمٌ بقوّة، وقد بدأ يشارك بصناعة الشرق الأوسط الجديد بثقة رغم التباين الواضح بين أقطابه الرئيسية الثلاثة، السعودية، والإمارات وقطر. جاءت التحولات الكبيرة في لبنان نتيجة مرتقبة لزوال نظام الأسد وإضعاف حزب الله وداعمه الإيراني، وهي في الوقت ذاته تشكّل فرصة حقيقية لسوريا الجديدة إذا ما تمّ التوافق على احترام سيادة البلدين والمصالح الخاصة بكل منهما. إنّ انتهاء عهد الوصايتين السورية والإيرانية على لبنان هما مفتاح تحول كبير ستشهده المنطقة برمتها. يتمثل التحدي الأكبر بالموقف الإسرائيلي المتجبّر، والذي استغل انشغال العالم بانهيار نظام الكبتاغون فاحتل ما تبقى من مرتفعات الجولان، ودمّر ما تبقى من بنية تحتية للجيش السوري. هذا العدو لن يقبل أن تعود سوريا دولة موحدة، لذلك سيحاول دعم المشاريع الانفصالية التي تغذيها المعالجات المركزية الخاطئة مع الأسف والتي بدأت تتكشف عنها ممارسات نرجو أن تكون فردية كما يقال وليست ممنهجة. تفتيت سوريا على أسس قومية أو دينية أو طائفية فيه أكبر خدمة للمشروع الصهيوني، وبناؤها موحدة ديمقراطية قوية يخلق منافسًا لا تريده إسرائيل في جوارها بكل تأكيد.

تأتي التحديات الداخلية التي تعدّ ولا تحصى لتشكل أكبر همومنا، وهذه لا تقتصر على ملفات الطاقة وتأمين المواد الأساسية للحياة وإعادة الإعمار وعودة المهجرين وضبط الأمن وبيان مصير المفقودين، بل تتعداها لبناء الروابط المجتمعية وتطمين السوريين والسوريات على مستقبل عيشهم. هذه القضايا تتأثر بسلوك الإدارة الجديدة من جهة وبموقف المجتمعين الإقليمي والدولي من جهة ثانية. كلما نحت الإدارة أكثر باتجاه السوريين وشاركتهم صناعة الواقع والتخطيط للمستقبل، وجدت قبولًا إقليميًا وآخر دوليًا أكثر وأكثر. الاشتراطات التي تضعها الدول لا تهدف لحماية مصالحها فقط، بل لحماية سوريا وأهلها والمنطقة عمومًا من إعادة إنتاج النظام البائد بشكل جديد من حيث لا نحتسب جميعًا. انتهى زمن الإسلام السياسي السلفي الذي ساهم في بناء الدولة السعودية منذ نشأتها، وبدأت المملكة والعائلة المالكة تتحرر من ربقة الاتفاق التاريخي معه، وجارٍ التخلّص من مظاهره وتموضعاته على قدم وساق وفي كل الأصعدة ومناحي الحياة. كذلك تم إسقاط مشروع الإسلام السياسي السني في مصر وتونس والسودان، وسيلحق الأمر اليمن وليبيا آجلًا أم عاجلًا. تم إسقاط المشروع التوسعي الإيراني الذي ارتدى لبوس الإسلام الشيعي أيضًا، وتم كسر رأس حربته في لبنان وظهره في سوريا، وجارٍ تفكيكه في العراق. هذا مؤشر على أنّ الدول الفاعلة لن تقبل إعادة عقارب الزمن إلى الوراء، أي لن يكون هناك أي فرصة أمام هذا المشروع في سوريا من جديد. هل تدرك الأجنحة المختفة في الإدارة الجديدة هذا الواقع؟ وهل تستطيع القيادة البراغماتية فيها العبور من عنق الزجاجة دون أن تخنقها، وهل لديها ما يكفي من وقت للتكّيف مع الواقع؟ الحقيقة أنّ الزمن ليس متراخيًا كما كان وقت عبرت هيئة تحرير الشام أطوارها المتعددة إلى أن وصلت لحكم إدلب وما حولها. الأمر الآن مختلف، فالجغرافيا أكبر بكثير والزمن قصيرٌ جدًا ويمضي بسرعة.

جميع الدول الفاعلة في الشأن السوري في عجلة من أمرها لترى نتائج حقيقية في سوريا، كل دولة لها مصالحا المتباينة أو المتقاطعة مع غيرها من الدول، فالملفات جميعها على الطاولة، الهجرة واللجوء والإرهاب وضبط الحدود والاستثمار وإعادة الإعمار والتموضع الاستراتيجي وغيرها الكثير مما لا يقبل الانتظار كثيرًا ريثما تعالج الجماعة انقساماتها الداخلية وريثما تجد طريق التفاهم مع المنافسين المحليين.  يجب أن نذكر هنا دور الجاليات السورية في دول المهجر، فهذه ليست جميعها على شاكلة واحدة، فهي نسخة مشابهة للواقع السوري الداخلي، فبعضها يمكن أن يلعب دورًا إيجابيًا في تأييد الإدارة الجديدة والانتقال السياسي، وبعضها الآخر يمكن أن يعوق عمليات الانفتاح الدولي على سوريا. لكل فريق منهما حجّته التي لا تخلو من وجاهة. أين تكمن قوّة سوريا الآن وما هي نقاط ضعفها؟ هذا سؤال المرحلة الراهن، فقوتها بأهلها جميعًا على اختلاف مشاربهم، وضعفها بارتهانها لسردية المظلوميات أو لطموح فئات أو أفراد منهم. قوتها في بناء معادلات ترضي الجميع من أكياسهم لا من الكيس السوري، فالجميع بحاجة الاستقرار في سوريا، والجميع سيدعم هذا الاستقرار إذا ما تمّ بناؤه على أسس سليمة وعادلة. سيقول قائل إنّ التنظير سهلٌ، وهذا صحيح، فالعمل ومواجهة استحقاقات الواقع أصعب، لكن من قال إنهما يمكن أن ينجحا دون قاعدة نظرية محكمة ومتينة؟ تنطلق الأسئلة من موقع سوريا في عيون أهلها، وتصل الإجابات إلى المطرح المنشود، هي أولًا وثانيًا وثالثًا.

تلفزيون سوريا

—————————————

صراع الإرادات في سوريا الجديدة/ مصعب الحمادي

2025.01.28 ل هناك سوري واحد غير سعيد لسقوط النظام؟

الجواب: لا أحد، باستثناء من أجرم بحق الشعب السوري في سنوات الثورة وهو مدركٌ أن يد العدالة ستطاله.

هل هناك من السوريين من لا يشعر بالرضى الكامل حول هوية من استحوذ على النصر في دمشق؟

الجواب بلا ريب: كثيرون!

وما ذلك إلا لأن إرادة السوريين ليست الفاعل الوحيد في الساحة فهي في حالة اشتباكٍ منذ أربعة عشر عاماً مع كلٍّ من إرادة الإقليم وإرادة الغرب.

إرادة السوريين

أصل الحكاية كانت إرادة السوريين عام 2011 بالتغيير الديمقراطي ورفع بلادهم إلى مصاف الدول الحديثة والمتقدمة. لكن إرادة السوريين منذ اليوم الأول استفزّت كلاً من إرادة الإقليم وإرادة الغرب، فكل ما يحصل منذ عام 2011 وكل ما نتج عنه اليوم هو حصيلة اصطراع هذه الإرادات الثلاث. ومع سقوط نظام الأسد وولادة سوريا الجديدة فإننا نجد أشياء تسرّنا وأخرى لا تسرّنا فيما تتمخض عنه الأحداث. فلا بد والحال كذلك من أن نتذكر دائماً أجندتنا الأصلية من عام 2011 يوم كانت الثورة ديمقراطية وطنية تحررية تقدمية. إن أيّ انحراف عن هذه التطلعات الجامعة لا يهدد بالتفريط بإرادة السوريين الأصليّة فحسب، بل بوحدة البلاد ومستقبلها ككيان.

إرادة الإقليم

يشهد الإقليم الذي تقع فيه بلادنا تنافساً محموماً بين إسرائيل والمحور الشيعي بقيادة إيران. كان نظام الأسد الأب والابن بحكم تركيبته الطائفية جزءاً من المحور المذكور ولم يكن ذلك ليضرّ النظام كثيراً لأن التنافس كان منضبطاً ومفيداً لإسرائيل وإيران معاً كونه كان يتم على حساب الدول السنيّة الغنية في المنطقة. لكن هجوم حماس (المدعومة من إيران) عام 2023 قلَب الطاولة على دولة الاحتلال وتحول التنافس إلى صراع وجود لإسرائيل التي استفاقت لتكتشف أن اللعب على التناقضات السنية الشيعية في المنطقة صار وبالاً عليها، وأن المحور الشيعي تجاوز بكثير مبادئ المنافسة المقبولة.

وهكذا قرر نتنياهو أن يضع على رأس أولوياته محو المحور الشيعي عن الوجود، فشنّ حملته المجنونة على حماس، وأوشك على تدمير حزب الله واحتلال جنوب لبنان، وهدد لأول مرة نظام الأسد بشكلٍ مباشر محذراً إياه بأنه يلعب بالنار. انقلبت أمور الإقليم إذاً وصار السيناريو الأنسب بالنسبة لإسرائيل هو إسقاط النظام الطائفي العلوي في سوريا المرتبط بإيران على ألا يكون البديل نظاماً وطنياً أو تقدمياً، بل يفضل أن يكون هو الآخر نظاماً طائفياً، وإنما – ويا لها من مفارقة – طائفياً “سنّياً” هذه المرة كي يشكّل حائط صدٍّ إيديولوجيّ نهائي ضد النفوذ الإيراني في سوريا يخرجها مرة واحدة وإلى الأبد من المحور الشيعي. أما أن تكون سوريا دولة ديمقراطية جامعة لكل السوريين فهذا مما لا يعني إسرائيل بشيء، بل على العكس هو في غير صالحها على المدى البعيد.

ولا ننسى إرادة الجارة تركيا التي حابت الإسلاميين السوريين لأسبابٍ حزبية تخصّ الداخل التركي، وهو ما جعل إدارة الرئيس أردوغان تعمل كل ما بوسعها لتقوية العناصر السنية المتشددة في صفوف المعارضة والثوار السوريين على حساب شركائهم في الوطن والثورة حتى كان ما كان من أفول نجم الجيش الحرّ، وتصدّر التنظيمات المتشددة، إذ لا يبدو أن تركيا ترى في سوريا أكثر من ممرّ تجاري يفضل أن يكون في قبضة حلفاء موالين ولاءً أعمى.

فإرادة الإقليم لم تشأ إذاً أن يمسك السوريون في كلّيتهم وعلى نحوٍ تشاركيّ بالحكم في بلادهم بعد فرار الأسد، فلم نر الجيش الحر والضباط المنشقين مثلاً يدخلون دمشق ولم نشاهد ثوار الحرية الأوائل من عام 2011 يتصدرون شاشة الجزيرة، ولا حتى المعارضة السياسية التي كانت فاعلة في إسطنبول، وبدا أن سوريا صارت بلقعاً خالياً إلا من مقاتلين سابقين في تنظيم القاعدة وأشتات متفرقين من مغتربي الإخوان المسلمين.

إرادة الغرب

سواء أعجبنا ذلك أم لم يعجبنا نحن نعيش في عالم الغرب نتأثر سلباً وإيجاباً بما يقع فيه، وخصوصاً في الجارة أوروبا. لكن الغرب منافق طالما تشدق بالحرية وحقوق الإنسان ثم دعم نظام الأسد من تحت الطاولة. والغرب أناني لا يريد رؤية دُولٍ حديثة ومتقدمة على الضفة الشرقية من البحر المتوسط. وهكذا فإرادة الغرب لسوريا قبل الأسد وبعده هو أن يرى دولة مستقرة لا تصدّر لاجئين على أن تبقى دولة بلا تقدم ولا ديمقراطية ولا سياسة ولا تكنولوجيا ولا ظروف مواتية بأي شكل من الأشكال كي يسهم الإنسان السوري المبدع في الحضارة الإنسانية بما يتوافق مع عمق تاريخه وتميز شخصيته وخصوبة أرضة وعطائها. إن أوروبا التي راحت تدعو ظاهراً بعد سقوط الأسد لقيام حكم تمثيلي غير طائفي في سوريا هي نفسها التي لا يسرّها في الحقيقة إلا أن تبقى سوريا في قبضة دكتاتور دموي قاتل، فإن هرب مهزوماً – كما حصل مع المخلوع بشار الأسد – فلا بأس من تسليم البلاد لجماعات الإسلام السياسي والرؤية السفلية والإخوانية الرجعية التي لا تبني حضارة، ولا تُنشئ حداثة، ولا ترفع السوريين من حضيض الطائفة إلى يفاع الوطن.

ما العمل؟

هكذا إذاً نجحت إرادة السوريين جزئيا بإسقاط النظام لكن الإرادة التي يبدو أنها نفذت على أتم وجه بعد الثامن من ديسمبر حتى الآن هي إرادة الإقليم ومن ورائها الإرادة الغربية المتواطئة معها. فالسوريون إذاً أمام تحدي المضيّ بإرادتهم حتى نهايتها المرجوّة. المهمة لم تكتمل بعد.

وهكذا فقد يرى شطرٌ من السوريين ضرورة تشكيل معارضةٍ سياسية قوية داخل سوريا تقدم مشروعها البديل، وتمارس دور الرقابة الإيجابية على السلطة القائمة في دمشق. وقد يمضي شطرٌ آخر للنشاط بالتوازي من خلال جماعات الضغط ومنظمات المجتمع المدني الوطنية التي لا ترتهن للخارج. وقد ينحو آخرون للعمل مع هذه السلطة الجديدة ذاتها ومن داخلها، ليساعد على التخفيف من غلواء الفصائل الإسلامية، فينقذها من نفسها، ويذكّرها أن سوريا أكبر من أيديولوجيتها الضيقة، حتى لو توهّمت أنها تمثّل الأغلبية. ومع حسن الظنّ بهذه الفصائل علينا ألا نتوانى عن تحذيرها من أن تتحول مع الوقت – ومن دون أن تشعر – إلى مطيّةٍ لتحقيق الإرادتين الإقليمية والغربية دون إرادة السوريين أنفسهم.

تلفزيون سوريا

—————————

 هل يمكن بناء هويّة سوريا الجامعة مجدّداً؟/ شفان إبراهيم

تحديث 28 كانون الثاني 2025

سقط النظام السوري، لتنقلب آية “الأبد”، فتُصبح سوريا بلا أسد وللأبد. الوقت يمضي وما زالت الفرحة والنشوة مُسيطرتين علينا كسوريين، لتظهر هنا وهناك دعوات وخلافات على قضايا تمسّ جوهر حيوات مستقبل البلاد؛ على أمل أن تكون هويّة سوريا الجديدة واضحة للسوريين، حيث يقول البعض إن هويّتها هي هويّة الثورة، بما رُفع من شعارات ورموز عُمل بها خلال العقد الماضي. ورُبما هو أمر يحتاج إلى التروي، فإن كانت الثورة هي الإطار الجامع الذي لمَّ شمل السوريين كفعل وحدث وأهداف وانتماء، فإن شعاراتها ورموزها ومراحلها لم تشهد ذلك التوافق، بل إن التطلعات المشروعة اليوم تختلف من منطقة إلى أخرى، ومن مكوّن إلى آخر، وتشكل عقود الاستبداد والإلغاء، الحامل الجمعي للمخاوف المستقبلية، وأبرز مُحددات وضوح مستقبل البلاد، هو وضوح الهويّة السورية.

استعجال مُبرّر

تسارع السوريين إلى التفرد بإعلان جوانب من هويّة سوريا الجديدة، يحمل مؤشرين: الرغبة في الخلاص من إرث الماضي، ومخاوف من عودة التفرّد مُجدداً. ورغم أن ما يُثار حالياً من علم الثورة وقصيدة عمر أبو ريشة كنشيد مستقبلي للبلاد، لا تحمل ضغائن أو أحقاداً تجاه أحد أو من أيّ طرف، فإن الطرح خارج السياق القانوني والتوافقي، أمر خارج عن المنطق، رغم أن أحداً لا يملك حق منع الناس من التعبير عن الرأي، تماماً كحالة الانقسام بين علمانية أو مدنية الدولة أو أسلمتها أو ما بين المركزية واللامركزية، وكل تلك القضايا هي من حق المتدينين والعلمانيين والمحافظين والعسكريين والليبراليين، والكرد والعرب والأشوريين والتركمان، أي إن هويّة سوريا المستقبل ليست حكراً على فئة أو ملة لتطرحها وتجعل منها أرضية للنقاش دون غيرها، بل هي مطروحة للنقاش والجميع متلهف لمعرفة هذه الهويّة والابتهاج بها، مع الأخذ في الاعتبار أن الجانب السياسي للتعريف الهويّاتي بغالبيته مؤجل إلى حين توضّح المرحلة الانتقالية، مع التحفظ على النشيد والعلم هل سيكونان من البديهيات.

الانطلاقة للتشييد الهويّاتي

البدء بتشييد هويّة سوريّة جامعة، يتطلب عدم اعتبار العلم والنشيد المطروح من البعض، على أنها هويّة سورية كُلها، بل هما، رغم قداستهما، أقل قيمة وأهمية أمام القضايا المصيرية الأخرى التي تُعدّ الأكثر تعبيراً عن الهويّة، وخاصة أنها ستكون جوهر التوافق أو الصراع السياسي للمرحلة المقبلة مثل شكل الحكم، والموقف من الحريات العامة والديموقراطية، موقع الدين في القرار والحكم، وهيكلية الدولة ونظامها السياسي. وهل كل ذلك ممكن ما لم يقدم كل طرف سوري مقومات الوصول إلى الهويّة المطلوبة؟ التغيير الذي يُصادف السوريين اليوم وغداً، هو أن من يحكم سوريا حالياً كان يُسمى قوى أمر واقع قبل سقوط الأسد، وانقسم السوريون بينها، سواء هيئة تحرير الشام، الإدارة الذاتية وقسد، والحكومة السورية المؤقتة، حيث كُلهم كانوا فواعل ما دون الدولة، لم تنل الرضى العام، بل إن نسباً شعبية ساحقة كانت تعترض على سياساتها وممارساتها. لكن التغير حصل لدى هيئة تحرير الشام فقط التي تحولت إلى فاعل رئيسي دولتي، وتسارعت الدول المتداخلة في الشأن السوري لإرسال وفودها ووزراء خارجيتها، للدعم وللسماح بإشراك أطراف وإقصاء أطراف أخرى من العملية السياسية والفترة الانتقالية، هذا إن لم يكن منع المشاركة في مرحلة الاستقرار أيضاً.

إذن من تفوق، بغضّ النظر عن الآلية ومساندة الفاعلين الدوليين والإقليميين، هو هيئة تحرير الشام، ومن انحسر نفوذه وقدراته في المواجهة السياسية وفقاً للمعطيات وتغيير موازين القوى هو “قسد” والحكومة السورية المؤقتة، وغالباً الائتلاف السوري المعارض أيضاً. وهو ما يدفع للقول إن الأطراف كُلها مُلزمة بتقديم المرونة والتوافق للوصول إلى هويّة سورية جامعة، وخاصة أن الغالبية العظمى تصارعت في ما بينها سابقاً، المعارضة وقسد، قسد والمجلس الكردي، المجلس الكردي والمعارضة، المعارضة وهيئة تحرير الشام، هيئة تحرير الشام وأطراف من الفصائل العسكرية ضمن “الجيش الوطني السوري”، والصراع والمعارك بين هيئة تحرير الشام وفصائل المعارضة ضد النظام السوري، لنجد أن سوريا الحالية تحولت إلى دولة فاقدة للعدالة، وتغيير ديمغرافي في مجمل الجغرافيا السورية، القتل العمد، والإبادة والثأر، وصولاً إلى انعدام الثقة بين مكونات الدولة والهويّة السورية، وكل هذه يجب أن تكون هويّة مؤقتة.

مظالم شكلت هويّة نفسية وتعريفية

وكتعريف هويّاتي لسوريا سابقاً، فإن السوريين كُلهم ظلموا، وللأمانة فإن العدالة الوحيدة في حكم الأسد، هي توزيع الظلم على الجميع، وإن بنسب متفاوتة. وسوريا منذ عهد الاستقلال هي مظالم تاريخية كثيرة، لكن في سوريا أكبر مظلمتين في السنوات الأخيرة، وتطغيان على باقي المظلمات، هما الكرد والإخوان المسلمون، ولكلّ منهما ما ميّزه عن سواه، لكنهما اشتركا في مخاوف من خطر الإبادة الجماعية بطرق مختلفة؛ ليس بسبب المعارضة للنظام وحسب بل على خلفية هويّتيهما. فارتكب النظام السوري مجازر بحق الإخوان المسلمين في حماه منذ 1982، ونُظر إليهم على أنهم العدو الأول للدولة والنظام، وانتقم منهم بكل وحشّية، وللأمانة التاريخية فإن سنوات الثورة السورية، كانت تشهد تركيز المقتلة السورية الأكبر على المكوّن السنّي من ناحية الإبادة والبراميل المتفجرة والصواريخ المدمرة، في المقابل تعرّض الكرد لإلغاء مماثل وإجرام كبير من جميع الحكومات المتعاقبة على سدة الحكم في سوريا بدعم وتوجيه من النظام نفسه، وسعت القرارات والمراسيم للقضاء على الكرد، وفصلهم عن الوسط السوري، والحياة، والوظائف، ونسف الوجود الهويّاتي عبر حصار اللغة والثقافة والتعليم.

والمؤسف أكثر أن قسماً من معارضي النظام، حملوا معول هدم هويّة كرد سوريا، وما خُطب قسم من فصائل المعارضة سوى دليل على ذلك. بالإضافة إلى مظلومية المعتقلين السياسيين السوريين وسنوات المعتقل والانفراديات الطويلة.

قوة عسكرية مختلطة لتشكيل هويّة جديدة

سورياً اليوم، ثمة أربع قوى عسكرية مدرّبة، إحداها لم تنل بعد بطاقة العبور وهي بشمركة روج آفا التي تشكلت من المنشقين عن النظام السوري، لرفضهم قتل السوريين المحتجين، وتتخذ من كردستان العراق مكاناً مؤقتاً لها، حاربت “داعش” والحشد الشعبي في إقليم كردستان العراق، وتُشكل واحدة من أبرز وأعقد القضايا الخلافية بين “قسد” والمجلس الكردي في حواراتهم. والأخرى قوات سوريا الديموقراطية التي تسيطر على مساحات مُهددة بفقدانها، إضافة إلى فصائل المعارضة السورية في درعا والشمال الغربي التي لا يُمكن الحديث عنها كقوة مُنظمة منضبطة، دُمجت أخيراً، ورابعة القوى هي تحرير الشام التي تُمثل حالياً العصب المركزي للقوة الأمنية والعسكرية في سوريا، والتي شكلت “وزارة الدفاع السورية” خلال الأيام الماضية من جميع القوى العسكرية في سوريا، ما عدا “قسد” التي سارعت للإعلان عن رغبتها في الانضمام للجيش السوري، لكنها لم تتلق الرد، وغالباً لن تتلقى قبل تغيّر السياسات وسلوكيات الإدارة الذاتية وعلى رأسها الخلافات مع مجمل الأطراف السورية والكردية، علماً بأن لمّ شمل جميع القوة العسكرية السورية في إطار منظم ومقونن ستكون له الكلمة الكبرى في تشكيل هويّة سوريا الجديدة.

إن بناء الهويّة السورية الجديدة يجب ألا يركز على هل سيكون شعار الدولة هو العُقاب أم النسر أم الصقر، هل علم الثورة وقصيدة أبو ريشة أم غيرهما؛ بل ثمة أهم ثلاثة عناصر في بناء الهويّة السورية، وهي الجيش والأمن، النظام السياسي، والحالة الدينية. فالوجود الكردي (بشمركة روج وقسد بمكوناتهما وهويّاتهما السورية الواضحة) في المؤسسات الأمنية والعسكرية إلى جانب وزارة الدفاع الحالية، بالإضافة إلى باقي الأقليات من دروز ومسيحيين وعلويين، سيعني ضمانة واضحة بخلق سدود أمام عودة الهويّة الأحادية والملغية للهويّات الأخرى، ودليل التوازن بين التيارين الرئيسيين في سوريا، وهما عصب الخلاف والصراع الهوياتي المُستقبلي، ما بين قوانين شرعية ونفاذ كبير للدين في هويّة الدولة وقوميتها وعروبتها، وما بين تيار اللامركزية والمدنية أو العلمانية والتعددية السياسية والدينية، بل سنكون أمام عمل عميق تقوم به الدولة لبناء مؤسسة عسكرية بهويّة جامعة، وليس جيشاً يُشكل دولة بهويّة أحادية، وإن أرادت “قسد” أن تكون لاعباً أساسياً في معادلة بناء الهويّة السورية المقبلة، فإن من بين ما يجب عليها التخلي عنه “سياسة التفرّد بكل شيء”، خاصة أن “هيئة تحرير الشام” تتلقى المزيد من الدعم وعلى رأسها محاربة الإرهاب، ولم تعد ورقة خاصة “بقسد” فقط، كما أن أحمد الشرع لم يتبنّ حتّى اللحظة خطاب تركيا والمعارضة السورية في تعامله مع “قسد” ولم يصفها بالإرهاب كما فعل الآخرون، والمرونة التي تحملها الحكومة السورية، يُمكن الاستفادة منها كثيراً.

تقزيم هويّاتي بالجملة

في المنطقة الكردية، ظُلم الكرد كثيراً ونالوا حصة الأسد منها ودفعوا فواتير باهظة، لكن العرب والآشوريين أيضاً لم يكونوا في رخاء واستقرار؛ فلم يقتصر التهميش بالإقصاء من السلطة ومنع شراكة تلك المكونات في صناعة القرار السياسي والعسكري، بل الكارثة التي لحقت بالهويّة السورية أن بعض النخب السورية والمدن الرئيسية في سوريا، بقيت تنظر إلى قامشلو وعامودا وديرك والحسكة على أنها حواضن ريفية وأحزمة فقر وفي أحسن الأحوال مُدن نائية، وما رافقها من خطاب تنميط وفوقية واستعلاء، مقابل نظرة دونية على أنهم بلا ثقافة ولا فكر ولا أحقية في الانخراط ضمن الهويّة الجامعة سواء سياسياً، أو عبر الفن والثقافة والأدب وغيرها، وما حرمان المنطقة من بناء جامعات ودراسات عليا ومنع اللغات غير العربية إلا دليل على جميع محاولات إنهاء الوجود الهويّاتي للمنطقة كُلها. ورغم سيولة الرسائل التي صدرت عن شخصيات ونُخب قيادية في الحكومة السورية الحالية، وعلى رأسها أحمد الشرع والتي يُمكن البناء عليها، لكن الكرد وباقي المكونات ينتظرون تحويل تلك الخطب إلى لغة الأفعال والخطوات العملية.

بالمختصر، توازن القوى والقوميات وكل السوريين، ضرورة قصوى، ولا مُشكلة في الأشهر الثلاثة المقبلة، بما أنه لا قرارات استراتيجية ستُتخذ، من الممكن أن تُخلق مخاوف بسوريا التي نحلم بها. الأكثر أهمية هو التغيرات التي يجب أن تتحقق في شكل الدولة واسمها ورموزها، وبعد أكثر من نصف قرن على الحكم الأحادي، لا قبول للعودة إلى تفرد جهة واحدة فقط ببناء الهويّة السورية الجامعة، لا شروط ولا فيتو على أيّ طرف سوري.

*المواقف الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة رأي مجموعة “النهار” الإعلامية

النهار العربي

—————————-

برزاني يوصي أكراد سوريا: لا تغامروا لأجل أوهام/ محمد قواص

تحديث 28 كانون الثاني 2025

تطلّبت أزمة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ذات القيادة الكردية في شمال شرق سوريا، تدخّل مسعود برزاني، زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني في العراق، مع ما يمثّله من زعامة تاريخية تشمل الأكراد جميعاً في المنطقة. بدا أنّ بين “الإدارة الذاتية” التي تسيطر عليها قوات مظلوم عبدي والإدارة السورية الجديدة في دمشق بقيادة أحمد الشرّع، تناقضاً في الأجندات والرؤى، فاستدعى الأمر وصايا القائد الكردي في إربيل.

وصف المراقبون لقاء برزاني- عبدي في إربيل، في 16 كانون الثاني الجاري، بالتاريخي. بدا الحدث اختراقاً أراده برزاني حين بادر إلى إرسال مبعوث إلى الإدارة الذاتية (الكردية) في سوريا. وأظهرت استجابة عبدي السريعة بالانتقال إلى كردستان العراق لمقابلة برزاني، إرادة للتواصل مع مرجعية كردية إقليمية كبرى تتجاوز ما يحكى عن تبعية قيادة “قسد” لقيادة حزب العمّال الكردستاني PKK في جبال قنديل شمال العراق.

ما برح عبدي وبقيّة القيادات حوله ينفون العلاقة بـ “قنديل” من دون أن تحظى تلك الرواية بقبول لدى كلّ أطراف الصراع. فإن كانت تركيا تؤكّد تبعية “قسد” لـPKK المصنّفة إرهابية، فإنّ تقارير غربية، لا سيما أميركية، لم تنفِ هذه المزاعم، وإن كرهتها واعتبرتها من تفاصيل كينونة “قسد” التي تحظى، في ظلّ مهمّات التحالف الدولي ضدّ “داعش”، بدعم غربي عامّ واحتضان أميركي خاصّ.

وصف المراقبون لقاء برزاني- عبدي في إربيل، في 16 كانون الثاني الجاري، بالتاريخي

يكاد عبدي وقومه يؤمنون بأنّ تجربتهم في إدارة كيان ذاتي خلال سنوات الصراع السوري الداخلي منذ عام 2011، ستحظى بشرعية دولية ومحلّية، قد تشبه تجربة الأكراد في إقليم كردستان شمال العراق. ولئن ذهب عبدي لملاقاة برزاني، فإنّه، للمفارقة، يستقوي بتجربة الأخير، أباً وابناً، للمحاججة في حقّه بالمطالبة، على الأقلّ، بما ناله أكراد العراق. ويصرّ عبدي من أجل ذلك الهدف على عدم الاستجابة لدمشق الجديدة، بعد سقوط نظام بشّار الأسد، التي ترفض، كما دمشق في ظلّ حكم الأسد، منحه اعترافاً بكينونة ذاتية يراها الشرع شكلاً من أشكال التقسيم لسوريا.

التحولات تفرض لهجة تصالحية

قرأ عبدي جسارة التحوّلات في سوريا وجدّيّتها والاحتضان العربي والدولي لها. تغيّرت لهجته، وبدت تصالحيّة تدعو إلى الحوار مع الحكم الجديد. ذهب إلى إعلان استعداد قواته للانخراط في الجيش السوري الجديد استجابة لمطلب الشرع دمج كلّ الفصائل المسلّحة تحت قيادة وزارة الدفاع، وجعل حصرية السلاح في يد الدولة فقط. غير أنّ مظلوم يتمسّك بهامش مناورة يجعله يشترط أن تندمج قوّاته ضمن جسم عسكري خاصّ داخل الجسم العسكري الكبير.

يستقوي الرجل بأوراق رابحة في لحظة تاريخية داهمة. تُرسل الولايات المتحدة، بإدارتَيها السابقة والراهنة، برسائل الدعم لـ”قسد” بصفتها حليفاً في مكافحة الإرهاب، وترفدها بوجود القوات الأميركية الحاضنة. ولئن سبق للرئيس دونالد ترامب أن أمر بسحب هذه القوات في ولايته الأولى كرمى لعين صديقه الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، فإنّ وزير خارجيّته ماركو روبيو يؤكّد استمرار الدعم للأكراد وعدم التخلّي عن الحلفاء.

الرهان على رادع أميركي

يراهن عبدي على رادع أميركي يضبط تهديدات إردوغان بحسم عسكري. يتأمّل جلبةً في تركيا تبدو جدّية لعقد مصالحة مع القائد التاريخي لحزب العمّال الكردستاني عبدالله أوجلان تنهي العمل المسلّح للحزب. يستنتج أنّ قيادة “قنديل” غير مرتاحة إلى تلك الجلبة، متشكِّكة بمآلاتها ومراميها. يراهن، على الرغم من الضربات التي توجّهها فصائل سورية تابعة لأنقرة، على عدم انخراط الشرع في خيار عسكري في وقت يبعث فيه للعالم رسائل سلم، ويتودّد إلى ترامب ويصفه بـ”صانع سلام” في الشرق الأوسط.

غير أنّ لبرزاني الخبرة والحكمة وحسن الدراية بما هو ثابت ومتحوّل في مواقف الدول. حظي أكراد العراق برعاية دولية متعدّدة الجنسيّات حتّى خالوا دولتهم حتميّة الولادة. أدرك لاحقاً حدود تلك الرعاية حين نظّم عام 2017 استفتاء يمهّد لولادة تلك الدولة. وفيما لم يطالب مظلوم وصحبه بدولة مستقلّة، فذلك لأنّها مستحيلة في الظروف السابقة، لكن يأمل أن تكون متاحة في ظروف لاحقة. بالمقابل أراد برزاني من مظلوم مجموعة وصايا تحمي المُنجز ولا تغامر بالإيمان بأوهام سبق لأكراد العراق أن خبروها وذاقوا لسعاتها.

حكاية أكراد العراق غير حكاية أكراد سوريا

يروي وزير الخارجية العراقي الأسبق هوشيار زيباري عناوين لقاء برزاني- مظلوم. يذكّر السياسي القريب من برزاني بأنّ حكاية أكراد العراق منذ الانتداب البريطاني مروراً بالعهد الملكي، تختلف في سياقاتها التاريخية عن أكراد سوريا. يذكّر أيضاً بأنّ الحكم الذاتي في العراق تحقّق عام 1970، في عهد الرئيس صدّام حسين، قبل أن يصبح جزءاً من الدستور الفدرالي في عراق اليوم، فيما لم يعرف أكراد سوريا مساراً مماثلاً.

ما بين الوصايا والتحذيرات خيط رفيع من خبرة برزاني بإربيل في الاستفادة من المتاح وتجنّب علوم المستحيل

بدا أنّ برزاني نصح ضيفه بالابتعاد عن الـPKK، وعدم تكبير حجم الطموحات، بما في ذلك “التجاوز” على مناطق الآخرين. لكنه، في مقابلة خاصة، أعلن في 24 الشهر الجاري، في موقف واضح أنه “حان الوقت أن يترك حزب العمال الكردستاني الأكراد في سوريا أن يقرروا مصيرهم بأنفسهم، وأن لا بتدخل في شؤونهم، وأن يترك المنطقة”. أضاف: “فوجودهم يعتبر مشكلة كبيرة وحجّة أيضا للتدخّل التركي”.

نصح برزاني عبدي أيضاً بالمشاركة بشكل حيويّ في المؤتمر الوطني في سوريا، والمساهمة في كتابة الدستور، لأنّه، حسب قول زيباري، هو “المحكّ” بشأن هويّة سوريا المقبلة. يضيف أنّه على الرغم من تمتّع أكراد سوريا بدعم أميركي أوروبي وتفهّم دولي، بما في ذلك عربي، إلّا أنّ “عليهم التصرّف كوطنيين سوريين وواقعيين في طرح مطالبهم”. تحدّث زيباري عن أنّ إقليم كردستان جاهز لمساعدة أكراد سوريا، خصوصاً من خلال العلاقة المميّزة التي يمتلكها برزاني وحزبه والإقليم مع تركيا لإبعاد شبح مواجهة عسكرية.

لأكراد سوريا حقوق مشروعة في الإدارة والمشاركة والثقافة واللغة، وعانوا في ظلّ الحكم السابق من تشكّك في مواطنيّتهم السوريّة وانتمائهم إلى هذا البلد. والأرجح أنّ برزاني نصح بالعقلانية والواقعية والذهاب إلى موقف كردي موحّد… ثمّ موحّد ثمّ موحّد… يضع حدّاً لانقسام الأكراد في الحوار مع دمشق. يقول زيباري إنّها “فرصة ذهبية” في حال سلك الأكراد السوريون درب الواقعية والمنطق، ثمّ يضيف في ما يشبه التحذير: “إذا تصرّفتم بشكل مغاير فربّما لن نستطيع مساعدتكم”.

ما بين الوصايا والتحذيرات خيط رفيع من خبرة برزاني بإربيل في الاستفادة من المتاح وتجنّب علوم المستحيل.

أساس ميديا

—————————–

=======================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى