صفحات الثقافة

عن مقولات فلسفية مكتملة بذاتها/ دارا عبدالله

17 يناير 2025

الكثير من المقولات الفلسفية المشهورة غير مُفسَّرة بشكل كاف، أو أنها تُردَّد هنا وهناك بدون معرفة دقيقة بمعناها. ورغم خطورة اجتثاث مقولة فلسفية من سياق نظامها الفلسفي، وتقديمها كفكرة مكتملة بذاتها، إلا أن بعض المقولات في تاريخ الفلسفة تكون فعلًا شارحة بذاتها، وتشكل عينة مصغرة مُبسَّطة مُفسِّرة لنسق فلسفي ما. ليست هذه الحال دومًا، إذ من المعروف أن مقولة ماركس “الدين أفيون شعوب” صارت أداة قمع لإقصاء الدين في الفضاء العام، وهذا ما لن يوافق عليه ماركس على الإطلاق. كما أن مقولة فيتغنشتاين “العالم هو ما يحدث” فُسِّرت عشوائيًا ومُطَّت وأُخِذَت إلى أمكنة تتعارض مع كل بنائه الفلسفي العام.

هنا أستعيد بعض المقولات الفلسفية، أزعم أنها مكتملة بذاتها، وفي داخلها نسخة مصغرة عن النظام الفلسفي المعقد لقائليها:

“لا يمكن للإنسان أن يسبح في نفس النهر مرتين”- هيراقليطس من كتاب “شذرات” المكتوب إما في القرن الخامس أو القرن السادس قبل الميلاد.

على عكس العديد من الأسماء البارزة في تاريخ الفلسفة، وخصوصًا من حاولوا وضع نظريات مثالية وأبدية وموحدة تلتقط الواقع بشكل شامل وكلي، رأى هيراقليطس أن العلاقة بين الأشياء والأفكار هي عرضية ولحظية وبالتالي متحولة ومتغيرة وليست ثابتة ومستقرة. أطروحته المؤثرة هي أن الإنسان ينتمي إلى عالم الأفكار، والنهر ينتمي إلى عالم الأشياء. لما يسبح الإنسان في لحظة زمنية معينة، يكون في حالة فكرية معينة، ويكون النهر في حالة مادية معينة. الآن إذا سبح الإنسان في النهر في لحظة زمنية أخرى، لن تكون على الإطلاق مشابهة للحظة ملاقاته السابقة مع النهر. الإنسان كائن تاريخي متحول وأفكاره وميوله وتصوراته في حالة تحول مستمر. والنهر موجود في حالة جريان مستمر وتدفق دائم، والماء يتغير فيه بشكل دائم. لا يمكن لنفس الإنسان أن يسبح في نفس النهر مرتين، لأن الإنسان يكون تغير بأفكاره، والنهر يكون قد تغير بمائه. لهذا السبب، لا يجب صرف الجهد من أجل الحصول على نقطة ثابتة ومرتكز مستقر، لا في عالم الأفكار ولا في عالم الأشياء. الثابت الوحيد هو الحركة المتغيرة وصيرورة التحول.

“أعرف أنني لا أعرف”- من كلام سقراط في كتاب “محاورة الدفاع عن فينون” لأفلاطون المكتوب في القرن الرابع قبل الميلاد.

 لدى كل شخص تصور عميق وقناعة مبدئية بأنه بنى وشكل رأيًا نهائيًا حول مجال أو موضوع معين. القناعات تُبنى انطلاقًا مما هو صحيح وخاطئ تجريبيًا، جيد أو سيء أخلاقيًا، جميل أو قبيح جماليًا. بجملته المشهورة هذه، يشكك سقراط في فكرة أن المعرفة المزعومة هي معرفة حقيقية موضوعية، ويدافع عن فكرة أنها مجرد رأي ذاتي شخصي. وهنا تكمن مشكلة الاقتباس الذي غالبًا ما يُساء فهمه، بأنه يدعو إلى التوقف عن المعرفة أو الدفاع عن التشكيك من أجل التشكيك. لا، سقراط قال بأنه لا يعرف الأشياء كما هي، بل يظن ويعتقد فقط من منظوره الشخصي، وهذا ينطبق على محاوريه أيضًا. الفرق بين سقراط ومحاوريه هو أن سقراط أدرك مسألة أن ما يبدو حقيقة موضوعية ما هي إلا وجهة نظر، في حين أن محاوريه لم يصلوا بعد إلى هذه القناعة.

“الإنسان حيوان سياسي”- أرسطو من كتاب “كتاب السياسة” في القرن الرابع قبل الميلاد.

 ما يميز الإنسان عن الحيوان هو أنه اجتماعي ويحتاج إلى الاعتراف المعنوي بالذات من الآخرين. الإنسان محب للحديث وتبادل الأفكار مع الآخرين، ويميل إلى التجمع والتواصل والتخطيط من أقرانه. السياسة بهذا المعنى تقلم حيونة الإنسان، لأنها تضبط غرائزه وتثبط حريته الطبيعية.

من خلال السياسة تبرز حاجة الإنسان إلى التعاقد مع أقرانه لتشكيل مجتمع يُحكَم وفق قواعد معينة ومفهوم للعدل يقرره أعضاء المجتمع. يعيش الإنسان حياة مرضية فقط إذا ما كان في علاقات أخلاقية مرغوبة وتعاقد سياسي مثمر مع أقرانه.

“أبشع الشرور، الموت، ليس له معنى بالنسبة لنا، لأنه عندما نكون موجودين، لا يكون الموت موجودًا، وعندما يأتي الموت، لا نكون نحن موجودين”- أبيقور في “كتاب السعادة” الصادر في القرن الثالث قبل الميلاد.

لا تحصل أي مواجهة مباشرة بيننا وبين الموت، وبالتالي من المستحيل علينا أن نحكم إذا ما كان عدم العيش أمرًا صعبًا أم لا. يفقد الموت رعبه بالنسبة لنا، لما ندرك حقيقة أننا لا نقابله فعليًا. مع نهاية حياتنا يتوقف كل إدراكنا للعالم ولنا، إذ تنفصل الروح عن الجسد، وبالتالي لا يجب أن نخاف من نهاية وجودنا، لأننا لن نختبرها فعليًا. ولما يتغلغل الموت في أجسادنا، يكون وعينا قد انطفأ فعليًا. محدودية حياتنا وغيابنا في حضور الموت، وغياب الموت في حضورنا، لا يجب أن تكون مصدر رعب، بل هي دعوة لاستغلال كل ثانية من هذه الحياة من أجل الوصول إلى السعادة والعيش بأفضل طريقة ممكنة.

“الفلاسفة لم يفعلوا سوى تفسير العالم بطرق مختلفة، ولكن المهم هو تغيير العالم”- كارل ماركس من كتاب “أطروحات حول فيورباخ” الصادر عام 1854.

ماركس انقلب على المثالية الألمانية الكانطية والهيغلية التي فصلت الواقع عن المثال. برأيه، الفلسفة منذ الأزل تتجادل حول أسئلة مجردة وفوقية، وبالتالي فقدت جوهرها السياسي الأهم: الممارسة والعمل الإنساني، والذي يغير شكل الطبيعة من جهة، وطبيعة العامل- الإنسان من جهة أخرى. ابتعاد الفلسفة عن التنظير حول العمل، خلق وضعًا مشوهًا، إذ بدلًا من أن يحررنا العمل، صار عاملًا في استعبادنا. الرأسمالية تقوم باستغلال العمل من أجل مراكمة فائض القيمة، لذلك، ليست مهمة الفلسفة التواطؤ وتبرير هذا الواقع بمفاهيم سامية، بل توفير أدوات لازمة تساهم في فهم وتغيير الظروف، وبذلك يمكن بناء مجتمع شيوعي جديد.

“لا تولد المرأة امرأة، بل تصبح كذلك”- سيمون دي بوفوار من كتاب “الجنس الآخر” الصادر عام 1949.

عملية صناعة المرأة هي عملية تاريخية يقررها المجتمع الأبوي. مثل جميع البشر، تولد النساء أحرارًا مع إمكانيات تطور غير محددة مسبقة وطاقة كامنة قادرة على التحوّل في اتجاه. المشكلة هي أن ما يُعتبَر طبيعيًا ومرغوبًا فيه بالنسبة للرجل، ليس متاحًا ومسموحًا له بنفس القدر من قبل النساء. عملية صناعة المرأة هي حصر إمكانياتها وإنقاص خياراتها وتقليص طاقاتها. بدلًا من أن يتم السماح للنساء باكتشاف قدراتهن وتطوير أنفسهن، يطالب المجتمع الأبوي منهن أن يتوافقن مع صورة محددة من قبل الرجال. إذ يجب أن يكن مرغوبات جنسيًا أو جديرات بالحب العاطفي، ودائمًا في حالة استعداد لتلبية طلبات أزواجهن وآبائهن. يجب على النساء رفض هذا الدور المفروض اجتماعيًا، وتصميم أنفسهن بحرية انطلاقًا من خياراتهن.

* كاتب سوري من أسرة تحرير “ضفة ثالثة”، يدرس ماجستير فلسفة في جامعة هومبولدت في برلين.

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى