مراجعات الكتب

محمد برّو يحكي رواية الرعب السورية/ معن البياري

21 ديسمبر 2024

انتهك نظام الأسديْن في سورية، في سجونه ومقرّاته اليوليسية، آدميّة مئات آلافٍ، بإزهاق أرواح كثيرين منهم لا عدد لهم، وبالتعذيب الذي لا حرَج في نعت قسوته أنها تفوق ما مورست في سجون النازيين (بعيداً عن المحرقة)، وبصنوفٍ مروّعةٍ من الإذلال والإخضاع والتمويت، غير أنهم معدودون ممن نُكبوا بهذا كله، وكانوا من ضحايا هذا التوحش دوّنوا عن الاضطهاد الباهظ الذي أمضوا فيه سنواتٍ أو عقوداً، وأفضوا بما ضجّت به أرواحهم وأبدانهم من تعبٍ ثقيل، عميقٍ في الحشايا، ورموا سهما في مدوّنة الألم السوري المديد. ولمّا كنّا، في هذه الأيام، نتعرّف على بعضٍ قليلٍ مما ينكشف من عذاب خمسة عقود هناك، فإن قراءة كتاب محمد برّو “ناج من المقصلة… ثمانية أعوام في سجن تدمر” (جسور للترجمة والنشر، بيروت، 2021) تصبح أكثر من ضرورة، ليس فقط للغزير من الفظاعات والفجائع فيه، بل أيضاَ تقديراً لصاحب هذا المؤلًّف، الفريد في مكتبة مرويات السجون وآدابها، لأنه حمى من النسيان أسماء عديدين من ضحايا حافظ الأسد في السجن الكريه في صحراء تدمر، والذي كان من مباذل تنظيم داعش أنه دمّره في العام 2015، وكان مهما أن يبقى، كما غيرُه من مئات السجون والأقبية التي عُدّ غير قليلٍ منها مسالخ بشرية وزّعها الأسدان، الأب ووريثه، في كل الجغرافيا السورية. كما أن برّو حفظ أسماء جلّادين، كان محقاً في التنويه إلى أن نعتهم وحوشا لا يُسعف تماما في تظهير انحطاط غرائزهم الفالتة، وشهيّتهم لقتل ضحاياهم واضطهادهم والتلذّذ بتعذيبهم.

هذا واحدٌ من أوجه أهمية هذا الكتاب، المدعوُّ هنا إلى قراءته في هذه الأيام السورية الاستثنائية (وفي أي وقت ايضا). ومن وجوه أخرى له لغتُه العالية، وسعةُ الثقافي والتاريخي الموثق فيه، ذلك أنك تقرأه، وتتعرّف إلى مقاطع من فصول عُسف سلطة حافظ الأسد في البلاد، في غضون الصدام الدامي مع الإخوان المسلمين، وغيرهم، عندما لم يجد غيرَ العنف العاري، والذي انعدَمت عند مقترفيه، من ضباط ومسؤولي أمن وسجّانين، أي حساسية في مسألة قتل سجناء ومُحتجزين وموقوفين، بلا أي شعورٍ بالمسؤولية عن حياة الأفراد والمجاميع من البشر، وأحياناً لنزوعاتٍ فرديةٍ محضة، ولانتقام شخصي، ولرغبةٍ بالغة السادية. يكتب محمد برّو ويحكي، في 72 فصلا في 348 صفحة، مشاهدات وتفاصيل من داخل سجن تدمر، الذي لم يخل يومٌ فيه من نوبات تعذيب فظيعة، ولم يخل أسبوع من جولات إعدام وتصفياتٍ لنزلاء، بينهم أطباءُ وضبّاطٌ وأصحاب فكر وعلم. وقد أودع برّو (1963) في هذا السجن في صحراء سورية، بعد أيام قليلة في التوقيف والتحقيق، في 1980 في السابعة عشرة من عمره، وحُكم بسرعة بالإعدام، قبل أن يتراجعوا، فينجو من المقصلة، وذلك كله لأنه طالَع مجلة النذير للإخوان المسلمين في مدينته حلب.

يجد برهان غليون في تقديمه الكتاب علاقةً مباشرةً لانفلات العنف وتقديس أفعاله وقعاليّته في الحالة السورية بنمط استثنائي فيها من الحكم والسيطرة. ومن مرويات محمد برّو في كتابه الذي يسرُد فيه العجيب الشنيع والصادم من تفاصيل يومية في جحيم السجن الكريه، من قبيل أن برنامج التعذيب اليومي كثيرا ما كانت تُضاف إليه جلسة تعذيب طارئة في منتصف الليل، إذا ما خطر للضابط المناوب أن يتسلّى. وإذا كان أهل الدراما السورية التلفزيونية، الجدّية والجادّة، يبحثون عن وقائع من فظاعات سجون الأسديْن، للإفادة منها في إنجاز أعمالٍ دراميةٍ تعتني بالليل السوري الطويل، فمحكيّات هذا الكتاب، الشائق المتعب، تيسّر ما ليس في وُسع خيالٍ أن يصل إليه. ومن كثيرٍ من هذا قصّة رقيب عسكري لم يقنع مسؤوليه في السجن أداؤُه جلّادا، إذ عوينت عليه علائم “تعاطف” مع “الحمير” (ما يُنادى به جموع المساجين)، فتلقّى تعذيباً قاسياً، إلى حدّ الموت، بعد أن صار مبقور البطن، مفقّأ العينين، مكسّر الأضلاع والأطراف. أما قصّة طبيب السجن الذي وسّط أخاه الضابط النافذ ليكون في موقعه هذا فقد أراد الانتقام من زميلٍ له في دراسة الطب لأنه تزوج من أحبها، فوشى به في تقرير كيدي، وتمكّن منه في السجن، وقتله في تعذيبٍ بالغ السوء.

لا يوجََز كتاب محمد برّو ولا يُلخَّص، ولا يفي عرضٌ له في مقالةٍ، أو إتيانٌ على مشمولاته، بإحاطاته، الشخصية التي تخصّ سيرة كاتبه، والعامّة التي تخصّ سيرة الرعب السوري المديد. … الأدعى والأوْلى، من قبل ومن بعد، أن يقرأه من لم يقرأوه فوراً.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى