نقد ومقالات

خورخي آمادو في الجنّة/ ماريو فارغاس يوسا

29 يناير 2025 م

سافرت عام 1982 إلى مدينة سالفادور من أعمال ولاية باهيّا في البرازيل لحضور الذكرى السبعين لمولد خورخي آمادو، وأدهشني الحماس الذي أقبلت به الجماهير للاحتفال بتلك المناسبة. كنت أعرف مدى شعبيته الواسعة في تلك المنطقة التي بفضل رواياته ذاعت شهرتها في العالم، لكني لم أكن أتوقع أن الشغف والإعجاب به قد ضربا جذوراً بين جميع الطبقات الاجتماعية، وفي طليعتها طبقة الفقراء الذين أعتقد أن معظمهم لم يقرأ كتبه، وقلت لنفسي: يا لها من بلاد رائعة تضاهي شهرة الأدباء فيها شهرة نجوم كرة القدم! لكن سرعان ما تنبّهت أنها ليست شهرة عموم الأدباء، بل شهرة خورخي آمادو.

بدأت تلك الاحتفالات في سوق الخضار المركزي حيث كانت الجموع تتهافت لتحيته وتهنئته، ويقبل على مصافحته باعة السمك وربات البيوت وأفراد الشرطة البلدية. لكن الأغرب من كل ذلك أن آمادو كان يعرف كل واحد من هؤلاء بالاسم والكنية، ويتذكر جيداً الأماكن والأحداث التي جمعته بهم. كانت السعادة تغمرهم جميعاً، والفخر ظاهر في كلامهم وعلى وجوههم بأن يكون خورخي آمادو قد شهد النور في تلك الأرض، ليس فحسب بسبب غزارة إنتاجه الأدبي الرائع، بل أيضاً لدماثته والمودة التي تنضح من كل حركاته وتصرفاته العفوية التي تصالحنا مع الحياة وترسّخ لدينا الاعتقاد بأن البشر هم أفضل مما يبدو عليهم.

كانت بداية معرفتي بخورخي آمادو كطالب في الجامعة مطالع خمسينيات القرن الماضي، وما زلت أتذكر أول كتابين قرأتهما له: رواية «كاكاو» والسيرة الروائية التي وضعها حول الزعيم الشيوعي الأسطوري لويس كارلوس بريستيس بعنوان «فارس الأمل». يومذاك كانت الحرب الباردة في ذروتها، وكانت أنظمة الاستبداد العسكري منتشرة في أميركا اللاتينية، وكانت شخصية آمادو وأعماله الأدبية رديفاً لصورة الكاتب الملتزم سياسياً واجتماعياً، والذي يسخّر ريشته سلاحاً ضد الظلم الاجتماعي والطغيان والاستغلال، واستقطاب المناصرين للفكر الاشتراكي. إن ما كتبه خورخي آمادو في تلك الفترة، وغيره من أدباء أميركا اللاتينية وشعرائها، مثل بابلو نيرودا في «النشيد العام» أو ميغيل آنخيل آستورياس في «البابا الأخضر» و«نهاية أسبوع في غواتيمالا»، كان في خدمة أهداف مدنية وأخلاقية، وثورية. لكن ما أنقذ خورخي آمادو آنذاك من الوقوع في الفخ الذي وقع فيه كثيرون غيره من أدباء أميركا اللاتينية «الملتزمين» الذين تحولوا، كما كان يريد ستالين، إلى «مهندسي نفوس»، أي إلى مجرد أبواق لفكره، أن رواياته السياسية كانت مجردة من البعد العقائدي وملتصقة بالواقع الوطني والمحلي. لكن برغم ذلك، وفي ضوء التطورات والتحولات الهائلة التي حصلت على مر السنين وكشفت أوهام الفكر الاشتراكي والأساطير التي كانت تجمّله، فقدت كتاباته تلك الحيوية والجاذبية التي كانت تتمتع بها عندما كان جيلي يقبل على قراءتها بشغف.

اللافت أن خورخي آمادو ذاته كان أول من تنبّه لذلك، لكن من غير أن ينتج عن تلك الصحوة أي صدام أو انشقاق كالذي أودى بالعديد من السير الأدبية الواعدة، بل بمنتهي الأناقة والبوهيمية الكامنة في شخصيته، ما أحدث تحولاً عميقاً في إنتاجه الأدبي، ونزع عنه الرداء السياسي ليلبسه أثواباً مزركشة ورائعة من الظرف والتنوير الاجتماعي ومباهج الحياة، من تجليات الفكر إلى ملذات الجسد ومتاهات النفس البعيدة. وكان آمادو قد بدأ كتاباته في سن المراهقة بقدر كبير من النضوج الأدبي، ثم عاد ليجدد شبابه في قصص رائعة وخالدة مثل «السيدة فلور وزوجاها» و«تيريزا باتيستا المنهكة من الحرب»، فضلاً عن غيرها من القصص الساخرة التي كانت تتفتق عنها تباعاً عبقريته الخصبة، زاخرة بجرأة أسلوبها وشهوانية مشاهدها وصخب أحداثها.

النجاح الهائل الذي لاقته كتبه في ثقافات عديدة ومختلفة لا يعود فحسب إلى براعة الأسلوب الحرفي الذي يسرد به قصصه، والحوارات الممتعة التي تدور بين شخصياته، أو التقنية العالية التي يربط بها الأحداث ويفكّ طلاسم الألغاز التي تحيط بها، رغم أن كل ذلك ساهم في انتشار رواياته على نطاق واسع بين جماهير القراء. فهو يعود أيضاً إلى ما تحمله من رسائل أخلاقية، وتفاؤل بمصير العالم والبشرية، وإن بشيء من السذاجة كما يحصل اليوم، مع الأسف، مع كتّاب كثيرين أخذوا على محمل الجد شعار «التفكير الإيجابي». في روايات آمادو لا نقع على غياب الوعي بالواقع الأليم، ولا على قصر النظر حول صعاب الحياة والتجارب المريرة التي تواجه السواد الأعظم من الناس كل يوم. المعاناة، والخداع، والنفاق، وسوء التصرف، والحماقة، كلها في نسيج أسلوبه بقدر ما هي في حياة قرائه.

لكن لعل أجمل ما في رواياته، أن صعاب الدنيا كلها لا تكفي لكسر العزيمة على البقاء، وبهجة الحياة، وعبقرية الإنسان لتجاوز المحن. ولشخصياته إقبال على الحياة وعشق لها يمكّنها، كما يحصل مع السيدة فلور وزوجها المغفور له، من إحياء الموتى وإعادتهم إلى الوجود بكل ما فيه من عذاب ومتعة وفرح.

إن سبحة الملذات الصغيرة التي هي في متناول الناس العاديين، والتي ترشح من كل قصصه، مثل الأحاديث المطلقة على عواهنها في المقهى وما يتخللها من نكات وطرائف، أو التغزّل بالجمال الفاتن مع شلّة من الأصدقاء، أو مراقبة طائر يعبر خاطفاً زرقة السماء الصافية، هي التي تدفع قراءه إلى الاعتقاد، مهما بلغت مآسيهم وصعبت ظروفهم، بأن في الحياة دائماً موطئاً للأمل واللهو. قلة هم الكتاب المعاصرون الذين نجد عندهم هذه الرؤية «الصالحة» للوجود كتلك التي نقع عليها في أعمال خورخي آمادو. وعندي، في جملة القول، أن موهبة كبار المبدعين في هذا العصر كانت شاهداً قبل أي شيء على مأساوية المصير البشري، وغاصت في أعماق المتاهات التي يمكن أن يقع فيها. وإذا كان الأدب يستكشف أساساً «الشر» ويضيء الأرباض المدمرة في النفس البشرية، فإن خورخي آمادو، كمن سبق من الأدباء الكلاسيكيين، تناول الوجه الآخر من هذه النفس، بما فيها من طيبة وبهجة وسخاء هي التي تخرج ظافرة دائماً في معارك المصاير الفردية. ولست أدري أن كانت هذه الرؤية هي الأصوب من نقيضتها التي حملتها أعمال فولكنر أو أونيتي. لكن بفضل أسلوبه الساحر والتقنية العالية التي تتميز بها سرديته استطاع أن يستحوذ على أفئدة الملايين من قرائه.

عندما شرعت في مطالع سبعينيات القرن الفائت، مسكوناً بالخشية وأيضاً بالشغف، في مغامرة كتابة «حرب نهاية العالم» التي تدور حول الحرب الأهلية البرازيلية أواخر القرن التاسع عشر، أتيح لي أن أقف شخصياً على حاتميّة خورخي آمادو، ورفيقته الرائعة زيليا. ولولا المساعدة التي قدمها لي، وما زودني به من نصائح وعرفني بهم من شخصيات، لما تمكنت من إنجاز ذلك العمل الذي يدين بالكثير له ولصداقته.

درجت أيام الصبا، مع صديق لي، على التفكّر في أسماء الكتاب المعاصرين الذين يدخلون أبواب الجنة، لو فرضنا أن الجنة موجودة. وكنا نضع قوائم بتلك الأسماء التي كان أصحابها، عاجلاً أو آجلاً، يتكفلون بإسقاط أنفسهم منها. وفي قائمتي الحالية لم يعد هناك سوى اسم واحد فحسب، وأنا على يقين لو أن أحداً عرف آمادو أو قرأ أعماله، لا يمكن أن يخطر له حذف هذا الاسم من القائمة.

الشرق الاوسط

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى