سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 29 كانون الثاني 2025
حرية إلى الأبد: كل المقالات والتحليلات والحوارات التي تناولت انتصار الثورة السورية اعتبارا من 08 كانون الأول، ملاحقة يومية دون توقف تجدها في الرابط التالي:
سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع
———————————————
استراتيجيات الأمن في سورية بعد الأسد (الساحل والوسط السوري نموذجًا)/ نوار شعبان
29 كانون الثاني/يناير ,2025
مثّل انهيار نظام بشار الأسد، في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، لحظة محورية في تاريخ سورية؛ إذ فتح الباب أمام مرحلة جديدة مليئة بالتحديات والفرص على حد سواء، وأعقب سقوطَ النظام فراغ أمني وسياسي، حيث لم يكن ذلك السقوط مجرد نهاية للنظام، بل كان بداية حقبة تحمل مسؤولية إعادة بناء دولة تمزقت بفعل الحرب والاستبداد.
وجدت السلطات السورية الجديدة نفسها أمام واقع مُعقّد، حيث لم يقتصر المشهد على تركة مثقلة بالأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل شمل أيضًا مناطق كانت تُعدّ طوال عقود حاضنة للنظام السابق، مثل حمص، حماة، اللاذقية، وطرطوس. وشكّلت هذه المناطق نقاطًا مركزية لبقايا تشكيلاته العسكرية والأمنية التي رفضت الاستسلام بسهولة.
في هذا السياق، أطلقت السلطات الجديدة حملات أمنية مكثفة تستهدف تفكيك التشكيلات الموالية للنظام السابق من العناصر الذين رفضوا تسليم سلاحهم والانخراط في عملية التسوية الأمنية، وإعادة السيطرة على هذه المناطق بعد قيام هذه التشكيلات بالتمركز في بعض المناطق الريفية، وكانت هذه الحملات جزءًا من استراتيجية شاملة تهدف إلى ملء الفراغ الأمني، وإضعاف أي تهديد محتمل لعملية تعزيز الأمن والاستقرار، لكن التحديات التي واجهتها السلطات الجديدة لم تكن أمنية فحسب، بل كانت اجتماعية أيضًا، إذ كان لا بد من التعامل مع مجتمعات ظلّت موالية للنظام مدة طويلة، ويضاف إلى ذلك أن المجتمعات التي تأثرت بعقود من الدعاية والتضليل من قبل النظام السابق كانت تشكك في نيات السلطات الجديدة وأهدافها، مما يشكل تحديات نفسية واجتماعية تشكّل عقبات أمام القبول الشعبي، فضلًا عن أن وجود عناصر استخباراتية وعسكرية من النظام السابق داخل هذه المجتمعات أدّى إلى تعقيد المشهد الأمني والاجتماعي، حيث عمل هؤلاء الأفراد على تقويض جهود الاستقرار، من خلال نشر الشائعات أو تنظيم أنشطة معادية. أمام هذه التحديات، اضطرت السلطات إلى تبني سياسات متوازنة تجمع بين استخدام القوة لإزالة التهديدات الأمنية، وخطوات شاملة لإعادة دمج السكان المحليين في المشهد الجديد وتحقيق الاستقرار.
مع مرور الوقت، أصبح واضحًا أن الحملات الأمنية ركيزة أساسية في بناء أسس الاستقرار في هذه المرحلة الحساسة، من وجهة نظر السلطات الجديدة، لكنها كشفت أيضًا عن مدى تعقيد التحديات أمام تحقيق مصالحة وطنية شاملة. فبينما سعت السلطات الجديدة لفرض سيطرتها، كان عليها في الوقت ذاته العمل على معالجة الانقسامات المجتمعية، واستعادة الثقة في مؤسسات الدولة التي طالما ارتبطت في أذهان السوريين بالاستبداد والفساد.
المناطق المستهدفة(الساحل والوسط السوري نموذجًا)
شهدت مناطق الساحل والوسط السوري حملات أمنية مكثفة، نفذتها السلطات الجديدة، بهدف فرض السيطرة الكاملة وإعادة الاستقرار في مناطق كانت تشكّل معاقل رئيسية للنظام السابق، وتميزت هذه المناطق، مثل حمص وريفها الغربي وأرياف حماة الغربية وريف الساحل السوري، بتحديات معقدة تتعلق بالولاءات السياسية والانقسامات الطائفية، إضافة إلى أن مجموعات مسلحة وقيادات بارزة للنظام السابق كانت تستخدمها كمعاقل للاختباء والتمركز، وركزت الجهود على تفكيك هذه الشبكات وملاحقة العناصر المسلحة، مع الحرص على تحقيق التوازن بين العمليات الأمنية وتعزيز الثقة المجتمعية، وشملت الفترة ما بعد الإجراءات الأمنية في المناطق المستهدفة إطلاقَ حملات تواصل مجتمعي، هدفت إلى تهدئة المخاوف وضمان عودة الحياة الطبيعية للسكان المحليين، وذلك من خلال قيام مسؤولين أمنيين وكوادر من المحافظة بزيارة تلك المناطق والاجتماع بالأهالي.
مدينة حمص وريفها الغربي:
الأحياء في المدينة: تمثلت الجهود الرئيسية في أحياء مثل وادي الذهب، عكرمة، الزهراء، العباسية وغيرها، حيث كانت هذه المناطق معروفة بولائها للنظام السابق، وشملت الإجراءات الأمنية حملات تفتيش منزلية دقيقة واعتقالات واسعة، لمنع أي محاولات لزعزعة الاستقرار، واستمرت الحملة بشكل فعلي يومين وبدأت في 4 كانون الثاني/ يناير 2025، وسبقها عملية إغلاق كامل لتلك الأحياء، وفي 6 كانون الثاني/ يناير 2025، أعلنت الجهات الأمنية انتهاء حملة التمشيط، وذلك بعد تحقيق أهدافها المعلنة وتوقيف عدد من المطلوبين[1]. وفي 12 كانون الثاني/ يناير 2025، أعلنت إدارة الأمن العام بحمص إطلاق دفعة من الموقوفين بعد استيفاء التحقيق الأولي، مع الالتزام بالمثول حين الاستدعاء إذا لزم الأمر، وأكّدت جهات رسمية أن هناك دفعات أخرى ستخرج، وأعلنت أن الدفعة الأولى شملت إطلاق سراح أكثر من 310 أشخاص كانوا قد احتُجزوا في السجن المركزي بحمص، ممن اعتُقلوا خلال الحملات الأمنية الأخيرة في بعض أحياء المدينة.
الريف الغربي من حمص: يعدّ الريف الغربي لحمص منطقة استراتيجية، لاحتوائه على معابر تهريب بين سوريا ولبنان، كانت تستخدمها مجموعات تهريب محلية وميليشيات “حزب الله اللبناني”، في عهد النظام السابق، إضافة إلى الخليط المعقّد من الطوائف المختلفة. وتمكّنت الأجهزة الأمنية من تقليص نفوذ تلك المجموعات ونشاطاتها، عبر عمليات تمشيط وتفكيك شبكات مسلحة عديدة كانت تتخذ الأرياف ملاذًا آمنًا. وعزّزت استقرار الوضع الأمني في هذه المناطق، لضمان عودة السكان النازحين وتشجيع النشاط الزراعي والاقتصادي. ومن أبرز العمليات الأمنية في هذه المنطقة، الهجوم على معاقل ميليشيا شجاع العلي، في الريف الغربي من المحافظة، وأسفر الهجوم عن مقتل العلي وعدد من عناصره وأسر الباقين. ويعدّ شجاع العلي المسؤول عن ارتكاب مجزرة الحولة في حمص التي قُتل فيها 109 من المدنيين، ويُتهم بتزعمه ميليشيا مسلحة تابعة لفرع الأمن العسكري في حمص، متورطة في عمليات خطف وابتزاز مدنيين، للحصول على فديات بمبالغ كبيرة. وفي 26 كانون الأول/ ديسمبر 2024، قُتل العلي خلال اشتباكات مع قوات الأمن التابعة لسلطات السورية الجديدة في قرية بلقسة[2].
وشهد الريف الغربي لمحافظة حمص، في 20 و21 كانون الثاني/ يناير 2025، أحداثًا أمنية جديدة، حيث قُتل ستة أشخاص على الأقل خلال حملة تمشيط واسعة أطلقتها السلطات الجديدة، وشملت هذه الحملة عمليات مداهمة وتمشيط في عدة قرى في الريف الغربي، جاءت في إطار استهداف مستودعات أسلحة وشبكات تهريب ومجموعات مسلحة من بقايا النظام السابق ممن رفضوا تسليم أسلحته، حيث شهدت قرية الغور الغربية، القريبة من الحدود اللبنانية، اشتباكات عنيفة، بين قوات الأمن ومسلحين يُعتقد أنهم ينتمون إلى مجموعات محلية كانت مرتبطة سابقًا بميليشيا “حزب الله” اللبناني. وتخلل الاشتباكات استخدام أسلحة رشاشة وثقيلة، وكانت قوات الأمن قد جلبت دبابات لدعم العمليات الميدانية[3].
وأصدرت مجموعة “السلم الأهلي في حمص”، في 25 كانون الثاني/ يناير 2025، بيانًا تناول الحملة العسكرية في بلدة فاحل بريف حمص، وأشار البيان إلى سقوط قتلى ودفنهم خلال اليومين السابقين، ووصَف عددًا منهم بالمدنيين، إلا أن المجموعة عدّلت بيانها، في 26 كانون الثاني/ يناير 2025، بعد التحقق من هوية القتلى عبر مصادر موثوقة، وأكدت أن معظمهم ضباط يحملون رتبًا عسكرية مختلفة[4]. ومن ثم بات من الضروري، ولا سيما بعد أحداث الغور الغربية وقرية فاحل، التأكيد أن أولويات العمليات الأمنية يجب أن تكون لاعتقال المتورطين من النظام السابق، خاصة أولئك الذين لعبوا أدوارًا رئيسية في الانتهاكات والجرائم التي ارتُكبت خلال فترة حكم النظام. ومع ذلك، يبقى تنفيذ هذا الهدف مشروطًا بالظروف الميدانية، إذ إن تحوّل بعض المجموعات إلى العمل الهجومي ضد قوات الأمن قد يُغيّر طبيعة المهمة من عملية أمنية تستهدف الاعتقال، إلى مواجهة عسكرية مباشرة تستدعي استخدام القوة المناسبة لحماية القوات وتنفيذ الأهداف الأمنية.
أرياف حماة الغربية:
في 27 كانون الأول/ ديسمبر 2024، أطلقت إدارة العمليات العسكرية حملة أمنية واسعة في ريف حماة الغربي، استهدفت ملاحقة بقايا النظام السابق، وشملت الحملة مداهمات في مناطق مثل مصياف والسقيلبية، وأسفرت عن اعتقال شخصيات بارزة، منها قائد شرطة حماة السابق، حسين جمعة. وفي 29 كانون الأول/ ديسمبر 2024، واصلت السلطات الجديدة حملاتها الأمنية في أرياف محافظة حماة الغربية، مركزة على تفكيك الشبكات المرتبطة بالنظام السابق، وتمكنت القوات الأمنية من مصادرة كميات كبيرة من الأسلحة والذخائر، خلال عمليات التمشيط في مناطق ريف حماة الغربي، مما ساهم في تقليص خطر إعادة تنظيم الأعمال المسلحة.
الساحل السوري:
أرياف اللاذقية وطرطوس: مثلت هذه المناطق تحديًا مزدوجًا للسلطة السورية الجديدة. فمن جهة، كانت هذه المناطق مركزًا رئيسيًا لدعم النظام السابق، سواء من خلال الدعم الشعبي أو البنية التحتية العسكرية والأمنية. ومن جهة أخرى، تحتاج السلطة الجديدة إلى إدارة هذه المناطق بحذر، لتجنب تصاعد التوترات الطائفية أو ردات فعل عنيفة من السكان المحليين الذين قد يشعرون بالتهديد أو الإقصاء، في مرحلة ما بعد نظام الأسد. شملت العمليات الأمنية مداهمات لأوكار سرية واعتقالات لعناصر أمنية وعسكرية في النظام السابق، وأسفرت عن مصادرة أسلحة متطورة خفيفة ومتوسطة وخرائط عمليات سرية لمناطق مختلفة في الساحل السوري. وفي 21 كانون الأول/ ديسمبر 2024، أعلنت إدارة العمليات العسكرية إطلاق حملة أمنية شاملة في ريفي طرطوس واللاذقية الشرقي، بعد سلسلة من الهجمات التي استهدفت قواتها، وأشارت الإدارة إلى أن الحملة شملت ملاحقة عدد كبير من المطلوبين الذين وردت بلاغات عن تورطهم في أعمال تخريبية وامتلاك أسلحة، منهم مقاتلون سابقون في جيش النظام السابق، وشملت الحملة الأمنية مناطق عديدة في ريفي المحافظتين وفي المدن الرئيسية، وخلال العمليات الأمنية، تعرّضت قوات الأمن للعديد من الكمائن، أبرزها كان في مطلع شهر كانون الثاني/ يناير 2025 في مدينة اللاذقية، حيث نفذت مجموعة مسلحة عملية ضد قوات الأمن، في حي العوينة بمدينة اللاذقية، في أثناء عملية تمشيط لقوات الأمن العام.
ولعل أبرز العمليات الأمنية تمثلت بحادثةٍ وقعت في المناطق الجبلية في محافظة اللاذقية، وبالتحديد في قرية عين الشرقية في جبال اللاذقية، بتاريخ 13 كانون الثاني/ يناير 2025[5]، حيث قامت مجموعة من التشكيلات الموالية لنظام السابق، بقيادة حسام بسام الدين، بمهاجمة ثكنة لإدارة العمليات التابعة لسلطات الجديدة، وأسفر الهجوم عن مقتل اثنين من رجال الأمن العام واختطاف سبعة آخرين، وظهر حسام بسام الدين في مقطع فيديو مهددًا بتصفية المختطفين، إذا لم تتم الاستجابة لمطالبه التي تمثلت بطلبه من قوات الأمن الانسحاب الكامل من المنطقة الجبلية من المحافظة. وتمكنت قوات الأمن خلال ساعات قليلة من تنفيذ عملية نوعية لتحرير المختطفين. وانتهت العملية بتفجير حسام الدين نفسه في أثناء الاشتباك. ويُذكر أن حسام الدين كان سابقًا من أبرز قادة ما عُرف بكتيبة “أسود الجبل”، التي تلقت دعمًا من المخابرات الجوية.
الاستراتيجيات المُنفَّذة
لضمان نجاح العمليات الأمنية، اعتمدت السلطات الجديدة على استراتيجيات شملت المداهمات الليلية والتكتيكات المنسقة للتطويق، وهدفت هذه الأساليب إلى تقليل الخسائر بين المدنيين، ومنع هروب العناصر المستهدفة، مع الاستفادة من التقنيات المتطورة كأجهزة الرؤية الليلية والطائرات المسيّرة. وأدت الاستخبارات البشرية والإشارية دورًا كبيرًا في تعزيز فعالية العمليات، من خلال الكشف عن مواقع الشبكات الموالية للنظام السابق ومخزونات الأسلحة، مما أسهم في تحقيق نتائج دقيقة واستعادة النظام في المناطق المستهدفة[6].
المداهمات والتطويق:
المداهمات الليلية: استخدمتها قوات الأمن للاستفادة من عنصر المفاجأة، وتقليل الخسائر بين المدنيين، وتقليل احتمالات هروب المشتبه بهم. ومن خلال استخدام أجهزة الرؤية الليلية المتطورة والتكتيكات المنسقة، استهدفت هذه العمليات الأفراد ذوي الأهمية الكبيرة ومخزونات الأسلحة، وكانت أرياف حماة من أكثر المناطق التي اعتُمد فيها على العمليات الليلة ، حيث ساعدت جغرافيا تلك المناطق في التحرك والانتشار السريع[7].
تكتيكات التطويق: من خلال تطويق المناطق المستهدفة، عزلت قوات الأمن العناصر المستهدفة، ومنعت وصول الإمدادات أو الهروب. وسمح هذا النهج بإجراء اشتباكات تحت السيطرة، مما قلل الخطر على كل من عناصر قوات الأمن والمدنيين. وسهّل أسلوب التطويق إجراء عمليات تفتيش منظمة وإقامة أطواق أمنية للحفاظ على النظام بعد انتهاء العملية، ومن أبرز المناطق التي شهدت عملية تطويق كامل، أحياء الحضارة، عكرمة، ووادي الذهب في مدينة حمص، حيث طُوّقت تلك الأحياء وأعطيت مهلة راوحت بين يومين أو ثلاثة، قبل البدء بعملية التمشيط الفعلي، وخلال فترة التطويق، كانت تُجمع المعلومات بالاعتماد على:
الاستخبارات البشرية، إذ أتاحت الاستفادة من المخبرين المحليين وشبكات المجتمع الحصولَ على معلومات ساعدت في الكشف عن أماكن وجود الشبكات الموالية للنظام السابق وأنشطتهم[8].
الاستخبارات الإشارية، إذأتاح اعتراض الاتصالات بين عناصر شبكات النظام السابق التنبؤ والحد من الأعمال العدائية المحتملة، وساعد في اكتشاف الشبكات السرية ومستودعات الأسلحة. وأسهمت التقنيات المتطورة للمراقبة، ومنها الطائرات المسيّرة وأدوات الرصد السيبراني، في جمع البيانات وتحليلها في الوقت الفعلي، مما زاد دقة العمليات الأمنية وحسّن نتائجها[9].
الضربات الاستباقية:
الضربات المدفعية والطيران المسيّر (شاهين): استُخدمت الضربات الدقيقة على مخازن الأسلحة ونقاط تمركز التشكيلات الموالية للنظام السابق بغرض تعطيل الأنشطة العدائية المحتملة، واتبعت هذه الاستراتيجية في العديد من المناطق بريف حمص الغربي، ومنها خربة الحمام وبعض القرى من تلكلخ. ومن خلال استخدام صور الأقمار الصناعية والتقارير الاستخباراتية، سعت هذه الضربات إلى تحييد التهديدات، مع الحد من الأضرار الجانبية لها في حال وقوعها. وبعد تنفيذ الضربات، أُجريت تقييمات للتحقق من فعاليتها، والتخطيط للعمليات اللاحقة بأدوات واستراتيجيات مختلفة.
العمليات الخاصة: استُخدمت وحدات النخبة “العصائب الحمراء” للمهام عالية الخطورة، ضدّ أهداف رئيسية كعامل مكمل للجهود العسكرية الأكبر نطاقًا، وتطلبت هذه العمليات التخطيط الدقيق والاستخبارات الفورية والتنسيق مع الدعم الصاروخي والبري، لضمان النجاح وسلامة العناصر المنفذة والمدنيين في المناطق المستهدفة. وأسهم التأثير النفسي لهذه المهمات في ردع عمليات التشكيلات الموالية للنظام السابق التي كانت متوقعة في مواقع ومناطق أخرى، وكانت هذه الاستراتيجية واضحة في أحياء العباسية، حي السبيل، والزهراء في حمص، وفي كل من أرياف جبلة وبانياس وبعض المواقع في جبال الساحل[10].
نتائج الحملات الأمنية
الاعتقالات
اعتقلت قوات الأمن مئات الأشخاص، من بينهم مخبرون سابقون للنظام وعناصر استخبارات وجيش تنتمي إلى النظام السابق، وأدت هذه الاعتقالات إلى إرباك جهود جيوب التشكيلات الموالية للنظام السابق في المناطق المستهدفة، وأسهمت في تفكيك بعض الشبكات الموالية التي يشكل وجودها ونشاطاها خطرًا على استقرار الإدارة الناشئة.
الاشتباكات
وقعت مواجهات مسلّحة في مناطق عدة، مثل طرطوس واللاذقية وريف حمص الغربي، مما يشير إلى وجود جيوب أكثر جاهزية وتنظيم أعلى من قبل التشكيلات الموالية للنظام السابق. واختبرت هذه الاشتباكات جاهزية قوات الأمن وقدرتها على التكيف، مما أدى إلى إجراء تعديلات تكتيكية وتحسين في بروتوكولات الاشتباك، للتعامل بشكل أفضل مع التحديات التي فرضتها كمائن التشكيلات الموالية للنظام السابق. وفي بعض الحالات، تسببت الاشتباكات في وقوع ضحايا بين أفراد الأمن والتشكيلات الموالية. ويشير استمرار جيوب التشكيلات الموالية للنظام السابق بالعمل المنظم في بعض المناطق، ولو جزئيًا، إلى تعقيدات بسط السيطرة الكاملة، والحاجة إلى يقظة مستمرة ومرونة استراتيجية.
التسويات
قبِل العديد من عناصر النظام السابق القيام بعملية التسويات المؤقتة التي قدّمتها السلطة السورية الجديدة، وأدى ذلك إلى انخفاض الأعمال العدائية التي تمثلت بسرقات وعمليات إجرامية متعددة، ظهرت بشكل متفاوت في الفترة التي تلت سقوط نظام الأسد، وساعد هذا الأمر في تحسين الاستقرار المجتمعي، ولو كان ذلك بشكل محدود في الوقت الحالي. وقد أثبتت هذه التسويات فعاليتها بشكل خاص في المناطق التي سهّل فيها القادة المحليون حوارات بين عناصر أمنية وعسكرية تتبع للنظام السابق من جهة، والسلطة السورية الجديدة من جهة أخرى.
بعد انتهاء المرحلة الحالي من عمليات التمشيط الأمني، يمكن تصنيف الفئات المتبقية والموالية للنظام السابق على الشكل التالي:
الفئة الأولى هي الأفراد الذين قبلوا بالتسويات: هؤلاء هم الذين قبلوا التسويات الأمنية واستفادوا من مخرجاتها، مما يعكس استعدادهم للاندماج من جديد في المجتمع. وتعتبر هذه الفئة نقطة انطلاق مهمة نحو المصالحة الوطنية، إلا أنّ إعادة دمجهم تتطلب توفير فرص عمل مناسبة، وتعزيز مبادرات القبول المجتمعي، وهي أمور أساسية لضمان نجاح هذه العملية، بما يحقق استقرارًا طويل الأمد ويمنع عودتهم إلى النشاط العدائي.
الفئة الثانية هي التشكيلات العسكرية النشطة والموالية للنظام السابق: لا تزال هذه الفئة تشكل تهديدًا مباشرًا على الاستقرار، حيث تتمركز غالبيتها في مواقع ريفية نائية، وتشن عمليات عدائية باستخدام السلاح. وبعض أفرادها مدفوعون بأيديولوجيات معينة، في حين يعمل آخرون على حماية مصالحهم الخاصة في استمرار الاضطرابات. ويتطلب التعامل مع هذا التهديد نهجًا مزدوجًا يجمع بين العمليات العسكرية المحددة بدقة لتعطيل هذه التشكيلات، وجهود موازية لقطع شبكات الدعم اللوجستي والمالي التي تغذي نشاطهم.
الفئة الثالثة هي العناصر الانتهازية التي تعتمد على الكمائن العشوائية: هذه الفئة هي الأكثر تعقيدًا وصعوبة في التعامل معها، حيث قد تشمل عناصر من الفئة الأول أو الثانية أو خليطًا منهم، وظهورها قد يكون مباغتًا، حيث تستغل الثغرات الأمنية لتنفيذ هجمات متفرقة تهدف إلى زعزعة الاستقرار وتقويض سلطة الإدارة الجديدة. غالبًا ما تلجأ التجمعات الانتهازية إلى العمل كخلايا نائمة، ما يجعل مواجهتها تحديًا يستلزم تعزيز قدرات الرد السريع، وتحسين آليات تبادل المعلومات الاستخباراتية. وإضافة إلى ذلك، يمكن للمجتمعات المحلية أن تلعب دورًا حيويًا في كشف هذه الأنشطة، من خلال تعزيز التواصل مع الأجهزة الأمنية والإبلاغ عن أي تحركات مشبوهة.
الفرص والتهديدات
شهدت المناطق التي شملتها الحملات الأمنية المكثفة، مثل حمص وأريافها، ريف حماة الغربي، والمناطق الساحلية، تحسنًا ملحوظًا في الأوضاع العامة. وقد تمثل هذا التحسّن في انخفاض محدود بمعدلات النشاط الإجرامي، مثل حوادث السرقة وأعمال الترهيب التي نفذتها جهات مجهولة، إضافة إلى الحد جزئيًا من حوادث الاختطاف أو القتل الناتجة عن أحقاد قديمة خلقتها البيئة الأمنية غير المستقرة في زمن نظام الأسد.
الفرص:
التحسّن الأمني الحالي قد يساهم في تعزيز شعور الأمان لدى السكان، مما قد يهيئ بيئة أكثر ملاءمة لتعافٍ اقتصادي واجتماعي مستدام إذا استمرت الجهود الأمنية.
نجاح العمليات الأمنية وضبط أدائها قد يساهم في ترسيخ الدور الإيجابي الذي تقوم به قوات الأمن، مما قد يساعد في زيادة ثقة السكان بالدولة.
تعزيز الاستقرار الأمني يمكن أن يفتح الباب أمام تعزيز الحوار السياسي والمصالحة الوطنية، وهو ما قد يسهم في التخفيف من التوترات، وتهيئة بيئة أفضل للتعاون بين مختلف الأطراف.
التهديدات:
على الرغم من التحسّن الأمني بشكل جزئي في بعض المناطق المستهدفة بالعمليات الأمنية، ما زالت هناك تحفظات ومخاوف بين السكان، خاصة في المناطق التي كانت تُعدّ معاقل للنظام السابق، ما قد يؤدي إلى توترات طائفية أو اجتماعية، حيث شهدت بعض العمليات الأمنية انتهاكات بدرجات متفاوتة، مما أثر سلبًا على مستوى الثقة بين السكان وقوات الأمن، لذلك يجب معالجة هذه الانتهاكات بشكل صارم لضمان التزام القوات بالمعايير الحقوقية وتعزيز الثقة مع المجتمع المحلي.
استمرار المظالم الاجتماعية والاقتصادية، مثل البطالة والفقر، كعوامل تؤجج الاضطرابات إذا لم تُعالج بسرعة وفعالية.
إن تصفية الشخصيات الأمنية والعسكرية المرتبطة بالنظام السابق قد تؤدي إلى ضياع تفاصيل مهمة حول الجرائم والانتهاكات التي ارتُكبت ضد المدنيين. لذا، من الضروري التركيز على اعتقال هذه الشخصيات والتحقيق معها، لضمان جمع الأدلة ومحاسبة المسؤولين، مما يساهم في تحقيق العدالة وحفظ حقوق الضحايا.
التوصيات:
تعزيز مشاركة المجتمع: تشجيع مشاريع شبيهة بمشاريع الشرطة المجتمعية، وبناء الثقة بين الأمن والسكان، إضافة إلى تنفيذ حملات توعية حول برامج نزع السلاح وإعادة الاندماج. ويمكن أن تشمل هذه البرامج جلسات حوارية محلية تهدف إلى فهم احتياجات السكان وطمأنتهم حول مستقبل الاستقرار.
إنشاء آليات رقابة فعّالة: لتجنب أي تكرار للانتهاكات التي قد تهدد ثقة السكان، يُوصى بإنشاء هيئات مستقلة لمراقبة أداء القوات الأمنية أثناء العمليات. ويجب أن تكون هذه الهيئات قادرة على تلقي شكاوى السكان، وإجراء تحقيقات شفافة، ورفع توصيات لمعالجة أي تجاوزات.
تعزيز المصالحة الوطنية: ينبغي تنظيم مؤتمرات مصالحة وطنية، تُعقد على مستويات مختلفة (محلية ووطنية)، حيث يمكن لجميع الأطياف المشاركة لمعالجة المظالم التاريخية وتعزيز الوحدة الوطنية. ويُفضل أن تكون هذه المؤتمرات تحت إشراف هيئات محايدة لضمان شموليتها ونزاهتها.
الاستثمار في التنمية الاقتصادية: لتحييد تأثير التحديات الاقتصادية كالبطالة والفقر، يجب إطلاق مشاريع تنموية واسعة النطاق، ولا سيما في المناطق الريفية التي تأثرت بالنزاع. ويمكن تحقيق ذلك من خلال دعم المشاريع الصغيرة، وتحفيز الاستثمار في الزراعة والصناعات المحلية، وتحسين البنية التحتية الأساسية.
تعزيز التدريب والتطوير لقوات الأمن: لضمان كفاءة العمليات الأمنية والالتزام بالمعايير الحقوقية، ينبغي تقديم دورات تدريبية لقوات الأمن حول حقوق الإنسان، وإدارة النزاعات، والتواصل المجتمعي.
التركيز على جمع الأدلة والمحاسبة: بدلًا من تصفية الشخصيات العسكرية والأمنية المرتبطة بالنظام السابق، يجب التركيز على اعتقالهم والتحقيق معهم للحصول على تفاصيل دقيقة حول الجرائم والانتهاكات التي ارتُكبت خلال السنوات السابقة. هذه الأدلة يمكن أن تكون أساسًا لتحقيق العدالة الانتقالية ومحاسبة المسؤولين.
يتطلب الانتقال إلى مرحلة الاستقرار والتنمية في سورية تحقيق توازن دقيق بين الإجراءات الأمنية والحلول السلمية، مع التركيز على المصالحة الوطنية وتعزيز الشعور بالانتماء لدى الجميع.
السيناريوهات المتوقعة
السيناريو الأول: التفكيك الكامل للتشكيلات الموالية للنظام السابق
في هذا السيناريو، قد تنجح السلطات السورية الجديدة في تنفيذ حملات أمنية شاملة وفعّالة تستهدف التشكيلات الموالية للنظام السابق، ومن الممكن أن تبدأ هذه الحملات بجمع معلومات استخباراتية دقيقة حول مواقع هذه التشكيلات ونشاطاتها، مما يسمح بتنفيذ عمليات مداهمة منسقة ومفاجئة. قد تتضمن العمليات استخدام وحدات خاصة مدربة على مكافحة التمرّد، إضافة إلى التعاون مع المجتمعات المحلية للحصول على دعم ومعلومات إضافية.
قد تتواصل الجهود لتفكيك البنية التحتية لهذه التشكيلات، ويشمل ذلك تعطيل شبكات التمويل والإمداد، ومصادرة الأسلحة والمعدّات. ويمكن التركيز على اعتقال القادة الرئيسيين وتقديمهم للعدالة.
السيناريو الثاني: التفكيك الجزئي للتشكيلات الموالية للنظام السابق
في هذا السيناريو، قد تواجه السلطات تحديات متعددة تعوق إنجاز تحقيق تفكيك كامل لهذه التشكيلات. وقد تشمل هذه التحديات نقصًا في المعلومات الاستخباراتية، أو مقاومة شرسة من قبل بعض المجموعات، أو حتى تضاربات داخلية تؤثر في فعالية العمليات الأمنية. وقد تتمكن السلطات من تفكيك بعض التشكيلات والحد من نشاطاتها، إلا أنّ مجموعات أخرى قد تنجح في التكيف مع الضغوط الأمنية، وتلجأ إلى تغيير تكتيكاتها، مثل الانتقال إلى العمل السري أو الاندماج في المجتمعات المحلية لتجنب الكشف. وإضافة إلى ذلك، قد تستفيد هذه التشكيلات من شبكات دعم خارجية أو موارد مالية مخفية، مما يمكنها من الاستمرار في نشاطاتها رغم الجهود المبذولة للقضاء عليها.
في هذا السياق، قد تجد السلطات نفسها مضطرة إلى تكثيف جهودها الاستخباراتية وتعزيز التعاون مع الشركاء الإقليميين والدوليين لمواجهة التهديدات المستمرة. وقد تحتاج إلى تطوير استراتيجيات جديدة تتناسب مع تكتيكات التشكيلات المتبقية، مع التركيز على كسب دعم المجتمعات المحلية وتعزيز الثقة بينها وبين الأجهزة الأمنية.
السيناريو الثالث: استمرار التهديدات وزعزعة الاستقرار
في ظل الجهود المبذولة لتقليص النفوذ الإيراني في سورية، تواجه السلطات تحديات معقدة، من أبرزها احتمال تحول التشكيلات الموالية للنظام السابق، والتي كانت تُعرف بولائها أو تنسيقها المباشر مع إيران، إلى خلايا نائمة تستمر في شن هجمات متفرقة. هذا السيناريو قد يؤدي إلى زعزعة الاستقرار وتعطيل جهود إعادة الإعمار، وإلى تأجيج التوترات الطائفية، مما يزيد من تعقيد مهمة السلطات الجديدة. وقد يسفر استمرار هذه الهجمات عن انسحاب بعض الجهات الدولية الداعمة، مما يضعف القدرة على تحقيق الأهداف الأمنية والسياسية المنشودة.
الخاتمة
يمثّل سقوط نظام بشار الأسد لحظة فارقة في تاريخ سورية، حيث فتحت هذه المرحلة الجديدة المجال أمام تحديات كبيرة وأعادت فرص بناء الدولة. وأظهرت الحملات الأمنية التي أطلقتها السلطات السورية الجديدة نتائج ملموسة في تحقيق الاستقرار، من خلال تفكيك التشكيلات الموالية للنظام السابق، واعتقال مئات العناصر، منهم شخصيات بارزة ومسؤولون أمنيون سابقون، ومصادرة كميات كبيرة من الأسلحة والذخائر. وأدت هذه الحملات إلى تقليص الأنشطة العدائية، واستعادة السيطرة على مناطق استراتيجية عدة، مثل حمص وأرياف حماة والساحل السوري.
إلى جانب النجاح الأمني، ساعدت العمليات في تعزيز الشعور بالأمان بين السكان، مما مهّد الطريق لعودة النازحين وإحياء النشاط الزراعي والاقتصادي في المناطق المحررة. وأثمرت جهود التسويات الأمنية عن استسلام العديد من عناصر النظام السابق، مما قلل من خطر العمليات العدائية في الوقت الحالي. ومع ذلك، لا تزال التحديات قائمة، حيث أظهرت بعض الاشتباكات والكمائن وجود جيوب مقاومة للتشكيلات الموالية للنظام السابق، مما يتطلب استمرارية الحملات الأمنية إلى جانب تعزيز التعاون مع المجتمعات المحلية، وتقديم حلول تنموية تعالج المظالم الاجتماعية والاقتصادية.
إن هذه النتائج تؤكد أهمية الموازنة بين الحزم الأمني والسياسات الشاملة لتعزيز المصالحة الوطنية. وصحيح أن الإدارة الجديدة أحرزت تقدّمًا واضحًا في تحقيق الأمن، إلا أنّ المستقبل السوري يعتمد على معالجة التحديات المتبقية، وضمان حقوق الإنسان، وبناء الثقة بين الدولة والمجتمع. ومن خلال هذه الجهود المتكاملة، يمكن لسورية أن تتجه نحو استقرار مستدام، وتنمية شاملة تؤسس لمرحلة جديدة من الازدهار الوطني.
[1] الإفراج عن دفعة أولى من الموقوفين بعد انتهاء حملة حمص الأمنية، الشرق الأوسط، نشر في 12/1/2025، شوهد في 15/1/2025، https://shorturl.at/PfUwx
[2] شجاع العلي.. شارك في مجزرة الحولة وترأس ميليشيا عمليات الاختطاف عند الحدود السورية اللبنانية، الجزيرة، نشر في 29/12/2024، شوهد في 7/1/2025، https://shorturl.at/wXnxK
[3] سوريا: قتلى خلال حملة أمنية في ريف حمص، الشرق الأوسط، نشر في 21/1/2025، شوهد في 26/1/2025، https://shorturl.at/bWPSk
[4] منصة تأكد، نشر في 26/1/2025، شوهد في 27/1/2025، https://shorturl.at/v29nd
[5] مقتل قائد كتيبة أسود الجبل في سوريا… من هو بسام حسام الدين؟، النهار نت، نشر في 13/1/2025، شوهد في 17/1/2025، https://shorturl.at/ivMaO
[6] المعلومات المتعلقة بردود الفعل للأساليب الأمنية المتبعة ونتائج العمليات الأمنية اعتمدت على عدة مقابلات ميدانية، أجراها الباحث مع مكونات مختلفة في المجتمع يقطنون في الأحياء والمناطق التي شهدت عمليات أمنية، تم اجراء المقابلات بشكل شخصي في الداخل السوري، في 10,12, و13 كانون الثاني 2025.
[7] المعلومات المتعلقة بالآليات الأمنية المتبعة تستند إلى عدة مقابلات ميدانية أجراها الباحث مع قيادات أمنية مسؤولة عن عمليات التمشيط في حمص وريفها، وعلى اطلاع مباشر لمجريات الأحداث في عمليات التمشيط التي جرت في الساحل السوري، تم اجراء المقابلات بشكل شخصي في الداخل السوري، في 8,9,12, و13 كانون الثاني 2025
[8] الاستخبارات البشرية (يتم اختصارها مرارًا بمصطلح HUMINT وتُلفظ أحيانًا هيو-مينت) هي الاستخبارات التي يتم جمعها عن طريق وسائل اتصال بين الأشخاص
[9] استخبارات الإشارات هي عملية تهدف إلى جمع المعلومات الاستخباراتية من خلال اعتراض الإشارات المختلفة.
[10] عناصر الحزب محاصرون في سوريا واشتباكات عنيفة، جنوبية، نشر في 26/12/2024، شوهد في 23/1/2025، https://shorturl.at/jmGdV
مركز حرمون
——————————–
لماذا يتجه أحمد الشرع نحو الديكتاتورية الطائفية أو الحرب الأهلية../ ماهر مسعود
ما الذي قام بفعله حتى اليوم؟
في الداخل: لم يقم بأي مبادرة سياسية تعطي انطباعاً برغبته بالمشاركة، لا مع المعارضة السياسية كأجسام أو هيئات أو أحزاب أو حركات، ولا مع الشخصيات السياسية الوطنية. كل مقابلاته كانت مع وفود عشائرية أو طائفية أو شخصيات إعلامية ويوتيوبرية لا تفقه شيئاً ولا علاقة لها بالسياسة.
نقل حكومة إدلب لتصبح هي حكومة سوريا، لكن حكومة تصريف الأعمال تتصرف وتعمل وكأنها حكومة شرعية دائمة، حلّت الجيش، رفّفعت جنرالات غير سوريين، استبعدت كل الجنرالات المنشقين، فتحت باب التطويع لتعبئة الفراغ ولكي يبقى الجميع تحت إمرة الهيئة ولا تضطر للاستعانة بالفصائل الأخرى، بالأحرى التجهيز لتصفيتها.
يبتعد عن أي شفافية تخص النظام القضائي والعدالة الانتقالية، ويبتعد عن أي شفافية إعلامية، ويترك المجتمع يتخبط عبر وسائل التواصل الاجتماعي حول ما يحصل او ما سيحصل. بل تشارك حكومته بذلك التخبط عبر بالونات الاختبار، فقد أطلقت وعوداً كاذبة وبتضليل متعمّد ملأ الفضاء الافتراضي والواقعي، عن رفع الرواتب 400 بالمئة، رغم أنها لم تستطع دفع الرواتب القديمة منذ شهرين.
في الخارج: يقوم الشرع بتسويق نفسه بطريقة ناجحة جداً عبر شخصه وشخص وزير خارجيته، لكن لننتبه، يقدم أوراق اعتماده للدول كضامن لأمن وسلام دول الجوار، ولاسيما إسرائيل. وهنا مكمن الخطورة، لأنه يفعل بالضبط ما فعله الأسد قبله، أي أن قبول الخارج أهم وأولى من موافقة الداخل، فهو يقدم نظامه، تحديداً لأمريكا وإسرائيل (ولكن لكل الدول التي لا يعنيها من سوريا سوى الاستقرار والأمن الاقليمي)، على أنه صمام الأمان الذي يمكن الاعتماد عليه. وهو في طور بناء هذا النظام على منع أي مشاركة سياسية حقيقية والاكتفاء بمشاركة شكلية للأقليات والنساء والسنّة من خارج الهيئة، ومن هنا مصدر طائفية هكذا نظام، فالطائفية لا علاقة مباشرة لها بالطائفة والدين، بل باستبعاد كل من هم خارج السلطة عبر تحويلهم إلى عشائر وطوائف وجهات أهلية لا يتم تمثيلها سياسياً إلا من خلال العشيرة والطائفة والجهة والمنطقة. وبالتالي يجعل السلطة كطائفة باطنية؛ وأيضاً سرّية، وكل من خارجها هم مجرد أهالي وأفراد وطوائف يبتعدون أو يقتربون حسب ولائهم.
يقوم بالتركيز الكلّي على الاقتصاد، ويعد باقتصاد السوق الحرة ويعرض الموانئ والجسور والمقدرات الأساسية للدولة للإيجار وكأن حكومته دائمة وشرعية ومنتخبة ديمقراطياً، مع أنها مجرد حكومة تصريف أعمال.
كيف يعمل الشرع بعقلية الفصيل، لا بعقلية الدولة!
قلت سابقاً أن المهم ليس النوايا الطيبة والأخلاقوية بل الصلاحيات والآليات.
كما قلت أن الجانب المظلم في كلام الشرع حول الانتقال من عقلية الثورة إلى عقلية الدولة هو أن يكون مقصده الحقيقي هو نقل الهيئة لتصبح هي الدولة بدلاً من أن تخضع هي نفسها لشرط الدولة الحديثة وتكون جزءاً من تكوينها فقط. فبالمعنى الأول تصبح ترجمة كلامه هي “أدلبة سوريا سياسياً، بدلاً من سورنة إدلب”.
كما أقول اليوم أنه ليس لدي مشكلة مع أيديولوجية الشرع الدينية أو تاريخه وتاريخ حركته المصنفة في لوائح الإرهاب (وهنا مصدر خلافي مع الكثيرين الذي لا يعنيهم من الهيئة سوى دينيتها) المشكلة تكمن بالنسبة لي في مشاركة السلطة ولامركزيتها وتعدديتها، أي ما يمنع أحاديتها. شارك السلطة والصلاحيات وضع آلية قانونية وسياسية لخلق نظام تعددي، ولن تعنيني أبداً أيديولوجيتك وما تؤمن به، وبرأيي النظام العلماني الدكتاتوري أسوأ حتى من النظام الديني.
أخيراً، إذا أردت اعتبار النوايا سأقول، إذا كانت نوايا الشرع جيدة فهي ستقودنا إلى حرب أهلية، وإن كانت سيئة ستقودنا إلى ديكتاتورية طائفية جديدة.
أنا مقتنع بضرورة حكم سوريا سنيّاً، فهذا باعتقادي أكبر حامي للأقليات بالمعنى الوطني، لكن حكمها ديمقراطياً وبأكبر نسبة مشاركة سياسية للسنة المتنوعين أنفسهم، قبل غيرهم، وليس تحويل السنّة إلى طائفة تقودها فئة صغرى، أو مجرد فصيل يوسع نفسه ليصبح هو النظام وهو الدولة.
الفيس بوك
——————————-
أنفاق “قسد”: عمل بالسخرة وضحايا بدون تعويضات!/ رحاب الكيرط
29.01.2025
تكررت في الفيديوهات التي توثق مشاهد المناطق التي انسحبت منها “قوات سوريا الديموقراطية” صور لأنفاق تحت الأرض، سبق الحديث عنها، كونها تسببت بحوادث لسكان الحسكة، إذ سقط طفل بعمر 7 سنوات في إحدى حفر تهوية الأنفاق قبل أشهر من سقوط النظام، وانهيار شارع سكني في مدينة القامشلي عام 2023.
هذه الأنفاق التي يحيط بها الغموض، تشير التقارير إلى أن الإدارة الذاتية بدأت بحفرها منذ سنوات في أماكن سيطرتها، وبعضها حسب مصادر محلية التقيناها، الهدف منها بناء مستشفيات تحت الأرض، كالمبنى المعمول به في مدينة المالكية. إضافة إلى حفر أنفاق واسعة تسمح بسير مركبات كبيرة في داخلها، كتلك الموجودة في مدينة الحسكة، كما تم الحفر أيضاً في مناطق أثرية مثل عين ديوار وغيرها، وإنشاء مخابئ سرية لتخزين الأسلحة في معظم المناطق.
تُستخدَم بعض الأنفاق لبيع النفط لتركيا، كما حصل في أنفاق الدرباسية، حيث كانت صهاريج النفط تُفرغ حمولتها في أنابيب تم تمديدها داخل الأنفاق وصولاً إلى تركيا، قبل اكتشاف الأمر، ناهيك بدور هذه الأنفاق في المعركة مع ميليشيات المعارضة السورية المدعومة من تركيا، التي علّق على جدواها مسؤول أميركي لصحيفة “فورين بوليسي” في عام 2019 قائلاً: “المقاتلون الكرد مشهورون بتطوير أساليب إبداعية لمحاربة الجيوش المتطورة… الأتراك فوجئوا بفعالية (هذه الأنفاق)”.
المصادر التي التقينا بها تؤكد ما ورد في التقارير الصحافية، أن الأنفاق كلها ترتبط ببعضها بعضاً، عبر خارطة تشبه شبكة العنكبوت، وتتألف من نفق رئيسي يتم حفره ثم إحكام إغلاق غلافه الخارجي، بعد الانتهاء من أعمال الترميم، ثم يتم تزويدها بأجهزة الأوكسجين، أو الإكثار من الحفر الكبيرة التي تتيح دخول عمال الحفر وخروجهم، وإخراج الأتربة من الأنفاق.
لكن هذه التقنيات و”الأساليب الإبداعية” في الأساليب القتالية لدى الكرد، قائمة على أساس عمالة تصل إلى حد “السخرة”، ومن دون ضمانات صحية أو مهنية لمن يحفرون الأنفاق، ومنهم ماجد (اسم مستعار) الذين نزح من الهرموشية في دير الزور نحو الحسكة، بعد سيطرة تنظيم “داعش” على مدينته. عمل ماجد الأربعيني بائعاً للخضار، ثم سائق “سرفيس ميكروباص” على طريق القحطانية- ديرك، ثم عرض عليه أحد أصدقائه العمل في حفر الأنفاق، التي كانت تشرف عليها “قوات سورية الديمقراطية” في محافظة الحسكة.
ظروف العمل في حفر الأنفاق لا تراعي شروط السلامة، ولا تقدّم تعويضات لمن يتعرضون للإصابات، يخبرنا ماجد: “سقط النفق علينا في ريف الحسكة، كُنا أكثر من 10 عمال، كانت كمية الإسمنت وقضبان الحديد قليلة، لكنها كانت كافية لتتسبب بإصابات لنا جميعاً، بالنسبة لي دخل طرف قضيب حديدي في خاصرتي، ما زلت أعاني من الأوجاع المختلفة، أسعفوني إلى أحد المستشفيات العسكرية، وبعد يومين قالوا لي يجب أن تتلقى العلاج في المنزل، فعدد الأسرّة قليل، والعناصر العسكرية أهم، لا يزال القيح ينزّ بكثافة من جرحي، والواضح أنني لن أتمكن من العودة إلى العمل مجدداً”.
يقول ماجد بعد أن فقد عمله الوحيد: “ما زلت أتذكر ضحكة المسؤول الذي زارني في المستشفى، حين حدثته عن تعويض الإصابة، حيث رفض بالمطلق الحديث عن أي تعويض أو راتب”.
بحسب مصادر مختلفة تتابع ورش العمل، تبين أن تبدلات حصلت خلال العامين الأخيرين في حفر الأنفاق، فبعد أن كانت مديرية الإسكان العسكري التابعة ل”قوات سوريا الديمقراطية” تشرف عليها، تم إبعادها من الإشراف المباشر، ووفقاً للمصادر تم حصر خرائط الأنفاق بقيادات من كرد تركيا، وتم إسنادها مباشرة إلى متعهدي حفر.
يُشترَط أن يكون متعهدو الحفر حصراً من كرد تركيا ومن العسكريين الموثوق بهم، وأكثرهم لم يعد قادراً على الانخراط في المعارك بسبب التقدم في العمر أو الإصابات المختلفة. وأكدت المصادر وجود مخارج لتلك الأنفاق بالقرب من الحدود التركية، ومعبر سيمالكا الحدودي، وجبل شنكال في كردستان العراق.
لا عقود ولا تعويض وفاة
تقدَّر مساحة القحطانية بــ872 كيلومتراً مربعاً، وتتبع لها قرابة 98 قرية، ويقدَّر عدد فتحات الأنفاق في ناحية القحطانية وريفها بنحو 450 فتحة، منها 12 فتحة نفق قرب الحدود التركية، ويقدَّر طول شبكة الأنفاق فيها بنحو 420 كيلومتراً. أبرزها في قرية خزنة المختلطة بين العرب والكرد، حيث تعتبَر إحدى الأنفاق الرئيسية والمركزية، خاصة وأن قسماً من أهالي القرية متعاونون جداً مع “قوات سوريا الديمقراطية”، ومنها تتوزع الأنفاق الفرعية صوب النفق المركزي الآخر في القحطانية.
ولم يكن ماجد الوحيد الذي عانى من انعدام الاهتمام والرعاية الصحية، لكنه ربما كان الأوفر حظاً، فهو بقي على قيد الحياة، على العكس من قصة أحمد النازح من بلدة العريشة، الذي استقر به المطاف في ناحية القحطانية، وفقد حياته أثناء الحفر.
زارت معدّة التحقيق منزل أحمد الذي يقع على أطراف الناحية، وتقول شقيقته شيماء لـ”درج”: “ضاق بنا الحال، لا عمل ولا معيل سوى أحمد، الذي لم يجد أمامه أفضل من العمل في حفر الأنفاق، وليته لم يفعل”، تبكي شيماء بحرقة وتتلمس صورة شقيقها وتضيف: “أحياناً كانت تمضي أسابيع ولا نلتقي به، وكنا نسمع صوته فقط عبر الهاتف، الذي يُمنع أن يحتوي على كاميرا أو أن يكون حديثاً، بل من النوع الذي يُستخدم للاتصال عبر شبكة الخليوي فحسب”، وتضيف: “تأخر علينا كثيراً، مضى على غيابه قرابة 20 يوماً، قبل أن نعرف أنه فقد حياته في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر قبل عامين، جراء انهيار النفق بسبب ضعف الأساسات والأعمدة”.
تختم شيماء حديثها “طالبنا بتعويض وفاة، أو استمرار الراتب، لكن المسؤولين عن الأنفاق رفضوا وقالوا لنا لا توجد أي تعويضات رحمه الله وفقط. ونعاني حالياً من انقطاع المورد المالي الوحيد لنا، رفض الزواج كي يصرف علينا، وتوفي وهو أعزب، وفقدنا معيلنا، أي حياة هذه”.
صفوان من قرى ريف القحطانية، الذي كان مع أحمد لحظة انهيار النفق، قال لنا: “نجوت بأعجوبة لا أعرف كيف، لكني أحمل إصابة تسببت لي بإعاقة دائمة في ذراعي، وفقدان نسبة 4/10 من نظري، اكتفوا بشراء بعض الأدوية لي، والمستشفى كان مجاناً، لم يمنحونا أي شيء آخر، ولم نوقّع على أي عقد عمل، ولا حقوق لنا أبداً”.
وفقاً للمصادر فإن حوالي 3500 عامل يعملون في حفر الأنفاق، وتبلغ نسبة المتضررين وذوي الإصابات المباشرة جراء انهيار النفق فوقهم، أو غير المباشرة بسبب أمراض الرئة والتنفس والعين والجلد قرابة 12%، لا ينالون أية حقوق مالية أو تعويضات، وليس لهم سوى استلام الراتب مقابل العمل فقط.
الجهة المشرفة على “العمل” مجهولة وغامضة، ولا أحد يعرف من أين يصدر القرار، نعرف فقط المتعهدين، أما ما دونهم فلا، وحالياً تم توقيف الحفر بسبب الظروف السياسية والأمنية، بخاصة بعد استيلاء الميليشيات المسلحة التابعة للمعارضة السورية على منبج، وكشف عدم أهمية تلك الأنفاق في الحماية كما كانوا يقولون.
أجور زهيدة وغياب المزايا وتمييز في نوعية الأعمال
منذ عامين تقريباً، تم الاعتماد على متعهدي حفر من كرد تركيا، الذين بدورهم يُسخّرون أعداداً كبيرة من النازحين والفقراء والمحتاجين في عمليات الحفر، ووفقاً لعدد من الشهادات يتم منح من 10-13 دولاراً لكل كيلومتر واحد، يتم توزيعها على كامل أعضاء فريق الحفر، وأحياناً يتم منح كل واحد منهم ربطة خبر مجانية، وإن لم يكن يومياً.
يقول عدوان من ريف القحطانية: “أحياناً نحصل على بعض الخضار بالمجان، سابقاً وفي بدايات حفر الأنفاق كان العدد قليل، وكنا نحصل على وجبات غداء مجانية، لكن في العامين الأخيرين تقريباً، توقف كل شيء، صرنا ننام في العراء أو في الخيم أو البيوت المهجورة أو غير المكتملة البناء، نعمل قرابة 12 ساعة، ثم تأتي الورشة/ الوردية الأخرى لتكمل العمل، ونتبادل المهام وهكذا، نطبخ حيث نعمل، ولا نحصل على أيام عطل قبل إتمام 15 يوم عمل متواصلة”.
يضيف عدوان: “بعد سلسلة الاعتراضات والمشاكل الصحية، حصلنا على بطاقات معاينة مجانية لكنها لا تشمل كافة التخصصات أو الأطباء، مع حسم نسبة قليلة من أسعار الأدوية، من دون أن تشمل كافة أفراد العائلة”.
يختم عدوان حديثه: “يوجد بيننا أطفال قصر أعمارهم أقل من 18 عاماً، يعملون في أعمال تفوق أحجامهم وأوزانهم، وللأسف فإن عمال الحفر جميعهم من المكون العربي فقط، في حين أن المتعهدين من كرد تركيا الذين يقبضون على كل الكيلومتر الواحد 1000 دولار، أما مسؤولو تثبيت الأعمدة فهم من الكرد السوريين، ويقبضون على كل كيلومتر 14 دولاراً، في حين من يقوم بالتثبيت وزرع الحديد والإسمنت وفك مساند التثبيت، التي تكون عادة من الخشب القاسي، هم من العرب وتعتبَر من ضمن خدمة الحفر، أي من دون بدل إضافي”.
لا حصانة قانونية للضحايا!
في حديثي مع الجرحى أو ذوي الضحايا، أكدوا جميعاً أن “محاكم الإدارة الذاتية لا تهتم بالقضية، وأساساً لا يجرؤ أحد على فتح هذا الموضوع مع أي طرف، بسبب عامل الخوف والقصاص، وبرغم لجوء شقيقة أحمد إلى القضاء في القامشلي، على أمل الحصول على تعويض مادي، عادت وهي تبكي، فالقاضي قال لها، لا نعرف مما تتحدثين عنه ولا عقود معك، ولا شروط جزائية، هو وغيره عملوا من دون ضمانات ولا عقود ولا شروط، ليس لكم أي شيء هنا”.
وفي حديثه مع درج قال المحامي (و.د) من أهالي المالكية شرق الحسكة: “لا يوجد نص قانوني يجرّم حفر الأنفاق، بسبب عدم معرفة الغالبية العظمى من مسؤولي الصف الأول في الإدارة الذاتية، لماذا يتم حفر الأنفاق؟ ولمن تتبع؟ ومن يقوم بها؟ وبسبب مجهولية الموضوع وعدم تحرك الجهاز الأمني لتوقيف الحفر، تولّد لدى القضاة طابع وسلوك خوف يمنعهم من تلقّي أي دعوة أو الحديث بها، هذه القضايا لا تصل إلى المحكمة أساساً، لأنه لا يوجد محامٍ يملك الجرأة في الدفاع عن حقوق الضحايا”.
لا مكان للبارزانيين في العمل
التقت معدّة التقرير مع العامل كميل الذي ينتمي إلى عائلة سياسية موالية ل”تيار البارزانيين” والمنتسبين لأحد الأحزاب المقربة منهم، فقال: “كنت أُشرف على الحفر، وأتقاضى 1000 دولار شهرياً، كان عملي الإشراف على الورديات، وتوفير ما يلزم من معدات وإسمنت وحديد، لم أكن أدخل إلى داخل الأنفاق أبداً، فقط أزور الفتحات الرئيسية، وأستمع إلى المطالب، إلى أن جاء في أحد الأيام أحد المسؤولين الذي كان يتحدث بلهجة كردية غريبة عنا، وطردني من العمل”.
وأضاف: “قال لي أنت عميل وخائن، وستصوّر الأنفاق وتبيع الصور للخونة، لا مكان لك بيننا، إذهب من هنا فوراً”، وختم كميل حديثه: ” أمره عجيب، الكرد المعارضون له خونة، برغم أنني لا أمارس العمل الحزبي والسياسي أبداً، لكنني طُردت من العمل بجريرة أهلي، أنا شاهد على مآسي هؤلاء العمال، ظروفهم المعيشية والمهنية بالغة السوء، أحياناً لا يتمكنون من تناول أكثر من وجبتين في اليوم، وقسم كبير منها على نفقته الخاصة”.
درج
————————————-
مشكلات اعتماد دستور 1950 في سورية مؤقتاً/ عمرو نجار
29 يناير 2025
بعد أسابيع من سقوط نظام الأسد في سورية، عاد جدل دستور البلاد إلى الواجهة، وخاصة بعد تصريح قائد المرحلة الانتقالية (الإدارة السورية الجديدة)، أحمد الشرع، أنّ كتابة الدستور الدائم قد تستغرق حوالي الثلاث سنوات. وقد أثار ذلك تساؤلات عن الإطار القانوني الذي ستعتمده سورية والإدارة المؤقتة خلال الفترة الانتقالية التي يُتوقّع أن تكون طويلة نسبياً. وضمن هذا الجدل، يظهر استخدام دستور 1950 أكثر الحلول المتداولة انتشاراً، إذ دعا مثقفون وخبراء إلى اعتماده دستوراً مؤقتاً. وتستند هذه الدعوات إلى أن هذا الدستور كُتب خلال فترة الجمهورية السورية الأولى التي عرفت نظاماً ديمقراطياً نيابياً، فضلاً عن إشراف شخصيات سياسية وقانونية كبيرة على صياغة هذا الدستور (ناظم القدسي، رئيف الملقي، عبد الوهاب حومد، مصطفى السباعي، منير العجلاني وغيرهم..)، إضافةً إلى ذلك، وبسبب النشاط الذي طبع الحياة السياسية والاجتماعية في البلاد في تلك الفترة، نوقشت في الصحف قضايا كبرى عديدة عادة ما تكون في افتتاحيات الدستور ومواده الأولى وحظيت باهتمام كبير. ولعل أشهر الأمثلة على ذلك كانت المواد المتعلّقة بدين رئيس الجمهورية، والإسلام مصدراً أساسياً للتشريع، وحتى عاصمة البلاد، دمشق.
إلا أن دراسة دقيقة لمواد هذا الدستور والبنود التي ركز على التفصيل فيها، توضّح إشكالات كبيرة تجعل من فكرة تبنّيه حلاً سريعاً ومؤقتاً للبلاد أمراً صعباً في المرحلة المقبلة، وتظهر عجزه عن التعاطي مع الواقع السياسي الذي تعيشه البلاد اليوم، ربما بالطريقة نفسها التي لم يستطع فيها التعامل مع الأزمات السياسية التي عصفت بالبلاد عند إقراره قبل ثلاثة أرباع قرن. ولفهم هذه المشكلات، لا بدّ لنا من العودة أولاً إلى السياقات السياسية في سورية أواخر عام 1949 بعد مرور أسابيع قليلة على إطاحة نظام الجنرال حسني الزعيم، والذي شهدت البلاد خلال فترة حكمه القصيرة أوّل ديكتاتورية عسكرية فردية.
خريف 1949: مساكنة صعبة بين المدنيين والعسكريين
بدأ العمل على صياغة دستور 1950، في خريف 1949، بعد سقوط نظام حسني الزعيم الذي أطيح بشكل مفاجئ وسريع، مشابه للشكل الذي وصل به هو نفسه إلى السلطة. بعد نهاية هذه الديكتاتورية العسكرية الأولى، سيطر على السوريين شعورٌ بأن الحياة السياسية في البلاد تولد من جديد، ولذلك لا بدّ من دستور جديد وقوانين جديدة، وربما، كيان سياسي جديد وفقاً لمشروع الوحدة مع العراق الذي كان يدفع به بقوة حزب الشعب، الحزب السياسي الأوّل في البلاد تلك الفترة.
وفعلاً استطاعت الحكومة المؤقتة تحقيق عدّة إنجازات تُحسب لها في تلك الفترة القصيرة، لعل أهمها قانون الانتخاب الذي اشتمل على تفعيل حقّ النساء بالتصويت (بدأ الحديث عن هذا الأمر خلال فترة الزعيم، ولكن العمل فعلياً به جرى بعد الانقلاب عليه)، وعلى خفض السن القانوني للمشاركة في الانتخابات لـ 18 سنة، وهو المطلب الذي كانت الأحزاب الجديدة، مثل “البعث”، تصرّ عليه، حتى يُسمح لمناصريها من الشباب بالمشاركة بالتصويت. بعد قانون الانتخاب، أجريت انتخابات لجمعية تأسيسية، ثم جرى اعتماد دستور مؤقّت مختصر، وعينت الحكومة المؤقتة لجنة متخصّصة لصياغة الدستور الدائم وأعطيت هذه اللجنة ثلاثة أشهر للقيام بهذه المهمة، وهي المدة التي لم تستطع اللجنة أن تلتزم بها بسبب انقلاب العقيد أديب الشيشكلي، رئيس الأركان آنذاك (يعرّف هذا الانقلاب في كتب التاريخ السوري باسم انقلاب الشيشكلي الأول). ولذلك تأخّر اعتماد الدستور الجديد حتى بدايات خريف العام التالي 1950. والحال أن هذا الانقلاب لم يكن سوى نقطة انعطاف سرّعت تدهور العلاقة بين السياسيين في الجمعية التأسيسية (قامت مقام البرلمان في البلاد وهيمن عليها حزب الشعب) ورئاسة أركان الجيش التي هيمن عليها الشيشكلي. صحيح أن زعيم الانقلاب الثاني سامي الحناوي رفض تسلّم السلطة، بعد انقلابه على الزعيم ووضعها في كنف السياسي الوطني هاشم الأتاسي، إلا أن قيادة أركان الجيش ورجلها القوي أديب الشيشكلي كان لهم رأي آخر. لم ترض قيادة الأركان أن تعود إلى الثكنات، وأصرّت على تسمية وزير الدفاع في الحكومة المؤقتة والحكومات التي تلتها، كما أنها عارضت وبشدّة فكرة التقارب مع العراق، وهو المشروع الأثير عند حزب الشعب. بالإضافة إلى ذلك، تطوّر الأمر عند رئاسة الأركان، وبدأت تعمل على “سياستها الخارجية” الخاصة، حتى إن الشيشكلي نفسه كان يزور السعودية ومصر ولبنان لموازنة الثقل الذي يضعه السياسيون خلف الحلف مع العراق. أدّى هذا النفوذ المتزايد للجيش، ورئاسة أركانه، إلى نزاع مستمرٍ بين السياسيين والعسكريين. حاولت خمس حكومات متعاقبة الحفاظ على هذا التوازن القلق، واحتواء الجهاز العسكري الآخذ بالتمرّد، ولكن الفشل كان حاصل ذلك كله، بالإضافة إلى استقالات متكرّرة أرسلها رجال السياسة إلى الرئيس هاشم الأتاسي، الذي عمل جاهداً في تلك الفترة على تدوير الزوايا بين الطرفين، وعلى تأمين هذه المساكنة الصعبة داخل الدولة بين العسكر وأهل السياسة.
1950: نظام برلماني يتّجه نحو النظام المجلسي
شكّلت عملية صياغة الدستور تلك فرصة استثنائية لرجال السياسة في البلاد، ففي تلك الفترة المبكّرة من الصراع مع الجيش، لم يكن الضباط قد تغلغلوا بعد في الحياة السياسية في البلاد. بل كان إصرارهم يقتصر على شرطين أو ثلاثة بشأن أمور تتعلّق بوزارة الدفاع والدرك. وقد كان الأجدر بالطبقة السياسية السورية أن تستغلّ لحظة صياغة الدستور لتزيد من قوة السلطة التنفيذية (رئيسي الجمهورية والوزراء) لتوازن الثقل المتزايد لرئاسة الأركان. ولكن، بدلاً من ذلك، خرج دستور 1950 بسلطات ضعيفة لرئيسي الجمهورية ومجلس الوزراء لا تساعدهما على الوقوف في وجه الأركان.
وبحسب الباحث كريم الأتاسي، كانت السلطة التنفيذية في دستور 1950 أضعف السلطات التنفيذية على الإطلاق في تاريخ البلاد، الأمر الذي جعل النظام السياسي أشبه بنظام مجلسي Assembly Regime يهيمن فيه البرلمان، أو السلطة التشريعية، على السلطة التنفيذية التي تغدو مقيّدة ولا تملك أوراق ضغط مضادّة على المجلس. ساد هذا النظام في فتراتٍ متقطّعةٍ من تاريخ الجمهوريات الفرنسية وتميّز بعدم الاستقرار، ونشأت الجمهورية الخامسة التي اتسمت بسلطات رئاسية موسّعة على هذه الخلفية.
ويشير الباحث كريم الأتاسي إلى عدّة نقاط في دستور 1950 أضعفت من دور السلطة التنفيذية. مثلاً، على عكس الدستور السابق، الذي أُقرّ خلال فترة الانتداب الفرنسي، يمنع دستور 1950 السلطة التنفيذية من إصدار المراسيم التشريعية، مجرّداً إياهاً بذلك من القدرة على التشريع السريع في فترات الأزمات (وهو الأمر الذي قد يكون حاسماً خلال فترة الصراع مع العسكر تلك) وبدلاً من ذلك، اعتبر الدستور أنّ مجلس النواب يبقى في حالة انعقاد دائم، وهو ما يبطل الحاجة للمراسيم التشريعية التي تصدر عادة عن الرئيس أو رئيس الحكومة وتناقش لاحقاً في البرلمان. أيضاً، بموجب الدستور، لا يملك رئيس الجمهورية أن يعترض بشكل حاسم على مشاريع القوانين القادمة من مجلس النواب بل هو “مُلزم بالتوقيع” خلال سبعة أيام. والإجراء الوحيد الذي يبقى بيده في حال اعتراضه على مشروع القانون هو أن يحوّله إلى المحكمة العليا للبتّ في دستوريته، ما عدا ذلك، يصبح القانون نافذاً وصالحاً للنشر. صحيح أنه يمكن للرئيس أن يعيد مشروع القانون إلى مجلس النواب لقراءة وتصويت ثانٍ، ولكن عندئذ يستطيع المجلس أن يقرّ القانون بالأغلبية المطلقة وليس بأغلبية الثلثين كما كان الأمر يتطلّب في الحالات المماثلة في دستور 1928.
حلّ البرلمان “انتحار جماعي”
فضلاً عن ذلك، عادة ما تضع دساتير الأنظمة النيابية امتياز حلّ البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكّرة بيد رئيس الجمهورية، بحيث يكون هذا الأمر أشبه بسلاح ردع يدعم موقف الرئيس في حال واجه استعصاء أو جموداً في البرلمان. وقد أعطى دستور 1950 هذا التفويض للرئيس، ولكنه منعه من استخدامه خلال السنتين الأوليين من عهد المجلس، وخلال نصف السنة الأخيرة من ولاية الرئيس. كذلك اعتبر الدستور أنه عند حلّ البرلمان يصبح رئيس الحكومة أيضاً بحكم المستقيل. ولا يمكن للرئيس حينها رفض الاستقالة، بل ويكون مجبراً على أن يعيّن حكومة جديدة مؤقتة يرأسها رئيس البرلمان المنحلّ (قرار آخر بمصلحة البرلمان) ثم تجرى انتخابات نيابية. وبذلك حيّد دستور 1950 السلاح الوحيد المتبقي بيد السلطة التنفيذية، لأن اللجوء لحلّ البرلمان في هذا الحال يعني فيما يعنيه حالة انتحار جماعي للمؤسّسات، وهو ما سيحوّل أزمة حكومية عادية إلى أزمة نظام حكم.
ولذلك يبدو من الواضح أن اللجنة الدستورية التي صاغت دستور الـ 1950 أرادت إضعاف نفوذ السلطة التنفيذية وتحويل مركز ثقل النظام باتجاه المجلس أو السلطة التشريعية. وتبقى أسباب هذا الخيار الدستوري وحيثياته غير واضحة. هل كانت اللجنة الدستورية ما تزال تعاني من الصدمة التي أحدثها انقلاب حسني الزعيم وتلاعبه القانوني والدستوري في الحياة السياسية السورية ورغبت من خلال دستورها الجديد في الحد من صلاحيات السلطة التنفيذية، منعاً لأي نزعة فردية أو ديكتاتورية في الحكم متجاهلة الفرق الأساسي أنّ الزعيم كان بالأساس عسكرياً، وأنه وصل إلى السلطة بانقلاب عسكري وليس رئيساً عادياً تعسّف أو أفرط باستخدام صلاحيته التنفيذية؟ أم هل توقّف الأمر على حسابات حزبية ضيقة وقصيرة المدى، أم إن المشكلة كانت أعمق بكثير والشكل الذي خرج به الدستور أخيراً يعكس “يأس” الطبقة السياسية من قدرتها الذاتية على تحديث البلاد؟ من هنا جاء إضعاف دور السلطة التنفيذية بشكل مقصود لإفساح المجال للمؤسسة العسكرية وللطبقة الوسطى التي تمثلها أن تنفذ برنامجها على الأرض من دون معوّقات كما يخمن كريم الأتاسي في كتابه.
لا يمكن التحقق من هذه الفرضيات أو الجزم بصحة إحداها، ولكن وثائق المكتبة الرئاسية للرئيس الأسبق والحقوقي ناظم القدسي، وقد نشرت أخيراً، ربما تساعد في فهم ملابسات صياغة الدستور وفي رسم صورة تأريخية جديدة لفترة الجمهورية النيابية السورية الأولى.
دستور 1950 أشبه ببرنامج لتحقيق العدالة الاجتماعية
حافظ دستور 1950 على التقاليد الديموقراطية الليبرالية في الدستور السوري الذي سبقه، فأكّدت مواده حماية الحريات الفردية ودولة القانون وحقوق المعتقلين ومنع التعذيب (المادة العاشرة)، كما كفل الدستور الحريات الدينية وحرية الاعتقاد واشتمل على مواد تحمي خصوصية البريد والمخابرات الهاتفية وتكفلت فيه الدولة بحرية التعبير وحرية الصحافة وأعطي للسوريين حقّ التجمع وتشكيل الجمعيات والنقابات والأحزاب السياسية. وقد كان هذا تطوّراً سياسياً ملحوظاً بالمقارنة مع دستور 1928 الذي لم ينصّ على حريات سياسية بالمستوى نفسه.
ومع ذلك، بقي تركيز الدستور بالأساس على المسألة الاجتماعية وتوزيع الثروة في المجتمع. ويظهر تركيز اللجنة الدستورية على قضايا العدالة الاجتماعية والحقوق الفردية بشكل جلي مثلاً من الرسالة التي أرفقها مقرّر لجنة الدستور، عبد الوهاب حومد، مع مسوّدة الدستور عند إرساله إلى مجلس النواب، إذ يستفيض حومد بشرح غايات الدستور في تحقيق المساواة على اختلاف أنواعها من قانونية وسياسية واجتماعية، ويفصّل في رؤيته القانونية بشأن مبدأ تكافؤ الفرص وأهمية أن ترعى سياسات الدولة إعادة توزيع الثروة في المجتمع، ويحاول أن يسند هذه البرنامج الاجتماعي السياسي ويؤصلها في الأثر الإسلامي والسنة (يستند مثلاً إلى قرار الرسول الكريم بتوزيع الفيء على المهاجرين دون الأنصار ما عدا فقيريْن منهم).
ويبدو الاهتمام بقضية العدالة الاجتماعية جلياً من مواد الدستور وطولها النسبي. فقد كان هذا أوّل دستور يُصاغ بعد الاستقلال. لذلك، وبينما ركّز دستور 1928 على قضية الاستقلال الوطني عن الانتداب، كان الاهتمام الأساسي لدستور 1950 منصبّاً على إطلاق برنامج يحدّث البلاد ويتصدى لمشكلاتها الاجتماعية الرئيسية مثل قضايا الملكية الزراعية وتحديدها وحقوق العمّال والضمان الاجتماعي والتعليم المجاني محاولاً بذلك التأسيس لدولة “رعاية” في سورية. دولة ترعى الطفولة، تبني المستشفيات، وتعمل على رفع ما نسميه اليوم بالتنمية البشرية في البلاد. وقد ذهب هذا الدستور في برامجه الاجتماعية أبعد من ذلك، إذ نصّ على مواد كانت أشبه ببرنامج وزاري تهدف إلى إنشاء القرى النموذجية وبناء مساكن صحية للفلاحين، والقضاء على الأمية في البلاد خلال عشر سنوات (المادّة 160) وحتى إسكان البدو الرحل.
لا مشكلة في هذا البرنامج الاجتماعي الاقتصادي الطموح، ولكن وبحسب سير الأمور خلال الفترة التي اعتُمد فيها الدستور، يبدو أنّ هذا البرنامج كان نقطة ضعف للجمهورية الوليدة بدلاً من أن يكون نقطة لصالحها، لأن حالة الاستعصاء السياسي وعدم قدرة الطبقة السياسية التقليدية في الحكومات المتعاقبة على تحقيق هذه الوعود الاصلاحية، ضربت شرعية هذه الحكومات وفتحت الباب لتدخل عسكري أكبر للجيش إذ أبدى الجيش كفاءة في إدارة البلاد بانضباط ومن دون جدل السياسيين وأكثر قدرة على تمثيل تطلعات الطبقات الوسطى التي سارع شبابها، بسبب يأسهم من الأحزاب التقليدية البرلمانية، إلى الانضمام إلى ما كانت تُسمّى الأحزاب الأيديولوجية (البعث والقومي السوري والشيوعي) متجهاً بذلك إلى تبنّي الأفكار الانقلابية الثورية وإلى رؤية راديكالية لمستقبل الحياة السورية.
ما يصلح اليوم من دستور 1950
عادة ما تنصف محتويات الدساتير إلى ثلاثة أقسام، يعلن الأول هُويّة الدولة وسكانها وثقافتها وانتماءاتها، بينما يختصّ الثاني بسرد حقوق مواطني البلد ويكون أشبه بإعلان أو وثيقة حقوق Bill of Rights. يركّز القسم الثالث على تفصيل السلطات وفصلها، وآليات عمل كلّ منها وتفاعلها مع الأخرى، ويتميّز دستور الـ 1950 بمحتوى رابع، هو البرنامج الاقتصادي ـ الاجتماعي الذي يركّز عليه.
ومن منظورنا اليوم في المرحلة الانتقالية الحالية التي تعيشها سورية، يبدو القسمان الأولان عن أسئلة الهوية والانتماء والحقوق أكثر الأجزاء فائدة للسوريين في هذا الدستور، لأنّ اعتماد بنود الهوية ( ثقافة البلاد وهويتها، دين رئيس الجمهورية ومكانة الشرع الإسلامي، وحماية المعتقدات الدينية والأقليات) وبنود الحقوق (حق التجمّع، مصونية مساكن السوريين، حق تشكيل الأحزاب والتعددية)، يساعدنا على تلافي الاختلاف حول هذه البنود الحساسة خلال الفترة الانتقالية، ويساعدنا بالتالي على تلافي الوقوع في مطبات وقعت بها دول أخرى بعد ثورات الربيع العربي، عندما اختلفت الطبقة السياسية حول هذه النقاط، وهو الأمر الذي ساهم بتعثّر فتراتها الانتقالية.
صحيح أنّ آخر دساتير الأسد الصادر عام 2012 يحتوي أيضاً على بنود حقوقية لا بأس بها تسمح أيضاً بحقّ التجمع والتحزّب السياسي، ولكن اعتماد هذه البنود من دستور 1950 يضفي عليها مشروعية أكبر، وخاصة أنه هذه البنود نوقشت في الصحافة وفي المؤسسات الديمقراطية آنذاك، وأنّ أعضاء اللجنة الدستورية الذين صاغوها كانوا من كبار رجالات الحقوق السوريين في تلك الفترة التي لمعت فيها المحاماة السورية دراسة وممارسة.
أما القسم المتعلّق بتنظيم العلاقة بين السلطات وتوزيعها في دستور 1950، فهو لا يصلح أبداً نقطة انطلاق للمشهد السياسي الحالي. لعدّة أسباب، أهمها الضعف الكبير المفروض في هذا الدستور على السلطة التنفيذية، والاعتماد شبه الكلي على برلمان منتخب وأحزاب سياسية ناشطة، وهو الأمر المفقود كلياً في سورية اليوم. والأهم، هو بعد هذا النوع من الممارسة النيابية عن ذاكرة السوريين، الأمر الذي سيؤدي إلى مشكلات قانونية، وإلى فجوات كبيرة بين النصّ الدستوري والتطبيق السياسي العملي، وهي مشكلة خطيرة جداً في هذه المرحلة التي يحاول السوريون أن يعيدوا بناء دولة القانون نصاً وممارسة من الصفر تقريباً.
لذلك، رغم العيوب الكثيرة التي يعاني منها دستور 2012، إلا أن الأنسب قد يكون أن تُستوحي بعض مواده حول تنظيم عمل السلطة التنفيذية بشكل مؤقت، ويمكن أن يترافق ذلك مع إضافة مواد تصحيحية تعطّل الأحادية المفرطة في هذا الدستور.
الميثاق الانتقالي أهم من الدستور المؤقت
ختاماً، في المراحل الانتقالية المشابهة التي عاشتها دول أخرى، كان التفاهم حول ميثاق انتقالي وإصداره أهم من الدستور المؤقت. يفصّل هذا الميثاق برنامج العمل في المرحلة الانتقالية، ويحدّد أهدافها وآلياتها وتسلسل مراحلها من قانون انتخابات، إلى لجنة دستور دائم، إلى جمعية تأسيسية، ثم انتخابات، ويتناول أيضاً مسائل العدالة الانتقالية وحقوق الإنسان ومصير المفقودين والعدالة الانتقالية (مثلاً أدرج الميثاق الدستوري الانتقالي في البرازيل بنوداً خاصة لإنشاء محكمة دولية تبحث في انتهاكات حقوق الإنسان في البلاد خلال فترة الديكتاتورية العسكرية)، ولصياغة هذا الميثاق لا بُدّ من إطلاق عملية مشاورات ومباحثات سياسية تنتج هذه الوثيقة وتقرنها بخطة زمنية تجدول خطواتها على مراحل وهو الأمر الذي يمنح وثيقة مرجعية للعملية الانتقالية، ويزيد الثقة بين الأطراف المختلفة، خاصة بعد أن يتم إنجاز كلّ مرحلة من المراحل بنجاح.
المصادر :
1) Karim Atassi, Syrie, la force d’une idée: Architectures constitutionnelles des régimes politiques, 2014, Edition Harmattan
2) جوردون هـ. توري، السياسة السورية والعسكريون، دار الجماهير، 1969
3) أسعد الكوراني، ذكريات وخواطر مما رأيت وسمعت وفعلت، دار رياض الريس، 2000.
4) تقديم مسودة الدستور الجديد إلى الجمعية التأسيسية – 15 نيسان 1950 ملحق محضر اجتماع الجمعية التأسيسية، كلمة مقرر اللجنة الدكتور عبد الوهاب حومد. موقع الأرشيف الرئاسي للرئيس ناظم القدسي.
5) M. Khadduri, Constitutional development in Syria: With emphasis on the constitution of 1950, 1951, Middle east Journal
6) T Ginsburg, E Alston Playing for constitutional time: Interim constitutions and transitional provisions. The Timing of Lawmaking, 2017
العربي الجديد
————————————-
في حيثيّات الموقف المصري من التغيير السوري/ عمر كوش
29 يناير 2025
باتت دمشق قبلة لوفود دولية عديدة، أجنبية وعربية، بعد سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وعقدت اجتماعات كثيرة مع ممثلين عن الإدارة الجديدة في سورية، وذلك بعد أن تلقت باستحسان، دول مثل الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا وسواها، الإشارات والخطوات الإيجابية التي قامت بها الإدارة الجديدة، فأقرّت بالتغيير الحاصل، وبإمكانية التعاون مع الإدارة الجديدة في مختلف المجالات. بالمقابل، لم تتردّد دول عربية، مثل قطر والسعودية والكويت والأردن، في الوقف إلى جانب الإدارة الجديدة على الصعيدين، السياسي والاقتصادي، وأبدت استعدادها لتقديم الدعم غير المشروط للتغيير الحاصل، ومدّ يد العون للشعب السوري مع أجل تمكينه من التعافي، وإعادة إعمار ما دمّره النظام خلال 13 سنة الماضية، وأرسلت معونات إنسانية عاجلة، فضلاً عن مطالبتها برفع العقوبات الأميركية والأوروبية المفروضة على سورية، والتي باتت موجّهة ضد الشعب السوري بعد سقوط نظام الأسد.
في المقابل، امتنعت بعض الدول العربية عن التواصل مع الإدارة الجديدة، وخاصة مصر، التي وقفت موقف المترقّب والمتوجّس من التغيير الحاصل في سورية، فلم يتصل أيٌّ من مسؤوليها مع نظرائهم في دمشق، وراحوا يتشرطون، ويملون عليها ما يجب القيام به، وبما يشبه الأوامر، الأمر الذي يثير تساؤلاتٍ عديدة عن الموقف المصري من الإدارة السورية الجديدة، خاصة أن وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي كان على تواصل دائم مع وزير خارجية الأسد، بسام صباغ، قبل انهيار نظام الأسد، ثم أجرت القاهرة بعد سقوطه اتصالات مع أطراف عديدة، منها الرياض وأبوظبي وعمّان وموسكو وبغداد والجزائر. وذهب وزير الخارجية المصري بتوجيه رسائل سلبية، تفيد بالتحذير من أن تتحوّل سورية إلى مركز للتطرّف والتشدد، فيما واصلت وسائل الإعلام الرسمية المصرية انتقاداتها الإدارة الجديدة في دمشق، وتخويف الشعب المصري من تحوّل مشابه، ووصل الأمر إلى حدّ التحذير من “تركيز القوى الخارجية على إسقاط الدولة المصرية”، ومهاجمة الإدارة السورية الجديدة، مع التركيز على قائدها أحمد الشرع. إضافة إلى أن السلطات المصرية اتخذت أخيراً جملة إجراءات تمنع بموجبها دخول السوريين القادمين من مختلف الدول، من دون الحصول على التصريحات اللازمة من الجهات الأمنية المعنية، ثم قرّرت منع دخول السوريين من حاملي الإقامات الأوروبية والأميركية والكندية إلى مصر من دون الحصول على الموافقة الأمنية. أما وزير الخارجية المصري فقد أطلق أخيراً جملة من الاشتراطات والمطالب، تشابه التي أطلقها مسؤولو دول غربية زاروا دمشق، وحدّدها في “ضرورة إطلاق عملية سياسية شاملة لا تُقصي أي طرف، وتضمن توفير الأمن والحماية لجميع الأقليات، وتعكس التنوع والتعدّد في المجتمع السوري”. وضرورة عدم “تحوّل سورية إلى مركز للتنظيمات الإرهابية، أو مأوى لأي عناصر متطرّفة”. لكنه أضاف إليها “عدم تجاوز المعارضة السورية الشريفة التي لم تحمل السلاح، والتي لعبت دوراً مهمّاً في سورية منذ عام 2011”. وكرّر مقولة إن بلاده تتعامل مع رسائل الطمأنة العديدة التي أرسلتها الإدارة الجديدة بالمقولة الغربية نفسها التي تطالبها بضرورة “ترجمة الأقوال إلى أفعال ملموسة”.
المشكلة أن الوزير المصري طالب الإدارة الجديدة بما تفتقده بلاده، خاصة في ما يتعلق بحكم تمثيلي شامل، وبالتالي، ينطبق عليه القول المأثور “فاقد الشيء لا يعطيه”، أو بالأحرى لا يطالب به، إذ لم يطلق النظام المصري، منذ انقلاب الجيش المصري عام 2013 على رئيس منتخب، أي عملية سياسية شاملة في مصر. وإن كان من الممكن تفهّم مطالبات الغرب الإدارة الجديدة بحكم تمثيلي شامل، لأن بلادهم تتمتع فيها هيئات الحكم بصفة تمثيلية واسعة، كونها بلاداً ديمقراطية ليبرالية، وتجري انتخابات حرّة ونزيهة لتشكيل مختلف هيئاتها ومؤسّساتها. أما هيئات النظام المصري فلا تتمتع بذلك، خاصة أن هذا النظام لا يأتي إلى السلطة بانتخابات حرة. كما أنه يحظر العديد من أحزاب المعارضة، وتعجّ سجونه بالمعتقلين، ولا يحترم حقوق الإنسان وسوى ذلك.
لم تكترث القاهرة بالإشارات والخطوات الإيجابية التي قامت بها إلى الإدارة الجديدة في سورية، وأكّدت فيها سعيها إلى الانخراط في محيطها العربي بعيداً عن سياسة المحاور والأحلاف، وأنها لن تشكل عامل عدم استقرار بالنسبة إلى جوارها والعالم، بل ستعمل على تصفير المشكلات معها، إضافة إلى أنها ليست في وارد نهج تصدير الثورة، بل ستلتفت إلى بناء الدولة، والعيش في سلام ووفاق مع محيطها.
أحد أهم الأسباب وراء الموقف المصري السلبي حيال التغيير الحاصل في سورية قبول غالبية السوريين بالتغيير الحاصل، إلى جانب الارتياح الشعبي في عموم البلدان العربية. لذلك انتاب السلطات المصرية الخوف والتوجّس من انتقال النموذج السوري إلى مصر، خاصة أنه جسّد عودة الإسلاميين إلى واجهة المشهد السياسي، وقدّم خطاباً متصالحاً مع دول الجوار ومع دول الغرب والعالم، الأمر الذي يفسّر تقاطر وفود دول غربية وعربية إلى دمشق، وتجاوز الدول الغربية التصنيف الذي وضع هيئة تحرير الشام في خانة المنظّمات الإرهابية. وتخشى السلطات المصرية من أن يقدّم هذا النموذج دفعة لإحياء آمال المصريين الطامحين إلى التغيير، والخلاص من الأوضاع المعيشية السيئة التي تعصف بهم، خاصة مع اقتراب الذكرى الرابعة عشرة للثورة المصرية التي انطلقت في 25 يناير/ كانون الثاني عام 2011. وقد بنى النظام المصري مبرّرات سيطرته على السلطة في بلاده بناء على سردية تخليص مصر من حكم الإخوان المسلمين، وشيطنتهم كي يبرّر الانقلاب العسكري عليهم. وحاول هذا النظام بناء قاعدته الشعبية على مظاهر العداء لحركات الإسلام السياسي. إضافة إلى أنه ارتكز في تشييد شرعيته السياسية على تمكّنه من القضاء على حكم الإخوان المسلمين، ومحاولة نزع جذورهم من المجتمع المصري، الذي لم يحسن قادة “الإخوان” المصريين قراءته جيداً، ولم يتمكّنوا من تكوين حاضنة شعبية حولهم.
ليس من المرجّح أن تتغير مواقف النظام المصري السلبية مع التغيير الحاصل في سورية في المدى المنظور، على الرغم من أن الإدارة السورية الجديدة أرسلت إشارات إيجابية عديدة، وليس آخرها اعتقال أحمد المنصور، الذي نشر مصوّرة على وسائل التواصل الاجتماعي، هدد فيها النظام المصري. ولم ينظر النظام بإيجابية حيال هذه الخطوة. كما أنه لم يلتفت إلى تأكيدات الإدارة السورية الجديدة أنها تتعامل في علاقاتها مع غيرها من الدول، وفق منطق الدولة وليس وفق منطق الثورة. واعتبر ذلك كله غير كافٍ بالنسبة إلى النظام المصري، الذي ما يزال يدير ظهره للتغيير الحاصل في سورية.
العربي الجديد
————————————
سورية 2025/ مروان قبلان
29 يناير 2025
لا علاقة لعنوان هذا المقال بالمشروع الاستشرافي المعروف “سورية 2025” الذي عكفت على إعداده نخبة من الخبراء السوريين بين عامي 2005 – 2010، وخرجت منه بجملة سيناريوهات، استندت إلى تقديرات ومؤشّرات ديموغرافية، واجتماعية، واقتصادية، وبيئية، وصحية، وتعليمية، وفي مقدمتها سيناريو “البجعة السوداء”، الذي وقعنا فيه بسبب سوء إدارة النظام البائد وسياساته الكارثية. يتمحور هذا المقال حول جملة من التحديات، تجرى في سياقات مختلفة، تواجهها سورية اليوم، ويمكن اختصارها بثلاثة رئيسة هي: أولاً جمع السلاح، حلّ الفصائل، وتوحيد البلاد. ثانياً، تشكيل إطار حكم انتقالي شامل، يقود البلد إلى مرحلة دستورية دائمة، يعيش السوريون في ظلها مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات. ثالثاً، رفع العقوبات، وانتزاع اعتراف دولي بالحكم الجديد، باعتباره مدخلاً لتدفق الاستثمارات، وإعادة الإعمار.
بحسب الشواهد التاريخية الخاصة بأكثر الثورات والتحولات الدولية العنيفة يمثل تحدّي بناء المؤسّسات الجديدة، وفي مقدّمها الجيش والأجهزة الأمنية، نزع السلاح وحصره بيد الدولة، والاتفاق على حكومة تشاركية تضم مختلف القوى التي ساهمت في إسقاط النظام القديم، أبرز التحدّيات التي تواجه الدول خلال المراحل الانتقالية، فما إن يسقط النظام القديم حتى تبرُز التباينات بين القوى التي تحالفت لإطاحته، بخصوص رؤيتها للمرحلة الجديدة ومكانها فيها. ففي إيران، مثلاً، ما إن سقط نظام الشاه حتى دبّ الخلاف بين القوى والتيارات المختلفة التي تحالفت، آنياً، ضده بين عامي 1978-1979، لتدخل البلاد على الأثر في حالة من الصراع الدموي العنيف بين شركاء الثورة، انتهى بانتصار الملالي. في أفغانستان أخذ الصراع صفة الحرب الأهلية التي اندلعت ما إن دخلت فصائل المجاهدين الأفغان العاصمة، كابول، عام 1992، وأسقطت نظام الرئيس محمد نجيب. سيناريو شبيه حصل في ليبيا بعد سقوط معمّر القذافي، وأدّى إلى تقسيم فعلي للبلاد مستمر منذ 2014.
لا يعدّ الدخول في سيناريو مشابه أمراً حتمياً في سورية، كما تتوقع أجهزة مخابرات غربية. على العكس، يمكن تماماً تجنّب هذا الاحتمال إذا أحسن السوريون، وفي مقدّمتهم الإدارة الجديدة في دمشق، التعامل مع معطيات المرحلة، خاصة أن الظروف المحلية والإقليمية والدولية تبدو مواتية للسير بهذا الاتجاه. محليّاً، بعد 14 عاماً من الصراعات التي خاضتها القوى الإقليمية والدولية بدمائهم وعلى أرضهم، ما عادت للسوريين طاقة على استمرار القتال. جلّ ما ينشده عامتهم الآن هو العيش بكرامة وأمان. قد تكون طموحات النخب السورية، الصاعدة خصوصاً، أكبر قليلاً، إذ تنشد نظاماً سياسياً تمثيلياً يكون لها رأي فيه، إلا أنها تدرك في المقابل خطورة المرحلة، وهي ناضجة، ومستعدّة، للتعاون حفاظاً على الإنجاز العظيم للثورة المتمثل بإسقاط نظام الاستبداد، وحماية وحدة البلاد. تبقى مشكلة الفصائل المسلحة التي تحيلنا فوراً إلى الظروف الإقليمية والدولية.
إذا استثنينا إسرائيل وإيران، المتضرّرتين الأساسيتين من التغيير الذي جرى في دمشق، يبرز إجماع إقليمي، ودولي، يمتد من بكين إلى واشنطن مروراً بموسكو وعواصم الغرب الكبرى، والمنطقة العربية، على مساعدة سورية ومنع انزلاقها نحو الفوضى. لقد تعلّم العالم، بالطرق الصعبة، أن سورية ليست دولة هامشية، وأن ما يجري فيها ينعكس بالضرورة عليه. من هنا، لا يبدو أحدٌ، ظاهرياً أقله، راغباً في الدخول مجدّداً في متاهة صراعات قد تسفر عن موجات لجوء جديدة، وعودة تنظيمات إرهابية، من أمثال تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، أو نسخ أسوأ منها. هذا يعني أن قلة قليلة لديها الاستعداد لمد أطراف محلية بالمال والسلاح لاستئناف الصراع. فوق ذلك، تبدو إيران، في ظل الإدارة الأميركية الجديدة، مشغولةً تماماً بنفسها والحفاظ على رأس نظامها، وهذا ينطبق أيضاً على بقية حلفائها في المنطقة. يأتي التحدّي الرئيس من إسرائيل التي تسعى إلى التمدّد داخل سورية، ومحاولة بناء علاقات مع قوى معينة فيها، لكن هذه أيضاً يمكن قطع الطريق عليها.
يلقي هذا الأمر المسؤولية بالكامل على الإدارة الجديدة في دمشق، التي يجب أن تتخلّى عن تردّدها، وتتحرّك سريعاً للاستفادة من التوافق الإقليمي والدولي على مساعدة سورية، عبر الإفصاح عن تصوّرها للمرحلة الانتقالية وبناء الدولة الجديدة. يجب أن يحصل هذا قبل أن يبدأ الإجماع الدولي – الإقليمي بالتفكّك، على الأرجح في مرحلة ما خلال هذا العام. خلاف ذلك، نكون قد أسقطنا النظام، وخسرنا البلد. بعبارة أخرى “نجحت العملية ومات المريض”.
العربي الجديد
——————————-
“قسد” وتكرار تضييع الفرص/ محمد خالد الرهاوي
2025.01.29
رغم أن “قسد” وضعت يدها منذ أكثر من سبع سنوات على منطقة الجزيرة السورية الغنية بالمياه والثروات الباطنية من نفط وغاز، وكذلك على مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية التي تشكل المصدر الأول للسلة الغذائية لكل سوريا، ورغم دعم كثير من القوى والمنظمات الدولية لها، إلا أنها أضاعت فرصاً ذهبية في أن تكون حركة سورية وطنية، وفي قبول الناس لها والتمكين لنفسها في أرض كانت مهيأة تهيئة كاملة مادياً ومعنوياً.
فمن المعلوم المؤكد أن الجزيرة السورية بمحافظاتها الثلاث: دير الزور، والرقة، والحسكة، عانت من تهميش متعمد، وإفقار شديد، وتشويه ممنهج ومقصود من قبل نظام الطاغية البائد. ولما تحررت منه، سادت الفوضى، فكانت المعاناة مرة أخرى، ثم لما احتلت داعش المنطقة، كان الأمر كارثياً أيضاً. ولما نهضت “قسد” بحجة محاربة “داعش”، انضم كثير من العرب و”الجيش الحر” إليها، لكن المنطقة ازدادت تهميشاً، ولم تكن ممارسات “قسد” بأحسن حالاً من إجرام نظام الطاغية البائد وداعش، بل كانت أسوأ بكثير. أما الشعارات التي ترفعها، مثل حرية الشعوب والديمقراطية وما إلى ذلك من شعارات براقة، فهي أشبه ما تكون بشعارات البعث ونظامه المجرم، والمسافة بينها وبين الواقع الذي تديره وتصر عليه شاسعة جداً.
فشلت “قسد” فشلاً ذريعاً في إدارة المنطقة مدنياً وأضاعت فرصة تحويلها إلى نموذج يُحتذى به في الإدارة والتنمية. فعلى صعيد:
الإدارة: تدّعي “قسد” الإدارة المدنية للمنطقة التي تسيطر عليها، مع أن الواقع يقول إنها تتبع الحكم العسكري القمعي، الذي لا يملك أي حاضنة شعبية لها عدا المنتفعين منها، ولم تدرك أن الحاضنة تُبنى بكسب القلوب لا بفرضها بالقوة العسكرية. وكانت الإدارات المدنية لديها أشبه بأرقام العملات المنهارة، لا قيمة لها ولا أثر. ولم تستطع هذه الإدارات كلها أن تستخرج وثيقة رسمية واحدة، ولو كانت شهادة ميلاد أو طهور لطفل، رغم الصلات والتعاون الوثيق مع نظام الطاغية البائد. أما نموذجها في الإدارة، فهو نموذج فاشل، لا مثيل له في الدنيا منذ أن هبط آدم على الأرض، فهي تعتمد على ما يسمى بالإدارة المشتركة بحجة إعطاء المرأة حقوقها، وذلك بتعيين مدير ومديرة لكل مؤسسة، إن كانت صغيرة أو كبيرة.
التنمية: أدت سياسات “قسد” إلى زيادة معاناة المنطقة من الفقر الشديد، وفقدان الخدمات، والتهميش، والتجهيل المتعمد. فلم تبنِ مدرسة، ولا منشأة، ولا أي مؤسسة خدمية، بل حوّلت المدارس والمؤسسات إلى سجون ومراكز للتعذيب، واكتفت بسرقة الثروات والمحاصيل الزراعية أمام أعين أهلها، ولعل هذا هو الأهم بالنسبة لها. وإمعاناً منها في التفقير والتهميش، كانت تفتعل الحرائق في الأراضي الزراعية أيام مواسم الحصاد، فتزيد من فقر الناس ومعاناتهم بدلاً من حماية أراضيهم لتحسين أحوالهم. ولو أنها بنت المنطقة ونمّتها بقسم من عائدات الثروات، وسرقت قسماً آخر، لجعلت منها منطقة مزدهرة، ولحبّبت الناس بها، لكنها أضاعت الفرصة مرة أخرى، نتيجة عقلية الطغاة اللصوص، التي تتكرر نسخها في بقاع مختلفة على هذه المعمورة.
وكما أضاعت فرصة التمكين والتنمية، أضاعت فرصة تحقيق الأمن والاستقرار، فالمنطقة ظلت طوال سيطرتها عليها، وما تزال، تشهد احتجاجات وصراعات واغتيالات واعتقالات تعسفية. وهي اليوم تضيع فرص الانضمام إلى سوريا الجديدة بعد انتصار ثورتها، وتماطل وتراوغ وترفض الانضمام إلا بشروط لا يمكن أن تُقبل؛ شروط تميزها من غيرها من السوريين، وتجعل منها نواة لميليشيات دعم سريع أو جيش مشرق جديد. ولعل المتأمل في تكرار ضياعها هذه الفرص يدرك أنها تريد أن تكسب في المفاوضات مع الحكومة السورية الجديدة ما عجزت عن تحقيقه بنفسها منذ سيطرتها على الجزيرة السورية.
وثمة أسباب جوهرية كثيرة تقف وراء هذا التضييع المتعمد للفرص، منها:
“قسد” لم تأتِ لتنمية المنطقة، لكون المقاتلين الغرباء من عصابات حزب العمال الكردستاني الإرهابية يسيطرون عليها فعلياً، وهم المتحكمون بكل قراراتها، وما مظلوم عبدي والقيادات السورية الكردية والعربية والآشورية إلا واجهات لا حول لها ولا قوة، مع أن كثيراً منها من مدرسة جبال قنديل نفسها.
طبيعة عقلية جماعة قنديل تتسم بالعناد والجفاء الشديد والانغلاق، بسبب طبيعة البيئة الجبلية التي عاشت فيها تلك العصابات، وبسبب عقلية التمرد التي تسيطر عليها.
ظنها أن الولايات المتحدة التي دعمتها في محاربة تنظيم داعش ستظل داعمة لها حتى تحقيق مشروعها الانفصالي أو الفيدرالي، دون أن تتعظ من تجارب أمريكا مع حلفائها وأتباعها في فيتنام وأفغانستان وغيرها، مع أن أولئك الحلفاء من أبناء تلك البلدان، بخلاف “قسد” التي لا تنتمي إلى الأرض السورية، ومعظم أفرادها ليسوا من أبنائها.
تمسكها بملف المعتقلين من مقاتلي داعش في سجونها وعدم التفريط به، لأنه المسوغ الأساسي الذي وُجدت من أجله، وتتلقى الدعم الغربي بناءً عليه أيضاً. ولعل معظم المعتقلين في تلك السجون سوريون مدنيون معارضون لها، اعتقلتهم بحجة الانتماء لهذا التنظيم، وخوف عناصر “قسد” من ملاحقة معظم هؤلاء المعتقلين ظلماً لها قانونياً داخل سوريا وخارجها، كما يُلاحق أفراد العصابة الأسدية في المحاكم الوطنية والدولية بعد سقوط نظام تلك العصابة.
أن المنطقة ثرية وتشكل أهم مصدر تمويل لجماعات قنديل، فقد وضعت يدها على ثروات لم تكن لتحلم بها يوماً، فضلاً عن أن استمرار سيطرتها على المنطقة يتيح لها حرية الحركة والتنقل بين سوريا والعراق وتركيا وإيران، وتجنيد مرتزقة ومقاتلين هي بأمسّ الحاجة إليهم.
الأوهام التي تمنيها بها إسرائيل، وتصريحات قادتها العلنية في تقديم الدعم لها والتحالف معها، وتصريحات إلهام أحمد العلنية خلال لقاءاتها التلفازية في التواصل مع إسرائيل ومد جسور التعاون والتحالف معها.
التصريحات التي صدرت من بعض الأقليات في سوريا، ولا سيما في السويداء ومناطق الساحل، والتحالفات السرية مع نظام الطاغية البائد وفلوله، وحمايته لكثير من ضباطه وشبيحته الفارين من العدالة بعد انتصار الثورة وسقوط النظام وهروب قائده إلى روسيا.
تمسكت “قسد” بملف المعتقلين من مقاتلي “داعش” في سجونها ولم تفرط به، لأنه المسوغ الأساسي الذي وُجدت من أجله، وتلقت الدعم الغربي بناءً عليه أيضاً
لقد أضاعت “قسد” بهذه الممارسات فرصة ذهبية لتمكين نفسها واستمرارها، واليوم تستمر في عنادها وتضييع فرصة مشاركة السوريين في بناء سوريا الجديدة. والأمل أن يظهر من بينهم رجل رشيد يستدرك تلك الفرص الضائعة، ويطوي صفحة التيه والأوهام وتنفيذ الأجندات الخارجية، قبل أن يأتي يوم لا ينفعها فيه الندم والبكاء على ما فات.
وعلى “قسد” أن تعتبر بالنظام البائد في سوريا، وغيره من الأنظمة العسكرية القمعية التي كانت تحكم دولاً، لا مناطق محدودة يرفض سيطرتها عليها من بداخلها ومن يحيط بها، وأن تعتبر بهزيمة جيوش الدول الكبرى أمام شعوب الدول التي احتلتها.
كما عليها ألا تجرّ المنطقة إلى مزيد من الحروب والصراعات التي سترهق كاهل سوريا الجديدة، وتزيد معاناة أبنائها ومؤسساتها أكثر. فالدولة السورية الجديدة، التي تسعى جاهداً لبناء وطن مزدهر يتفيّأ جميع أبنائه في ظلاله، ويتساوون في الحقوق والواجبات، ويتمتعون بالمواطنة الكاملة، لن تقبل أن تتخلى عن جزء مهم منها، ولن تقبل المنطقة، بعربها وكردها، أن تتفدرن أو تنفصل بمعزل عن أخواتها في عموم سوريا.
ولن تنجح زراعة نبتة “قسد” في أرض غير أرضها، فالأرض تلفظها، والمناخ السوري لا يصلح لها ولا يلائمها، فكيف يمكنها أن تنبت وتنمو؟
تلفزيون سوريا
————————————–
استراتيجيات الأمن في سوريا ما بعد الأسد: دراسة على الساحل والوسط السوري/ نوار شعبان
2025.01.29
مثّل انهيار نظام بشار الأسد في 8 كانون الأول الماضي لحظة محورية في تاريخ سوريا، حيث فتح الباب أمام مرحلة جديدة مملوءة بالتحديات والفرص. أعقب سقوط النظام فراغ أمني وسياسي عميق، مما تطلب استجابات فورية من السلطات السورية الجديدة لمعالجة الوضع المعقّد، خاصة في مناطق كانت تُعدّ معاقل للنظام السابق مثل حمص، وحماة، واللاذقية، وطرطوس.
وفي هذا السياق، قام معد هذا التقرير خلال زيارته لحمص وبعض المناطق الساحلية بإجراء عدة لقاءات مع عناصر وقيادات أمنية وشخصيات من المجتمعات المحلية. هدفت هذه اللقاءات إلى تكوين صورة شاملة حول سير العمليات الأمنية في مراحلها الأولى، مما أتاح فهماً أعمق للتحديات والفرص المرتبطة بهذه المرحلة الانتقالية.
شهدت هذه المناطق تشكُّلات عسكرية وأمنية رفضت الاستسلام بسهولة، مما دفع السلطات إلى إطلاق حملات أمنية مكثفة لاستعادة السيطرة وضمان الاستقرار. رافق هذه الحملات تحديات اجتماعية، منها التعامل مع مجتمعات كانت موالية للنظام السابق وشكوكها تجاه النوايا الحكومية الجديدة. في هذا السياق، برزت استراتيجيات متوازنة تجمع بين العمليات الأمنية وإعادة دمج المجتمعات لتحقيق استقرار مستدام.
المناطق المستهدفة: الساحل والوسط السوري نموذجاً
مدينة حمص وريفها الغربي
في أحياء مثل العباسية، وعكرمة، والزهراء، أطلقت السلطات حملات أمنية شملت تفتيشاً منزلياً دقيقاً واعتقالات واسعة، أبرزها في 4 كانون الثاني 2025. انتهت العمليات بتوقيف عدد كبير من المطلوبين وإطلاق سراح بعضهم بعد التحقيق. كما استهدفت الحملات الريف الغربي لحمص، المعروف باستخدامه كمعبر تهريب بين سوريا ولبنان، مما ساهم في تقليص نفوذ ميليشيات مثل حزب الله. إحدى أبرز العمليات تمثّلت بمقتل شجاع العلي، المسؤول عن مجزرة الحولة، في 26 كانون الأول 2024، مما أضعف الشبكات المسلحة في المنطقة. إضافة إلى ذلك، شهد الريف الغربي تعزيزاً للأمن عبر بناء نقاط مراقبة جديدة ودعم التعاون مع المجتمعات المحلية.
أرياف حماة الغربية
شهدت مناطق مثل مصياف والسقيلبية حملات واسعة بدءاً من 27 كانون الأول 2024، حيث اعتُقلت شخصيات بارزة مثل قائد شرطة حماة السابق حسين جمعة. أفضت العمليات إلى مصادرة كميات كبيرة من الأسلحة والذخائر، مما ساهم في تقليص خطر إعادة تنظيم التشكيلات الموالية للنظام السابق.
أرياف اللاذقية وطرطوس
مثلّت هذه المناطق تحدياً مزدوجاً، إذ كانت مراكز ولاء للنظام السابق ومواقع مهمة للبنية التحتية العسكرية. شملت العمليات مداهمات واعتقالات، أبرزها في 21 كانون الأول 2024، حيث تم الكشف عن أسلحة متطورة وخرائط عمليات. كما واجهت القوات الأمنية كمائن مسلحة، مثل حادثة حي العوينة في مطلع كانون الثاني 2025. انتهت إحدى أبرز المواجهات بمقتل بسام حسام الدين، قائد تشكيلات “أسود الجبل”، في 13 كانون الثاني 2025.
الاستراتيجيات المُنفَّذة
كانت المداهمات الليلية واحدة من أبرز الأدوات التي اعتمدت عليها القوات الأمنية لتحقيق عنصر المفاجأة في العمليات، حيث كانت تتم في ساعات متأخرة من الليل مستفيدةً من هدوء المنطقة وضعف الحركة. هدفت هذه الاستراتيجية إلى تقليل احتمالية المقاومة من قبل العناصر المستهدفة والحد من الخسائر بين المدنيين. لم تكن هذه المداهمات مجرد عملية عشوائية، بل اعتمدت على معلومات استخبارية دقيقة، حيث تم استهداف مواقع محددة تُستخدم كمخابئ للأسلحة أو نقاط تجمع للمسلحين.
أما تكتيك التطويق، فقد كان مكملاً لهذه المداهمات. اعتمدت القوات الأمنية على عزل المناطق المستهدفة بشكل كامل قبل بدء العملية، مما منع تسرب المعلومات أو هروب العناصر المستهدفة. شهدت بعض الأحياء في مدينة حمص تطبيقاً دقيقاً لهذا التكتيك، حيث تم تطويق الأحياء بشكل كامل قبل بدء العمليات الأمنية. أثار هذا التكتيك حالة من الطمأنينة بين السكان المحليين، حيث شعروا بجدية السلطات في السيطرة على الوضع الأمني. أثر هذه الاستراتيجيات لم يكن فقط على الجانب الأمني، بل امتد ليشمل الأثر النفسي على السكان. فالوجود المستمر للقوات الأمنية في المنطقة بعد العمليات عزز شعور الأمان لدى السكان، وبدأت المجتمعات المحلية في استعادة ثقتها بقدرة السلطات الجديدة على فرض النظام.
مثلّت الضربات الاستباقية جزءاً مهماً من الاستراتيجيات الأمنية، حيث استهدفت هذه العمليات مواقع حساسة لتجمعات التشكيلات المسلحة ومخازن أسلحتها. تم استخدام الطائرات المسيّرة والمدفعية الثقيلة لضمان دقة الضربات وتقليل الأضرار الجانبية.
في ريف حمص الغربي وريف طرطوس، كانت هذه العمليات فعالة للغاية. اعتمدت القوات على تقنيات حديثة مثل الاستطلاع الجوي والرصد الميداني لتحديد الأهداف بدقة. استهدفت الضربات مستودعات أسلحة في قرى خربة الحمام وبعض المناطق الريفية الأخرى. رافقت هذه العمليات حملات توعية للسكان المحليين، حيث شرحت السلطات أهداف الضربات وأهميتها في تحقيق الاستقرار. ساهم هذا التوجه الإعلامي في تقليل مخاوف السكان وزيادة دعمهم للجهود الأمنية.
إلى جانب العمليات الواسعة النطاق، لعبت المهام الخاصة دوراً محورياً في استهداف الشخصيات القيادية والشبكات الأكثر خطورة. وحدات النخبة، مثل “العصائب الحمراء”، كانت مسؤولة عن تنفيذ هذه المهام الحساسة. تميزت هذه الوحدات بالسرعة والدقة، حيث كانت تُكلَّف بمهام عالية الخطورة تتطلب تخطيطاً دقيقاً وتنفيذاً سريعاً. في أحياء حمص وبعض مناطق الساحل، نفذت هذه الوحدات عمليات نوعية استهدفت مواقع قيادية للتشكيلات المسلحة. كان لهذه العمليات تأثير مزدوج: فمن جهة، ساعدت في تفكيك الشبكات الرئيسية، ومن جهة أخرى، قللت قدرة التشكيلات المسلحة على تنفيذ هجمات مرتدة.
إضافة إلى ذلك، كان لهذه العمليات تأثير نفسي كبير على العناصر المسلحة التي بدأت تفقد ثقتها بقدرتها على مقاومة السلطات الجديدة. عززت هذه النجاحات من الشعور بالأمان والاستقرار في المناطق المستهدفة، وأظهرت قدرة السلطات على التعامل مع التهديدات الأمنية بشكل فعال ومخطط له.
نتائج الحملات الأمنية
على مدار الحملات الأمنية، تمكنت السلطات السورية الجديدة من اعتقال مئات الأشخاص، بينهم عناصر بارزة تنتمي إلى الاستخبارات والجيش التابع للنظام السابق. لم تكن هذه الاعتقالات مجرد إجراءات روتينية، بل جاءت ضمن استراتيجية مدروسة لتفكيك الشبكات المسلحة التي ظلت تعمل في الخفاء. وقد ساهمت هذه العمليات بشكل كبير في إضعاف قدرة تلك الشبكات على التنظيم والتخطيط لأي أنشطة عدائية مستقبلية.
من جانب آخر، كشفت التحقيقات التي أُجريت مع المعتقلين عن وجود خلايا نائمة وخطط سرية كانت تهدف إلى زعزعة الاستقرار. أتاح هذا للسلطات اتخاذ تدابير وقائية محكمة، تضمنت ضربات استباقية وعمليات نوعية استهدفت مصادر التهديد قبل أن تتحول إلى وقائع.
ورغم أن الحملات الأمنية حققت تقدماً واضحاً، فإنها واجهت مقاومة عنيفة في بعض المناطق، خاصة في طرطوس واللاذقية. شهدت هذه المناطق اشتباكات عنيفة، حيث استخدمت التشكيلات المسلحة تكتيكات الكمائن لاستهداف قوات الأمن. على الرغم من التحديات، أظهرت القوات مرونة تكتيكية ملحوظة، حيث استعانت بتقنيات الاستطلاع الجوي والطائرات المسيّرة لتحديد مواقع العدو وإحباط هجماته.
في الوقت نفسه، لم تقتصر جهود السلطات على العمليات العسكرية فقط. فقد تم تقديم تسويات لعناصر النظام السابق، وهو ما أدى إلى قبول عدد كبير منهم بهذه الخطوات والابتعاد عن النشاط العدائي. مثلت هذه التسويات نقطة تحول في بعض المناطق، حيث ساهمت في تقليل التوترات وإظهار استعداد السلطات للعمل مع مختلف الأطراف لتحقيق استقرار شامل. ورغم النجاح النسبي لهذه السياسة، فإن التشكيلات النشطة لا تزال تشكل تهديداً مستمراً، مما يتطلب مراقبة دائمة واستجابة سريعة لأي تحركات مشبوهة.
بالتالي، يمكن القول إن هذه الجهود المتوازنة بين الحزم الأمني والمرونة السياسية قد نجحت في تحقيق قدر من الاستقرار، وإن كان مؤقتاً، مما يتيح فرصة للعمل على تعزيز الثقة المجتمعية وبناء مستقبل أكثر أمناً واستقراراً.
الفرص والتهديدات
تمثل المرحلة الجديدة في سوريا مزيجاً من الفرص الواعدة والتهديدات المستمرة، التي تتطلب من السلطات السورية الجديدة استراتيجيات فعالة لتحقيق التوازن بين تعزيز الاستقرار ومعالجة التحديات القائمة.
الفرص
برزت العديد من الفرص التي يمكن للسلطات استغلالها لتحقيق تقدم ملموس في بناء مستقبل سوريا. من أبرز هذه الفرص كان تعزيز الأمن والاستقرار، حيث أدى الانخفاض الملحوظ في معدلات النشاط الإجرامي إلى شعور السكان بمزيد من الأمان. هذا التحسن لم يكن فقط نتيجة للعمليات الأمنية، بل جاء أيضاً نتيجة لتعزيز حضور الدولة بشكل أعمق في حياة المواطنين. ازدادت الثقة بين السكان والسلطات، مما وفر أرضية خصبة لتعزيز التعاون بين الطرفين.
بالإضافة إلى ذلك، كانت هناك فرصة كبيرة لبدء المصالحة الوطنية. بعد سنوات من الانقسام، يمكن للمرحلة الجديدة أن تمهد الطريق لحوار سياسي شامل يجمع مختلف الأطياف السورية. يمثل هذا الحوار وسيلة فعالة لمعالجة الجروح المجتمعية وتعزيز الوحدة الوطنية. علاوة على ذلك، كانت الجهود الرامية إلى تحسين الاقتصاد المحلي خطوة مهمة، حيث بدأت السلطات بإعادة تشغيل المشاريع الزراعية والصناعية، مما ساهم في توفير فرص عمل وتحسين الظروف المعيشية.
التهديدات
رغم هذه الفرص، فإن التهديدات لا تزال حاضرة وتلقي بظلالها على مستقبل البلاد. من أبرز هذه التهديدات كانت التوترات الاجتماعية، خاصة في المناطق التي كانت تُعد معاقل للنظام السابق. استمرار تحفظات السكان في هذه المناطق قد يؤدي إلى تصاعد التوترات إذا لم تتم معالجتها بحكمة.
على الجانب الاقتصادي، يظل بطء التعافي الاقتصادي عائقاً رئيسياً. يمكن أن تؤدي البطالة واستمرار الأزمات الاقتصادية إلى تأجيج الاضطرابات وزعزعة الاستقرار. كما أن هناك مخاوف متزايدة من الانتهاكات المحتملة لحقوق الإنسان، والتي قد تؤثر سلباً على الثقة بين السكان والسلطات.
من التهديدات الأكثر تعقيداً كانت الخلايا النائمة، التي تواصل العمل في الخفاء لزعزعة الأمن والاستقرار. الهجمات المفاجئة التي قد تنفذها هذه الخلايا يمكن أن تعيد البلاد إلى حالة من الفوضى، مما يتطلب استجابة أمنية سريعة وفعالة.
ولذا، فإن تحقيق التوازن بين استغلال الفرص ومواجهة التهديدات هو السبيل الوحيد لضمان استقرار مستدام في المرحلة المقبلة.
السيناريوهات المتوقعة
يمثل مستقبل سوريا ما بعد الأسد مشهداً متعدد الاحتمالات، حيث تتراوح التوقعات بين استقرار شامل واستمرار التحديات. يمكن تقسيم السيناريوهات المتوقعة إلى ثلاث مسارات رئيسية:
السيناريو الأول: التفكيك الكامل
في هذا السيناريو، تحقق السلطات الجديدة نجاحاً كاملاً في عملياتها الأمنية، مما يؤدي إلى تفكيك جميع التشكيلات المسلحة الموالية للنظام السابق. ينتج عن هذا الوضع استقرار أمني شامل في البلاد، يفتح المجال أمام إطلاق مشاريع إعادة الإعمار على نطاق واسع. استثمار هذه المرحلة سيعزز من ثقة المجتمع الدولي بسوريا الجديدة، مما يشجع على تقديم الدعم المالي والتقني اللازم لإعادة بناء الاقتصاد والبنية التحتية.
السيناريو الثاني: التفكيك الجزئي
أما في هذا السيناريو، فتتمكن السلطات من تحقيق تقدم محدود في عملياتها الأمنية، حيث يتم تفكيك جزء كبير من التشكيلات المسلحة مع بقاء تهديدات متفرقة في بعض المناطق. يؤدي هذا إلى استقرار نسبي، لكنه يتطلب استراتيجيات طويلة الأمد لمعالجة التهديدات المتبقية. قد تكون هذه المرحلة فرصة لتطوير خطط شاملة تجمع بين التدخلات الأمنية والسياسات التنموية لتعزيز الاستقرار تدريجياً.
السيناريو الثالث: استمرار التهديدات
في أسوأ الاحتمالات، تستمر التشكيلات الموالية في العمل كخلايا نائمة، مما يعطل جهود إعادة الإعمار ويهدد الاستقرار الأمني والسياسي. تؤدي الهجمات المفاجئة إلى زيادة الضغط على السلطات وتقويض الثقة بين السكان والحكومة. قد يؤدي هذا السيناريو إلى انسحاب بعض الجهات الدولية الداعمة، مما يضعف من قدرة البلاد على تجاوز المرحلة الانتقالية بنجاح.
في ضوء هذه السيناريوهات، يتعين على السلطات السورية الجديدة تبني نهج شامل ومتوازن يجمع بين الحزم الأمني والتوجه نحو التنمية. تحقيق ذلك سيمكن سوريا من تجاوز التحديات وبناء مستقبل أكثر استقراراً وازدهاراً.
إن نجاح الحملات الأمنية في تفكيك التشكيلات الموالية للنظام السابق وتحقيق الاستقرار في المناطق المستهدفة يُعد خطوة محورية في بناء سوريا الجديدة. ومع ذلك، يتطلب تحقيق استقرار مستدام توازناً بين العمليات الأمنية وتعزيز الثقة المجتمعية من خلال الحوار الوطني ومعالجة المظالم الاقتصادية والاجتماعية.
إضافة إلى ذلك، فإن الاستثمار في مشاريع تنموية وبنية تحتية يمكن أن يُسهم في تحسين الظروف المعيشية وتقليل الدوافع للتوترات. عبر هذه الجهود المتكاملة، يمكن لسوريا أن تتجه نحو مستقبل أكثر أماناً واستقراراً.
تلفزيون سوريا
——————————
ما لا يقبل التسويف أو التجاهل في أجندة الحكومة السورية/ حسن النيفي
2025.01.29
جسّد الخطاب الذي قدّمته القيادة العسكرية لعملية ردع العدوان (27 تشرين الثاني – 8 كانون الأول) أثراً جيّداً ومقبولاً لدى الرأي العام الداخلي السوري وكذلك لدى الرأي العام الإقليمي والدولي، نظراً لما تضمنه الخطاب من مضامين ذات صلة بالحرص على حياة المواطنين وكرامتهم والحفاظ على الحقوق العامة بعيداً عن أي تمييز عرقي أو ديني، وكذلك لما تضمنه الخطاب المذكور من وعود بإيجاد مقاربات جدّية وفاعلة ومقبولة من عموم السوريين للعبور بسوريا نحو ضفة الأمان. ولعل ما عزّز الأثر الطيب لخطاب قيادة العمليات العسكرية هو السلوك العام لمقاتلي الفصائل العسكرية عبر عملية تحرير كبرى المدن السورية بسلاسة ودون إراقة دماء وبعيداً عن أية مشاهد انتقامية، فضلاً عن الاحترام الذي أبداه المقاتلون المحرِّرون للمختلف معهم من السوريين دينياً وفكرياً وسياسياً.
استمرار الحفاوة مرهون بنتائج عملية على الأرض:
لقد قوبل هذا الأثر الطيب بانطباع مماثل (سورياً وعربياً ودولياً)، وقد تجسدت ترجمة هذا الانطباع بتواتر الوفود القادمة إلى دمشق، بل وفي المبادرات العربية والإقليمية التي أبدت حماساً كبيراً لمؤازرة التجربة التحررية الجديدة في سوريا، كما تبدّى ذلك أيضاً باهتمام أوروبي وأميركي موازاةً مع إطلاق وعود بتخفيف العقوبات الاقتصادية عن سوريا. ولكن يبدو أن هذا الانطباع الجيد لدى الأطراف المختلفة، وبعد أن احتفظ بمفعوله طيلة خمسين يوماً، بدأ يتحوّل إلى تساؤلات لا تخلو من الشك والريبة، ليس بسبب مواقف مستجدة للسلطة الحالية في دمشق، بل بسبب غياب الأجوبة والمواقف، ذلك أن استحسان الآخرين لخطاب السلطة كان مقروناً على الدوام بانتظار تجسيداته الفعلية على الواقع، وهذا ما لم يحصل حتى الآن، ولعل من حق السلطة أن تقول: إن النهوض بالوعود يحتاج إلى مقوّمات مادية ما تزال معدومة، كما من حقها أن تقول أيضاً: إن مقدار الخراب الذي خلّفه النظام الأسدي البائد من العسير تجاوزه والانتقال إلى مرحلة الإعمار بطرفة عين، كما من حقها القول: إن إيجاد بُنى تنظيمية وإدارية جديدة للدولة، وكذلك إيجاد دستور جديد والشروع بعملية انتقالية وإقامة مؤتمر وطني ومن ثم الوصول إلى انتخابات عامة وسوى ذلك، لهي أمور لا يمكن إنجازها في فترة زمنية مدتها خمسون يوماً، بل ربما تحتاج إلى سنوات، وينطبق ذلك أيضاً على بقية الأمور كمسائل إعادة الخدمات الأساسية وإعمار البنى التحتية وسواها. نعم من حق السلطة أن تجيب على ذلك بما تراه مناسباً، كما يتوجب على الآخرين التقيّد بالموضوعية والواقعية لما يمكن تحقيقه ضمن ما هو ممكن لا كما هو مُتخيّل، أي التمييز بين الرغبة والممكن، وبالمجمل قد يكون مقبولاً جداً أن يكون لدى الحكومة برامج أو خطط تعمل من خلالها عبرَ جدول زمني يقدّره أصحاب الاختصاص.
العدالة الانتقالية كمدخل لا بدّ منه:
ولئن كان بمقدور المرء أن يتفهّم أهميّة الوقت وضرورة حيازة الحكومة على فرصتها كاملةً للتعاطي مع العديد من مستحقات البناء، إلّا أن ثمة مسائل أخرى لا تحتمل هذه المعايير، بل تستدعي الشروع المباشر للعمل عليها، باعتبارها خطوة تأسيسية لما يتلوها من خطوات من جهة، ولأن مقوّمات الشروع بها ووسائل تحقيقها متوفرة أو يمكن توفيرها ولا تستوجب الانتظار الطويل من جهة أخرى، ما أعنيه هو العدالة الانتقالية، باعتبارها مفهوماً مؤسِّساً لأي مشروع وطني لمرحلة ما بعد التحرير.
ولئن كان الفساد الأمني هو الإرث الأكثر خطورة من مورثات الحقبة الأسدية، إن لم يكن هو مصدر من مصادر توحّش الدولة، فإن التعاطي مع هذا الملف بما يتضمنه من تصفية فلول ومحاكمة المجرمين وفتح ملف المعتقلين والمختفين قسرياً ومعالجة جميع أشكال الانتهاكات، إنما هي بحاجة إلى مسار قانوني يفضي إلى إنشاء كيان قضائي مستقل عن السلطة ويكون قوامه قضاة ومحامون وأصحاب خبرة في قضايا حقوق الإنسان، فضلاً عن المنظمات الحقوقية السورية التي كان لها نشاط فعّال إنْ على مستوى التوثيق أو على مستوى إقامة الدعاوى وملاحقة مجرمي الحرب أمام المحاكم، بغية البدء بتطبيق العدالة الانتقالية التي في حال استمرار غيابها أو تجاهلها سوف تدخل البلاد في نفق غائم لن يخرج أحدٌ منه بسلام.
ما ينبغي التذكير به دوماً أن ثورة السوريين هي في الأصل ذات منشأ حقوقي، أعني أن مجمل المطالب العامة للمواطنين، وفي مقدمتها الحريات بكافة أشكالها، إنما تنبثق من أصل حقوقي قبل الانتقال إلى تجلياتها السياسية، ولمّا كانت المشكلة الأمنية تتصدّر واجهة الصراع بين الشعب والسلطة، وذلك على مدى أربعة وخمسين عاماً، الأمر الذي كان له تداعيات شديدة الفظاعة، تجسّدت بعمليات اعتقال طويل الأمد وممارسات مهينة داخل السجون وتصفيات جسدية، أي إن الجريمة الممنهجة التي واظبت السلطة الأسدية على ممارستها طيلة عقود مضت، قد أنتجت في النهاية قضية كبرى لدى السوريين تتمثل بمئات الآلاف من الأرواح التي فُقدت ومثلها ممّن سُجنت أو تعرّضت للتعذيب، فضلاً عن حالات الإبادة الجماعية التي شهدها السوريون طيلة سنوات الثورة، ولا شك أن هذه القضية لم تعد قضية أفراد أو جماعة أو حتى جماعات معدودة من الناس، بل هي قضية عموم السوريين، ولعل التعاطي العادل مع هذه القضية هو المدخل السليم للتعاطي مع مجمل القضايا الأخرى.
ما هو مؤكد أن تطبيق العدالة الانتقالية – حتى في الحالة المثالية – لن يعيد إلى الحياة الأرواح التي زُهقت، ولن يعيد إلى المعتقلين والمعتقلات السنوات التي سُلِخت من أعمارهم، ولن يحيي موتى غاز السارين أو الذين قضوا تحت قصف البراميل التي كانت تتساقط فوق مخادع المواطنين فتحيلها ركاماً، وكذلك لن يطفئ حسرات ذوي الضحايا وأحبائهم، ولكن مع ذلك فإن مجرّد شعور الضحايا أو ذويهم بمحاكمة الجناة فهو باعث على الارتياح من جهة، وكذلك هو خطوة تمهيدية لا بدّ منها للانتقال إلى مرحلة الصفح والمسامحة من جهة أخرى، وفي هذا السياق يمكن أن يكون لاعتذار الجاني من الضحية أثر فاعل في التأسيس لمرحلة التسامح. وبالمجمل يمكن الذهاب إلى أن طيّ صفحة الماضي والحيلولة دون أن يكون للأمس المؤلم انعكاس سلبي على المستقبل إنما هو مشروط بتصفية حسابات ليست بالضرورة أن تتجسّد بمواجهات وصدامات وجودية، بل بمزيد من المكاشفة الصريحة والامتثال لمبادئ العدالة.
لعله من غير المنطقي، بل من غير المقبول، ألّا تكون مسألة تطبيق العدالة الانتقالية على رأس أجندة حكومة تصريف الأعمال أو أية حكومة قادمة، بل لعله من غير المقبول أيضاً أن تتجاهل تلك الحكومة ذاتها المئات من الحقوقيين السوريين وأصحاب الكفاءات القانونية، سواء أكانوا قضاة أو مستشارين أو محامين، وتتجاهل العديد من المبادرات التي تقدموا بها كبرامج أو خارطة طريق تتضمن مقاربات عملية لتطبيق مبدأ العدالة الانتقالية، في حين تكتفي بتعيين قضاة شرعيين للإمساك بمفاصل القضاء، هل السبب هو عدم ثقة الحكومة بالثروة القضائية والقانونية السورية، أم ثمة أجندة أخرى لم تفصح الحكومة عنها بعد؟.
تلفزيون سوريا
——————————
بشار الجعفري.. القافز من السفينة الغارقة
29/1/2025
لم يكن خيال أي متابع للشأن السوري ليذهب -على الأرجح- إلى أن الدبلوماسي المخضرم بشار الجعفري سينقلب ضد “ولي نعمته” الرئيس المخلوع بشار الأسد بهذه السرعة وهذه الطريقة، التي شملت تحولا من الشيء إلى نقيضه، وكأنه لم يخدم نظام آل الأسد، ويدافع عن جرائمهم في المحافل الدولية، مستغلا ثقافته ومهارته، كما لو كان محامي الشيطان.
فبعد ساعات من سقوط نظام الأسد الابن في 8 ديسمبر/كانون الأول الماضي وفراره إلى روسيا، فاجأ الجعفري العالم -وهو في منصب السفير السوري في موسكو- بهجوم على الأسدين.
ففي كلمة ألقاها خلال احتفال في مقر السفارة بالعاصمة الروسية قال الجعفري “ربما تتفاجؤون لو أقول إنه لم يكن هناك نظام بأي مرحلة، لو كان هناك نظام لدافع عن نفسه، بل كانت هناك منظومة فساد ومافيا، رهنت مصالح البلاد لخدمة مآربها الشخصية، ولذلك سقطت بهذه السرعة”!
وفي محاولة للتملص من مواقفه السابقة التي شهدها العالم وعنوانها الدفاع المستميت عن النظام، قال الجعفري: “في الأمم المتحدة كنت ابتدعت كلمة بلادي ووطني، ولم أكن أذكر النظام أو رأسه، لأن بلادنا هي التي تجمعنا، وكان يوجَّه لي اللوم على ذلك”!
إثباتات معاكسة
وبدا وكأن الرجل الذي يقترب من السبعين، يريد دفن ماضيه الداعم للنظام بقوله إن “العاملين في السفارات والجامعات وغير ذلك هم بالنهاية موظفون، وهم غير مسؤولين عن أخطاء النظام السابق، ولا فائدة من صب جام الغضب على مؤسسات الدولة”. علما أن تدرج الجعفري في المناصب يقدم إثباتات معاكسة.
فبين عامي 1991-1994 عمل الرجل سكرتيرا أول ومستشارا في البعثة السورية الدائمة لدى الأمم المتحدة في نيويورك، ثم وزيرا مستشارا بالسفارة السورية في باريس 1997-1998، ثم وزيرا مفوضا وقائما بالأعمال في السفارة السورية بإندونيسيا ما بين 1998 و2002.
وفي العام ذاته تولى إدارة المنظمات الدولية بوزارة الخارجية السورية، وظل فيها حتى عُين مندوبا لبلاده لدى مقر الأمم المتحدة الأوروبي في جنيف عام 2004، إلى أن اختير عام 2006 مندوبا دائما لسوريا بمقر الأمم المتحدة المركزي بنيويورك، خلفا لفيصل المقداد الذي أصبح وزيرا للخارجية، ثم نائبا للرئيس.
وفي إطار سعيه للتبرؤ من ماضيه بتصوير نفسه على أنه مجرد موظف ينفذ أوامر النظام، قال الجعفري “كلنا الآن فرحون بالتغيير، ولا نريد أي تشويش على ذلك.. كنا نعرف أنه كان هناك خطأ.. لكن هناك أناسا مسؤولين عنه، وآخرين لا علاقة لهم به”!
كما حاول استغلال توجه نظام الحكم الجديد نحو المصالحة قائلا “سوريا تحتاج إلى كل أبنائها، وآلية الحوار الوطني ناجعة، لأنها تضم كل مكونات المجتمع السوري، ومهمته النجاح بإيصال سوريا من حكومة انتقالية إلى حكومة تمثل كل السوريين”.
ورغم تجاهل الإدارة الانتقالية في دمشق لموقف الجعفري المستجد، فإن آراء السوريين -الذين عاشوا ويلات النظام، ويعرفون دور الجعفري كأحد أذرعه في الخارج- عكست غضبا ورفضا لأي دور للدبلوماسي “التائب”، في عهد ما بعد الأسد.
ووصف ناشطون مناوئون لنظام الأسد ما أقدم عليه الجعفري بأنه “تكويعة الموسم”، حيث تشير كلمة “تكويعة” في اللهجة السورية الدارجة إلى التحول المفاجئ في المواقف من النقيض إلى النقيض
دليل إدانة
بل إن بعض الأصوات اعتبرت أن ما قاله الجعفري -الذي شغل منصب مندوب سوريا في الأمم المتحدة لنحو 16عاما- يمكن استغلاله في محاكمة رموز نظام الأسد، بما في ذلك الجعفري نفسه.
وفي هذا السياق قال محمد نور الموسى رئيس حزب بناء سوريا الديمقراطي وأحد معارضي النظام المنهار، في بيان على مواقع التواصل، “إن تصريحات الجعفري الحالية” تُعد اعترافًا ضمنيًّا بوجود جرائم هو نفسه قد ساهم في الدفاع عنها على المستوى الدولي، والأرشيف موجود لدى مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة”.
وأضاف “التصريحات الحالية للسفير الجعفري تحمل وزنًا قانونيًّا يمكن أن يُستخدم كدليل إضافي في أي تحقيقات دولية حول جرائم النظام السوري، باعتبارها شهادة من داخل النظام ذاته وصادرة عن مسؤول سابق رفيع المستوى”.
مجلة الشراع
يشار أيضا إلى أن الجعفري لم يكتف ببيان الانقلاب على نظام الأسد، بل واصل الإعراب عن تحوله ضد النظام بمقال نشره في موقع مجلة الشراع اللبنانية في 16 ديسمبر/كانون الأول الماضي، فقال مخاطبا بشار الأسد “بينما تنعم أنت وزوجتك وأولادك وحاشيتك بأجمل ما يتمنى الإنسان في بلدي… لا تطلب مددا حين تشتري سيدتك الأولى (سيدة الياسمين) آلاف العقارات والأراضي والمشاريع وتتشدق علينا بالصبر، والصمود بينما أقرباؤها يتملكون البلد.. لا تطلب المدد”!
ولفت الانتباه بشدة قوله “لما تكون الجبن والنذالة بدمك لدرجة الهروب بلا أي كلمة تعتذر فيها للشعب من أمهات الشهداء.. من جرحى الحرب اللي ياما باعت فيهم واشترت مدامتك على الشاشات وكبوهن بعد التصوير بدقيقة وكأنهم حشرات.. بلا أي تصريح اعف فيه الشعب اللي وقف معك من خبثك وتكبرك ومحورية الكون حولك وإنك الفيلسوف الوحيد اللي ما بيفهم.. إنك العروبي الوحيد والجبل العنيد والحصن العتيد.. لا تطلب المدد”!
عندما يصدر هذا الكلام عن الجعفري يبدو غريبا ومفاجئا، فطالما كال الرجل المديح لنظام الأسد، وحاول تصويره على أنه مظلوم يتعرض لمؤامرة دولية إقليمية، كما حاول وصم المعارضة المسلحة، والثورة الشعبية ضده بالإرهاب، وسبق أن هاجم رئيس الإدارة الانتقالية الحالي أحمد الشرع، ووصفه بالإرهابي.
كبير المفاوضين
علما بأن تولي الجعفري منصب مندوب سوريا الدائم في الأمم المتحدة تزامن مع وقوع النظام تحت ضغط اتهامه بالوقوف وراء اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، لكنه لم يشتهر إعلاميا في أروقة الأمم المتحدة إلا إثر اندلاع الثورة السورية ضد النظام منتصف مارس/آذار عام 2011.
وتمثل دوره في هذه الحقبة بتبرير فظائعه التي ارتكبها في حق قوى الثورة التي دأب على وصفها بأنها “جماعات إرهابية”، وهو ما أهله لأن يختاره هذا النظام ليكون “كبير المفاوضين” باسمه للمعارضة السورية في مؤتمر جنيف2 مطلع عام 2014.
وفي جولات التفاوض اللاحقة، أي في 2015 و2016 وخلال تلك المفاوضات، كان حريصا على توجهات النظام بألا تسفر عن أي اختراق في ظل المواقف المتصلبة له، وعدم الاعتراف بشرعية المعارضة وبحقيقة الثورة.
وفي إطار دفاعه عن نظام بشار الأسد؛ نفى الجعفري ارتكاب النظام أي مجازر أو انتهاكات لحقوق الإنسان في سوريا، ومن ذلك نفيه لقصف غوطة دمشق بالسلاح الكيميائي في صيف 2013.
كما أنكر وجود أي كارثة إنسانية في بلدة مضايا السورية التي تعرضت لمجاعة تم توثيقها إعلاميا بالصوت والصورة بسبب الحصار الطويل.
وقال الجعفري وقتها إن “الحكومة السورية لم ولن تمارس أي سياسة تجويع ضد شعبها”. وادعى أن “التنظيمات الإرهابية سطت على المساعدات الإنسانية التي أرسلت إلى المدنيين في المناطق التي تسيطر عليها”!
الجعفري التائب ومسألة استبداله
وعُرف الجعفري الذي يتقن 4 لغات هي الإنجليزية والفرنسية والفارسية بالإضافة إلى العربية بتصريحاته النارية؛ ففي 5 فبراير/شباط 2012 شن هجوما لاذعا على الأمم المتحدة وعلى دول الخليج العربي وشبكة الجزيرة بعد أن أجهض فيتو روسي وصيني مشروع قرار أوروبي -عربي لحل الأزمة السورية سلميا.
وطالت الحرب الكلامية التي كان يشنها الجعفري من على منبر الأمم المتحدة كبار المسؤولين في المنظمة الدولية، بما في ذلك الأمين العام السابق بان كي مون ومبعوثه الخاص إلى سوريا ستيفان دي ميستورا حيث اتهمها في غير ذي مرة بالانحياز لما وصفه بالجماعات المسلحة.
في جلسة لمجلس الأمن في الثاني من فبراير/شباط 2012 استشهد الجعفري بمقولة منسوبة لوزير العدل الأميركي الأسبق رمزي كلارك قال فيها بعد حرب الخليج الأولى “إن الأمم المتحدة التي خلقت لوقف الحروب صارت أداة للحرب”، ولطالما اتهم تركيا بما وصفه الرغبة في استعادة أمجادها العثمانية في الحديث عن دعمها للثورة السورية، ومن بلاغات الجعفري الشهيرة، وصفه مسلحي المعارضة السورية في جلسة لمجلس الأمن في أكتوبر/تشرين الأول عام 2016 بأنهم “إرهابيون معدلون وراثيا”
وفي الجلسة نفسها قال “كنت أحب أن أسأل مندوبة الولايات المتحدة الأميركية لماذا لم تفتح حكومة بلادها ممرا إنسانيا لإرهابي فلوريدا الذي ضرب الملهى الليلي فيها.. ولماذا لم يتم تزويده بالغذاء والدواء كي يستمر في إرهابه لدواع إنسانية.. ولماذا لم تقم الحكومة الفرنسية بتزويد الإرهابيين الذين هاجموا مسرح “باتاكلون” في باريس بالمواد الغذائية والإنسانية وفتح معبر لهم كي يخرجوا من باريس لدواع إنسانية؟!”.
وفي جلسة لمجلس الأمن في 7 سبتمبر/أيلول قال إن “سوريا تخوض حربا على الإرهاب نيابة عن العالم”، وسبق ذلك أن دخل سجالا مع عبد الله العليمي مندوب السعودية في الأمم المتحدة في 22 نوفمبر/تشرين الثاني عام 2015.
حيث استعرض قدراته البلاغية بتوجيه أبيات من الشعر له ردا على انتقاد العليمي لنظام الأسد:
أوليس يكفينا العراق وبؤسه…. لنسلّم الفيحاء للزعران
من باع للشيطان نخل عراقنا… هو من يبيع الشام للجرذان
لولا الخيانة من قبائل يعرب… ما كانت الغربان في بغدان
لا تنتظر من ضمير العرب قعقعة…. هذا الضمير بذبح الشام منشغل
يبقى العميل عميلاً لكلمات فلا…. تصدقوا أن ذيل الكلب ينعدل
لم يكتفِ الجعفري بالخطب النارية، فقد كان مزورا بامتياز، ففي جلسة لمجلس الأمن في 14 ديسمبر/كانون الأول عام 2016، عرض صورة لجندي جاث على ركبتيه وجعل من ظهره “سلما” لتمكين امرأة نازحة من النزول من شاحنة تقل عددا من النازحين.
لكن ناشطين سوريين أثبتوا زيف الصورة التي كانت تعود للحشد الشعبي العراقي قبل ذلك بنحو 6 أشهر، ضمن حملة لتكذيب الممارسات والانتهاكات الطائفية التي اتهم الحشد بارتكابها في الفلوجة.
وتماديا في إظهار مهاراته، دعا الجعفري كبير مفاوضي المعارضة السورية محمد علوش الذي وصفه بالإرهابي لحلق لحيته كشرط للجلوس معه في إطار المفاوضات التي جرت في مارس/آذار عام 2016.
وأضاف “لن تكون هناك محادثات مباشرة ما لم يسحب (علوش) تصريحه من التداول ويعتذر ويحلق لحيته”. ولم يكشف الجعفري عن فحوى ذلك التصريح الذي قصده، علما بأن الجعفري نفسه له لحية صغيرة!
مانهاتن
ولم يكن الجعفري الذي ندد بفساد نظام الأسد بعيدا عن هذا الفساد وشبهاته، فخلال وجوده في نيويورك ظل يسكن في منزل بضاحية مانهاتن كان مملوكا للرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون وتبلغ قيمته 4 ملايين جنيه إسترليني (5.8 ملايين دولار أميركي تقريبا)، في وقت كانت البلاد ترزح تحت نير حرب ضروس وفقر مدقع.
وفي سبتمبر/أيلول عام 2017 رفع الجعفري، قضية “ذم وتحقير” ضد الممثل مصطفى الخاني “النمس”، طليق ابنته يارا، والمعروف بشخصية “النمس” في المسلسل الشهير “باب الحارة”.
وكذب الجعفري منشور “النمس” الذي ألمح إلى اتهامه ونجله، بالخروج عن القانون، واختطاف أحد عناصر قوات الجيش السوري وتعذيبه، بعد أن طلب من نجل الجعفري إبراز هويته الشخصية، وفقا للخاني الذي كان قد نشر على مواقع التواصل صورا لأمير بشار الجعفري وهو يتعدى على أحد جنود الشرطة.
تثبت سيرة بشار الجعفري أنه كان نموذجا للموظف الماهر الذي باع نفسه لنظام، دون أن يفكر يوما أنه سينهار بهذه الطريقة، فكان أن قفز من قاربه الغارق، مدعيا أنه لم يكن ينتمي إليه.
لكن امتناع الحكام الجدد عن استبداله بعد شهرين على سقوط النظام يثير تساؤلا عما إذا كان مرتبطا بحساسية منصبه كسفير لسوريا في دولة تحتفظ بوجود عسكري في سوريا.
السفارات
حول ذلك يقول المحلل السوري وائل علوان “أعتقد أن الإدارة الجديدة تتدرج في التغيير وفي أولويات التغيير، لذلك لم يصل التغيير إلى السفارات وإلى الممثلين الخارجيين”. ويضيف “هناك ربما فترة تحتاجها الإدارة الجديدة لكي تصل إلى تغيير البعثات الدبلوماسية والسفراء”.
ويستدرك علوان “لا يحمل موضوع ترك بشار الجعفري في موقعه خصوصية موسكو وروسيا ودورها وقواعدها الموجودة في سوريا. أعتقد مثلاً أن حساسية السعودية بالنسبة للإدارة الجديدة أعلى، ومع ذلك بقي أيمن سوسان الموالي للنظام بشكل كامل والذي كان له دور في السياسات الخارجية للنظام بشكل كبير كونه كان مساعد وزير الخارجية”.
ويختم قائلا “أعتقد أن الملف كاملاً لم تقترب منه بعد الإدارة الجديدة في عملية التغيير لأسباب، منها ترتيب هذا الملف ضمن أولويات المرحلة”.
إعداد: علي حافظ
————————————–
«علي بابا»: الحرامي الذي حكم سوريا عشرين عاما… وامرأته حمّالةُ الذهب!/ أنور القاسم
تحديث 29 كانون الثاني 2025
كشف الإعلامي سامي كليب في حلقته الأخيرة على أثير قناة «الغد» عن مذكرتي توقيف بحق الرئيس الهارب بشار الأسد من قبل السلطات الفرنسية، لم تستجب لهما موسكو حتى الآن.
في الوقت نفسه دعا خبراء في بريطانيا هذا الأسبوع الى تسليم سوريا الأصول المجمدة للرئيس المخلوع. الأولى الآن أن تكون هناك مذكرة رسمية سورية باسم الشعب والقيادة المؤقتة بتسليم رأس النظام، الذي نهب وتاجر بكل ثروات هذه البلاد، وبأرواح السوريين وأرزاقهم، ماضيهم ومستقبلهم.
التحقيقات يجب أن تبدأ فورا في كل دول العالم لتقدير حجم المنهوبات، فنحن بحاجة لمجهود دولي لحصرها والبلاد متأهبة لإعادة الإعمار وتضميد ملايين الجراح الاجتماعية والاقتصادية، التي قد تستغرق عقودا.
هذه الثروات جمعتها هذه الأسرة بشكل خبيث على مدار نصف قرن واستطاعت أن تحفظها بأصول نقدية أو عقارية أو استثمارية أو صناديق سيادية، وغيرها عربيا وإقليميا ودوليا.
فوفق إحصاءٍ لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية صادر في 2023، فإنّ 90 في المئة من السوريين يعيشون تحت خط الفقر.
وتقول صحيفة «ستريت جورنال» إن استثمارات هذه العائلة على مدار نصف قرن من الأب الديكتاتوري المستبد الى دراكيولا الابن، الذي كان يتغذى على دماء السوريين وأموالهم، استخدم الأقارب لاستثمار الأموال المهربة، وأغلب أفراد العائلة لديهم ثروات مهولة، وليس بعيدا اتهام محكمة فرنسية لرفعت الجزار بغسيل أموال بمئات الملايين وحكم عليه ثم اختفى وهرب لسوريا. فيما «جاهدت» حكومة القائد البعثي «المناضل» حافظ الأسد لاسترجاع 13 مليار دولار في منتصف التسعينيات من بنوك سويسرا، كانت موضوعة باسم نجله المتوفى باسل، وهي ريع بيع ونهب النفط السوري.
اندرو تابلر، المسؤول السابق في البيت الأبيض قال إن عملية البحث عن ممتلكات النظام في دول العالم ستحتاج وقتا، والسبب أن النظام كان لديه الوقت الكافي لإخفاء المسروقات، وبالتالي فأسرة الأسد كانت جاهزة ومستعدة تماما لهذا الفرار، لهذا كانت أمورهم منظمة في روسيا وروسيا البيضاء ورومانيا، والسؤال ما هي مصادر المسروقات وهذه المبالغ الكبيرة التي كانت سببا في ثراء عائلة «الوحش» كلها، رغم العقوبات التي كانت مفروضة على النظام بعد عام 2011؟
أسكوبار الشام
لا يخفى على أحد أن الأسد اعتمد على مصادر قذرة ومشبوهة لتجميع الثروات وتهريبها، فالى تجارة المخدرات، التي كانت دولة ضمن دولة، ويقودها «أسكوبار» الشام، والتي كان مسؤولا عنها بشكل رسمي ماهر الأسد، وكان يحقق ربحا سنويا بحوالي إثنين ونصف مليار دولار في المتوسط، وكان يشرف بنفسه على كل المعامل التي تصنع وتصدر وتهرب هذه المخدرات ويديرها أفراد من عائلة الأسد في اللاذقية وطرطوس.
وتكشف منظمات ومسؤولون أمريكيون أن بشار يملك عقارات كبيرة وفنادق فاخرة في روسيا وأوروبا، مع عدد كبير من الفنادق الفارهة في فيينا سويسرا وبعض الدول الأوروبية.
وفي لندن هنا لديه قصر قيمته حوالي 30 مليون دولار في حي ماي فير الراقي في لندن، وهناك أمر بتجميد أصوله.
لم يكتف دراكيولا المال بذلك، فحسب «فايننشيال تايمز» فإن بشار حول 250 مليون دولار لموسكو خلال سنة 2019 فقط، في واحدة من السنين التي كانت سوريا تعاني نقصا حادا في العملة الأجنبية، وإذا كانت هذه العائلة أخرجت في سنة واحدة عجفاء هذا المبلغ، فماذا عن باقي 53 سنة كم أخرجت على أيدي أفرادها؟ وهذه الأموال كانت تزان وترسل أوراق الدولارات النقدية بالأطنان الورقية من فئة مئة دولار و500 يورو، حسب المصرف المركزي السوري.
وتعتبر روسيا ملجأ هذه الأموال منذ 2011 السنة التي فرضت دول الغرب العقوبات على هذا اللا نظام. هذا الذي كان يمهد لمصيره وحياته الجديدة في روسيا بعد الهرب، اشترت عائلته في موسكو 20 شقة فاخرة جدا ومميزة، حسب تقرير لـ»الفايننشيال تايمز» عام 19.
وخلال الحرب الأهلية التي خلقها وقادها هذا النظام كانت زوجته أسماء الأسد بدورها تشتري الشقق والعقارات في روسيا وغيرها عن طريق شركات كبيرة ووسطاء، في دبي ولندن، عدا الحسابات المصرفية السرية والتي لا يعرف عددها حتى الآن، وحسب مصادر بريطانية جمدت السلطات البريطانية بعص الحسابات تصل الى 50 مليون دولار في فرع لندن للبنك الدولي «أتش أس بي سي».
وهناك 200 طن من الذهب تسيطر عليها هذه الأسرة، وتصل قيمتها 22 مليار دولار. والقيمة الاجمالية للمنهوبات تقدر حتى الآن بـ 122 مليار دولار.
المفاجأة المرعبة هنا أن النظام لم يكن متورطا رسميا بسرقة المال والذهب وتجارة المخدرات فقط، بل وكذلك أقذر تجارة في التاريخ البشري، وهي الاتجار بالبشر أو بيع الأعضاء البشرية الخاصة بالسوريين، وحسب تصريح لأحد الأطباء الذين عملوا مع النظام في دمشق قال إن المساجين والمعتقلين الذين كانت تسوء حالتهم في سجون النظام كانوا يُحالون للمشافي العسكرية، وتتم لهم عمليات جراحية يجري فيها استئصال أعضائهم كقطع غيار لتباع بعد ذلك بأسعار خرافية!
وليس المساجين وحدهم من كانوا الضحايا فقط، فوقت الحصار المميت الذي فرضه النظام على بعض المدن في سوريا كان يساوم المرضى على الخروج شرط تقديم أعضاء، مثل الكلية أو قرنية العين، وقد تشكلت المافيات المسؤولة عن تجارة الأعضاء رسميا بعد عام 2011 في إدارة الخدمات العسكرية في إدارة مشفى تشرين العسكري ومستشفى حرستا ومستشفى المزة، كما كانت الجثث تباع للتدريب الطبي كذلك.
وفي مقابلة حديثة مع مروان العش، رئيس مجلس المعتقلين السوريين كشف عن عمليات تجارة الأعضاء وسرقة الكلى، بدءا من تجارة الجلد البشري، مرورا ببيع جثث المعتقلين في السجون والتجارة في لحم السوريين ودمائهم!
ولا ننسى فرع السرقة والنهب في العائلة غير الكريمة رامي مخلوف، ابن محمد مخلوف، المسؤول عن نهب المصرف العقاري بتكليف من حافظ الأسد، ثم بشار، ويأتي مخلوف في المركز الثاني بعد بشار الأسد، وهو الذي يملك الإمبراطورية المالية المعلنة، والتي تملك شركة «سيريا تل» للاتصالات ومعها «شام القابضة» و»راماك للاستثمار» و»راماك للمشاريع التنموية» وغيرها الكثير من الشركات الأصغر. ولم يكن مسموحا لأي شركة عالمية أو محلية في كل سوريا إلا وكان يحصل منها على نسبة له ولبشار شخصيا، وكانا مثالا لتزاوج السلطة برأس المال القذر.
وقد أقامت الخزانة الأمريكية ستارا اقتصاديا لنظام بشار في 2011 بوضع عدد من الشركات التي يملكها رامي على لائحة العقوبات بتهمة تورطه بصفقات فساد تتجاوز عشرات المليارات، ورامي الذي حاول أخذ الجنسية النمساوية برأس مال تجاوز عدة مليارات، يتم الآن اكتشاف مئات المصادر المخبأة له والأسهم والعمل جار على حصر لأصول جديدة.
يجب أن يعلم السوريون الآن كيف تم تهريب هذه الثروات؟ ومن ساعد في تسهيل هذه العملية؟ التي تعتبر واحدة من أكبر عمليات السلب المنظم التي شهدتها المنطقة في العصر الحديث.
ووفقا لتقرير قدّرت الاستخبارات البريطانية «أم أي 6» أن ثروة الأسد تصل إلى 200 طن من الذهب، و16 مليار دولار، و5 مليارات يورو، أي ما يساوي ميزانية سوريا لسبع سنوات، وفق بيانات عام 2023.
سيدة الصرامي!
والطامة الكبرى إذا كان هذا المخلوع والغا بدماء وثروات السوريين، فما الذي يجعل زوجته التي تربت في المملكة المتحدة وتعلمت في مدارس لندن الراقية، تصبح جابية وخازنة وشريكة كاملة بسرقة ثروات السوريين؟ فقد بدأت – بمجرد زواجها منه – بما تحبه غالبية النساء عادةً، أي بشراء الملابس والأحذية والحقائب والمجوهرات الباهظة السعر الموقّعة من مصمّمين عالميين. تشهدُ على ذلك عشرات علب المصاغ الفارغة التي عُثر عليها في القصر المهجور.
وبعد سيطرتها على جزء من مسروقات رامي مخلوف ووضع أموال السوريين كلهم في بطاقتها الذكية، انتقلت إلى مستوىً آخر من التسوّق، فباتت تُنفق مئات آلاف الدولارات على الأثاث والديكور المنزلي الفاخر، وعلى التُّحَف النادرة.
أنيسة السيدة الأولى «القديمة» والدة الرئيس الابن، كانت مغرمة بالألماس من احتكار بيع الدخان عبر مؤسسة التبغ السورية و«الجديدة» بالأحذية.
وبينما كانت الحرب مشتعلة في البلاد، سرّبت وثائق «ويكيليكس» أنّ السيّدة المولعة بالبذخ، اشترت حذاءً مرصّعاً بالكريستال بقيمة 7 آلاف دولار، وأنفقت 350 ألف دولار على ديكور قصور العائلة.
وفي الوقت الذي كان الأطفال السوريون يموتون جوعا وفقرا ومن البرد وقلة الدواء كانت «السيدة الأولى» حمّالة الذهب!
ويبدو أن ماتيلدا ماركوس السورية، سيدة الأحذية ذهبت برائحة الياسمين وحلت مكانها رائحة الصرامي!
٭ كاتب من أسرة «القدس العربي»
————————–
ملاحظات سريعة عن التغييرات في ملامح الشرق الأوسط/ موفق نيربية
تحديث 29 كانون الثاني 2025
جاء دونالد ترامب، ووصلت معه في الساعة الأولى لولايته عاصفة كبرى في العلاقات الداخلية للولايات المتحدة، وأخرى على العلاقات الدولية، أراد منها أن يتخفّف بلده من أعباء الشرق الأوسط الملحّة، قبل وصوله عملياً، ليستخلص الأضواء لنفسه وللميادين التي يراها أكثر أهميّة وإلحاحاً. لا يمكن الإحاطة بالفيلم المقبل وحبكته بعد، لذلك يبدو مفيداً محاولة فهم أجزائه أولّاً بأول، التي هي موضوع هذا المقال: أعني الشرق الأوسط وديناميكيّته الراهنة، وتلمّس ملامحها الأوليّة، أو لعلّها ملامح ملامحها.
لم يستطع أحدٌ تحديد ما قصده ترامب المعروف أساساً بإطلاق الكلمات جزافاً، حين ذكر «أبواب الجحيم» وفتحها على من يتلكّأ بالدخول في تهدئة حرب غزة، حتى لا تشوّش على احتفالات تنصيبه رئيساً، وصدمة قراراته منذ يومه الأول.
وكانت تلك الحرب آخر ما طرأ على هذا الشرق، ابتداءً من» طوفان الأقصى»، الذي أرادت حماس به تغيير « الستاتيكو» القائم، ذهاباً نحو عمق القضية الفلسطينية وتاريخها، وقد فعلت بالنتيجة، ولكن ليس بالاتّجاه الذي أرادته، أو تحدّثت عنه.
ما حدث بالفعل هو أن غزّة دُمّرت، وتحتاج كما يُقال إلى خمسة عشر عاماً حتى تعود، وليس معروفاً مدى بؤس شعبها في هذه الفترة، حتى لو قُيّضت له «إدارة رشيدة». ذلك سيكون أفضل ما يمكن، ويمكن ألّا يكون، لأنّ هنالك ترتيباً مختلفاً لأولويات الذين تسبّبوا بما حدث للقطاع: حكومة إسرائيل وقيادة حماس، وحتى السلطة الفلسطينية. من الناحية الاستراتيجية، أبعدت إسرائيل – نتنياهو احتمالات حلّ الدولتين، والأخير يقول إنه لن يقبل بذلك حتى يكون مضموناً أن الدولة الفلسطينية سوف تكون منزوعة السلاح تماماً. ويمكن التنبّؤ بأن الطريق إلى ذلك قد ابتعدت، مع إلغاء ترامب للعقوبات التي فرضتها إدارة بايدن على أكثر مستوطنيّ الضفة الغربية توحّشاً. إذا كان هنالك أيّ حلّ سوف يلوح قريباً فهو الحلّ الذي يتطلبّه مسار الاتفاقات الإبراهيمية، لأن اندماج السعودية في ما يراد للشرق الأوسط أن يبلغه، قد أصبح في مكان متقدّم لدى الولايات المتحدة، مع إنجاز معظم «التفاصيل»، لكنّ رضاها يبدو الآن مستحيلاً من دون تهدئة الخاطر الفلسطيني، شكلاً أو مضموناً.
في لبنان، أنهى انتخاب قائد الجيش جوزيف عون بدعم خارجي، ثم تكليف نواف سلام برئاسة الوزراء بانتفاضة لبنانية كان طليعتها نواب ثورة 17 أكتوبر، مرحلةً طويلة من هيمنة حزب الله على الحكم والدولة تحت التهديد والترهيب الدائمين، بالتنسيق مع نظام الأسد وتحت إمرة الوليّ الفقيه، وفي غرفة عمليّات مع فيلق القدس والحرس الثوري الإيراني، إضافة إلى احتكار حق التكلّم باسم الشيعة اللبنانيين مع انضواء حركة أمل تحت جناحه في تحالف مصالح متبادلة.
بالطبع لم يكن ذلك ممكناً، لولا تحجيم إسرائيل لحزب الله بشكل كبير واستكمال ذلك بضغوط فرنسا والولايات المتحدة، ضمن أجواء تراجع إيران إلى أراضيها عموماً وانكفائها بعد عصر عاصف من تصدير الثورة، استفحل في شكله «محور المقاومة». المهم في ذلك ما حقّقه لبنان من إقلاع لورشة تغيير شاملة من الوارد نجاحها، لتعطي مثالاً مهمّاً على هزيمة تنجب انتصاراً، وتعيد لبيروت شيئاً من ألقها وإشعاعها، شيئاً غير معروف المدى بعد، لكنه أضاف للتغيير العاصف في المنطقة بعض الهواء النقي، الذي قد يساعده على مسيرته الصعبة. نجاح عملية تشكيل الحكومة بشكل يعكس ذلك التغيير والأفق الجديدين، يمكن أن يمهّد لتكريس تلك العملية ونجاة لبنان، بعد نجاة معظم جسم حزب الله وبقائه تهديداً ملتبساً بأيام أخرى من نوع 7 مايو.
يبقى أن التغيير العنيف من حيث الشكل والسلميّة والسرعةً كان في سوريا، مع زحف هيئة تحرير الشام من إدلب وسقوط الفوج 46 قرب قرية أورم الصغرى، إلى حلب، ودخولها هنيئاً مريئاً، ثم تعقيد الأمور ليومين أو ثلاثة أيام عند جبل الأربعين قبل حماة، فحماة ثم حمص ودمشق من دون مقاومة حقيقية على الإطلاق، بانحلال الجيش وأجهزة أمن النظام السابق وفرار قادته.
فوجئت هيئة تحرير الشام بحجم ونوع المهام التي يفترضها وقوع السلطة والدولة على أيديها كالسقوط الحر، مع تركيبتها المعروفة ذات التقاليد والعقائد الأقرب إلى الانغلاق بطبيعتها. وكانت قد تحوّلت كما يبدو عن كونها منظمة إرهابية منحدرة من «داعش» و»القاعدة» و»النصرة»، إلى منظمة تحاول التكيّف ما استطاعت، بقيادة قائدها الذي كشف عن اسمه وهجر «اليونيفورم» القديم. وهي رغم فاعليّتها الكبيرة المتميّزة عسكرياً، منظّمة محدودة لا تُقارن بما لدى النظام، ومشكوك بأهليّتها لما تتنطّح له، ما لم تدخل في برنامج انتقال سياسي متقدّم وتقتنع بالمشاركة، وتأخذ بما يقدْم إليها من نصائح داخلية وخارجية.
ولأنّها تقاوم ذلك حتى الآن عملياً، فقد واجهت وتواجه مشاكل لا تُحصى، في الوقت الذي تتعرّض به لأسئلة ومسائل كبرى، وأوّلها سؤال قواعد الحكم أو الأساس الدستوري: فهي لا تستطيع اعتماد دستور الأسد، حتّى لو عطّلت بعض مواده، ولن يكون ممكناً اعتمادها على مؤتمر وطني – أو تأسيسي- حتى لو صاغته على قياسها، كما يبدو حتى الآن، ما دامت ترفض وتتهرّب من استحقاق تمثيل القوى ذات العلاقة بالسياسة والمعارضة، وتستمرّ بدعوتهم إليها كأفراد، على طريقة النظام الذي كان نصيبها أن أسقطته، أو ذكّرته بأن يسقط وينتهي.
انتهى الائتلاف الوطني في أيام ازدهاره النسبي إلى تقريظ دستور 1950 وضرورة اعتماده مؤقتاً قبل أية مرحلة انتقالية، ويعود الآن هذا الاقتراح إلى الحياة، من دون صدى لدى الحكام الجدد. إن اعتماد ذلك الدستور كآخر مستند قانوني للدولة قبل الانقلابات عليه، يحمل شرعية ما، تكفي في الظروف الراهنة، بينما تخفي محاولة وضع إعلان دستوري، أو مبادئ يصدرها مؤتمر ملتبس التكوين، نيّة غير صحية للاستبداد بالأمر، أو إغراقاً في نزاعات خانقة في غير أوانها ولا يريدها أحد.
وليس هنالك من وقت لصراعات جديدة، تُضاف إلى مشاكل الأمن والاستقرار، وقضايا استعادة وحدة سوريا المصيرية. ففي الشمال الغربي تتشبّث تركيا بالأرض وبحربها لاستكمال هندستها ديموغرافياً، بل ربّما أكثر من ذلك كما توحي تصريحات الزعامات السياسية هناك. تستهدف تلك السياسات نفسها الضغطَ على الشمال الشرقي ومناطق الإدارة الذاتية التي تتمتّع بدعم أمريكي وغربي، وبقوات كبيرة نسبياً ومدرّبة وقادرة، إلى جانب بنية إدارية متماسكة، رغم كلّ الملاحظات عليها، وما يحدث هو أنها تعرض مبدأ التسويات مع دمشق وأنقرة بوساطات أمريكية، ويقابلها التصلّب والتهديد حتى الآن.. بانتظار انتصار مبدأ المصالحة والتوافق والتنازلات وتبديد الهواجس بين كلّ الأطراف.
تلك فجوات في وحدة البلاد وسيادتها ينبغي ردمها أصولاً، وهي ليست وحيدة، بل يدعمها وجود ابتعاد نسبي ما بين المركز والسويداء، وبينه وبين درعا، وكذلك بينه وبين السيطرة في البادية السورية بوجود خلايا داعش. (وبمناسبة الحديث عن داعش وأخواتها، يبدو أن هنالك أطرافاً متفرّقة في غزّة وسوريا أكثر حرصاً من «إدارتيهما» على تفجير قنابل موقوتة على أحلام أكثر تطرّفاً ودموية. وذلك طبيعي، ما دامت الإدارتان لا تتركان تلك الأطراف سائبة لتقوم بالمهام الأكثر إشكاليةً وفضيحة).
كانت التغييرات المذكورة كلّها- ومعها ما يجري للتغيير الخاصّ بالعراق- جزءاً من هزيمة محور الممانعة على يد إسرائيل، ولكن برضا لا يريد أي شعب أن يعترف به مباشرة، ولا أية حكومة أو سلطة في الإقليم كلّه. إن حماس وحزب الله ونظام الأسد والجناح الإيراني من الحشد الشعبي العراقي كلّها في طرف واحد كانت إيران وروسيا وراءه، لم تستطع نداءات التحرير والمقاومة والقضية الفلسطينية والعداء للإمبريالية أن تسعفه للمرة الأولى في التاريخ العربي الحديث. ذلك تغيير أيضاً، لا ولن يعني تغييراً في الحقوق الوطنية والإنسانية أو تخلّياً عنها.. بل هو حالة وعي جديدة، ليس هنا مكان مناقشتها، والدرس الذي تعطيه السياسات التركية والقطرية بذلك جدير بالتأمّل، على الفرق بينهما. تدأب السلطة السورية الجديدة على تكرار كونها «لا تشكّل خطراً على أيّ من دول جوارها، بما فيها إسرائيل»، على الرغم من تعدّيات الأخيرة الفاضحة الواضحة وبوادر نواياها للتوسّع في احتلالها. إنّ في ذلك الدأب حكمة كما يبدو، رغم الملاحظات عليه أيضاً وعلى غموضه!
لقد سئم العالم استنقاع الأحوال في هذه المنطقة، وملّ من ذلك أبناؤها أيضاً، لذلك يبدأ» التغيير» بمثل تلك السلاسة الغريبة.. من دون ضمانات موثوقة!
كاتب سوري
القدس العربي
—————————-
هل ينجح أحمد الشرع في تحرير ودائع السوريين في المصارف اللبنانية؟/ هلا نهاد نصرالدين
29.01.2025
ما مصير الودائع السورية في المصارف اللبنانية؟ لا بل ما مصير الودائع كلها في المصارف اللبنانية، مع كل المتغيرات المحلية والإقليمية المختلفة في لبنان وسوريا والمنطقة؟ لم تُجب المصارف اللبنانية التي تواصل معها فريق “درج”، عن أسئلته حول نسبة الودائع السورية في المصارف اللبنانية ومصيرها.
في عام 2012، وجد المواطن السوري فادي زيدان بلبنان طوق نجاة، ليس فقط لأمواله، بل لحياته أيضاً. مع تدهور الأوضاع في سوريا وكونه ملاحقاً هناك، لم يكن أمامه سوى خيار الهروب إلى لبنان، فقرر بيع شقة العائلة في حي المزة فيلات غربية في دمشق، وإيداع ثمنها البالغ 230,000 دولار أميركي كوديعة في بنك بيبلوس اللبناني.
لكن ما بدا ملاذاً آمناً تحول إلى مأساة مالية. في تموز/ يوليو 2019، ومع تصاعد الأخبار عن أزمة المصارف اللبنانية وصعوبة سحب الأموال، حاول زيدان استعادة وديعته، إلا أن البنك رفض كسر موعد استحقاق الوديعة، وهو في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام نفسه. وبعدها بأشهر، انهار القطاع المصرفي اللبناني بالكامل، وأصبحت أموال زيدان مجمدة بلا أمل واضح باستردادها.
ما مصير الودائع السورية في المصارف اللبنانية؟ لا بل ما مصير الودائع كلها في المصارف اللبنانية، مع كل المتغيرات المحلية والإقليمية المختلفة في لبنان وسوريا والمنطقة؟ لم تُجب المصارف اللبنانية التي تواصل معها فريق “درج”، عن أسئلته حول نسبة الودائع السورية في المصارف اللبنانية ومصيرها.
أرسل “درج” أسئلة إلى كل من مصرف لبنان المركزي ومصرف سوريا المركزي، ولكن لم يصلنا أي رد حتى لحظة النشر. كما حاول التواصل مع نحو 15 مصرفاً محلياً، بينما اعتذرت مصارف مثل بنك بيروت وبنكي بيبلوس وعودة، بسبب السرية المصرفية، لم تتجاوب مصارف أخرى مثل فرنسبنك وفينيسيا وغيرهما.
تطرّق الرئيس اللبناني الجديد جوزاف عون في خطاب قسمه إلى الودائع، ووعد بإعادتها، كما تحدّث عن ذلك حاكم المصرف المركزي، إلا أن الضغط الأبرز في هذا المجال جاء من قائد المرحلة الانتقالية في سوريا أحمد الشرع، الذي استقبل يوم السبت في 11 كانون الثاني/ يناير 2025، رئيس حكومة تصريف الأعمال في لبنان نجيب ميقاتي، حيث شدّد على ضرورة إعادة الودائع.
أما من الجانب السوري، فأمر المصرف المركزي السوري البنوك التجارية، بتجميد الحسابات المرتبطة بالأفراد والشركات التابعة للنظام السابق للرئيس السابق بشار الأسد، وفقاً لوثيقة اطّلعت عليها وكالة “رويترز“. إلا أن أحد المصرفيين قال ل”رويترز” إن تنفيذ هذا التعميم قد يكون صعباً، نظراً لأن الكثير من رجال الأعمال المرتبطين بالنظام السابق، أنشأوا حسابات بأسماء أشخاص آخرين، أو استخدموا شركات واجهة.
ما قيمة الودائع السورية في لبنان؟
تشير المعلومات إلى ربط الشرع قضية عودة اللاجئين السوريين من لبنان إلى سوريا، بقضية الإفراج عن ودائع السوريين العالقة في المصارف اللبنانية، منذ بدء الأزمة المصرفية في لبنان في تشرين الأول/ أكتوبر 2019 وإعادتها. أكد الشرع خلال المؤتمر الصحافي المشترك مع ميقاتي أن قضية الودائع من أولويات الإدارة السورية الجديدة، وشدّد على ضرورة حلّها لتعزيز العلاقات الاقتصادية بين البلدين، ودعا إلى تشكيل لجان مشتركة لدراسة الملف بشكل مفصل، واقتراح حلول عملية لاستعادة هذه الأموال، علماً أنه لا يوجد أرقام رسمية منشورة لقيمة ودائع السوريين في لبنان.
في هذا السياق، يقول الخبير الاقتصادي السوري والمستشار في البنك الدولي كرم الشعار: “في ما يتعلق بتقييم المبالغ، لا توجد لدينا أرقام دقيقة. وللأسف، هذا الأمر لم يتم التعامل معه بشفافية. الشفافية التي كان من المفترض أن تكون مسؤولية ليست فقط البنوك الخاصة، بل أيضاً البنك المركزي، الذي يُعتبر عملياً “بنك البنوك” والمسؤول عن تنظيم عملها. كان هناك تقصير كبير من قبل البنك المركزي في ما يتعلق بالشفافية”.
تحفّظ المصارف اللبنانية عن الردّ على أسئلة فريق “درج” يثير تساؤلات حول أسباب عدم رغبتها في الإفصاح عن أية معلومات حول الودائع السورية، التي منها ما قد يكون مرتبطاً بجماعة النظام السابق، علماً أن بعض رجال النظام السابق كانوا أعضاء في مجالس إدارة الفروع السورية للمصارف اللبنانية.
رجّح مصدر مصرفي سوري في أوروبا، فضّل عدم الكشف عن هويته، لموقع “درج” أن “حديث الشرع كان يتناول الودائع الكبيرة بشكل خاص، فلن تكون أولويته الودائع الصغيرة أو المتوسطة لصغار المودعين في لبنان، بل تلك التي يملكها كبار المودعين، وهو يحاول الضغط على الجانب اللبناني لإيجاد آلية مشتركة لإستعادة هذه الودائع”، مؤكداً أنه “حتى في حال اتفاق الشرع وميقاتي إلا أن قضية تحرير الودائع، خصوصاً تلك التي تخضع لعقوبات، سيتطلب اتفاقيات أكبر وأوسع من لبنان وسوريا”.
في عام 2020، قال رئيس النظام السوري السابق بشار الأسد إن عمق الأزمة السورية، ينبع من احتجاز المصارف اللبنانية ودائع السوريين، مقدّراً قيمة الودائع السورية في لبنان بين 20 و42 مليار دولار أميركي. كما ذكرت دراسة لعلي كنعان، الذي كان مشرف قسم البنوك والتأمين في جامعة دمشق، التي نشرتها صحيفة “الوطن” السورية الموالية للحكومة مطلع العام 2020، أن الودائع السورية في لبنان تتجاوز 25.4 في المئة من إجمالي الودائع في البنوك اللبنانية، التي تبلغ نحو 177 مليار دولار.
يعتبر الباحث الاقتصادي والكاتب السوري جهاد يازجي، في مقابلة لموقع “درج” أن هذا الرقم مبالغ فيه. في تحقيق سابق ل”درج” في العام 2020، شكّك مصرفي سوري في أوروبا بدقة هذه النسبة الضخمة التي ذكرها الأسد وكنعان سابقاً، مسلّطاً الضوء على مشكلات وثغرات متعلّقة بطريقة حساب هذه الودائع، منها أن بعض كبار المودعين سوريو الأصل، ولديهم الجنسية اللبنانية، وانتقلوا إلى لبنان منذ زمنٍ بعيد، وبعضهم الآخر يعمل من خلال وسطاء لبنانيين، أو عبر حسابات شركات أو غيرها.
أما سمير حمّود الرئيس السابق للجنة الرقابة على المصارف التابعة لمصرف لبنان، نقض في حديث صحافي تصريح الأسد والمعلومات عن قيمة ودائع السوريين في لبنان، التي قدرها بـ “نحو 6 في المئة من إجمالي الودائع، أي أنها لا تتجاوز 7 مليارات دولار”، مضيفاً أن “الجزء الأكبر من ودائع السوريين في المصارف اللبنانية يعود إلى أفراد لا علاقة لهم بالأعمال التجارية”، في حين لم ترد رئيسة اللجنة الحالية مايا دبّاغ على أسئلة “درج”.
يقول كرم الشعار، في مقابلة لـ “درج”: “حتى وإن كنا نتحدث عن مبلغ قدره عشرة مليارات دولار، فإن هذا الرقم سيكون له تأثير كبير على نمو الاقتصاد السوري. فعشرة مليارات دولار، تمثل تقريباً حجم الناتج المحلي الإجمالي لسوريا بالكامل… عند وضع هذا الرقم في سياقه، نجد أنه يعادل تقريباً خمسة أضعاف ما كانت تنفقه الحكومة السورية سنوياً، أو أربعة أضعاف حجم التحويلات المالية من الخارج إلى سوريا، وبالتالي، فإن هذا المبلغ يمكن أن يُحدث فرقاً كبيراً في دعم الاقتصاد السوري”.
فقد الكثير من السوريين مثل فادي زيدان قيمة ودائعهم، بعدما اعتمدوا لسنوات طويلة على المصارف اللبنانية، لتكون مستقراً لأموالهم التي كانوا يخشون من إيداعها في مصارف سورية.
في هذا السياق، يرى يازجي أن الموضوع سياسي بامتياز، ويأسف لأي محاولة لاستغلال اللاجئين، ويتساءل: “هل تستطيع الدولة اللبنانية فرض استرجاع جزء من الأموال على المصارف؟ الأمر يعتمد على طبيعة المفاوضات ومع من ستتم هذه المفاوضات. على سبيل المثال، هل سيكون للسوريين دور في هذه المفاوضات؟ وهل سيتم التمييز بين المقيم وغير المقيم أو بين اللبناني والأجنبي؟”، معتبراً أنه “إذا سمحت الظروف السياسية بذلك، قد يكون من الممكن فرض حجز على أموال بعض الشخصيات المرتبطة بالنظام السوري السابق، وربما كخطوة نحو بناء نظام سوري جديد، يمكن للدولة اللبنانية اتخاذ مبادرة بهذا الاتجاه”.
في مقابلة لموقع “درج”، تؤكّد المديرة التنفيذية لبنك الموارد نهلا خداج أبو دياب أن “تعاميم المصرف المركزي لا تميّز بين مودع لبناني وغير لبناني، وأن جميع المودعين يحق لهم الاستفادة من التعاميم، وعليه يجب إيجاد حلول لجميع الودائع على السواء”.
يصف المودع السوري فادي زيدان تعاميم مصرف لبنان بالمضحكة. فهو كان يقيم في السويد ووالدته تقيم في سوريا، وكان سيترتّب عليهم زيارة لبنان بشكل شهري للاستفادة من التعميم، الذي يعطيهم فتات أموالهم. اليوم، ومع عودة زيدان إلى سوريا، ما زالت أمواله عالقة في المصارف اللبنانية تشكّل عائقاً أمامه لبدء حياة في بلده الأم بعد طول انتظار.
أشاد زيدان بخطوة أحمد الشرع، ولكنه يعتقد أنها بلا جدوى، إذ إن الملف أكثر تعقيداً “والمصارف اللبنانية ستقوم باستثناء السوريين دون غيرهم من المودعين اللبنانيين أو العرب أو الأجانب”، فيما تمنى لو “ركّز الشرع على أموال رجال نظام بشار الأسد الموجودة في لبنان، ومحاولة تحويلها إلى حسابات باسم الدولة السورية”، معتبراً أن “ربط موضوع عودة اللاجئين بالودائع هو أمر مخزٍ”.
عن خلفية المصارف اللبنانية في سوريا
أشار تحقيق سابق لموقع “درج” أن 7 مصارف لبنانية كانت تساهم في السوق المصرفية السورية، وهي بنوك: سوريا والمهجر، وعودة، وبيبلوس، وبيمو، وفرنسبنك، والشرق، وسوريا والخليج.
وأول مصرف في لبنان افتتح شركة تابعة له (subsidiary) في سوريا، كان بنك لبنان والمهجر، في أواخر العام 2003، تحت اسم بنك سوريا والمهجر، برأسمال 4 مليارات ليرة سورية (88.89 مليون دولار بحسب سعر الصرف قبل الأزمة). بنك لبنان والمهجر كان المساهم الرئيس في المصرف بنسبة 49 في المئة.
أما أكبر مصرف لبناني في سوريا فكان بنك بيبلوس – سوريا، تأسس في عام 2005 برأسمال قدره 6.12 مليارات ليرة سورية (136 مليون دولار بحسب سعر الصرف قبل الأزمة). وهو يتبع لبنك بيبلوس اللبناني، الذي كان يملك منذ أواخر العام 2011، 52.37 في المئة من أسهمه، ليصبح المساهم الأكبر فيه. والجدير ذكره أن ابن خال بشار الأسد رجل الأعمال البارز رامي مخلوف، كان أيضاً مساهماً بـ 4.99 في المئة من أسهم المصرف قبل العام 2011، بعدما تمت إضافته إلى قائمة عقوبات الاتحاد الأوروبي في أيار/ مايو 2011، بسبب تمويل النظام. كما كان مساهماً في 5 مصارف لبنانية أخرى.
ثاني أكبر المصارف اللبنانية في سوريا، وفقاً لدراسة محلّل المخاطر السياسية والأمنية السوري رشاد القطّان في حزيران/ يونيو 2016، كان بنك عودة – سوريا برأسمال 5.72 مليار ليرة سورية (127.11 مليون دولار بحسب سعر الصرف قبل الأزمة). وأيضاً تأسس في عام 2005، وكان تابعاً لبنك عودة لبنان، امتلك البنك الأم حصة 41 في المئة من مصرفه التابع.
ثالث أكبر مصرف في سوريا كان فرنسبنك – سوريا، ويبلغ رأسماله 4.2 ملياري ليرة سورية (93.33 مليون دولار بحسب سعر الصرف قبل الأزمة) وتأسس في عام 2008 وكان يتبع لـفرنسبنك – لبنان، الذي امتلك 55.66 في المئة من أسهم فرنسبنك – سوريا. وفي آب/ أغسطس 2014، وفي ما يصفه القطّان بـ”خطوة غير مسبوقة”، اشترى بنك بيمو السعودي الفرنسي BBSF 4.23 في المئة من أسهم فرنسبنك – سوريا.
ولكن هذا الوضع اختلف بعد تدهور الأوضاع السياسية، وخرجت المصارف اللبنانية بشكل رسمي من سوريا.
درج
—————————————
مسؤولة البروباغندا السوريّة تسوّي أوضاعها: “خلص فهمنا!”/ عبد الدافش نكاشة
29.01.2025
يلتقي الكاتب السوري الساخر عبد الدافش نكاشة مع المديرة السابقة للبروباغندا في نظام الأسد فينوس جبّار، في حديث متخيّل عن دورها الجديد بعد سقوط نظام الأسد. خبر كاذب
كشفت المديرة السابقة للبروباغندا في نظام الأسد فينوس جبّار، عن استعدادها لتقديم اعتذار عن ماضيها الذي وصفته بـ”الإشكالي”، على شرط أن “يحلّ الناس عن طيزها” فيما بعد، وألا يفتح أحد فمه، وأن تستأنف دورها المحوري في بناء السلم الأهلي، وأن تحصل على وظيفة محترمة في مديرية البروباغندا المحررة الجديدة.
وأوضحت فينوس لـ”درج” أنها مستعدة لقول تلك الكلمة التي يستخدمها الناس للتعبير عن عدم موافقتهم على تصرف ما فعلوه سابقاً، وذلك في ما يتعلق بمشاركتها الهامشية مع النظام في تقديم صورة زاهية، للطريقة التي أدار بها الأسد ظهره لمطالب الشعب، وشرح الآلية التي تحوّل فيها بضعة ملايين فقط من السوريين، إلى جزء من مؤامرة كونية تهدف إلى تخريب النسيج الاجتماعي المتماسك لسوريا، الذي أثبتت الأيام؛ بسم الله ما شاء الله، مدى تماسكه، عدا انخراطها في بعض الملفات التافهة الأخرى، التي تكاد تكون منعدمة الأهمية كالفساد والمحسوبية وغيرها.
وأنكرت فينوس أن تكون قد أنكرت الهجمات الكيماوية، التي نفذها النظام السوري في الغوطة الشرقية وغيرها من المناطق، موضحة أنها استنكرت حينها وصف الهجمات بالكيماوي بشكل حصري، برغم أنها تضمنت جهداً فيزيائياً يعني.
واستطردت فينوس، طالما الكل عم يستطرد هالفترة، متسائلة: “هل يعقل وصف الهجمات بالكيماوية فقط، برغم أن الجنود قاموا بحمل الصواريخ وتجهيز المنصات وقيادة العربات وغيرها من العمليات الفيزيائية والبدنية؟ كنتُ منزعجة من الإجحاف بحق الفيزياء”، وأكدت أنها تعتذر من الأشخاص الذين أساءوا فهمها لأنهم “حمير قليلو فهم ولا يلقطون المعلومة على الطاير”.
ورداً على سؤال مراسل “درج”: كيف وصلتِ إلى هذا المنصب الحساس في نظام الأسد الذي كان معروفاً بأنه حساس في توزيع المناصب؟ أجابت فينوس أن “نظام الأسد كان أحياناً يمنح بعض المناصب لأشخاص معارضين جذريين من شاكلتها، كي يزعم أنه ديمقراطي”.
وأكدت فينوس أنها قدمت خدمات نبيلة شتى للمعارضة السورية أيام حكم الأسد، كالسماح لموظف مشكوك بمشاركة ابن عمه اللزم بمظاهرات ضد النظام، بتقاضي راتبه آخر الشهر، ومنح إجازة مفتوحة غير مدفوعة لموظف آخر بعد إصابته برصاص أحد قناصي النظام، بدلاً من فصله نهائياً من العمل، لأنه لم يمت وكلّف الجيش العربي السوري ثمن الرصاصة عالفاضي.
ونوهت فينوس بإمكانية استفادة سوريا الجديدة من خبراتها، وخبرات أمثالها وأقاربها من العاملين في حقل الإبداع السينمائي، وخاصة في ما يتعلق بالفكرة الإبداعية القائمة على تحويل بعض الأحياء والبلدات والقرى المدمرة عن بكرة أبيها، إلى ديكور مناسب لتصوير مشاهد الدمار في الأفلام والمسلسلات، لافتة إلى أن هذه الفكرة وفّرت على خزينة الدولة أموالاً طائلة، وعدداً من البراميل المتفجرة التي كان من الممكن أن تضيع سدى عبر إلقائها على مناطق غير مدمرة، كي تتحول إلى ركام وتصبح لائقة للتصوير.
يشار إلى أن فينوس جبّار منخرطة في سلسلة ندوات وورش عن السلم الأهلي وطلاء السجون وبناء السلام، على امتداد مجموعة من الفنادق والمقاهي في العاصمة السورية دمشق، من تنظيم نجم السلم الأهلي الأول زيتون الذئبي.
درج
—————————————–
عن السُّويداء أحكي/ نجاة عبد الصمد
29 يناير 2025
عن السُّويداء أحكي، عن ندوةٍ أدبية قدّمتُها بعد حوالي شهرٍ من تحرير البلاد، وبرد كانون، وجميع الخدمات في أسوأ حالاتها، والخلافات بين عديد التيارات السياسية في أوجها؛ هل سيتسّع هذا الحال لندوةٍ أدبية؟
كانت هذه أسئلتي بعد دعوة من “الهيئة الاجتماعية للعمل الوطني”، وهي المبادرة التي انطلقت مع أول سنوات الثورة، وانتمتْ إليها صفوةٌ من المشتغلين بالشأن السياسي والثقافي، حين كان أيّ حراك يُكلّف صاحبه الاعتقال أو التغييب، هذا غير فقدانه لحاضنته التي كانت أكثريّتها ضدّ الثورة. والمكان في مقرّ “منظّمة جذور” المشتغلة في الفنّ والثقافة، والتي سبق أن أُغلقت أكثر من مرّة بسبب القمع، وكان إغلاقها الأخير من القائمين عليها لغياب الخدمات اللازمة. ليعود السؤال: هل للثقافة مكانٌ وسط هذا الحال؟
الثقافة بتعريف ابن خلدون هي “الدراية الجيّدة بكلّ ما يتعلّق بمجالٍ ما فكراً وممارسة”. هي الدراية إذاً؛ تنمية الذوق والعقل بأنشطةٍ تُغذّي الحاجات الروحيّة للإنسان، وهي بهذا المعنى نتاجٌ اجتماعيّ ومُلْكيّةٌ اجتماعية، تتنامى من خلال عملية التعلّم والعمل على تطوير الإبداع وتناقله من جيلٍ إلى جيل عن طريق اللغة.
وإن كان البشر غير مُخيَّرين في مكان ولادتهم، ولا إلى مَن ينتمون، ولا فيمَن سيُربّيهم صغاراً. لكنّهم يكبرون ويصبحون أنفسهم فقط فيما أنجزوه من تعليم وما اختاروه لسلوكهم الإنسانيّ، وأيّ تأثيرٍ وأثر يريدون لحياتهم أن تصنعه وتتركه خلفهم بعد أن يرحلوا.
أنا أَدينُ للثقافة بما أنا عليه. ولغتي حامل ثقافتي، تُبقي أفكاري حيّةً حين تضيق بي أسباب الحياة. هكذا تابعتُ أفكّر وأنا أرى الصالة الكبيرة تغصّ بالحاضرين، جالسين وواقفين، ولا تدفئة فيها ولا هي مُجهَّزةٌ حتى بميكروفون أو طاولةٍ يجلس إليها الضيف المُحاضِر ومُقدِّم الندوة.
كانت عُدّتي هي النَّصّ الذي تعِبتُ في اختياره للقراءة أمام جمهورٍ ذوّاق، أهابُه أكثر من نقّاد مختصّين وحصيفين، جاء بدوره بعُدّة الحماس والشغف للاستماع، ولن يرحمني إن لم يكن نَصِّي على قدر تطلُّعاته. وقد يشفع لي أمامه أنني أفنيتُ سنوات عمري، غير نادمة، في الاشتغال على نفسي على أمل أن أكون أهلاً لها.
يحتشد أمامي جَمْعٌ من بنات وأبناء البلد، أساتذتي ومعلّماتي وأصدقائي وأقاربي، وهؤلاء يعرفونني منذ كنتُ طفلةً يتوارى طموحها واجتهادها خلف خجلها الطاغي. ومن عرفك صغيراً لن يوقّرك كبيراً إلّا إذا أدهشته. وسواهم كثيرون هُم أكثر من أهتمُّ بهم، ممّن يعرفونني ولا أعرفهم، جيل الشباب الذي كبر والبلاد في حرب، قرؤوا كُتبي التي نشرتها كلّها خارج سورية وعرفَت طريقها إليها من تحت الطاولات، نلتقي كلّنا للمرّة الأُولى بعد غيابي الأخير الطويل عن البلاد، وجهاً لوجه. كان امتحاني أمامهم بأن يسمعوا منّي ما يُحاكي آلامهم وآمالهم على السواء، الشبيهة بآلام وآمال الإنسان أينما كان.
فاخترتُ قراءة نَصٍّ حول قضايا الكتابة في نبذ الظلم والانتصار لحُرّية الإنسان، وقضايا الأُسرة والتعليم وكيف للرواية أن تطرحها وتُحدث أثرها البطيء إنما المستدام.
أكثر من ساعةٍ وأنا أقرأ لا بصوتي وحده، بل بجوارحي كلِّها، وتهيبي واحتسابي، وأنظاري على امتداد الصالة، ليُهيّأ لي أنها تُصغي بجوارحها أيضاً. كان يكفيني لكي يخبو توتّري أمامهم ألّا أرى أحداً يتململ أو يخرج، ثم لأقرأ بعدها ما كتب بعضهم على صفحاتهم: “يحدث أن يتمنّى السامع لو تنتهي المحاضرةُ سريعاً ليرتاح”، أو “تمنّينا اليوم ألّا تنتهي هذه الأوراق بين يديكِ لنبقى سارحين في ملكوت الأدب”.
لا تنحصر الثقافة في مجال الأدب، كما لا يجوز حصر دائرة المثقّفين بالأدباء والشعراء، إنما تعني، كما أوضح ابن خلدون، الدراية بما نقول ونفعل، أن يكون المقال والعمل على قدر المقام، ومقام الناس هو الأعلى، وأن يتحدّث المشتغل بالشأن العام باختصاصه وحده ولا يتعدّاه إلى سواه، وأن يشتغل من أجل الناس لا من أجل نفسه، وإن لم يكن كذلك فليتنحَّ جانباً لأنه أبداً سيكون خاسراً ووحيداً مقصيّاً.
هي رسالتي إلى المشتغلين بالسياسة قبل سواهم: هلّا تُراجعون أنفسكم طويلاً وتُفكّرون، كيف لندوة ثقافية واحدة قد تجمع حولها أضعاف من تستقتلون لجمعهم ولا تفلحون؟
* كاتبة ومترجِمة سوريّة مقيمة في ألمانيا
العربي الجديد
———————————–
محور جديد: فرصة لإعادة تشكيل المنطقة وبناء سوريا/ مصطفى يوسف
29/1/2025
مع تسارع الأحداث السياسية في المنطقة، برزت ملامح تشكّل محور جديد يضم تركيا، وقطر، وسوريا الجديدة، مع آمال بانضمام المملكة العربية السعودية بثقلها الجغرافي والإسلامي والاقتصادي.
هذا المحور الناشئ يمكن أن يشكل دعامة إستراتيجية لإعادة التوازن في مواجهة محاور أخرى تقودها إيران وأذرعها الشيعية، مثل حزب الله في لبنان والحشد الشعبي في العراق، بالإضافة إلى المحور الصهيوني الذي يضم إسرائيل، ودولًا إقليمية.
يجب أن تركز القيادة السورية الجديدة على العدالة الانتقالية، والتي تُعد أساس أي تحول ديمقراطي ناجح
إعادة تشكيل الخرائط السياسية للمنطقة
مع الإرهاق الروسي الناجم عن الحرب الأوكرانية، ورغبة موسكو المتزايدة في تعزيز التعاون مع تركيا، إلى جانب الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، يبدو أن الشرق الأوسط يقف على أعتاب عملية إعادة ترتيب واسعة.
سوريا، التي عانت على مدار أكثر من عقد من حرب أهلية طاحنة، أمام فرصة تاريخية لإعادة الإعمار، وإعادة الانخراط في المنظومة الإقليمية والدولية.
لكن نجاح هذا المشروع الكبير يتطلب رؤية إستراتيجية تتجاوز الحسابات السياسية الضيقة.
يجب أن تركز القيادة السورية الجديدة على العدالة الانتقالية، والتي تُعد أساس أي تحول ديمقراطي ناجح. هذا يتطلب محاسبة الجناة الذين تورطوا في قتل وتعذيب السوريين، وتحقيق مصالحة وطنية تعيد اللحمة الاجتماعية إلى بلد مزقته الحروب.
هناك حاجة لبناء نظام تعليمي يُعنى بالإبداع والابتكار التكنولوجي، لخلق جيل جديد قادر على قيادة عملية التنمية. وأيضًا تعزيز حرية التعبير وضمان حقوق الإنسان كركائز أساسية للاستقرار السياسي والاجتماعي
التنمية كنموذج للنهضة
إعادة الإعمار ليست مجرد مشروع اقتصادي؛ بل هي مشروع تنموي، شامل يعيد بناء المجتمع السوري على أسس مستدامة. يمكن لسوريا أن تستلهم من نماذج ناجحة مثل تجربة فيتنام، التي تحولت من دمار الحرب إلى أحد أسرع الاقتصادات نموًا في العالم.
ركائز الخطة التنموية:
1- إعادة بناء القطاعات الإنتاجية
الزراعة: الاستثمار في القطاع الزراعي لاستعادة مكانة سوريا كواحدة من السلال الغذائية في المنطقة، ودعم صغار المزارعين لتحفيز الإنتاج المحلي.
الصناعة: إعادة تشغيل المصانع المتوقفة، وتشجيع الصناعات الصغيرة والمتوسطة التي تُعد عصب الاقتصاد المحلي، بالإضافة إلى فتح المجال أمام الاستثمارات الأجنبية.
2- البنية التحتية والبيئة
إعادة بناء البنية التحتية، مع التركيز على المدن التي تعرَّضت لأكبر نسبة من الدمار.
وضع خطط للتنمية المستدامة، تشمل مشاريع للطاقة النظيفة والمياه الصالحة للشرب.
3- التعليم والإبداع: بناء نظام تعليمي يُعنى بالإبداع والابتكار التكنولوجي، لخلق جيل جديد قادر على قيادة عملية التنمية. تعزيز حرية التعبير وضمان حقوق الإنسان كركائز أساسية للاستقرار السياسي والاجتماعي.
4- تعزيز التعاون الإقليمي: يمكن لتركيا وقطر تقديم الدعم المالي والتقني لإعادة الإعمار. كما يمكن للسعودية أن تكون شريكًا رئيسيًّا، ليس فقط لدوافع إنسانية، ولكن أيضًا لتعزيز نفوذها الإقليمي.
5- دور القطاع الخاص: تشجيع القطاع الخاص المحلي والإقليمي على الاستثمار في إعادة الإعمار، من خلال حوافز اقتصادية وتشريعات مرنة تسهّل بيئة الأعمال.
6- السياحة والتنمية الثقافية: دعم القطاع السياحي كجزء من الاقتصاد، مع التركيز على إعادة تأهيل المواقع التاريخية والتراثية لجذب الزوار وتعزيز الدخل القومي.
رغم هذه الرؤية الطموحة، يواجه هذا المشروع تحديات حقيقية من محاور الثورة المضادة، التي تقودها أنظمة ترى في التحول الديمقراطي تهديدًا وجوديًا لمصالحها وبقائها
أهمية الانحياز لسوريا الجديدة
الانحياز لبناء سوريا الجديدة يمثل خيارًا إستراتيجيًّا يخدم الاستقرار والتنمية في المنطقة. دعم هذا المشروع يعني:
تقليل موجات الهجرة غير النظامية التي تثقل كاهل دول الجوار وأوروبا.
القضاء على التنظيمات المتطرفة، مثل حزب العمال الكردستاني والجماعات الإرهابية الأخرى.
تعزيز الاستقرار الإقليمي من خلال خلق نموذج سياسي ديمقراطي يعكس تطلعات الشعوب.
المكاسب المحتملة لدول المحور الجديد
انخراط دول المحور الجديد في هذا المشروع التنموي يمكن أن يحقق العديد من المكاسب:
تعزيز الدور الإقليمي: يعيد لكل من تركيا وقطر والمملكة العربية السعودية القدرة على قيادة مشاريع تنموية كبرى.
تعزيز الأمن الجماعي: مواجهة التحديات الأمنية مثل الإرهاب والنفوذ الإيراني في المنطقة.
الاستفادة الاقتصادية: عبر مشروعات إعادة الإعمار والبنية التحتية التي تفتح أبواب الاستثمارات.
هل يمكن لدول المحور الجديد اغتنام هذه اللحظة التاريخية؟
مواجهة محاور الثورة المضادة
رغم هذه الرؤية الطموحة، يواجه هذا المشروع تحديات حقيقية من محاور الثورة المضادة، التي تقودها أنظمة ترى في التحول الديمقراطي تهديدًا وجوديًا لمصالحها وبقائها. يقود المحور الصهيوني الإقليمي، جهودًا مكثفة لإجهاض أي مشروع تنموي يُمكن أن يعيد صياغة توازن القوى في المنطقة.
على القيادة السورية الجديدة أن تستفيد من دروس الماضي، لتجنب المصير التقليدي السيئ، يجب على سوريا الجديدة أن تتبنى نهجًا إستراتيجيًّا يُركز على الوحدة الوطنية، والإنجاز الاقتصادي الفوري، وقطع الطريق أمام أي تدخل خارجي يسعى لإجهاض مسيرة التحول الديمقراطي والتنمية.
رؤية للمستقبل
المحور الجديد ليس مجرد تكتل سياسي أو عسكري؛ بل هو فرصة لإعادة صياغة مستقبل المنطقة على أسس التعاون والتنمية. نجاح هذا المحور يعني بناء نموذج تنموي يُخرج سوريا من أزمتها ويعيد التوازن للمنطقة.
إن دعم العدالة والحرية والتنمية لا يمثل فقط التزامًا أخلاقيًا، بل هو استثمار إستراتيجي طويل الأمد.. سوريا الجديدة يجب أن تكون رمزًا للأمل، والاستقرار، والإبداع، في منطقة عانت طويلًا من الصراعات.
التحدي الآن هو: هل يمكن لدول المحور الجديد اغتنام هذه اللحظة التاريخية؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
باحث في الاقتصاد السياسي، ومدير المركز الدولي للدارسات التنموية
باحث في الاقتصاد السياسي ودراسات الجدوى والدراسات التنموية، المدير التنفيذي للمركز الدولي للدراسات التنموية
الجزيرة
————————
تحديات التحول الديمقراطي في سوريا/ قتيبة عبد الحميد دغيم
29/1/2025
رائج/ سوريا/ بمشاركة 1300 متطوع.. انطلاق حملة “رجعنا يا شام” لـ “إعادة الحياة إلى شوارع دمشق”
أصبحت سوريا أمام تحدٍّ جديد وهو التحول من الاستبداد إلى الحرية ومن حكم الفرد إلى الديمقراطية (الصحافة السورية)
بعد 14 عامًا إلا قليلًا من انطلاقة ثورة الكرامة السورية، وفي لحظة تاريخية ستكون نقطة تحول كبير لتاريخ المنطقة العربية والإسلامية، وربما العالم كله، سقط نظام الأسد، وسقطت من ورائه أعتى دكتاتورية قمعية حكمت سوريا بالحديد والنار ما يزيد عن 60 سنة، وفتحت الثورة عهدًا جديدًا من الحرية التي أريق في سبيلها دم مئات الآلاف، وأصبحت سوريا أمام تحدٍّ جديد، وهو التحول من الاستبداد إلى الحرية، ومن حكم الفرد إلى الديمقراطية.
لقد حرصت سلطات دمشق المؤقتة -والتي اكتسبت السلطة وفق الشرعية الثورية، ومنذ توليها زمام الأمور- على إرسال رسائل الطمأنة للخارج والداخل، وهو أمر يشكرون عليه، ومن أهم هذه الرسائل هو الشكل (الديمقراطي) للدولة السورية القادمة؛ وفق مبدأ عدم الإقصاء، وإتاحة الفرصة للجميع، ومبدأ الاختيار الشعبي لشكل الحكم والدستور والسلطتين التنفيذية والتشريعية، وهو -نظريًا- ما يطمح إليه جميع السوريين، وهو أهم المطالب المنبثقة من الشرعية الثورية، والتي هي الشرعية الوحيدة في هذه الفترة.
لعل التحدي الأهم هو الانقسام الأيديولوجي الحاد للمجتمع السوري، وهو ما سيجعل اختيار الناخب السوري في الغالبية العظمى مبنيًا وفق النظرة الأيديولوجية المسبقة، وليس على أساس المصلحة الوطنية والكفاءة
ولكن التطبيق العملي لهذه النقطة قد يواجه صعوبات كثيرة، يجب على السلطات الجديدة ملاحظتها، وإيجاد المخرج العملي لها قبل البدء بالتنفيذ.
ولعلنا في هذه العجالة نستعرض أهم التحديات التي تواجه عملية التحول الديمقراطي في سوريا:
أولًا: الانقسام الأيديولوجي الحاد في المجتمع
لعل التحدي الأهم -وهو أمر تشترك فيه سوريا مع معظم دول المنطقة العربية والإسلامية في حال الممارسة الديمقراطية- هو الانقسام الأيديولوجي الحاد للمجتمع السوري، وهو ما سيجعل اختيار الناخب السوري في الغالبية العظمى مبنيًا وفق النظرة الأيديولوجية المسبقة، وليس على أساس المصلحة الوطنية والكفاءة، وهو ما يحول آليات الديمقراطية الكلاسيكية إلى آليات عقيمة إلى حد كبير، تضر بسلامة مبدأ الوصول إلى الحكم والسلطة وفق المصلحة الوطنية الحقيقية والتمثيل الحقيقي لإرادة الشعب؛ حتى لو تمت الانتخابات وفق أفضل وسائل النزاهة والرقابة.
وهذه النقطة يتشارك فيها المجتمع السوري مع معظم مجتمعات المنطقة العربية والإسلامية، التي تعتمد آليات الديمقراطية الكلاسيكية في الانتخاب؛ على أن المجتمع السوري -وبسبب سنوات الاضطهاد الطويلة في حقبة البعث البائد- يكاد يكون أكثر المجتمعات انقسامًا وفق الأسس الأيديولوجية، والدينية، والطائفية، والعرقية، وهي حقيقة يجب الاعتراف بها.
ولعله من نافلة القول، أن النهج الطائفي للنظام البائد، والقضاء على جميع المرجعيات الاجتماعية والوطنية، وغياب الحياة السياسية الحقيقية في سوريا طيلة فترة حكمه، وتحريض الطوائف والعرقيات بعضها على بعض؛ هي أكثر العوامل التي زادت هذا الانقسام، والتي ستحتاج إلى وقت طويل للشفاء تمامًا منها.
وأمام هذا التحدي الكبير يجب الانتباه -وبكثير من الحذر- إلى خطورة الانزلاق نحو (لبننة) سوريا، أو الانزلاق نحو أي نوع من أنواع المحاصصة، سواء الطائفية أو العرقية أو غيرها، وهو ما تسعى قوى كثيرة إلى فرضه بذريعة (حقوق الأقليات) ومشاركتها في الحكم؛ ولا شك أن التشارك حق لا ريب فيه، ولكن في إطار الوحدة الوطنية، وتساوي حقوق المواطنة، وليس عن طريق المحاصصة.
ولعل الاعتماد على الآليات الكلاسيكية للديمقراطية لا يتناسب مع وضع المجتمع السوري حديث العهد بالديمقراطية؛ فلا بد من تطويعها لتصبح قادرة على التعبير الحقيقي عن المصلحة الوطنية، وتقليل خطر الانقسام عليها، وهذا يحتاج إلى كثير من الجهد، بدءًا بالتوعية الشعبية، ومرورًا بسن القوانين العامة، وقوانين الأحزاب السياسية، وقوانين الانتخاب وآلياته، والتي يجب أن تحدّ من الانقسام المجتمعي، وقبل كل ذلك الاتفاق على عقد اجتماعي محكم وبعيد كل البعد عن الطائفية، أو العرقية، أو الأيديولوجية سواء الدينية أو العلمانية.
يجب على السلطات الجديدة الموازنة بين أحقية مبررات القاعدة الثورية، وبين عدم الإقصاء السياسي الذي قد يسبب عدم الاستقرار، وقد يكون ذريعة لكثير من القوى الخارجية للتدخل في الشأن السوري، أو محاولة الانقلاب على ثورته
ثانيًا: مبدأ الإقصاء الثوري
وهو تحدٍّ بدأ بالظهور بين عامة الحامل الرئيسي للثورة، وحتى بين بعض النخب الثورية ومثقفيها، وهو أمر خطير جدًا ابتليت به الكثير من الثورات، وكان سببًا كبيرًا في نشوء الدكتاتورية الثورية، والتي أخرت أو قضت نهائيًا على مكتسبات بعض الثورات وأهدافها، ولعل المطّلع على أحداث ما بعد الثورة الفرنسية أو البلشفية يدرك تمامًا المقصود، وقد بدأت بالفعل أصوات تعلو هنا وهناك لإقصاء الصامتين، أو الموالين، أو حتى بعض المنصات المحسوبة على الثورة كائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية، أو هيئة التفاوض السورية.
ولعل أعظم مبررات ظهور هذا المبدأ أمران اثنان:
المبرر الأول: هو (الخوف على المكتسبات الثورية) من تسرب النظام البائد، أو إحدى أدواته التي صنعها على مدار سنين طويلة، ولعل ما يزيد هذا الخوف ويبرره هو عظم التضحيات التي قدمت من قبل القاعدة الثورية.
المبرر الثاني: هو (الإحساس بالغبن) من قبل القاعدة الثورية تحملت قدرًا هائلًا من العذاب والقهر والقتل والتدمير والتشريد حتى انتصرت الثورة؛ في مقابل الطبقات الرمادية، أو الصامتة، أو اللامبالية، أو حتى الطبقة الموالية للنظام البائد، والتي تراها تستعد جميعها للدخول في المعترك السياسي لسوريا الحرة دون أي تضحيات تذكر، وبالتساوي مع القاعدة الثورية المنتصرة.
ورغم الطمأنات والتصريحات الإيجابية لسلطات دمشق الحالية، لا تزال هذه المشكلة من أعظم ما يهدد البناء الصحيح لمستقبل سوريا الحرة.
والحقيقة أن المبرّرات آنفة الذكر محقة بشكل كبير، ويجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، ولكن يجب ألا تكون سببًا لأي شكل من أشكال الإقصاء السياسي غير المحق، أو الإقصاء الذي قد يهدد الاستقرار في الدولة على المدى القريب أو المتوسط أو البعيد.
والحقيقة أنه يجب على السلطات الجديدة الموازنة بين أحقية مبررات القاعدة الثورية، وبين عدم الإقصاء السياسي الذي قد يسبب عدم الاستقرار، وقد يكون ذريعة لكثير من القوى الخارجية للتدخل في الشأن السوري، أو محاولة الانقلاب على ثورته.
ولعل أحد الحلول وأهمها هو سرعة تنظيم وسن القوانين المتعلقة بالمشاركة السياسية، والتي تتيح بشكل قانوني وعادل مبدأ العزل السياسي لكل من هو من مخلفات النظام البائد، أو من هو خطر على المكتسبات الثورية؛ دون التأثير على استقرار الدولة، أو الإقصاء السياسي غير العادل.
هناك تساؤلات جدية تطرح حول قدرة إقناع هذه القيادات لقواعدها من الذين تربوا لمدى سنين طويلة على أيديولوجيا مختلفة تمامًا، وقاتلوا كثيرًا من فرقائهم بحجة مخالفتها
ثالثًا: إقناع عامة الأتباع بالفكر الديمقراطي
وهو تحدٍّ يخص النواة العسكرية والمدنية والشرعية لهيئة تحرير الشام، والمقاتلين المنتمين لها، وكذلك المقاتلون المنتسبون لمجموعات إسلامية أخرى قاتلت معهم، فهؤلاء هم نواة التحرير وشوكة الدولة الناشئة.
ولا شك أن المراجعات الفكرية، والنهج الذي نراه اليوم من السيد أحمد الشرع، ومن بعض القيادات المتصدرة للمشهد من هيئة تحرير الشام، كان مفاجئًا للجميع؛ سواء في ذلك النخب الثورية ممن خبروا هيئة تحرير الشام لسنوات طوال، أو الخارج.
فالكثير من التصرفات والأوامر والتصريحات التي تصدر عن السيد أحمد الشرع وحكومته كانت لفترة قريبة من المحرمات القطعية لديهم. والحقيقة أن الأمر مبعث للسرور والفرح لدى النخب الثورية، التي حاولت طيلة سنوات إقناع هيئة تحرير الشام بالكثير من القضايا والأمور التي تقوم هي بها حاليًا؛ بعدما تراجعت عن أخطائها.
ولكن، بالرغم من كل ذلك ما زالت هناك تساؤلات جدية تطرح حول قدرة إقناع هذه القيادات لقواعدها من الذين تربوا لمدى سنين طويلة على أيديولوجيا مختلفة تمامًا، وقاتلوا كثيرًا من فرقائهم بحجة مخالفتها.
كما أن وجود مجموعات متطرفة (كحراس الدين وقياداتهم) هو أمر مقلق تمامًا، وإن كيفية التعامل مع هؤلاء، ومجابهتهم على الصعيد الفكري، وحملهم على الرجوع عن أفكارهم، هو ما سيحدد قدرة القيادة الجديدة على تنفيذ الوعود التي يطلقونها في التحول لدولة مدنية ديمقراطية.
والحقيقة أن المتابع لمسيرة السيد أحمد الشرع منذ تشكيله لـ”جبهة النصرة” سابقًا، وقدرته على سلخ هذه الجماعة من قيد “الدولة الإسلامية”، ثم من “القاعدة”، ثم تحييد منافسيه من الفصائل؛ يدرك تمامًا مدى براغماتية الرجل، وذكائه، ونظرته المستقبلية الثاقبة، وقدرته على الاستفادة من الظروف المحيطة به لتحقيق أهدافه، وهذا ما يعول عليه في حل هذه المعضلة.
كما أن حل “هيئة تحرير الشام” وبقية الفصائل، ودمجها في جيش وطني يقوم على التراتبية العسكرية، وإلغاء الولاءات الفصائلية والفردية، سيساعد أيضًا في تجاوز هذا التحدي إلى حد كبير.
لا بدّ أن سلطات دمشق تدرك تمامًا ذلك، ويجب عليها العمل على نقاط ضعفهم، والبناء عليها لكسب المعركة التي لا بدّ منها، فلا ريب أن أي حلول دبلوماسية وسطية ستؤدي لكارثة ستعاني منها سوريا طويلًا
وجود “قسد” وارتباطها بحزب العمال الكردستاني الإرهابي
والحقيقة أن “قسد” قوة مسلحة كبيرة لا يستهان بها، تسيطر على منابع النفط، وعلى أراضي سوريا الخصبة شرقي الفرات، التي تهدد بشكل مباشر وحدة سوريا واستقرارها ونهضتها الاقتصادية، وتهدد أيضًا التحول الديمقراطي الحقيقي في سوريا، في حال ظلت محتفظة بحكمها الذاتي، أو تم دخولها ككتلة تتقاسم السلطة مع السلطات الحالية بدمشق.
كما أن الحسم العسكري ضد قسد معقد بعض الشيء لسببين:
وجود القوات الأميركية الحليفة لقسد، والدعم السياسي المقدم من الولايات المتحدة وإسرائيل وبعض الدول الغربية لهم.
تنظيمهم العسكري القوي والإداري المتين، والكم الكبير من السلاح المتطور بحوزتهم، ووجود موارد اقتصادية لا يستهان بها لديهم.
اتصالها بمركز القيادة الفعلية في جبال قنديل.
ولابد أن سلطات دمشق تدرك تمامًا ذلك، ويجب عليها العمل على نقاط ضعفهم، والبناء عليها لكسب المعركة التي لا بد منها، فلا ريب أن أي حلول دبلوماسية وسطية ستؤدي لكارثة ستعاني منها سوريا طويلًا.
ومن أهم النقاط التي يجب البناء عليها للحسم العسكري التام:
الحاضنة الشعبية الموالية للثورة والمعادية لقسد في معظم مناطق سيطرتهم، والتي هي ذات أغلبية عربية عشائرية.
القدرة على التعاون العسكري المباشر (ذي الصبغة الشرعية قانونيًا بعد سقوط نظام المخلوع) مع تركيا.
التغيير المتوقع تجاه دعم قسد في ظل إدارة الرئيس ترامب.
التعاون مع المجلس الوطني الكردي، لاستمالة الحاضنة الشعبية الكردية في المناطق ذات الأغلبية الكردية، وطمأنتهم، وضمان حقوقهم الدستورية.
تقديم البديل الجاهز لشريك التحالف الدولي في محاربة تنظيم الدولة، لنزع شرعية وذريعة وجود قسد العسكري.
ولا بد من القناعة التامة بأن أي شيء غير الحسم العسكري التام في تلك المنطقة، والقضاء التام على تنظيم “قسد”، هو كارثة حقيقية على مستقبل سوريا كدولة حرة وديمقراطية وموحدة.
وفي النهاية، فإننا ندرك تمامًا وجود تحديات كبيرة جدًا في طريق بناء الدولة عامة، وفي طريق تحولها الديمقراطي على وجه الخصوص، وقد تكون التحديات أكثر مما ذكرناه هنا، وخصوصًا مع غياب فعلي لأي نشاط سياسي حقيقي في سوريا لأكثر من نصف قرن من الاستبداد.
ولكننا أردنا في هذه العجالة تسليط الضوء على أهم التحديات وأكثرها إلحاحًا – والتي إن تم تلافيها وتجاوزها سيتم بلا أدنى شك تجاوز العقبات الأخرى بسهولة – في طريق بناء سوريا الحرة والمستقلة والموحدة والديمقراطية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
كاتب، باحث سوري
الجزيرة
—————————
كيف يمكن لتركيا تعزيز وضعها المتميز في سوريا؟/ محمود علوش
29/1/2025
لا يزال من غير الواضح طبيعة وحجم الانخراط التركي في هجوم المعارضة السورية الذي أدّى في نهاية المطاف للإطاحة بنظام الرئيس المخلوع بشار الأسد في ديسمبر/ كانون الأول الماضي. لكنّ، هذا النصر الذي حققته الثورة السورية بعد ثلاثة عشر عامًا يرجع إلى مجموعة من العوامل الحاسمة من بينها الدور الذي لعبته تركيا في الصراع.
إن التدخل العسكري التركي المباشر في الحرب في عام 2016 أوجد وضعًا جعل من الصعب على النظام وحلفائه في تلك الفترة تحقيق انتصار حاسم في الحرب والقضاء على ما تبقى من المعارضة في شمال غرب البلاد.
كما أن هيئة تحرير الشام، التي تُدير سوريا في الوقت الحالي، استطاعت أن تُعزز تجربة حكمها في إدلب وتتفرغ لبناء القوة العسكرية بفضل اتفاقية خفض التصعيد الرابعة التي شكلت درع حماية لها من النظام وحلفائه.
مرت السياسة التركية في الصراع السوري بكثير من المنعطفات، وكانت غير مستقرة في الغالب وفرضتها تحولات الصراع منذ التدخل العسكري الروسي منتصف العقد الماضي والدعم الأميركي لمشروع الحكم الذاتي الكردي. وقد وصلت هذه التقلبات لدرجة أن الرئيس رجب طيب أردوغان كان يستجدي قبل فترة وجيزة فقط من سقوط النظام، بشار الأسد من أجل المصالحة معه.
مع ذلك، كانت أنقرة على مدى عقد تقريبًا تعمل على صناعة تاريخ الثامن من ديسمبر/ كانون الأول. وقد قدّم لها هذا التحول فرصة كبيرة لمعالجة تحديات إستراتيجية مزمنة أفرزتها الحرب مثل مُشكلة الوحدات الكردية وقضية اللاجئين.
ويسود تصور على نطاق واسع في سوريا والعالم بأن تركيا الرابح الأكثر من التحول، وسيكون لها دور محوري في تشكيل نظام سياسي جديد في دمشق حليف لها. لكن هذا الوضع لا ينبغي أن يدفع أنقرة إلى الغرور، أو الاعتقاد بأنها ضمنت مكانة متميزة في سوريا لعقود طويلة.
إن جانبًا كبيرًا من الفوائد المتصورة للتحول السوري على تركيا مرهونة قبل أي شيء بنجاح هذا التحول؛ لأن فشله سيعكس هذه الفوائد إلى مُشكلة جيوسياسية كبيرة لأنقرة. ويُظهر الرئيس أردوغان قدرًا كبيرًا من الواقعية في تقدير حجم الفرص والمخاطر من خلال تحديد أولويات بلاده في سوريا بعد التحول.
وتتمثل هذه الأولويات بتوفير الظروف المناسبة لتحقيق انتقال ناجح للسلطة في سوريا إلى نظام مُنتخب يُعبر عن تطلعات السوريين بمُختلف مكوناتهم الطائفية والعرقية، وبالتعاون مع دمشق من أجل استعادة سيادتها على كافة أراضيها بما في ذلك الجيب الذي تُسيطر عليه الوحدات الكردية في شمال شرق البلاد، والتعبير عن تطلعات ومصالح السوريين في العالم من خلال حثّ دول العالم على التعامل مع الإدارة الجديدة، ورفع العقوبات المفروضة على سوريا.
كما تُظهر أنقرة رغبة قوية في إشراك دول المنطقة لا سيما الخليجية منها في دعم التحول السوري؛ لأنه بدون إعادة الإعمار التي تتطلب تمويلًا هائلًا، لن تتمكن سوريا من التعافي السريع من آثار الحرب، ولن تتوفر الظروف الاقتصادية الملائمة لإنجاح التحول وتحفيز اللاجئين في تركيا ودول الجوار على العودة إلى بلدهم.
وتبرز صياغة العلاقة مع الإدارة السورية الجديدة كدلالة على الأهمية التي تُوليها أنقرة لتعظيم حضورها في تشكيل مستقبل سوريا.
مع ذلك، يُظهر اهتمام أحمد الشرع بإقامة علاقات جيدة مع الدول العربية، لا سيما السعودية أن دمشق ترغب بتنويع شراكاتها الإستراتيجية مع دول المنطقة وعدم حصرها في تركيا.
ويبدو هذا التوجه واقعيًا لأن الجغرافيا السياسية تفرض على سوريا هذا التوازن، ولأن التكاليف الباهظة لإعادة الإعمار تتطلب انخراطًا دوليًا واسعًا، لا سيما من جانب دول الخليج في هذه العملية. وسيتعين على أنقرة دعم هذا التوجه للحكام الجدد في سوريا لطمأنة دول المنطقة بأن سوريا الجديدة لن تكون تحت وصاية تركية بأي حال.
علاوة على ذلك، فإن تفكيك العقوبات الغربية المفروضة على سوريا يفرض على أنقرة تركيز دبلوماسيتها مع الغرب للوصول إلى هذا الهدف. وتبرز مُعضلة الوحدات الكردية كعقبة رئيسية أمام أنقرة للعب هذا الدور. لكنّ الدبلوماسية البناءة مع واشنطن يُمكن أن تُزيل هذه العقبة، وتُساعد في معالجة هواجس تركيا من الوحدات الكردية دون تحركات عسكرية جديدة تُضيف تحديات أخرى على التحول السوري.
إلى جانب ذلك، فإن التحول يجلب تحديًا آخر على تركيا بقدر الفرص. ويتمثل هذا التحدي بالانخراط الإيجابي في توجيه عملية التحول لضمان تحقيق انتقال سياسي وفق المعايير التي يُجمع عليها المُجتمع الدولي.
إن تأكيد أنقرة على الحاجة لتشكيل حكومة انتقالية شاملة، وضمان حقوق جميع المكونات السورية يُعبر عن النوايا، لكنّه يُشكل حاجة أيضًا لتركيا كما لسوريا. وسيتعين على أنقرة ممارسة نفوذها على الإدارة الجديدة لتشجيعها على ترجمة تعهداتها بخصوص الانتقال الشامل إلى أفعال على الأرض.
وفي الوقت الذي يجب فيه على العالم دعم التحول السوري وليس التدخل فيه، فإن النهج الذي ستتبعه أنقرة في الفترة المقبلة يكتسب الكثير من الأهمية بهذا الخصوص؛ لأنه يُمكن أن يعمل كضامن للحد من التدخلات الدولية السلبية في مسار التحول.
في ضوء ذلك، فإن الكيفية التي ستتصرف بها تركيا في سوريا ستكون تحت المراقبة الدولية. ويُمكن لأنقرة أن تُعظم من فرص نجاح نهجها من خلال التأكيد للإدارة السورية الجديدة بأن انفتاح العالم عليها وكسر عزلة سوريا يتطلبان تحقيق الحد الأقصى من التصور الدولي لعملية التحول السياسي.
أخيرًا، يُقدم التحول السوري فرصة لتركيا لتحقيق قصة نجاح إقليمية كبيرة. وسيكون لمثل هذا النجاح فوائد جيوسياسية كبيرة لأنقرة لا تقتصر على تعزيز دورها في سوريا الجديدة، بل ستنعكس على مكانتها وصورتها في المنطقة والعالم كقوة إقليمية جديدة قادرة على تعزيز دورها في الشرق الأوسط الجديد كوسيط للاستقرار والقوة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
باحث في العلاقات الدولية
الجزيرة
————————————
لماذا تشكل قوات قسد أكبر تحد عسكري للإدارة السورية الجديدة؟/ باسل المحمد
29/1/2025
في إطار سعيها للانتقال من فكرة الثورة إلى فكرة بناء الدولة، تعمل الإدارة السورية الجديدة على تدعيم هذا البناء وترسيخه من خلال بناء جيش وطني يضم كافة التشكيلات والفصائل العسكرية التي تشكلت نتيجة ظروف ومعطيات معينة أيام الثورة السورية.
وقد أبدت أغلب هذه الفصائل استعدادها للانخراط في وزارة الدفاع، وذلك بحسب وزير الدفاع مرهف أبو قصرة أثناء لقائه مع الصحفيين في دمشق الأحد 22 يناير/كانون الثاني، لتبقى بذلك قوات سوريا الديمقراطية “قسد” المكون العسكري الوحيد الذي يرفض حل نفسه، ويصر على الاندماج بالجيش الوطني ككتلة وليس كأفراد، وهو ما ترفضه الإدارة السورية الجديدة بشكل نهائي لاعتبارات متعددة.
إلى جانب ذلك تطالب قسد أيضا بنوع من “الفدرالية المرنة” كما سمتها القيادية في الإدارة الذاتية إلهام أحمد في تصريحات صحفية، إلى غير ذلك من الميزات التي تجعل من قسد تشكل أكبر تحد للإدارة السورية الجديدة، وخاصة بالجانب العسكري نظرا لامتداداتها الإقليمية وعلاقاتها الدولية.
دعم وتسليح أميركي
تتلقى قوات سوريا الديمقراطية دعمها من الولايات المتحدة الأميركية على نحو مباشر، وفق ما أعلنه مسؤولون أميركيون في عدة مناسبات.
فبعدما أصدرت قسد بيانها التعريفي في 10 أكتوبر/تشرين الأول 2015، والذي قدمت نفسها فيه على أنها “تكتل عسكري وطني لكل السوريين يضم الأكراد والعرب والتركمان والسريان”، وأوضحت أن هدفها الرئيسي هو دحر تنظيم الدولة الإسلامية واستعادة جميع الأراضي التي اجتاحها التنظيم المتشدد آنذاك.
بدأت الولايات المتحدة بتقديم الدعم المباشر لهذه القوات، بعد يومين من هذا البيان، إذ أعلن المتحدث باسم القيادة العسكرية الأميركية الوسطى -في بيان صدر بعد تأسيس قوات سوريا الديمقراطية- أن “التحالف الدولي ألقى 50 طنا من الأسلحة لمجموعات عربية سورية مسلحة خضع المسؤولون عنها لعمليات تدقيق ملائمة من جانب الولايات المتحدة” وفق البيان، من دون تحديد اسم هذه المجموعة.
وعلى الرغم من محاولة الولايات المتحدة التسويق لها على أنها تمثل كل مكونات الشعب السوري، فإن عامودها الفقري يتكون من وحدات حماية الشعب (YPG) ووحدات حماية المرأة (YPJ) بمعنى أنها تعد امتدادا سوريا لحزب العمال الكردستاني (Pkk) المصنف على لوائح الإرهاب التركية والغربية.
ولا يقتصر الدعم الأميركي على الأسلحة وتقديم الخبراء والمستشارين، إذ تقوم قوات التحالف والقوات الأميركية بشكل خاصّ بعمليات تدريب مستمرة منذ عام 2014 لعناصر قسد بشكل عامّ ضِمن عدد من القواعد العسكرية التابعة لها والمجهّزة لهذا الغرض كقاعدة “هيمو” الواقعة على طرف مدينة القامشلي.
لكن معظم عمليات التدريب هذه موجهة لعناصر وحدات مكافحة الإرهاب التابعة لقسد “يات” (YAT) والتي تحظى بالدعم والتسليح الأعلى من جانب القوات الأميركية، وذلك بحسب دراسة أصدرها مركز جسور للدراسات عام 2023.
وتوضح الدراسة أن عمليات التدريب تشمل استخدام الأسلحة الرشاشة والقناصات وتدريب مجموعات محددة على استخدام الطائرات المسيّرة في عمليات المراقبة إضافة للتدريب على استخدام أجهزة الاتصال وتحديد المواقع والمراقبة والتشويش.
شماعة محاربة الإرهاب
على الرغم من إعلانها القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية في آخر معاقله في منطقة الباغوز شرقي دير الزور عام 2019، فإن قوات قسد ما زالت تصدر نفسها للعالم على أنها تحارب الإرهاب، مستغلة حمايتها وإشرافها على السجون التي تضم الآلاف من عناصر وقيادات التنظيم الذين مازالت دولهم ترفض إعادتهم.
وفي هذا السياق، أكدت قسد في 21 يناير/كانون الثاني الجاري أنها تعارض تسليم السجون التي تحوي عناصر من تنظيم الدولة للحكام الجدد في دمشق، وأوضحت أنها تتأهب لهجمات من جانب الجماعة الإرهابية (تنظيم الدولة)، وتراقب محاولاتها للظهور من جديد، وفقا لوكالة رويترز.
يؤمن موقف قسد هذا غطاء سياسيا لها، تجلى -مثلا- في تأكيد وزيري الخارجية الفرنسي والألماني أثناء زيارتهما إلى سوريا في الثالث من الشهر الجاري على ضرورة التوصل إلى حل سياسي مع الأكراد.
يؤمن لها كذلك دعما ماليا مستمرا، إذ تحصل قسد على حصة دعم مالي سنوي من دول التحالف الدولي وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركيّة التي خصّصت مبلغ 542 مليون دولار من ميزانية وزارة دفاعها عام 2023 لبرنامج “تدريب وتجهيز” القوات الشريكة لها في سورية والعراق.
وفي هذا السياق يشير الباحث في مركز الحوار السوري عامر المثقال إلى أن ورقة تنظيم الدولة وسجونه في شمال شرق سوريا هي آخر أدوات قسد لتقديم نفسها كحارس للمنطقة ضد الإرهاب، وهي مهمة تبدو الإدارة السورية الجديدة قادرة على إدارتها، مما ينزع الذرائع الأميركية باستمرار دعم قسد.
ويؤكد المثقال في حديثه للجزيرة نت أن العامل الأساسي في قوة واستمرارية قسد هو الدعم الأميركي، ويضرب مثالا على ذلك بمعارك قسد مع قوات العشائر العربية في عام 2023 حيث تمكنت العشائر من إخراج قسد من عشرات القرى والبلدات في ريف دير الزور الغربي والشرقي، قبل أن تعود قسد إلى تلك القرى عبر الدعم الأميركي والإسناد الجوي من قوات التحالف.
هل تملك “قسد” 100 ألف مقاتل؟
في تصريحات سابقة نشرتها صحيفة ذا تايمز البريطانية، قال قائد قسد مظلوم عبدي إن قواته مستعدة لحل قواتها المكونة من 100 ألف عنصر، والانضمام إلى جيش سوري جديد بقيادة السلطات التي ستتولى الحكم بعد نظام بشار الأسد، بشرط “ضمان حقوق الأكراد والأقليات الأخرى”.
وتشير التقارير إلى أن النسبة الكبرى من هؤلاء المقاتلين هم من العرب، ووفقًا للبنتاغون كان الأكراد يشكلون 40% من قسد، بينما العرب يمثلون 60% في مارس/آذار 2017، رغم أن مصادر أخرى تشير إلى أن نسبة المقاتلين العرب كانت أقل من ذلك، ومع ذلك هناك إجماع على أن القيادة في قسد تعود للأكراد.
وإلى جانب العرب والأكراد السوريين يوجد قيادات وعناصر أجنبية في قوات قسد، إذ نقلت رويترز في 19 ديسمبر/كانون الأول الماضي اعترف مظلوم عبدي لأول مرة بوجود هذه العناصر بصفوف قواته بالقول إن المقاتلين الأكراد الذين قدموا إلى سوريا من مختلف أنحاء الشرق الأوسط لدعم القوات الكردية السورية سيغادرون إذا تم التوصل إلى وقف لإطلاق النار في المواجهة مع تركيا بشمال سوريا.
وتعليقا على تصريحات مظلوم عبدي حول أعداد مقاتلي قسد، ينفي الباحث المختص بتطورات الشرق السوري سامر الأحمد أن تصل الأرقام إلى هذا العدد، ويؤكد على أنها تتراوح بين 20 و30 ألفا وأقل من ذلك حتى، وخاصة بعد سقوط النظام وحصول الكثير من الانشقاقات، إضافة إلى الأحداث التي شهدها ريف دير الزور الشرقي.
ويوضح الأحمد في حديثه للجزيرة نت أن أعداد قوات قسد كانت كبيرة أيام التعبئة العامة في المعارك ضد تنظيم الدولة، وكانت الاشتباكات على عدة جبهات في الرقة والحسكة وعين العرب، إذ كان كل مجلس عسكري من هذه المناطق يُجند آلاف المقاتلين من أبنائه في تلك المعارك.
ويتفق الباحث عامر المثقال مع الأحمد في أن الأعداد الحقيقية لقسد لا تتجاوز الـ30 ألف مقاتل، أغلبهم من المكون العربي الجزء الأكبر منهم، وهذه -بحسب المثقال- مشكلة أخرى تواجهها قسد بسبب نقص المقاتلين من المكون الكردي، واضطرارها لتجنيد العرب إجباريا بصفوفها، وهؤلاء ينشقون عند حصول أي مواجهات حقيقية كما حدث في معارك دير الزور.
وبحسب الباحث المثقال فإن عبدي يهدف من هذه التصريحات إلى تضخيم قوة قسد للضغط على الإدارة الجديدة من أجل تحصيل مكاسب رسمية كأن تضاف قسد ككتلة عسكرية مستقلة داخل الجيش لها صلاحياتها الخاصة بشمال شرقي سوريا.
يذكر أن هذه القوات تسيطر على مساحة تزيد عن 35 ألف كيلومتر مربع، وهو ما يعني أنها تستحوذ على قرابة 18.92% من أراضي سوريا.
الأحمد: أعداد قوات قسد تتراوح بين 20 و30 ألفا أو أقل وخاصة بعد سقوط النظام وأحداث ريف دير الزور الشرقي (رويترز)
تفوق اقتصادي
أتاحت سيطرة قسد على المناطق النفطية في شمال شرقي سوريا موردا اقتصاديا هاما لها، جعلها متفوقة على باقي المناطق السورية خلال سنوات الحرب السورية، إلى جانب ذلك حرص التحالف الدولي على توفير دعم مالي سنوي لها، وخصصت بعض الدول ميزانية بمئات الملايين من الدولارات في صرف أجور المقاتلين وتأمين المصاريف المالية الأخرى.
وتستفيد قسد من هذا الدعم المادي بشكل رئيسي في صرف رواتب وأجور مقاتليها وإدارييها التي تتراوح بين 100 إلى 800 دولار أميركي، وتُعتبر هذه الأجور الأعلى مقارنةً ببقية المجموعات المسلّحة المحلية الأخرى في سورية ومن ضِمنها قوات النظام السوري مما ساعد قسد إلى حدّ كبير في ضمان استمرار التجنيد في صفوفها.
وفي منتصف عام 2022، أعفت الولايات المتحدة مناطق قسد من العقوبات المفروضة على الاستثمارات الأجنبية، وقد ترجمت قسد هذه الخُطوة على أنّها دعم لجهودها في إعادة تأسيس البِنْية التحتية ضِمن مناطق سيطرتها، وذلك بحسب دراسة سابقة لمركز جسور للدراسات.
وإضافة إلى النفط والموارد الطبيعة كالزراعة، تلجأ قسد كذلك إلى أخذ ضرائب وأتاوات كبيرة من كل القطاعات الاقتصادية بكل مناطق الجزيرة السورية، فمثلا بالشهر الماضي فرضوا على محلات الصرافة والذهب مبلغا من 7 آلاف إلى 10 آلاف دولار كتبرع للقوات، ولتغطية التكاليف العسكرية، بحسب الأحمد.
ويتابع الأحمد أن “قسد” كانوا ينتجون طبعا -بحسب كلامهم- ما يصل إلى 100 ألف برميل من النفط السوري، حيث يغطون به السوق المحلي، ويقومون ببيعه للنظام والمعارضة وهيئة تحرير الشام، إضافة إلى تهريبه للعراق، مما يؤمن لهم واردات شهرية تقدر بملايين الدولارات.
يذكر أن شرط الاحتفاظ بحصة محددة من حقول وعائدات النفط، كان من ضمن الشروط التي تصر عليها “قسد” خلال مفاوضاتها مع الإدارة السورية الجديدة، وذلك بحسب ما نقلته مصادر مقربة من الإدارة الجديدة للجزيرة نت.
يشار إلى أن مناطق سيطرة قوات “قسد” تشهد في الفترة الأخيرة خسائر اقتصادية كبيرة جراء الغارات التركية والتي تستهدف مواقع عسكرية ومحطات نفطية وبنية تحتية وشركات تجارية ومعامل في مناطق شمال شرقي سوريا.
وجود عقيدة أيدلوجية
إضافة إلى ما سبق، تمتاز قوات قسد بوجود عقيدة أيديولوجية تقاتل من أجلها، ويدعم هذه العقيدة اعتبارهم عبد الله أوجلان رمزا للنضال والحرية، وهي بذلك تسير على نهج حزب العمال الكردستاني.
وفي هذا السياق، يوضح الباحث المختص بالشأن الكردي بمركز رامار للبحوث أن من عوامل قوة قسد هو اعتمادها في لحظة التشكل على عناصر كردية سورية انضمت لحزب العمال، وهؤلاء يمتلكون خبرة عسكرية قديمة تمتد لما يقارب عقدين وأكثر من الزمن، كما يتميزون بالتزام عسكري في القتال مبني على التزام أيديولوجي.
ويضيف رشيد في حديثه للجزيرة نت أن هؤلاء العناصر كانوا يخضعون لدورات أيدلوجية وعقائدية تتضمن أفكار حزب العمال الكردستاني ومقاتلة الأتراك، والفكر الاشتراكي الشيوعي، وهؤلاء ينتمون إلى وحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة، أما بقية تشكيلات قسد فلا يوجد عندها هذه العقيدة.
وفي تاريخ 27 نوفمبر/تشرين الثاني من كل عام، تشهد عدة مناطق تسيطر عليها قسد في شمال شرقي سوريا احتفالات بذكرى تأسيس حزب العمال الكردستاني، وعادة ما تتزامن مع مسيرات بسيارات تابعة لقسد والإدارة الذاتية، تجوب عدة مناطق وهي ترفع أعلام الحزب وصور عبد الله أوجلان.
المصدر : الجزيرة
الجزيرة
————————————-
ماذا بعد فشل المفاوضات بين دمشق و”قسد”؟/ عباس شريفة
الخطأ القاتل الأكبر هو أن تبحث “قسد” عن حليف إقليمي مثل إيران
29 يناير 2025
بعد اللقاء بين مظلوم عبدي قائد “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) وأحمد الشرع قائد الإدارة الجديدة في دمشق بداية شهر يناير/كانون الثاني للتفاوض حول مصير منطقة شرق الفرات ومصير “قسد”، أعلن الشرع قبل أيام أنه “لا يمكن أن نقبل بوجود مجموعات المقاتلين الأجانب في سوريا”، متهماً “حزب العمال الكردستاني”، و”وحدات حماية الشعب الكردية” بـ”استغلال مسألة (داعش) لخدمة مصلحتها الخاصة”، حيث عكس التصريح صعوبات كبيرة في مسار التفاوض وإيذانا بالفشل والبحث عن مسارات بديلة للحل.
هنا بعض الأوراق التي يعتمد عليها الطرفان في إدارة التفاوض وخريطة الطريق التي يعرضها كل منهما والخيارات البديلة التي ستتجه إليها دمشق في حال انهارت المفاوضات، وخيارات “قسد” في ذلك.
تصور الحل لدى الطرفين
جاء أحمد الشرع بأوراق قوية وخارطة طريق واضحة معززة بنصر ساحق انتهى بسقوط النظام، بينما جاء مظلوم عبدي بنفس الأوراق التي كان يحملها عندما كان يفاوض النظام السوري دون إدراك للمتغيرات الحاصلة وانقلاب المزاج الدولي والإقليمي تجاه الوضع الجديد وترحيب الدول الإقليمية بسيطرة الإدارة الجديدة على دمشق.
وجاء مظلوم عبدي ولديه خطان أحمران هما الحفاظ على وضع الإدارة الذاتية التي تتمتع بوضع إداري خاص وصلاحيات واسعة تصل إلى حد قبول التمثيل الدبلوماسي وتوقيع الاتفاقيات مع الدول مع أن هذا الكانتون المتخيل فيه أغلبية عربية لا علاقة لها بمطالب الإدارة الذاتية للمكون الكردي الذي من المفترض أن “قسد” تمثله. كما أنه ليس محددا على أساس ديني ولا قومي. إنه كانتون على أساس فكرة الأمة الديمقراطية. وهنا تكون “قسد” أمام هوية سياسية جديدة هي شعوب شرق الفرات المكونة للأمة الديمقراطية وهو ما ينفي أن تكون “قسد” هي الممثل للمكون الكردي أصلا.
كذلك يريد مظلوم عبدي الحفاظ على “قسد” في شقها الأمني والعسكري كيانا مستقلا مع تبعية رسمية لكنها شكلية لوزارة الدفاع ووزارة الداخلية في دمشق. وهو ما يعني أن هناك جيشا داخل الجيش.
أما ما يمكن أن يقدمه عبدي لدمشق فهو جزء من ثروات شرق الفرات من النفط والغاز وأن تقوم دمشق بالانتشار على الحدود مع تركيا والعراق وتسليم ملف “داعش” وبعض والمؤسسات الحكومية لدمشق وهو ما يعني أن يبقى مشروع “قسد” كما هو، والمطلوب من دمشق مواجهة تركيا لحماية سيادة سوريا باعتبار أن “قسد” باتت شكليا تابعة لدمشق.
هذه المطالب هي نفسها المطالب التي فاوضت عليها “قسد” نظام الأسد خلال السنوات الماضية وهو ما يعني أن “قسد” لا تعير كل المتغيرات التي حدثت أية أهمية وأنها تبدي موقفا متصلبا تجاه دمشق.
في المقابل قدم أحمد الشرع خارطة طريق مرنة جدا لحل مشكلة شرق الفرات ومشكلة “قوات سوريا الديمقراطية” تشتمل على عدد من الخطوات منها تسليم السلاح وحصر السلاح بيد الدولة وإدخال قوات “قسد” للجيش كأفراد لوزارة الدفاع وجيش سوريا المستقبل وليس كهيكل عسكري، وإخراج المقاتلين الأجانب من شرق الفرات وتسليم كل الدوائر الحكومية شرق الفرات، وتسليم الموارد من نفط وغاز إلى دمشق، وكذلك تسليم ملف “داعش”، والتنسيق مع التحالف الدولي.
وتتعهد دمشق بحماية الحدود وتسوية وضع عناصر “قسد” السوريين الذين كانوا على صلة بتنظيم “حزب العمال الكردستاني” وتتعهد بالكف عن ملاحقة تركيا للعناصر السورية التي كانت منتسبة للحزب باعتبارهم مواطنين سوريين. كذلك يتعهد الشرع بإعادة المهجرين الكرد إلى عفرين وكل المناطق التي أخرجوا منها وضمان الحقوق الثقافية والسياسية للكرد في سوريا ويشترك الكرد بكل استحقاقات الحوار الوطني والمسار السياسي ويبدو أن هذه الخارطة نالت إعجاب الإدارة الأميركية والاتحاد الأوربي رغم التحفظ التركي عليها وهو ما يعني أن “قسد” في حال رفضت هذه الخارطة فإنها ستخسر الغطاء الأميركي والأوروبي وسيتم إطلاق يد دمشق لحل الملف بطرق أخرى.
البدائل لدى كل من دمشق و”قسد”
يرجح أن تتجه دمشق في حال وصلت المفاوضات مع “قسد” إلى طريق مسدود إلى عدة خيارات وبدائل لحل مشكلة شرق الفرات وتوحيد الجغرافيا السورية، مثل الضغط على “قسد” من خلال نزع الغطاء الأميركي والأوروبي عنها، بسبب رفض عرض دمشق والبحث عن بديل سياسي كردي للتفاوض معه على الحقوق التاريخية للمكون الكردي مثل المجلس الوطني الكردي، وإطلاق يد تركيا وفصائل الجيش الوطني لممارسة ضغط عسكري محدود على “قسد” يدفعها للعودة إلى طاولة المفاوضات كما ستستثمر دمشق الخلافات الداخلية في “قسد”، خاصة بين جناح “قنديل” والجناح الوطني السوري، وتقوية موقف الجناح المحلي على جناح “قنديل”، كما ستفتح دمشق قنوات تواصل مع المكونات العربية داخل “قسد” مثل “المجلس العسكري لدير الزور” و”ثوار الرقة” و”الصناديد” والذين يشكلون أكثر من نصف القوة العددية في “قسد” ومحاولة إبرام تفاهمات خاصة معهم بعيدا عن قيادة “قسد” وترتيب أوضاعهم داخل وزارة الدفاع وهي خطوات بدأتها دمشق بالفعل.
أما بالنسبة لـ”قسد” فتواجه تحديات كبيرة جدا فهي عرضة لثورة عربية كامنة لا ترى نفسها معنية بمشروع منظومة تدار لمصالح قومية فئوية غير سورية، كما تعاني من أزمة مشروعية في تمثيل الكرد السوريين الذين ينظرون لها كقوة أجنبية غير سورية، ويرون في “قسد” هوية أممية هجينة لا تعبر عن طموحات كرد سوريا رغم زيارة مظلوم عبدي لأربيل ولقائه مع مسعود البرزاني لتوحيد مطالب الكرد السوريين خلف “قسد” لكن اللقاء لم يحظ بالنجاح، كما تعاني “قسد” من مشكلة انسحاب أميركي وشيك، خصوصا مع وصول إدارة الرئيس دونالد ترمب التي قد تتخلى عنها ما يعني بقاءها دون غطاء دولي وما سيمهد لأزمة أخرى وهي اجتياح تركي وشيك يمكن أن يدمر كل ما بنته “قسد” من هياكل. والأزمة الأكبر هي تحكم الجناح القنديلي في قرارها وهذا الجناح مرتبط أساسا بإيران وهو ما يعني تحول “قسد” إلى ذراع إيرانية في حال خسرت الغطاء الغربي.
أمام هذه التحديات لن يكون أمام “قسد” الكثير ما عدا ورقة “داعش” والموارد السورية التي تسيطر عليها وهنا سيكون من الأخطاء القاتلة أن تستخدم “قسد” ورقة “داعش” وخلق حالة من الفوضى الأمنية من أجل شد أقدام الولايات المتحدة لعدم الانسحاب من سوريا، خصوصا بعد تعهد دمشق بتولي هذا الملف والاستمرار في محاربة “داعش” فهو ملف مطلوب إغلاقه كذلك تبعا لكل ملفات التنظيمات الأخرى. أما الموارد والثروات فسيكون كذلك من الخطأ ابتزاز إدارة دمشق بهذه الثروات لتقديم تنازلات سياسية لأنه سيعني أزمة أخلاقية مع الشعب السوري المحروم من هذه الموارد وفقد أي تعاطف شعبي مع “قسد”.
لكن الخطأ القاتل الأكبر هو أن تبحث “قسد” عن حليف إقليمي مثل إيران التي خسرت نفوذها في سوريا عن طريق جناح “قنديل” الذي باتت له الكلمة العليا في منطقة شمال شرقي سوريا خصوصا مع توارد المعلومات عن وصول مضادات طيران إيرانية لمواجهة الطائرات التركية بيرقدار وطائرات مسيرة من إيران إلى “قسد” وهي الأسلحة التي باتت تستخدم حاليا من قبل “قسد” في معركة منبج وسد تشرين مع “الجيش الوطني”.
وتتمثل مشكلة “قسد” في أزمة داخلية وصراع أجنحة بين جناح محلي يرغب في التفاهم مع دمشق ووقف العداء لتركيا والانخراط في مؤسسات الدولة السورية، وبين جناح يتبع قيادة “قنديل”، له الكلمة العليا ويصر على تحويل سوريا إلى ساحة صراع دولية وإقليمية وتمرير أجندات إيرانية من خلال الاستحواذ على قضية الكرد السوريين، وهو ما يتضح من حجم التصلب الذي تبديه “قسد” في مفاوضاتها مع دمشق حيث تعود إلى طاولة التفاوض مع دمشق، لكنها تكرر المطالب نفسها التي سبق أن طرحتها على النظام السوري، دون أن تُدرك التغيرات المحلية والإقليمية التي طرأت على المنطقة.
وتعتمد “قسد” سياسة تعطيل بناء مؤسسات الدولة والسيطرة على مواردها واستخدامها كورقة ضغط لتعزيز موقفها التفاوضي مع دمشق. لكن المشكلة تكمن في فشل “قسد”، كما غيرها من القوى، في فهم المرحلة القادمة التي باتت تركز على إنهاء وجود أي منظومات ما دون دولتية، بمختلف أيديولوجياتها وقومياتها وطوائفها. ويبدو أن المنطقة تتجه نحو إغلاق هذا الملف بالكامل.
ويعتمد مستقبل “قسد” بشكل أساسي على قدرتها في قراءة دقيقة للمتغيرات الإقليمية والمحلية، والسعي نحو تسوية سريعة مع دمشق، تتجنب من خلالها خسارة كل ما حققته حتى الآن وتتويج هذه المكتسبات من خلال حسم قرارها ومصيرها ضمن المشروع الوطني السوري.
وعلى المدى القريب، قد يكون الخيار الوحيد أمام “قسد” هو تقديم تنازلات كبيرة، سواء فيما يتعلق بالموارد أو ملف السلاح والانضمام بشكل فردي إلى وزارة الدفاع، لضمان بقائها في المشهد السياسي السوري.
المجلة
———————————
“حربي بالأجواء ومدفعية بالتجهيز”.. نهاية عصر الخوف في سوريا وبداية تحديات جديدة/ ثائر المحمد
2025.01.29
لطالما ارتبطت الحياة اليومية للسوريين خلال حقبة نظام الأسد بالخوف والترقب، بعد بدء الثورة السورية ومواجهتها بالقمع، كانت التعاميم الصادرة عن المراصد عبر قبضات اللاسلكي حول تحليق الطائرات الحربية والمروحية في الأجواء تعني اقتراب الموت، كانت السماء تتحول إلى مصدر دائم للرعب مع سقوط الصواريخ والبراميل المتفجرة، كذلك كانت التحذيرات من المسيّرات الانتحارية والقصف المدفعي تحكم حياة السوريين وتجعلهم في حالة خوف وقلق دائم.
ومع سقوط النظام، انقلبت المعادلة، اختفى صوت المراصد الذي كان يحذّر من الموت، وغابت صفارات الإنذار التي كانت تنبئ بالقصف، أما الطائرات المروحية، التي كانت يوماً أداة تدمير، فباتت اليوم في أيدي إدارة العمليات العسكرية التي تعمل على تأمين البلاد وملاحقة فلول النظام السابق.
سوريا، التي عانت طويلاً من ويلات حرب النظام وحلفائه على السوريين، تقف اليوم عند مفترق طرق جديد، فمرحلة ما بعد الأسد فرصة لإعادة بناء مجتمع دمرته سنوات من القمع، رغم ما يعتري ذلك من تحديات هائلة.
تحديات ما بعد إسقاط الأسد
بالرغم من إسقاط نظام الأسد وانتهاء حالة الرعب اليومي، تواجه سوريا في مرحلة ما بعد الأسد تحديات كبيرة، لعل أبرزها ملف إعادة الإعمار، فالدمار الهائل الذي لحق بالبنية التحتية يتطلب جهوداً جبارة لإعادة بناء المدن والقرى المتضررة، كما أن الاقتصاد السوري، الذي انهار بسبب سنوات الحرب، يحتاج إلى إصلاحات جذرية لجذب الاستثمارات وإعادة الحياة إلى الأسواق.
سوريا بعد سقوط النظام لم تخلُ من الأعباء؛ الدمار الذي خلفته حرب الأسد على السوريين يحتاج إلى جهود كبيرة لإعادة الإعمار، مدن وبلدات كاملة تحولت إلى أنقاض، والطرقات والبنية التحتية بحاجة إلى إعادة تأهيل شامل.
من جانب آخر، رغم انتهاء المعارك، تبقى مخلفات الحرب تحدياً كبيراً، آلاف الألغام والذخائر غير المنفجرة ما زالت تهدد حياة السكان، خاصة الأطفال، وتعد الجهود المبذولة لإزالتها خطوة أساسية لضمان سلامة المدنيين وعودة الحياة إلى طبيعتها، حيث تتطلب هذه المهمة دعماً دولياً وتقنيات متطورة لتطهير الأراضي من هذه المخاطر.
حتى على مستوى الحوادث المرورية، أدى ضعف البنية التحتية وسوء واقع الطرق الرئيسية إلى تصاعد معدلات حوادث السير في سوريا، بالتالي، إصلاح الطرق وتطبيق قوانين المرور هما مفتاح تقليل هذه الحوادث وضمان سلامة المواطنين.
على صعيد آخر، خلفت الحرب الآلاف من المصابين، بعضهم فقد أطرافه وآخرون يعانون من إصابات دائمة تعيق حياتهم اليومية، هؤلاء الأشخاص بحاجة إلى دعم مستمر، سواء من خلال العلاج الطبي أو الدعم النفسي والاقتصادي، ويعتقد كثيرون أن الوقوف مع المصابين ليس واجباً إنسانياً فقط، بل هو خطوة نحو إعادة إدماجهم في المجتمع ليصبحوا جزءاً من إعادة بناء الوطن.
أما المخيمات التي لجأ إليها ملايين السوريين خلال الحرب فتُعتبر من أكبر المآسي، ومع زوال النظام، أصبح واجب إعادة هؤلاء إلى ديارهم أولوية عبر توفير بيئة آمنة ومنازل بديلة وإعادة بناء القرى والمدن، وهي مسؤولية تقع على عاتق الحكومة والمجتمع الدولي، لطي صفحة النزوح وإعادة الملايين إلى أرضهم.
الحالات النفسية وواجب معالجتها
تسببت سنوات الحرب في آثار نفسية عميقة على السوريين، خاصة الأطفال والنساء، من اضطرابات القلق إلى الاكتئاب والصدمات النفسية، وهنا تبرز أهمية إطلاق برامج نفسية متخصصة لضمان تعافي المرضى.
أما “الشهداء” الذين قدموا أرواحهم خلال سنوات الثورة، فقد تركوا وراءهم أُسراً تعاني الفقد والحرمان، ومن الضروري الوقوف مع ذويهم وتقديم الدعم لهم، سواء اقتصادياً أو معنوياً، وهو ما ينطبق أيضاً على ذوي المعتقلين والمختفين قسرياً.
أزمات شكلت مصدر قلق للسوريين في عهد نظام الأسد
طوال عقود من حكم نظام الأسد، عانى السوريون من أزمات متعددة أثرت على تفاصيل حياتهم اليومية وألقت بظلالها الثقيلة على جميع جوانب المجتمع.
هذه الأزمات لم تقتصر على الجانب الأمني أو الاقتصادي فحسب، بل امتدت إلى الجوانب الاجتماعية والسياسية، لتحول حياة السوريين إلى جحيم، ويمكن ذكر عدد من هذه الأزمات، وأبرزها:
القصف الجوي والصاروخي
كانت الطائرات الحربية والمروحية الروسية والسورية في سماء سوريا رمزاً للرعب، البراميل المتفجرة التي أُلقيت على المناطق السكنية قضت على آلاف الأرواح وهجّرت الملايين.
الاعتقالات التعسفية والاختفاء القسري
الأجهزة الأمنية التابعة للنظام استخدمت الاعتقالات كأداة لتثبيت سيطرة الأسد، حيث كان مجرد الشك كافياً للزج بالأفراد في السجون ثم الموت تحت التعذيب، مع تزايد حالات الاختفاء القسري، حيث كان كثير من السوريين يُقتادون من دون أي أثر أو محاكمة.
التقارير الأمنية
كانت هذه التقارير المليئة بالمبالغات والوشايات من أكثر ما يؤرق السوريين، وزادت من حالة القلق بين المواطنين، خاصة أنها كثيراً ما تنتهي بالضحية في أحد الفروع الأمنية.
الأزمات الاقتصادية والمعيشية
كانت طوابير الخبز الطويلة واحدة من أبرز مظاهر الأزمة الاقتصادية في عهد نظام الأسد، مع نقص حاد في المواد الغذائية الأساسية، كما أن انقطاع الكهرباء بشكل شبه دائم ونقص الوقود فاقما الأزمة، مع تدهور العملة السورية والتضخم الجنوني، مما جعل الأسر عاجزة عن تأمين احتياجاتها الأساسية.
التهجير والنزوح الداخلي والخارجي
أجبرت العمليات العسكرية واسعة النطاق لنظام الأسد وحلفائه ملايين السوريين على ترك منازلهم، مع تحول كثير من المدن والبلدات إلى مناطق أشباح، حيث هُجرت بالكامل بسبب القصف والدمار، فضلاً عن نزوح الملايين إلى دول الجوار وأوروبا بحثاً عن الأمان.
القمع الإعلامي وتقييد حرية التعبير
كان الإعلام في سوريا أداة دعائية للنظام، مع غياب تام لأي مساحة للتعبير الحر، وكانت وسائل الإعلام المستقلة أو المعارضة تُقمع بشدة، مما حرم السوريين من الحق في سماع أصوات متنوعة، كما أن الرقابة الصارمة والتضييق على الإنترنت جعلا من الحصول على المعلومات مهمة شبه مستحيلة.
الأوضاع الصحية المتردية
تعرض النظام الصحي في سوريا للانهيار بسبب الحرب وقصف النظام لمئات المستشفيات والمراكز الطبية، مع نقص حاد في الأدوية.
التعليم المنهار
كانت المدارس هدفاً للقصف، مما أدى إلى حرمان ملايين الأطفال من التعليم، وتحول كثير منهم إلى عمالة قسرية، في حين أصبح نظام التعليم غير قادر على تلبية احتياجات الأجيال الجديدة، مما زاد من معدلات الأمية والتسرب المدرسي.
الانقسام الاجتماعي والطائفي
استخدم النظام خطاباً طائفياً لتأجيج الانقسامات بين مكونات الشعب السوري، وأدى ذلك إلى شرخ عميق في النسيج الاجتماعي.
سيطرة الميليشيات الأجنبية
وجود ميليشيات مدعومة من إيران وروسيا زاد من تعقيد المشهد السوري، فهذه الميليشيات لم تكن فقط أداة لدعم النظام، بل أيضاً مصدراً لانتهاكات واسعة بحق المدنيين.
فرض الحصار على المدن والمناطق
فرض النظام حصاراً خانقاً على العديد من المدن والبلدات المعارضة، مما أدى إلى تجويع السكان، واستخدم الأسد الحصار كأداة عسكرية ضد الثائرين.
تدمير البنية التحتية
أدى القصف المستمر إلى تدمير واسع للبنية التحتية، بما في ذلك الطرق والجسور والمستشفيات والمدارس، إعادة بناء هذه المرافق تتطلب سنوات طويلة واستثمارات ضخمة.
انتشار الفساد والمحسوبية
الفساد المستشري في المؤسسات الحكومية جعل الحصول على الخدمات الأساسية يعتمد على الرشاوى والمحسوبيات، وأدى غياب الرقابة والمساءلة إلى زيادة الهوة بين المواطن والدولة.
التأثير النفسي والاجتماعي
تركت سنوات الحرب والقمع آثاراً نفسية عميقة على الأطفال والكبار، بما في ذلك الصدمة والقلق والاكتئاب، تفكك الأسر وتشتيت العائلات بسبب النزوح والهجرة فاقما الأزمات الاجتماعية.
العقوبات الاقتصادية والقطيعة السياسية
فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات صارمة على نظام الأسد، شملت تجميد الأصول وحظر التعاملات المالية وفرض قيود على الصادرات.
كذلك، فإن القطيعة السياسية مع غالبية الدول العربية والدول الغربية جعلت من سوريا دولة معزولة دولياً، حيث تم تعليق عضويتها في الجامعة العربية وأصبحت محرومة من أي دعم دولي.
تصدير المخدرات
أصبحت سوريا خلال سنوات الحرب مركزاً لإنتاج وتصدير المخدرات، لا سيما مادة الكبتاغون، وثبت أن النظام السوري وميليشياته متهمون بالتورط في تصنيع وتصدير الكبتاغون إلى دول الجوار وأوروبا.
من المؤكد أن سقوط النظام يمثل بداية جديدة لسوريا، لكن رحلة البحث عن الاستقرار تتطلب استعادة الأمن وإعادة بناء المؤسسات المدمرة وتحقيق العدالة الاجتماعية، فالسوريون اليوم أمام فرصة تاريخية لبناء وطن جديد يعتمد على العدالة والمساواة، يعيشون فيه بعزة وكرامة، ويباهون فيه العالم، قائلين: “صار عنا وطن”.
تلفزيون سوريا
————————————–
ضمانات نجاح الانتقال إلى دولة الحق والقانون/ عبدالله تركماني
2025.01.29
تعيش سورية اليوم مرحلة انتقالية، جاءت بعد 54 عاماً من تسلط آل الأسد، ومن المهم رؤية محتوى هذه المرحلة وصياغة أسئلتها، انطلاقاً من التحوّل المؤسسي القائم على مجموعة قيم دولة الحق والقانون: الحرية والكرامة والديمقراطية وحقوق الإنسان.
ولعلَّ ما طرحته قيادة إدارة تصريف الأعمال، حول ضرورة الانتقال من الثورة إلى الدولة، يشكل مدخلاً هاماً لنجاح مرحلة الانتقال من الدولة التسلطية إلى الدولة المنشودة، التي تلقى قبولاً من أطياف الشعب السوري كافة. وفي هذا السياق تواجهنا عدة أسئلة وتحديات: هل ستكون الجمهورية السورية الثالثة دينية أم مدنية؟ برلمانية أم رئاسية أم مختلطة؟ ما مدى ضمانها للحريات الفردية والعامة بما فيها حرية المعتقد؟ وكيف يتم تأمين التداول على السلطة والفصل بين السلطات الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية)؟ وهل سيتم تشكيل هيئة مستقلة للانتخابات تضمن نزاهتها؟
ولا شكَّ أنّ نجاحنا في الانتقال إلى دولة الحق والقانون مرهون بكيفيات تعاطينا مع التحديات السابقة، وما يرتبط بها من مؤسسات فاعلة ومجدية، ومدى قدرتنا على توفير أوسع إجماع سياسي واجتماعي من المكوّنات السياسية والفكرية والاجتماعية كافة. ويعتمد هذا الإجماع على ثقة المواطنين السوريين وتعاونهم، من خلال تأمين حرياتهم وعدم فرض توجهات سياسية وثقافية معينة عليهم.
ومن المؤكد أنّ القضيّة ليست فقط في الخيارات التي ينبغي التوجه لها وإنما في تأمين كيفيات الوصول إليها، من حيث الأدوات والمؤسسات، آخذين بعين الاعتبار غنى مجتمعنا بتعدد مكوّناته الفكرية والسياسية والطائفية والمذهبية والقومية، وكيفية تحويل هذا التعدد إلى فرصة وغنى بدل أن يشكل مخاطر على الهوية السورية الجامعة، من خلال التوجه إلى الدولة المدنية باعتبارها وسيلة للمواطنة المتساوية لا للمحاصصة.
من الأسئلة التي تُطرح علينا: ما الذي ينبغي تغييره؟ وما الذي ينبغي الإبقاء عليه؟ وكيف نضمن التطورات المستقبلية؟ وماذا نفعل بالثقافة السلطوية القديمة؟ وهل التغيير يحدث من تلقاء نفسه أم لا بدَّ من إدارته؟ وما الفترة التي ستستغرقها عملية التحوّل؟ وهل يمكن لثقافة سياسية بكاملها أن تتغير لتحلَّ محلها ثقافة أخرى؟ وكيف يتم تفكيك آثار النظام السلطوي السابق والدولة الأمنية؟ وكيف يعاد إنتاج النظام السياسي على نحو يؤسس لديمقراطية تشكل أساساً للتغيير بكل مستوياته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، بما يفرضه ذلك من إعادة بناء الدولة السورية الحديثة؟
إذ إنّ التحوّل يشير إلى مرحلة وسيطة تضمن تجاوز الأسس البنيوية التي ارتكز عليها النظام التسلطي لآل الأسد، وإرساء البنى والمؤسسات التي يمكن أن تكون أسساً لدولة الحق والقانون. مما يفرض إطلاق الحريات العامة، بما فيها قوانين مرنة لتأسيس الأحزاب السياسية والمنظمات المتنوعة للمجتمع المدني، لإشاعة التنافسية السلمية البرامجية بين القوى السياسية والمجتمعية، كي تمارس أدوارها كقوى اقتراح ورقابة لتحسين أداء إدارات الدولة.
وما يضمن نجاح عملية التحوّل تشكيل جمعية تأسيسية توافقية، من أولى مهامها إعلان هيئة الحكم الانتقالي التشاركية بين جميع الأطراف السياسية والاجتماعية المعنية بإنجاز عملية التحوّل، طبقاً لإعلان دستوري مؤقت تعلنه الجمعية التأسيسية، وفي الوقت نفسه إعداد الدستور الدائم، الذي تجري على أساسه الانتخابات المفترض أن تشرف عليها، في كل مراحلها، هيئة مستقلة تعلن قانوناً للانتخابات لضمان نزاهتها ونتائجها التي تعبرّ عن إرادة الشعب السوري.
ولا شكَّ أنّ نجاح عملية التحوّل والانتقال إلى دولة الحق والقانون مرهونة بانخراط مختلف أطياف الشعب في بناء الجمهورية السورية الثالثة، التي تفسح في المجال لحياة سياسية ومجتمعية فعّالة. بما يضمن اعتماد نظام مدني يضمن المواطنة المتساوية لجميع السوريين والسوريات، في ظل الهوية السورية الجامعة التي تحتضن الهويات الفرعية لكل أطياف الشعب السوري، وتعتبرها مصدر غنى لمستقبل سوريا، حيث يشعر الجميع بانتمائهم الوطني الجامع، في ظل دولة الكل الاجتماعي.
وفي هذا السياق لا ينبغي توجيه طاقات الشعب السوري لتصفية الحساب مع الماضي وإهمال تحديات الحاضر وتأجيل التفكير في آفاق المستقبل، بحيث لا تُختزل الأمور بالفصل التعسفي بين ما هو سياسي عمّا هو اقتصادي واجتماعي، إذ إنّ السوريين، إضافة إلى الحياة السياسية النشطة أحوج ما يكونون إلى ضمان مستوى معيشي مناسب من خلال تأمين العمل والسكن والصحة والتعليم، بما يتطلب إصلاحاً شاملاً لكل مؤسسات الدولة، طبقاً للشرعة العالمية لحقوق الإنسان ومبادئ الحوكمة الرشيدة (المساءلة، والشفافية، والكفاءة).
ومن أجل أن نحصّن الدولة السورية الجديدة من خطر المساعي الخبيثة لقوى الثورة المضادة يجدر بنا السعي إلى انخراط كل القوى الحية في المجتمع السوري لاستكمال عملية الانتقال إلى الجمهورية السورية الثالثة.
—————————
روسيا تحط مجدداً في دمشق وتزاحم أوروبا على التعاون مع الإدارة الجديد/ سميح صعب
تحديث 29 كانون الثاني 2025
غداة قرار الاتحاد الأوروبي تعليق بعض العقوبات المفروضة على سوريا، حطّ وفد روسي برئاسة نائب وزير الخارجية المبعوث الشخصي للرئيس فلاديمير بوتين، ميخائيل بوغدانوف، في دمشق، بما يعيد الاتصال الرسمي الأول على هذا المستوى بين موسكو والإدارة الجديدة في سوريا منذ سقوط نظام بشار الأسد في 8 كانون الأول/ديسمبر الماضي.
ليس بالضرورة أن يكون ثمة ترابط بين القرار الأوروبي وزيارة الوفد الروسي إنما الحدثان يؤكدان احتداماً في التنافس الدولي على سوريا، خصوصاً بين الاتحاد الأوروبي الذي كانت ممثلته العليا للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية كايا كالاس قد اشترطت، للتعاون مع الإدارة السورية الجديدة، أن تعمد الأخيرة إلى إغلاق القاعدتين الروسيتين في حميميم وطرطوس.
قابلت روسيا التغيير في سوريا ببراغماتية، على رغم منحها اللجوء “الإنساني” للأسد، وحاولت أن ترقى بالعلاقات التاريخية بين روسيا وسوريا، إلى مستوى العلاقات بين الدول لا الأفراد. ولم تخلُ التعليقات الروسية على الأحداث السورية من توجيه الانتقادات إلى النظام السابق، صادحة بالاستغراب من عدم قبوله الانفتاح على المعارضة والتجاوب مع عملية جنيف التي تنصّ أصلاً على الانتقال السياسي.
وأحجمت روسيا، على عكس إيران، عن إلباس الحدث السوري قميصاً تركياً. ولم تتهم أنقرة بالوقوف خلف هجوم الفصائل المسلّحة السورية على حلب وصولاً إلى دمشق، على رغم أنها كانت تراقب بذهول الأيام العشرة التي هزّت سوريا. وتحافظ موسكو على علاقاتها الجيّدة مع أنقرة، على رغم دعم الأخيرة كييف عسكرياً.
والواقعية الروسية قابلتها واقعية من الإدارة السورية الجديدة، بحيث لم تطلب من روسيا إخلاء قاعدتيها فوراً، وأبقت الباب مفتوحاً أمام الحوار بين دمشق وموسكو.
أراد الأوروبيون، وفي مقدّمهم فرنسا، ممارسة الضغوط على روسيا، انطلاقاً من سوريا. وبينما انحسر النفوذ الفرنسي في الأعوام الأخيرة في منطقة الساحل، جنوب الصحراء، في أفريقيا لمصلحة التمدد الروسي في القارة السمراء، وتحديداً في “فرنسا الأفريقية”، وآخرها في التشاد والسنغال، رأت باريس التي كانت سباقة في الانفتاح على سوريا فور إسقاط الأسد أن “ترد التحية” لروسيا بحرمانها من المياه الدافئة في المتوسط.
وأوكرانيا أيضاً وجدت الفرصة سانحة كي تملأ الفراغ الروسي في سوريا، فزار وزير خارجيتها أندريه سيبيغا دمشق، والتقى قائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع، عارضاً تقديم مساعدات من القمح الأوكراني، من بين أوجه أخرى للتعاون.
يبقى القرار في نهاية المطاف لدمشق في ما إذا كانت ستنخرط في سياسة الاستقطاب والمحاور الدولية، أم ستسلك مسار التعاون مع أوروبا وروسيا والولايات المتحدة، بما يؤمّن لها تدعيم النظام الجديد والتركيز على إعادة الإعمار وبناء علاقات متوازنة مع العالم الخارجي.
إن بقاء سوريا ساحة للصراعات الإقليمية والدولية لن يساهم في تدعيم الانتقال السياسي بسلاسة، بينما تواجه الإدارة الجديدة الكثير من المشاكل الداخلية، ولا تزال في أول الطريق على صعيد بناء قوات أمن جديدة، والبحث عن السبل التي تسهل حياة السوريين المعيشية، وتتطلّع إلى رفع العقوبات الغربية، وفي مقدّمها “قانون قيصر” الأميركي.
قد يكون ذلك مرتبطاً إلى حدّ كبير بعدم انزياح سوريا مجدداً إلى الفوضى. وروسيا بما تملكه من علاقات مع الكثير من الأطراف السورية، لا سيما الأكراد، تستطيع أن تلعب دوراً بنّاءً في التوصل إلى تفاهم بين دمشق و”قوات سوريا الديموقراطية” (قسد).
تضع زيارة الوفد الروسي لسوريا بدايةً جديدة للعلاقات مع دمشق، مع الاحتفاظ بقدر كبير من الحذر حيال ما يمكن أن تكون عليه طبيعة العلاقات الروسية – السورية، التي هي سابقة على قيام نظام “البعث” في سوريا، من منطلق المصالح المشتركة للبلدين.
لا بدّ أن التواصل السوري – الروسي سيكون مبعث غرابة في أوروبا وفي الولايات المتحدة التي يبحث رئيسها دونالد ترامب عن وسائل جديدة للضغط على بوتين لحمله على وقف الحرب فوراً في أوكرانيا.
النهار العربي
———————————–
السلطة الجديدة والموقف منها/ غسان المفلح
ما استلمته هذه التوليفة الجديدة للسلطة هو عبارة عن خرابة. لا دولة ولا هم يحزنون.
تحديث 29 كانون الثاني 2025
قضيت عمري المعارض والكتابي كي اكتب مادة تحمل هذا العنوان. السلطة الجديدة في سورية. لكن رغم أن هذا الحلم لم يفارقني أبدا، أيضا لم أتوقع ان أكتب عن السلطة الجديدة والموقف منها. كان حلمي الأخير ربما في هذه الحياة التي لم تنفصل بها حياتي العامة عن تفاصيل حياتي الشخصية. يا إلهي لقد تجاوزنا الأسدية. بالنسبة لي لازلت تحت تأثير هذه النقلة الحلم. كان حلم الثورة التي انطلقت من سهل حوران حلمي الأول في هذه الحياة، ثورة أنا متأكد أن العالم سيعود إليها وإلى تفاصيلها، عندما تصير هي وسورية في حقل التاريخ العادي، التاريخ الذي لم نصله بعد، بفعل التداخلات السياسية والمصلحية الخطيرة التي لاتزال تعيشها سوريتنا. عندما تنجو سيبدأ كتابة تاريخها الحقيقي والفعلي. سيكتب عنها أكاديميا، وسيكتب عنها للدراما، سيكتب عنها غضبا منها وإنصافا لها. رغم ضخامة الحدث، رغم أننا في مرحلة لكل كلمة يمكن أن يكون لها تأثيرها السلبي أو الإيجابي. المعنى أنه يجب أن تحسب حسابات كثيرة في مرحلة بناء الجمهورية السورية الثالثة. رغم هذه المحاذير سأحاول ان أقول الحقيقة عما سأكتبه هنا.
– من حيث هذه النقلة رغم معارضتي الشديدة لتنظيم جبهة النصرة منذ لحظة الإعلان عنه وكتبت عن أسباب معارضتي لها العديدة من المواد. إلا أنني كنت الوحيد من بين كل نخب المعارضة السورية الذي كان يتبنى ويدافع رغم معارضتي لها بشدة، أنها محمية من أمريكا. ربما هذه المقدمة الصغيرة فيها محاباة للذات قليلا لكنني أكتب لأجيال قادمة. هذا ما جعلني في سياق هذا الدفاع عما كنت مقتنعا به، أن ألاحق كل تفصيل يخص هذا التنظيم وتحولاته. ومصادر تمويله وكل ما يتعلق به. كنت أتابع تفاصيل حكمها لمدينة إدلب. أيضا كنت أؤكد ان هذه الحماية الامريكية والتمويل يجعلها في موقع المستقلة عن السياسة التركية. وعن أية سياسة أخرى متدخلة بالشأن السوري. أيضا اتضح ذلك بصفقة المدن الأربعة. تركيا لم تكن تريد هذه الصفقة التي تمت بين النصرة وإيران بوساطة قطرية. ولا حتى الفصائل المقربة من تركيا.
لابد هنا من التذكير بموقف الصديق جورج صبرا المدافع عن جبهة النصرة بعد تأسيسها بفترة، وكم تعرض لهجوم من اجله، وكنت من بين المنتقدين له في هذا الموقف. ثم موقف الراحل ميشيل كيلو أيضا مدافعا عنها. هذا الأمر لفت نظري في الواقع، لأنني أيضا انتقدت موقف كيلو. حاولت عبر حوار مكتوب مع الراحل لازلت احتفظ به، ولم أنشره بناء على أسباب لست بصدد الحديث عنها. لكن فحوى الحوار كان من أجل معرفة تفاصيل موقف الراحل من جبهة النصرة.
تابعت فتاوي داعش بهدر دم الجولاني. والتحول الذي بدأ يفصح عنه في شق حركة الجهاد العالمية التي كان يتزعمها تنظيم القاعدة، وفروعه في العالم. هذا التحول جعله بداية جهاديا سوريا. في إطار هذه اللمحة المختصرة عن موقفي من التنظيم، رغم ذلك تفاجأت بما حدث، لكن ما خفف من حدة المفاجأة هو معرفتي بالموقف الأمريكي من هذا التنظيم وربما دوره في هذه التحولات. من تنظيم ملثمين يرفع الراية السوداء للجهاد العالمي لتنظيم سوري يرفع علم الثورة. تنظيم لم يكن له عضوا واحدا خارج سورية. وأدار إدلب باقتدار اقتصادي وسياسي رغم كثرة الأعداء حوله. الاعتراف بهذه الوقائع لا علاقة له بالموقف من هذه السلطة.
هذه التحولات على التنظيم حتى وصلنا لهيئة تحرير الشام، كان لها أثر واضح من خلال تعامل التنظيم اللوحة السورية عموما وإدلب خصوصا ومعه الشمال السوري كله. لم تشتبك مع قوات قسد ولا لمرة واحدة مثلا. لم تشارك الفصائل الأخرى بهذا القتال الدامي المستمر.
– جاءت إلى السلطة ليس مهما كيف؟ المهم أنها كانت اليد التي حررت البلد من الأسد. والأهم أيضا هو ما تركته من انطباع في اذهان السوريين. في هذه النقلة الضخمة في تاريخ سورية والمنطقة عموما. يختصرها بعض مناصريها “الجولاني حرر والشرع يقود”. هذا ليس مهما في أذهان النخب المؤيدة للسلطة أو المعارضة، المهم كيف استقبلها الشارع السوري؟ هذا ما أهمله الكثير من النخب السورية التقليدية والحديثة! بدأت تحاكم الوضع واخذت موقفها بناء على انحيازاتها الخاصة. دون الالتفات للشارع السوري. كأن الموضوع لا يعنيهم. ما يعنيهم انحيازاتهم المسبقة. رغم ذلك ما استلمته هذه التوليفة الجديدة للسلطة هو عبارة عن خرابة. لا دولة ولا هم يحزنون. لدى طاقمها الأول خبرة في إدارة مدينة واحدة وبعض ريفها. هل هذا كاف لإدارة بلد كسورية؟ بالتأكيد لا يكفي، وبالتأكيد هذه البلد التركة الخرابة، تحتاج إلى حكم انتقالي يمتاز بخاصيتين:
الأولى: رجالات تكنوقراط خبراء نسبيا بالمرحلة الانتقالية ومتطلباتها، وخبراء في وضع البلد الاقتصادي والمالي والسياسي من جهة، ومن جهة أخرى خبراء في المحاولة خلال ذلك على تلبية حاجات الناس اليومية بالحد الذي لا يسبب بمزيد من الإفلاس المالي.
الثانية: يمثلون كل المكونات السورية من جهة ومن جهة أخرى التمثيل يجب ان يترافق مع الكفاءة فقط. لا مع الوزن السياسي، ولا مع المساحة الأيديولوجية التي تغزو البلد الآن.
من جهتي أحسد من سارع لاتخاذ موقف نهائي من هذه السلطة الجديدة خلال أيام! ربما منذ اليوم الأول هنالك من اتخذ موقفاً سلبياً أو إيجابياً. ومن جهتي أيضا اكتشفت أن موقفي السابق الذي نوهت في المقدمة عنه من المحررين، حاولت ألا يؤثر علي في الموقف من السلطة. لو تركته للحظة يؤثر علي لكنت اتخذت موقفاً رافضاً لها جملة وتفصيلا. آخذاً بعين الاعتبار عدة عوامل منها: وضع البلد بعد هروب الواطي، رجال هذه السلطة هم من حرروا البلد من الابد. انتشار السلاح في البلد والخطورة على السلم الأهلي. الموقف الأمريكي والاوروبي عموما من هذا الحدث وممن قاموا به، خاصة بعد رفع اسم السيد احمد الشرع من قائمة المطلوبين ثم رفع العقوبات الأمريكية لمدة ستة أشهر. أخيرا موقف الفضاء السياسي والايديولوجي والطائفي لبقايا الاسدية من هذه السلطة، كان موقفا ثأرياُ رغم عدم امتلاكهم للقوة، ماذا لو امتلكوا القوة من جديد ماذا سيفعلون بالشعب السوري عندها؟ إضافة لطريقة تعامل السلطة الجديدة مع عنوان السلم الأهلي.
هذا أبدا لا يلغي مراقبتي الحثيثة لسلوكها وتسمية السلبي بشكل صريح وواضح. وتثمين الإيجابي. كمرحلة مؤقتة حتى تتضح نهائيا توجهاتها في إدارة المرحلة الانتقالية التي لم تبدأ بعد. باختصار مع وضد حتى حين… وللحديث بقية.
العربي القديم
——————————-
========================