ياسين الحاج صالح : حرية سوريا هشّة ويجب عدم التعجّل في نسيان ما انتهى
ديانا سكيني
تحديث 29 كانون الثاني 2025
يقول عقل ياسين الحاج صالح بعد أربعين يوماً من سقوط النظام إنَّ “زمن الاحتفال يجب أن ينتهي”، لتبدأ مرحلة التأسيس بمشقاتها.
تحاكي اللحظة السورية المكثّفة العقل والعواطف. وإن كانت الأخيرة تنساق بفعل الحواسّ والذاكرة المثقلة إلى احتفائية مفتوحة بسقوط النظام السوري أملاً بطيّ “صفحة الأبد”، فإن عقل ياسين الحاج صالح يقول بعد أربعين يوماً من سقوط النظام إن “زمن الاحتفال يجب أن ينتهي”، لتبدأ مرحلة التأسيس بمشقاتها، وصنوها دولة القانون والمساواة. ولا يمكن مداواة الجرح السوري من دون عدالة يجري البحث عن مساراتها على دروب كثيرة، منها تقفّي أثر المفقودين سميرة الخليل ورزان زيتونة وناظم حمادي ووائل حمادة.
ولا يستسيغ الحاج صالح الانجرار وراء تيار “الهواجس والقلق”، فقد كان هناك في زمن “البراميل والكيماوي وصيدنايا، وكان هناك قبل الثورة السورية ذاتها، وكان موجهاً طوال الوقت ضد “الخطر الإسلامي”. أنت لا تستطيعين فعل شيء لمن جعل من خوفه هوية، تعريفاً لنفسه، عبر السنين الطوال”. أما وجوه القيادة الجديدة، فبعضها “حسنة النية”، لكنّها “ضيقة التكوين الفكري والإجتماعي”.
في الآتي حوار لـ”النهار” مع الكاتب والناقد والباحث والمترجم، والسجين السياسي السابق الذي ألّف العديد من الكتب عن سوريا، وعن السجن، وعن الإسلام المعاصر، وعن الثقافة وعن السياسة.
* من البديهي أن أسأل عن الصور والانطباعات فيأول لقاء لك مع سوريا “الجديدة” بعد غياب طويل؟
مشاعري متلاطمة، يغلب فيها الابتهاج والاحتفال بسقوط النظام. عقلي يقول لي بعد أربعين يوماً من سقوط النظام إن زمن الاحتفال يجب أن ينتهي، لكن يبدو لي من ملاحظة ذاتي ومن حولي أن شيئاً في أعماق أنفسنا، أو في أعماق أجسادنا، يدعو إلى عدم الاستعجال على الهمّ، فهو آتٍومعه القلق وانشغال البال. لنستمتع الآن بوقت لا يأتي مثله في العمر مرتين، وما يستحق بالتالي أن لا يعامل كأيام وأسابيع مثل غيرها.
وهذا متصل بما كانت الحال قبل السقوط. لا يعرف غير السوريين، ولعلنا نحن السوريين بالذات لم نستطع وضع ذلك في كلمات واضحة، أن الحكم الأسدي لم يكن قمعياً، أو حتى مفرط القمعية متجاوزاً الأنظمة العربية الأخرى بأشواط، بل هو في الجوهر خسيس، دنيء النفس، مفتقر للحد الأدنى من السماحة والكرم، يستولي على كل شيء ولا يشبع؛ وهو فوق ذلك عمل على التمييز بين السوريين وتخويف بعضهم من بعض، وتقويض الثقة في ما بينهم، فكان نظام فتنة دائمة أو نظام حرب أهلية مستمرة، عكس ما يُنتظر من الدولة في بلدان الأرض كلها. أجسادنا تعرف ذلك الشيء الوسخ الذي تخلصنا منه بما يشبه المعجزة أكثر من أذهاننا، وهي لذلك تغلّب حسّ الاحتفال إلى اليوم.
على أن برنامجي الذاتي، ككاتب، هو بالأحرى الحذر والانتباه للمخاطر ومواطن النزاع الناشئة، وهو ما أحاول فعله بقدر الإمكان. المحصّلة مزيج من الابتهاج والانتباه وعدم التعجل.
* قصدتَ آخر مكان كانت فيه سميرة ورفاقها قبل الاختطاف والاختفاء، هل من سبيل للعدالة؟
كان الاعتصام أمام ما كان مقرّ مركز توثيق الانتهاكات في دوما، ومنه اختُطفت سميرة ورزان ووائل وناظم، بادرة رمزية لإدخال القضيّة أجندة العمل العام في زمن جديد. أعمل في الوقت نفسه مع أصدقاء حقوقيين على بناء قضية حول تغييب امرأتي. هذه أولويتي التي تعلو أيّ شيء آخر حين قدمت إلى سوريا وفي ما سيأتي من زمن إلى حين معرفة كامل الحقيقة ومعاقبة الجناة.
* هل سوريا حقاً حرّة اليوم؟
سوريا قد تكون أكثر بلدان العالم حرية اليوم. يمكن أن تقولي إنها حرية هشّة، تفتقر إلى ركائز مؤسسية ونواظم قانونية، وقد تعصف بها العواصف بعد حين. نعم، دون شك. لكن هنا أيضاً يفيد أن نقول إن في بلدنا التعيس أهم قصّة في عالم اليوم. قبل أسبوع كتبت لي صديقة ألمانية تقول إن “روح العالم” في سوريا. هذا يكثّف تماماً في رأيي لحظتنا الراهنة. “روح العالم” لا تستقر في أي مكان ولن تبقى هنا طويلاً، لكنه زمن خاص، استثنائي، ويقع علينا منذ الآن تحويل جسد الاستثناء إلى قواعد لحياة جديدة متحررة.
* هل لا بد من فترة سماح للقيادة الجديدة لتثبت ما أمكن من قدرات، من خطط…؟ وما رأيك في الوجوه الجديدة؟
“فترة السماح” ليست ممّا يقرّره أي أحد. إنها فترة نقاهة يفرضها الإبلال من داء خطير مديد. والأمر يبقى صحيحاًأياً يكن الفريق المسيطر اليوم. التوجس المشروع من تكوين الفريق النافذ الجديد لا يمسّ بالحاجة إلى هذه الفترة التي قد يمكن تقسيمها إلى فترات فرعية. الأشهر الثلاثة الأولى لتسير الأعمال وتلمس واقع الحال، في البلد وحوله؛ ثم فترة أطول، بين عام أو عامين في تصوري لبسط الأمن والتقدّم نحو توحيد جغرافيا البلد؛ وقد تلزم ثلاث أو أربع سنوات بحسب ما تكلّم الشرع من أجل إرساء أسس نظام جديد ودستور جديد وانتخابات عامة. لا بأس بمدة أطول على أن تصان الحريات العامة. نحن أيضاً محتاجون إلى “فترة سماح” من أجل تنظيم أفكارنا وتجديد قوانا وبناء منظماتنا وجمعياتنا وأحزابنا. ما يجدر بالسوريين كلهم اليوم الخشية منه هو التعجّل، وضع النفس تحت ضغط فعل أشياء كثيرة بسرعة. نحن اليوم في انفعال وأفكارنا غير واضحة، وبعض الأناة والصبر ضرورة حيوية.
الوجوه الحاكمة الجديدة، أو بعضها، تبدو لي حسنة النيّة وعلى بيّنة من التحديات الكبيرة، لكنها ضيّقة التكوين الاجتماعي والفكري، وضعيفة حيال البيئة الإقليمية والدولية، وغير شفافة في ما تقوم به من إجراءات وما تتطلع إليه.
* لم تخلُ هذه الفترة الانتقالية من أفعال ثأرية وانتقامية، من خوف وهواجس لدى بعض المجموعات الطائفية أو قلق لدى العلمانيين… كيف تتفاعل مع هذه الوقائع؟
ما يحدث من انتهاكات اليوم يجب أن يوثّق ويدان، ولا يبدو أن ذلك يحدث بصورة منهجية. مساحة الكلام على الانتهاكات هي اليوم وسائل التواصل الاجتماعي، وهي ليست ذلك المكان الصحي لتوثيق المعلومات وتطوير خطاب واضح بشأنها.
على أني ألاحظ أن ما أشرت إليه “من خوف وهواجس لدى بعض المجموعات الطائفية” و”من قلق بين العلمانيين”، كان هناك في زمن البراميل والكيماوي وصيدنايا، وكان هناك قبل الثورة السورية ذاتها، وكان موجهاً طوال الوقت ضد “الخطر الإسلامي”، أي السنّي. أنت لا تستطيعين فعل شيء لمن جعل من خوفه هوية، تعريفاً لنفسه، عبر السنين الطوال. رأيي أننا الآن في وضع أفضل مبدئياً للتعامل الجذري مع هذه المخاوف والهواجس القلقة من أي وقت سبق. لست أضمن الفريق النافذ اليوم، لكني لا أضمن اختصاصيّي الهواجس والقلق كذلك. هناك ضرورة للكلام في هذه الشؤون، لتناولها بصراحة ووضوح. سنكون في وضع مناسب لنقد الفكر السياسي الإسلامي وإظهار حدوده في ما يخص المواطنة والمساواة الحقوقية والسياسية، وللاعتراض المتسق على أيّ انتهاكات محتملة، إذا تجاوزنا “الهواجس والقلق” نحو كلام واضح بخصوص المواقع والأدوار والتوقعات والتطبيعات خلال ما يقارب 14 عاماً، وأربعين عاماً قبلها. هذا أساسي إن كنّا نتطلع إلى مجتمع سياسي عقلاني، لا مجتمع مشاعر مختلطة ما دون سياسي، يحتاج إلى الخوف ويخاف إن لم يكن هناك ما يهدّد أمنه. أساسي في رأيي أن نقول إن بعض الهواجس والقلق هو خشية من فقدان امتياز غير مشروع ووضع خاصّ وليس مجرد خوف من التعرض للتمييز.
أرى اليوم تعجلاً على نسيان ما عشناه طوال معظم أعمارنا، وهو تعجّل لا أراه صحياً ولا مستقيماً في واقع الأمر. وأعتقد أنه من أجل أن نقول إلى ماذا نتطلع أن نقول ما الذي انتهى، وكيف تشكلت توقعات و”طبائع” خلال السنوات الطوال جداً من سيطرة ما انتهى. إننا محتاجون إلى سياسة بصيرة للذاكرة بقدر ما نحتاج إلى سياسة متبصّرة للسير حو المستقبل. ومن أجل أمان سوري عام، يجب تذكر ما جرى لملايين خلال سنوات وعقود، واحترام من فقدوا الأمان طوال معظم الحقبة الأسدية.
* هل من خريطة طريق واقعية لولادة نظام الحكم الجديد برأيك؟
كديموقراطيين، خريطتنا تتمثل في الدفاع عن الحريات العامة، وحكم القانون، والشفافية والنقاش العام المفتوح، والمساواة بين الرجال والنساء، وبالطبع التعددية السياسية (وليست الدينية والثقافية)، والانتخابات الحرة وتداول السلطة. المهم راهناً هو الحضور الفاعل للصوت الديموقراطي، وقدرتنا على تطوير خطابات تتصل بالمسائل الاجتماعية والاقتصادية الملحة بشدة، التي تبقى الحريات العامة هشة دون التقدّم في معالجتها.
وأولي شخصياً تجريم التعذيب وتحريمه مكانة رئيسية في أي تصوّر للمستقبل، وأرجو أن يصير مادة في الدستور القادم. وفي المقام الثاني أرجو كذلك التحريم الدستوري للحكم الأبدي.
* هل تخشى من الأسلمة في سوريا، بمعنى تغلغل الفكر والنهج في مؤسسات الدولة ومفاصل المجتمع؟
سوريا بلد أكثر سكانه مسلمون. كان الأمر كذلك طوال الوقت. ما يُخشى هو تحوّل هذا الواقع إلى أيديولوجية مجنونة متطرفة مثلما كان الأمر بالفعل لسنوات، وخاصة بين 2013 و2018. لكن الجنون ليس حكراً على الإسلاميين، وقد تخلصنا للتو من جنون أسدي مطبق كثف نفسه في شعارات مثل الأسد أو لا أحد، والأسد أو نحرق البلد، وفي البراميل والكيماوي والتعذيب والاغتصاب. ما يثير غضبي شخصياً هو أجندة مهيمنة دولياً وإقليمياً،وحتى محلياً، تتكلم على جنون واحد لتبرّر جنونات أخرى، أو على غول واحد لتتكتم على غيلان أخرى. كنت شخصياًفي منازعة لهذا التواطؤ منذ ما قبل الثورة السورية بسنوات. نشغل موقعاً أفضل لإدانة ضروب التطرف الإسلامي إن كنا ندين ضروب التطرف الأخرى، وهو ما لم يحدث كثيراً. وبالمقابل نضع أنفسنا في موقع أسوأ أمام مخاطر النكوص إلى جنون أسدي أو ما يقاربه إن لم نفعل ذلك. وليس لأحد أن يقول إن ذلك غير ممكن. لقد حدث في مصر قبل 12 عاماً.ومن المهم أن نتذكر أن سوريا ليست قطاع الناشطين والمثقفين والفنانين الذين عاشوا في عزلة اجتماعية في الحقبة الأسدية، واستبطن غير قليل منهم قدراً طيّباً من التعالي على المجتمع، ومن “ازدواج المعايير” في الحكم على ما هو عاقل وما هو مجنون، ما هو “طبيعي” وما هو ليس كذلك.من المهم بالقدر نفسه ألا نتطوّع في معارك أيديولوجية هي ما يفضّله ويرغب فيه متطرفون متنوعون، بمن فيهم متطرفون إسلاميون. يفترض أن نعمل على تسييس وعقلنة التفكير في المشكلات الاجتماعية، بدل أدلجتها وتديينها.
* أين يرى ياسين الحاج صالح نفسه في هذه المرحلة السورية، لا سيما لناحية القيام بدور سياسي وفكري؟
“الدور الفكري” أقوم به بقدر المستطاع، أما الدور السياسي فليس مما أتطلع إليه أو أملك الكفاءة للقيام به.
النهار العربي