نوري الجراح: سوريا ستواجه صراع أفكار حاداً
حاوره: محمد حجيري
الأربعاء 2025/01/29
نوري الجراح من أبرز الأصوات الشعرية في سوريا، يعيش في المنفى اللندني منذ أكثر من أربعين عاماً. عدا إصداراته الشعرية ومجاميعه التي يستلهم بعضها من عوالم دمشق والملحمة السورية، هناك شغفه بعالم أدب الرحلة واهتمامه بجائزتها السنوية. الحوار معه الآن حول لحظة سقوط الديكتاتور، وهي لحظة لا تنفصل عن الشعر بمعناه العميق… وأيضاً عن مستقبل سوريا وأفقها.
– كيف عشت اللحظات الأولى عند سقوط نظام بشار الأسد؟ هل كنت تتوقع سقوطه بهذه السرعة؟
* ما أدهشني حقا أن ما كنت انتظره لعقد ونصف العقد، وكدت أيأس من أعيش حتى أراه، أنا وغيري من السوريين، فجأة، راح يحدث، ويتحقق بما يشبه السحر، وبلمح البصر.. ما حدث راح يتدحرج أمامك وبصرك لا يلحق به، كل شيء كان مدهشاً في وقائعه.. الزاحفون من شمال البلاد إلى جنوبها كما لو كانوا كرة من اللهب راحت تتدحرج ولا يوقفها شيء، كثرة منهم كانوا بالأمس شباناً يافعين أو أطفالاً صغاراً هجّرهم نظام الطاغية من بيوتهم في دمشق ودرعا والجولان وحمص وحلب، ومن أرياف هذه المدن الثائرة في واقعة بالغة الغرابة لنظام يطرد شعبه من بيوتهم.. لكن ها هم يعودون لاسترداد ما سلبهم إياه أشر سفاحي العصر وأكثرهم دموية ووضاعة.
تلقيت خبر الانهيار السريع لنظام الأسد وملهاة هروبه خلال جولة لي في متحف الثورة في مكسيكو سيتي، اجتاحتني إذ ذاك عاصفة من المشاعر المتناقضة، جاء فتى وسألني إن كنت أحتاج إلى مساعدة… وقتها تنبهت الى أنني كنت أقف في جوار صورة كبيرة للثائر زاباتا في جوار رفاقه في أحد ميادين الثورة، والدموع تترقرق في عيني. ظنَّ الشاب أنني تأثرت لمشاهد الثوار المكسيكيين ببنادقهم وسيوفهم وصدورهم المطوقة بأحزمة الرصاص.. أما كان شعبي يستحق طاغية يليق بتضحياته الأسطورية؟ طاغية ينتحر كما فعل طغاة التاريخ؟! أو يُقتل بطريقة دراماتيكية تتناسب ومليون ضحية ومئات آلاف المعتقلين والمغيبين، وملايين اللاجئين في أربع جهات الأرض، بدلاً من أن يهرب؟
اعتذرت للفتى، والفتاة التي هبت هي الأخرى بإشارة منه وناولتني ظرفاً صغيراً فيه محارم ورقية. قلت اليوم هرب طاغية سوريا تاركاً وراءه نظامه المنهار. والآن آمل أن تكون الثورة انتصرت حقاً. أن لا تكون اختطفت، وأن لا يواجه السوريون المزيد من المرارات.
أول ما خطر في بالي وأنا أغادر ذلك المتحف العظيم القائم تحت أعلى قبة نصر في العالم، ترى هل سيكون القصر الأضخم في سوريا القائم على إحدى قمم قاسيون متحفاً للثورة السورية؟ لا أظن أن أحداً ممن سيحكمون سوريا مستقبلاً يستحق أن يجلس في ذلك القصر الضخم الأشبه بقلعة كبرى، والذي لا يبنيه إلا الطغاة، وقد بني من لحم ودم وعظام شهداء سوريا في معتقلات الأسدين. إنني لأتمنى على نبهاء شعبي أن يطالبوا به متحفاً لثورة الحرية والكرامة، وأن لا يسكنه حاكم مهما علا شأنه، ومهما كانت شعبيته، ومهما كانت تضحياته.
ما يخطر لي الآن أن سوريا لن تذهب إلى المستقبل من دون أن تحمل معها إلى ذلك المستقبل شهداء ثورتها العظيمة، وتصون القيم والمبادىء التي قامت عليها الثورة، والتطلعات التي نادى بها الثائرون، أحياء وشهداء، يوم كسروا خوفهم وكسروا معه هيبة نظام الموت في ربيع العام 2011.
– منذ متى لم تزر دمشق أو سوريا؟
* آخر مرة كنت في دمشق هي اليوم الأخير الذي قضيته فيها قبل أن أغادر مطلع سنة 1981.
– ما الذي تشتاق إليه في دمشق، أي صورة للمدينة عالقة في ذاكرتك بعد الغياب الطويل؟
* كل ما شاقني في مسقط رأسي أودعته في قصائدي عبر السنوات. والآن أتساءل معك. أي شخص سأكون هناك، وأي مدينة ستكون دمشق بعد كل ما جرى خلال عقود العذابات المروعة والمآسي الخرافية التي عاشها السوريون ودفعوا أثمانها الباهظة من مصائرهم الأليمة. هناك صور للمدينة تحملها إلينا الأخبار كل ساعة، صور للأماكن والوجوه وقد نال منها الأذى ما نال، وشوهت آلة الجحيم الأسدي جمالها الذي عرفت في صباي. ليس في وسعي أن أفكر بدمشق كسائح، أكثر ما يجعل قدمي تتردد في المسارعة إلى العودة ذلك الشعور بالخوف من أن لا أجد المدينة التي تركت. في صباي قست كل شبر فيها بخطواتي، وتشربت ملامحها، لا أعرف متى، لكن لا بد أن أعود، لا بد أن أفوز ولو بنسمة من ذلك الهواء الذي ملأ رئتي بتلك البرودة الحزينة في اليوم الأخير لي وأنا أغادر دمشق، وبتلك الغصة في القلب.
– “فتيان دمشقيون في نزهة” مجموعة شعرية فيها تواصل مشروعك الذي يشتبك مع الجغرافيا والتاريخ والأساطير والملاحم، وكتبت كثيراً عن الملحمة السورية… هل كتبت لحظة سقوط النظام، هل كتبت عن رعب صيدنايا؟ أيهما شدك أكثر للكتابة، الفرح الشعبي العارم بسقوط النظام، أم مشهد أدوات القتل والتعذيب في السجون؟
* من يعِش ساعات فارقة في التاريخ كتلك التي عشنا، سوريين ولبنانيين، مع انهيار نظام الأسد، لا يفكر في ذاته، يتعطل فيه كل شيء آخر سوى انغماسه الانفعالي الكامل في تلك اللحظة الملحمية ودقائقها التي راحت تكتب نفسها. لا كتابة ولا قراءة ولا أفكار، ولا تحليلات. فقط انفعال عاطفي يبلغ بالمرء ذروةً يفيض معها من نفسه، ويتحول إلى طفل، ويفقد كل توازن. هكذا كنت، هكذا استقبلت الواقعة.
والآن، ما تكشف للعالم من فظائع النظام النازي السوري (أصفه بالنازي، لأن ما من كلمة أفضل تقرب المسافة بين الجريمة وقراءتها)، لم يكن مجهولاً خبره المهول بالنسبة إلينا نحن السوريين، عرفنا عن تلك الفظائع يوماً بيوم، فقد أنزلت بأهلنا، وعندما كنا نتحدث عن ما يجري في بلادنا ونحدد الواقعة ونسمي المكان والزمان ونشرح ونعيد، ونقدم الصور ومقاطع الفيديو شاهداً على ما جرى (كواقعة إبادة السوريين بالغاز في غوطة دمشق وأماكن أخرى) كان جل أصدقائنا من المثقفين العرب يمطون شفاههم متعجبين، بطرائق لا تُبين لنا سريعا معنى تلك الإشارات، أهي تعجب من الوقائع أم تعجب مما نقول؟ كان لا بد للجريمة أن تملأ أسماع العالم مراراً وتحفر صورها في العيون حتى يمكننا أن ننتزع من إخوتنا من أهل الفكر والأدب والفن التفاتة متعاطفة. انقسموا من حول دمنا بين مصدق متعاطف لدرايته بطبيعة النظام، ومصدق ولديه شك في أن نكون مبالغين قليلا أو كثيرا، ومشكك مكذب لكونه فضل أن يكون من ضحايا السمعة القومية الزائفة للنظام السوري في طبعتيه الدمويتين، النظام الذي ترك سوريا قاعاً صفصفاً، حطاما من البشر والعمران، قتل مليون انسان وأزال من الوجود مدناً بأكملها، طاردا نصف أهل البلاد إلى خيام العالم، ونصفهم الآخر رمى بهم أحياء في قبر جماعي اسمه سوريا.
الآن صار في وسعنا أن نقول لإخوتنا الذين شكلوا وفوداً متضامنة مع السفاح الهارب وزاروه في قصره، انسوا كل هذا الذي رأيتموه على مدار 14 عشر عاماً من التراجيديا السورية، وتفرجوا مع من تفرج على شريط واحد فقط من الهولكوست السوري، سجن صيدنايا. دخله حسب تقديرات مختلفة 360 ألف إنسان حياً، ولم يخرج منه سوى خمسة آلاف أحياء.
أسمع الآن تلك الجملة الرائعة، ذلك السطر في ملحمة جلجامش: “هو الذي رأى”. نعمةٌ أن يرى المرء، بمعنى أن يدرك ما لا يدرك بالعين. فكيف يفوت بشر في عصرنا أن لا يروا ما يقع أمام العين؟
المرعب أن سجن صيدنايا الواقع في منطقة ريف دمشق، إنما يقوم في واحدة من أعرق وأجمل البلدات السورية، فيها 21 ديراً و40 كنيسة، ومن أديرتها دير بناه الامبراطور جوستنيان صاحب المدونة الحقوقية الرومانية العظيمة. اللغويون يعتقدون أن الاسم الآرامي للبلدة يرمز إلى مكان صيد الغزالة، صيد–نايا، آل الاسد حولوا المكان العريق إلى مسرح لصيد الآدميين.
ليس عتباً على إخوتنا وأخواتنا من المثقفين العرب أدباء ومفكرين وغيرهم ما أسلفت الإشارة إليه لما نالنا من تشكيك وخذلان لقضيتنا بلغ حد رمينا نحن وثورتنا في سلة أميركا واسرائيل واتهامنا من جانب البعض بخيانة الوطن والذات. لكن دعوة إلى وقفة مراجعة للمواقف ما دامت الحقيقة قد أسفرت عن نفسها كاشمس، وسقطت أكذوبة أبشع أنظمة العالم العربي الراقد الآن في قمامة التاريخ.
سؤالك يريدني أن أتحدث عن ابتهاج السوريين بهروب الأسد. نعم، هرب الأسد، لكن ماذا عن الغابة؟ أكرر هنا هذه الجملة وهي تلخص وضعنا نحن السوريين. النظام لم يسقط بعد، أنصاره وخلاياه وذيوله وشبكة الأنصار داخلاً وخارجاً ومعها الواقع الفاسد الذي أنتج في نصف قرن كل هذا مازال موجوداً. ومن بين رموز النظام من نقل البندقية من كتف إلى كتف، وضهر في الصورة والبيرق الذي كان يشتمه ويدوسه بقدمه في زمن الطاغية ها هو يلوح به مباهيا، وبالتالي، عندي، أن الثورة لم تنتصر تماما بعد. حتى القادمين الجدد الذين طردوا فلول النظام والتقط لهم العالم الصور وهم يقفون على جثته في قصر الشعب في قاسيون ترددوا في رفع علمهم الأبيض ووجدوا أن لا مناص هنا في دمشق من رفع العلم الأخضر نفسه الذي سبق لهم أن اضطهدوا من كان يرفعه في دويلتهم التي تحدروا منها في الشمال السوري.
لا أقلل هنا من قيمة ما قدموه لثورة السوريين، فقد اسقطوا النظام الأعتى في المنطقة وقصموا ظهر المحور الفارسي، وحققوا حلم جميع السوريين. ولا يجب أبداً أن ننسى لهم هذه المأثرة. لكن يجب أن نتوقف هنا ونتأمل في ما حدث. تقهقر النظام أمام زحفهم، وفي اليوم الحادي عشر سقط بالضربة القاضية، فوجيء العالم الغافل عن حقيقة هزال النظام، والحقيقة أن السورين على مدار 14 عشر عاماً أنهكوا هذا النظام بما سددوه له من ضربات دفعوا ثمنها مليون شهيد، وكانت مصائرهم المأسوية هي الثمن الحقيقي لنهاية النظام.
ليس لدي أي رهان على الإدارة الجديدة في دمشق في هذه المرحلة قبل الوصول إلى المرحلتين الانتقالية والدائمة. لكني أراهن على حكمة شعبي. فقد خاض السوريون تجارب متعددة ولا بد أن نثق في هذا الشعب في ما يمكن أن يختاره، من خلال ممثلين عنه يقدمهم لنا بنفسه، وليس من خلال وسطاء خارجيين، وإنما من خلال حراك مدني اجتماعي سياسي يشارك فيه أفراد وأحزاب، عبر منتديات محلية تقرر ما تريده وتناضل من أجله بدءا من أصغر قرية وحتى كبريات المدن وصولا العاصمة دمشق. هكذا يمكن للربيع السوري أن ينبت أزهاره بعيدا عن ألاعيب الدول الكبرى، وسياسات المحاور الإقليمية.
– لم تتطرق إلى ديوانك الأخير “فتيان دمشقيون في نزهة” الصادر قبل بضعة شهور من تحرير دمشق… لكأن عنوانه توطئة للحدث الذي أخرج السوريين إلى هواء الحرية. متى كتبت قصائد هذا الديوان؟
* ضم الديوان قصائد كتبت في السنوات الثلاث الأخيرة، وهي بأجوائها وحالاتها تجليات حلمية لذلك التوق إلى العودة إلى مسقط الرأس، دمشق وقد تراءت لي مع بعض القصائد أفقاً سرابيا يقترب ويبتعد، قصائد الكتاب صدرت غالباً من غوص على الذات وذاكرتها البصرية بحثا عن تلك المدينة المتأرجحة بين الواقع والخيال، رحلة مع أصوات وإيقاعات ولوحات وحكايات عابقة بعبير المتوسط، بشمسه وزرقته ومرئياته القارة في الذاكرة والمخيلة، وقد لطخت المآسي البحر المتوسط بدماء غرقى المراكب.
كيف يمكن لي أن أتحدث عن شعر تتخلق صوره بين قوة اليفاعة، وسحر الجمال الطبيعي، وعنف المآسي الإنسانية؟
دعني أعترف أن قصائد هذه الكتاب كانت بمثابة محاولة لابتكار مطهر جمالي يساعدني على الاستشفاء من جحيم الألم الجماعي للسوريين عبوراً إلى فردوس المخيلة ممثلا في عوالم حلمية تحيط بمدينة سرابية هي دمشق تلامحت من وراء أسوار خرجت من بواباتها صبايا في استقبال فتية يافعين رجعوا أخيراً من نزهة لم تكن سوى مقتلة دامية.
– مَن تفتقد من الأصدقاء في هذا المرحلة، هل كان لك أصدقاء في السجون؟
* ما من سوري إلا وله أصدقاء قضوا في السجون. لي أنا أيضاً أصدقاء طحنتهم السجون والمعتقلات، كانوا طلاباً ومثقفين وفنانين، أصدقاء خرجوا أحياء وآخرون لم يخرجوا أبداً. أدين، ويدين كل سوري لهم، أحياء وشهداء، لما ضحوا به من أعمارهم، وبما أنجزوه بمصائرهم من أجل سوريا حرة وكريمة، لقد ألزمت نفسي منذ عقود بإيصال أصواتهم المخنوقة إلى العالم. لم أسمح لنفسي ولا لقصيدتي، في أي وقت، مغادرة خندق الدفاع عنهم روحياً وجمالياً وفكرياً. لطالما كانت قصيدتي مرافعة جمالية دفاعاً عن الحرية.
انتظرت بأمل كبير أن أرى وجوه من انقطعت أخبارهم بين وجوه من خرجوا إلى النور. وما زالوا بلا أي خبر عنهم. كم شخص مثلي تسلح بالأمل ولم ينل مراده؟ إنهم بعشرات الآلاف. يا صديقي… أولئك الذين لم يخرجوا إلى النور ولم تظهر صورهم في لائحة قيصر ومن بينهم بعض من عرفت.
– ما الذي تقوله للشعراء أو المثقفين المؤيدين للأسد؟ هل تطالبهم بالاعتذار؟
* ليس لدي ما أقوله لهم إلا ما يمكن أن يقولوه لأنفسهم أمام المرايا. لو هم استيقظت ضمائرهم وأدركوا معنى الشعور بالكرامة.
– هل تخاف من الأسلمة، أو التقسيم؟ وأي دستور وأي بلد تحلم به في المستقبل؟
* لا أخاف شيئاً ما دام سيصدر من داخل سوريا بعيداً من الأجندات الخارجية. بعد خمسة وخمسين عاماً من الاستبداد المتوحش، هناك استحقاق تاريخي لا بد من مواجهته. ولن تكون الصورة وردية.
ما يقلقني أن لا يبادر السوريون إلى صناعة مستقبلهم بالاعتماد على أنفسهم أولاً وأخيراً، وأقصد بالسوريين ليس فقط من هو داخل البلاد، ولكن أيضاً من كان خارجها بفعل ظروف القهر والشتات في المغتربات والمنافي البعيدة والقريبة وفي مخيمات اللجوء في الجوار الأردني واللبناني والتركي والعراقي. ما يقلقني أن لا يتمكن هؤلاء مجتمعين من تقرير مستقبل سوريا بأكبر قدر من الاستقلال عن الخارج، وذلك عبر منتدياتهم وأحزابهم ونشاطهم المدني الحر.
في ظني أن السوريين لم يعودوا كما كانوا في زمن النظام البائد، خائفين من السياسة، لكونهم اكتشفوا أخيراً حقيقة أن خوفهم من السياسة وابتعادهم عنها كانا من بين أكبر أسباب التسلط عليهم إلى درجة الاستعباد. سقط النظام الوظيفي الذي باع سوريا لكل مشترٍ، ولا ينبغي للسوريين أن يسمحوا بقيام نظام وظيفي آخر تحت راية ثورتهم، أو أي راية أخرى.
مرة أخرى أدرك أن الصورة لن تكون وردية، لكنني لست قلقاً مما سيحمله إلينا المستقبل. فالسوريون الذين أبدعوا في هدم الأسوار وتحرير أنفسهم بأنفسهم من المقبرة الجماعية التي ابتكرتها الدولة المتوحشة، لديهم من الإمكانات ما سيمكنهم من أن يبدعوا معجزة بناء سوريا جديدة تليق بتضحياتهم التاريخية.
– هل لامست الإرباك الثقافي بعد سقوط بشار؟ وقد لوحظت عودة الأصوات الثقافية إلى عصبياتها الطائفية والعرقية. هل هذا مردّه أن الثقافة والحداثة كانت مجرد قشور؟
* ما جرى في سوريا، وقبلاً في بلدان عربية أخرى تداول مثقفوها مصطلح الحداثة كشف الهوة بين المصطلح وطبيعة الوعي به، من جهة، وبين المصطلح والواقع، ليس الثقافي وحسب، وإنما الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. فليست الحداثة، كما جرى تداولها عربياً، سوى نزوع رغبوي في واقع متخلف لم ينتج المجتمع الذي أنتج الأداة التي تجعله حداثياً، مجتمع غلبت عليه صيغ أبوية ذات طابع استبدادي غالباً، وفي أفضل الأحوال أنجز دولة الرعاية وليس دولة المواطنة كما عرفها العالم المتحضر، أي مجتمع استهلك تلك الأداة ومنتجاتها الغربية، فظلت الحداثة عبارة عن قشرة لغوية. فكيف تكون الحداثة ممكنة في واقع استبدادي ينتمي إلى عصور الظلام؟ وكيف تكون الحداثة مفهوماً واقعياً في بيئة لم تنتجها، لكنها استجلبتها، وها هي تطبقها على نصوص أنتجت في بيئة منفعلة على كل صعيد وبالتالي غير فاعلة حضارياً، وفي أفضل الأحوال مجتمعات بديكور حداثي ذي طابع استهلاكي، لا مكان فيه إلا لثقافة التفاهة بتعريف اَلان دونو، ولكن بطبعة شرقية بائسة.
سوريا ستواجه في السنوات القليلة المقبلة صراع أفكار حاداً يمكن أن يحتدم، قبل أن ينتج نخبه القادرة على الحوار في ما بينها مهما تباعدت الأفكار ومهما كان الاختلاف حاداً.. وما أرجوه أن تتوافر ظروف لخوض هذا الحوار سلمياً، وأن لا يقود في بعض محطاته إلى العنف المتبادل بين النخب التي يمكن أن تتشكل. لا توجد اليوم نخب سورية واضحة التوجهات وذات ملامح متبلورة يمكن أن تجري حواراً منتجاً. نظام الحزب الواحد بطبعته الأسدية قام بتجريف الحياة السياسية والفكرية والثقافية عموما على نحو مأسوي، وخلق فئات نخبوية لا جمهور لها تؤمن بالمجتمع المدني، لكنها فئات ثقافية مشوهة انتهازية وفاسدة اعتاشت على الفتات الذي يرميه لها النظام، وعندما اندلعت الثورة انضمت إلى المعارضة ولم تنسجم مع سواها من الفئات المعارضة الأخرى ومن بينها القوى الدينية، وواصلت من موقعها الجديد المعارض انتهازيتها وهزالها وظلت مشتتة وعلى الهامش.
من هنا أوافقك على أن هشاشة هذه الفئات النخبوية كشفت في بعض الحالات عن انتماءات ما دون الدولة، من عشائري، وطائفية، دينية وعلمانية سواء بسواء. أتحدث عن الظواهر، وليس عن الأفراد. فهناك بالتأكيد عقول فكرية وثقافية وإبداعية سورية لامعة، ووعي فردي شديد الرهافة عند البعض. لكن للأسف لا يوجد في الأفق مشروع فكري جاد، ولا حوار بالتالي بين أطراف فكرية سورية يمكن أن يقود إلى صيغة لمستقبل سوريا الثقافي. نحن يا صاحبي في حاضر ثقافي بائس.
– في رأيك لماذا لم تقم “هيئة التحرير” بتفعيل وزارة الثقافة حتى الآن؟
* الوضع السوري الآن في حالة طوارىء كل ما له علاقة بالفكر والأدب والفن من مؤسسات سيبقى مجمداً على ما هو عليه. لأن إعادة بناء هذه المؤسسات مرهون بالمرحلة الدائمة، ما أراه أنه يتوجب على السوريين السوريون خوض معركة المبادىء التي ستقوم عليها هذه المؤسسات، ولا يخفى عنك أن المسألة الثقافية والفكرية كانت وما زالت في صلب ثورة السوريين في مواجهة نظام قمعي صادر الحريات وكمم الأفواه، وأخضع المؤسسات وبينها مؤسسات الثقافة لمشروعه الاستبدادي، وبالتالي فإن تحرير هذه المؤسسات ليعبر المجتمع عن نفسه من خلالها هي مهمة تحتاج إلى مقومات لن تتوفر قبل بلوغ المرحلة الدائمة. الثقافة هي العنوان الأكثر جوهرية والأعمق تعبيراً عن وجدان السوريين وتطلعاتهم، وقد بلوروها في العنوان الذي أعطوه لثورتهم: “ثورة الحرية والكرامة”، التي توجت خمسة عقود من نضالات القوى الحية في المجتمع المدني في مواجهة النظام وتوجهاته المغتصبة لمجتمع متعدد الطوائف والإثنيات والتوجهات الفكرية للجماعات والأفراد.
ولسوف يعي هؤلاء الذين انتدبوا أنفسهم ليكونوا “أبطال الساعة الأخيرة” في ثورة السوريين، هذه المسألة، فلا انتقال سلمياً وحقيقياً من حالة الثورة والفوضى التي ترافق الثورات إلى بناء الدولة المنشودة، من دون منظور ثقافي يؤطر دولة المواطنة والقانون الكافلة لحقوق الأفراد وحرياتهم الشخصية وتنظيماتهم الاجتماعية والسياسية، منصوصاً عليها في دستور جديد متفق عليه من جميع السوريين يتيح لهم تمثيل أنفسهم في برلمان حر وعبر انتخابات ديموقراطية.
أظن أن الإدارة المرحلية لسوريا أدركت استحالة فتح الملف الثقافي الآن، نظراً لحساسية هذا الملف وارتباطه بالصورة النهائية لصيغة العقد الجديد للدولة السورية المقبلة، هو على الأرجح ما جعلها تبقي وضع وزارة الثقافة السورية الموروثة من العهد البائد على حاله ولوزيرتها صلاحية تصريف الأعمال.
المدن