سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 30 كانون الثاني 2025
حرية إلى الأبد: كل المقالات والتحليلات والحوارات التي تناولت انتصار الثورة السورية اعتبارا من 08 كانون الأول، ملاحقة يومية دون توقف تجدها في الرابط التالي:
سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع
—————————————
“مرحلة انتقالية” في سوريا على رأسها أحمد الشرع.. ما أبرز عناوينها؟
أعلنت الإدارة السورية الجديدة الأربعاء، جملة من القرارات تزامنا مع تزايد الانفتاح العربي والدولي على دمشق، كان أبرزها، تولية قائد الإدارة العامة أحمد الشرع رئاسة البلاد في المرحلة الانتقالية.
وأعلن المتحدث باسم إدارة العمليات العسكرية حسن عبد الغني في مؤتمر شاركت فيه قيادات الفصائل العسكرية، انتصار الثورة السورية واعتماد الثامن من كانون الأول يومًا وطنيا سنويا، وفق ما نقلته وكالة “سانا”.
وأفاد بأن المؤتمر اتفق على تفويض الشرع بتشكيل مجلس تشريعي مؤقت للمرحلة الانتقالية، يتولى مهامه إلى حين إقرار دستور دائم للبلاد ودخوله حيز التنفيذ.
وأكد عبد الغني حل جميع الأجهزة الأمنية التابعة للنظام السوري المخلوع بجميع فروعها وتسمياتها، إلى جانب الميليشيات التي أنشأها، مشيرًا إلى تشكيل مؤسسة أمنية جديدة تحفظ أمن المواطنين.
كما أعلن حل جميع الفصائل العسكرية والأجسام الثورية السياسية والمدنية، ودمجها ضمن مؤسسات الدولة، إضافة إلى حل حزب البعث العربي الاشتراكي وأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية وجميع المنظمات واللجان التابعة لها، مع منع إعادة تشكيلها تحت أي مسمى آخر، وتحويل أصولها إلى الدولة السورية.
مسار السياسة الخارجية: عمق عربي وتوازن خارجي
من جهته قال وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، إن الجهود الدبلوماسية السورية تمكنت من تحقيق استثناءات وتعليق بعض العقوبات المفروضة عليها من قبل الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي، مشيرا إلى أن دمشق ستركز على تعزيز الروابط العربية وبناء سياسة خارجية متوازنة.
وأكد الشيباني أن هذه الخطوة ستسهم في تشجيع المشاركة الدولية ودعم سوريا، مما يعجل بعملية التعافي الاقتصادي والنمو.
جاء ذلك خلال حديث وزير الخارجية السوري في المؤتمر، حيث أكد أن سوريا نجحت في رسم هوية وطنية لائقة تقوم على قيم الحرية والعدل والكرامة، وفق وكالة سانا.
وأضاف الشيباني أن “هذه الهوية تُشعر جميع المواطنين بحب الوطن والانتماء إليه، مع التركيز على روح البذل والتضحية من أجل بناء مستقبل أفضل”.
ولفت إلى أن المنطقة تعاني من إرث ثقيل من النزاعات، لكن سوريا ستسعى عبر سياستها الخارجية إلى خفض مستوى التوتر وإرساء قواعد السلام.
كما شدد أن سوريا تولي أهمية خاصة لروابطها العربية، وتعمل على تعزيز علاقاتها مع الدول المجاورة، مع الحفاظ على مسيرة متوازنة وقوية في السياسة الخارجية من خلال سعيها لبناء شراكات جديدة تزيد من فاعليتها على الساحة الدولية.
وأشار إلى أن سوريا تنتهج سياسة خارجية هادفة ومتعددة الأبعاد في خضم التحديات الحالية، تهدف إلى المساهمة في خلق وضع إقليمي ودولي يتمتع بالتعاون والاحترام المتبادل.
الشرع: بناء الدولة واستعادة المكانة الدولية
حدد قائد الإدارة السورية الجديدة، أحمد الشرع في “خطاب النصر” الذي نُشر مساء الأريعاء عبر وسائل الإعلام الرسمية وعلى المنصات الرسمية على مواقع التواصل الاجتماعي، الأولويات الرئيسية لسوريا في المرحلة المقبلة، والتي تشمل ملء فراغ السلطة، والحفاظ على السلم الأهلي، وبناء مؤسسات الدولة، والعمل على إنشاء بنية اقتصادية تنموية، بالإضافة إلى استعادة سوريا لمكانتها الدولية والإقليمية.
وأكد الشرع في خطابه أن سوريا تمر بمرحلة حاسمة تتطلب جهودا كبيرة لتحقيق الاستقرار والنهوض بالبلاد. وقال: “قبل بضعة أشهر، كانت دمشق كالأم المتفانية التي تنظر إلى أبنائها بعين المستغيث المعاتب، تشكو الجراح والذل والهوان، تنزف دما وتكابر على الألم، وكادت أن تهوي وهي تقول: أدركوا أمتكم!”. وفق وكالة سانا.
وأضاف: “بفضل الله، كسرنا القيد، وحررنا المعذبين، ونفضنا عن كاهل الشام غبار الذل والهوان. وأشرقت شمس سوريا من جديد، وهلل الناس وكبروا، فكان الفتح المبين والنصر العظيم”.
وأشار الشرع إلى أن النصر الذي تحقق في سوريا كان مميزًا، حيث تحقق بالرحمة والعدل والإحسان، على عكس الصورة النمطية للحروب التي ترتبط بالخراب والدمار وسفك الدماء. وقال: “إن النصر لهو تكليف بحد ذاته، فمهمة المنتصرين ثقيلة ومسؤوليتهم عظيمة”.
وأكد أن سوريا اليوم تحتاج إلى جهود مضاعفة لبناء الدولة وتطويرها، مشيرًا إلى أن المرحلة القادمة تتطلب العزم نفسه الذي كان موجودًا خلال مرحلة التحرير. وقال: “كما عزمنا في السابق على تحرير سوريا، فإن الواجب الآن هو العزم على بنائها وتطويرها”.
——————————
سوريا… شرعية العملية الانتقالية وتعيين أحمد الشرع رئيسا/ رضوان زيادة
أن تعيين السيد الشرع رئيسا انتقاليا هو أفضل الحلول السورية
30 يناير 2025
مع اللحظة الأولى لسقوط نظام الطاغية بشار الأسد في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024، والتفكير ينصب على الخيار الذي ستسلكه الإدارة السورية الجديدة في ما يتعلق بالغطاء القانوني والدستوري للمرحلة الانتقالية. خرجت الكثير من الأفكار على السطح من مثل الدعوة إلى “مؤتمر للحوار” وقد تردد ذلك على لسان وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني أكثر من مرة، وتم تداول عدد المدعوين بأكثر من 1200 مدعو، بيد أن حجم عدد الأعضاء الكبير هذا جعل من قابلية تطبيق هذه الفكرة مستحيلا.
لذلك تم تجاوز هذه الفكرة والبحث عن أفكار أكثر عملانية، فجرى تداول فكرة “المؤتمر الوطني” على غرار فكرة “المؤتمر السوري” العام في يونيو/حزيران 1919، لكن أعضاء ذلك المؤتمر التسعين كانو أعضاء في “مجلس المبعوثان” العثماني ممثلين عن مناطق بلاد الشام المختلفة من مثل سوريا ولبنان. صحيح أن التمثيل كان حقيقيا على المستوى المذهبي والديني والثقافي، فتحدّر أعضاء المؤتمر من مختلف عناصر الهيكل الديني والمذهبي السوري، من سنّة وعلويين ودروز ومسيحيين ويهود وأعيان ريف ومثقفين ووجهاء مدن يتمتعون بالقوة الاجتماعية والسياسية في مجموعاتهم، وقد ترأس دورات المؤتمر محمد فوزي العظم وهاشم الأتاسي والشيخ رشيد رضا، لكن التمثيل كان حصيلة الانتخاب على درجتين. لذلك فإعادة تطبيق الفكرة اليوم يدخلك في جدل اللجنة التحضيرية والاختيار والتعيين. إذ ليس هناك إمكانية للقيام بأية عملية انتخاب تمثيلي في الوقت الحالي.
لذلك بدا أمام الإدارة السورية الجديدة خياران فقط، إما العمل بدستور 2012، وهو ما يعني أن يصبح نائب رئيس الجمهورية فيصل المقداد رئيسا انتقاليا، لكن هذا الخيار لم يكن مقبولا أبدا من قبل الشعب السوري، وخاصة القوى الثورية، كما أنه لم يطرح أبدا من قبل المجتمع الدولي الذي بدا مرحباً بساكن قصر الشعب الجديد أحمد الشرع.
الخيار الآخر هو المضي قدما في خيار الشرعية الثورية، وهو مفهوم مؤقت واستثنائي، ينتهي بانتهاء الحالة الثورية أو الفترة الانتقالية. ويختلف عن مفهوم الشرعية كما عرّفها عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، وذلك لأن هذا المفهوم يعبر عن درجة غير عادية واستثنائية من الوحدة الشعبية وهو ما دعيت إليه منذ اللحظة الأولى، لكن كيف يمكنك أن تبني مؤسسات الشرعية الثورية هذه؟ وجدنا أن نموذج المجالس الانتقالية كما طبقت في عدد من دول “الربيع العربي” مثل ليبيا والسودان يكادان يكونان الأقرب إلى النموذج السوري طبعا مع اختلافات سأشير إليها لاحقا.
وفعلا انحصر النقاش حول طريقة بناء هذه الهيئة الانتقالية والتي من شأنها أن تحقق ثلاثة مبادئ رئيسة: الأول تحقيق جوهر القرار 2254 الذي تحدث عن “Transitional Body” (جسم انتقالي)، ويضمن تمثيل كل القوى السياسية والاجتماعية والطائفية والإثنية السورية بما يحقق مبدأ الشمولية، وأخيرا يؤسس مجلسا تشريعيا مؤقتا يصدر إعلانا دستوريا مؤقتا للمرحلة الانتقالية ويصدر أيضا القوانين ويمنح الثقة للحكومة الانتقالية ويقر موازنة الدولة ويشكل هيئة مستقلة للانتخابات القادمة وهيئة مستقلة للعدالة الانتقالية.
لم يكن هناك أي شك في أن إدارة العمليات العسكرية التي قادت عملية “ردع العدوان” تمتلك هذه الشرعية الثورية ولذلك قام الناطق باسمها العقيد حسن عبدالغني بقراءة “خطاب النصر” وتفويض الشرع بتشكيل هذه الهيئة، وهو ما يعني رمزيا نقل الشرعية الثورية من إدارة العمليات العسكرية التي حررت سوريا وانتهت في الثامن من ديسمبر/كانون الأول الماضي إلى الشرع للبدء في العملية السياسية التي انطلقت البارحة.
لقد تضمن “إعلان النصر ” مجموعة من القرارات الثورية العامة من مثل حل مجلس الشعب، واللجان المنبثقة عنه. وحل الجيش بهدف “إعادة بناء الجيش السوري على أسس وطنية”. و”حل جميع الأجهزة الأمنية بفروعها وتسمياتها المختلفة، وجميع الميليشيات التي أنشأها، وتشكيل مؤسسة أمنية جديدة تحفظ أمن المواطنين”.
كما تم حل حزب البعث العربي الاشتراكي، وأحزاب “الجبهة الوطنية التقدمية” (تحالف أحزاب مرخصة من النظام السابق) وتم حظر إعادة تشكيلها تحت أي اسم آخر، كما تم إلغاء العمل بدستور سنة 2012، وإيقاف العمل بجميع القوانين الاستثنائية. وتم تكليف الشرع رئيسا انتقاليا للجمهورية العربية السورية.
ربما كانت طريقة الإخراج الإعلامي غير موفقة كثيرا، إذ كان يجب أن تكون علنية ومباشرة، لكنها حققت الغرض المطلوب في النهاية.
في كل المراحل الانتقالية يكون من الأفضل تخفيض فترات التعيين بقدر المستطاع حتى تنتقل من الشرعية الثورية إلى شرعية الانتخابات وهو ما فعلته الإدارة عبر الإعلان عن الهيئة التشريعية، وربما فضل البعض تأجيل الإعلان عن الشرع رئيسا ولهؤلاء أقول التالي:
كان ستيفن ليفتسكي صاحب الكتاب الشهير عن الأنظمة المختلطة (Hybrid regimes) قد ميز في كتابه الشهير “التسلطية التنافسية” بين أنواع مختلفة من الأنظمة التسلطية التي تحكم حول العالم، ودرس نماذج الانتقال السياسي في عدد كبير من دول العالم، فله مقولة مشهورة: “مدخلات العملية الانتقالية تحدد مخرجاتها”، بمعنى أن سوريا التي حكمتها مؤسسات طائفية كالجيش والأمن على مدى أكثر من 60 عاما في ظل حكم نظام حزبي واحد تسلطي وغياب للجهاز البيروقراطي وانعدام فكرة القانون والمساءلة، فالنظام الشمولي الذي حكم سوريا يعد النموذج الأكثر انغلاقا وشمولية في المنطقة العربية وربما العالم باستثناء كوريا الشمالية، كما أنه امتد لعقود طويلة، وبالتالي كان متجها نحو تحلل مؤسسات الدولة وأخذها طابعا زبائنيا وعائليا وهو بالتالي يفتح الباب باتجاه إضعاف المؤسسات وتقوية الشبكات ذات المصالح الخاصة داخل الدولة وخارجها التي تجعل من وظيفتها استمرار النظام الحاكم بأي شكل من الأشكال ولو على حساب المصالح الوطنية العليا التي غالبا ما تختفي أو بالأصح تصبح محل وجهات نظر متباينة حولها، وتسود وجهة نظر العائلة الحاكمة في تحديدها لمعنى المصالح القومية العليا.
وفوق ذلك حرب طاحنة امتدت على مدى أكثر من 14 عاما حولت السوريين إلى معتقلين وجياع ولاجئين ما يعني انعدام الطبقة الوسطى التي تقود عملية التغيير، وفوق ذلك عقوبات دولية هي الأشد بعد العقوبات على روسيا وإيران وكوريا الشمالية، بمعنى مدخلات بهذا الحجم لن تقود إلى ديمقراطية أميركية على طريقة توماس جيفرسون، المخرجات ستكون استمرارا للحرب وللفوضى الأمنية.
لذلك أن تعيين السيد الشرع رئيسا انتقاليا هو أفضل الحلول السورية وقد دعمت تعيينه، فأنا أرى فيه شخصا وطنيا يحتاج منا إلى الكثير من العمل المشترك للوصول إلى الحلم في بناء سوريا الدولة الديمقراطية المدنية لجميع أبنائها وتستعيد دورها الحضاري الذي تستحقه ونفتخر به جميعا.
المجلة
——————————–
من الثورة إلى الدولة.. هذه أبرز التحديات الكبرى أمام سوريا جديدة
عربي بوست
2025/01/29
مع سقوط نظام الأسد، تدخل سوريا مرحلة إعادة التشكل وسط تحديات سياسية وأمنية واقتصادية غير مسبوقة. تتشابك مصالح الفاعلين المحليين والدوليين في المشهد الجديد، مما يجعل عملية بناء الدولة اختبارًا معقدًا لقدرة الإدارة الجديدة على فرض الاستقرار، وتجاوز مخلفات الحرب، واستعادة دور سوريا الإقليمي. في هذا السياق، يقدم موقع “أسباب” لدراسات الجيوسياسية هذا التقرير الاستشرافي حول حالة الدولة السورية. ويتناول التقرير أبرز التحديات السياسية والأمنية والاقتصادية التي تواجه سوريا الجديدة بعد سقوط نظام الأسد، ويرصد ديناميكيات التغيير المحتملة في الداخل والخارج.
كما يسلط الضوء على ملامح النظام السياسي الجديد، والاستراتيجيات المتوقعة لإدارة العلاقات الإقليمية والدولية، والتحديات التي قد تعرقل جهود إعادة الإعمار والاستقرار. يقدم هذا التقرير تحليلاً عميقًا لمستقبل التحديات التي قد تواجه سوريا على المدى القريب، استنادًا إلى المعطيات الحالية والتوجهات السياسية والعسكرية والاقتصادية الناشئة.
أولاً: الحالة السياسية
سيظل المشهد السياسي في سوريا ضبابياً في الأشهر القليلة القادمة، وسط بيئة معقدة من الفصائل والمنظمات العسكرية والمجموعات السياسية والتنظيمات المدنية في الداخل والخارج، تسعى جميعها للدفاع عن مصالحها في النظام الجديد الذي ما زال قيد التشكل. فعقب سقوط نظام الأسد، أعلن أحمد الشرع، بصفته قائداً للإدارة الجديدة والقائد العام للعمليات العسكرية التي أطاحت بالنظام السابق، عن تعيين حكومة تسيير أعمال مؤقتة حتى آذار/مارس 2025، وأجرى تعيينات هامة في مفاصل إدارية وسياسية وأمنية، بينما تتجه الأنظار نحو مؤتمر الحوار الوطني الذي يجري الإعداد له، والذي قال الشرع عنه إنه سيشهد مشاركة واسعة من أطياف المجتمع السوري وسيضع الأسس لهوية الدولة الجديدة.
مؤتمر الحوار وتكريس الشرعية
يعكس الإعلان عن مؤتمر شامل للحوار الوطني إدراك الإدارة الجديدة لحجم الانقسامات العميقة بين المكونات السورية من الناحية العرقية والدينية والسياسية. لكنّه أيضا يشير إلى حاجة الشرع إلى نقطة ارتكاز قانونية تنهي حالة “قيادة الأمر الواقع”، كي ينتقل من كونه قائداً لفصيل وغرفة عمليات عسكرية ليصبح رئيساً شرعيا لسوريا في المرحلة الانتقالية، والتي ستستمر لسنوات وفق رؤيته. ومن المرجح أن يعلن المؤتمر عن خطوات لترتيب المرحلة الانتقالية، تتمثل في: حل الفصائل المسلحة وعلى رأسها هيئة تحرير الشام، بالإضافة لحل مجلس الشعب، وإلغاء العمل بالدستور السابق، وتشكيل هيئة استشارية للقيادة العامة، والإعلان عن لجنة قانونية لصياغة الدستور، أو اعتماد دستور 1950 مؤقتا، والأهم هو منح الثقة للشرع رئيساً للبلاد، وتفويضه بتشكيل حكومة مؤقتة.
من المتوقع أن يصطدم مؤتمر الحوار الوطني بعقبات، تتمثل في غياب الثقة بين الأطراف السورية المختلفة، واستعجال القوى المعارِضة للمحاصصة لضمان تمثيلها في النظام الجديد، بالإضافة إلى الضغوط الخارجية المتنوعة، دولية وإقليمية، والتي تصب في اتجاه تمكين مجموعات بعينها. كل ذلك قد يعرقل انعقاد المؤتمر في الأجل القصير أو قد يحد من طابعه الشامل وهدفه المتمثل في التأسيس للحظة إجماع وطني بعد انهيار نظام الأسد. وقد أثارت تحضيرات المؤتمر بالفعل جدلاً حول طريقة الترتيب له والجهات المدعوة ومن يحددها واتجاهه لاستثناء مؤسسات وأحزاب بما فيها ائتلاف المعارضة في الخارج.
يعتمد نجاح مسار الحوار الوطني على قدرة الإدارة السورية الجديدة على احتواء الضغوط الخارجية وتخفيف حدة التوتر الداخلي عبر تمثيل واسع ومعبر عن المكونات السورية، وتوفير مساحة شاملة لكل الأصوات على قاعدة الشراكة وليس فقط الموافقة على خطط الإدارة الجديدة وتصوراتها. وهذا يتطلب تعزيز التحالفات والتفاهمات بين الشرع وبين نخب ومجموعات أوسع قبل التوجه للمؤتمر الوطني.
نظام الحكم وملامح الدولة السورية الجديدة
في ضوء التنوع العرقي والديني وتعدد الفاعلين المحليين والدوليين، ستتأثر مسألة شكل الحكم والدولة السورية الجديدة بعدة عوامل، أهمهما سياسة الشرع وهيئة تحرير الشام باعتبارها الحزب الحاكم الفعلي، وقدرة الشرع على ضبط الأمن وتوحيد البلاد وتحقيق الاستقرار، ومواقف الدول الخارجية ومدى انفتاحها على السلطة الجديدة. وفي هذا الصدد، يبدو أن المستقبل في سوريا مفتوح على سيناريوهات عدة، مثل:
بناء نموذج حكم مركزي في دمشق تنصهر فيه معظم الأطراف السورية الفاعلة ويُخضع كل الجغرافيا السورية، وهو الخيار الذي يتمسك به الشرع، ومن المتوقع أن يلقى دعما من أطراف خارجية أهمها تركيا، إذ تلبي سوريا الموحدة والمركزية اعتبارات أنقرة الجيوسياسية والأمنية.
نظام فيدرالي يقترب من النموذج العراقي، على أساس التوازن بين حكومة دمشق المركزية، وحكومة إقليم كردية في شمال شرق البلاد. وهو خيار سيلقى دعما من أطراف متعددة رغم تباين مصالحها، مثل العراق و”إسرائيل” وربما الولايات المتحدة وفرنسا. لكنّه من جهة أخرى قد يسبب توترا طويل الأجل مع تركيا.
تقسيم البلاد على أسس جغرافية وطائفية وإثنية بعد تدخلات أجنبية تحمي مجموعات محلية وتسعى لفرض نظام حكم ذاتي لكل منها، بحيث يصبح هناك إقليم درزي وإقليم علوي بالإضافة للإقليم الكردي.
ما زال مستقبل سوريا القريب مفتوحا على كافة الاحتمالات. ورغم هذا يبقى السيناريو الأول هو الأقرب للتحقق، وذلك لعدة أسباب، من بينها؛ أن الإدارة الجديدة تملك مزيجا من المرونة السياسية والقوة العسكرية والأمنية ما يمكنها من تفكيك المعارضة ودمجها في الدولة. وكذلك فإن تركيا ودول إقليمية أخرى لن يكون من مصلحتها تقسيم سوريا بما في ذلك على المستوى الفيدرالي. وأخيراً؛ إن انشغال المجتمع الدولي بالحرب الأوكرانية والصراع الإسرائيلي الإيراني والتوترات العالمية بين الصين وأمريكا، ستجعل مسألة استقرار الأوضاع في سوريا هي الخيار الآمن، خاصة إذا قدمت هيئة تحرير الشام ضمانات حقيقية وحافظت على نهجها الشامل تجاه باقي المكونات السورية.
من الثورة إلى الدولة.. هذه أبرز التحديات الكبرى أمام سوريا جديدة
من ناحية المضمون؛ من المؤكد أن الشرع يسعى لتأسيس نظام حكم مركزي، وتشكيل منظومة سياسية لها مرجعية إسلامية، تعطي مجالاً لمشاركة المكونات الدينية والعرقية المتنوعة في السلطة وفق مبدأ الكفاءة لا المحاصصة، وعبر آليات انتخابية، مع احتفاظ الموالين للشرع بالمناصب السيادية وعلى رأسها الجيش والأمن والاقتصاد خلال المرحلة الانتقالية. وبينما ليس من المرجح تأسيس صيغة حكم “طالبانية” يحتكر فيها حزب واحد السلطة استنادا على الشرعية الدينية والثورية التي أوصلت القوى الحالية للحكم، فإن التحدي الرئيسي أمام الشرع سيكون بناء ائتلاف سياسي تحت رئاسته خلال المرحلة الانتقالية يضمن استمراره في الحكم في الأجل الطويل في نظام تعددي انتخابي ترفع فيه القيود عن الأحزاب السياسية.
هواجس الثورة المضادة
في الأجل القصير؛ لا يمكن التقليل من المخاوف الخاصة بقيام “ثورة مضادة”، وتكرار سيناريو مُشابه للنماذج التي شهدتها دول عربية أخرى، خصوصاً في ظل تسارع بعض الدول الإقليمية أو القوى الدولية لتحريك جهات محلية سورية، أو بعض فلول النظام. وما يجعل هذا الاحتمال قائما هو أن النظام القديم لا تمثله فقط نخبة حاكمة مدنية أو عسكرية، وإنما أيضا جهاز الحكم البيروقراطي والأجهزة الأمنية المتنوعة والتي لديها جميعا علاقات وتحالفات خارجية، خاصة مع روسيا وإيران. لكن هذا التهديد يحد نسبيا من خطورته التدهور الحاد في مؤسسات نظام الأسد خلال السنوات الأخيرة، كما أن انتصار الثورة في الحالة السورية كان عسكريا، وليس سياسياً شعبيا، وهو ما يجعل من جهود التصدي لفلول نظام الأسد أكثر حسما وسرعة.
مع مرور الوقت وتقدم إجراءات التطهير المتسارعة؛ تفقد الأطراف الخارجية فرص تكوين أو تنشيط مجموعات موالية داخل مؤسسات الدولة، مما يقيد فرص العمل من خلالها لتدبير انقلاب على السلطة الانتقالية. وستظل هذه الديناميكية نشطة طوال 2025 على الأقل. أما انخراط المكونات العرقية (مثل الأكراد) والدينية (مثل الدروز) في تحالفات خارجية مضادة للإدارة الجديدة فيظل احتمالا متوسط الخطورة، يقابله السيطرة الأمنية والعسكرية للسلطة الجديدة وحلفائها من المجموعات المسلحة، ورغبة المجتمع الدولي في استقرار الأوضاع في سوريا وتجنب الانزلاق إلى حالة فوضى لا تقل تداعياتها الأمنية إقليميا ودوليا عن التداعيات السابقة التي شهدت صعود داعش وموجات اللجوء الواسعة إلى أوروبا وتهديدات أمنية لدول المنطقة.
ثانياً: الحالة الأمنية
لا يزال أمام الإدارة الجديدة طريقا طويلة للوصول إلى الاستقرار وعودة الحياة إلى انتظامها وإحكام السيطرة الأمنية على عموم البلاد، لاسيما وأن سوريا ما زالت مقسمة عمليًّا في ظل وجود عدد من اللاعبين المؤثرين داخلياً، بالإضافة لفوضى انتشار السلاح وانتشار القواعد الأجنبية في البلاد. ومن المرجح أن تشهد سوريا احتجاجات ذات طابع سلمي على شكل مظاهرات واعتصامات، سواء كانت عفوية لأسباب اقتصادية أو منظمة من قبل جهات معارضة للإدارة الجديدة للضغط عليها، فإنها ستشكل هاجسا أمنيا وسياسيا للإدارة الجديدة خلال المرحلة الانتقالية يصعب التعامل معه.
الفصائل المسلحة وتحديات الانتقال
سيُبقي الجيش الوطني السوري على انتشاره على الحدود التركية شمال شرق سوريا ما دام الصراع ضد قسد قائماً. وسيتوقف حسم هذا الصراع أولاً على نهج الولايات المتحدة إزاء تواجدها العسكري في سوريا، خاصة وأن أعضاء بارزين في إدارة ترامب أعربوا عن رغبتهم في استمرار الدور الأمريكي العسكري في سوريا وهو توجه مخالف لموقف ترامب المعروف. بالإضافة لذلك؛ فإن طبيعة التسوية المحتملة بين قسد والإدارة السورية الجديدة ومدى تلبيتها للاعتبارات الأمنية التركية ستمثل أيضا عاملا حاسما في تقرير مستقبل الجيش الوطني السوري. أي إنه بدون حل مسألة قسد بتسوية أمريكية-تركية-سورية سيظل الجيش الوطني خارج وزارة الدفاع السورية، ولن تخرج القوات التركية والأمريكية من سوريا.
من الثورة إلى الدولة.. هذه أبرز التحديات الكبرى أمام سوريا جديدة
في الجنوب؛ قد لا يتمكن الشرع خلال العام الجاري من دمج فصائل غرفة عمليات المنطقة الجنوبية وفصائل السويداء بشكل كامل في وزارة الدفاع، وذلك لعدة أسباب منها؛ تعقّد العلاقات الأردنية والإسرائيلية مع هذه الفصائل، والطبيعة الفوضوية التي تعودت عليها المجموعات المسلحة في الجنوب، إضافة إلى التوازنات العشائرية والطائفية التي سيحرص على مراعاتها. لكن من المتوقع أن تتمكن وزارة الدفاع على الأقل من سحب السلاح الثقيل والسيطرة على المنشآت العسكرية المهمة، وتحقيق قدر من الانتشار الأمني يحد من مناطق نفوذ تلك الفصائل.
الهواجس الأمنية لدى أهالي محافظة السويداء، ذات الغالبية الدرزية، من أبرز العوائق أمام عقد تفاهمات مع الإدارة الجديدة في دمشق، فقد رفضت حتى الآن دخول القوات الأمنية والعسكرية واشترطت تعيين الطواقم الإدارية والأمنية من أبناء المحافظة. من جانبها، ومن المتوقع أن تعمل دمشق على مراعاة المخاوف الدرزية بشكل دقيق وتنتهج سياسة النفس الطويل لاحتواء مخاوف الفصائل المحلية ووجهاء المحافظة، وربما تكون البداية من اختيار محافظ للمدينة بالتوافق مع وجهائها واعتماد قوات الشرطة في المحافظة من ضمن أبناء السويداء. وقد يؤدي ضبط الأوضاع في الجنوب السوري خاصة تنظيم الفصائل المحلية في درعا وريف دمشق والقنيطرة، ضمن وزارة الدفاع السورية، إلى تشجيع القوى المحلية في السويداء على الانخراط في الجيش والإدارة الجديدة.
سيبقى تهديد تنظيم الدولة قائما. فخلاياه المنتشرة في كامل الجغرافيا السورية بدأت تنشط في المدن بعد انسحابها من البادية، وهناك عدة ظروف وعوامل قد تساعد على إحياء فكر التنظيم، مثل توجه السلطة نحو البعد الوطني والابتعاد عن الشعارات الإسلامية، وعلاقاتها المعقدة مع الغرب ودول المنطقة مثل المملكة العربية السعودية والعراق والأردن وتركيا، وتجنبها الخوض في القضية الفلسطينية، وسياستها مع الأقليات والتي سيجد من خلالها التنظيم مبررات للتجنيد واستعادة النشاط واستقطاب الساخطين على الإدارة الجديدة.
المؤسسة الأمنية والعسكرية
تمثل وزارة الدفاع والأجهزة الأمنية المتنوعة الركيزة الأهم والأكثر نفوذاً في النظام السابق. ولهذا السبب كان نحو 80٪ من المسؤولين والضباط فيها من الطائفة العلوية التي استند إليها نظام الأسد. وتشير التقديرات أن عدد العاملين في وزارة الدفاع يقرب من 400 ألف، لكنّ هذا العدد لم يكن دائما، وعلى الأرجح فإن قوات الجيش في السنوات الأخيرة كانت أقل من ذلك نتيجة الهروب الواسع من التجنيد وتراجع قدرة النظام على تقديم عوائد مالية تلبي الحد الأدنى لمعيشة الجنود. ومع انتصار هيئة تحرير الشام وحلفائها في ديسمبر/كانون أول الماضي، تفككت تلقائياً المؤسسات الأمنية وسُرح الجيش السوري، وبات الآلاف من الضباط هاربين وملاحقين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
من الثورة إلى الدولة.. هذه أبرز التحديات الكبرى أمام سوريا جديدة
نظرا لأن الإدارة الجديدة تستند إلى تحالف عسكري يضم عشرات الآلاف من المقاتلين، فإنها تصرُّ على عدم استخدام أي عنصر من النظام السابق وإن كان قد شمله العفو والتسوية السياسية.
ومن المرجح أن تستمر الإدارة الجديدة في توظيف منتسبين ومجندين جدد من خلال دورات استثنائية سريعة، وإعادة دمج الفصائل في النظام الجديد. وبينما يعتقد أن المُسرَّحين من فئة الجنود، وهم العدد الأكبر، لن يشكلوا تهديداً باعتبار أنهم كانوا مجندين إلزامياً وليس لديهم بالضرورة ولاءً خاصا للمؤسسة العسكرية أو النظام السابق، فإن التحدي هو في فئة الضباط وعناصر القوات الخاصة والمجموعات الطائفية التي كانت تحصل على امتيازات عبر العمل في سلك الأمن والدفاع، ثم فقدت هذه الامتيازات الآن، كما أنها خارج التسوية السياسية. ومن المرجح أن يمثل هؤلاء مشكلة أمنية في الأجل القصير على الأقل، تشمل تنفيذ عمليات التخريب واستهداف لقوات الإدارة الجديدة إلى حين تمكن السلطة الجديدة من فرض السيطرة الأمنية على عموم البلاد.
القواعد الأجنبية
تعج سوريا بالقواعد العسكرية الأجنبية الأمريكية وحلفائها من دول الناتو والقواعد التركية والقواعد الروسية، وتدعم هذه القوات الأجنبية قوى ذات توجهات مختلفة، لذلك يعتبر حصر وجود السلاح بيد الدولة وحل موضوع القواعد الأجنبية أولوية أساسية للمرحلة الحالية. ويتوقع أن يرغب الشرع ببقاء عدة قواعد لتركيا وروسيا كورقة ضد النفوذ الغربي والإسرائيلي، كما أن الولايات المتحدة قد لا تفكر في سحب جميع قواعدها حتى بعد حل مسألة قسد، ويمكن أن تحافظ على وجود عسكري محدود في قاعدة التنف والمنطقة الشرقية.
إسرائيل الخطر المحدق
يمثل التغيير في سوريا كابوسا أمنيا للاحتلال الإسرائيلي. إذ لا تتوفر ضمانات لتل أبيب إزاء طبيعة النظام الجديد حال استقراره على المدى الطويل، كما أن احتمالات أن يتعزز الوجود العسكري التركي في سوريا يمثل تحولا في البيئة الأمنية الاستراتيجية للاحتلال الذي سيجد فجأة قوات تركية على حدوده. ولذلك؛ بادرت “إسرائيل” إلى تدمير الأصول الاستراتيجية العسكرية السورية، واحتلت المنطقة العازلة في الجولان ومواقع الرقابة السورية في قمة جبل الشيخ، ووصف وزير الخارجية الإسرائيلي “جدعون ساعر” الإدارة السورية الجديدة بـ “العصابة الإرهابية”، ولم تلق تل أبيب بالاً للرسائل الواردة من دمشق حول خفض التوتر بين الطرفين، في حين ترسل رسائل صريحة حول دعمها لقسد كحليف وحيد لإسرائيل في سوريا.
في ضوء هذه المعطيات ستخضع سيناريوهات التوغل الإسرائيلي داخل سوريا لجملة من العوامل:
رد فعل الإدارة الجديدة ومدى استعدادها لمواجهة التقدم الإسرائيلي.
موقف تركيا، كونها لاعبًا رئيسيًا في الملف السوري.
موقف المجتمع الدولي: وخاصة الولايات المتحدة.
الوضع الداخلي في “إسرائيل” واستعدادها العسكري لتحمل تكاليف حرب جديدة.
ومن المرجح أن يتمسك الاحتلال الإسرائيلي في العام الجاري بالتواجد في منطقة عازلة بعمق حوالي 10 كم داخل سوريا، بالإضافة لاحتلال مناطق استراتيجية كتلال الحارة والجموع والجابية في ريف درعا الغربي. من جهة أخرى، فإن الاحتلال الإسرائيلي سيعمل بشكل استراتيجي على تعزيز نفوذه الأمني في الجنوب السوري، سواء بالقدرات الاستخباراتية أو عبر تقديم دعم محتمل لفصائل محلية سورية تعمل بالوكالة لمصلحته. أما احتمالات توسع العملية العسكرية الإسرائيلية أعمق في الأراضي السورية بما يشمل التقدم نحو دمشق أو حتى مناطق أبعد، فإنه يظل أمرا غير مرجح في ظل نهج الإدارة السورية الحالي، والذي يتجنب العداء مع الأطراف الخارجية.
ثالثاً: العلاقات الخارجية
تضع الإدارة الجديدة الأولوية لإعادة بناء العلاقات مع الولايات المتحدة وأطراف إقليمية، بما يخدم ضرورة رفع العقوبات وإطلاق جهود إعادة الإعمار وإصلاح الاقتصاد. كما أن التهديدات الجيوسياسية تجعل من الضروري الاحتفاظ بعلاقة وثيقة مع تركيا كشريك أمني ودفاعي، والإبقاء على هامش من المناورة بين المصالح الروسية والأمريكية. ولذلك؛ ليس من المتوقع أن تتبنى الإدارة السورية توجهات تقوّض هذا المسار.
السياسة الخارجية للنظام الجديد عموما ستكون ذات طابع انكفائي يتجنب العداء والتصعيد مع الأطراف الخارجية، ويبتعد عن صراعات المحاور، وذلك نتيجة هشاشة الوضع الداخلي سياسيا وأمنيا والتحدي الاقتصادي الواسع، وانهيار دفاعات البلاد العسكرية.
وعلى الرغم من أن هذه الاستراتيجية ضرورية لتجنب النظام الجديد مخاطر الاستهداف الخارجي، إلا أنها لا تخلو من تحديات، أبرزها:
تعارض مصالح الأطراف الخارجية وحدة تنافسها في بعض الأحيان مما يترك هامشا ضيقا للإدارة الجديدة للاحتفاظ بعلاقات متوازنة دون انحياز يغضب أطرافا أخرى.
حاجة النظام الجديد للمرونة العالية في ظل ضعف البلاد اقتصاديا وعسكريا وهشاشة الوضع السياسي الوليد سينتج عنها بعض التنازلات، وليس من المستبعد أن تفرض تنازلات تضع قيودا بعيدة المدى على النظام الجديد، أو أن تنجح الأطراف الأخرى في احتوائه ضمن معادلات إقليمية ودولية لا تتمتع فيها سوريا بالمكانة التي تطمح إليها بعد سنوات الحرب الطويلة.
التوجه غرباً
أظهر أحمد الشرع ميله للتوجه غربا، وهي عملية ستمثل إعادة ضبط تاريخي للدولة السورية في المعادلة الجيوسياسية الدولية. ويأتي هذا التوجه مدفوعا باعتبارات مفكر فيها، ومن الواضح أنها ليست وليدة الأيام القليلة التي أعقبت هزيمة نظام الأسد. أبرزها:
معادلة النفوذ الروسي والإيراني التاريخي في مؤسسات الدولة السورية والذي بلغ مداه في العقد الماضي ويمثل حاليا تهديدا محليا للنظام الجديد.
رفع العقوبات الاقتصادية كضرورة لا مفر منها لإعادة بناء البلاد وبالتالي استقرار نظام الحكم الجديد.
تقدير الشرع بأن التفاهمات مع الولايات المتحدة ستمثل مفتاحا لتطوير العلاقات مع أوروبا ومع غالبية دول المنطقة العربية، مما يرسخ شرعية النظام الجديد على المستوى الدولي.
تركز السياسية الأمريكية تجاه سوريا على قضايا وأجندات مختلفة استراتيجية وأمنية، في مقدمتها أمن “إسرائيل” وضمان أن سوريا لن تكون بيئة لأنشطة أو مجموعات تستهدف دولة الاحتلال، ويرتبط بذلك أيضا، ضمان إنهاء وجود إيران في سوريا ووقف استخدام سوريا كجسر بري من قبل إيران إلى لبنان. بالإضافة لذلك، فإن احتواء خطر تنظيم الدولة وتعاون دمشق في الجهود الإقليمية والدولية لمواجهته تمثل أيضا مسألة أساسية لواشنطن. بالإضافة لمطالب واشنطن المعلنة بخصوص تشكيل حكومة سورية شاملة وضمان حقوق الأقليات.
ستعمل الولايات المتحدة على الضغط على القيادة السورية الجديدة بهدف توافقها مع مصالح المنظومة الغربية، واستخدام تهديد عدم الاعتراف بالنظام الجديد ومحاصرته بالعقوبات. ومن المتوقع أن يستمر تقدم العلاقات وفق مبدأ الخطوة مقابل خطوة. ومن المتوقع أيضاً أن نشهد استجابة غربية مماثلة للموقف الأمريكي من دول الاتحاد الأوروبي، لكن دول الاتحاد في نفس الوقت لديها أولوية تتمثل في تعزيز التعاون من أجل معالجة ملف اللاجئين الذي يضغط على السياسة الداخلية لحكومات أوروبا. ومن اللافت كذلك أن القوى الأوروبية أكثر تشددا من واشنطن إزاء مستقبل التواجد الروسي في سوريا، وتمارس ضغوطا على دمشق للعمل على إغلاق القواعد الروسية بما يعني ذلك خسارة جيوسياسية لموسكو وإبعادها عن المتوسط ليكون تحت هيمنة البحرية الأوروبية والأمريكية.
روسيا: تعزيز البدائل
يؤمن الوجود الروسي في سوريا ورقة تفاوضية مهمة بيد الإدارة الجديدة، في مواجهة ضغوط الولايات المتحدة والدول الأوروبية خاصة في مسألة العقوبات الاقتصادية. إذ ستكون موسكو خياراً بديلاً عن الغرب حال استمرار العقوبات والتصنيف، خصوصاً وأن روسيا عضو دائم في مجلس الأمن يمكن الاستفادة منه في الكثير من الملفات، وإن كان ليس هو الخيار المفضل لدى الشرع الذي يميل لتوازن علاقاته بين الجانبين. بالإضافة لذلك؛ فإن بناء تفاهمات مع موسكو يساعد الإدارة الجديدة في احتواء بعض المواقف العدائية المحتملة داخل سوريا وفي الإقليم، في ظل نفوذ روسيا الأمني والعسكري في الملف السوري. ولذلك؛ فإن من المرجح أننا لن نشهد في الأشهر المقبلة انسحاباً روسيا كاملاً من سوريا.
بالمقابل؛ تسعى روسيا للحفاظ على علاقات جيدة مع دمشق حفاظًا على وجودها العسكري في قاعدة حميميم، وميناء طرطوس، وهو تواجد يقع في قلب عقيدة روسيا البحرية، التي أقرت في 31 يوليو/تموز 2022، إذ يؤمن لها المنفذ الوحيد للوصول إلى المياه الدافئة، ويدعم العمليات اللوجستية العالمية لروسيا خاصة تجاه البحر الأحمر والقرن الأفريقي والمحيطين الهندي والهادئ. وتنبع أهمية هذا التواجد لروسيا من ارتباطه بالمكانة الدولية لموسكو ورؤيتها الجيوسياسية الواسعة للتنافس مع الغرب، إذ سيعتبر التخلي عن هذا الموقع علامة ضعف لا يمكن تغطيتها.
تركيا: التحالف الحذر
تمر سوريا بمرحلة انتقالية بين أفول النفوذ الإيراني وصعود النفوذ التركي، ومن المتوقع أن تواصل القيادة الجديدة في سوريا تعزيز العلاقات مع أنقرة، خاصة وأن أهداف “إسرائيل” الإقليمية تضع الإدارة السورية في معادلة لا يمكنها فيها التصدي للتهديد الإسرائيلي دون الاستعانة بحليف استراتيجي مثل تركيا. وستعمل الإدارة السورية على موازنة تحركها الضروري باتجاه تركيا بعلاقات مع القوى العربية الرئيسية، خاصة السعودية، لتجنب العداء مع الحكومات العربية التي يزعجها استبدال نفوذ أنقرة في سوريا بنفوذ طهران المتداعي.
من الثورة إلى الدولة.. هذه أبرز التحديات الكبرى أمام سوريا جديدة
حققت تركيا مكاسب استراتيجية في الملف السوري، وفرضت موقعها كفاعل رئيسي في تشكيل مستقبل سوريا. ومن المتوقع أن طموح أنقرة في استثمار الفرصة السورية سيثير حفيظة دول أخرى، لكن موقع تركيا الجيوسياسي وموقفها من الثورة السورية على مدار السنوات السابقة فرض معادلة لا يمكن للاعبين الإقليميين والدوليين تجاهلها. وتتلخص مصالح أنقرة الجيوسياسية في سوريا في إضعاف المشروع الانفصالي الكردي إقليميا، وتقويض نفوذ إيران، وترسيم الحدود البحرية مع سوريا، وتعزيز الروابط التجارية والأمنية مع سوريا في علاقة تحالف طويل الأجل، بالإضافة لترتيبات عودة اللاجئين.
إيران: تجنب العداء والإبقاء على التوتر
من المرجح أن تظل العلاقات بين دمشق وطهران يخيم عليها التوتر في الأجل القريب. إذ يتعارض مسار إيران مع أولويات الإدارة السورية الأساسية المتمثلة في بناء تفاهمات مع الولايات المتحدة وتعزيز العمل مع تركيا والسعودية واحتواء العداء الإسرائيلي. ولذلك؛ بالرغم من محاولات إيران أن تسلك النهج التي سلكته روسيا في بناء العلاقات مع السلطة الجديدة، فإن دمشق أبقت على الاتصالات مع طهران في حدها الأدنى، وعبرت عن موقف أقل انفتاحا تجاه إيران، وهو موقف لا شك تفرضه أيضا اعتبارات العداء الشعبي في سوريا ضد إيران.
في ضوء ذلك؛ تظل إيران مصدر تهديد إقليمي لسوريا الجديدة. فعلى الرغم من التدهور الاستراتيجي في نفوذ إيران نتيجة خسائر حزب الله وسقوط نظام الأسد، والضغوط الأمريكية والإسرائيلية المتواصلة على طهران، فإن أهمية سوريا الجيوسياسية لإيران تجعل من المستبعد تجاهلها حتى النهاية. وقد يكون التحرك الإيراني القريب هو إعادة تنظيم المجموعات الموالية، أو إعادة بناء شبكات جديدة، وليس بالضرورة بدء العمل قريبا على تقويض الإدارة الجديدة. لذلك؛ فإن الإدارة السورية ستحرص على تجنب العداء الصريح مع طهران، وستعمل عبر قنوات التواصل المنخفضة على كسب مزيد من الوقت.
الدول العربية: تفادي أخطاء الماضي
تتبنى الإدارة السورية استراتيجية عربية تقوم على بناء علاقات مميزة، والهروب من فخاخ الاستقطاب، وتجنب الصدام مع أي من القوى الإقليمية. وبالمجمل، سنشهد توجهاً سوريا نحو توثيق العلاقات مع السعودية، مدفوعة بتكريس خسارة طهران الاستراتيجية، فضلا عن أهمية العلاقات مع قطر لأسباب اقتصادية وسياسية كوسيط مع أطراف دولية. كما تهتم دمشق بالعراق والأردن ولبنان كدول جوار.
وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان آل سعود مع وزير الخارجية السوري أسعد حسن الشيباني في دمشق – رويترز
ما زال يخيم على موقف الإمارات ومصر مزيج من التوجس والعداء، ومن المرجح أن يستمر ذلك. إذ ترى أبوظبي التغيير في سوريا كتهديد ينعش أجواء الربيع العربي، ويعود بالإسلام السياسي إلى الواجهة، وهي نظرة غير بعيدة عن تقدير القاهرة، إذ تتخوف المنظومة الأمنية المصرية من أن نجاح التغيير في سوريا يمثل إلهاما للمصريين ولبقية ثورات الربيع العربي، كما أن لدى مصر اعتبارات جيوسياسية أوسع تتمثل في تنامي القلق المصري من تمدد النفوذ التركي في سوريا.
رابعاً: الحالة الاقتصادية
تركت سنوات الحرب الطويلة أثراً عميقاً طويل الأمد على البنية التحتية في قطاعات الكهرباء والمياه والنقل والرعاية الصحية، وانكمش الناتج المحلي الإجمالي بأكثر من 90٪، إلى جانب العقوبات الدولية، والمؤسسات الحكومية المتهالكة والفاسدة، وحالات النزوح واللجوء لنحو 13- 14 مليون شخص داخل سوريا وخارجها، لتصبح سوريا واحدة من أفقر اقتصادات الشرق الأوسط، إن لم يكن أفقرها على الإطلاق.
تعرضت حوالي ثلث المساكن ونصف المنشآت الصحية والتعليمية للتدمير الكامل أو الجزئي، وأدت الحرب إلى انخفاض حاد في قيمة الليرة السورية من حوالي 45 ليرة مقابل الدولار عام 2010، إلى ما يقرب من الـ 15000 ليرة لكل دولار عشية الإطاحة ببشار، مما سبّب انهيارًا للقوة الشرائية للسكان. بالإضافة إلى ذلك تعرض قطاع النفط والغاز، الذي كان يمثل حوالي ربع إيرادات الحكومة، لضربات موجعة، وانخفض إنتاج حقول النفط التي تسيطر قسد على معظمها من 383 ألف برميل يوميًّا في 2011 إلى نحو 40 ألف برميل يوميًّا في 2023. وحدث الأمر نفسه مع القطاع الرئيسي الثاني، الزراعة، والتي شكلت قبل الحرب 20 – 25٪من الناتج المحلي الإجمالي، إذ كانت سوريا مكتفية ذاتياً في القمح، وتصدّر القطن.
ستستمر جهود الإدارة السورية الجديدة لرفع العقوبات، لتمكين الجهات الراغبة في الاستثمار في البلاد. ورغم تخفيف بعض العقوبات واحتمال تقديم المجتمع الدولي وبعض القوى الإقليمية دعماً مالياً فسيبقى هذا الدعم محدوداً، وستظل سوريا بحاجة إلى إعادة بناء مواردها الخاصة من خلال جذب الاستثمارات الأجنبية، وتعزيز القطاعات الإنتاجية، واستعادة مواردها الطبيعية، وعلى رأسها النفط، وهي أمور غير ممكنة تحت العقوبات. ومن المرجح أن تستخدم إدارة ترامب العقوبات لابتزاز الدولة الجديدة.
رغم التحديات الهائلة؛ توفر البيئة الجديدة بعد سقوط الأسد فرصاً استثمارية. إذ تمتلك سوريا نقاط قوة اقتصادية يمكن الارتكاز عليها، مثل المساحات الزراعية الخصبة التي تمثل نحو 32% من سوريا، والموارد البشرية الشابة، والموقع الجغرافي الاستراتيجي الذي يشكل عقدة مواصلات تجارية مهمة بحرية وبرية، إضافة إلى التراث الثقافي والآثار التاريخية المشجعة لقطاع السياحة.
يمكن لقطاع الطاقة في سوريا المساهمة في عملية بناء الاقتصاد من جديد، فهناك احتياطات نفطية مؤكدة تُقدر بنحو 2.5 مليار برميل. وتمتلك سوريا ثروات وكنوزا طبيعية هائلة، منها الفوسفات، ومناجم الفحم الحجري في دير الزور، ومناجم الذهب في الشمال، وجبالاً من الرخام والغرانيت الأجود عالمياً. كما تشتهر بزراعة القطن والقمح عالي الجودة عالمياً، إلى جانب كونها من أبرز الدول في إنتاج زيت الزيتون، وزراعة وتصدير الحمضيات والخضروات.
بالإضافة لمسألة رفع العقوبات، فإن إعادة بناء الاقتصاد يتطلب تحقيق مستوى معقول من الاستقرار الأمني، وإعادة بناء مؤسسات الدولة وتطويرها، وإحداث بنية تشريعية جديدة لتنظيم أنشطة الاستثمار والتجارة والحد من الفساد. ولا شك أن الاستقرار السياسي والتوصل لحكومة انتقالية معترف بها يمثل نقطة انطلاق ضرورية للتأكيد على مصداقية القرارات والتشريعات والاتفاقيات وعدم خضوعها لتقلبات مفاجئة. وهي كلها متطلبات ما زال من غير المؤكد طول المدى الزمني الذي تتطلبه في ظل التحديات الداخلية والخارجية المشار إليها في البنود السابقة.
استشراف حالة الدولة
سيظل المشهد السياسي في سوريا ضبابياً في الأشهر القادمة، وسط بيئة معقدة من مجموعات تسعى لضمان موقعها في النظام الجديد. فمن المتوقع أن يصطدم مؤتمر الحوار الوطني بتواضع الثقة، واستعجال المحاصصة، وتعارض المصالح الخارجية. وسوف يعتمد نجاحه على مدى مرونة الإدارة السورية.
في الأجل القصير؛ لا يمكن التقليل من مخاوف “الثورة المضادة”، لكن يحد نسبيا من خطورتها التدهور الحاد في مؤسسات نظام الأسد، كما أن انتصار الثورة عسكريا يجعل جهود التصدي لفلول النظام أكثر حسما وسرعة. ومن المرجح أن نشهد احتجاجات اقتصادية وسياسية ستشكل تحديا أمنيا للإدارة الجديدة.
ستكون السياسة الخارجية للنظام الجديد عموما ذات طابع انكفائي يتجنب العداء والتصعيد مع الأطراف الخارجية، ويبتعد عن صراعات المحاور. وعلى الرغم من أن هذه الاستراتيجية ضرورية لتجنب النظام الجديد مخاطر الاستهداف الخارجي، إلا إنها أيضا لا تخلو من تحديات.
أظهر أحمد الشرع ميله للتوجه غربا، بما يمثل إعادة ضبط تاريخي للدولة السورية في المعادلة الجيوسياسية الدولية. وستكون الأولوية لإعادة بناء العلاقات مع واشنطن وأطراف إقليمية، بما يخدم ضرورة رفع العقوبات وإطلاق جهود إعادة الإعمار وإصلاح الاقتصاد. كما أن التهديدات الجيوسياسية تجعل الشراكة الأمنية والدفاعية مع تركيا ضرورة، مع الإبقاء على هامش مناورة بين المصالح الأمريكية والروسية.
يمثل التغيير في سوريا كابوسا أمنيا للاحتلال الإسرائيلي؛ إذ لا تتوفر ضمانات إزاء طبيعة النظام الجديد في المدى الطويل، كما أن احتمالات الوجود العسكري التركي في سوريا يمثل تحولا في البيئة الاستراتيجية للاحتلال. ومن المرجح أن يتمسك الاحتلال في 2025 بالتواجد في منطقة عازلة، وقد يعمل بشكل استراتيجي على تعزيز نفوذه في الجنوب السوري بالقدرات الاستخباراتية، وعبر دعم فصائل محلية سورية.
تتبنى دمشق استراتيجية عربية تقوم على بناء علاقات مميزة، وتجنب الصدام والاستقطاب. وبينما سنشهد توجهاً لتوثيق العلاقات مع السعودية، ومواصلة التعاون مع قطر، والاهتمام بالعراق والأردن ولبنان كدول جوار، فيظل من المرجح استمرار موقف الإمارات ومصر الذي يخيم عليه مزيج من التوجس والعداء.
تركت سنوات الحرب أثراً عميقاً على البنية التحتية في قطاعات الكهرباء والمياه والنقل، كما تضررت قطاعات الاقتصاد الحيوية خاصة النفط والزراعة. ورغم التحديات الهائلة، تملك سوريا نقاط قوة وفرصا اقتصادية يمكن الارتكاز عليها. وبالإضافة لرفع العقوبات، فإن إعادة بناء الاقتصاد يتطلب تحقيق مستوى معقول من الاستقرار الأمني، وإعادة بناء مؤسسات الحكم، وإحداث بنية تشريعية لتنظيم أنشطة الاستثمار والتجارة والحد من الفساد، وهي أمور تتطلب استقرارا سياسيا وحكومة تحظى بشرعية كافية.
عربي بوست
—————————
ليلةَ إعلان الجمهورية التلغراميّة الأولى: ماذا بعد «مؤتمر إعلان انتصار الثورة السورية»؟/ ياسين السويحة
في قاعة مغلقة، وبعد ترقّبٍ إعلامي وشعبي لخطابٍ للشرع لم يُوجَّه للشعب السوري، ودون بثٍ مباشر رغم تحضير تلفزيونات «صديقة» و«صديقة جداً» نفسها له، واستُعيِضَ عنه برشقات رسائل تلغرام في غرف «رسمية» متناثرة؛ وبحضورٍ مُقتصرٍ على نخبةٍ منتقاة من الرجال، جُلّهم عربٌ سنّة، وأكثرهم عسكر، وغالبيتهم العظمى إسلاميون، أُعلِن عن «انتصار الثورة السورية»، وعن حزمة قرارات سياسية كبيرة، بعضها أصبح أكثر ضبابية بعد الإعلان مما كان الوضع بخصوصها قبله، وعن أحمد الشرع رئيساً للبلاد في المرحلة الانتقالية.
حصل كل ذلك بعد أكثر من خمسين يوماً على هروب بشار الأسد، وعلى وصول فصائل «ردع العدوان» إلى دمشق واستلام زمام السلطة. يبدو أن أحداً لم يفكر في مدى مُلاءمة هكذا إخراج لحدثٍ سياسي بهذه الأهمية، وهذه مشكلة؛ أو أن أحداً قد جلس وخطط فعلاً لإخراج حدثٍ سياسي بهذه الأهمية لحاضر ومستقبل البلاد وقرَّرَ أن هذا هو الشكل الأنسب، وهذه حزمة من المشاكل.
لم يكن هناك سجال على أحمد الشرع كرأس للسلطة في المرحلة المقبلة، أياً يكن التوصيف المُتخّذ لترؤس السلطة، بما في ذلك «تولي رئاسة البلاد والقيام بمهام رئاسة الجمهورية»، كما نُصَّ في قرارات مؤتمر أمس، في صياغة مقبولة من ضمن نص بيان مؤسف بمجمله. بحماس أم «على مضض»، توفرت لأحمد الشرع الشرعية السياسية والزخم وغياب المُنازِعين، لكي يكون رجل المرحلة دون نقاش، ما يضيف على مشهد أمس غرائبية: صار رئيساً بغياب أي حضورٍ شعبي، بما في ذلك «المكوّنات»، التي كان بعضنا يخشى أن يُحصَر تمثيل «كل السوريين» سياسياً في أُطُرها، ودون توجيه كلمة واحدة مباشرة للشعب الذي تولى رئاسة بلده، وباللباس عسكري اللون غير الرسمي، وهو الذي لا يحوز رتبةً عسكرية رسمية، ولو حتى من ضمن الرتب التي قرَّرها بعضُ أفراد فريقه لأنفسهم ضمن تركيبة وزارة الدفاع الجديدة. هل كان بحاجةٍ لتشريف العسكر بإعطائهم حق تسميته رئيساً قبل حلِّ فصائلهم؟ ربما. وهذا منطقي إلى حد كبير، لكن هذه المنطقية لا تُبرّر غياب جزء «مدني» من الحدث ومن مراسمه ومن قراراته، غيابٌ لن يُستدرك بخطابٍ استلحاقي أُعلن عن أنه سيُلقى مساء اليوم. تُشير سلوكيات السلطة منذ وصولها إلى قصر الشعب إلى أنها غير مهتمة بمخاطبة عامّة الشعب السوري خارج استقبال وفودٍ وشخصيات محظيّة في قاعاته الفخمة، لكنها تُشير كذلك إلى حرصها الكامل على بناء شرعية إقليمية ودولية بوصفها سلطة قادمة لكي تكون غير فئوية، مدنية وتنموية ومنفتحة على العالم. أبمهرجان العسكر هذا يُعلَن عن هكذا سلطة رسمياً؟
لقد جاء بيان المؤتمر على شاكلة إعلانٍ كلاسيكي لعسكرٍ سيطروا على الحُكم. حُلَّت بنية الحكم السابق سياسياً وعسكرياً بشكل رمزي بعد أن ذابت فعلياً مطلع الشهر الأخير من العام الماضي. وعُيّنَ قائد العسكر رئيساً، ومُنِحَ صلاحية بناء الجسم التشريعي للمرحلة الانتقالية إلى حين كتابة دستور جديد للبلاد ودخوله حيّز التنفيذ. نظرياً، كان الدستور سيأتي كمحصلة للجنة منبثقة عن مؤتمر وطني جامع، تحدثت عنه السلطة مراراً في الإعلام وفي الزيارات الدبلوماسية، وهيمنت على أجوائنا السياسية الإشاعات بخصوصه والأقاويل وتسريبات الغرف المغلقة خلال الشهر المنصرم كله، إلى أن اختفى بالكامل من مخرجات مؤتمر الأمس. إن حصل هذا المؤتمر، ولا ندري إن كان سيحصل بعد الآن، فسيكون ناتجاً عن قرار من يتولى مهام رئاسة الجمهورية، وبتدبير المجلس التشريعي الذي سيعيّنه بنفسه وفق التفويض العسكري له.
المحصلة: لا نعلم. خرجنا من يوم أمس ونحن «لا نعلم» أكثر مما كنا «لا نعلم» قبل يوم أمس.
ومع ذلك، ثمة وضوح أكبر في الأجواء.
الأطياف المؤيدة لأحمد الشرع، أكان لأسباب إيديولوجية تخص تنظيمه المُنحل رسمياً، وإن القائم فعلياً الآن كسلطة، أو لأسباب «براغماتية» تخص الرغبة في تحقيق استقرار، أي استقرار، بأي ثمن، فَرِحة. خرجت مسيرات مُحتفلة أمس في عدة مدن سورية، وأُطلِق الرصاص المبتهج بكثافة مُثيرة للأسى، وخرجت هتافات، تفدي الرئيس الجديد بالروح وبالدم أو تطالب بحضوره «للأبد»، كان من المُتمنّى لو أنها حُلَّت من ضمن ما تَقرَّرَ حلّه أمس من بنية النظام القديم. من جهتها، رحبت الخارجية القطرية بالإجراءات قُبيل ساعات من زيارة أمير بلادها لدمشق في أول «زيارة دولة» للعاصمة السورية، ولا يبدو أن بقية «الشركاء» الإقليميين والدوليين لديهم مشكلة، علنية على الأقل، في إخراج تولّي السلطة رسمياً بالشكل الذي جرى أمس.
لكن ثمة استياءً شعبياً، واسعاً، ومتنوّعاً، ممّا جرى أمس: هناك قطاع واسع من السوريين والسوريات، ممن قبِلوا بأحمد الشرع وفريقه، «على مضض» أو بأشكال متنوّعة من الحماس، قد رأى نفسه أمس مُبعداً، رمزياً وفعلياً، من شأن بلده العام. نتحدث عن أطياف مختلفة إيديولوجياً ومناطقياً وطبقياً تريد أن يكون حكم بلدها ذا حساسية شعبية وقُدرة على مخاطبة شعبه والحديث معه بشكل كريم ولائق. حتى الآن، لا تُعامِلُ السلطة الجديدة هذه الأطياف الشعبية كشركاء على الإطلاق، لكنها لا تعاملهم كأعداء، أكان لأنها لا تريد أو لا تستطيع أو كليهما معاً. هذا هو المكسب السياسي الأهم منذ الثامن من كانون الأول الماضي، وهو ما يجب التمسك به والدفاع عنه وعدم السماح لليأس وللسينيكية بأن يبخسوه قيمته.
الآن، وبعد ممارسة الحق بالتفاجؤ وخيبة الأمل، والقلق، واليأس حتى، يبقى أن من واجب هذه الأطياف الشعبية العريضة والمتنوّعة التلاقي بشكل صَلب ومتاريسي دفاعاً عن حرّية التعبير والانتظام السياسي والاجتماع والاحتجاج، أولاً وأساساً، وقبل أي تَفرُّقٍ في أحزاب أو جماعات من أي نوع. هذه هي القاعدة الصلبة التي يجب الانطلاق منها للبحث عن مستقبل واسع ومرحاب للسوريين والسوريات، وليس انتظار غودو، الذي لم يكن مدعواً أمس إلى مؤتمر إعلان انتصارٍ عسكري.
موقع الجمهورية
————————————-
سوريا من تقاطع النيران إلى تقاطع المصالح/ مالك داغستاني
2025.01.30
بحركة غير متوقعة حتى روائياً، انتقلت سوريا، خلال أحد عشر يوماً، من بلد يتموضع في نقطة تقاطع النيران العالمية، إلى بلد تتقاطع فيه مصالح قوى النفوذ الإقليمية والدولية. فبات الديبلوماسيون يتقاطرون إلى دمشق، بحثاً عن مصالحهم، وعرض شروطهم على الإدارة لتحقيق تلك المصالح في الجمهورية الجديدة.
قبل شهر واحد من بدء “عملية ردع العدوان”، كتبت هنا مادة بعنوان “السوري المتطفِّل بين تقاطع النيران العالمية”، أشرت فيها إلى اهتمام السوريين ومتابعتهم الحثيثة، كشعب مشتت جغرافياً وسياسياً، لكلِّ ما يجري في المحيط الإقليمي والدولي، وأن هذه المتابعة ليست تطفّلاً ولا فضولاً منهم، بل لأن بلدهم ومصيرها يتعلق بكل تلك القوى التي تتصارع على أرضها. وخلال أقل من شهرين، وبعد إسقاط نظام الأسد، ما زلت أرى أن سوريا في نقطة التقاطع، لكنها هذه المرّة نقطة تقاطع جذبت مصالح تلك القوى، بدلاً من نيرانها.
ربيع عام 2017، في ملتقى سوري خاص للحوار، جرى في مدينة إسطنبول التركية، سمعتُ شخصياً من الراحل ميشيل كيلو جملة قطعية، بدت لي رغم قناعتي بصوابية سياقها، أنها متطرفةً وقاسية في صياغتها، قال الرجل لإسلاميين كانوا ضمن الحوار “يمكن للغرب أن يقصف سوريا بقنبلة نووية، كي لا يسمح بقيام دولة إسلامية متطرّفة”. كان كيلو يومها، وأعتقد أنه استمرّ حتى رحيله، على قناعة تامة أن على الفصائل الإسلامية تغيير خطابها وأدواتها، وحتى أهدافها، بما يتّسقُ مع ما يمكن أن يتلاقى مع رؤية العالم عن سوريا القادمة، بعيداً عن أوهام غير قابلة للتحقّق، أصلاً لن يسمح أحد من الفاعلين الدوليين على تحقيقها.
كانت إيران في تلك الفترة وما قبلها، تعمل على التدخل في دول المنطقة، عبر تسييد الميليشيات التابعة والموالية لها، على حساب تحييد الجيوش الوطنية لتلك الدول. هذا ما حدث في العراق عبر ميليشيا الحشد الشعبي، وفي لبنان عبر حزب الله، وفي اليمن مع الحوثيين، وإلى حد كبير في سوريا عبر استخدام ميليشيات طائفية متعددة الجنسيات وعابرة للحدود، هدفها حماية نظام الأسد الحليف من السقوط.
ليس بوحي منهُ، لكن الأكيد أن هيئة تحرير الشام وصلت إلى نفس قناعة ميشيل كيلو، وبدأت العمل قبل سنوات، على تغيير ليس صورتها فقط، وإنما أدواتها وأهدافها، فبعد أن كانت كل سياساتها وحتى سلوكها الميداني يقوم على إقامة دولة الخلافة الإسلامية التي سبق للقاعدة وداعش أن حاولتا إقامتها، تحول المشهد بطريقة براغماتية مدروسة، خلال سنوات قليلة، مع تغيير صورة الهيئة، لتتلاقى مع ما يمكن للعالم أن يقبل به.
في المقابل، وفي سياق الصراع مع الميليشيات الإيرانية، بدا أن الهيئة حاولت التأسيس لنواة جيش يعتمد إلى حدٍّ لا بأس به، على القواعد العسكرية الأكاديمية، بعيداً عن صورة الميليشيات المنفلتة، والتي ترتكب الانتهاكات بالمعايير الدولية كيفما تحرّكت. وخلال تحولاتها تلك، كان من الطبيعي أن تنشق بعض الرؤوس الحامية والصلدة، وكان على الهيئة أن تحيّد من لم يستطع التماشي مع هذا التغيير، وقد شهدنا ذلك في أكثر من محطّة.
من دون الإسهاب بكامل تلك التفاصيل، نحن اليوم هنا. الهيئة، بجيشها قليل العدد، استطاعت، بغطاء دوليّ، أو أقلّه ومن دون أدنى شكّ، بسماحٍ من الفاعلين في المشهد السوري، أن تسقط نظام الأسد مع تفكك جيشه وانسحاب ميليشياته ومواليه من المشهد، وهي اليوم تحكم الجزء الأكبر من سوريا، وعبر ما نشهده من تواصل دولي مكثَّف، تبدو أنها القوّة الشرعية الجديدة التي تحوز، بدرجات متفاوتة، على الاعتراف الدولي، حتى لو لم يكن رسمياً إلى الآن.
ولكن ماذا عنّا نحن السوريين، وعما نريده لبلدنا؟ لن أنتدب نفسي هنا، لأتحدث باسم كامل الشعب السوري، ولكني على يقين بأنني أستطيع إنابة نفسي عن شريحة ليست قليلة منه. وأنا بصدد الحديث عن تقاطع مصالحنا مع مصالح المجتمع الدولي الذي يحاول الإطباق على المشهد. أعتقد أن معظم السوريين اليوم يريدون أن تكون سوريا بلداً مستقراً لا يتسبب بالتهديد لأي طرف، والحقيقة أنها لا تستطيع، ما لم تتحول إلى دولة مارقة وخارجة عن القانون الدولي. وتلك نقطة لا يجب أن نختلف حولها مع أي من الفاعلين الإقليميين أو الدوليين.
يتحدث معظم زوار دمشق عن العدالة الانتقالية التي يجب أن تتم وفقاً للشرائع الدولية، وعن ضرورة مراعاة حقوق الإنسان وحقوق الأقليات، وغيرها من المبادئ القانونية الدولية التي تلتزم بها معظم دول العالم المتحضّرة. عند هذه النقاط، أجد أن على الإدارة الجديدة، ليس أن تستجيب لتلك المطالب وحسب، بل عليها أن تسبق في هذا الميدان تلك المطالبات بخطوة على الأقل. وهذا ما لا يحدث، في أكثر من حقلٍ، حتى الآن مع الأسف. وبما لا يتوافق، بل ويتناقض، مع الخطاب العقلاني والمتّزن الذي يقدّمه قادة الإدارة الجديدة.
أقول إن علينا أن نسبق المطالبات الدولية بخطوة ليس تلبية لرغبات تلك الدول بل لأجل السوريين. وحقيقة الأمر أن تلك الانتهاكات كانت تحدث تاريخياً في سوريا وغيرها من دول الإقليم والعالم، من دون أن يرفّ لتلك القوى الدولية جفن. علينا القيام بذلك، لا كي لا نترك لتلك الدول حجّة للضغط والتدخل، بل لأننا يجب أن نقوم بذلك ونحن نقطع كل الأواصر مع صورة دولة الاستبداد، الذي أسس لها نظام الأسد منذ أكثر من نصف قرن. وبهذا نسحب تلك العناوين من التداول، وحتى من جداول أعمال اللقاءات مع ديبلومسيي وسياسيي تلك الدول.
ما يحدث على الأرض، ويتسرب عبر مقاطع مصورة، من انتهاكات وحتى قتل خارج إطار القانون، هو مثلبة على الإدارة الجديدة، حتى لو ارتكبته عناصر غير منضبطة. وإن استمرار بعض الرؤوس الحامية، حامية بالمقاييس الدولية وليس بمقاييس الهيئة، حتى الآن في بعض مواقع القرار أو المواقع التنفيذية على الأرض، إن كان هؤلاء من الهيئة أو من بعض حلفائها يعكس صورة سيئة، ومختلفة عن خطاب الإدارة، حول سوريا القادمة.
صورةٌ سوف يركّز عليها الإعلام الدولي، وقد بدأ ذلك بالفعل. وإن كان الساسة الغربيون سيغضون الطرف عنها وقد يفعلون، فلن يكون ذلك إلا على حساب مصالح سوريا واستقلاليتها. إذ سيتمّ الأمر على شكل مقايضات قد تكون لمصلحة الإدارة الجديدة، لكنها بالقطع ليست لمصلحة السوريين.علينا لمصلحة بلدنا، وليس بدفع الآخرين، ومن أجل بناء سوريا الجديدة بصورة حضارية تستحق الاحترام، أن نسبق إلى ضبط هذا المشهد بلا تردد، ومن دون أن ننتظر أية ضغوطات خارجية.
قد لا يبدو في كل ما كتبت هنا أن هناك أشياء جديدة، لم يقلها آخرون. نعم ربما هذا صحيح إلى حدٍّ ما. لكن أريد أؤكد وأنا أختم بأن من ينتقدون ما يظهر من تلك الانتهاكات، في الواقع السوري الجديد، ليسوا معادين للإدارة الجديدة بالضرورة، بعضهم كذلك طبعاً، لكنهم من الفرحين بالنصر والمتفائلين ببناء سوريا جديدة، ويريدون فقط، وأنا أحد هؤلاء، أن يروا بلدهم بلداً طبيعياً ومتحضّراً، يشبه كثيراً من دول العالم وتتقاطع مصالحه بطريقة إنسانية مع تلك الدول، بعد أن عاشوا جلَّ أعمارهم في بلد متوحش، ولا يرغبون أن يقضوا ما تبقّى لهم من أعمار في بلد مشابه.
تلفزيون سوريا
—————————
في سوريا: السياسة أولاً، الاقتصاد ثانياً، والإيديولوجيا آخر شيء/ ياسين الحاج صالح
تحديث 30 كانون الثاني 2025
سوريا في حاجة إلى دعم مالي إسعافي من أجل إعادة الإعمار ودوران عجلة الاقتصاد من جديد، شيء أشبه بمشروع مارشال لإعادة إعمار أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية. لكن البلد في حاجة بقدر أكبر إلى هياكل سياسية عقلانية، موثوقة اجتماعياً، تنضبط بالقانون وتعمل بشفافية ويتحمل مديروها المسؤولية عن أفعالهم، وهذا من أجل أن يكون أي ضخ محتمل للأموال مجدياً. ليس الحال كذلك بعد في سوريا، وليس ثمة ما يشير إلى أن الإدارة الجديدة تحوز رؤية سياسية واضحة للمستقبل كإطار للتنمية الاقتصادية ومعالجة المشكلات الاجتماعية الملحة، وبخاصة الفقر والبطالة. الوعد باقتصاد قائم على السوق، ووصف الاقتصاد السوري في الحقبة الأسدية بأنه اقتصاد اشتراكي، يبدو أقرب إلى خوض معركة إيديولوجية بائتة منه إلى تصور مستقبلي جدي لكيفية النهوض بالاقتصاد السوري في بلد مدمر، تعاني أكثرية سكانه من فقر مدقع. يقتضي الأمر بالأحرى دوراً مهماً للدولة في توزيع الموارد المحتملة وقيادة عملية التنمية على نحو يعود بمنافع على الشرائح الدنيا في البلد، وليس كبار المتمولين ممن يعمل اقتصاد السوق غير المضبوط سياسياً وقانونياً لمصلحتهم. ولذلك فإنه مهما أمكن للنهوض الاقتصادي أن يكون ملحاً فإن السياسة تأتي أولاً، والبناء السياسي العقلاني والمسؤول له الأسبقية من أجل النمو الاقتصادي ذاته. وعلى أي حال، فإن اقتصاد السوق يعمل جيداً، حسب جوزف ستغلتز الذي حاز جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2001، فقط بوجود نظام تقاض مستقل وفعال يبت في المنازعات المحتملة، ثم بوجود نظام معلومات شفاف حول البيئة الاقتصادية والعقود والصفقات. وقد نضيف شرطاً خلدونياً: ألا تكون الدولة تاجرة، أي ألا يكون الأفضل اطلاعاً على المعلومات المتصلة بالاقتصاد هم أصحاب العقود والصفقات. لا القضاء المستقل الفعال ولا الشفافية سمة مميزة للحكم الانتقالي الراهن.
وعلى أي حال فإن الأموال الإسعافية المأمولة لن تأتي، إن أتت، إلا من واحدة من جهتين: دول الخليج العربية، وبالتحديد قطر والسعودية والإمارات، أو من الاتحاد الأوروبي (يستبعد للولايات المتحدة في ظل إدارة الجابي الكوني ترامب أن تساعد سوريا أو غيرها). ويخشى في الحالة الأولى أن يشرط الدعم المالي بسقوف سياسية تعيد إنتاج الحكم التسلطي على أسس جديدة، فتقيد الحريات العامة في البلد وتسقف التعددية السياسية ويحال دون انتخابات حرة أو يجري تقييد المشاركة فيها. وفي الحال الأوروبية يخشى كذلك من فرض شروط سياسية، تتصل بإسرائيل وأمنها الدائم، وبـ»الإرهاب» ومحاربته، أي بأمن الأوروبيين، ثم ربما بروسيا. وما يجمع الطرفين، العربي والأوروبي، هو أولوية الاستقرار على الحريات السياسية والحقوق الاجتماعية، وعلى أمن السوريين الاجتماعي والوطني.
والإدارة الجديدة في سوريا في وضع ضعيف اليوم حيال القوى العربية والدولية بسبب التركة الثقيلة التي ورثتها من نظام الأسد، ثم بسبب ماضيها الخاص المتطرف، السلفي الجهادي، الذي سيبقى يلاحقها. ورغم ما نالته من شرعية داخلية بفضل تخليص البلد من الحكم الأسدي، إلا أنها ليست في موقع قوي حيال مطالبات المجتمع السوري المتضاربة. والعنف الذي قد يلجأ إليه فريق حاكم يواجه ضغوطاً متنوعة لا يبدو متاحاً للفريق الجديد، ليس فقط بسبب كون البلد تحت أنظار القريب والبعيد في العالم، ولكن لأن من شأنه أن يعصف بالشرعية المكتسبة في مواجهة نظام كان عنفاً مديداً مجسداً.
والحال أن ما يخشى من عنف في البلد قد يأتي من ضعف تماسك الفريق الحاكم، وبالتحديد من مخاطر انقلابية قد تأتي من متطرفين فيه أقرب إلى التكوين السلفي الجهادي التقليدي، ومن ساخطين من تشكيلات مسلحة لا يرضيها نزع سلاحها، ولا يبعد أن تلجأ إلى المزايدة الدينية. يفيد أن نستذكر خبرة ما بعد الاستقلال حيث بدأت الانقلابات العسكرية بعد 3 سنوات، ولم تنطو صفحتها حتى حكم حافظ الأسد البلد وطوى الحياة السياسية والاجتماعية، وأحل نفسه ثم سلالته محلهما. سقوط النظام الأسدي هو بمثابة استقلال ثان، يطرح على البلد من جديد تحديات البناء الوطني، ومنها بخاصة تحدي بناء مؤسسات سياسية فاعلة واستيعابية. ولا يبعد أن يفضي التعثر في ذلك إلى الاضطراب السياسي والانقلابات العسكرية، وإلى طور جديد من «الصراع على سوريا» يماثل بصورة ما شهده البلد في خمسينيات القرن العشرين. من يحتمل أن يكون انقلابيو اليوم؟ إنهم ممن حملوا السلاح خلال سنوات الصراع السوري المديدة، وكان غير قليل منهم قد فقدوا أي قضية وطنية عامة، وأجّروا أنفسهم لقوى إقليمية أو دولية هي من يحتمل أن تكون أطراف الصراع على سوريا الجديدة.
ما يمكن أن يضمن انتقالاً سورياً مستداماً لا ينقلب هو أن تحصن الإدارة الجديدة نفسها بأكثرية سياسية واسعة، تشارك في تحمل المسؤولية وتستدرك ضيق التكوين وقلة الكفاءات في أوساط «هيئة تحرير الشام» كما تقوي موقع الحكم الانتقالي حيال القوى الإقليمية والدولية. السنيون السوريون ليسوا تلك الأكثرية الجاهزة، ولم يكونوا كذلك يوماً. وهذا لتعدد بيئاتهم ولانقسامهم على مستويات متعددة، هذا فوق أن الاعتماد على أكثرية موروثة يرسخ الانقسام الوطني على أسس موروثة بدورها، ويضع البلد في أجواء حرب أهلية كامنة مستمرة. الأكثرية السياسية تقوم عبر انتخابات حرة، لكن في الطور الحالي يمكن أن تتكون عبر تفاهمات انتقالية مع شخصيات وتجمعات من غير التابعين لقوى دولية ومن ذوي الدور الاجتماعي الفاعل خلال سنوات الثورة. من شأن عمل الإدارة الجديدة على بلورة رؤية لمستقبل سوريا السياسي تقوم على سيادة القانون والشفافية والمواطنة المتساوية أن تطلق ديناميكية ثقة اجتماعية ووطنية، تضعها (الإدارة) في موقع متقدم خطوة واحدة على الأقل أمام الأطراف المعنية بالشأن السوري وتدفع الآخرين إلى التفاعل معها. وهذا فوق ملاءمة ذلك للتعافي الاقتصادي.
والخلاصة أن اعتبارات الاقتصاد والاستقرار والقدرة على امتصاص الضغوط الإقليمية والدولية بمبادرات تغير البيئة السياسية في البلد، هذه الاعتبارات كلها تحث على إصلاحات مؤسسية أساسية وضرورة توسيع قاعدة السلطة واستقلال الفاعلين السياسيين عن الشرائح الاجتماعية (وعن الدين، وعن الطوائف) بدءاً من هذا الزمن الانتقالي.
على أنه قد يؤخذ على هذا المناقشة بمجملها أنها «تُطبّع» فريقاً مسيطراً، ليس واضحاً أنه كف عن أن يكون سلفياً جهادياً، وهو على أي حال لم يقل إنه لم يعد كذلك. تُطبِّعه بمعنى أنها تتعامل معه كطرف معقول (كيلا نقول: عقلاني) يمكن الأخذ والعطاء معه، ولا يلزم لتحليل مسالكه خلال الأسابيع الماضية أدوات مغايرة لتحليل مسالك قوى اجتماعية سياسية دنيوية أخرى. بلى. وهذا من باب رفض خوض معركة إيديولوجية، طالما كان ذلك ممكناً، أي طالما أن الجماعة الحاكمة لا تعمل على فرض أيديولوجيتها. وظاهر اليوم أن ركني السلفية الجهادية، الركن العقدي السلفي والركن الجهادي العنفي، في تراجع في تعريف هذه الإدارة، وإن كان المرء لا يجد بحوزته من المعطيات والمعلومات ما ينفع في تسمية هذا الفريق وتوقع توجهاته على مدى أطول.
مشكلات سوريا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية تدعو إلى تخفيف الاستقطابات الإيديولوجية، والتركيز بالمقابل على قضايا العدالة والحقوق والحريات، والنمو الاقتصادي العاجل. كانت مشكلتنا مع الإسلاميين طوال سنوات هي نزعتهم العدوانية إلى فرض إيديولوجيتهم بالقوة العارية بعد ثورة تفجرت من أجل التغيير السياسي والحقوق الاجتماعية. وبالتحديد كانت المشكلة عملهم على تديين الصراعات الاجتماعية بدلاً من تسييسها، أي التفكير بها كمشكلات سياسية تحتاج إلى معالجات وحلول سياسية، هو المسلك الأنسب من أجل التعافي الوطني والتعددية السياسية. التديين، بالمقابل، يحولها إلى مشكلات مطلقة ولا ينفتح على حل غير إبادي لها. ليس من مصلحتنا في الطيف الديمقراطي، وليس من مصلحة عموم السوريين، تنشيط استقطابات إيديولوجية، ومن باب أولى دينية. وهذا حتى لو عمل الإسلاميون على ذلك. والمؤشرات المتاحة اليوم بخصوص سلوك الإدارة الجديدة لا تتجه نحو التديين، وإن لم تكن فاعل تسييس بصورة جلية.
كاتب سوري
القدس العربي
—————————-
سلطة دمشق بين أولوية الأمن والضغوط المتعارضة/ بكر صدقي
تحديث 30 كانون الثاني 2025
مضى الآن أكثر من شهر على اجتماع قائد «الإدارة السورية الجديدة» أحمد الشرع في قصر الشعب مع عدد من قادة فصائل المعارضة المسلحة حيث تم الإعلان عن «توافق» المجتمعين على حل جميع الفصائل والانضواء تحت مظلة وزارة الدفاع في الحكومة المؤقتة. وتقول مصادر إن وزير الدفاع مرهف أبو قصرة قد عقد، إلى الآن، أكثر من أربعة عشر اجتماعاً مع قادة الفصائل في هذا السياق. وثمة فصائل تابعة لتركيا، كتلك المعروفة باسم «الحمزات» و«العمشات» و«السلطان مراد» وغيرها لم تشارك أصلاً في اجتماع قصر الشعب، في حين رفض أحمد العودة قائد «اللواء الثامن» و«غرفة عمليات الجنوب» الانضمام إلى الجيش الجديد المزمع إنشاؤه، ويبقى مصير فصائل محافظة السويداء مرهوناً بالتوجهات السياسية التي تميل إلى نوع من الاستقلال الذاتي. هناك أخيراً وضع قوات سوريا الديمقراطية التي يستمر الحوار بينها وبين دمشق في ظل ضغط تركي عبرت عنه زيارة ثانية لرئيس جهاز الاستخبارات القومي التركي إلى دمشق منذ سقوط نظام الأسد.
بالنظر إلى هذه اللوحة يمكننا القول إن موضوع حل الفصائل المسلحة في سياق إنشاء جيش سوري جديد، «احترافي» كما أعلنت الإدارة، ما زال يراوح في مكانه إلى حد بعيد، ما لم نحسب إعلان «حراس الدين» الذي هو الفرع المحلي لمنظمة القاعدة، يوم الثلاثاء، عن حل تنظيمهم كسابقة أولى لا نعرف متى قد تليها إعلانات مماثلة من فصائل أخرى. وفي حين تبدو «قسد» الجهة الأصعب في المفاوضات مع دمشق في هذا السياق، بالنظر إلى حجمها، والأهمية الاقتصادية لمناطق سيطرتها، كما لتعدد الفاعلين المتدخلين فيها، موضوعياً أو بصورة مباشرة (تركيا، والولايات المتحدة وفرنسا، وقيادة حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل) يتوقف مصير فصائل الشمال المرتبطة بتركيا بنتيجة المفاوضات مع قسد، أي أن حل نفسها يتوقف على قرار تركي. فأنقرة تضغط على إدارة أحمد الشرع لعدم الوصول مع قسد إلى أي حلول وسط لا ترضيها، مقابل ضغط قيادة «العمال الكردستاني» على قسد لعدم حل نفسها كما تطالب تركيا. من المحتمل أن كلاً من تركيا وقسد يترقبان ما قد يقرره الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن مصير القوات الأمريكية في سوريا، وطبيعة علاقاته مع تركيا وبالأخص موقفه من تطلعات أنقرة بشأن إنهاء ما تعتبرها خطراً على أمنها القومي في شرق الفرات. فانحيازه المحتمل لأحد الطرفين سيكون له وزن كبير في تحديد مصير المناطق التي تسيطر عليها قسد، وبالتالي في مصير التفاهمات المحتملة بينها وبين إدارة أحمد الشرع. فإذا لم ترض هذه التفاهمات تركيا فهذه تملك ورقة فصائل «الجيش الوطني» من خلال رفضها لحل نفسها والانضواء تحت مظلة وزارة الدفاع.
غير أن إحدى وسائل الإعلام الإسرائيلية نشرت، الثلاثاء، خبراً أسندته إلى مصادر أمريكية لم تسمها، فحواه أن ترامب بصدد سحب القوات الأمريكية من سوريا، الأمر الذي من شأنه، إذا صح هذا الخبر، أن يضعف موقف قسد في مواجهة تركيا، وقد يدفعها إلى مزيد من المرونة في مفاوضاتها مع السلطة في دمشق. بالمقابل أشارت تقارير صحافية إلى توصل المجلس الوطني الكردي، وأحزاب سياسية كردية من خارجه، إلى اتفاق مع قيادة قوات سوريا الديمقراطية، بإشراف أمريكي- فرنسي، على تشكيل وفد كردي موحد للتوجه إلى دمشق بمطالب موحدة تخص المكوّن الكردي لتقديمها إلى الإدارة السياسية في دمشق، وهو ما قد يعني إمكانية الفصل بين مصير قسد بالمعنى العسكري وإشراك الكرد في العملية السياسية.
على رغم تعقيد هذه اللوحة الذي يوحي وكأن حل تشابكاتها يتطلب معجزة، فهي متعلقة أساساً بعوامل خارجية أكثر من كونها نتاج تناقضات داخلية. يكفي مثلاً أن تكف قيادة حزب العمال الكردستاني يدها عن قسد وأن توقف أنقرة حرب فصائل «الجيش الوطني» على الأخيرة، حتى يصبح بالإمكان إدماج قوات قسد تحت مظلة وزارة الدفاع، وإدخال الوفد الكردي المشترك في المؤتمر الوطني المزمع عقده، ليصبح الكرد شركاء في بناء سوريا الجديدة. وهذا مطلب وطني ودولي في الوقت نفسه من شأنه أن يزيل مخاوف فئات واسعة من السوريين من تفرد «هيئة تحرير الشام» بالسلطة وبتقرير مصير سوريا، وكذا تحفظات الدول الغربية بشأن رفع العقوبات المفروضة على سوريا.
غير أن توجهاً من هذا النوع قد يصطدم بممانعة من نوع آخر من داخل البيئة السلفية الجهادية هذه المرة، أي من الجهة التي تعتبر نفسها «منتصرة» في الصراع ضد نظام الأسد المخلوع. وإذا كانت هيئة تحرير الشام تبدو، إلى الآن، منضبطة بمستوى معقول في إطار التوجهات السياسية لقيادتها، لكننا لا نعرف يقيناً مدى انصياعها المحتمل لقرار حلها المنتظر على ما أخبرنا أحمد الشرع في وقت مبكر بعد سقوط النظام. ارتفاع منسوب ما يسمى «حوادث فردية» في الأسابيع الأخيرة لا يعطينا إشارات مطمئنة بهذا الخصوص. فقد كثرت تقارير عن انتهاكات منسوبة إلى «فصائل» متحالفة مع «الهيئة» أثناء حملات التمشيط الأمني في مناطق ينظر إليها كحواضن اجتماعية مفترضة للنظام المخلوع في الأسابيع الأخيرة، قد تشي بفقدان سيطرة الإدارة في دمشق على جسم هيئة تحرير الشام أو الفصائل المتحالفة معها في إطار «إدارة العمليات العسكرية». وهذا مما يزيد الشكوك في قدرة السلطة على ترتيب بيتها الداخلي بالذات ناهيكم عن مد سيطرتها إلى مناطق جديدة خاضعة لفصائل مطلوب منها أن تحل نفسها.
أمام السلطة الجديدة إذن شبكة معقدة من التحديات الملحة، تبدو البيئة الدولية مشجعة لها على المضي فيها قدماً، في حين ما زالت هذه السلطة مترددة في الإعلان عن توجهاتها خشية خسارة هذه الجهة أو تلك من الجهات القادرة على تعطيل أي تقدم. لكن هامش الوقت يضيق أمامها كل يوم لحسم خياراتها.
كاتب سوري
القدس العربي
————————–
بين روسيا والغرب.. دمشق تعيد رسم مسارها السياسي وسط حسابات معقدة/ محمد الشيخ
2025.01.30
بعد سقوط نظام بشار الأسد في الثامن من كانون الأول الماضي واستلام إدارة العمليات العسكرية زمام السلطة في سوريا، وجدت القيادة الجديدة نفسها أمام مشهد سياسي شديد التعقيد، حيث تتشابك المصالح الدولية بين روسيا والغرب في رسم مستقبل البلاد، وبينما تسعى موسكو إلى الحفاظ على نفوذها الاستراتيجي، تضغط القوى الغربية لضمان مصالحها والحد من الهيمنة الروسية.
وسط هذه الحسابات المتشابكة، تواجه الإدارة الجديدة تحدياً كبيراً في تحديد موقعها السياسي وتحقيق توازن بين القوى الدولية دون الانزلاق نحو التبعية لأي طرف، مما يضعها أمام اختبارات صعبة تتعلق بمستقبل البلاد ومصالحها.
ولطالما لعبت روسيا دوراً محورياً في دعم النظام المخلوع، بدءاً من الدعم السياسي وحتى التدخل العسكري المباشر عام 2015 لمنع انهياره، كما تورطت في عمليات قصف وتهجير طالت ملايين السوريين، واستقبلت بشار الأسد وأموالًا ضخمة نُهبت من سوريا خلال سنوات حكمه.
وفي إطار سعيها للحفاظ على وجودها في سوريا، تمتلك روسيا أوراقاً يمكن أن تقدمها للإدارة الجديدة، تشمل إمكانية توفير الدعم الأمني الداخلي، والدعم السياسي في مجلس الأمن، وعرقلة أي قرارات قد تحاول الدول الغربية فرضها، كما أن موسكو لا تضع شروطاً للتعامل مع حكومة الشرع على غرار الدول الغربية، لكنها تفتقر إلى القدرة على تمويل إعادة الإعمار ودعم الاقتصاد السوري المنهار.
على الجانب الآخر، يربط المعسكر الغربي أي تطبيع مع سوريا ورفع العقوبات عنها بتنفيذ مجموعة من المطالب، أبرزها إخراج القوات الروسية من البلاد، إلى جانب تحسين أوضاع حقوق الإنسان، وضمان حقوق الأقليات والمرأة.
وغالباً ما تأتي هذه الشروط انطلاقاً من امتلاك الدول الغربية القدرة على تمويل مشاريع إعادة الإعمار، وتحكمها بملف العقوبات، فضلاً عن الدعم الذي تقدمه لـ”قوات سوريا الديمقراطية – قسد”، وهو ما يثير قلق السوريين باعتبار مشروعها تهديداً لوحدة البلاد.
بين روسيا والغرب: مكاسب وتحديات
كان واضحاً أن صناع القرار في دمشق انتهجوا خلال الفترة الماضية سياسة براغماتية في إدارة العلاقات الخارجية، هدفها تحقيق مكاسب استراتيجية والوصول إلى توازن دقيق بين مختلف الأطراف.
وفي هذا الإطار، وجهت الإدارة السورية الجديدة رسائل متوازنة إلى الأطراف الدولية، حرصت خلالها على إبراز القضايا التي تهم كل معسكر، دون إظهار انحياز واضح أو محاولة التقرب من طرف على حساب الآخر.
وفي تصريحاته الموجهة إلى الدول الغربية، ركز الرئيس السوري أحمد الشرع على أهمية بناء علاقات قائمة على المصالح المشتركة، مشدداً على أن استقرار سوريا يسهم في تسهيل عودة اللاجئين، والتصدي لتهريب المخدرات، وتهيئة بيئة جاذبة للاستثمارات الأجنبية.
أما فيما يتعلق بالعلاقات مع موسكو، فقد أكد الشرع أن روسيا تُعدّ ثاني أقوى دولة في العالم، وأن العلاقات السورية – الروسية قائمة على مصالح استراتيجية تجعلها أولوية في السياسة الخارجية لدمشق، موضحاً أن الإدارة الجديدة لا تسعى إلى إقصاء روسيا من سوريا بما يتعارض مع طبيعة العلاقة التاريخية بين البلدين.
ويؤكد الباحث في العلاقات الدولية محمود علوش أن سوريا ليست في وارد الانحياز إلى أي من المعسكرين الروسي أو الغربي في المرحلة الراهنة، مشيراً إلى أن الأولوية تكمن في بناء علاقات جيدة وقوية مع الغرب لتخفيف العقوبات الدولية، وإنهاء العزلة السياسية، وتوفير الظروف الملائمة لإعادة الإعمار، وهي عوامل تشكل عقبات رئيسية أمام نجاح عملية التحول في البلاد.
وأوضح علوش، في حديث لموقع تلفزيون سوريا، أنه لا يمكن لسوريا بناء علاقة مع روسيا على غرار ما كان قائماً قبل سقوط الأسد، غير أن الحفاظ على علاقات ودية مع موسكو قد يحمل بعض الفوائد، لا سيما في الحد من مخاطر الانخراط في صراعات المحاور الإقليمية والدولية، كما أنها قد تمنح دمشق ورقة تفاوضية لتعزيز موقفها أمام الغرب.
وسيحمل أي انحياز واضح لطرف دون الآخر تبعات سلبية على سوريا، إذ أن العلاقة مع موسكو لن تحقق الفوائد نفسها التي يمكن أن توفرها العلاقات الجيدة مع الغرب، كما أن التحديات الاقتصادية والأمنية، وعلى رأسها ملف “قسد”، وتحقيق الاستقرار الاقتصادي، والحصول على الاعتراف الدولي، تستوجب بناء علاقة قوية مع الدول الغربية، وفقاً لعلوش.
من جانبه، يرى الباحث والمستشار السياسي باسل الحاج جاسم أن الإدارة الجديدة قد تحقق مكاسب مختلفة بناءً على توجهاتها السياسية، فالانحياز إلى روسيا يضمن استمرار الدعم العسكري والسياسي، إلى جانب تسهيلات اقتصادية وتجارية، خصوصاً في مجالات الطاقة والبنية التحتية.
أما الانحياز إلى الغرب، فيوضح الحاج جاسم، في حديث لموقع تلفزيون سوريا، أن ذلك قد يفتح الباب أمام تخفيف العقوبات الاقتصادية بشكل تدريجي، وتوفير دعم مالي لإعادة الإعمار، إضافة إلى استعادة العلاقات الدبلوماسية والحصول على شرعية دولية.
وأضاف: “لكن لكل خيار تبعاته السلبية، فالانحياز الكامل إلى روسيا قد يؤدي إلى استمرار العقوبات الغربية وتعثر مشاريع إعادة الإعمار، إضافة إلى العزلة الدولية في ظل تراجع النفوذ الروسي عالمياً، فضلاً عن الضغوط الداخلية الناجمة عن الأزمات الاقتصادية”.
في المقابل، قد يعرقل الانحياز إلى الغرب استقلال القرار السوري بسبب الشروط الغربية، التي قد تتضمن ضغوطاً وابتزازاً سياسياً يؤثر على السياسة الداخلية والخارجية لدمشق، بحسب محدثنا.
تحقيق التوازن في العلاقة مع روسيا والغرب
من الناحية النظرية، يمكن للإدارة السورية الجديدة تبني سياسة الحياد الإيجابي، كما فعلت دول مثل مصر خلال الحرب الباردة، لكن عملياً، يبدو تحقيق توازن مثالي صعباً في ظل التوترات الروسية الغربية.
ومع ذلك، يعتقد الحاج جاسم أنه بإمكان دمشق اعتماد نهج براغماتي يركز على المصالح الاقتصادية والسياسية دون استعداء أي من الطرفين، مشدداً على أن قدرة الإدارة السورية على المناورة السياسية ستكون حاسمة في هذا الإطار.
ويمكن لسوريا الاستفادة من روسيا أمنياً واقتصادياً، مع تقديم تنازلات محدودة للغرب لجذب الاستثمارات وتمويل إعادة الإعمار، دون أن تصل العلاقة مع موسكو إلى القطيعة، وفي هذا السياق، يستعرض الحاج جاسم الخيارات المتاحة أمام الإدارة الجديدة، وهي:
عدم الابتعاد عن روسيا بالكامل، مع البحث عن حلول لتخفيف العقوبات الغربية.
إبقاء قنوات الحوار مفتوحة مع الغرب دون تقديم تنازلات جوهرية قد تضر بالعلاقة مع موسكو.
تبني سياسة عدم الانحياز، والتركيز على تحقيق مصالح اقتصادية مع كلا الطرفين.
وفي ظل صعوبة الحصول على دعم غربي مع استمرار الوجود العسكري الروسي في سوريا، حيث تربط الدول الأوروبية وأميركا أي دعم اقتصادي بإصلاحات سياسية وانسحاب القوات الروسية، يمكن لدمشق استغلال قضايا اللاجئين والأوضاع الإنسانية، إضافة إلى حاجة الغرب للاستقرار الإقليمي، كورقة ضغط للحصول على بعض التنازلات، وفقاً لمحدثنا.
بين روسيا والغرب.. أي الخيارين أفضل لمصلحة سوريا؟
تقف الإدارة السورية أمام خيارات متباينة في تحديد الجهة الأكثر قدرة على التأثير في مستقبل البلاد، والمفاضلة بين روسيا، التي دعمت النظام المخلوع سياسياً وعسكرياً لكنها أخفقت في تقديم حلول اقتصادية له، وبين الدول الغربية، التي دعمت المعارضة لكنها تقاعست قبل إسقاط الأسد عن فرض استراتيجية فعالة لحل الأزمة في البلاد، وعملت بدلاً من ذلك على إدارة الأزمة عبر التركيز على العقوبات أكثر من تقديم بدائل عملية لتحقيق الاستقرار.
ويعتقد الباحث في الشؤون الدولية محمود علوش أن المسار الأفضل للسياسة الخارجية السورية يتمثل في بناء علاقات متوازنة مع مختلف الفاعلين الإقليميين والدوليين، بما في ذلك تركيا والسعودية، مع تعزيز التعاون مع الغرب لضمان المكاسب السياسية والاقتصادية.
وأشار إلى أن خيارات الإدارة الجديدة بين روسيا والغرب ستتأثر بما يمكن أن يقدمه الغرب لدعمها، مضيفاً أن استعداد الدول الغربية لتقديم الدعم قد يدفع دمشق إلى اتخاذ خطوات تتماشى مع رؤيتها ومطالبها تجاه موسكو.
من جانبه، يؤكد الباحث باسل الحاج جاسم أن الخيار الأفضل لسوريا هو تبني نهج الحياد الإيجابي، والتعامل ببراغماتية مع جميع الأطراف لضمان الاستقرار والاستفادة من الفرص المتاحة.
ورجح أن تحافظ الإدارة السورية على علاقاتها مع روسيا، لكن مع تغييرات تتماشى مع التطورات الإقليمية والدولية، خاصة في ظل تغير طبيعة الدور الروسي في سوريا، كما أنها ستسعى إلى تحسين علاقاتها مع بعض الدول الغربية والعربية لتخفيف الضغوط الاقتصادية.
تلفزيون سوريا
——————————
قطر والثورة السورية.. ريادة في الموقف الأخلاقي وثبات في الدعم حتى سقوط الأسد
2025.01.30
على مدى السنوات الماضية استأثرت قطر بدور ريادي في سوريا، فقد كانت أول دولة تتخذ مواقف حاسمة ضد نظام الأسد وفي دعم المعارضة السورية، وظلّت الوحيدة التي واصلت الاعتراف بالمعارضة كممثل شرعي للشعب السوري.
واليوم، ومع تغير المشهد في سوريا وسقوط نظام الأسد، تسجل قطر سابقة جديدة في الساحة السياسية، حيث سيكون أميرها، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أول زعيم عربي يزور دمشق للقاء الرئيس السوري أحمد الشرع، في خطوة تحمل دلالات هامة حول مستقبل العلاقات السورية- القطرية.
“قطر ستبقى مع المعارضة السورية مهما كلف الأمر، حتى لو استمرت الثورة عشرين سنة”، و”موقف دولة قطر من القضية السورية واضح منذ البداية وثابت لا يتغير”، تصريحان يحملان نفس المضمون، لكن يفصل بينهما نحو 12 عاما من الزمن، أكد فيهما أمير قطر على موقفه الثابت تجاه الثورة السورية.
في 2013، وبعد أيام قليلة من توليه الحكم، كان التصريح الأول، في حين جاء التصريح الثاني قبل ثلاثة أشهر من سقوط نظام الأسد في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وبين هذين التصريحين، استمرت قطر في دعم الثورة السورية بشكل ثابت من دون أي تراجع أو تغير في سياستها.
على مدار أكثر من عقد من الزمن، حافظت قطر على موقفها الثابت تجاه الثورة السورية، فلم تدفعها ضغوطات السياسة الإقليمية أو الاعتبارات الواقعية إلى تغيير مواقفها، حتى في الوقت الذي سعت فيه بعض الدول لتبرير تطبيعها مع نظام الأسد عبر المراوغة السياسية، ظلت الدوحة متمسكة بخيارها، متخذة من القضية السورية قضية ذات أولوية استمرت حتى لحظة إسقاط النظام.
في الأسطر التالية، نسلط الضوء على الدور القطري في الملف السوري منذ اندلاع الثورة وحتى سقوط نظام الأسد، عبر مجالات رئيسية.
من الوساطة الدبلوماسية إلى دعم الثورة
لعبت دولة قطر دورا بارزا على الساحة السياسية والإعلامية في دعم الحراك الشعبي ضد النظام السوري، بدأ من التغطية الإعلامية الواسعة والتي ركزت على إبراز الاحتجاجات الشعبية والانتهاكات التي ارتكبها النظام ضد المتظاهرين، مما أسهم في نقل صورة الأحداث وتشكيل الرأي العام العربي والدولي حيال القضية السورية.
إلى جانب الدور الإعلامي، سعت الدوحة، بحكم علاقتها الجيدة مع بشار الأسد ما قبل الثورة، إلى لعب دور سياسي يجنب سوريا الفوضى، إذ كان أول اتصال هاتفي بين الأسد وأمير قطر آنذاك حمد بن خليف آل ثاني بعد اندلاع الثورة بأسبوعين، حثه على تغيير سياسته تجاه الشعب السوري.
وكان وزير الخارجية القطري حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني، أحد أبرز الشخصيات التي قادت جهود الوساطة، سواء من خلال الجامعة العربية أو عبر القنوات الدبلوماسية المباشرة.
حاولت الدوحة تقديم نصائح للأسد مبكرا حول ضرورة احتواء الأوضاع وتقديم تنازلات سياسية، ورغم أن الأسد أبدى في بعض المحادثات استعدادا للاستماع إلى المقترحات، لكنه اعتبر أن تحركات الدوحة تهدف إلى الضغط عليه لإضعاف نظامه فلم يأخذها بجدية، حسب ما صرح حمد بن جاسم لاحقا في إحدى مقابلاته
الإعلامية.
وكانت الدوحة أول بلد عربي يعلن إغلاق سفارته في دمشق في يوليو/تموز 2011 بعد هجمات على مجمع السفارة، شنها مؤيدون للنظام احتجاجا على الموقف القطري في تعاطيه مع الملف السوري سواء إعلاميا أم سياسيا.
مع تعنت الأسد واتجاهه نحو الحل الأمني، اتجهت قطر إلى الجامعة العربية ولعبت دورا محوريا في إصدار المبادرة العربية في أغسطس/ آب 2011، والتي تضمنت وقفا فوريا لإطلاق النار، وإطلاق سراح المعتقلين وبدء حوار سياسي مع المعارضة وسحب القوات العسكرية والأمنية من المدن وإجراء إصلاحات سياسية تتضمن إجراء تعديلات دستورية.
في 16 أكتوبر/تشرين الأول 2011 تسلمت قطر رئاسة اللجنة الوزارية العربية المكلفة بالملف السوري، وأُنيطت بها مسؤولية قيادة التحركات العربية لإيجاد حل، وخلال هذه الفترة، قاد وزير الخارجية القطري آنذاك عدة محاولات تفاوض مع النظام السوري لإقناعه بقبول مبادرة عربية جديدة، لكنه واجه رفضا متكررا.
في 12 نوفمبر/تشرين الثاني2011 أعلن وزير الخارجية القطري اتفاق وزراء الخارجية العرب على تعليق عضوية سوريا لحين قيامها بالتنفيذ الكامل لبنود المبادرة العربية، وطالب القرار الدول العربية بسحب سفرائها من دمشق.
في 23يناير/ كانون الثاني 2012 أسهمت قطر في طرح المبادرة العربية الثانية التي دعت إلى تنازل بشار الأسد عن سلطاته لنائبه وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية.
ومع تعنت النظام انتقلت العلاقة القطرية مع سوريا إلى مرحلة جديدة إذ تبنت الدوحة نهجا أكثر حزما، قاد إلى تعزيز دور المعارضة السورية، من خلال توفير الغطاء السياسي في المحافل الدولية.
في 23 يناير/ كانون الثاني 2012 دعا أمير قطر حمد بن خليفة إلى إرسال قوات عربية إلى سوريا تهدف بالدرجة الأولى إلى الفصل بين المتقاتلين لإتاحة الفرصة للحوار السياسي.
في 24 فبراير/ شباط 2012 دعمت قطر انعقاد مؤتمر أصدقاء سوريا في تونس بحضور 70 دولية بينها الولايات المتحدة الأميركية وتركيا واعتُرف بالمجلس الوطني ممثلا للشعب السوري.
في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2012 احتضنت العاصمة القطرية اجتماعا للمعارضة السورية والذي أسفر عن تأسيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية وتعيين أحمد معاذ الخطيب رئيسا له.
في 13 نوفمبر/ تشرين الثاني 2011 اعترفت قطر والجامعة العربية بالائتلاف ممثلا شرعيا للشعب السوري
13 فبراير/ شباط 2013 سلمت مبنى السفارة السورية في الدوحة إلى الائتلاف المعارض لتكون بذلك الدولة الوحيدة التي منحت الائتلاف تمثيلا دبلوماسيا رسميا حتى سقوط النظام
26 مارس/آذار 2013 منحت قطر مقعد سوريا للمعارضة خلال القمة العربية في الدوحة لتكون المرة الأولى والأخيرة التي يشارك فيها رئيس الائتلاف في القمة.
الدعم الإنساني
لم يقتصر الدعم القطري في الشق السياسي فحسب، وإنما لعبت دورا بارزا في تقديم الدعم الإنساني للشعب السوري، لتصبح واحدة من أكبر الدول الداعمة على المستوى العالمي.
وبلغ إجمالي المساعدات التي قدمتها قطر لسوريا أكثر من ملياري دولار، وفقا لما صرحت به علياء أحمد بن سيف آل ثاني، المندوب الدائم لدولة قطر لدى الأمم المتحدة، خلال جلسة غير رسمية للجمعية العامة للأمم المتحدة في مارس/آذار 2021.
ولم تقتصر المساعدات القطرية على الجانب المالي فقط، بل تعددت أشكال الدعم لتشمل توفير الغذاء والدواء والمأوى للنازحين السوريين.
وتسهم المؤسسات القطرية الخيرية والتنموية في تقديم المساعدات الإنسانية عبر حملاتها المستمرة، وفي مقدمتها صندوق قطر للتنمية والهلال الأحمر القطري، وجمعية قطر الخيرية، ولعبت هذه الجهات دورا رئيسيا في تقديم الإغاثة الطارئة للمتضررين وخاصة في الشمال السوري.
وفي تصريح للأمين العام للهلال الأحمر القطري فيصل محمد العمادي، مطلع الشهر الجاري، أكد أن الفترة من 2011 وحتى عام 2024 شهدت تدخلات إنسانية وإغاثية في مجالات الصحة، وقطاع المواد الغذائية والاستجابة الطارئة، وقطاع الأمن الغذائي وسبل العيش، وغيرها.
وحسب العمادي بلغ عدد المستفيدين من هذه المشاريع ما يفوق 13 مليون شخص من اللاجئين السوريين في عدة دول منها الأردن ولبنان وتركيا وفي الشمال السوري بكلفة تزيد على 159 مليون دولار أميركي.
كما أسهمت قطر في بناء مساكن وقرى سكنية لإيواء النازحين في شمالي سوريا، حيث نفذت المؤسسات القطرية مشاريع إسكانية في مناطق مختلفة من سوريا، بهدف توفير بيئة آمنة للعائلات التي فقدت منازلها من جراء القصف والتدمير المستمر.
على الرغم من تبدّل مواقف العديد من الدول تجاه النظام السوري خلال السنوات الماضية، إلا أن قطر ظلت ثابتة في موقفها، مؤمنة بأن سقوط الأسد مسألة وقت. وفي حين راهنت بعض الدول على إعادة تأهيل النظام السابق، واصلت الدوحة تقديم الدعم السياسي والإنساني للمعارضة، ما أسهم في تعزيز صمودها حتى لحظة الحسم في أواخر عام 2024.
عام 2017، تراجع الدعم العربي والإقليمي والدولي للسوريين وأصبح الملف السوري عبئا على “أصدقائه” باعتباره قضية خاسرة، وبدأ الجميع يتجه نحو إعادة تأهيل النظام البائد والتقارب معه، لكن قطر واصلت دعمها السياسي والإنساني، متبنية موقفا أخلاقيا، واليوم يؤكد انتصار الثورة السورية بعد انقلاب المعادلات الدولية والإقليمية، أن السياسة يمكن أن تكون أداة للتغيير الإيجابي عندما تكون مبنية على قيم أخلاقية.
رفض التطبيع مع نظام الأسد
ربطت قطر بين التطبيع مع النظام المخلوع وإيجاد حل سياسي شامل يرضي الشعب السوري, وهو ما أكده رئيس مجلس الوزراء القطري وزير الخارجية، الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، في عدة مناسبات. في وقت شهد زخما في التطبيع العربي وتوجها لإعادة تأهيل الأسد دوليا.
وأكدت وزارة الخارجية القطرية في أيار 2023، أنها تسعى دائماً لتحقيق الإجماع العربي، وأن موقف دولة قطر من التطبيع مع النظام السوري لم يتغير.
وأتى الموقف القطري بعد أن أصدر وزراء الخارجية العرب، (القرار رقم 8914) الذي أعلنوا فيه عن “استئناف مشاركة وفود النظام السوري في اجتماعات مجلس الجامعة وجميع المنظمات والأجهزة التابعة لها، اعتبارا من اليوم الأحد (7 من أيار 2023)”.
وقال مستشار رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية المتحدث الرسمي لوزارة الخارجية، الدكتور ماجد بن محمد الأنصاري إن دولة قطر تسعى دائما لدعم ما يحقق الإجماع العربي ولن تكون عائقا في سبيل ذلك، لكن الموقف الرسمي لدولة قطر من التطبيع مع النظام السوري قرار يرتبط في المقام الأول بالتقدم في الحل السياسي الذي يحقق تطلعات الشعب السوري الشقيق.
وأكد الأنصاري، لـ”القدس العربي” أن قطر “لن تخذل دماء الضحايا الذين سقطوا في الميدان دفاعاً عن حقوقهم”.
لم يكن دعم قطر للثورة السورية مجرد موقف سياسي عابر، بل كان امتدادًا لاستراتيجيتها في دعم حركات التغيير في العالم العربي منذ اندلاع الربيع العربي. منذ البداية، راهنت الدوحة على إرادة السوريين في التغيير، ورفضت الخضوع لضغوط التطبيع مع النظام السابق، مؤكدة أن دعمها للمعارضة لن يتوقف حتى تحقيق الانتقال السياسي. واليوم، بعد سقوط النظام في 8 كانون الأول 2024، تسجّل الدوحة سابقة جديدة في المشهد السياسي، فكانت أول دولة عربية تعترف بالتغيير في دمشق، ويعد أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أول زعيم عربي يزور العاصمة السورية للقاء الرئيس، أحمد الشرع، في خطوة تحمل دلالات كبيرة حول مستقبل العلاقات السورية-القطرية.
تلفزيون سوريا
———————————–
القابلية للاستبداد… بين إرث الماضي وتطلعات المستقبل/ عمر عبد العال
29 يناير 2025
في سورية التي عصفت بها الرياح العاتية لعقود، حيث صمتت الحناجر وأُطفئت الأحلام تحت وطأة الاستبداد، يقف الشعب اليوم على أعتاب مرحلة مفصلية في تاريخه، ويبقى الطريق نحو الحرية محفوفًا بالمخاطر. فمع سقوط النظام السوري البائد، برزت مخاوف جديدة تتمثّل في القابلية للاستبداد، كظاهرة اجتماعية وسياسية ونفسية تتجذّر في عقول الأفراد والمجتمعات التي عاشت تحت وطأةِ الاستبداد لفتراتٍ طويلة.
وهذه المخاوف تتغلغل في النفوس وتعيد إنتاج الطغيان بوجوه وشعارات جديدة. إنها ليست مجرّد نتيجة لعقود من القهر، بل هي انعكاس عميق لتركيبة مجتمعية وثقافية نسجها الاستبداد بخيوط الخوف والجهل لأكثر من نصف قرن.
من هنا ندرك أن إسقاط النظام لا يكفي لنزع هذه القابلية للاستبداد من عقول الناس، بل لا بد من إحداث ثورة في أذهانهم وأفكارهم، استنادًا لقول الله سبحانه وتعالى: “إِنَّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ”. فمصطلح القابلية للاستبداد، مثل مفهوم القابلية للاستعمار عند المفكر مالك بن نبي، ويعني الاستعداد الداخلي في مجتمع ما لقبول أو حتى إنتاج نظام استبدادي. هذا لا يعني أن المجتمعات ترغب في الاستبداد، بل يشير إلى وجود عوامل داخلية تجعلها عرضة لتكرار نمط الطغيان كحلٍّ سريع لمشكلات معقدة.
وكما قال مالك بن نبي عن “القابلية للاستعمار”، يمكننا أن نقول إنّ الطغيان لا يزدهر إلا في بيئة تفتقد للوعي السياسي، وترسّخت فيها عبادة الأشخاص والخضوع التلقائي للنخب.
أول هذه المظاهر تتجلّى في الثقافة الاستسلامية والطاعة العمياء وتمجيد القائد، حيث نشأت أجيال تردّد الشعارات دون فهم، تخشى السؤال وتؤمن بأنّ السلطة لا تُعارض. هذا الخضوع، المغروس في النفوس، غذّاه ضعف الوعي السياسي، حيث غابت معالم الديمقراطية وحقوق الإنسان تحت وطأة تغييب التعددية. كما أن الولاءات الضيّقة شكّلت مظهرًا آخر للقابلية للاستبداد، حيث عمد النظام إلى تعزيز الانتماءات الطائفية والعشائرية كبديل عن الهوية الوطنية الجامعة، ما أدى إلى إضعاف الروابط الوطنية وتكريس هويات فرعية على حساب المصلحة العامة.
أما الخوف المزمن من السلطة، فهو نتيجة طبيعية لسنوات طويلة من القمع الأمني والعسكري، حيث باتت مشاعر الرهبة والخشية من مواجهة السلطة سمة عامة لدى كثير من السوريين، وخاصة ممن بقوا في مناطق سيطرة النظام خلال زمن الثورة.
وأخطر ما في الأمر أنه في ظلِّ أزمات اقتصادية واجتماعية متلاحقة، قد يظهر الحنين إلى الاستقرار، حيث يميل البعض إلى تفضيل النظام الاستبدادي الذي يوفّر استقرارًا ظاهريًا على الحرية التي ترافقها تحديات ومسؤوليات أكبر.
أسباب هذه القابلية تعود إلى تعليم موجّه حوّل المدارس إلى منصات تمجيد، وإعلام دعائي رسم الحاكم كمنقذ أوحد. أما اقتصاد الريع، فعمّق التبعية بتحويل الموارد إلى أدوات ولاء، بينما عزّز الترهيب والسجون ثقافة الانكسار. ومع تدمير النقابات والمجتمع المدني، ترك النظام شعبًا مفكّكًا، عاجزًا عن مقاومة هيمنته، عالقًا في قبضة الاستبداد.
إن مواجهة الاستبداد لا يمكن بأي حال أن تكون فعّالة ومؤثرة إن لم تكن لدينا القدرة على تفكيك تلك العوامل التي تشكّل بيئته وترسّخ القابلية له. وقد أثبتت الثورة السورية وعلّمتنا أن القابلية للاستبداد ليست قدرًا محتومًا، وأن الشعب قادر على الوقوف في وجه الطغيان مهما بلغت سطوته.
فالتحرّر من الاستبداد لا يكون بإسقاط الطغاة فقط، بل بإعادة بناء الإنسان والمجتمع أيضا. وسورية الجديدة تحتاج إلى تعليم يحرّر العقول، ومؤسسات ديمقراطية تضمن العدالة، وإعلام حر يعبّر عن الجميع. كما أنّ المصالحة الوطنية والحوار هما السبيل لترميم الثقة ولتجاوز الانقسامات وإعادة بناء الوحدة الاجتماعية، وهنا سيُخلق مجتمعًا متماسكًا قادرًا على التصدي لأيّ محاولة لإعادة إنتاج الطغيان.
في نهاية المطاف، الحرية ليست هدية تُمنح، بل مسؤولية تُنتزع وتُمارس بشجاعة ووعي. يقول الفيلسوف جان جاك روسو: “الشعوب التي تقبل العبودية تستحق الطغيان”.
أمام السوريين اليوم فرصة تاريخية لبناء وطن لا يخضع لأيّ شكلٍ من أشكال الظلم أو الهيمنة. لكن هذه الفرصة لن تتحقّق إلا إذا واجهنا أنفسنا بجرأة، وعالجنا جذور القابلية للاستبداد. فالحاضر الذي نبنيه اليوم هو مستقبل الأجيال القادمة، وسورية الحرّة لن تكون إلا بيد شعب يدرك قيمة الحرية ويصونها من كلّ طاغية، سواء أتى من الخارج أو خرج من بيننا.
العربي الجديد
—————————–
خطورة تأخر العدالة الانتقالية… حمص مثالاً/ عمار ديوب
30 يناير 2025
اعتبر أهل حمص، والسوريون، أن مدينتهم عاصمة لثورة 2011. وفي الأشهر الأولى ذاك العام، حاولت المدينة استيعاب أهلها كافّة في الثورة، فاشترك السُّنّة أولاً، والمسيحيون والعلويون بأعداد قليلة. أخاف الأمر النظام، فعمل لحفر الخنادق الطائفية عبر وسائل إعلامه المساندة له، والدفع بتأطير أهالي المدينة طائفياً: الثورة يقوم بها السُّنّة، والعلويون والمسيحيون يقفون مع النظام. واقعياً، ونتيجة القمع والقتل والترهيب، وفصل الأحياء بحواجز، صمتت الأحياء ذات الأغلبية السُّنّية، وصمت أغلب المسيحيين، وهناك من رفض ذلك من العلويين، وتواصل مع الأحياء الثائرة. دفع النظام الشبّيحة من العلويين لمحاصرتهم والتضييق عليهم، بل وطرد المعارضين من بيوتهم، وأُرهِب بقية العلويين من التواصل مع الثوار. إمعاناً في التطييف، دفع النظام مجموعات من الشبّيحة (وهم شريحة صغيرة من الموتورين طائفياً أو أصحاب السوابق، ومعظمهم ليسوا من المدينة ولا يمثّلون العلويين) لارتكاب مجازر طائفية في العديد من أحياء حمص ككرم الزيتون، وفي بلدة الحولة غرب حمص، وسرّب (قاصداً) فيديوهات لتلك الممارسات، وبهدفٍ وحيد هو إرهاب بقية العلويين من محاولة التمرّد على النظام، وإظهارهم جميعاً قد ارتكبوا تلك المجازر، وبالتالي، إجبارهم على الصمت، وتأييد النظام بشكل أعمى، ودفع الشباب إلى الحرب “المُقدَّسة” ضدّ السُّنّة. فَهمت الأحياء السُّنّية الثائرة الرسالة على هذا النحو: إنها حرب العلويين ضدّهم، وهناك فئات طائفية سُنّية جُيِّشت في هذا الاتجاه، ومنها نُخَب معارضة في الخارج. هذا بالضبط ما أراده النظام. ظلّت مجموعات كبيرة من الثوار تعي حقيقة أن عائلة الأسد وأجهزته الاستخباراتية هي خلف هذا التجييش، والعلويون ليسوا جميعهم قتلة، والقتلة محدّدون، وساد الخوف والرعب لدى العلويين من انتقام النظام في حال التمرّد، ومن انتقام الثوار في حالة الانتصار، فصمتت الأغلبية عن انتهاكات النظام حينها. هنا يجب ملاحظة الفارق بين مَن صمت وشعر بالرعب ممّا يحدث ومَن مارس القتل والمجازر، والتطييف كذلك.
رحل النظام منذ أقلّ من شهرين، ودخلت قوات الإدارة الجديدة إلى مدينة حمص، ولم تحدُث عمليات انتقامية حينها، وكذلك في مختلف المناطق التي مرّت بها بدءاً بحلب، أعطى هذا (رغم الخوف الشديد من الانتقام) حالة من الرضا عن الإدارة، وساد الانطباع بأن سيول الدم لن تجرِي في المدينة. ويُشار هنا إلى أن كثيراً من العلويين خاصّة تركوا المدينة قبل دخول قوات الإدارة الجديدة، وبعد أيام عادت الأغلبية إليها، غادروا خوفاً من الانتقام وحالة الهلع التي شعروا بها. لم تحدُث انتهاكات تُذكر في الشهر الأول، ثم بعد أن بدأت عمليات التمشيط والتفتيش للأحياء في حمص والقرى التي فيها أكثرية علوية وشيعية، بدأ الحديث يتصاعد عن الانتهاكات، بدءاً من الشتائم الطائفية ضدّ العلويين والشيعة، والضرب بالكرابيج، بعد تجميع الذكور في الساحات، وتحطيم بعض أثاث المنازل، وسرقة الأموال والذهب، وتعنيف النساء. ظلّت الانتهاكات محدودة، ولم تعترف الإدارة الجديدة بها، وادّعت أنها عناصر أو فصائل صغيرة، تعود أصولُها إلى المدينة ذاتها، تعرّضت أسرها في 2011 لمجازر، وهناك ادعاءات بأن من قام بها هي فصائل من الجيش الوطني، المعروفة بعدم الانضباط، وبالقيام بممارسات كهذه. لم تقاوم الأحياء غير السُّنّية ولا القرى العلوية والشيعية، ورمى الجميع السلاح، وأجرى أغلبية الضباط والعناصر الأمنية تسوياتٍ مع المراكز الأمنية للإدارة الجديدة في مدينة حمص، واعتُقِل كثير من الضباط والجنود في سجون حمص وحماه، وجميعهم من رتب عسكرية منخفضة، بينما هرب كبار الضبّاط خارج البلاد، ويُفرَج تدرجياً عن الذين انتهى التحقيق معهم، ببطء شديد، ومن دون معرفة كيف يجري التحقيق، وهل هناك محاكمات، وعلى أي أسس قانونية من دون إشراك المحامين للدفاع عنهم؟
في الأيام الماضية، وعكس ما جرى في المدينة وقراها الشرقية، التي فيها علويون وشيعة، حدثت انتهاكات وقتل في أكثر من بلدة في قرى غرب حمص، وكادت الأوضاع تنفجّر في بلدة فاحل، التي قُتل فيها 15 شخصاً، وغُيّب قسراً قرابة 43، وفي بلدات أخرى قتل 13 شخصاً، وهناك عمليات خطف وقتل تحدُث في أكثر من منطقة في سورية، وليست خاصّة بالعلويين فقط. تدّعي الإدارة الجديدة، كالعادة، أن تلك الانتهاكات كافّة حالات فردية، ومن فصائل وأفراد غير منضبطين في إطار سياساتها، ومن عناصر قُتل أهلها خلال الثورة، فيما طاولت هذه الانتهاكات شخصيات من المعارضين للنظام السابق، وشباباً كانوا أطفالاً في ذلك العام، وجامعيين ونساء.
سرد ما سبق مفيد في فهم ما يحصل في حمص، ولماذا يحصل، وقد يحصل في مدينة أخرى كبانياس مثلاً أو اللاذقية أو مناطق أخرى، حدثت فيها بعض مجازر أو قتل طائفي في 2011، وبعده. إن الآلية التي سقط بها النظام السابق، وسيطرة الإدارة الجديدة على سورية، من دون تسليم من نظام لنظام جديد، أدّت إلى حالة من الفوضى وعدم الاستقرار الأمني، ولكنّها لم تتّجه نحو مواجهات عسكرية، وهذا يعني أن الفئات العسكرية والأمنية التابعة للنظام القديم لا تريد المواجهات وتفضّل الانخراط في الدولة الجديدة، واتجهت أغلبيّتها نحو إجراء التسوية مع المراكز الأمنية للإدارة. كان على الإدارة الجديدة إعلان أسماء المتورّطين بالدم والقتل والمجازر في حمص وسواها، وعبر الإعلامين، العالمي والسوري، واعتقالهم وتقديمهم للمحاكم أو ملاحقتهم دولياً. لم يحصل هذا، وهرب كبار الضباط والمجرمون إلى خارج البلاد. وقد أدّى عدم الإعلان إلى سيادة نوع من العدالة الانتقامية، وهي جزء من الانتهاكات المشار إليها أعلاه.
ما حدث من انتهاكات وقتل ومجازر وقمع في 2011 وما بعدها يقتضي تشكيل هيئة مختصّة بالعدالة الانتقالية من الخبرات السورية، والاستفادة من تجارب في دول مماثلة، وجمع البيانات بدقّة، وإقامة الدعاوى، والمحاسبة، بما يشمل التعويض للأهالي، وجبر الضرر، وإقامة النصب، وإحياء الذكرى. يؤدّي هذا الطريق إلى السلم الأهلي بين أحياء المدينة ومحيطها من القرى، وفي سورية كلّها، وصولاً إلى المصالحة المجتمعية. التأخر بتطبيق العدالة الانتقالية يقود إلى الاستمرار في أشكال من العدالة الانتقامية، ويرافق ذلك سياسات غير متطابقة مع حاجات السوريين في هذه اللحظة، كعدم إشراك القوى السياسية والفعاليات في إدارة شؤون الدولة، واحتكارها من شخصيات تابعة للإدارة الجديدة، أو إشراك شخصيات لا وزن مجتمعي أو سياسي لها، كإعادة وزيرة الثقافة في حكومة النظام البائد إلى منصبها، والتأخّر بإعلان اللجان التحضيرية للمؤتمر الوطني في المدن السورية كلّها، وعدم فتح النقاش الواسع عن كيفية تأسيس النظام السياسي مستقبلاً. ذلك كلّه قد يؤدّي إلى تدخّل دولي، يستفيد من التأزّمات الداخلية، ويدفع سورية نحو الفوضى أو الاقتتال الطائفي والفصائلي، وبين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والإدارة الجديدة.
تجتهد المدن حالياً في البحث عن طرق للسلم الأهلي، وتحاول مختلف الفعاليات غير المرتبطة بالإدارة عقدَ الندوات والنقاشات حول العدالة الانتقالية والمصالحة المجتمعية. الإدارة الجديدة معنية بالانفتاح نحو هذه المحاولات، وبذلك تساهم في تدعيم سلطتها، وإغلاق الأبواب أمام الضغوط الخارجية بحجّة تلك الانتهاكات، وحماية للأقليات، وسواه كثير.
العربي الجديد
——————————
«البنى الخفية» للتاريخ: الصحراء والساحل/ حسام الدين محمد
(1 – 2)
تستلهم هذه المقالة منهج فرناند بروديل التاريخي، وتأخذ في الاعتبار حياته (1902-1985) الغنيّة المثيرة للتأمل، فهذا الكاتب الذي كان يعرّف نفسه بكونه «مؤرخا من أصل فلاحي»، مارس مهنة التدريس في مدينتي قسنطينة والجزائر العاصمة في الجزائر، خلال فترة الاستعمار الفرنسي، أي أنه عايش حياة المستوطنين الفرنسيين والمستعمرين الجزائريين، واعتقله الألمان عام 1940 حيث وضع تحت الإقامة الجبرية في ألمانيا نفسها حتى عام 1945، أي أنه عايش حالة ظرف وجود بلاده محتلة في وضعية السجين تقريبا، ولكنه، في تلك الفترة نفسها، أعدّ رسالة دكتوراه ناقشها عام 1947 موضوعها: «البحر الأبيض المتوسط والعالم المتوسطي في عهد فيليب الثاني».
انضم بروديل لمجلة «الحوليات»، التي صدر أول عدد منها في عام 1929، كمدير مساعد، وكان هناك تطابق بين توجه دراسته حول المتوسط، مع توجهات المجلة التي أصبح مديرها منذ عام 1967، وقدمت المجلة أفقا جديدا لعلم التاريخ تدرس بما يمكن ان نسميه «البنى الخفية» للتاريخ، التي تقرأ سيرورته عبر التبدلات العميقة، التي تتم خلال المدى الطويل الذي يستغرق أجيالا عديدة، ضمن مناهج انفتحت على علوم الجغرافيا والعوامل الاقتصادية والاجتماعية والأنثروبولوجيا، وكذلك علوم مثل الآثار والأيقونات، ليس في صنع التاريخ المحلي لبلد فحسب، بل كذلك في صياغة «قواعد الحضارات».
أحوال سوريا: الزمن الجغرافي
يمكن لهذا المنظور أن يفيد في قراءة أعمق لأحوال سوريا المعتملة حاليا، وفي ضوء الجدل الهائل القائم على اصطدام واشتباك الهويّات والثقافات والمجتمعات والديمغرافيا والأيديولوجيات والحضارات. تؤثر البيئة الجغرافية لأي بلد، حسب منهج بروديل، على مجريات التاريخ البعيد، لتتراكب بعدها على معطيات الاجتماع والاقتصاد والذهنيات المتشكلة في ما يأتي التاريخ السياسي ـ العسكري الحدثي كمرحلة ثالثة. وبناء على ذلك فهناك تعدد للأزمنة، فهناك زمن سريع للأحداث، وزمن ممتد للحقب التاريخية، وزمن بطيء للحضارات. تاريخ المدى الزمني الطويل، حسب هذه المنهجية، هو «تاريخ التغيرات البنيوية الجوهرية».
يمتد الزمن الجغرافي طويلا، أما في الزمن الاقتصادي الاجتماعي ـ الثقافي فتتشكل الإمبراطوريات والحضارات والتجمّعات والمجموعات، ويكون «أسرع من التغيّر في البيئة»، ويكون زمن تاريخ الأفراد المتبدّل بسرعة (أي ما نعيشه الآن) هو «زمن السطحيات والمظاهر الخادعة».
يؤلّف البحر المتوسط دائرتين، تشكل الصغرى منهما سواحله التي تضم «عوالم متشابهة» من اليونان وإيطاليا إلى إسبانيا، في الشمال، إلى سواحل شمال افريقيا في الجنوب، والساحل السوري في الشرق، وهي عوالم تتبادل «المنتجات والبشر والأفكار» وتتشابه في طبائعها الجغرافية والزراعية. تغتني العوالم المتوسطة بعدد سكانها وإمكاناتها، وكل عالم فيها له حدوده التي تجعله أسير حيزه الجغرافي، وعندما تنجز أشباه الجزر الكبرى (ايبيريا، إيطاليا، المغرب، شمال افريقيا، آسيا الصغرى) وحدتها السياسية، تصبح عدوانية حين تقوى، وتحتل حين تضعف، ومثال ذلك «إن احتلال البربر لإسبانيا في القرن الثامن كان قد سبقه نمو ديموغرافي هائل في المغرب».
تمتد دائرة المتوسط الأكبر، «متوسط التاريخ»، إذن لتصل إلى حدود البحر الأحمر والخليج العربي، الذي هو حيّز ـ حركة يمتد في كل الاتجاهات. تتناظر في هذا الحيز الصحارى في الجنوب والشرق، مع الأودية الغنية في الشمال والغرب. الصحراء، هي وجه المتوسط الآخر، وهي تلامس البحر من ثلاث جهات: الصحراء الليبية، والسورية، وصحراء شمال البحر الأسود. الصحراء، حسب بروديل، هي صلب حضارة الإسلام، وركيزة تجانسه البشري.
في الصراع بين ضفتي المتوسط، يشير بروديل إلى أثر حركة الاجتماع والاقتصاد على البيئة، فيعزو تراجع البحرية الإسلامية في القرن الحادي عشر الميلادي، إلى الانخفاض الكارثي في حجم الأراضي الزراعية، وعندما استنفدت عمليات بناء السفن في القرن السادس عشر الثروة الغابية المتوسطية (شمالا وجنوبا) كانت الغابات حول البحر الأسود وبحر مرمرة وخليج أزمير، تساهم في صعود العثمانيين، واشتداد قوتهم البحرية.
تسامح الإسلام واستقبال الوافدين
من جهة أخرى أدى اتساع الصحارى والمساحات المقفرة إلى جعل الجنوب والشرق خزانا لتربية المواشي والخيول وكان هذا عنصر قوة للجيوش الإسلامية، ويرى بروديل، إن قلة عدد سكان تلك البلدان يفسر تسامح الإسلام واستقباله الوافدين، وكانت كل هذه العوامل أسبابا في وجود عالمين متواجهين على صعد الجغرافيا والتاريخ وأنماط الحياة اليومية. دخل عنصر اجتماعي ليساهم في اختلال التوازن بين حيّزي شمال وجنوب المتوسط، وهو نقصان عدد السكان، ففي القرن السادس عشر كان عدد سكان بلدان المتوسط الأوروبية 38 مليونا، يقابلهم 22 مليونا في البلدان الإسلامية، وفي عام 1930 بلغ عدد بلدان المتوسط الأوروبية 113 مليونا، يقابلهم 83 مليونا في البلدان الإسلامية.
شهد القطب الجنوبي من المتوسط اندفاعتين بدويتين استمرتا قرونا، الأولى هي اندفاعة الإسلام ابتداء من القرن السابع، والثانية هي اندفاعة الأتراك من صحراء آسيا الباردة ابتداء من القرن الحادي عشر. أما سكان الجبال، حسب بروديل، فيظلون «على هامش الحضارات التي هي صنيعة المناطق المنخفضة»، وتدفع كثافة أعدادهم، وشحة الموارد، الكثير منهم إلى مغادرة مواطنهم والالتحاق بالمدن، ليصبحوا مهاجرين فيها أو جنودا في ممالكها.
وتنبه ملاحظة مهمة لبروديل إلى تنوّع طرق التداخل بين البيئي والاجتماعي والثقافي، فعند محاولة العثمانيين وقف زحف قبائل التركمان الزاحفة من وسط آسيا وتحضيرهم، هربت القبائل الشيعية منهم إلى بلاد فارس، ما سيعطي أثرا كبيرا للثقافة على السياسة في القرون اللاحقة (وهو ما سيكون موضوع مقالة أخرى)، ينضاف إلى الحدث المؤسس للصراع السنّي ـ الشيعي في الفضاء العربي.
مفيد هنا أيضا تطرّق بروديل لما يسميه «قدر اليهود»، الذين كانوا يشكلون «خصما صغيرا» في أوروبا، «لكنه يمتلك إمكانيات هائلة وغريبة»، أما سبب الحقد الغربي عليهم والعداء لهم، برأيه، فهو أنهم كانوا يشكلون شبكة تجارية مهمة في العالم الذي انتشروا في أرجائه كلها، منبها إلى تلازم الاضطهادات والطرد بحركة الظروف الاقتصادية.
مهم أيضا ما تحدثه «أشكال الحرب»، التي لا تكف عن خلخلة حياة البشر وتمزيقها، وإلى أن الحضارات المتوسطية، إضافة الى الحروب الخارجية، كانت تنهك نفسها بحروب داخلية لا تنتهي، وكانت الحروب بين المسيحية والإسلام «تعقبها دائما حروب داخلية».
البنى الخفية للتاريخ: أمويون وعلويون
(2 – 2)
يمتد الزمن الجغرافي، حسب المؤرخ الفرنسي برناند بروديل، طويلا، ويؤثر على الحضارات والثقافات التي تتلاحق بعده، وتستغرق أجيالا عديدة، ويقدم هذان الزمنان، الجغرافي والحضاري، تفسيرا أعمق للأحداث السريعة التي نشهدها، والتي يمكن لتفاصيلها ان تشوشنا بحيث تمنعنا من رؤية علاقة ما يحصل حاليا بتلك الطبقات الجيولوجية والحضارية السابقة عليها.
لكن هل يمكننا، على ضوء هذا المنهج الآنف، أن نعتبر ما يحصل من أحداث تاريخية وما نراه فيها هو «زمن السطحيات والمظاهر الخادعة»، كما يصف بروديل الأحداث المباشرة التي نعيشها، وكيف؟
بدأ دخول الإسلام إلى سوريا في عهد الخليفة أبي بكر الصديق، وانتقل من صد هجمات الروم إلى معارك الفتح التي كان أشهرها معركة اليرموك الفاصلة، واجتمعت خلالها أربعة جيوش ترأسها خالد بن الوليد، وقاد اثنين منها يزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص (إضافة الى شرحبيل بن حسنة وعبيد الله بن الجراح)، وضمت جيوش البيزنطيين في تلك المعركة أعراقا كثيرة منها الروس والسلاف والفرنجة والإغريق والجورجيون، وقادها ملك أرمينيا بجيشه، فيما قاد جبلة بن الأيهم (ملك الغساسنة) جيوش النصارى العرب. بهذا المعنى، كان ذلك الصراع بين حضارتين وثقافتين كبيرتين. انحسم الصراع لصالح العرب المسلمين الذين بدأوا، بعدها بتأسيس حضارتهم، التي حسمت الوجه الديني، واللغوي، والثقافي لبلاد الشام ومصر وشمال افريقيا، لكنها كانت، رغم انتشارها الكبير، حضارة قابلة للتساكن والتعايش مع عناصر حضارات وثقافات ولغات أخرى أقدم، أو أجدّ.
ولي معاوية بن أبي سفيان، الشام (والعراق) سنة 21 للهجرة، في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، بعد وفاة أخيه يزيد (وهما أخوان لأم حبيبة زوجة الرسول محمد (ص)، وابنا عمة الخليفة عثمان بن عفان)، وحكمها عشرين سنة، قبل أن يصبح خليفة على المسلمين. طبع حكم معاوية، والعصر الأموي الذي أسسه، سوريا بالطابع الثقافي ـ الحضاري العابر للأجيال، الذي تحدث عنه بروديل، وذلك بجعلها، لأول مرة في تاريخها، عاصمة لامبراطورية الإسلام الشاسعة (التي وصلت في عهد عبد الملك بن مروان إلى الأندلس)، وكان أهل الشام، في مجمل هذه الحقبة، أعوانا للأمويين في خصوماتهم الخطيرة، وأهمها منازعة معاوية، علي بن أبي طالب، على الخلافة، ثم حرب ابنه يزيد مع الحسين بن علي، التي أدت إلى ظهور شيعة عليّ (الموالين له)، ثم من رفضوا الانحياز للطرفين (الجماعة التي تطورت إلى مذهب الإباضية)، فـ»أهل السنّة والجماعة» الذين حاولوا حل التناقضات بين الأمويين والعلويين عبر الاتفاق على الخلفاء الراشدين (أبو بكر، عمر، عثمان وعلي)، ثم خرجت طوائف أخرى أصغر كالزيديين، والإسماعيليين، وتبعتها طوائف غادرت المدارس التقليدية الإسلامية بشكل واسع، كالعلويين (النصيريين)، والموحدين (الدروز).
روح الطاعة التي تحلى بها الشاميون!
يقول أنيس زكريا النصولي، في كتابه «الدولة الأموية في الشام»، إن معاوية اعتمد على قادة جلهم مكيون قدموا شبانا الى سوريا أثناء الفتح، فـ»شيدوا دولته» وأوصلوا الإمبراطورية إلى أرمينيا والأناضول ومصر وافريقيا، وكان اليمنيون «أعظم جند أهل الشام»، ومدد جيشه الرئيسي، كما اعتمد على القيسيين الذين كانوا أقلية، وامتزجت هذه القبائل مع سكان سوريا فـ»رقت عقليتهم ونمت أفكارهم»، فـ»نزعوا عنهم ثوب البداوة»، وأصبح أبناؤهم يرون في سوريا وطنهم، ويكرر النصولي مرات كثيرة فكرة الولاء الذي محضه أهل الشام لمعاوية، فيقول، إن «مما جعل لمعاوية النصيب الأوفر في النجاح إبان المفاوضات (مع علي) هو روح الطاعة التي تحلى بها الشاميون».
يقول نقولا زيادة، في كتابه البديع «لمحات من تاريخ العرب»، إنه «كان من حسن حظ الديار الشامية، أن عيّن حاكما لها معاوية بن أبي سفيان» فهو الذي اقترح على الخليفة عمر بن الخطاب، أن يغزو قبرص، لكن عمر أبى ذلك على عامله، فلما ولي الخلافة عثمان بن عفان، «ألحف (معاوية) في الطلب، فأذن له الخليفة».
أظهر معاوية، بهذه الانتقالة الاستراتيجية، استيعابا للزمن الجغرافي حيث قام بجمع صحراء وساحل الشام، في توحيد لدول المدن الداخلية (مثل دمشق والرقة ودير الزور وحمص والقدس وبيت لحم وإربد وعجلون) التي تصل الشام بالعراق وشبه الجزيرة العربية، مع مدن البحر (صور وعكا، اللتين صارتا مركزا صناعة السفن الأموية، وصيدا وطرابلس وطرسوس واللاذقية) التي كان مجالها الحيوي، منذ عهد كنعان وفينيقيا ممتدا نحو شمال افريقيا وجزر المتوسط وسواحل إيطاليا وشبه جزيرة ايبيريا.
كيف استمر العلويون في أوساط معادية؟
يقول بحث منير شحود وسامر عيسى، «نشأة الفرقة النصيرية/ العلوية وتبلور عقيدتها» إن فرق الغلاة في العراق منذ أواخر القرن السابع الميلادي شكلت الأساس العقائدي لهذه الفرقة التي طورت خطا راديكاليا يقطع مع الإسلام الأرثوذكسي السني والشيعي، والمتأثر بالثقافات الفارسية واليونانية، فأصبح لها لاهوتها المميز «الذي منحها هوية فريدة مكنتها من البقاء والاستمرار في أوساط إسلامية مناوئة ومعادية»، وأن طقوسها وتشريعاتها وأعيادها تبلورت في القرن 11 الميلادي. خرجت هذه الدعوة من موطنها الأصلي في العراق، وانتشرت في معاقل جبلية منعزلة شمال غرب سوريا، وانقسم العلويون جغرافيا إلى أهل الساحل، المنفتحين، وأهل الجبل، الأكثر محافظة وتمسكا بالاستقلالية (والذين يتقاسمون الجبل مع التركمان والأكراد)، وثمة انقسام بين شمال وجنوب (أو ما يسمون بالكلازية والحيدرية).
على المستوى الديني اتخذ العلويون «التقية أسلوبا في التخفي في أوساط دينية معادية»، وافترقوا عن الشيعة، حسب حسان القالش، «بسرية تعليماتهم وباطنيتها»، واعتبارهم أن للدين ظاهرا للعامة وباطنا للصفوة. أما على المستوى الاجتماعي فاتبعوا «نمط حياة فلاحي لا يضع الطائفة في منافسة حكام المدن والقلاع». توفر هذه الحيثيات الجغرافية والثقافية الضاربة في عمق تاريخ المنطقة وسوريا خصوصا منهجا لتفسير الأحداث الحالية التي حسمت نفوذ العلويين الكبير في التاريخ السوري الحديث، مع استيلاء حافظ الأسد على السلطة عام 1970، وصولا إلى الحدث الحالي الذي شهد سقوط ابنه بشار.
يذكُر عنوان كتاب القالش، «قطار العلويين السريع: الوعي السياسي عند العلويين النشأة والتطور (1822-1949)» أيضا بفكرة بروديل حول «الزمن السريع للأحداث»، فكيف نجد في حكم العائلة الأسدية الطويل وسقوطها تصديقا لمنهج المؤرخ الفرنسي حين نعرضها على خلفية المشهد العريض لتاريخ سوريا ضمن زمنيها القديمين، الجغرافي والثقافي؟
أعاد سقوط الأسد، في 8 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، عموم السوريين، وبغض النظر عن اختلافاتهم السياسية، إلى استخدام الرأسمال الرمزي الكبير للأمويين، بدءا من تجمعهم في «ساحة الأمويين»، إلى استعادة علم الاستقلال، الذي كانت تقوده نخب مرتبطة رمزيا وعاطفيا بالحقبة الأموية، وتحولت زيارة المسجد الأموي، إلى أحد طقوس السوريين العائدين من المنافي.
شرحت مقالة سابقة لي بعنوان «لماذا انحاز أئمة السنة المؤسسون للعلويين؟» كيف تعرّض مؤسسو المذهب السني الكبار، أبو حنيفة، والشافعي، وابن حنبل، لأشكال من الاضطهاد من خلفاء أمويين وعباسيين على خلفيات تعاطفهم مع علي بن أبي طالب وآله، وهو ما يمكن اعتباره تعبيرا واضحا عن نزوع شديد الأهمية داخل المذهب السني، ساهم في جعله مذهب الأكثرية، وهو نزوع الخروج من الصراعات التي جرت في الحقبة التأسيسية للإسلام، وأدت إلى مقتل آلاف الصحابة والقراء والتابعين، عبر المصالحة بين الاختلافات والتناقضات، بحيث كان لعلي، وآله عموما، المكانة الكبرى التي يبجلها السنة، بالسوية نفسها التي يملكها الخلفاء الراشدون الآخرون.
يمكننا هنا وضع أطروحة تحتاج بحثا للبرهان عليها وهي أنه ضمن هذا السياق التاريخي – الثقافي العريض، اعتبار ما حصل في سوريا، في دائرة مهمة منه، مواجهة بين الوعي السياسي العلوي الذي تطور بقوة خلال فترة الاحتلال الفرنسي، عبر إنشاء دولة علوية، ثم تجلى بشكل شديد العنف في عهدي حافظ الأسد وابنه بشار، ما أدى إلى نشوء «وعي سني» مضاد، ساهم في إسقاط النظام.
وفي هذه الحالة، وبالحديث عن «المظاهر الخادعة والسطحية» للتاريخ، هل يمكن اعتبار أن هذا «الوعي العلوي»، كان أشد عمقا من أيديولوجيات الأحزاب الوطنية التي نشأت بعد الاستقلال، مثل حزب «البعث»، وأنه استخدامه المفاهيم السياسية الحديثة، مثل العلمانية والتقدم والاشتراكية، كانت أقنعة للوصول والتثبت في السلطة، وهو ما يمكن أن يندرج ضمن تحليلات كتّاب مثل نيقولاس فان دام حول الطائفية والإقليمية والعشائرية في سوريا، وميشيل سورا حول «الدولة الهمجية»، ويفسّر، ضمن قضايا عديدة، لماذا تحوّلت الدولة السورية، في عهدي الأسدين، إلى دولتين، ظاهرة، تطبق القوانين، وباطنية فالتة من أي عقال قانوني.
إحدى الإشكالات الكبيرة لهذا الصراع أنه انعكس سلبا على وعي أهل السنة السوريين أنفسهم، فشهدنا أطوار التغوّل السلفيّ من «القاعدة» إلى تنظيم «الدولة»، وتحولوا إلى عصبية تتواجه مع عصبية، مما يحتاج وقتا طويلا للعودة إلى «الحالة الطبيعية» للوعي الإسلامي المنفتح، والمتصالح مع نفسه ومع العالم، وصولا إلى وعي وطني سوري يضعف توتر العصبيات، والأحقاد التي تراكمت.
كاتب من أسرة «القدس العربي»
القدس العربي
———————————–
البديع في فنِّ “التكويع”/ أحمد عمر
30 يناير 2025
سالك الطريق المستقيم بطل. أمّا المنافق، المكوّع، الغاشّ، إمّعة السلطان؛ فمهرّج، وقد اختلط الأمر، وتشابه البقر والغنم والدجاج علينا، وفي التكويع محاسن وأضداد.
سالك الطريق القويم، شهيد حتف أنفه، المكوّع أطول عمراً وأقل أثراً، لكن للمكوّع المنافق فضيلة، فهو مضحك، وقد غدا الضحك في أيامنا بطولةً، فعادل إمام هو إمام العصر العربي، والكوع السوري تعريفاً هو الانعطاف والتحيّز من فئة المنهزمين إلى فئة المنتصرين.
التكويع السياسي هو تغيير الولاء، وتبديل خطّ السير أحياناً، هو الدوران والاتجاه بالخطّ عكس اتجاه السير، ويحظى بغير قليل من الهجاء والسخرية والشماتة في صفحات الناشطين الساخرين من أكابر القوم وطبقته الأولى، أمثال بشّار الجعفري، ورئيس الحكومة محمّد الجلالي، الذي استظلّ بظلّ أقاربه المعارضين، فهو تكنوقراط أيها السادة. الصمت يسع الجميع، قيل إنَّ روسيا حصّنته بنضوة فرس وعين زرقاء، فآثر المنزلة بين المنزلتَين.
المكوّعون طبقات ودرجات ودركات، فمنهم من تعلّل بالخوف، ومنهم من اعتذر بانجلاء الغشاوة عن عينيه اللتين رأتا فظائع النظام السوري في صيدنايا، وهي ملء السمع والبصر والفؤاد والمعثكلة، كأنّه لم يرَ مئات الشهادات عن المعتقلين، ولم يرَ البراميل وهي تسقط على المدن والقرى وتحيلها قاعاً صفصفاً، كأنّ في أذنه وقرا، ولم يسمع الرئيس الفصيح “إلى الأبد”، وهو يأتسي بأرسطو وأفلاطون، كأنّ المكوّع كان نائماً وصحا.
التكويع في أصله صنفان: حميد، يرى صاحبه الحقّ، فله يتبع، وذميم يتبع القوي، فله يخضع، والحَسَن من اهتدى إلى الحقّ، مواجهاً قوة السيف والسلطان غير هائب، أمّا المكوّع الذميم، فهو من مؤثري السلامة، الذين يتبعون السلطان والسيف، شعاره “عاش الملك مات الملك”، هو المؤمن بمقولة من تزوّج أمي (ما تزال على ذمّة أبيه المحبوس) أقول له يا عمّي. قل له يا عمّي، لكن لماذا تقول له يا أبي، وقد تزوج أمّك من غير مأذون أو شاهدين أو صداق، كوّع أفقياً، لكن ليس عمودياً، التكويع العمودي ركوع، اقعد فأنت الطاعم الكاسي.
قال عثمان بن عفّان قولةً تدرّس في علوم السياسة: “إنَّ الله يزعّ بالسلطان ما لا يزع بالإيمان”، وقد تكسّرت حججنا وقروننا كلّها، فلم يقتنع المكوّعون حتى سقط الصنم، لكنَّ المكوّعين السابقين (الحاصلين على الجائزة الذهبية في رالي التكويع) الذين كانوا ملء العين، ثمّ دالت دولتهم، بحثوا في مذكّراتهم ويومياتهم عن فضيلة أو عظمة، وبيت المكوّع لا يخلو من عظام، فذكروا كلمة الحوار مرّةً، أو ذكروا حبّهم للوطن، فأظهروها من أقوالهم وتباهوا بها وعلى جسرها كوّعوا.
الحياة أكواع ومنعطفات، ورجوع من سُدّة الباطل إلى جادة الحقّ، والمكوّع الحميد هو الذي يكوّع بهدى عقله أو بعقل من هو أعقل منه لا بهدي معدته وحرصه ومصلحته، وقد اختار السوريون تعبير التكويع من منعطفات الطرقات، وفرق كبير بين الكوع الأفقي والكوع العمودي، وأفضل أنواع التكويع هو الانعطاف غير المفاجئ. السائق الخبير (والحياة طريق وعر) من يشير إلى من وراءه “بالغمّاز”، ويكوّع مهدئاً السرعة، وقد أخسرنا أصحابنا مشهد تكويع مفتي الأسد السابق أحمد حسّون، وكان دخل مسجداً بعد فتح الشام الثاني، فطُرِد، فحرمونا من مشهد عبوره المنعطف التاريخي.
لم نرَ (حتى الآن) صاحب المربّعات الشهير في التلفزيون السوري، ورئيس اتحاد علماء المسلمين في الشام، الشيخ توفيق البوطي، الذي ساوى بين الشام المباركة وبين حاكمها، لكنّ كبار القوم ومشاهيرهم، مرنون (ستريش)، وممثلي السينما شديدو المرونة، وقد أظهر أحدهم (ونحن في عصر أبطال السينما ونينجا الإضحاك) صبراً وجلداً وثباتاً على الباطل، فقد خسر بطل “ضيعة ضايعة” ضيعته، بخسارة صديقه ماهر الأسد ملكه الضائع، فثبت على ولائه القديم، لكنّ ثباته تكويع من الكوميديا إلى التراجيديا.
من الأضداد أو المحاسن، أن خسر بشّار الأسد مُلك أبيه، لأنه لم يكن يجيد القيادة في المنعطفات، ولم يكن قد بقي من مركبة الأسد القديمة، المتهالكة التي داس بها الشعب إلا “الزمّور”… كان يكوّع في المستقيم، ويستقيم في الأكواع.
العربي الجديد
—————————
الأسدية أحطّ أنواع الديكتاتورية/ نبيل سليمان
30 يناير 2025
أمس خمر وغدًا أمر
الأحد أشرقت شمس الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2025 فرحانة. بماذا تريدين أن أقسم على أن الشمس كانت سكرانة من الفرح؟
في 1970/11/16 – صباحًا أو مساءً: من يذكر؟ – أعلن التلفزيون أن زمن القيادة المتسلطة والمناورة – أي زمن جناح الحزب الحاكم الذي يتزعمه صلاح جديد ونور الدين الأتاسي ومن لفّ لفّهما – قد عبس وتولّى، وجاء زمن الحركة التصحيحية، قل: زمن البعث الأسدي، قل: زمن الأسدية.
إذا ما أردت الإحصاء منذ ذلك الصباح أو المساء حتى شروق هذه التي أسكرها الفرح، فإليك:
54 سنة ونيف
19786 يومًا
474864 ساعة
1709510400 ثانية
لكن الكارثة التي ابتدأت منذ انقلاب 1963/3/8 أكبر. فإن أردت الإحصاء منذ ذلك الصباح أو المساء حتى شروق هذه التي أسكرها الفرح، فإليك:
63 سنة ونيف
23334 يومًا
560016 ساعة
2016057600 ثانية
أسرع صديق يهتف إليّ في الضحى: من تحت الدلف لتحت المزراب. إنها هيئة تحرير الشام وكواكبها. ترحمت على امرئ القيس وترنّمت: اليوم خمر وغدًا أمر. لن أدع منغّصًا ينغّص عليّ هذه الفرحة.
طوى التلفزيون والموبايل النهار سريعًا. وطلع المساء بأحمد الشرع يخطب في الجامع الأموي. أعلن الرجل أن تاريخًا جديدًا يكتب في المنطقة بأسرها بعد هذا النصر العظيم. قاطعه من حوله: تكبير، وكبّروا. أعلن الرجل أن هذا النصر تاريخ جديد للأمة الإسلامية. أعلن الرجل أننا لم نستعن بأحد، ولا دعمنا أحد، حتى الصواريخ صنعناها بأنفسنا. لماذا يتقوّل القوّالون إذن بالدعم التركي؟ لماذا لم يذكر الرجل الأمة العربية، بينما كرر ذكر الأمة الإسلامية؟ لماذا يضمّ الأصابع غالبًا عندما يحرّك يمينه؟
لسان العرب صباح الحرية
أنجدني يا لسان العرب
أستأذنك صديقي الغالي محمود درويش، أستأذنك مرسيل خليفة أيضًا، وأنشد بروحي المشروخة، لا بصوتي المشروخ: هذا هو اليوم الذي لا ينتهي، أي: هذا هو الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024. لا، لا. هذا هو العرس الذي لا ينتهي/ في ليلة لا تنتهي/ في ساحة لا تنتهي/ هذا هو العرس الفلسطيني.. لا، لا هذا هو العرس السوري ولو تكسّرت الموسيقى بالعروض أو بالإيقاع أو بصوت مشروخ، بل بروح مشروخة.
هرب بشار. لا. هذا ليس بشار.
سقط الأسد. لا أيضًا. هذا ليس الأسد، ولا بشار الأسد ولا أيّ اسم أو أيّ لقب إلا..
إلا ماذا؟
أنجدْني يا لسان العرب.
هذا هو الذي تمْلِسُ فيه الريح كل مَمْلس. ولسان العرب يقول: ملسَ الرجل يملسُ ملْسًا: ذهب ذهابًا سريعًا.
لا، لا.
هذا هو الفرافص، بل هو الفرافصة كما يسمّي لسان العرب الأسد. هذا هو الجفّاخ الجمّاخ، كيلا أقول: المتكبّر. وهو: المدنّخ، كيلا أقول: الفحّاش. بل هو: الفرافر، كيلا أقول: الأخرق.
بشار الأسد هو كل ذلك، وهو أيضًا وأيضًا: العُوّار، قل: الجبان السريع الفرار، وهم، رهطه الأقربون والأبعدون: العواوير.
بشار الأسد هو الهِقلس، كيلا أقول: السيء الخلق. وهو الهلّس أو الهِلكس، كيلا أقول: الدنيء الخلق، وهو الهيجبوس، كيلا أقول: الأهوج المجافي.
بشار الأسد هو الفَدِر، والخوخاء، والعفلق، كيلا أقول: الأحمق، ورهطه الأقربون والأبعدون هم: الخوخاؤون والفَدِرون والعفلقون. والعفلقون ليسوا العفلقيين من نسل ميشيل عفلق.
أخيرًا وليس آخرًا، بشار الأسد هو: العفلط، وهو ابن نخسة والله أعلم. ولمن يريد شرح الكلمات الغريبة: عليك بلسان العرب.
السلطان سليم الأول سيطر على سورية سلمًا خلال ثلاثين يومًا، بينما انطلقت عملية ردع العدوان في 2024/11/27، وسيطرت على حلب فحمص فحماة فدمشق خلال أحد عشر يومًا
صباح الخير يا وطن
تأخرت في الخروج من البيت حتى التاسعة. كلما استطلعت الشوارع من الشرفة وجدتها مقفرة. عندما لمحت عابرًا يلاصق سور الحديقة تنسّمتُ الطمأنينة. لم تكن خطواتي في صباح أبطأ منها الآن. هذه ليست رياضة صباحية.
أوازي بعد دقيقتين بيت الإمام. واحد من حرّاسه يركش في الحديقة الكبرى أمام البيت المسوّر بالورود والهيبة والسر. حارس آخر يتأمل البركة المنزوية في خاصرة الحديقة الصغرى. خطوات ثم…
ثم أتسمّر قبالة البناية الأسدية. بيني وبينها الأوتوستراد بفرعيه. هنا أقام فواز ابن منذر الأسد حتى مات. سيتردد سريعًا أن مسلحين من الهيئة داهموا البيت الذي انتقلت أسرة فواز إليه على أوتوستراد جبلة. وحين شكت لهم أنْ لم يبق لها إلا البيت، غادروه وغادروها.
ذات ضحى قبل أربعين سنة، أقلّ أو أكثر بقليل، باغت فواز ابن منذر الأسد الجالسين في مقهى البستان، ومنهم إلياس مرقص مع صحبه. أمر فواز مشهرًا مسدسه بالنزول إلى تحت الطاولات. نزلوا. نزل إلياس مرقص إلى تحت الطاولة.
إلياس: سيدي وحبيبي – بالإذن من عنوان رواية هدى بركات “سيدي وحبيبي” – ليس الأمر فقط أن فواز الأسد مات بعدك بقليل. كلهم يا سيدي وحبيبي: فصّ ملح وذابوا.
هنا كان يقيم حافظ ابن منذر الأسد قبل أن تستأثر به دمشق. وعلى الرغم من خواء البناية الأسدية، ما من سرفيس يجرؤ على أن يقف أمامها لينزل منه راكب. ما من سيارة تجرؤ.
أين هي صورة الفرافص الجمّاخ الجفاج التي نصبها حافظ ابن منذر منذ سنوات في الفاصل بين فرعي الأوتوستراد؟ مِزَقٌ فقط ما تبقّى من الصورة التي كانت تتسامق أمتارًا. شجّعتني مِزَقُ الصورة فتابعت كما يليق بالمشي في الصباح الرياضي لمن سيطوى ثمانين عامًا بعد أقل من شهرين. اندفعت جنوبًا وأنا أصبّح على البحر البعيد الذي أسرع بردّ التحية نسائم (قِبلية) باردة. تجاوزتني سيارة صغيرة ورأيت مسلحًا ينزل عن الرصيف ويشير للسيارة. توقفت. هذا مسلّح إذن من الهيئة. ظهر مسلح آخر وانفتح غطاء السيارة الخلفي. انطلقت السيارة وتباطأت خطواتي حتى وقفتْ قبالة المسلحين اللذين عادا إلى الرصيف. اختفى الشرطي الذي كان يرابط في تقاطع الأوتوستراد مع الشارع الرابط بين سور الجامعة وجامع ياسين. ظهر مسلحان آخران أمام مطعم دجاجتي. اختطفتُ نظرة حذرة من كل مسلح وتابعت السير أتساءل عما حلّ بالسيارات الفارهة التي كانت في عرض دائم أمام بناية كمال الأسد.
قاطعني الزجاج المحطم أمام بناية شاليش. هنا أيضًا اختفت السيارات التي تنهرك من بعيد: ابتعد عني. وهذا زجاج مدمّر أمام بناية كمال الأسد، وما من سيارة. ثمة مسلحان أمام البناية، شابان ملتحيان كالآخرين. فوق الرصيف، حيث أسير، صورة كبيرة وعالية للفرافر المدنّخ العوّار الهِلقس الهِلكس الهِلّس الهيجوس الذي يلقبونه منذ البارحة بالساقط المجرم الهارب. تحت الصورة عبارة (تقدمة شركة الغلال). قبل أن أبلغ ما كان مقهى فينيقيا – ما اسمه الآن؟ – عدت، وإذا بالمسلحين تحت الصورة، كأنما يتأملانها. فجأة ارتفعت بندقية أطولهما وحاولت أن تنال من الصورة العالية. تكررت محاولاتهما الفاشلة، حتى إذا وازيتهما صبّحتُ عليهما فردّا: أهلًا يا حاج. وأنا لا أحب أن أنادى بهذا اللقب مع أنني أديت العمرة مرتين. خاطبت الشابين كأني أعرفهما منذ زمن: لينحن أحدكما وليصعد الآخر على ظهره فتبلغ البندقية الصورة. تبادلا نظرة وضحكة، وفي طرفة عين كانت أشلاء الصورة تتطاير.
تابعت السير شمالًا مستأنسًا بعابرين وسيارة. تجاوزت بيت الإمام والبناية الأسدية قبالته إلى أن رأيت ملء الدوار سيارات متوّجة بالرشاشات: واحدة في أول الدوار، واحدة تتوسطه، واحدة في الجهة المقابلة.
تباطأت وأنا ألجم عينيّ. مسلحون كثر قبالتي، في الطرف الآخر من الدوار، مولدة كهربائية بيضاء ضخمة تبيع الأمبيرات. على بياض المولدة تشعّ كتابة عرجاء باللون الأخضر: (أريحا/ الساروت). إلى اليسار مولدة أصغر كتب عليها بالبخاخ نفسه: الجولاني. لا زالت المولدات الكهربائية لشركة ستاركو – لمن من آل الأسد؟ – تبيع الأمبيرات.
علم الاستقلال يرفرف وسط الدوار. أمس جعلته أيقونتي على الواتس. ولأن الدكتورة ف. ز. لامتني لأنني أرفع ما سمته علم الدويلات الطائفية، سأعيد نشر مقالة كنت قد نشرتها سنة 2013 عن علم الاستقلال، مزودة بتاريخ وصور الأعلام التي عرفتها سورية منذ سنة 1918. وقد كتبت المقالة، بل البحث، ردًا على وصم رئيس تحرير جريدة تشرين لهذا العلم بعلم الانتداب الفرنسي. أعود إلى البيت محاذرًا عداد الخطوات في الموبايل لم أبلغ الحد الأدنى لرياضة المشي الصباحية 6000 خطوة. حسنًا.
صباح الخير يا وطن
أستعير من الصديق المصري رؤوف مسعد عنوان كتابه “صباح الخير يا وطن” لأصبّح على سورية. للكتاب عنوان فرعي هو “شهادة من بيروت المحاصرة”. كان ذلك عام 1982، وها هو الحصار يطبق على الصدور أنّى قلّبت بصرك من سورية إلى غزة إلى…
من الصديق الكويتي محمد الرميحي أستعير عنوان كتابه “صباح الخير يا وطن” (2014) لأصبّح على سورية. ومن الشاعر اليمني عباس الديلمي أستعير عنوان الأغنية التي لحّنها له الصديق الراحل سهيل عرفة “صباح الخير يا وطنًا”. أمل عرفة وفهد يكن يصدحان بالأغنية وأنا أصبّح عليك يا سورية وأبكي.
إلى دمشق
عملية ردع العدوان أسرعُ من عملية السلطان سليم الأول والسيطرة العثمانية على سورية.
دخل السلطان سليم إلى حلب سلمًا في 1516/8/28 وسلّمته المدينة مفاتيح القلعة، وعيّن عليها واليًا، فكانت أول ولاية عثمانية في سورية.
من حلب تقدمت سيطرة السلطان سليم سلمًا إلى حماة، فحمص، وبلغ دمشق في 1516/9/27. أي إنه سيطر على سورية سلمًا خلال ثلاثين يومًا، بينما انطلقت عملية ردع العدوان في 2024/11/27، وسيطرت على حلب فحمص فحماة فدمشق خلال أحد عشر يومًا. وعلى الرغم مما يمكن تسميته بالمناوشات تبدد الأبد الأسدي، وصدق قول من قال: “ما بين غمضة عين وانتباهتها”. لكن السؤال ينشب: أين اختفى هؤلاء جميعًا، ليس في اللاذقية وحدها. في كل مدينة، أين اختفى رؤساء فروع الأمن العسكري وأمن الدولة والأمن الجنائي والمخابرات الجوية والأمن السياسي وفرع الحزب وأقسام الشرطة والمحافظ و و و و؟ ما بين غمضة عين وانتباهتها ذهبوا بَددًَا. إلى البدد إلى البدد يا حافظ الأسد. من يذكر التحية المدرسية الصباحية؟
الأسدية
على إيقاع قول أبو سكسوكة جنان – على وزن أغنية فريد الأطرش: أبو ضحكة جنان – أقصد: على إيقاع قول: فلاديمير إيليتش لينين: الامبريالية أعلى مراحل الاستعمار، أقول: الأسدية أحطّ أنواع الديكتاتورية.
ضفة ثالثة
—————————-
سقوط الأسد السريع جدّد الشراكة الروسية ــ الإيرانية/ هدى الحسيني
تحديث 30 كانون الثاني 2025
استقبل الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، نظيرَه الإيراني، مسعود بزشكيان، في موسكو يوم الجمعة 17 يناير (كانون الثاني) 2025 لتوقيع «معاهدة شراكة استراتيجية شاملة». ويقول المسؤولون الروس والإيرانيون إن «معاهدة العشرين عاماً» تهدف إلى تقريب موسكو وطهران في جميع المجالات؛ من التعاون التجاري والعسكري وحتى التعليم والثقافة. ووصف بوتين المعاهدة بأنها «انفراجة حقيقية، وخلق للظروف للتنمية المستقرة والمستدامة لروسيا وإيران والمنطقة بأكملها».
كما عزز الاثنان العلاقات بالصين وكوريا الشمالية؛ وهم الرفاق الأعضاء في ما يسميه البعض «محور الاستبداديين»؛ و«الرفقاء الجيوسياسيون» الذين يجمعهم معاً عداؤهم للولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى، والرغبة في التهرب من العقوبات التي يفرضها الغرب ضد أنظمتهم.
لا شك في أن سقوط بشار الأسد يشكل نكسة دبلوماسية وسياسية وعسكرية كبيرة لروسيا. وكانت سوريا الشريك الرئيسي لروسيا في الشرق الأوسط. خسارة تلك الحرب الأهلية التي استمرت لعقد من الزمان ضربة قاسية لكل من روسيا وإيران، وبشكل أكبر بالنسبة إلى إيران بسبب مصالحها مع «حزب الله» واستخدامهما الأسلحة ضد إسرائيل.
لكن ماذا تعني المعاهدة الروسية – الإيرانية الجديدة بالنسبة إلى العلاقة بين البلدين؟
كانت هذه «الصفقة» إلى حد كبير حالة محددة؛ إذ جاء توقيت الإعلان عقب تنصيب الرئيس الأميركي دونالد ترمب وبعد مدة قصيرة من سقوط وهرب حليف إيران وروسيا بشار الأسد. وتوقيت الاتفاق، المتزامن مع تنصيب ترمب، عنصر أساسي في هذه المحاولة «المحسوبة» من قبل روسيا وإيران لإظهار القوة والسلطة. ومن الواضح أن التحالف الروسي – الإيراني نفسه ليس شيئاً جديداً؛ إذ تعود هذه العلاقة القائمة على المصالح المتبادلة إلى عقود. تساعد روسيا إيران عسكرياً، وفي برنامجها النووي، وتوفير الوقود، وتقديم الخبرة. وهذا التحالف «المزعوم» المدفوع بالمصلحة المتبادلة، يحركه في الأساس العداء وكراهية الولايات المتحدة، والرغبة في بذل كل ما في وسعهما لإضعاف الولايات المتحدة استراتيجياً وسياسياً واقتصادياً وعسكرياً.
إذا دققنا في نَصّ ما جرى الاتفاق عليه بالفعل، فإنه مخيب في تفاصيله. مثلاً؛ صُوّرت المعاهدة على أنها دفاع متبادل، وبينما تعالَج القضايا الأمنية، فإن الالتزامات الدفاعية المتبادلة تقتصر على الموافقة على عدم مساعدة خصم الطرف الآخر في أي صراع. لذلك؛ إذا دخلت روسيا في صراع مع «حلف شمال الأطلسي» أو الولايات المتحدة أو مع كازاخستان، أو مع أي طرف آخر، فإن على إيران عدم مساعدة الطرف الآخر الذي يقاتل روسيا. وهذا في نظر العسكريين ليس تحالفاً دفاعياً قوياً. ويشير عسكريون أيضاً إلى أن المعاهدة لا تذهب، تقريباً، إلى ما اتفق عليه الروس والكوريون الشماليون مؤخراً، فبينما كانت إيران ترسل، لبعض الوقت، طائرات «شهيد» من دون طيار إلى روسيا لاستخدامها ضد أوكرانيا (المئات منها) والصواريخ الباليستية، فإنها لم ترسل قوات وجنود «الحرس الثوري» للقتال على الخطوط الأمامية في كورسك ودونيتسك، كما فعلت كوريا الشمالية.
من المؤكد أن الروس لم يطلبوا ذلك. وربما لم يرغبوا في طرح سؤال يعرفون أن الإجابة عنه ستكون «لا». ثم إن إيران تواجه ما يكفي من المشكلات في شؤونها الداخلية وفي منطقتها، خصوصاً بعد سوريا، لدرجة أنها ربما ستُضعف موقفها إذا أرسلت مجموعات من «الحرس» لمحاربة الأوكرانيين. وهناك افتراض بأن جزءاً من هذا هو أيضاً نتيجة لحقيقة أن هذين البلدين يتعرضان لعقوبات قاسية ويريد كل منهما مساعدة الآخر في الالتفاف على المشكلات المختلفة التي يواجهانها بهذا الصدد.
تمكنت روسيا من قراءة كتاب «قواعد اللعبة» الإيراني للتحايل على العقوبات الأميركية وتجنبها وتقويضها على مدى السنوات الماضية. كما تجدر الإشارة هنا إلى أن الصين تتعلم من «الكتاب» نفسه وتأخذ الدروس المستفادة من كل التجارب الإيرانية والروسية. والدول الثلاث تشارك بنشاط في تدابير عملية للغاية للتحايل على العقوبات؛ إذ تستخدم روسيا والصين وإيران ما تسمى «أساطيل الظل» من الناقلات التي تتجول في جميع أنحاء العالم، ومئات ناقلات النفط المتهالكة، و«الكوارث البيئية العائمة» التي تنتظر الغرق، لنقل الهيدروكربونات.
لا أعتقد أن للاتفاق تأثيراً عملياً كبيراً من حيث تعزيز استقرار النظام الإيراني، لكنه يساعد في تصوير روسيا على أنها لا تزال لاعباً في الشرق الأوسط، وأنها لا تزال نشطة، وأن لديها مجموعة من العلاقات التي تعارض الولايات المتحدة.
على كلٍ؛ الطرفان حسبا التوقيت بعناية فائقة. ولو كانا يعتقدان أن توقيت الاتفاق لن يرسل الرسالة المناسبة، لكانا إما فعلا ذلك في وقت أبكر وإما أجّلا المعاهدة إلى وقت لاحق.
يساعد الضعف النسبي لروسيا وإيران الولايات المتحدة في هذه اللحظة، حيث ستسعى الولايات المتحدة إلى استخدام كل أداة تحت تصرفها لتعديل سلوكهما وتقييده. إيران، ومن خلال أنشطتها عبر وكلائها؛ «حزب الله» و«حماس» و«الحوثيين»، تزرع العنف وعدم الاستقرار في جميع أنحاء الشرق الأوسط لسنوات وعقود، وهذا يحتاج إلى معالجة بقوة أكبر بكثير، وبالتأكيد في المجال الاقتصادي.
والشيء نفسه بالنسبة إلى روسيا… في حين كان هناك بالفعل كثير من العقوبات المفروضة في وقت مبكر من الحرب وحتى الآن، فإن من المهم تعزيزها، خصوصاً استهداف الهيدروكربونات لكل من إيران وروسيا على حد سواء. هذه هي نقطة الألم الحقيقية بالنسبة إليهما.
الشرق الأوسط
——————————-
القطاع المالي السوري: مستقبل غامض تحكمه عوامل سياسيّة/ علي نور الدين
الخميس 2025/01/30
في كلام جميع المسؤولين السوريين، وخصوصًا أولئك المؤثّرين على المشهد الاقتصادي في البلاد، يمكن تلمّس التشخيص ذاته. لقد حُكمت سوريا لعقود، في حقبة الأسد الأب، بمنطق الاقتصاد الاشتراكي الموجّه. أي الدولة المركزيّة المهيمنة على عجلة الإنتاج والتوزيع. ولم تخرج من هذه الحقبة، في مطلع هذا القرن، إلّا لتدخل في منطق اقتصاد الأوليغارشية. أي اقتصاد القلّة المسيطرة، المحيطة بمركز الحُكم، التي تناهشت خيرات مرحلة “الانفتاح” المزعوم. أو بعبارة أخرى، احتلّت هذه النخبة الماليّة القطاعات الاقتصاديّة، في المساحة التي انسحبت منها الدولة، في عمليّة توزيع غنائميّة منظمة وممنهجة. هذا ما يحصده المجتمع حين يتم مزج اقتصاد السوق، ببيئة سياسيّة سلطويّة. أو حين لا يترافق “الانفتاح” الاقتصادي مع بديهيّات المفاهيم المؤسّسة لدولة القانون.
في كلام المسؤولين السوريين اليوم، الكثير مما يوحي بالارتداد عن الصيغة التي حكمت المرحلتين السابقتين، ولو لم نتلمّس بعد الترجمة العمليّة لتلك التصريحات. يمكن للمتابع بسهولة أن يلحظ تكرار العبارات نفسها اليوم: الاقتصاد المفتوح، اقتصاد السوق، فتح الأبواب أمام الاستثمار الأجنبي، انسحاب الدولة من عدد من القطاعات الاقتصاديّة، وغيرها من العناوين التي تذهب بالاتجاه نفسه. لسبب ما، ربّما سياسي، لا تُقال العبارة في تلك التصريحات. نحن نتحدّث عن اقتصاد “أكثر ليبراليّة”، وعن دولة أصغر وأقل هيمنة في السوق. قد لا يعني ذلك انسحاب الدولة من مهامها التنظيميّة، أو عن أدوارها في مجال الرعاية الاجتماعيّة. لكنّنا نتحدّث –في تلك التصريحات على الأقل- عن بيئة أكثر مرونة في التعامل مع القطاع الخاص.
مستقبل القطاع المالي السوري
يتّسع مفهوم القطاع المالي في أي دولة، ليشمل المصارف وشركات التأمين والشركات الاستثماريّة والبورصات وغيرها من المؤسّسات المعنيّة بتقديم الخدمات الماليّة. في سوريا بالتحديد، وتمامًا كما هو حال لبنان اليوم، يحتلّ القطاعان المصرفي والتأميني موقعًا محوريًا في هذا القطاع، لضعف أو شح الرساميل الموجّهة إلى سائر أنواع المؤسّسات الماليّة. وفي حالة سوريا، لم تكن البيئة السياسيّة أو الاستثماريّة -طوال العقود الماضية- ملائمة لنمو أنواع أخرى من المؤسّسات الماليّة.
من الناحية النظريّة، يُفترض أن تكون التحوّلات المستجدة، والنهج الاقتصادي الجديد (إذا صدقت التصريحات)، عامل إنعاش للقطاع المالي السوري في المستقبل، بما في ذلك القطاع المصرفي. فالقطاع المالي يعتاش أساسًا على حريّة حركة الرساميل، التي تتيح تكوين الاحتياطات بالعملات الأجنبيّة، وتفتح باب الخدمات الماليّة والمصرفيّة على مصراعيها. لا يمكن تصوّر قطاع مالي مزدهر وفعًال، من دون الحد الأدنى من الانفتاح الاقتصادي، الذي تعد به أصلًا التصريحات التي يطلقها المسؤولون عن النظام الجديد في دمشق. ومن الناحية النظريّة أيضًا، ثمّة ما يتلاءم مع هذا المشهد المتفائل: تدفّق أموال إعادة الإعمار، وفتح الأبواب امام الاستثمار الأجنبي في القطاعات المتهالكة حاليًا، وانفتاح العديد من الأطراف الإقليميّة على النظام الجديد.
في كلام حاكمة المصرف المركزي السوري ميساء صابرين ما يعد أيضًا بتحوّلات في طريقة إدارة النظام المالي. كثير من الكلام عن تعزيز استقلاليّة المصرف المركزي، وإعطاء المصرف هامشًا أوسع في اتخاذ القرارات المتصلة بالسياسة النقديّة، بل وثمّة كلام أكثر جرأة عن إعداد إصلاحات تشريعيّة متصلة بعمل المصرف وصلاحيّاته. ما تقوله صابرين هنا، يعيدنا إلى نفس المشهد الذي ترسمه سائر تصريحات المسؤولين السوريين: المزيد من الهامش الممنوح للقطاع المالي، الذي يمثّل المصرف المركزي ركيزته الأولى في دولة مثل سوريا. والمزيد من انكفاء السلطة السياسيّة عن التدخّل في عمل هذه الأسواق. “فصل السياسة النقديّة عن التدخّلات الحكوميّة المباشرة”، كانت عبارة واضحة في تصريحات صابرين لوكالة رويترز.
لا حاجة للقول إنّ في كلام صابرين “انقلابًا” على المفاهيم التي حكمت عمل المصرف المركزي في زمن حزب البعث. لقد أقرّت سوريا عام 2001 قانونًا لإنشاء المصارف التجاريّة الخاصّة، بعدما كان القطاع العام المهيمن الوحيد على القطاع المصرفي السوري. وفتحت المجال أمام تأسيس 14 مصرفًا سوريًا خاصًّا منذ ذلك الوقت، منها 7 مصارف تأسست بمساهمات لبنانيّة. غير أنّ القطاع ظلّ خاضعًا طوال تلك الفترة لابتزاز أزلام النظام، الذي دخلوا مباشرةً أو مواربة برساميل تلك المصارف، ونهشوا من خيرات نموّها. لم يكن القطاع “حرًّا”، تمامًا كما لم يكن الاقتصاد السوري “حرًا” أو “منفتحًا”، وفق العناوين السابقة التي صاحبت وصول الأسد الإبن إلى السلطة. مجددًا: هكذا يكون “الانفتاح” الاقتصادي من دون “دولة القانون”.
تحديات السياسة والمستقبل الغامض
غير أنّ التفاؤل بالعناوين والتصريحات، تقابله كتلة من التحديات التي تنبع تحديدًا من الواقع السياسي، وعدم اليقين الذي يخيّم حول مستقبل الوضع السوري. وكي لا ننسى مجددًا، لقد جاءت مرحلة الأوليغارشية السوريّة، منذ مطلع هذا القرن، تحت عناوين مشابهة تحدّثت عن التجديد والانفتاح والإصلاح. ولم تكن انتكاسة هذا التحوّل إلا بفضل المتغيّرات السياسيّة، التي طبعت لاحقًا السياسة الاقتصاديّة بصورة مختلفة تمامًا عن العناوين التي يجري الترويج لها.
فعلى سبيل المثال، وقبل أن تتحدّث صابرين عن تعديلات تشريعيّة، ثمّة أسئلة عديدة حول الجهة التي ستملك حق إجراء هذه التعديلات، خصوصًا بعدما تمّ تعليق العمل بالدستور السوري وفقًا لآخر تعديلاته. وثمّة أسئلة أكثر حول شكل السلطة التنفيذيّة في سوريا، ومدى قدرتها على إحكام قبضتها الأمنيّة على كامل الجغرافيا السوريّة، قبل الحديث عن طبيعة السياسات الاقتصاديّة التي ستعتمدها. وأخيرًا، ثمّة أسئلة حول قدرة هذه السلطة على فرض رؤى قائمة على مفاهيم “دولة القانون”، التي سترعى عمل الاقتصاد المحلّي، بمعزل عن إرادة التغيير التي تملكها.
ثمّة قائمة أخرى من الأسئلة حول العوامل الخارجيّة، وخصوصًا تلك المرتبطة بالعقوبات على سوريا. حتّى اللحظة، لم تشمل الإعفاءات التي أقرّتها وزارة الخزانة الأميركيّة المصرف المركزي السوري نفسه، ولو أنّها سمحت بالتحويلات الشخصيّة المباشرة إلى سوريا بالدولار الأميركي. والمضي قدمًا في الانفتاح الاقتصادي، سيستلزم أولًا الرفع الكامل للعقوبات الغربيّة المفروضة على سوريا، لطمأنة الرساميل المتجهة إلى نظامها المالي. هل سيكون ذلك متاحًا؟ وإذا اشترط الغرب ترتيبات معيّنة تشمل إقصاء روسيا –ووجودها العسكري- من سوريا، هل سيفعلها النظام الجديد؟ وإذا فعل، هل سيكون لذلك تبعات على الوضع الأمني في سوريا؟
مسألة العقوبات على سوريا، ستكون المتغيّر السياسي الأوّل الذي سيحكم قدرة النظام الجديد على استقطاب الاستثمارات، وتثبيت التوازنات النقديّة الهشّة. لقد انخفض إنتاج سوريا من النفط الخام من 400 ألف برميل يوميًا قبل الثورة إلى 40 ألف برميل فقط خلال العام الماضي. واستعادة القدرة الإنتاجيّة، ومن ثم استعادة التدفقات النقديّة بالعملات الأجنبيّة، سيحتاج أولًا إلى استثمارات كبيرة في هذا القطاع. وهذا ما سيصعب تحقيقه قبل الرفع الكامل للعقوبات، ومن ثم استقطاب الشركات الأجنبيّة القادرة على تفعيل الإنتاج المحلّي. هذا الوضع، ستحكمه التحوّلات السياسيّة وحدها.
المدن
————————-
بشار الأسد وتدمير أسس الدكتاتورية العميقة/ مها غزال
الخميس 2025/01/30
في عالم السياسة، لا يعد انهيار الأنظمة الاستبدادية أمراً مفاجئاً، لكن ما يُثير الانتباه هو حين ينهار النظام بفعل اليد ذاتها التي ورثته. بشار الأسد لم يكن مجرد رئيس استبدل والده، بل كان الحَجر الذي أُسقط في أساسات نظام أمضى حافظ الأسد عقوداً طويلة في بنائه عبر شبكة من التحالفات الأمنية والاقتصادية والسياسية التي شكلت نموذجاً صارماً للدولة العميقة.
إقصاء تاريخي
غير أن النظام الذي وُلد من رحم القمع والاستبداد لم يتداعَ بفعل ثورة الشعب وحسب، بل انهار تدريجيا بفعل سياسات الابن التي مزقت تلك البنية الداخلية، ودفعت البلاد نحو الفشل الكامل، اقتصادياً، سياسياً، وعسكرياً. فما الذي حدث؟ وكيف يمكن فهم تفكيك هذا النظام؟ وما هي التداعيات السياسية والفلسفية لهذه الحالة الاستثنائية.
في فلسفة السلطة، يقال إن أي نظام استبدادي لا ينجو طويلاً إلا إذا أتقن فن خلق مظلومية جماعية تحشد الولاء وتبرر القمع. حافظ الأسد كان بارعاً في هذا الفن. كرجل ينتمي إلى إحدى أصغر وأقل عائلات الطائفة العلوية شأناً، بنى سلطته من خلال توظيف إحساس طائفته بالإقصاء التاريخي. لكنه لم يقدّم لهذه الطائفة مكاسب اقتصادية أو اجتماعية جوهرية، بل أبقاها في حالة فقر وعزلة، مستخدماً أبناءها كأداة عسكرية وأمنية لحماية نظامه.
منح الأسد الأب أبناء الطائفة مواقع حساسة في الجيش والأمن، لكن من دون أن يُتيح لهم فرصاً لبناء نفوذ مستقل أو مكانة اقتصادية. كان النظام محكماً، وكانت كل القوى تدور في فلك شخصية حافظ الأسد الذي لم يتوانَ عن إزاحة أقرب المقربين إليه، بما في ذلك شقيقه رفعت، وضرب من يحاول تهديد قبضته الحديدية على البلاد.
في هذا السياق، يمكن فهم كيف أصبحت الطائفة العلوية درعاً للنظام، تعاني من تهميش مزدوج: خارجي من المجتمع السوري الذي رأى فيها أداة للقمع، وداخلي من النظام ذاته الذي حرص على إبقائها تحت السيطرة.
السيطرة الاقتصادية
ورث بشار الأسد نظاماً قوياً لكنه هشّ من الداخل، قائماً على تحالفات دقيقة وأجهزة أمنية متوغلة في كل مفاصل الحياة. في بدايات حكمه، حاول تقديم صورة جديدة عن نظام والده، متحدثاً عن الانفتاح السياسي والاقتصادي، لكنه سرعان ما تراجع تحت ضغط المؤسسات العميقة التي لم تكن تثق به بالكامل.
ورغم كل محاولاته لاسترضاء أركان الدولة العميقة، فإن شخصيته المترددة ونقص قدراته القيادية، بالإضافة إلى تأثير زوجته أسماء الأسد، أدى إلى تفكك هذه الشبكة. أسماء، القادمة من مجتمع حيتان المال، كانت تدرك تماماً أن السلطة الحقيقية تكمن في السيطرة الاقتصادية.
بذكاء حاد، استغلت أسماء الأسد الصراعات الداخلية في العائلة الحاكمة، بما في ذلك خلاف بشار مع شقيقه ماهر، وغياب الحرس القديم بفعل تقدمهم في السن، لبناء إمبراطوريتها المالية الخاصة. بينما كان بشار يفقد السيطرة على البلاد، كانت أسماء تحكم قبضتها على الاقتصاد السوري، وتنهب مقدرات البلاد عبر صفقات مشبوهة.
تدخلات خارجية
مع انحسار سيطرة الدولة، وجدت سوريا نفسها مسرحاً لتدخلات إقليمية ودولية. الميليشيات الإيرانية، بقيادة حزب الله، تولت إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية بما يخدم مصالحها، وحولت البلاد إلى قاعدة لإنتاج وتجارة السلاح والمخدرات.
على الجانب الآخر، أعادت روسيا هيكلة الجيش السوري ليكون أداة بيدها، تدافع عن نفوذها أمام التغول الإيراني. تحول الجيش إلى كيان ممزق يخدم أجندات متضاربة.
اقتصاديا، استنزفت أسماء الأسد الأموال المتبقية عبر شبكة من منظمات المجتمع المدني التي كانت واجهة لنهب المساعدات الدولية. تفريغ المصرف المركزي من الأموال كان الضربة القاضية التي جعلت من سوريا دولة لا تملك أدنى مقومات الاقتصاد الوطني.
دولة فاشلة
تفكيك الدولة العميقة جعل سوريا اليوم دولة فاشلة بكل المعايير. لم تعد هناك مؤسسات قادرة على فرض القانون، وتحولت البلاد إلى ساحة لتجارة المخدرات والجريمة المنظمة. البنية التحتية منهارة، والاقتصاد مشلول، والمؤسسات الأمنية لا تعمل إلا لحماية مصالح قوى خارجية.
هذا الوضع يعني أن أي محاولة لإعادة بناء الدولة ستواجه تحديات بحجم المعجزات. فلا يمكن إعادة الثقة في مؤسسات انهارت تماماً، ولا يمكن بناء اقتصاد مستدام في ظل الفساد المستشري والعقوبات الدولية.
تشبه الحالة السورية اليوم إلى حد كبير ما حدث في يوغوسلافيا بعد انهيار نظام تيتو. تفكك الدولة اليوغوسلافية أدى إلى حروب أهلية وصراعات طائفية، لكن التحول نحو الديمقراطية لم يكن مستحيلاً. عبر دعم دولي وإصلاحات عميقة، تمكنت بعض جمهوريات يوغوسلافيا السابقة من بناء نظم ديمقراطية مستقرة واقتصادات واعدة.
فرص إيجابية
رغم الصورة القاتمة، فإن تفكيك الدولة العميقة قد يحمل فرصاً إيجابية إذا تم الانتقال نحو نظام ديمقراطي يعتمد على العدالة والمساءلة. إعادة هيكلة المؤسسات على أسس قانونية شفافة قد تتيح بناء دولة حديثة تعتمد على الكفاءة بدلاً من الولاء السياسي أو الطائفي.
تجارب مثل ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية وكوريا الجنوبية تشير إلى إمكانية تحقيق انتقال ناجح إذا توفرت الإرادة السياسية والمؤسسات الديمقراطية.
سوريا اليوم تقف على مفترق طرق تاريخي. إما أن تستمر في حالة الانهيار والفشل، أو أن تجد طريقها نحو بناء دولة جديدة تعتمد على العدالة والمساءلة. لكن هذا المسار لن يكون سهلاً؛ إذ يتطلب تحرير البلاد من القوى الخارجية، وإعادة بناء المؤسسات الوطنية على أسس ديمقراطية.
السؤال الذي يظل مطروحاً هو: هل يمكن لسوريا أن تتجاوز إرث بشار الأسد؟ وهل هناك إرادة دولية ومحلية كافية لإنقاذ هذا البلد الذي كان يوماً مركزاً للحضارة؟ الإجابة تظل مفتوحة، لكنها تبدأ من الاعتراف بأن تفكيك الدولة العميقة ليس نهاية الطريق، بل قد يكون بداية جديدة إذا تم التعامل معه بحكمة وشجاعة.
المدن
———————————
دليل نادر في قضية اختفاء الصحافي الأميركي أوستن تايس في سوريا
علي الإبراهيم (سراج) كيفن جي. هول، سلمى مهاود، شيا لافلين (occrp)
30.01.2025
اختفى الصحافي الأميركي أوستن تايس في سوريا في عام 2012، تايس جندي سابق في مشاة البحرية الأميركية، وأثناء تغطيته الحرب السورية اختفى، وحالياً تم العثور على وثائق بعد انهيار نظام بشار الأسد تحوي أدلة جديدة، مما يرفع الآمال في العثور عليه حياً أو تحديد مكان رفاته.
تم العثور على وثائق من فرع أمن الدولة في حي كفرسوسة في العاصمة دمشق، وهو أحد فروع الاستخبارات السورية السابقة، تُظهر كيف كان نظام بشار الأسد يتتبع الصحافيين الأجانب عند دخولهم لتغطية الحرب الأهلية هناك، بمن فيهم مراسل حربي أميركي مفقود منذ فترة طويلة.
تشير الوثائق إلى أوستن تايس، الذي اختفى أثناء عمله لصالح صحيفة “واشنطن بوست” وسلسلة أخبار “ماكلاتشي”، ولم تذكر الوثائق أنه توفي.
هذا التمييز مهم للغاية، لأن المعلومات عن اختفاء تايس قليلة، وقد سافرت والدته ديبرا تايس مؤخراً إلى سوريا، على أمل معرفة تفاصيل عن احتجازه ومكان وجوده، وقالت في مقابلة مع وكالة “رويترز” في منتصف كانون الثاني/ يناير في دمشق: “أشعر بقوة أن أوستن هنا، وأعتقد أنه يعلم أنني هنا”.
اكتشف صحافيو “سراج”؛ وهي منصة صحفية شريكة في مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد (OCCRP) الوثائق في أواخر كانون الأول/ ديسمبر، أثناء فحص ملفات تُركت عقب الانهيار السريع للنظام السوري، في وقت سابق من ذلك الشهر.
تعود تواريخ الوثائق إلى 4 آذار/ مارس 2013، أي بعد نحو سبعة أشهر من اعتقال تايس المفترض، وتشير إلى أنه كان حياً في ذلك الوقت، لكنها لا تقدم تفاصيل إضافية. لكن إذا كان حياً اليوم، فسيكون عمره 43 عاماً.
أجرى مراسل من “سراج” مقابلة مع سجين سابق، قال إنه كان محتجزاً لدى الاستخبارات السورية في عام 2018، في زنزانة مجاورة لزنزانة يعتقد أن تايس كان يقبع فيها، وذكر الرجل، الذي طلب عدم الكشف عن هويته لدواعٍ أمنية، أنه لم يكن يعرف من هو تايس آنذاك، لكنه تذكر أن الحراس كانوا يجلبون مترجماً للحديث مع السجين الذي كانوا ينادونه باسم أوستن، وقال السجين السابق: “كان المترجم يسأله: أوستن، ماذا تريد أن تأكل اليوم؟، كنت أسمع المترجم يتحدث مباشرة مع أوستن لأنني كنت قريباً من زنزانته”.
هرب أعضاء سابقون من نظام الأسد، ممن قد تكون لديهم معلومات عن تايس، أو اختبأوا منذ سيطرة تحالف المتمردين على البلاد في 8 كانون الأول/ ديسمبر.
وكان المسؤولون السوريون غير متعاونين قبل سقوط النظام، وفقاً لشخص شارك لأكثر من عقد في جهود الولايات المتحدة للعثور على تايس، وقال هذا الشخص بشرط عدم الكشف عن هويته بسبب البحث المستمر: “في العديد من الاجتماعات والتبادلات مع الحكومة السورية لم نتمكن أبداً، من الحصول على دليل حياة أو اعتراف بأنهم احتجزوه في أي وقت”.
تم اعتقال تايس عند نقطة تفتيش بعد مغادرته إحدى ضواحي دمشق وهو متجه إلى لبنان، وفقاً لموقع إلكتروني تديره عائلته، وبعد أكثر من شهر بقليل، أرسلت العائلة مقطع فيديو مدته 43 ثانية، يظهر فيه تايس مع مجموعة من الرجال المسلحين، ولم تتلقَ العائلة أية معلومات أخرى بعد هذا الفيديو الذي حمل عنوان “أوستن تايس على قيد الحياة”.
الوثائق التي اكتشفها فريق “سراج” مكتوبة باللغة العربية، وتتضمن قائمة بالصحافيين الذين تسللوا إلى سوريا لتغطية الحرب، ومن بين هؤلاء الصحافيين المذكورين إلى جانب تايس، مراسلون من “بي بي سي” و”سي إن إن” ومن صحيفتي “إل باييس” الإسبانية و”لوموند” الفرنسية.
كما تضمنت القائمة اسم ماري كولفين التي قُتلت مع المصور الفرنسي ريمي أوشيليك، في هجوم استهدفهما من قبل القوات السورية في مدينة حمص، وجاء في الوثيقة: “دخلت البلاد بشكل غير قانوني إلى حمص – بابا عمرو في الشهر الأول من عام 2012 وتوفيت هناك”.
أما الإدخال الخاص بالصحافي تايس فجاء فيه ببساطة: “دخل القطر بطريقة غير شرعية من طريق الحدود التركية، في منتصف شهر حزيران/ يونيو، و أمضى عدة أيام في خان شيخون، حيث التقى فيها أشخاصاً ممن يطلقون على أنفسهم الجيش الحر”.
اكتسبت تلك البلدة الواقعة شمال غرب سوريا شهرة سيئة عام 2017، بسبب استخدام القوات السورية للأسلحة الكيميائية هناك. وكان “الجيش السوري الحر”، هو الاسم الذي أُطلق على مجموعة من قوات المعارضة التي انضمت إلى الانتفاضة ضد نظام الأسد في عام 2011، مما أدى إلى حرب أهلية استمرت قرابة 14 عاماً.
ذكرت منظمة “مراسلون بلا حدود/ RSF” أن 23 صحافياً ظلوا في السجون يوم سقوط نظام الأسد، كما أشارت إلى أن سبعة صحافيين آخرين كانوا ضحايا للاختفاء القسري، تم خطفهم ونقلهم إلى مواقع مجهولة.
وقتل نظام الأسد وحلفاؤه ما لا يقل عن 181 إعلامياً منذ عام 2011، وفقاً لمنظمة “RSF”.
درج
—————————-
من يعسكر يقرّر: العسكرة كنمط حياة عبر تاريخ طويل / شكري الريان
30.01.2025
المخيف أنه في المجتمعات التي لا تزال تؤمن بدور “القائد” وتنظر إلى العسكرة بصفتها نمط حياة مشروعاً، تكون في عمق وجدانها مجتمعات متأهبة، لأن هناك تهديداً ما قائماً من طرف ما. وبالتالي يصبح الهاجس هو البحث عن مصدر هذا التهديد… البحث عن عدو… وإن لم يوجد، فلا بد من اختراعه.
لولا انتسابه إلى الجيش، لما سمع أحد باسم حافظ الأسد خارج محيطه العائلي المباشر. وكذلك الأمر مع أحمد الشرع، فلولا الميليشيا التي قادها، إثر رحلته الشهيرة إلى العراق، وأوصلته لاحقاً إلى قصر الشعب في دمشق، لكان المعني الآن ربما مستغرقاً في تفاصيل حياة مُنهِكة في ظل الحكم الكابوسي لسلالة سابقة أعلاه. والفارق بين الميليشيا في حالة الشرع والجيش في حالة الأسد، هو عبارة عن تطور يطاول بنية التشكيلات العسكرية في منطقتنا، وإن كان انحدارياً، إلا أنه لا يغطي على جوهر ما تحاول هذه السطور الإضاءة عليه: العسكرة، في ظل أي تشكيل عسكري، مهما كانت تسميته، بصفتها نمط حياة، وطريقاً نحو المستقبل، هو في كل الأحوال شديد التعذر والصعوبة في وجه طارقي أبوابه جميعهم، مهما كانت مهنهم أو أنماط حياتهم.
صيد الوحوش كوسيلة للقيادة
عبر تاريخ طويل لا يقتصر على منطقتنا فحسب، كان اللجوء إلى السلاح حلاً شديد السرعة والاختصار، ليس فقط لتسوية نزاعات فردية أو جماعية، بل أيضاً لاكتساب مكانة تجعل من حامل هذا السلاح شخصاً مهاب الجانب، وكذلك أكثر ثراء من أقرانه، بمقاييس الثراء المتعارف عليها حسب كل حقبة زمنية، أو وسط اجتماعي ما.
فمنذ حقبة الصيد وجمع الثمار، كان الصيد بصفته أحد مصدرين رئيسيين لتأمين الغذاء؛ أي شرط حياتنا كبشر، يتطلب مقدرات خاصة عند أولئك الصيادين. القوة الجسدية، سرعة الحركة، القدرة على المناورة، إلى آخره من شروط هي في أساسها تعتمد على قوة الجسد والذكاء والإقدام أيضاً، لا يمكن إنكار هاتين الخصلتين الذهنية والنفسية، عند من يريد مواجهة حيوان يزن عشرات أضعاف وزنه، وأكثر منه سرعة وقوة بدنية، ولكن ليس أكثر ذكاء أو إصراراً على تحقيق الهدف.
لم تتراجع قيمة تلك المقدرات مع تطور حياتنا، وظهور متخصصين في تأمين الغذاء لنا، بعد دخولنا في عصر الثورة الزراعية وتربية الماشية. إذ بات الصراع على الأرض وثرواتها الزراعية والحيوانية، ومصادر الماء، هو عنوان مرحلة جديدة لتأمين دوام تلك المصادر. وبالتالي شرعية ملموسة لنظام حكم يسوس الجماعات المحتمية بظل ذلك النظام، لضمان استمرارية تدفق خيرات تلك المصادر واستقرارها، لتأمين حياة باتت متعذرة جداً خارج تلك البنى السياسية الجديدة التي وُجدت بالدرجة الأولى، للتحكم بمصادر الحياة وشروطها.
كان النزاع في جوهره ما بين ممالك تلك الحقبة، خلال مرحلة ما قبل الثورة الصناعية، صراعاً على مصادر الثروة، ما يجعل من المملكة أقوى من قريناتها وجاراتها من الممالك، بل قادرة إن امتلكت السبل الكافية، على إزالة تلك الممالك الجارة وإلحاقها بمشروع إمبراطوري كبير، شهد العالم تجليات شتى له على مدار قرون متتالية، قبل دخولنا في عصر الحداثة، وبعد حربين كونيتين طاحنتين، لم يمضِ على الأخيرة منهما إلا بضعة عقود فقط. وكانت الأسنان التي تقضم تلك الثروات والأراضي والمصادر الطبيعية، هي الجيوش نفسها.
أي أن العسكرية كمهنة ونمط حياة، لم تتراجع قيمتها مع خروجنا من عصر الكفاية الغذائية، بخضوع تام لما تجود به الطبيعة من مصادفات سعيدة، من مصدر نباتياً كان أم حيوانياً، ودخولنا في عصر التحكم بتلك المصادر نباتياً وحيوانياً. فمهنتا المزارع والراعي كان يُفترض بهما أن تكونا في الصدارة، بالاستناد إلى أنهما القيّمتان على مصدري غذائنا الرئيسيين، ومع ذلك، بقي “الفارس” أو “القائد” أو “الأمير” هم الأعلى كعباً في سلم التراتبية الاجتماعية من الجميع، وهم الحائزون على تلك الألقاب، والأقرب إلى أن يصبحوا ملوك الغد، بحكم قربهم من عرش المُلك، وهم المكلفون بحماية هذا العرش، ومد ملكه إلى أبعد ما يمكن أن يصلوا إليه.
تبرير الطغيان
لم يكن الخضوع لهذه الصيغة غير العادلة نهائياً، بالأمر اليسير، فيما لو بقيت القوة الباطشة حاكمة بشكل مجرد، بصفتها كذلك. كان لا بد من تسويغ ما، وأمام الداخل، أمام رعايا العرش تحديداً، لتبرير وجود تلك السلطة وملحقاتها والمستفيدين المباشرين منها وتسويغها. وهنا ظهر العدو الخارجي، الذي سيكون بالضرورة طامعاً بخيرات المملكة، كون العرش هناك بدوره بحاجة إلى تبرير لوجوده أمام رعاياه أيضاً؛ وظهرت بعدها العقائد الجديدة مُسبِغَة على الغزو تبريراً دينياً أو قومياً أو أي تبرير ممكن، للقيام بعمل عسكري مستمر ضد هذا العدو، وذي هدف إلحاقي، أو أبادي، حسب نوع العدو ومقدراته وعناده.
منذ أول شريعة عرفها العالم، أي شريعة حمورابي، مروراً بالأديان التوحيدية بشكل خاص، وبالأيديولوجيات المتعددة التي تبنتها الدول الحديثة، وأوصلتنا إلى الحربين الكونيتين الأخيرتين، وحتى يومنا هذا، حيث لا نزال عالقين على حافة اشتباك كوني جديد؛ إن حصل، بسبب اندفاع مجنون عند من لا يزال يمتلك من الحداثة أدواتها الأشد فتكاً، وبقي عالقاً في مفهوم قديم للسلطة (المتعلق بالفارس والأمير والقائد) فستكون نهايتنا جميعاً؛ طيلة هذا المسار كله لم تكف تلك الشرائع والمعتقدات والأديان، عن إضفاء مشروعية على مسعانا، وسحب كامل المشروعية أو المبررات من يد أعدائنا… والعكس بالعكس.
كل هذا “العنف”، مهما كان مبرره، هو في كل أحواله موجه لحماية “هيبة” العرش، في مقابل رعاياه قبل أي شيء آخر، وبالتالي الإبقاء على الهرمية الحاكمة كما كانت قبل أي تطور في حياتنا كبشر، معتمدة بشكل رئيسي على القوة، أكانت عضلية فردية، أم ممكننة، كما صارت لاحقاً بعد دخولنا في عصر الثورة الصناعية.
تغير شكل الحياة في جزء مهم من عالمنا بعد تلك الثورة، وما مهد لها من تداعيات تراكم الثروات الهائلة، إثر الكشوف الجغرافية الكبرى، وبدء الحقبة الكولونيالية، ما أدى إلى ظهور طبقات جديدة قادرة على خوض صراعات داخلية لتثبيت أشكال وبنى جديدة للدولة.
قراءة مختلفة، نحو عالم جديد
لم تلبث أن بدأت العلوم السياسية بتطوير مفاهيم أكثر إنسانية لتنظيم هذا العنف، وظهرت النظريات التي تتحدث عن الدولة بصفتها محتكرة للعنف، ولكن المقيد بصفته عنفاً مشروعاً، أي معقلن. النظرية التي وضعها ماكس فيبر، وبدأت إرهاصاتها تظهر قبل قرون عدة، وتم تطويرها على أيدي الكثير من سابقيه توماس هوبز، وجون لوك، وجان جاك روسو، والأخير اعتبر أن العقد الاجتماعي شرط لازم لشرعية الدولة، أي توافق جميع مواطني، وليس رعايا تلك الدولة على أحقيتها بالوجود، لتصبح تالياً محتكرة لهذا العنف الذي يجب أن يكون مستمداً من الإرادة العامة.
أي أننا بتنا وبسبب تطور الأفكار، أمام تحدّ جديد لسلطة الدولة المطلقة، وبالتحديد في ما يتعلق باستخدامها للعنف، بتقييد استخدامها له من خلال شرعنته، أي إخضاعه لقوانين ناظمة وواضحة، بإمكان الجميع أن يطّلع عليها ويفهم مبرراتها ومسوغاتها. الأمر الذي لم يلبث أن ظهر جلياً في إعلان حقوق الدول بالدفاع عن سيادتها وعن سلامة أراضيها، ومنع اعتداء دول أخرى على تلك السيادة والسلامة، عشية انتهاء الحرب الكونية الثانية، ومن خلال شرعة الأمم المتحدة المتعلقة بهذا الجانب.
الدخول في مرحلة من العقلنة، أي مرحلة فيها احترام لحقوق البشر بالعيش في سلام، والتفكير بمستقبلهم بمعزل عن تهديد وجودي مستمر، كان قائماً فعلياً حتى بضعة عقود خلت، حول “القائد”، و”الأمير”، و”الفارس”، إلى جنرال موظف يخدم صالحاً عاماً ضمن حدود واضحة، وينفذ أوامر مستوى سياسي منتخب مباشرة من الشعب، ويُحال إلى التقاعد فور انتهاء خدمته كموظف عام. مع ذلك، بقيت مناطق كثيرة من العالم خارج هذه النعمة، وبقي “الأمراء”، و”القادة”، و”الفرسان”، هم المتحكمين بمصائرها، بمن فيهم آخر “قائد” حظيت به سوريا، وهو قاطن قصر الشعب الحالي: أحمد الشرع.
سوريا تحاول اللحاق بالركب
بناء على ما ذُكر أعلاه، كيف بإمكان “القائد” الجديد في قصر الشعب في دمشق، عدم مواجهة استحقاق يُفترض أن السوريين جميعهم يطالبون به: المضي ببلادهم إلى العصر الحديث، عصر الحريات والحقوق والدولة الحديثة؟ ومهما كان الاختلاف على تسمية تلك الدولة، مدنية أو علمانية أو إسلامية محدثة، إلا أن ما ظهر علنياً إلى الآن، ضمن الخطاب السائد في جميع أنحاء سوريا، هو أن السوريين بغالبيتهم الكاسحة يرون أن الاستحقاق المذكور أعلاه أمر يجب السعي للوصول إليه. وفي كل الأحوال، فإن المطالبة بهذا الاستحقاق تعني أن المطلوب في نهاية المطاف، دولة يخضع الجميع فيها للقانون، ويخضع المستوى السياسي فيها للمساءلة مباشرة من جمهور الناخبين، عبر صندوق الاقتراع، وسواه من وسائل ضبط أداء السلطة التنفيذية، التي يجب أن تكون بكاملها من أصحاب الكفاءات المتنوعة… أي أن المطلوب هنا هو بالضبط المزارع ومربي الماشية، وليس “الأمير” أو “القائد” أو “الفارس”! الذي لن يلبث، في حال رضخ لمطالب الناس بالمضي بالبلاد إلى بر الأمان المرتجى، أن يخسر ليس لقبه فحسب، بل مبرر وجوده بصفته حاملاً لهذا اللقب.
في عهد “القائد المفدى”، استطاع حافظ الأسد أن يجد “مبرراً” لبقاء “القائد” فوق أنفاس العباد: فلسطين… نعرف، سوريين وفلسطينيين ولبنانيين، كامل تفاصيل الكابوس، لا داعي للاستفاضة. في عهد “القائد” الجديد، ما هو المبرر الذي سيجده أحمد الشرع حتى لا يخسر لقبه ومبرر وجوده، ويدير فوقها ظهره لتاريخ “نضالي” كامل توجه بمكان سكناه الجديد؟!
العبور بسوريا نحو العصر الحديث لا يتطلب عسكرياً ولا حتى “قائداً”، يكفي لهذه المهمة خبير متمكن، حتى تطمئن النفوس إلى سلامة الطريق. “القائد” بحاجة إلى عدو يقود الأمة لمواجهته. وحسب تصريحات الشرع، بعد ارتدائه ربطة العنق، فسوريا لا تريد عداوة مع محيطها، أو مع أحد. إنها تريد سلاماً وازدهاراً. وهذا يعني، أول ما يعنيه، تحويل كل “القادة” و”الأمراء” و”الفرسان” إلى التقاعد الفوري. طبعا الأمن الداخلي، ليس بحاجة إلى “فرسان” و”قادة”، إلا إذا كانت هناك “مؤامرة” من عدو خارجي يغذي عدواً داخلياً، أي أننا سنعود إلى الحشد وإلى العداوة مع محيط قريب أو بعيد.
ولأن الأمر صعب فعلاً، ليس على الشرع، ولا على محيطه المباشر من “القادة” فقط، بل أيضاً على بيئة كاملة أنتجت هؤلاء القادة، كما أنتجت “القائد المفدى” قبلهم جميعاً، فإن إمكانية العبور بسوريا إلى العصر الحديث، تصبح مهددة دائماً من مفهوم ما زال يتمتع بصدى وشعبية هائلين، إنه مفهوم “القائد” نفسه.
والمشكلة هنا لا تتعلق فقط بمن يحمل هذا اللقب حالياً؛ أي أحمد الشرع، فالشعب نفسه، الغالبية السنية منه إن أردنا أن نكون أكثر تحديداً، يعيش تلك المشكلة التي سيُفرض عليه مواجهتها، إن كان يريد فعلاً العبور بالبلاد إلى المستقبل.
أعتقد أن ارتداء ربطة عنق، أو امتلاك عدة لفظية محدثة، وقدرة على التعامل مع السوشال ميديا بآخر إصداراتها وأوسع مؤثريها انتشاراً، غير كاف للإجابة عن تاريخ عمره مئات الأعوام، ينحدر منه “القائد” الجديد، باعتزاز لا يُخفيه، ولا أي من محيطيه، ولا حتى المحيط الاجتماعي الأوسع الحاضن والمؤيد لهم. الأمر بحاجة إلى عدة أكثر تعقيداً وعمقاً من تلك المتوافرة حتى الآن… وأهم ما فيها، هو القدرة على امتلاك رؤية نقدية لتاريخ كامل يبرر لهذه العسكرة، بل يمنحها مشروعية فوق أية مشروعية أخرى. إنها القدرة على الانفصال عن رؤية كلاسيكية تبجيلية راسخة، أزعم أنها لا تزال سائدة حتى يومنا هذا، تمنع مراجعة كاملة للإسلام، بصفته تجربة إنسانية أولاً، وبصفته؛ في ما يخص بحثنا هذا، ديناً حربياً في واحد من أبرز وجوهه.
العبارة “الإسلام دين حربي” تشكل استفزازاً كبيراً لجميع المؤمنين. يُفترض، ولو نظرياً على الأقل، أن الإسلام دين رحمة قبل أي شيء آخر. ولكن الحقيقة، أن “المشروع” الذي تقدم به محمد إلى أتباعه وأقرانه في مكة، كان معنياً بشيء آخر أكثر من التراحم بين البشر. وهذا كان معلناً فعلاً بدءاً من المراحل الأولى لدعوته، عندما كان يبشر أتباعه قائلاً “والله ليُتمنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله، وليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، وليُفتحَن عليكم كنوز كسرى وقيصر”؛ رواه خباب بن الأرت، وأخرجه البخاري، أو “الله أكبر، أُعطيت مفاتيح الشام… الله أكبر، أُعطيت مفاتيح فارس…”؛ رواه البراء بن عازب وأخرجه ابن حنبل.
طبعاً، الحديثان أعلاه يُنسبان إلى محمد خلال شدائد مرت بها دعوته، سواء في فترة الاضطهاد التي مر بها أتباعه في مكة، حيث رُوي الحديث الأول، أما الثاني فكان خلال حفر الخندق حول المدينة خلال غزوة الأحزاب. ويمكن أن يبرر الوعد بكنوز كسرى وقيصر ومفاتيح فارس والشام، كنوع من رفع المعنويات وقت الشدائد. إلا أن النظر، ليس فقط إلى الإشارة إلى “الغزو” لإمبراطوريات مجاورة، والسطو على كنوزها، وهو في نهاية المطاف مبرر بالاستناد إلى طبيعة “العلاقات السياسية” بين الممالك والإمبراطوريات في عصر محمد، بل أيضاً إلى تلك الرسالة التي تحملها الكلمات التشجيعية لأتباعه، والتي لم تكن لتغيب عن أسماع معارضيه، ممن وُصفوا بـ “مشركي” مكة؛ النظر إلى تلك الرسالة بالذات يشي بـ “مشروع” وليس مجرد وعود.
طبعاً الفرضية هنا ليست بأثر رجعي، بمعنى أن وعود محمد تحققت في نهاية المطاف، ونشأت إمبراطورية إسلامية كبرى على أنقاض الإمبراطوريتين الكبيرتين في ذلك الوقت، الفارسية والرومانية البيزنطية؛ الفرضية هنا تشير إلى صيغة كان يُعد لها بطريقة واضحة، مع بدايات الدين الجديد، بل دخلت في صلب شعائره.
الأمر هنا لا يقتصر فقط على رفع الشهادة في سبيل الله؛ الموت خلال المعركة، إلى أعلى مرتبة بعد النبوة مباشرة، بل أيضاً يصل إلى الصلوات الخمس نفسها. إذ يخطر السؤال دائما حول المغزى من تكليف المؤمنين بالصلاة خمس مرات في اليوم، وهو أمر مرهق لأي مؤمن، وبحركات صارمة محددة، مع الحض على صلاة الجماعة، بانتظاميتها وصرامة حركاتها، إن لم تكن بدورها إعداداً نفسياً وبدنياً إلى حد ما، للجماعة المنضبطة المقاتلة؟
لا يمكن القول إن محمداً قد جاء بشيء جديد على زمانه وبيئته، بالعكس، هو ما فعل إلا أن حاول إيصال دعوته الجديدة إلى ذروة معروفة تماماً لأبناء بيئته، وهو أمر أسهبنا في إيضاحه في مقدمة هذا المقال- وإن كان الوصول إلى تلك الذروة مستبعداً جداً في بداية الدعوة، بالاستناد إلى ميزان القوى. وبالتالي، فإن الوجه الحربي لـ “الدين الجديد” ما كان من الممكن إخفاؤه، وهو في كل الأحوال يشكل الوسيلة الأمثل للوصول بـ “الوعد” المحمدي إلى منتهاه.
ما حصل لاحقاً، وطيلة قرون طويلة منذ انطلاق دعوة محمد في مكة في القرن السابع الميلادي، إلى يومنا هذا، أن أية مراجعة جدية للإسلام، في أي من وجوهه المتعددة لم تحصل، ولم يكن مسموحاً بها أصلاً، وسلطات كاملة، إمبراطوريات، ممالك، مدن ممالك، إقطاعات، إمارات، سلطنات، ولاحقاً دول، يُفترض أنها “حديثة”، أقامت شرعيتها كاملة على فهم محدد أرثوذكسي رسمي صارم، يدّعي الواحدية مع أنه متعدد للحقيقة، ولكن هذا مبحث آخر، لهذا الإسلام.
معالم في الطريق لفهم تاريخنا كبشر
إذاً، فإن مسعى الخروج من تلك العسكرة، كنمط حياة مشروع، أو مفروغ منه وغير عرضة للنقاش لمن يريد القيادة، يتطلب بداية أن نعيد نظر في الأساس “الشرعي” الذي تقف عليه رؤيتنا السياسية الجمعية برمتها. وأن نقبل بأن ما مضى لا يمتلك أية راهنية فحسب، بل مرفوض بصفته مرجعاً لأية رؤية مستقبلية كانت، أو حتى ماضية، من خلال تناول ما حصل في تاريخنا بصفته مقدساً محضاً، ولا علاقة له بالحياة الدنيا، وخياراتها، وشروطها، وإكراهاتها في أي حال من الأحوال. أي بالتاريخ البشري بصفته صناعة بشرية قبل أي شيء آخر.
هذا التناول التقديسي لتاريخنا، وللأرضية التي تقف عليها رؤيتنا السياسية المعاصرة، يبلغ ذروة المعاندة مع واحد من مراجع قادتنا الجدد: سيد قطب نفسه، ومن خلال كتابه “معالم في الطريق”. حيث وصل إلى مرحلة برر فيها الغزو الإسلامي، “الفتوحات الإسلامية”، بصفته دعوة إلى التحرير! حيث رأى أن تلك الفتوحات لم تكن غزواً لأراضي الآخرين بهدف السيطرة، بل كانت وسيلة لتحرير الشعوب التي كانت تعيش تحت أنظمة حكم لا تتيح لهم فرصة اختيار الإسلام بحرية.
ووفقاً لفكر سيد قطب، فإن الإمبراطوريات القائمة آنذاك (مثل الفرس والروم) كانت تفرض قيوداً على حرية الأفراد في تبنّي الإسلام، ولذلك اعتبر أن من واجب الدولة الإسلامية إزالة تلك العقبات لتمكين الأفراد من سماع رسالة الإسلام واتخاذ القرار بأنفسهم. وهذا بالاستناد إلى جوهر رؤيته بأن الإسلام جاء لإخراج الناس من عبودية البشر إلى عبودية الله، وبالتالي اعتبر الفتوحات نوعاً من التحرير من الظلم والطغيان السياسي والديني.
هذه الفرضية، لا تزال هي الفرضية المركزية لكامل تيارات الإسلام الجهادي السلفي، الذي تنحدر منه القيادة السورية الحالية. فكيف بإمكان من لا يزال يدور في فلك أفكار كهذه، أن يقود بلداً كاملاً باتجاه عصر جديد، من دون أية مراجعة، ومن دون حتى السماح بالقيام بتلك المراجعة من آخرين، تحت طائلة التكفير؟!
وإن كان ولا بد من الحديث عن “معالم في الطريق” نحو الخروج بسوريا إلى العصر الحديث، فإن أول معلم يجب أن يُرى، حتى نطمئن أننا سلكنا ذلك الطريق فعلاً، هو الخروج من تلك المرجعية الضيقة، وإفساح المجال لرؤى ومراجعات جديدة بالظهور، والتعامل مع العسكرة ومفهوم “القائد” بالدرجة الأولى، بصفته جزءاً من تراث مضى، نفهم سياقه الكامل وقادرين على تجاوزه، في سبيل الوصول إلى الهدف الأسمى.
من صيد الوحوش إلى صيد الجن والعفاريت!
بغير هذا، سنكون قد أغلقنا الأفق، وتحول مسار الخروج باتجاه عصر جديد إلى مجرد كذبة… في كل الأحوال، كنا جميعاً في ظل الطاغية الأسد نعرف سلفاً أن تحرير فلسطين كان كذبة، وادّعينا التصديق، وكان الثمن أن حيواتنا كلها دُمرت، فهل سنعيد الكرة مرة أخرى، وندفن رؤوسنا في الرمال، ونتنازل عن حقنا بتقرير مصائرنا بأنفسنا، رادين ذلك الحق إلى “قائد” جديد، لن يلبث بدوره أن يعثر لنا على “عدو” جديد، ليبرر فقط “قيادته”، ولن يكون هذا العدو سوى أولئك الذين طالبوا بحقهم بالمراجعة والنقد بحرية؟!
المخيف أنه في المجتمعات التي لا تزال تؤمن بدور “القائد” وتنظر إلى العسكرة بصفتها نمط حياة مشروعاً، تكون في عمق وجدانها مجتمعات متأهبة، لأن هناك تهديداً ما قائماً من طرف ما. وبالتالي يصبح الهاجس هو البحث عن مصدر هذا التهديد… البحث عن عدو… وإن لم يوجد، فلا بد من اختراعه.
والمشكلة، عند الطرف المقابل، أن هؤلاء المطالبين بحق المراجعة، وفي ظل عالم ينحو يميناً بشكل مرعب، لا أحد يدعمهم، ولا توجد “مؤامرة” خلفهم، بل هم في حقيقتهم أقلية آخذة في الاضمحلال في ظل سُعار “مؤثري” السوشال ميديا وسطحيتهم، التي ألغت منصاتها الكبرى، حتى آلية المراجعة والتدقيق للتأكد من حقيقة الأخبار المتداولة عليها، مداهنة للعجوز الفاشي، العائد إلى سدة الرئاسة في أميركا. وبالتالي، فإن إعلان الحرب عليهم، أو حتى الجهاد، لن يكون مبرراً، وهم أفراد معزولون، إلا إن كانت هناك قوى خفية من الجن والعفاريت تدعمهم. وبالتالي يكسب “القائد” بهذا معركته الجديدة، ولو حتى ضد طواحين الهواء… وفي ظل وضعنا الراهن، لا أظن أن الوصول إلى هكذا صيغة مستبعد بأي حال من الأحوال…
– كاتب فلسطيني سوري
درج
——————————-
الفرق بين سيد قطب وأتباعه: نصوصه محفوظة…ومدوّناتهم إلى العدم/ علي سفر
الخميس 2025/01/30
غابت عن الواجهات الثقافية العربية كل النتاجات الأدبية ذات الطبيعة الكلاسيكية، والتي أنتجها السجناء ممن انتموا للتيارات الإسلامية والجهادية. وربما يعود هذا الأمر إلى سببين، أولهما أن الشرط الفني المرحب به في الصحف والمجلات الأدبية صار يميل، ومنذ عقود، إلى الأدب الحداثي، وإذا كان الصدام بين الكلاسيكي والحداثي يتركز بشكل كبير في الشعر كنوع فني، فإن القصيدة العمودية لم تعد حاضرة كمادة يومية، إلا إذا كان صاحبها من الشعراء المكرسين.
أما ثاني الأسباب، فلعله في توصيف السجناء بأنهم إسلاميون وجهاديون، واالذي خلق تنميطاً لصورتهم، ووضع حداً فاصلاً، ليس بين أفكارهم وطرق تعبيرهم عن أنفسهم وبين المجتمع فحسب، بل حتى بين النتاج الإبداعي الذي قدموه وإمكانية نشره وإطلاع الجمهور عليه.
كان سيد قطب، كشخصية مُلهمة للجماعات الجهادية، صاحب شأوٍ كبير في الوسط الأدبي المصري، وقد أتى إلى واجهة السياق السياسي من الفضاء الثقافي والحالة الإبداعية، بوصفه ناقداً وكاتباً وشاعراً، ولهذا لم يُنسَ نتاجه، بل بقي محفوظاً رغم عدم تسويقه والسعي إلى نشره بين جمهور القراء.
لكن الآلاف من الأشخاص، الذي اتبعوا أو مالوا إلى أفكاره، وانتهى بهم المطاف إلى السجون العربية، لم يكونوا مجرد أرقام تُذكر عند تحليل واقع وراهن الحركات الإسلامية والجهادية، بل كانوا أشخاصاً من لحم ودم، وأصحاب أفكار وطموحات، ونتاجات إبداعية أيضاً.
لكن الفرق بينهم وبين الشخصية المُلهمة، أن نتاجها بقي حاضراً، بينما ذهب هؤلاء وكل ما يمثلونه إلى العدم! وذلك بعدما قضت عليهم سنوات السجن، والأحكام الصادرة بحقهم وجعلتهم مُدانين، إذ تتكفل إدانتهم بسوقهم إلى حبال المشانق.
في سوريا، يمكن العثور على تمثيل حقيقي لما نتحدث عنه هنا. فالنظام البعثي الشمولي البائد، جعل الحياة السورية برمتها قرينة لسجونه، فصار السوريون يتندرون بألم على حيواتهم بين السجن الكبير، وهو هنا سوريا كلها، وبين السجن الصغير الذي تمثله المعتقلات الدموية.
غير أن النتاج الأدبي الذي ناضل الأدباء الذين سجنهم النظام كي يُخرجوه من العتمة، وصار نوعاً أدبياً مكرساً في سوريا باسم “أدب السجون”، لم يشمل وحتى وقت قريب، النتاجات الأدبية للسجناء الذي تمت إدانتهم بالانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين، وكذلك تنظيم “الطليعة المقاتلة” الذي برز من صفوفها ليواجه سلطة حافظ الأسد بأعمال عنفية، كتفجير مقرات حزب البعث والمخابرات وتصفية رجال الأمن والمسؤولين السوريين، وصولاً إلى التمرد الكبير في حماه 1982، والذي أدى إلى قيام الأسدَين -حافظ ورفعت- بارتكاب مجزرة كبرى بحق سكان المدينة، لا يُعلم حتى اللحظة، عدد من سقطوا فيها بشكل دقيق، بينما تقدر بعض المصادر أنهم يتجاوزون الثلاثين ألفاً.
بعد سنوات طوال من التجربة، ووسط الواقع الحالي، يحاول أحد المعتقلين الذين عاشوا لحظاتها، أن يقدم نتاجات أدبية مجهولة، كتبها أصحابها في معتقل تدمر الصحراوي سيء الصيت، ويمكن لها أن تحوز بعض الأهمية، وأن تلفت الانتباه إلى ما يجب ألا يبقى مجهولاً أو غير معلوم به.
هذا ما يفعله د.أسامة أورفلي، في كتابه الصادر قبل أيام عن دار موزاييك للدراسات والنشر، بعنوان “أشعار من سجن تدمر…كتبت بالدم”. فيفرد في كتابه عشرات القصائد الموزونة، المكتوبة وفق نظام العمود، سطرها سجناء في معتقل تدمر، بعضهم نجا من الإعدام، وبعضهم قيّد مصيره قتيلاً على أيدي جلاوزة الأسد.
عاش أورفلي التجربة مع أخيه الذي أُعدم هناك، وكتب في تقديمه للكتاب تحت عنوان “الأدب التدمري”: “هذه القصائدُ كتبناها بأناملنا النازفة على ألواح الهواء المخنوق، ربما لننفـــِّــثَ عن شيءٍ من آلامنا.. صدرت من أنفاسٍ مجروحة مقهورة.. كتبناها لنواسيَ أنفسَـنا وليس للنشر؛ لأننا في الحقيقة لم نكن ننتظرُ أن تبصرَ هي أو نحنُ الضوء، ليس فيها رياء ولا شيء من غايات الدنيا.. قصائدُ كتبت بعيداً عن الأضواء، أصحابُها غُـيِّـبوا وانقطعت حياتُهم تماماً عن دنيا البشر”.
وعن كيفية حصوله على القصائد، وتمكنه من جمعها يقول: “كنتُ ألتقِطُ بشراهةٍ وأحفظُ كلَّ ما أسمعه من الشعر المتداوَلِ بين المهاجع، حتى لو لم أعرف مؤلفَ القصيدة، ولا يهمُّني أن أعرفَ مؤلِّـفَها، إذ يكفيني محتواها ومعناها ولطالما كان يهتزُّ كياني لسماعِها. بعضُ القصائدِ ما زالت مجهولةَ المؤلفِ حتى الآن، وكذلك – وللأسف – نسيتُ الكثير… وطبعاً هناك الكثيرُ مما لم يَصِلـْـني أساساً، وأنا هنا في صدد هذا العمل الأدبي إنما أحمل رسالةً أنقلُ فيها الحالةَ الإنسانيةَ التي عشناها”.
بالتأكيد لا يتوقع أحد، ممن يعرفون تاريخ السجون في سوريا، أن يحظى سجين محسوب على “الإخوان”، بفرصة الحصول على قلم وورق، في المهاجع الأشد تعرضاً لدموية السجانين الأسديين. وكذلك فإن انسداد الأفق وسط الجدران الأربعة لدى معتقلين محكومين بالموت، لن يترك لهؤلاء فرصة أن يكتبوا الشعر من أجل عرضه على الآخرين، بعيداً من تدمر. لكن حصل أن أسامة أورفلي، تمكن من إنقاذ مادة كتابه، وجاء ليعرضها على القراء، ليس من أجل أن يثبت المستوى الإبداعي لأصحابها، بل من أجل ألا ينسى السوريون، أنه وفي أحلك الظروف، كان البعض يحاول أن يقول شعراً من نوع ما، يعبر من خلالها عن مأساته، فيذهب الشخص إلى المجهول والنسيان، وتبقى قصيدته التي قالها، ليترك الأثر، كما في هذا النص، الذي يقول عنه مُعد الكتاب، إنه قصيدة كانت محفوظة لدى غالبية السجناء، لكن صاحبها بقي مجهولاً:
كــــــــــــــــــم ذا التجأنا وليلُ الظلمِ يُرهبُنـــا
كم ذا دعـــــــــــــــــــــــــــونا من الأعماقِ راجينا
كــــــــــــم ذا استعذنا برب الناس والفلق
كــــــــــــــــــم ذا تلونا بقصد اللطفِ ياسينا
كــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــم من ليـــــــــــــــــــالٍ والآلام تُؤْرِقنـــــــــا
قيدَ الجراحــــــــــــــــــــــــــــاتِ إنْ كادت لتردينـــــا
عرشُ الطغاة وحكم الظلم مُنسحِقٌ
أبشـــــــــــــــــــــــــــــــــــــر أخيَّ فإن اَلله راعينـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا
أبشـــــــــــــــــــــــــــــــــــر أخيَّ فإن الســــــجنَ ملحمةٌ
مثلُ الأســـــــــــــــــــــــــــاطير تُروى عبر ماضينا
أنت الإلهُ وربُ الكــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــون خالقُنـــــــــا
نحـــــــــــــــــــــــــــــن العبيــــــدُ… فيا رباه تحمينــــــــا
واختِم إلهي بكسرِ البـــــــــــــــــــــــــــاب محنتَنا
وانظر إلــــــــــــــــــهي بعين اللطـــــــــــــف باكينــــــا
القصائد التي يشتمل عليها الكتاب، لا تدلّ على تناول أدبي صرف، بل هي توثيق عن شعر كُتِب بموازاة طقوس الموت في المعتقل، حيث تمسي القصيدة معنونة بصاحبها “المجاهد” وبلحظة فظيعة، حين يُساق إلى حبل المشنقة. إنها تكثيف لحالة رعب عاشها أولئك الذين ينقل عنهم المعدّ/السجين السابق، التفاصيل. فهو يوثق الأسماء التي يعرفها، وتواريخ مقتلهم، وكذلك اللحظات الشعورية المرافقة للنهايات. ويقول في قصيدة مكرسة لهذا نظمها بنفسه:
ساعاتُ رُعبٍ قاتـلةْ
والموتُ يغزو القافــلةْ
الجـمرُ في عـيــــــــــــــونــــــــهِ
والنــــــــــارُ تـغـلي داخــــلـــــهْ
يــخــتـــــــــــــــــار منها راكبـــــاً
فـمـــــــــــــــــــــــــــن تــَــراهُ نــائـــِلـَــــــهْ
رعـــــــــودُ ليـــــــلٍ قاصـفةْ
وريحُ ســــــــــوء عٍــاصفةْ
ومــــــــــــــــــــــــــــــوجــــــــةٌ شــريــرةٌ
جـــــــــــــــــامـحـــــةٌ وجـــــــارفــــةْ
وهــــــــــــــــــــــــــــــــــــامــةٌ مــرعـــبــــةٌ
عـلى الـخــــراب حالـِفةْ
كــــــــــلُّ يوصِّي صاحبَهْ
وقــَـــد أعـــــَـــــدَّ قـــــــــــــــــــــــــاربَـه
هـــــــــــــــــــــــــــــذا صبــاحٌ ربمـا
غــداً يـــكــــــــــــــون غائـــِــــــبـَـه
في كهفه ما أخشعَـهْ
وقد أحــسَّ مصرعَـــــهْ
مــــــــــــــــــــــــــــــــرتديـــاً كَــفـَــنـَـهُ
ثـــــــــــوبـــاً قديـــمــــاً رقــــَّــعــَـــهْ
حيٌّ بشَـــــــــــطْر جسمِهِ
وشــــــطــــرَهُ قــــــــد ودَّعَـــــهْ
في الحيز الذي يفصح عنه الكتاب، يحكي المؤلف سردية شبه مجهولة، يدوّن ما يمكنه أن يستحضره منها في سبيل ألا تُنسى، وألا يوارى ذِكر أصحابها بعدما تسببت المحاكم العرفية في إحالتهم إلى الموت. لهذا، فإن الخطوط التي تستغرق القارئ، تجعله يعود إلى التاريخ، وإلى ذاكرة السوريين عن سجن تدمر الرهيب، وعما صنعه الأسديون طيلة عقود هناك.
الكتاب: أشعار من سجن تدمر كتبت بالدم
جمع وإعداد: الدكتور أسامة أورفلي
179 صفحة من القطع المتوسط
دار موزاييك للدراسات والنشر- إسطنبول- تركيا
اصدار 2025
المدن
———————————
أسئلة لابدَّ منها!/ بسام يوسف
2025.01.30
ربما نسي السوريون في غمرة أفراحهم بسقوط نظام “الأسد” أن ينتبهوا لما بعده، ولم يعد للسؤال حول كيفية سقوطه أي حضور اليوم، فالمهم أنه سقط، وهو الذي أذاقهم القهر لعقود طويلة، وارتكب مئات الجرائم والمجازر بحقهم، وحكمهم بالحديد والنار، أما كيف تم الأمر، ولمصلحة من، ولماذا تأخر كل هذه السنوات، وماهي أهداف من أسقطوه، وإلى أين يريدون أن يذهبوا بسوريا فهذه الأسئلة كلها بلا أهمية بالنسبة لعدد كبير من السوريين، إذ يكفي أنه سقط، وهيا لنحتفل!
دائما يغني السوريون أينما تواجدوا الأغنية التي أصبحت كأنها النشيد الوطني لسوريا، والتي تدعو السوريون لرفع رؤوسهم فهم أحرار أخيراً، وتفصح وجوههم الفرحة وأصواتهم المرتفعة عن مدى حاجتهم العميقة للإحساس بالحرية، ويصرخ إعلاميون بهياج مفتعل ومبالغ فيه وهم يواكبون زخم الانفعالات الطاغية في الشارع السوري، ويدبكون ويرقصون .. في سوريا فرح لا حدود له، لكن في سوريا ما هو شديد المرارة، وما هو فاجع، لكنه يمر بصمت، وهذا الضجيج العالي يقلل كثيرا من فسحات التفكير ويجعل من صوت العقل المشكك تهمة وربما خيانة.
ينشغل السوريون كثيرا بتفاصيل “قائدهم” الجديد: “إنه يتحدث بهدوء”، “لقد خلع لباس المجاهد ولبس بدلة عصرية”، “إنه قائد محنك””، يا إلهي لقد التقط صورة مع امرأة غير محجبة”، هكذا وبسرعة تتم صياغة أسطورة الرجل الذي أوكلت له مهمة إسقاط الهيكل الأخير بعد أن أفرغوه من كل ما فيه، وبعد أن صدرت الأوامر لمن كانوا يدافعون عنه بعدم إطلاق أي طلقة، هكذا وبمسرحية مخابراتية اشتركت فيها أطراف كثيرة أصبح زعيم إمارة إسلامية في منطقة صغيرة من سوريا فاتحاً عظيماً لسوريا، ومحرراً وقائداً لها.
لا يهتم السوريون الآن كثيراً لما هو أعمق من المظهر الجديد، ويتناسون بسرعة غريبة كل هواجسهم التي كانت بالأمس، والأخطر من هذا أنهم يقمعون من يقول اليوم ما كانوا يقولوه بالأمس. لكن ألا يحق للمتوجسين الذين لا يحسنون الظن بتفاصيل ما حدث أن يطرحوا أسئلة لا يمكن تجاهلها، وتتضح أهميتها يوماً بعد يوم، ويثير السكوت عنها قلقاً بالغاً بأن ثمة ما هو مخفي ومخيف، وأن هناك ما يحضّر لسوريا المدمّرة من جهة، والمنشغلة الآن بفرح إسقاط الطاغية وعصابته؟؟
أكثر ما يثير حنق السورين “المنتصرين” اليوم هو التشكيك بالرواية التي يتم تداولها كما لو أنها مقدس لا يجوز التشكيك فيه، فليس من حق أحد أن لا يعجب “بحصافة” “أحمد الشرع”، والسلوك المبهر للسياسي “المخضرم” “الشيباني” أو حتى لوزير العدل الذي لم يدرس القانون يوماً، أو..أو.. ومن يفعل ذلك فهو بالتأكيد واحد من ثلاثة أصناف أساسية: فإما أنه “طائفي”، أو أنه “علماني ملحد”، أو أنه من “فلول النظام”.
قد يكون للوعود الكبيرة التي انطلقت بعد سقوط عصابة “آل الأسد” ورحيلها عن سوريا دور كبير في حالة “الغفلة” التي يعيشها السوريون اليوم، وهم المحرومون منذ سنوات كثيرة من مقومات الحد الأدنى للحياة، والتشكيك بعدم القدرة على تحقق هذه الوعود ممنوعاً ويصنف أيضاً ضمن الأحاديث المتآمرة التي تتعمد وضع العصي في العجلات، فالوقت لا يزال باكراً، والعقوبات لم ترفع إلا منذ أيام وهو رفع مؤقت ومشروط، والبلاد منهارة، ودورة الاقتصاد متوقفة.. إلخ.
لكن الأسئلة ملحّة، والقول أن الآن ليس وقتها غير صحيح، والسكوت عنها ليس في مصلحة السوريين، وبالتالي فإن طرحها يشكل ضرورة لا غنى عنها، وهي بالتالي مسؤولية وطنية يجب أن يتحملها كل الفاعلين في الشأن العام، سياسيون، ومثقفون، واقتصاديون، ووجهاء اجتماعيون، ورجال دين.. إلخ.
أول هذه الأسئلة وأكثرها إلحاحاً هو ما يتعلق بالسلم الأهلي، فهل أصبحت سوريا آمنة بما يكفي لكي يتم الانتقال إلى الخطوات الأولى لتعافي سوريا، أو لإخراجها من غرفة العناية المشددة، وإذا لم تكن كذلك، فهل هي ذاهبة بهذا الاتجاه، أم أن العكس هو ما يحصل، وأن عوامل القلق والخوف تتعزز، وتزداد فرص الانفلات الأمني. بصياغة أخرى هل يتم اليوم تحصين سوريا وزيادة قدرتها على منع حدوث أي انفلات أمني، وهل تصحّ الرواية حول حصر العناصر الباعثة على القلق بما يسمى “فلول النظام”، أو القوى العسكرية التي لم تنضوِ تحت راية السلطة الجديدة، أم أنه من الضروري القول بأننا أمام أخطار أخرى، فنحن في قلب منطقة لا يزال دخان معاركها المدمرة ينبعث وبقوة، ولاتزال جيوش كثيرة في المنطقة تضع يدها على الزناد، ومصالح الآخرين الفاعلين في سوريا لاتزال متصارعة ؟؟!!
ثاني هذه الأسئلة الملحّة أيضاً هو المتعلق بما يخطط له من أسقطوا النظام السابق فعلاً، أي من رتبوا كل المقدمات الضرورية لإسقاطه، واختاروا الأداة السورية لتنفيذ ما اتفقوا عليه. وبالتالي هل يمكن لمن يدير سوريا اليوم أن يدافع عن السوريين ومصالحهم في حال تناقضت هذه المصالح مع مصالح من خططوا لإنهاء حقبة الأسد، وهل يحق للسلطة القائمة أن تستجيب لرغبات ومصالح أطراف خارجية وتتصرف بما هو ليس من صلاحياتها، مثل ترسيم حدود، أو خصخصة القطاع العام، أو تحديد بنية الجيش، أو بنية القضاء.. الخ.
ثالث هذه الأسئلة الملحة أيضا يتعلق بقدرة الإدارة الجديدة على القيام فعلاً بما تحتاجه سوريا كمقدمة حتميّة لإطلاق عملية بناء الدولة الجديدة، مثل تشكيل حكومة وحدة وطنية انتقالية، ومثل الدعوة لمؤتمر وطني حقيقي يمثل السوريين فعلاً، وهل تأجيل هذه القضايا بالغة الأهمية متعلق بالظروف الموضوعية، أم أن بنية السلطة القائمة، وطبيعة تحالفاتها تجعل منها عاجزة عن القيام بها؟.
هناك أسئلة كثيرة أخرى لا يمكن تأجيلها، والإجابة عليها سوف تحدّد معالم سوريا القادمة، والجواب عليها إن لم يكن بدلالة مصلحة السوريين جميعاً، وبدلالة دولة المواطنة الحقيقية، وليس بدلالة البقاء في السلطة أو بدلالة مصالح الأطراف الخارجية الفاعلة، فإن سوريا ذاهبة إلى صياغة تجعلها دولة هشّة محكومة بواجهات محلية لمصالح خارجية، وقابلة للانهيار والتقسيم.
صحيح أن أسوأ نظام في العالم قد أخرج من سوريا، لكن هل يكفي هذا لكي يطمئن السوريون أن الغد لن يحمل لهم ما قد لا يختلف كثيراً عن أمسهم، سيما وأن ما يريده من يرسم مصير سوريا في الكواليس قد لا يهمه أبداً ماذا يريد السوريون، ولماذا قاموا بثورتهم!!
تلفزيون سوريا
———————————
النفوذ الروسي في أفريقيا بعد سقوط الأسد/ عبد الوهاب المرسي
من المرجح أن تؤثر الانتكاسة الجيوستراتيجية لروسيا في شرق المتوسط تأثيرا سلبيا عميقا على نفوذها في أفريقيا.
30/1/2025
في ليلة الثلاثاء 21 يناير/كانون الثاني، رَسَت السفينتان الروسيتان “إسبرطة” و”إسبرطة 2″ في ميناء مدينة طرطوس السورية، الذي طالما تحرَّكت فيه القطع البحرية الروسية دون عوائق طيلة العقد الماضي الذي شهد التدخُّل العسكري الروسي في سوريا.
كانت السفينتان قد بقيتا واقفتيْن قُبالة السواحل السورية في انتظار الإذن بالرسو على مدار أيام، إذ يبدو أن السلطات الجديدة تعنَّتت في إصدار الإذن بينما جرت مباحثات طويلة بين دمشق وموسكو. ولكن في ليلة الثلاثاء، رصدت مواقع الملاحة البحرية تحرُّك السفينتيْن بهدوء نحو الميناء، فيما بدا أنه إشارة إلى تكلُّل المباحثات بالنجاح.
لا يبدو واضحا ما إن كان الرسو جزءا من تجدُّد التعاون بين دمشق وموسكو بعد تولِّي السلطات السورية الجديدة زمام الأمور، أم أنه جزء من تجهيزات روسية للانسحاب النهائي من طرطوس، ولكن الكثير من المحللين يُرجِّحون السيناريو الثاني.
إذ انتشرت أنباء بأن الإدارة السورية الجديدة في دمشق تنوي بالفعل إلغاء الاتفاقات البحرية مع موسكو، التي سمحت لها باستخدام ميناء طرطوس في السابق، وأن السفينتين الروسيتين لم تأتيا إلا لتفريغ الميناء من القطع العسكرية الروسية التي تكدَّست هناك منذ سقوط نظام الأسد، بانتظار الخروج النهائي من سوريا، حليف موسكو الوثيق طيلة نصف قرن.
موسكو-دمشق: هل يُغلق الطريق؟
في أعقاب عملية “ردع العدوان” التي شنَّتها المعارضة السورية في نوفمبر/تشرين الثاني 2024 وما تبعها من سقوط سريع للنظام السابق، تكون موسكو قد تلقَّت ضربة كبرى في أهم نقاط نفوذها خارج حدود الاتحاد السوفياتي السابق، حيث كانت القوات الروسية تنتشر على نطاق واسع في مناطق مختلفة من سوريا قبل سقوط الأسد، أهمها في القاعدة البحرية بمدينة طرطوس على الساحل السوري، وقاعدة حميميم الجوية في محافظة اللاذقية.
ومع أن موسكو لا تزال ترسل برسائل إيجابية إلى الإدارة السورية الجديدة، وتسعى لبناء علاقات جيدة معها، لكن صور الأقمار الصناعية التي نشرتها هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) أظهرت أن روسيا سحبت بالفعل العديد من قطعها البحرية الراسية سابقا في قاعدة طرطوس، كما قالت الاستخبارات الأوكرانية إن روسيا تخطط للخروج بالكامل من طرطوس بحلول نهاية فبراير/شباط المقبل.
ويبدو أن إدارة بوتين لا تراهن كثيرا على إمكانية تحسين علاقتها مع السلطة الجديدة في سوريا إلى حدٍّ يسمح لها بإبقاء قواتها في سوريا بكامل عتادها، فضلا عن المخاطر العالية التي باتت تكتنف البيئة الأمنية هناك. كما يتوقع كثيرون أن تكون السلطة الجديدة أكثر حرصا على تحسين علاقتها بالغرب بغية رفع العقوبات المفروضة على سوريا في السابق، وزيادة فرص تحسُّن الاقتصاد.
أما روسيا التي تعاني من وطأة اقتصاد الحرب منذ دخولها أوكرانيا في فبراير/شباط 2022، فليس لديها الكثير مما يمكن أن تعطيه لسوريا في الوقت الحالي، ومع ذلك فإن المآلات النهائية لمباحثات موسكو مع السلطة الجديدة في دمشق لا يمكن توقُّع نتائجها الآن بشكل حاسم.
في كل الأحوال، من المرجح أن تؤثر هذه الانتكاسة الجيوستراتيجية لروسيا في شرق المتوسط تأثيرا سلبيا عميقا على نفوذها في أفريقيا.
فقد قال نيكولاي سوخوف، الخبير في شؤون الشرق الأوسط بمعهد الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية (مؤسسة بحثية مقرها موسكو)، إن سوريا “نقطة انطلاق إلى أفريقيا” في مقال نُشر في أغسطس/آب 2024، وحذَّر من أن روسيا قد تكافح بدون نفوذها في سوريا من أجل تنفيذ رحلات جوية مباشرة منتظمة إلى مسارح عملياتها العسكرية الأفريقية.
ويبدو أن روسيا بدأت فعليا رحلة البحث عن بدائل تعوض لها القيمة اللوجستية التي كانت تقدمها قواعدها في سوريا. فما تلك البدائل المحتملة؟ وما حدود ما يمكن أن تقدمه لروسيا؟ وقبل ذلك؛ ما خريطة المصالح الروسية في أفريقيا ونطاق نفوذها في القارة؟
طموحات قديمة.. وواقع معقد
لم تكن أفريقيا يوما غائبة عن أذهان القادة والمنظّرين الإستراتيجيين في موسكو، فمنذ انتصار السوفيات في الحرب العالمية الثانية، الذي تزامن مع تراجع هيمنة القوى الاستعمارية الأوروبية وتصاعد النزعات الوطنية والتحررية في شتى أنحاء أفريقيا، عمد الاتحاد السوفياتي إلى بناء علاقات وثيقة مع حركات التحرر الوطني والقادة الجدد للدول الأفريقية حديثة الاستقلال. وقد انجذبت العديد من الدول الأفريقية في ذلك الحين إلى الأيديولوجيا الماركسية باعتبارها نقيضا للإمبريالية الغربية.
في مراحل مختلفة من خمسينيات وستينيات القرن الماضي، كان لدى الاتحاد السوفياتي قوات بحرية في الصومال وإثيوبيا ومصر وليبيا وتونس وغينيا، بالإضافة إلى عدد من المطارات العسكرية الكبيرة، كما تمركزت مجموعات من الخبراء العسكريين السوفيات في الجزائر وأنغولا ومصر وموزمبيق والصومال وإثيوبيا.
ولكن منذ الثمانينيات، ونتيجة تراجع الاقتصاد الداخلي السوفياتي من جهة، وتحسُّن العلاقات مع الغرب من جهة أخرى، تراجع الاهتمام السوفياتي بأفريقيا.
وبعد تفكك الاتحاد في التسعينيات، افتقرت روسيا إلى الموارد والإرادة اللازمة لمواصلة لعب دورها بوصفها قوة عظمى عالمية، فأغلقت العديد من سفاراتها وقنصلياتها ومراكزها الثقافية في أفريقيا، بحسب تقرير صادر عن البرلمان الأوروبي عام 2019.
ومنذ بداية القرن الحادي والعشرين، حدث تحوُّل هائل في الإستراتيجية الروسية تجاه أفريقيا بالتزامن مع صعود الرئيس فلاديمير بوتين للحكم عام 2000، حيث تبنَّى الرئيس الجديد سياسة خارجية أكثر حزما تجاه التنافس الجيوسياسي مع الغرب، بما في ذلك إحياء العلاقات التاريخية مع أفريقيا، إذ يعتقد بوتين أن روسيا تعرضت للغُبن في تسويات الحرب الباردة، ولم تحصل على ما يكافئ جهودها وتاريخها في القارة الأفريقية، في حين بقيت القوى الاستعمارية القديمة تحظى بالنفوذ هناك.
كانت جولة الرئيس الروسي السابق دميتري مِيدفيديف عام 2009 في 4 دول أفريقية بمنزلة نقطة فاصلة في مسار عودة اهتمام موسكو بالقارة. ومنذ ذلك الحين، استخدمت روسيا حزمة من الأدوات العسكرية والأمنية والاقتصادية لإعادة بناء نفوذها تدريجيا.
ورغم أن روسيا الحديثة، على العكس من الاتحاد السوفياتي، لا تمتلك قدرات تجعلها ندا للقوى الكبرى مثل الولايات المتحدة والصين، فإنها استغلت بمهارة العديد من الفرص بشكل مَكَّنها من تحقيق حضور فعّال في كثير من دول القارة، وتفعيل رؤى جيوستراتيجية جديدة دفعتها للإبحار نحو أفريقيا، ومواجهة القيود التي تواجه تحقيق أهدافها في القارة.
رحلة استعادة المكانة
يقول كثير من المنظرين في موسكو إن جانبا من اختلال ميزان الردع الروسي تجاه الغرب يرجع إلى الطريقة المجحفة التي جرت بها تسويات نهاية الحرب الباردة، حيث أظهرت وثائق رُفعت عنها السرية من الأرشيف القومي الأميركي أن الرئيس السوفياتي السابق، ميخائيل غورباتشوف، كان قد تلقى ضمانات أمنية شفهية من الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الأب ووزير خارجيته جيمس بيكر مفادها أن حلف شمال الأطلسي (الناتو) لن يتوسع باتجاه الشرق، وذلك مقابل موافقة روسيا على الوحدة بين ألمانيا الشرقية والغربية.
بيد أن غورباتشوف لم يهتم بطلب تدوين هذه الوعود في وثيقة مكتوبة موقَّع عليها، كي تصبح ملزمة لأطرافها في المستقبل. وقد بدت عواقب هذه التسويات الهشة حين أعلن الرئيس الأميركي جورج بوش الابن في زيارة إلى كييف عام 2008، قبل أيام من قمة بوخارست لدول الناتو، عن دعمه المطلق لمنح أوكرانيا وجورجيا خطة عمل العضوية في الحلف، التي تُعد الخطوة التمهيدية للعضوية الكاملة.
ويبدو أن بوتين أدرك حينها أن التنافس الجيوسياسي مع الغرب قد يتجه نحو مواجهة حتمية في المستقبل، كما أظهرت التقديرات الروسية الإستراتيجية أن ثمة نقاط ضعف شديدة الخطورة تكتنف قدرات موسكو، ويتمثل أهمها في اختلال توازن القوى البحرية بين روسيا وقواعد الناتو في البحر الأسود وخاصرته الرخوة في البحر المتوسط، وفي حال نشوب المواجهة بين الطرفين فإن بإمكان الناتو عزل روسيا عن العالم وعن خطوط التجارة البحرية التي تعتمد عليها موسكو.
من هُنا تطورت الإستراتيجية الروسية نحو تعزيز حضورها البحري في البحر الأسود والمتوسط وسواحل أفريقيا، وهو هدف بات حيويا في نظرها لردع محاولات الناتو تهديد أمنها في شرق أوروبا من جهة، وتوفير مدخلات اقتصادية مهمة تزيد بشكل فعال من محصلة قدراتها الجيوسياسية. وقد بدأت رحلة بوتين في البحث عن قاعدة عسكرية بحرية من ليبيا، حيث وعد القذافي موسكو عام 2008 بإمكانية إقامة قاعدة بحرية في مدينة بنغازي، لكن المشروع لم يكتمل رغم ما قدَّمته موسكو من إغراءات اقتصادية لتحسين علاقتها بالقذافي، من بينها إسقاط ديون ليبيا البالغة 5 مليارات دولار.
وفي عام 2013، سعت روسيا للاتفاق مع جيبوتي على تأجير قاعدة عسكرية بحرية، لكن الولايات المتحدة مارست ضغوطا على الأخيرة منعتها من إتمام الاتفاق، فاتجهت روسيا لطلب إنشاء القاعدة في 6 دول أفريقية أخرى هي السودان ومصر وأفريقيا الوسطى وإريتريا ومدغشقر وموزمبيق.
وبعد أربعة أعوام، وقَّعت روسيا اتفاقية مع السودان لإنشاء قاعدة إستراتيجية في بورتسودان على البحر الأحمر، لكن سقوط نظام عمر البشير عام 2019، مع تعقُّد الأوضاع السياسية والأمنية في البلاد وتعثر عملية الانتقال الديمقراطي، أدى إلى وقف تنفيذ المشروع.
ولا تمتلك روسيا حتى الآن أي قاعدة عسكرية في أفريقيا بصورة رسمية، ولكن بحسب الوكالة السويدية لأبحاث الدفاع (تابعة للحكومة السويدية)، فإن روسيا لديها اتفاقيات تعاون عسكري مع 36 دولة أفريقية، وُقِّعت 6 منها عامي 2021 و2022؛ مع إثيوبيا والجابون وموريتانيا ونيجيريا عام 2021، ومع مدغشقر والكاميرون عام 2022.
تتراوح تلك الاتفاقيات بين اتفاقيات ذات بنود عمومية وبروتوكولية، واتفاقيات أخرى أكثر تحديدا تتضمن بنودا مثل توريد الأسلحة، وحقوق الوصول إلى الموانئ البحرية والقواعد الجوية، وتدريب الضباط الأفارقة في الأكاديميات العسكرية الروسية، واستضافة المستشارين العسكريين الروس.
وإضافة إلى ذلك، تكشف الأرقام عن أن روسيا باتت هي المورد الرئيسي للأسلحة في أفريقيا، وأن أكثر بلديْن شراءً للسلاح الروسي في القارة هما الجزائر ومصر، اللتان اشترتا أسلحة روسية بقيمة 8 مليارات دولار و3.1 مليارات دولار -على الترتيب- في الفترة بين عامي 2009-2018.
في المجمل، قدَّمت روسيا نحو 44% من واردات القارة العسكرية بين عامي 2017-2021 وفقا لقاعدة بيانات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، مع اتجاه تصاعدي واضح من 1.1 مليار دولار من الصادرات الروسية عام 2009 إلى ضِعْف هذا المبلغ بعد 10 سنوات (2.1 مليار دولار).
هناك العديد من العوامل التي تمنح روسيا ميزة تنافسية بوصفها موردا للأسلحة، فهي غالبا ما تكون رخيصة نسبيا، ورغم تفوُّق بعض الأسلحة الأميركية عليها تكنولوجيًّا، يُعد السعر المناسب ميزة مهمة للدول الأفريقية التي يعاني معظمها من الصعوبات المالية. وبخلاف الفوائد الاقتصادية لروسيا، تساعد مبيعات الأسلحة في بناء النفوذ الجيوسياسي في البلدان المشترية، ففي بعض الحالات، تكون الأسلحة جزءا من صفقة أكبر.
على سبيل المثال، قال تقرير للبرلمان الأوروبي إن زيمبابوي منحت روسيا امتيازات تعدين البلاتين الرخيصة في مقابل توريد طائرات مروحية، كما ضمنت روسيا وصولا مربحا إلى الموارد المعدنية في جمهورية أفريقيا الوسطى مقابل شحنات من الأسلحة.
بدائل غير رسمية
في مسار موازٍ للعلاقات الرسمية الروسية، وجَّهت روسيا العديد من الشركات الأمنية والعسكرية المرتبطة بها لإنشاء تعاقدات مع الحكومات الأفريقية تتضمن تزويدها بالخدمات العسكرية. ووفقا لمؤسسة “راند”، أجرت شركات عسكرية خاصة مرتبطة بروسيا عمليات في 16 دولة أفريقية في الفترة 2005-2020.
وكان حضورها أكثر فعالية في جمهورية أفريقيا الوسطى، التي نُشِر عنها تقرير موسَّع العام الماضي، والسودان وجنوب السودان وليبيا والجابون ومدغشقر. وقد قامت بكل هذه العمليات العسكرية شركة “فاغنر” وشركات أخرى تعمل تحت مظلتها.
بعد وفاة قائد شركة “فاغنر”، يفغيني بريغوجين، في أغسطس/آب 2023، عقب عملية تمرد على الكرملين، جرت إعادة هيكلة للشركة وتسميتها بـ”الفيلق الأفريقي” لتكون تابعة مباشرة لوزارة الدفاع الروسية تحت إشراف نائب وزير الدفاع. وتتوزع قوات الفيلق حاليا، بشكل معلن، بين خمس دول أفريقية هي مالي، وبوركينا فاسو، والنيجر، وجمهورية أفريقيا الوسطى، وليبيا.
نفوذ على أسس هشة
بعد قرابة عقدين من العمل الحثيث واستغلال الفرص، أصبحت أفريقيا أحد الأركان المهمة لإستراتيجية روسيا العالمية. وبحسب مؤسسة “جيوبوليتيكال فيوتشرز”، تتربح موسكو نحو مليار دولار سنويا نظير عملياتها في جمهورية أفريقيا الوسطى وحدها، التي تشمل التجارة غير المشروعة في الذهب والماس والأخشاب الصلبة الثمينة.
كما تُعَد إدارة روسيا لحقول النفط في ليبيا والسودان مصدرا مهما للعملة الأجنبية، وتساعد موسكو في التحايل على العقوبات الغربية. وقد تُرجِم هذا الحضور إلى نفوذ سياسي بين الدول الأفريقية، التي بدت مترددة إلى حدٍّ كبير في إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا رغم الضغوط الغربية، بل وأيَّد بعضها الرواية الروسية، التي تقول إن موسكو إنما تواجه مساعي الهيمنة الغربية في محيطها الجيوسياسي.
بحسب المؤسسة نفسها، أصبحت أفريقيا (بالإضافة إلى آسيا الوسطى) مصدرا رئيسيا للعمالة في روسيا، التي تواجه فجوة متزايدة في أعداد الأيدي العمالة المتاحة في البلاد. كما جُنِّد المهاجرون الأفارقة للعمل في مصانع الطائرات المُسيَّرة والذخيرة الروسية، التي تُشكِّل أهمية حيوية لجهود موسكو الحربية.
وأخيرا، أصبحت منطقة الساحل ووسط أفريقيا وسيلة يمكن من خلالها لروسيا تهديد الجناح الجنوبي لحلف شمال الأطلسي، علاوة على أن القوات العسكرية الروسية والصواريخ المنتشرة في ليبيا تُعَد أداة ذات قيمة عالية لممارسة الضغوط على الحكومات الأوروبية.
يظهر مدى التباين في نمط سياسات روسيا تجاه أفريقيا بالمقارنة مع الاتحاد السوفياتي، إذ تسير موسكو وفق إستراتيجية “انتهازية” إلى حدٍّ كبير من أجل اقتناص الفرص التي تدر عائدا أمنيا وماليا سريعا، مما يجعلها تكتفي أحيانا بوجود غير رسمي وغير مقنن وغير مستدام بطبيعة الحال. وقد يعود جزء كبير من ذلك إلى القيود التي تفرضها محدودية الموارد الروسية مقارنة بالاتحاد السوفياتي.
إبان سنوات الحرب الباردة، حين أبحر الاتحاد السوفياتي تجاه أفريقيا، فإنه نظر إلى أفريقيا بوصفها ساحة مهمة في الصراع الأيديولوجي العالمي مع الغرب. ونتج عن ذلك توجيه مئات من المستشارين السوفييت إلى دول أفريقيا، لتعميق علاقاتها مع الاتحاد وتجذير التوجهات الاشتراكية لدى النخب السياسية والعسكرية في الدول حديثة الاستقلال.
وقد اعتُبرت المنح التعليمية أداة مهمة لبسط نفوذ الاتحاد خارج حدوده، فبدءا من عام 1957، استقبل الاتحاد السوفياتي أعدادا متزايدة من الطلاب الأفارقة من خلال مؤسسات تعليمية أُسست خصوصا لهذا الغرض، مثل “الجامعة الروسية لصداقة الشعوب”، التي سُميت لاحقا باسم المناضل الكونغولي “باتريس لومومبا”. وعملت هذه المؤسسات على خلق مجتمعات طلابية أفريقية في مدن الاتحاد السوفياتي لتكون لاحقا بمنزلة قنوات لنشر الأفكار الاشتراكية وتوطينها في القارة.
لكن هذه الأبعاد غائبة عن سياسة موسكو الحديثة، التي تعتمد على المصلحيّة البحتة في بناء العلاقات الخارجية بفجاجة، وتتخلى عنها أيضا للدوافع ذاتها، فيما يمكن أن يُطلَق عليه “صداقة الأنذال”. وهو ما سمح لها أحيانا باقتناص كثير من الفرص وإدارتها بشكل مرن وفعّال في أفريقيا، متغلبة في ذلك على محدودية الموارد مقارنة بالولايات المتحدة أو الصين، لكنها في الوقت نفسه تعمل وفق نمط قصير الأمد، فيصبح نفوذها هشًّا وغير مستدام مع أي تحوُّلات كُبرى، كما أثبت حضورها في سوريا ذاتها.
تحدي الصورة والإمكانية
منذ أن حسمت روسيا المعركة مع المعارضة السورية المسلحة في حلب عام 2016، قدمت نفسها باعتبارها شريكا “موثوقا به”، يمكن للدول التي تواجه حالات تمرد أو اضطرابات داخلية الاستعانة به. وعلى إثر ذلك عززت روسيا وجودها العسكري في ليبيا، وتبعتها شركات عسكرية خاصة من مجموعة “فاغنر” عام 2018، علاوة على خدمات أمنية قدَّمتها لعدد من النظم الاستبدادية.
وفقا لمجلة “فورين بوليسي” الأميركية، كانت قدرة روسيا على توريد المواد الحربية والأفراد إلى ليبيا تعتمد بالأساس على امتلاك موطئ قدم دائم في سوريا، حيث ساعدت قواعدها هناك في عمليات إعادة الإمداد وصيانة المعدات وتسهيل تناوب الأفراد في ليبيا. كما أن استخدام موسكو لسوريا بوصفها نقطة انطلاق جوية كان أمرا بالغ الأهمية، فقد سمحت الرحلات الجوية المنتظمة من منطقة اللاذقية السورية إلى القواعد التابعة لخليفة حفتر في الخادم والجفرة بنقل سلس للطائرات إلى المطارات الليبية.
مع توسع البصمة الإستراتيجية لروسيا في أفريقيا جنوب الصحراء، توسَّعت الأهمية اللوجيستية لسوريا أيضا. فقد اعتمد التدخل العسكري لمجموعة “فاغنر” في مالي، الذي بدأ في أواخر عام 2021، على القواعد الروسية في سوريا، وكان بمنزلة بوابة للانتشار على نطاق أصغر إلى بوركينا فاسو عام 2023، والنيجر عام 2024.
وعندما اندلعت حرب السودان في أبريل/نيسان 2023 بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع بقيادة حميدتي، سمح اتصال جوي بين سوريا وليبيا والسودان بنقل صواريخ أرض-جو روسية إلى الدعم السريع.
ويُقدِّر خبراء عسكريون أنه بدون الوصول إلى قاعدة حميميم الجوية، فإن الحليف الوحيد لروسيا في أفريقيا الذي يمكن الوصول إليه بالطائرات دون الحاجة إلى التزوُّد بالوقود سيكون ليبيا، وحتى هذا قد يكون صعبا بالنظر إلى أنه يتطلب الطيران مباشرة فوق المجال الجوي لتركيا، التي تربطها بروسيا علاقات معقدة ومتقلبة، وبالأخص في الملف الليبي.
من جهة أخرى، سوف تدفع هزيمة موسكو في سوريا بكثير من الشكوك لدى القادة الأفارقة حول قدرتها على توفير الأمن لهم بشكل حاسم ودعم استقرار أنظمتهم. وقد يتضرر الاقتصاد الروسي نفسه كثيرا نتيجة مآلات سقوط الأسد على تصوُّرات الأنظمة الاستبدادية المتحالفة مع موسكو. فوفقا للخبير في العلاقات الدولية صموئيل راماني، وفَّرت احتياطيات الذهب والماس في أفريقيا مصدرا حيويا للعملة الصعبة لروسيا.
وفي أثناء التحضيرات المباشرة لغزو أوكرانيا عام 2022، سافر ما لا يقل عن 16 طائرة محملة بالذهب من السودان إلى روسيا عبر سوريا. وبدون أن تعمل سوريا بوصفها نقطة عبور لعمليات استخراج المعادن هذه، قد ترتفع تكلفة تهريبها إلى روسيا. ومن ثم فإن الزخم التجاري الذي غذَّى تجارة كُبرى بلغت 24.5 مليار دولار مع أفريقيا سوف ينهار.
هل من بديل أمام موسكو؟
تبدو خيارات موسكو لتعويض سوريا محدودة للغاية، ولكن من المرجح أن تكون ليبيا أول تلك الخيارات، فعلى مدار عام 2024، وسَّعت موسكو من وجودها العسكري هناك، حيث جدَّدت مدارج قاعدتها الجوية لتمكين طائرات الشحن من الهبوط في البلاد.
وقد مُنحت روسيا حقوق الرسو الدائم في ميناء طبرق مقابل المساهمة في تطوير البنية الأساسية للميناء. وأدى اتفاق دفاعي أُبرِم عام 2023 بين روسيا وقوات حفتر إلى إحياء التكهنات حول بناء قاعدة روسية في طبرق.
ورغم هذه الاحتمالات التي لا يمكن الجزم بها، ثمة العديد من العقبات التشغيلية التي تَحُول دون استبدال ليبيا بسوريا بوصفها مقرا لإعادة الإمداد للقوات الروسية في أفريقيا، حيث يرجح خبراء عسكريون أن طائرات الشحن الفارغة فقط ستكون هي القادرة على السفر من روسيا إلى ليبيا دون إعادة التزود بالوقود، وأن المركبات المحملة الثقيلة سوف تتطلب توقفات متعددة للقيام بهذه الرحلة، ومن ثم فإن إدارة عمليات الإمداد لأفريقيا عبر ليبيا ستكون مكلفة للغاية وغير مستقرة.
كما أن عدم اليقين بشأن توازن القوى في ليبيا على المدى الطويل يقوِّض من فرص موسكو لبناء قاعدة مستقرة هناك، فإذا جرى إقصاء حفتر من قِبَل منافسيه في طرابلس، أو إذا تقدمت ليبيا نحو المصالحة الوطنية وإجراء الانتخابات، فقد تجد روسيا نفسها في مأزق أمام سلطة جديدة لا تحمل التوجهات نفسها.
من غير المرجح أيضا أن تتمكن روسيا من بناء قاعدة بحرية على ساحل البحر الأحمر السوداني لتحل محل قواعد سوريا. فمنذ أن وقَّعت موسكو مسودة اتفاق مع الخرطوم عام 2020 بشأن بناء “مركز دعم لوجستي” في بورتسودان، لم يحدث أي تقدم ملموس، خاصة بعد انهيار الأوضاع الأمنية حاليا، وليس من المتوقع أن يحدث تغير جوهري وسريع في هذا السياق قريبا.
فضلا عن أن التقديرات تشير إلى أن روسيا لن تتمكن إلا من نشر ما يصل إلى أربع سفن بحرية في بورتسودان مقارنة بـ11 في طرطوس، وستكون إعادة التزود بالوقود أقل كفاءة بكثير.
في الجزائر، كانت روسيا قد أعربت سابقا عن رغبتها في بناء ميناء على سواحلها. وقد يكون هذا وقتا جيدا لبدء المحادثات، بالنظر إلى غضب الجزائر إزاء موقف الاتحاد الأوروبي بشأن نزاع الصحراء الغربية وانتقاده للرئيس الجزائري. ومع ذلك، من غير المرجح أن تخاطر الجزائر بمجمل شراكاتها الغربية من أجل استضافة قاعدة روسية.
أما في غرب أفريقيا، فقد تُقدِّم البلدان الواقعة على طول خليج غينيا أيضا لموسكو قاعدة لعملياتها في منطقة الساحل، لكن أي مرافق قد تتمكن موسكو من إنشائها هناك من غير المرجح أن تكون قادرة على العمل بوصفها مراكز لوجيستية شاملة.
والواقع أن بلدانا مثل توغو وبنين وساحل العاج وغانا، التي تقع ضمن خريطة اهتمامات الكرملين منذ سنوات، تتطلَّع إليها كذلك الولايات المتحدة باهتمام متزايد لمنع النفوذ الروسي من التمدُّد في المنطقة، وقد يعوق ذلك جهود موسكو.
في نهاية المطاف، يبدو أن السيناريو الأفضل بالنسبة لروسيا هو التشبث بمحاولة التفاهم مع الإدارة الجديدة في دمشق، رغم ضعف الثقة بين الطرفين اللذين خاضا حربا دامية لعقد ونيّف، إذ إن الخيارات الأخرى المُتاحة أمام موسكو باتت محدودة، وقد تعيدها سريعا إلى الوراء في صراعها الجيوسياسي مع القوى الغربية، وفي لحظة لا يمكنها أن تتكبَّد فيها كُلفة التراجع.
المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية
———————————-
جيش المشرق.. أنشأته فرنسا وكان بذرة لهيمنة العلويين على سوريا/ محمد شعبان أيوب
30/1/2025
خلال الحرب العالمية الأولى اتفقت كل من بريطانيا وفرنسا على تقسيم إرث الدولة العثمانية في الشرق الأوسط فيما بينهما، فكان من نصيب بريطانيا العراق وفلسطين وشرق الأردن، بينما كانت سوريا ولبنان وقليقية (جنوب تركيا) من نصيب فرنسا.
ولهذا السبب أنشأت فرنسا ما عُرف باسم “جيش المشرق”، وهو الاسم الذي أُطلق على القوات العسكرية الفرنسية التي شُكّلت وأرسلت إلى بلاد الشام عقب الحرب العالمية الأولى، وقد أُسّس هذا الجيش في عام 1919 بعد توقيع اتفاقية سايكس بيكو (1916) وهزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى.
لقد أدرك الفرنسيون أن الأغلبية السنية في سوريا ستكون ضد تطلعاتهم واستمرار بقائهم في البلاد بحكم خبرتهم العملية، ومعلوماتهم الاستخبارية، ومن ثم فقد حرصوا على تقسيم سوريا وشرذمتها إلى 5 دويلات، بل أصروا على استمرار بقاء “جيش المشرق” وفق الأسس الطائفية التي تخدم المصالح الاستعمارية الفرنسية لأطول مدى ممكن.
ووفقا للمؤرخ ستيفن هامسلي لونغريغ في كتابه “تاريخ سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي”، فقد عُقد مؤتمر سان ريمو في أبريل/نيسان 1920، حيث أصدر مجلس الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الأولى قرارا رسميا بإسناد مهمة الانتداب على سوريا ولبنان إلى فرنسا.
وفي 14 يوليو/تموز 1920، أرسل الجنرال هنري غورو، الممثل الفرنسي في لبنان، إنذارا رسميا إلى حكومة الملك فيصل في دمشق التي كانت تحكم البلاد بعد خروج العثمانيين، وإلى المؤتمر السوري (البرلمان)، مطالبا بتنفيذ مجموعة شروط قاسية.
كان منها إلغاء نظام التجنيد الإجباري وتسريح الجيش العربي الذي كان يبلغ تعداده 10 آلاف مقاتل، وقبول الانتداب الفرنسي من دون شروط، واعتماد العُملة السورية الفرنسية الجديدة للتداول، وتسليم إدارة السكك الحديد للفرنسيين إلى جانب مرافق أخرى.
شرذمة سوريا
كانت هذه المطالب بمنزلة إعلان الاستسلام للاحتلال الفرنسي، واللافت أن الملك فيصل ومعظم وزرائه وافقوا على الامتثال، وأصدر أوامره بانسحاب القوات العربية من الحدود اللبنانية إلى الداخل السوري وتسريح الجيش.
أثار هذا القرار غضبا شعبيا واسعا، فقد عدّته الجماهير السورية استسلاما وخيانة، ورفضه وزير الحربية الشاب يوسف العظمة الذي أصر على مواجهة الفرنسيين، فكانت معركة ميسلون التي استُشهد فيها العظمة، ورسخ الفرنسيون على إثرها احتلالهم للبلاد.
عقب دخول الفرنسيين دمشق أدركت إدارتهم أن سوريا كانت دائمًا مركزا مهما من مراكز المقاومة الإسلامية في المشرق منذ عصر الحروب الصليبية، ولذلك رأت أن أفضل وسيلة للقضاء على هذه الروح تكمن في تقسيم البلاد إلى دويلات قائمة على أسس طائفية.
وهذا ما أقرّ به الكولونيل جورج كاترو، رئيس مكتب الاستخبارات في إدارة الانتداب الفرنسي وقتئذ، إذ صرّح قائلا “لقد جزّأنا سوريا مراعاة منا للخصائص الطائفية وليس لوحدة البلاد الطبيعية والجغرافية”.
وكان التقسيم الجديد يشمل دولة في دمشق ودولة حلب ودولة الدروز ودولة العلويين ثم دولة لبنان الكبير، وكان الهدف من سياسة التجزئة يتثمل في إضعاف الروح الوطنية لدى السوريين، بالإضافة إلى العمل على إذكاء المنافسات والتفرقة بين هذه الدويلات.
وقد أدت هذه السياسة بدورها إلى تشجيع النزعات الانفصالية بين المكونات المختلفة، وتحويل سوريا إلى دولة غير مستقرة عبر إنشاء دويلات إقليمية مستقلة، تفصلها عن بعضها الحواجز وتمنع التواصل فيما بينها.
كذلك عمدت السلطة الفرنسية إلى استغلال الخصوصيات الطائفية لتعزيز الانقسامات وإضعاف البلاد، وكما يقول الباحث علي ضيائي في دراسته “العلويون النصيريون والمستشرقون الفرنسيون” فإننا نرى في هذه الفترة أن الدراسات الفرنسية في سوريا بدأت بتقارير عامة عن المناطق العلوية خاصة، مثل مدن اللاذقية وطرطوس وجبلة وغيرها، وتطورت تلك الدراسات تدريجيا لتتناول العقائد الدينية للعلويين، وهياكلهم الدينية، وارتباطاتهم مع الشيوخ، بالإضافة إلى الخلافات القديمة بين القبائل.
وخلال الفترة بين عامي 1918 و1929، تضمنت وثائق وزارة الخارجية الفرنسية أبحاثا شاملة عن الشيعة الاثني عشرية بقيادة كامل بك الأسعد، والدروز، والعلويين، والقبائل العربية، والشراكسة، وغيرهم. وقد كانت هذه الوثائق، التي أعدّتها فرق جمع المعلومات الفرنسية، موجّهة بالكامل لخدمة أهداف فرنسا الاستعمارية.
وقد ركزت تلك الأبحاث على نقاط ضعف الأقليات لاختراقها، وتحديد نقاط قوتها لتعزيز السيطرة الفرنسية في المنطقة بهدف إدماجهم والاعتماد عليهم في جيش المشرق.
فقد وجه الرئيس الفرنسي ألكسندر ميلران إلى الجنرال هنري غورو في عام 1920 خطابا سرّيا أوضح فيه خطة الحكومة الفرنسية وسياستها في سوريا، وجاء فيه “إن العلويين الذين يقطنون المناطق الساحلية والجبلية السورية ويتحدثون اللغة العربية يمثلون طائفة دينية مرتبطة بالإسلام، ولكنهم في الواقع ليسوا جزءا من الدائرة الإسلامية، ولا ينبغي اعتبارهم مسلمين”.
كان الهدف من هذا الخطاب تكريس التفرقة بين السوريين، فقد كانت المناطق العلوية جزءا من المناطق السنية الأوسع، ولهذا السبب أعلن الفرنسيون وبدعم مباشر منهم استقلال الساحل عام 1922، وتم الاعتراف رسميا بحكومة العلويين التي أصبحت تُعرف باسم “بلاد العلويين”.
موكب الجنرال هنري غورو في حلب بعيد الاحتلال في 1920 (مواقع التواصل)
جيش المشرق والاعتماد على الأقليات
وبالتوازي مع اللعب على الورقة الطائفية سياسيا، اعتمدت فرنسا كذلك على القوة العسكرية لفرض سلطتها الانتدابية على سوريا، وذلك نتيجة للثورات التي اندلعت خلال الفترة بين عامي 1920 و1927 والتي أدت إلى مقتل أكثر من 5 آلاف جندي فرنسي في تلك المرحلة، وقد دفعت هذه الأحداث الحكومة الفرنسية إلى إرسال عدد من كبار جنرالاتها كمفوّضين في بلاد الشام، واستمرت المواجهات الدامية بشكل متقطع حتى وقعت مذبحة البرلمان في مايو/أيار 1945، قبل الجلاء الفرنسي بعام.
ونرى أن السلطة الانتدابية الفرنسية تمتعت بالطابع العسكري الصارم، حيث كانت تهدف بشكل أساسي إلى الحفاظ على هيبة فرنسا وضمان مصالحها الاستعمارية في الشرق الأوسط، ولهذا السبب بلغ تعداد جيش الاحتلال الفرنسي أكثر من 40 ألف جندي، وكانت مهمته الأساسية تثبيت المصالح الاستعمارية الفرنسية الاقتصادية في سوريا، وتعزيز الأرباح لمصلحة الاحتكاريين الفرنسيين، وتأمين نفوذ فرنسا في المنطقة.
وقد شكّل جيش المشرق الفرنسي العمود الفقري لنظام الدفاع والأمن الذي اعتمدت عليه إدارة فرنسا في سوريا، حيث ضم عددا كبيرا من الكتائب وسرايا المدفعية ووحدات المهندسين والطيران القادمة من فرنسا، كما استقدمت فرنسا عددا كبيرا من الجنود الأفارقة.
لم تكتف الإدارة الفرنسية باستخدام جيشها المجنّد من الفرنسيين والأفارقة فقط، بل جنّدت أيضا أعدادا كبيرة من الأقليات السورية واللبنانية عبر نظام التطوع، وتم تقسيمهم إلى مجموعتين رئيسيتين: الأولى عُرفت باسم “الجوقة السورية والقناصة اللبنانية”، والثانية باسم “الحرس الخاص” المرتبط بضباط الاستخبارات الفرنسية.
أما الضباط الذين قادوا هذه الوحدات فكان معظمهم فرنسيين، بينما أُتيح لقلة من السوريين التخرج في المدرسة العسكرية التي أسّسها الفرنسيون في حمص. وقد خرّجت هذه المدرسة أيضا ضباطا ومترجمين من السوريين واللبنانيين، بهدف دمجهم في الهيكل العسكري التابع للسلطة الانتدابية.
واتبعت إدارة الانتداب الفرنسي سياسة “فرّق تسد” في تشكيل الفرق العسكرية المتخصصة وتوزيعها، وقد تم إلى حد كبير استبعاد المسلمين السنة، الذين يمثلون حوالي 80% من سكان سوريا، من الخدمة في القوات الخاصة التي كانت تتألف بشكل أساسي من أفراد الأقليات العلوية في المرتبة الأولى ثم الدروز والمسيحيين والشركس.
وفي الفترة ما بين 1926 و1939، ضم جيش المشرق الفرنسي ما بين 10 آلاف و12 ألف جندي محلي تم تنظيمهم إلى 10 كتائب مشاة كان معظمهم من العلويين، و4 أسراب من سلاح الفرسان كانت تضم دروزا وشراكس وسوريين مختلطين، و3 سرايا من قوات الهجن، إلى جانب وحدات من المهندسين والسيارات المصفحة والدعم اللوجستي.
والحق أن الفرنسيين كانوا يملكون خبرة قديمة ومعرفة لا بأس بها بالعلويين، وكانوا يستهدفون من تجنيدهم تحقيق مقاصد إستراتيجية بعيدة المدى، فقد جاء إليهم عام 1878 الرحالة الفرنسي ليون كاهون قادما من لبنان، زائرا العديد من قراهم ومدنهم وعلى رأسها القرداحة التي وُلد فيها حافظ وآل الأسد، ففي كتابه “رحلة إلى جبال العلويين” يشير ليون إلى أن العلويين يختلفون عن الأغلبية السنية، وأنهم من حيث العادات الاجتماعية الأخلاقية أقرب إلى الغرب.
وأدرك ليون طبيعة العلويين وضرورة مساعدة فرنسا وأوروبا لهم حتى يؤدبوا جيرانهم قائلا “أعترفُ بأنه ليس هناك من شعب يستحق الخير أكثر من هذا الشعب الشريف والقوي، والذي يصبو بكل جوارحه إلى الحضارة، ويحترم ذاته، كما أنه بقليل من الدعم الأوروبي سيُعلِّم بكل تأكيد الشعوب التي تُحيط به كيف تحترم ذاتها”.
بحلول عام 1938، بلغ تعداد الفرق الخاصة التي أنشأها الفرنسيون حوالي 10 آلاف جندي، من بينهم 306 ضباط، كان 88 منهم فرنسيين، وفي تلك الأثناء أُنشئت الأكاديمية العسكرية في حمص والتي ستُصبح الكلية الحربية فيما بعد لتدريب الضباط السوريين واللبنانيين وضباط الصف المتخصصين.
جيش المشرق وانقلابات سوريا
وحتى نهاية الانتداب استمرت فرنسا في تفضيل تجنيد الأقليات وعلى رأسها العلويون والدروز، وهو ما أشار إليه الجنرال هنتسيغر القائد العسكري الفرنسي في سوريا عندما صرّح في عام 1935 “يجب ألا ننسى أن العلويين والدروز هم الأعراق الحربية الوحيدة في ولايتنا، وهم جنود من الدرجة الأولى نجنّد من بينهم أفضل فرقنا الخاصة”.
لهذا السبب حرص الفرنسيون على عدم تشكيل جيش وطني في سوريا لآخر لحظة، وعملوا على ضم السوريين لجيش الاحتلال الفرنسي الذي استمر في محاربة الاستقلال الوطني بشتى وسائل الاحتلال، إذ عمل هذا الجيش في الوقت نفسه على تنفيذ أغراض الإدارة الفرنسية في البلاد.
وكما يقول الباحث حسام النايف في دراسته “الإدارة الفرنسية في سوريا” فإن فرقة الجوقة السورية لم تكن ترتبط بسوريا ومصالحها الحقيقية إلا بالاسم الذي أُطلق عليها، فقد حرص الفرنسيون على رفع العلم الوطني لبلادهم إلى جانب العلم السوري على مبنى دائرة الأمن العام وغيرها من الدوائر في أيام الأعياد، ثم كان يتم إنزالها في الأيام الاعتيادية، وإبقاء علم الاحتلال الفرنسي فقط، وقد أدى ذلك إلى الاصطدام بالسوريين في مناسبات عديدة وخاصة في مدينة حماة.
والأمر اللافت أن لغة التعليم في الجيش وهذه الفرق كانت الفرنسية والقسَم الذي كان يؤديه الجنود كان لخدمة الأغراض والمصالح الفرنسية.
وكما يقول مصطفى الشهابي في كتابه “محاضرات في الاستعمار” فقد أظهرت الإحصاءات حينئذ أن قوام الجيش السوري ضمن “جيش المشرق الفرنسي” كان قد بلغ حوالي 25 ألف عنصر، موزعين بين ضباط وجنود في وحدات منتشرة في مختلف أنحاء البلاد، وكان للجيش الفرنسي محاكم خاصة داخل الأراضي السورية، تختص بمحاكمة كل من يُعثر بحوزته على سلاح، أو يشتبه في بيعه، أو من يتشاجر مع الجنود الفرنسيين.
لاحقا ألغى الفرنسيون الدويلة العلوية التي أنشؤوها في الساحل وكانوا يعتمدون عليها في التجنيد بجيش المشرق، وقد انقسم العلويون أمام هذا القرار؛ فعدد من وجهائهم الكبار بمن فيهم جد حافظ الأسد أرسلوا رسالة تطالب ببقاء دويلة العلويين مستقلة وهي محفوظة في أرشيف وزارة الخارجية الفرنسية تحت رقم 3547 مؤرخة بشهر يونيو/حزيران 1936.
وقد جاء فيها “إن الشعب العلوي الذي حافظ على استقلاله على مرّ السنين مقابل تضحيات كبيرة يختلف بمعتقداته الدينية وتقاليده التاريخية عن تلك التي تخصّ الشعب المسلم السني، ولذلك فإن الشعب العلوي يرفض أن يكون مرتبطًا بسوريا المسلمة”.
ولكن بحسب المؤرخ الألماني ستيفان وينتر في كتابه “تاريخ العلويين: من حلب القرون الوسطى إلى الجمهورية التركية”، فإن فريقا آخر رفض تصرف أبناء طائفتهم المطالبين بالانفصال، وأرسل إلى المسؤولين الفرنسيين بعد شهر في يوليو/تموز من يعبرون عن استنكارهم الشديد لاستمرار ممارسات التلاعب والدكتاتورية من قِبل حاكم منطقة العلويين، الفرنسي أرنست شلوفير وغيره من المسؤولين.
ومهما يكن وكما مر بنا، فقد قصد الفرنسيون أن يتكون جيش المشرق في أغلبه من أبناء الأقليات والطوائف الدينية، وخاصة الجوقة السورية والكتائب الخاصة التي كان أغلبها من العلويين والدروز والشركس وغيرهم، الأمر الذي كان له تأثيره الضخم في شكل الجيش السوري ومسيرته وكثرة الانقلابات العسكرية فيه بعد الاستقلال، وما آل إليه الأمر من استيلاء آل الأسد العلويين على السلطة طوال أكثر من نصف قرن فيما بعد.
المصدر : الجزيرة
———————————
ما بدائل الدستور وسقف المرحلة الانتقالية في سوريا؟/ ضياء عودة – إسطنبول
30 يناير 2025
القرارات التي صدرت ليلة الأربعاء من قصر الشعب بدمشق ترسم أولى ملامح خارطة الطريق التي ستمضي بها سوريا الجديدة ما بعد سقوط نظام الأسد، وتثير في المقابل عدة تساؤلات جوهرية تتعلق بالدستور والسقف الزمني للمرحلة الانتقالية.
هذه المرحلة سيقودها أحمد الشرع، ومن المقرر أن تكون جسرا تنتقل عبره البلاد من الضفة التي تركها عليها الأسد إلى الثانية التي طالما حلم ونادى من أجلها السوريون، بعد اندلاع ثورتهم في 2011.
وشملت قرارات قصر الشعب التي أعلن عنها من جانب “إدارة العمليات في سوريا” وبحضور قادة فصائل عسكرية من وسط وشمال وجنوب البلاد إلغاء العمل بدستور 2012 وإيقاف العمل بجميع القوانين الاستثنائية.
وبعدما تم تكليف الشرع بمهام رئاسة البلاد في المرحلة الانتقالية تمت الإشارة إلى القرار المتعلق بحل جميع الفصائل العسكرية، والأجسام الثورية السياسية والمدنية، على أن “تدمج في مؤسسات الدولة”.
القرارات نصت أيضا على حل مجلس الشعب المشكل في عهد الأسد واللجان المنبثقة عنه، مع حل “حزب البعث العربي الاشتراكي”، وأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، وما يتبع لها من منظمات ومؤسسات ولجان.
كما تم أيضا اتخاذ قرار بضم جميع أصول الأحزاب المذكورة التي تم حلها إلى الدولة السورية.
هل من بدائل للدستور؟
مطلع الثورة السورية كان الدستور المعمول به في سوريا هو دستور عام 1973، والذي عُدل مرتين، الأولى عام 1981، والثانية عام 2000 لتعديل السن القانونية لرئيس الجمهورية من سن الأربعين إلى الرابعة والثلاثين.
وفي أكتوبر عام 2011 أصدر رئيس النظام المخلوع، بشار الأسد، مرسوما تشريعيا حمل رقم 33 وقضى بتأليف لجنة إعادة كتابة الدستور.
كانت هذه اللجنة مكونة حينها من 29 عضوا، وبعد تشكيلها صدر مرسوم جمهوري آخر في فبراير 2012 وقضى باعتماد الدستور الذي يعرف بدستور 2012.
وبموجب قرارات قصر الشعب، ليلة الأربعاء، لم يعد هناك أي عمل بالدستور المذكور، وينطبق ذات الإجراء على بقية القوانين الاستثنائية التي صدرت في عهد الأسد المخلوع.
ويرجح المحامي السوري، عارف الشعال، المقيم في دمشق أن يتجه الشرع إلى إصدار “إعلان دستوري” في المرحلة المقبلة بنفسه أو قد يكلف “المجلس التشريعي” بهذا الإجراء.
وتم تفويض الشرع بتشكيل مجلس تشريعي مؤقت للمرحلة الانتقالية، ويتولى مهامه إلى حين إقرار دستور دائم للبلاد ودخوله حيز التنفيذ.
ومن ناحية أخرى لا يستبعد الشعال في حديثه لموقع “الحرة” احتمالا آخرا وهو أن لا يصدر الشرع أي إعلان دستوري بحسبان أنه قد يحدد ويحد من الصلاحيات الخاصة به.
وتوجد عدة خيارات كبدائل دستورية بعد إيقاف العمل بدستور 2012، وفقا للمحامي والقانوني السوري، مازن درويش.
من بين هذه البدائل “إعلان دستوري” تتعدد فيه المبادئ أو إصدار دستور مؤقت، وهو الأمر الذي يتطلب وجود المجلس التشريعي أو الهيئة التشريعية.
ويوضح درويش أن إعلان المبادئ الدستورية قد يكون بناء على دستور 1950 أو 1953 وقد يقتبس أيضا من المواد المعمول بها سابقا في دستور 2012.
ويضيف: “الخيارات كثيرة من الإعلان الدستوري، وصولا إلى الدستور المؤقت الذي قد تصدره الهيئة التشريعية” المراد تشكيلها.
ماذا عن المجلس التشريعي؟
ولا تعرف حتى الآن الآلية التي سيتم من خلالها اختيار أعضاء “المجلس التشريعي”.
ومع ذلك فوضت القرارات الصادرة الشرع بتشكيله.
ويقول المحامي الشعال إن الشرع “له تفويض مطلق بتعيين مجلس تشريعي بدون التقيد بعدد أعضاء أو مواصفات أو نسب تمثيل، أو غيره”.
وهذا المجلس يتولى مهمة إصدار القوانين أو إلغائها أو تعديلها، لكن وبرأي المحامي السوري “لا يحق له إصدار المراسيم التشريعية”.
أما بالنسبة للسلطة القضائية، وعملا بأحكام المادة 65 من قانون السلطة القضائية، يعتبر الشرع رئيسا لمجلس القضاء الأعلى وينوب عنه وزير العدل.
كما يوضح الشعال أن الشرع وفي ضوء بيان انتصار الثورة وفي ظل عدم وجود أية وثيقة دستورية تنظم أو تحدد سلطاته يعتبر رئيسا للسلطة التنفيذية، ويتمتع بكامل الصلاحيات لممارسة وظيفته.
وبالتالي له سلطة إصدار المراسيم التنظيمية أو الفردية، وله سلطة كاملة على الجهاز التنفيذي للدولة لجهة التعيين والإقالة بدءا من رئيس الوزراء والوزراء والسفراء، والمدراء العامون، وانتهاء بأصغر موظف في أية دائرة حكومية.
هل من سقف للمرحلة الانتقالية؟
ولا يمكن تحديد الفترة الانتقالية وقد تطول أو تقصر ولكنها تنتهي بإقرار الدستور الدائم ووضعه موضع التنفيذ كما ورد بالبيان أمس، كما يشير المحامي، عارف الشعال.
ويوضح المحامي السوري درويش أن الإدارة السورية الجديدة يمكن أن تلزم نفسها بمدة زمنية معينة، على صعيد السقف الخاص بالمرحلة الانتقالية.
ومع ذلك يقول إن “انتهاء المرحلة وبشكل عملي يجب أن يحصل عندما يكون هناك دستور وانتخابات”.
وقد تتحدد المرحلة الانتقالية من عامين إلى 4 سنوات.
وخلال المدة المذكورة من المفترض أن يكتب الدستور وتجرى الانتخابات على أساسه.
وتسود ضبابية في الوقت الحالي عن الجهة التي ستتولى كتابة الدستور الجديد لسوريا، وما إذا كانت ستظل موكلة للجنة الدستورية التي تم تشكيلها في 2018 أم لا.
ويعتقد درويش أن إحدى وظائف السلطة الانتقالية قد تكون إنتاج دستور جديد وبالتالي إقراره بعد عرضه على الاستفتاء الشعبي.
وعندما يعرض على الاستفتاء وتجرى الانتخابات فيما بعد تكون المرحلة الانتقالية قد انتهت بشكل فعلي.
وسبق وأن أشار الشرع في تصريحات سابقة إلى أن تنظيم انتخابات في البلاد قد يتطلب أربع سنوات، وقال أيضا إن عملية صياغة الدستور قد تحتاج “أطول مدة ممكنة”، وحددها بثلاث سنوات.
ضياء عودة
الحرة
———————–
الساعات الأخيرة قبل سقوط النظام السوري.. أسرار الانهيار السريع لقوات الأسد تتكشف
عربي بوست
2025/01/30
أطلقت المعارضة السورية عملية “ردع العدوان” ضد مناطق خاضعة لسيطرة النظام السوري شمال شرق سوريا/ الجبهة الوطنية للتحرير على تويتر
رغم مرور أكثر من شهرين على سقوط النظام السوري السابق وإطاحة الفصائل المسلحة بحكم عائلة الأسد، لا تزال تتكشف يوماً بعد يوم كواليس ما جرى داخل أروقة النظام خلال الأيام التي سبقت وصول قوات المعارضة إلى العاصمة دمشق، وكيف انهارت قوات جيش النظام بشكل سريع أمام زحف المعارضة.
وكشف تقرير نشرته صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية، الخميس 30 يناير/كانون الثاني 2025، تفاصيل الرسائل والتقارير التي أصدرتها أجهزة الاستخبارات السورية التابعة لنظام الأسد بينما كانت قوات المعارضة تواصل تقدمها نحو المدن والبلدات السورية التي سقطت الواحدة تلو الأخرى بعدما أطلقت الفصائل السورية المسلحة بقيادة هيئة تحرير الشام عملية “ردع العدوان”.
وقال تقرير الصحيفة الأمريكية:” توثّق الآلاف من الصفحات من وثائق الاستخبارات السرية للغاية – التي اكتشفها مراسلو صحيفة وول ستريت جورنال داخل مبنى الاستخبارات في ديسمبر/كانون الأول – الانهيار السريع وبشكل مذهل للنظام الاستبدادي الذي حكم سوريا بقبضة من حديد لعقود”.
الاغتراب السوري – من الثورة إلى الدولة.. هذه أبرز التحديات الكبرى أمام سوريا جديدة
صورة تعبيرية عن الثورة السورية/shutterstock
وأضاف التقرير أن الوثائق التي تركها عناصر النظام على عجل تُظهر كيف كافح جهاز الاستخبارات الضخم التابع للنظام لفهم ووقف التقدم السريع للمعارضة.
وجاء الكشف عن هذه التقارير بعد ساعات من إعلان المتحدث باسم إدارة العمليات العسكرية في سوريا، حسن عبد الغني، تعيين أحمد الشرع رئيساً للبلاد في المرحلة الانتقالية.
وقال عبد الغني:”نعلن تولية السيد القائد أحمد الشرع رئاسة البلاد في المرحلة الانتقالية، ويقوم بمهام رئاسة الجمهورية العربية السورية، ويمثلها في المحافل الدولية”.
سقوط حلب
بعد أيام من نجاح الفصائل السورية المسلحة في هزيمة جيش النظام في مدينة حلب في شمال البلاد، وصل تقرير من خمس صفحات إلى مكتب ضباط الاستخبارات العسكرية في دمشق يحمل معلومات مثيرة للقلق.
فقد اضطرت قوات النخبة التي أُرسلت لتعزيز دفاعات حلب إلى التراجع عندما انسحب جيش النظام “بطريقة مجنونة وعشوائية”. وفر الجنود “بطريقة هستيرية”، تاركين وراءهم الأسلحة والمركبات العسكرية، وفقاً لتقرير أعده ضابط بارز في الاستخبارات العسكرية في المدينة بتاريخ 2 ديسمبر/كانون الأول.
وتكشف الوثائق أيضاً أنه عندما اقتربت قوات المعارضة من حلب في 28 نوفمبر/تشرين الثاني، أصدرت إحدى المقرات الرئيسية تعميماً إلى جميع فروع أجهزة الاستخبارات هناك برفع حالة الاستعداد القتالي إلى 100%، وتعليق العطلات الرسمية حتى إشعار آخر. وبعد يومين، دخلت قوات المعارضة المدينة .
ويبدأ التقرير الذي وثق انهيار الجيش في حلب بالإشارة إلى وصول طائرة نقل عسكرية من طراز إليوشن من دمشق وعلى متنها 250 عنصراً من الاستخبارات العسكرية، بما في ذلك عناصر من الفرع 215، مسلحين بقذائف صاروخية ورشاشات ثقيلة في محاولة أخيرة للسيطرة على المدينة. وفي غضون ساعات من انتشارهم في 29 نوفمبر/تشرين الثاني، تعرضوا لهجوم من طائرات بدون طيار.
وقال العميد نيقولا موسى، ضابط الاستخبارات الذي كتب التقرير، إن المحاولات المتكررة لحشد وحدات الجيش باءت بالفشل، حيث فر الجنود، تاركين أسلحتهم ومركباتهم العسكرية. وأضاف أن الافتقار إلى الدعم الجوي والغطاء المدفعي فاقم الوضع.
فرار عناصر الفرع 215
ومع سيطرة قوات المعارضة على مزيد من الأراضي بعد سقوط حلب، تدفقت التقارير إلى مقر الفرع 215، وهو مبنى خرساني مكون من ثمانية طوابق، وهو جزء من جهاز الأمن الضخم التابع للأسد، في وسط دمشق. وفصلت التقارير سرعة واتجاه تقدم قوات المعارضة، والخطط والأوامر المحمومة على نحو متزايد بهدف إبطاء تقدمهم.
وبينما كانت قوات هيئة تحرير الشام تتقدم عبر سوريا، قللت الحكومة عبر تصريحاتها العلنية من أهمية مدى تقدم قوات المعارضة وسعت إلى إظهار جو من الثقة. ومع ذلك، اتسمت الاتصالات الداخلية بين القوات التي تحاول حماية النظام بالقلق المتزايد.
وتخلى ضباط وعناصر الفرع 215 عن مواقعهم أيضاً، تاركين وراءهم كومة من الملابس العسكرية والأسلحة والذخيرة، إلى جانب زجاجات الويسكي الفارغة والسجائر المطفأة وكميات هائلة من تقارير الاستخبارات، بعضها مدوَّن في ملفات، وبعضها الآخر مكدس في أكوام.
محاولة يائسة لشن هجوم خاطف
وبعد الاستيلاء على حلب، ومع تقدم المعارضة نحو مدينة حماة، اقترح تقرير استخباراتي أن يشن جيش النظام هجوماً مفاجئاً خلف خطوط هيئة تحرير الشام، فيضرب قاعدتهم القريبة في إدلب، مستغلاً دفاعاتها المتفرقة. وأضاف التقرير أن العملية قد تؤدي إلى الفوضى وتخفيف الضغط على قوات النظام حول حماة.
وحذّر تقرير استخباراتي في الرابع من ديسمبر/كانون الأول، من أن قوات النخبة في هيئة تحرير الشام، المعروفة بـ”الألوية الحمراء”، ستتسلل إلى حماة تلك الليلة وفي اليوم التالي، سقطت حماة بيد المعارضة ولم يعد يفصلهم عن العاصمة سوى مدينة حمص.
الفوضى في درعا
وجاء في تقرير صادر في 6 ديسمبر/كانون الأول أن “الوضع في محافظة درعا مضطرب”. وقال ضابط استخبارات يعمل في درعا إن الفوضى كانت تتزايد مع تدفق التقارير عن مكاسب قوات المعارضة. وأضاف أن سيطرة النظام على الجنوب كانت هشة حتى قبل الهجوم. وكانت نقاط التفتيش والمنافذ العسكرية لا تزيد عن كونها بياناً رمزياً لوجود النظام، ومصدراً للدخل للأفراد الذين يمكنهم انتزاع الرشاوى لتكملة رواتبهم الضئيلة.
سقوط دمشق
ومع استمرار قوات المعارضة في الضغط على الحكومة، ركزت أجهزة الاستخبارات بشكل متزايد على الأمن في العاصمة.
وأفاد أحد فروع الاستخبارات أن عدة أفراد انتقلوا مؤخراً من الأراضي التي تسيطر عليها المعارضة في الشمال الغربي إلى إحدى ضواحي دمشق، محذرين من أنهم قد يكونون خلايا نائمة. ووفقاً لتقرير استخباراتي آخر، أصدرت هيئة تحرير الشام تعليمات لعملائها في ريف دمشق بالاستعداد لتنفيذ عمليات.
وأوصت مذكرة داخلية لجهاز الاستخبارات بفحص لقطات كاميرات المراقبة لدى أصحاب المتاجر التجارية بالعاصمة “لمراجعة أي حركة مشبوهة”.
وحاول بعض أفراد النظام حشد قوات للدفاع عن العاصمة. وفي منتصف ليل الخامس من ديسمبر/كانون الأول، صدر أمر باسم الرئيس بعودة وحدة مدرعة إلى دمشق من دير الزور في شرق البلاد.
وقبل أيام قليلة من سقوط دمشق في الثامن من ديسمبر/كانون الأول، صدرت أوامر بنقل القوات والمعدات لمواصلة القتال. وكان من المقرر أن تنقل فرقة الدبابات الثالثة 400 بندقية آلية و800 مخزن ذخيرة و24 ألف رصاصة إلى كتيبة في منطقة طرطوس على الساحل، موطن قاعدة بحرية روسية رئيسية ومعقل للطائفة العلوية التي ينتمي إليها الأسد. وكان من المقرر أن تغادر التعزيزات لقاعدة الفرقة الرابعة عشرة للقوات الخاصة غربي دمشق في منتصف نهار السابع من ديسمبر/كانون الأول.
وفي عشية انهيار النظام، تناول تقرير استخباراتي الطريق المتوقع لقوات المعارضة تجاه دمشق، وتوقع وصولهم إلى الضواحي في غضون يومين والاستيلاء على سجن صيدنايا، حيث تم سجن المعارضين السياسيين وتعذيبهم.
كان التوقيت الوارد في التقرير خاطئاً، لكن التوقع الأخير ثبتت صحته، حيث اقتحمت قوات المعارضة السجن وأطلقت سراح المعتقلين بعد ساعات من فرار الأسد من البلاد.
وانتهى التقرير بعبارة لطالما استخدمها ضباط الاستخبارات حتى آخر لحظة، وهي تعكس إصرارهم على إبقاء النظام قائماً:”راجع وافعل ما هو ضروري”.
وفجر الأحد 8 ديسمبر 2024 أعلنت المعارضة المسلحة أنها بدأت دخول العاصمة دمشق، بينما نقلت وكالة رويترز عن مسؤولين سوريين رفيعي المستوى أن الأسد غادر دمشق إلى وجهة غير معلومة.
غرفة عمليات الجنوب سوريا
فصائل المعارضة تتقدم نحو العاصمة السورية دمشق من الشمال والجنوب/ رويترز
ولكن كيف استعدت المعارضة هي الأخرى للإطاحة بالنظام؟
استعنّا في الإجابة على هذا السؤال بما كشفته تقارير غربية وعربية عن كواليس ما جرى خلال أعوام سابقة داخل فصائل المعارضة السورية المسلحة، التي نجحت في تجميع صفوفها، وحصلت على العتاد العسكري اللازم لإطلاق عمليتها العسكرية، فضلاً عن عوامل أخرى ساهمت في تمهيد الطريق أمام الإطاحة بالأسد.
التخطيط بدأ قبل عام: حسبما نقلت صحيفة الغارديان البريطانية عن أبوحسن الحموي، القائد العسكري لهيئة تحرير الشام، فقد بدأت الفصائل المعارضة في التخطيط لعملية “ردع العدوان” قبل عام، في عملية محكمة تم خلالها نشر وحدة جديدة متخصصة في الطائرات بدون طيار، وكان هناك تنسيق وثيق بين جماعات المعارضة في جميع أنحاء البلاد.
ويمكن رصد أبرز ما كشف عنه الحموي في النقاط التالية:
إنشاء غرفة حرب موحدة
تطوير العقيدة العسكرية
توحيد القيادة السياسية
إنشاء وحدة طائرات بدون طيار
تعزيز القدرات العسكرية
إنشاء أكاديمية عسكرية
الحماية العملياتية واستغلال عامل المفاجأة
عربي بوست
————————–
كلمة رئيس البلاد في المرحلة الإنتقالية السيد أحمد الشرع/ كرم نشار
تحديث 30 كانون الثاني 2025
استمعتُ إلى كلمة رئيس البلاد في المرحلة الإنتقالية السيد أحمد الشرع، وقرأت البيان الصادر عن إدارة العمليات، هذه جردة بالإيجابيات والسلبيات والحياديات كما أراها:
إيجابياً،
١- إن كانت عملية حل ودمج الفصائل مُكتملة بحق، فهذا يعني أن سوريا قد وضعت ورائها، إلى حد بعيد، السيناريو الليبي الذي كانت غالبية التوقعات والتحليلات تُرجح وقوعه في حال سقط نظام الأسد عسكرياً. هذا ليس تفصيلاً، ولا سيما أننا لا نتحدث هنا عن مكونات عسكرية تعبر عن حساسيات أهلية وسياسية بعينها، بل عن تشكيلات تتشابه أهلياً وسياسياًِ، لكنها كانت حتى وقت قريب شديدة التشرذم والرثاثة في تصرفاتها في شمال غرب البلاد. وهو ليس تفصيلاً أيضاً بالنظر للدور المشين والهائل الذي لعبه الصراع على السلطة بين العسكر في سوريا.
٢- ركز أحمد الشرع وهو يخاطب الفصائل العسكرية تحديداً على “الرحمة والعدل والإحسان عند القدرة” وأن الحرب لا تبيح الأخلاق، وأن “السلطة والمال فساد عظيم لولا الأخلاق”، وأن لحظات النصر الأولى قد تكون اللحظات الأولى للهزيمة لأن غرور المنتصر” يؤدي به إلى الطغيان”. هذا كلام مطمئن على صعيد السلم الأهلي (أي استبعاد السيناريوهات الإنتقامية المريعة) ولا سيما إنه تصاحب مع تأكيد مفهوم “العدالة الإنتقالية”، ومطمئن على صعيد الوعي بمنطق الغلبة والغرور بشكل عام، أقله على الصعيد البلاغي. (يعني السياسة نصفها كلام، ولو أراد قول شيء مختلف تماماً لاستطاع ذلك وكنا أيضاً تحت رحمته).
٣- أما بالنسبة لموضوع حل الأجسام الثورية على أشكالها المذكور في البيان الصادر عن إدارة البيانات، ف فهمته بصفته حل لهيئة تحرير الشام أولاً ولكل الأجسام والمؤسسات المدنية والسياسية المتفرعة عنها والتي كانت موجودة في الشمال الغربي وهي كثيرة بالمناسبة ومنها التشريعي والقضائي. ويُفترض أنه يشمل أيضاً مناطق الحكومة المؤقتة كلها. يعني افتراضي إنه تصفير العداد على صعيد الأجسام التي رافقت حالة الفصائل منذ عام 2012 و2013.
في المقابل،
١- تحدث الشرع عن ملء فراغ السلطة بشكل “شرعي وقانوني”. هذه الإشارة بحد ذاتها جيدة لكنها شديدة الاقتضاب. الكلمة عموماً كانت مختصرة، والمخاطبين هم قادة الفصائل العسكرية، لكن من حقنا أن يبقى لدينا أسئلة بخصوص معنى شرعي وقانوني، شرعي حسب أي مصدر، من يعطي الشرعية؟ ومن يسن القانون؟ ماذا عن الحقوق والحريات الأساسية؟
٢- الشرع “سيعين” مجلس تشريعي مؤقت. طيب بالمعنى الإنقلابي أو العسكري هذا “عادي”. وهو يعني أن الشرع لن يحكم من خلال الأوامر الرئاسية التنفيذية بل سيشكل جسم تشريعي يُفترض حتى لو كان معيناً أن يملك صلاحيات ما، ومن الجيد أنه تم الحديث فوراً أنه مؤقت. في نفس الوقت جسم تشريعي معين من قبل السلطة التنفيذية يعني أن دوره ضعيف وتشاوري بأحسن الحالات. هل هذا ملء فراغ حتى تنظيم المؤتمر الوطني؟ هل مهمة المجلس التشريعي المؤقت الخوض في مسائل دستورية أساسية؟ ألم يكن من الممكن التعبير عن الموضوع صياغياً بشكل أفضل وأكثر طمئنة لنا نحن الخارجون من خمسين سنة من حكم الرئيس المطلق؟ مثلاً: “سيعقد الشرع مشاورات بغرض تشكيل مجلس تشريعي مؤقت؟”
٣- الشرع هو الحاكم الفعلي للبلاد وتوليه الرئاسة خلال المرحلة الإنتقالية ليس مفاجئة لكن القيام بهذا عبر الفصائل العسكرية وليس بعد الإعلان الدستوري أو عقد أولى جلسات المؤتمر الوطني مؤسف. تم تأجيل المؤتمر الوطني من أجل التحضير له بشكل جيد، وكان يمكن تأجيل تولي الشرع “سدة الرئاسة” بما تحمله من رمزية ودستورية وتعبير عن سيادة الشعب معها، واجتراح توصيف وظيفي له يمكنه من مقابلة الرؤساء والملوك حتى ذلك الوقت. “الشرعية” و”القانونية” التي تحدث عنها هي طقوس وشعائر ورموز أيضاً وليس فقط مضامين فعلية. والشعب أكثر أهمية من الملوك والرؤساء.
٤- الأسوء على الإطلاق هو الإخراج الإعلامي لكل المسألة يوم أمس. لماذا تحدث الإعلام المقرب من السلطة عن كلمة مباشرة للشعب ومن ثم اكتشفنا أننا لسنا جزء من المشهد؟ لماذا تم تسريب مليون معلومة لكن لم يجري الإعلان المسبق أن الفصائل بصفتها مصدر الشرعية العسكرية الآن ستولي الشرع مهمة رئيس البلاد للمرحلة الإنتقالية في ساعة انحلالها وخضوعها لسلطة “الدولة”؟ هل هذا تخبط أم استخفاف؟
الناس ليست ذوات أهلية خائفة وجائعة فقط، نحن ذوات سياسية عقلانية ومن حقنا أن نملك المعلومات، وأن نفهم تفكير أصحاب السلطة، لكي نحلله بشكل واضح ونأخذ موقفنا منه، سلباً أو إيجاباً. احترمونا لكي نحترمكم، هذا ليس “نقاً”، ولا “سلبية”، هذا الحد الأدنى لمجتمع سياسي قائم على الحق والعدل!
——————————
ملاحظات/ حازم السعيد
تحديث 30 كانون الثاني 2025
لا أعتقد بأن على السياسة التحررية بأن تضع الديمقراطية التمثيلية على رأس جدول أعمالها، بل ولا أعتقد بأنها ينبغي أن تحاول استنزاف طاقاتها بالتفكير بسؤال الصراع على السلطة برمته. تأخذ السلطة اليوم شكلها وفقاً لصراع أجنحتها ومكوناتها وعلى إيقاع اشتباكها مع النظام الإقليمي العالمي أولا، ومع المجتمع المحلي وتعبيراته “الصلبة”، ولا يوجد الكثير مما يوحي برغبة سلطات الأمر الواقع التخلي عن سلطاتها ولا نمتلك من الأدوات ما يسمح بإجبارها على ذلك.
من جهة ثانية، في ظل ظروف سوريا والإقليم بل العالم اليوم، أعتقد بأنه لا يمكن للديمقراطية التمثيلية أن تتحول لدينا إلا إلى ديمقراطية انتخابية قائمة على فكرة الصندوق وغلبة الجماعة، بالمعنى الأهلي لمقولة الجماعة، وهو ما قد يطلق دينامية انتخابية لا تقود إلا إلى تصدير الزعامات القادرة على الحشد السريع، أي الزعامات الجهوية أساساً، أملا بالتأثير في اللحظة الحاسمة المسماة بالانتخابات. كي تتحول الجماعات الصلبة إلى جماعات سياسية واعية بمصالحها، لا مجرد وسيلة لوصول زعمائها إلى سدة السلطة، وكي تتحول الديمقراطية التمثيلية إلى رافعة سياسية ضامنه للحيوية وإلى تمثيل العميق للمجتمع، لابد من أن يصاحبها اقتصاد قوي ودولة قانون، ولا بد من أن يقوم المجتمع ببناء مؤسساته وأن يفصل بينها، ولا بد من أن يقوم بتكريس تقاليد ديمقراطية قد يكلف تكريسها الكثير من الصراعات، ولا بد من سلطات مضادة، ولا بد من أشياء أخرى كثيرة، تتطلب جميعها الكثير من النخب والتاريخ والحظ.
لا أعتقد بأننا نمتلك أي شيء يذكر من هذا، ولا أن دولة القانون قريبة في سوريا، بل وأعتقد بأن الديمقراطية التمثيلية إن حصلت، لن تقود الى تغييرات إيجابية وازنة وعميقة، بل وقد تحول سوريا الى فراخة للديوك، من أشباه الدغري وأبو دباك، وإلى مثال على الفوضى.
قد يبدو هذا الكلام غريباً، ولكن تعقيدات المشهد وغرابته قادت بعض أنبهنا وأكثرنا نزاهة واجتهاد إلى الدعوة إلى “ديكتاتورية وطنية” في واحدة من لحظات التدهور التي عاشها السوريون في العقد الماضي.
لا أعتقد أننا يجب أن ننتظر تحقق هذا الاحتمال أو أن نعول عليه، بل ولا أعتقد بأن سقوط النظام يخفف التعقيدات كثيراً بل ويضعنا ذلك السقوط في لحظة تشكل صفريتها تعقيداً جديداً.
بالمناسبة، يوحي بعض أداء الهيئة وتحويلات زعيمها الجولاني وخطابه باحتمال “ديكتاتورية وطنية” ولو قليلاً، وهو على ما أعتقد بعض ما يثير حماسة طيف واسع من السوريين تجاه هذه السلطات الجديدة، وبعض أسباب توهج هذه اللحظة. الهدوء والدعم الإقليمي يوحيان بأنه يمكن أن تتمخض هذه السلطو فعلاً عن “دكتاتورية وطنية”، والذي قد يكون من حظ سوريا، بشكل من الأشكال.
حتى لو أفرطنا بالتفاؤل وتحقق ذلك فعلاً، يبقى بأنني وكثر غيري، لا يمكن أن نكون جزءا من هكذا مشروع، ولا أن نقبل بالتواطئ معه. ما قد يسمح بخيارات أخرى، مختلفة عن استهلاك الاخبار مساءاً، هو الحلم والعمل على إخراج رأس السياسة من صندوق الديمقراطية التمثيلية الذي يأسر خيالها لتفكر بابتكار نموذج مختلف، في هذا الوقت المستقطع. نموذج لا يقطع مع الديمقراطية بكل تأكيد، بل ويتبناها كمقولة كبرى وفلسفة في الحياة والوجود، وإنما يحاول استبدال مقولة النخبة، الرثة وغير الموجودة تقريباً، والتي يعتمد عليها هذا الشكل من الديمقراطية، بمقولة الأقلية الفعالة والذكاء الجماعي والأخوة، بما يحوّل القلة التحررية المبعثرة إلى جماعة، أقلية فاعلة، قادرة على التواصل مع الآخرين، الذين لا يرغبون بأن يجري اختزالهم في الأغلبية الحاكمة، والذين يشكلون الأغلبية الحقيقية في البلد وفي أي بلد، ليكون الهدف التحول إلى قوة اجتماعية قادرة على بث الإيقاع في الحياة السياسية وعلى تحديد بعض الخطوط الحمر للسلطات الجديدة، وعلى المضي في مشوار بناء دولة القانون والديمقراطية.
أعتقد أيضاً بأن هذه الأقلية الفعالة ليست صغيرة، وبأننا كنا مستنقعات صغيرة راكدة وفاقدة لاتصالها ببعضها، كما أعتقد أيضا أن تواصلنا في فضاء لا سلطوي أو ذو تقاليد كارهة للسلطة، أو ميزاركية، ممكن بل وقد يحولنا الى تيار، يمكن أن يساهم في ري أرض البلد العطشى، وأن يتدفق الى أعماقها فيخصّبها ويتحول إلى بعض أعذب ينابيعها. تواصلنا مع بعضنا ممكن، إن تحلى القليل منا بالمزاج العالي وروح المبادرة والخبرة التنظيمية، والذكاء الاجتماعي أو الحس السياسي. تواصلنا مع الناس العاديين، الأغلبية الحقيقية، إن تمكننا من العمل على لغة وخطاب يسمحان بتواصل بسيط عميق وشفاف وتشاركي، أكثر من ممكن بل ومشتهى من قبل الأغلبية الساحقة من هؤلاء فمن لا يرغب بسياسة تحسن أحواله وتصالحه مع وجوده لتمنحه طيب العيش والكثير من المرح.
——————————-
كيف ينظر السوريون إلى “خطاب النصر”؟/ زينة شهلا
الخميس 30 يناير 2025
مساء الأربعاء 29 كانون الثاني/ يناير 2025، تسمّر السوريون أمام شاشات التلفاز، مترقّبين مجريات إلقاء “خطاب النصر”، من قبل قائد الإدارة الجديدة أحمد الشرع، في حضور ممثلي الفصائل العسكرية المشاركة في عملية “ردع العدوان” التي أطاحت بنظام بشار الأسد قبل شهر ونصف.
في تمام الساعة الثامنة، وبينما كان من المفترض أن يتوجّه الشرع لأول مرة منذ توليه إدارة البلاد، بخطاب مباشر إلى المواطنين، مرّت الدقائق ولم يحصل السوريون إلا على مقتطفات من العبارات والتصريحات المنسوبة إليه، وذلك عبر قنوات مختلفة على مواقع التواصل الاجتماعي.
فماذا جاء في هذه التصريحات؟ وما هي أبرز القرارات المعلنة؟ وكيف تفاعل معها السوريون في الداخل والخارج؟ هذا ما يسعى هذا التقرير إلى الإجابة عنه.
عن “الخطاب الأوّل” للشرع
تضمّنت هذه التصريحات حديث الشرع، عن “النصر الذي تحقق دون خراب ودمار وسفك دماء وإنما بالرحمة والعدل والإحسان عند القدرة”، و”العزم على بناء سوريا وتطويرها”، محدّداً أولويات سوريا بـ”ملء فراغ السلطة، والحفاظ على السلم الأهلي، وبناء مؤسسات الدولة، والعمل على بناء بنية اقتصادية تنموية، واستعادة سوريا مكانتها الدولية والإقليمية”.
كما تحدّث وزير الخارجية أسعد الشيباني، عن السياسة الخارجية التي تهدف إلى “طمأنة الخارج وتوضيح الرؤية وكسب الأصدقاء وتمثيل الشعب السوري في الداخل والخارج، وخفض التوتر وإرساء السلام”.
كذلك، ألقى المتحدّث باسم إدارة العمليات العسكرية، العقيد حسن عبد الغني، “بيان إعلان انتصار الثورة السورية”، واعتبار الثامن من كانون الأول/ ديسمبر من كل عام، عيداً وطنياً. كما أعلن عن مجموعة من القرارات التي تتمثّل في إلغاء العمل بدستور عام 2012، ووقف العمل بجميع القوانين الاستثنائية، وحلّ مجلس الشعب واللجان المنبثقة عنه، وحلّ جيش النظام وإعادة بناء الجيش السوري “على أسس وطنية”، وحلّ جميع الأجهزة الأمنية التابعة للنظام بفروعها وتسمياتها المختلفة، وجميع الميليشيات التي أنشأها، وتشكيل مؤسسة أمنية جديدة تحفظ أمن المواطنين، وحلّ حزب البعث العربي الاشتراكي، وأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، وما يتبع لها من منظمات ومؤسسات ولجان، وحظر إعادة تشكيلها تحت أي اسم آخر، على أن تعود جميع أصولها إلى الدولة السورية، وحلّ جميع الفصائل العسكرية، والأجسام الثورية السياسية والمدنية، ودمجها في مؤسسات الدولة الجديدة.
وتضمّن هذا الإعلان في النهاية تولّي أحمد الشرع، رئاسة البلاد، خلال ما سُمّيت بـ”المرحلة الانتقالية”، بما يشمل قيامه بمهام رئاسة الجمهورية العربية السورية، وتمثيلها في المحافل الدولية، وتفويضه بتشكيل مجلس تشريعي مؤقّت للمرحلة المشار إليها، بحيث يتولّى هذا المجلس مهامه إلى حين إقرار دستور دائم للبلاد ودخول هذا الدستور حيّز التنفيذ، دون تحديد إطار زمني لهذه الإجراءات.
إلى ذلك، أثارت هذه القرارات المعلنة وطريقة طرحها ردود فعل شديدة التباين بين السوريين، فالبعض رأى فيها “تأسيساً لدكتاتورية عسكرية جديدة” في البلاد، و”استخفافاً بكل التضحيات والخسارات التي تكبّدها ملايين السوريين” طوال السنوات الأخيرة، وآخرون رأوها “منطقيةً ومتوقعةً” في المرحلة الحالية، وإن كانوا يفضّلون أن تعلَن بـ”طريقة أفضل”. ونزل فريق ثالث إلى ساحات بعض المدن السورية، بعيداً عن صخب النقاشات على مواقع التواصل، واحتفلوا بترديد الهتافات والأغاني ورفع الأعلام السورية وحتّى إطلاق الرصاص حتّى ساعات متقدّمة من الليل، عادّين ما يحصل “إيذاناً بمرحلة بدء الاستقرار والرخاء” التي طال انتظارهم لها.
قلق وخيبة أمل
خلال ساعات ما بعد “خطاب النصر”، عبّر سوريون كثير عن خيبة أملهم على مستويات عدّة، لعل أولها طريقة الإعلان ومخاطبة السوريين بشكل غير واضح وغير مباشر، وكأنهم ليسوا معنيين بكل ما يحصل والهدف هو فقط إخبارهم لا اعتبارهم شركاء في مستقبل بلدهم، وهو جدل لم يبدأ مع الخطاب الأخير، إذ وُجِّهت انتقادات عديدة إلى القيادة الجديدة على مدار الأسابيع الأخيرة بسبب عدم توجّهها نحو فئات كثيرة من الشعب السوري وتركيزها على مخاطبة الخارج والوفود الأجنبية.
خيبات أخرى تعلّقت بمحتوى الإعلان والخطاب، والذي تجاوز كونه يتحدّث فقط عن “النصر”، ليتضمّن مجموعة إجراءات تمنح الشرع وحده مستوى عالياً من الصلاحيات وفي مقدّمتها تشكيل جسم تشريعي جديد بطريقة غير واضحة، ما قد ينذر بفوضى تشريعية، فضلاً عن تمكينه من تولّي الرئاسة بصلاحياتها كلها، في حين كان من المرتقب انتهاء فترة الحكومة الانتقالية التي أعلن عنها سابقاً مفيداً بأنها ستكون لثلاثة أشهر، والإعلان عن موعد لمؤتمر الحوار الوطني، وهو أمر تأجّل أكثر من مرة، فيما لم يعد معروفاً الآن إن كان سيُعقد أم لا.
بالإضافة إلى ما سبق، جاء الإعلان عن هذه القرارات “المصيرية” في حضور قادة الفصائل العسكرية فحسب، من دون أي حضور للأجسام المدنية الفاعلة، وكذلك من دون أي وجود نسائي، ومن دون وضوح مصدر “شرعية” القرارات، الأمر الذي يثير المخاوف من تأسيس حكم عسكري مستبدّ والاستئثار بالسلطة دون الاستعداد مستقبلاً لتسليم السلطة للمدنيين، وهو أمر يناقض كليّاً ما كان يأمله السوريون منذ إسقاط نظام الأسد، وكانوا يعملون لأجله بشكل حثيث. وهذا يذكّر ربما بالطريقة التي استلم بها بشار الأسد، السلطة بعد وفاة والده عام 2000، حين تم تغيير الدستور بـ”جرّة قلم”.
من الأمور المثيرة للقلق أيضاً، من وجهة نظر بعض السوريين، عدم وضوح انضواء الفصائل العسكرية كافة العاملة على الأراضي السورية، والتي تمتلك توجّهات وانتماءات مختلفةً للغاية وأحياناً تصادميةً، تحت راية جيش سوري واحد، خاصةً عند الحديث عن الفصائل الموجودة في جنوب سوريا، في محافظتَي درعا والسويداء تحديداً، وأيضاً قوات سوريا الديمقراطية في الشمال الشرقي. فهل ستقبل جميعها العمل تحت راية واحدة؟ وهل ستنتهي الحالة الفوضوية وغير المريحة لانتشار السلاح غير المنضبط في سوريا؟ هذه الأسئلة وغيرها لم تحظَ بعد بإجابة واضحة.
خطاب “مقبول ومتوقّع”
سوريون يحتفون بـ”خطاب النصر”
في الجهة المقابلة، رأى فريق آخر من السوريين أن ما حصل في “خطاب النصر” كان متوقعاً وغير مفاجئ وفق “شرعية الانتصار العسكري”، ومشابهاً لسيناريوهات الانقلابات التي شهدتها سوريا في خمسينيات القرن العشرين، بل عدّوا ذلك “مطلوباً” كشرط من شروط المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها البلاد، ولطيّ صفحة المرحلة السابقة بكل رموزها، خاصةً مع وضوح دعم معظم القوى الإقليمية والدولية لهذا المسار. وبرغم “الإخراج” السيئ لهذه القرارات، تبقى هناك العديد من النقاط الإيجابية التي يمكن استثمارها في المرحلة المقبلة، بحسب ما يرى هذا الفريق.
من هذه النقاط، قرب انتهاء “كابوس” سيطرة عشرات الفصائل العسكرية المختلفة على بلد يضم تنوّعاً هائلاً مثل سوريا، بكل ما يمكن أن يحمله ذلك من عنف وفوضى قد يصعب ضبطها وقد توصّل إلى مرحلة لا تُحمد عقباها، وبدء مرحلة دستورية جديدة مع وجود الكثير من الأسئلة حولها، والتي لها علاقة بالمجلس التشريعي المرتقب ومدى تمثيله لكل السوريين واحتمالية إصدار إعلان دستوري جديد وغيرها من النقاط.
أيضاً، تشير بعض الآراء “البراغماتية”، إلى أنّ نجاح التجربة اليوم في سوريا ليس رهناً بالإدارة الجديدة والقيادات العسكرية فحسب، وإنما بكل السوريين الذين ربما ما عادوا يملكون الكثير من الخيارات بعد الإرث الثقيل الذي خلّفه النظام السابق، سوى دعم القيادة وتوجيهها حيث أمكن، ومحاولة مساندتها على كل المستويات لئلا تنهار الدولة بكل ما فيها، خاصةً أنه بات جليّاً أن معظم القيادات المدنية الجديدة لا تمتلك الخبرة الكافية لإدارة دولة متكاملة، فهؤلاء جاؤوا من خلفية عمل ثوري و/ أو جهادي طارئ في معظم الأحيان، وعلى مستوى محلي فحسب.
لكن ذلك لا يعني في أي حال من الأحوال التوقّف عن نقد الأخطاء، والإشارة إلى الانتهاكات حين حدوثها، خاصةً أنّ صانعي القرار الجُدد يبدون اليوم مستوى “مقبولاً” من المرونة والانفتاح.
ما المطلوب اليوم؟
منذ إسقاط نظام الأسد، بات لافتاً انخراط الكثير من السوريين من مختلف الشرائح والأعمار والانتماءات في مستوى معيّن من العمل السياسي والمدني والمجتمعي، وضمن جوّ غير مسبوق من الانفتاح والحريات، مع الإقرار بأنّ المشهد ليس وردياً على الإطلاق، والتخوّف من عدم استمراره على هذه الحال في الأشهر المقبلة.
لا تزال هناك اليوم الكثير من الأولويات، على رأسها تحسين الوضع الاقتصادي، والشعور بمستويات أعلى من الأمان، والالتفات إلى السلم الأهلي وتطبيق آليات العدالة الانتقالية، خاصةً في المناطق التي لا تزال تشهد حوادث عنف وانتقام غير منضبطة، إلى جانب ملفّات ضخمة مثل إعادة بناء المؤسسات ومكافحة الفساد وعودة المهجرين وإعادة الإعمار والقلق من التوغل الإسرائيلي جنوباً وغيرها.
في الوقت ذاته، يبحث سوريون كثر، خاصةً من جيل الشباب، عن مساحة أكبر للاشتباك مع مختلف القضايا، والمزيد من التنظيم، والثقافة السياسية التي كانت غائبةً عنهم طوال عقود، وصولاً إلى دولة مواطنة وقانون يحلم بها الجميع، وهو عمل تراكمي يتطلّب وقتاً طويلاً.
ووفق ما أعلنته الوكالة السورية للأنباء “سانا”، سيلقي أحمد الشرع، خطاباً موجّهاً إلى الشعب السوري، مساء الخميس 30 كانون الثاني/ يناير الجاري، فهل يستفيد من الانتقادات البنّاءة لفحوى “خطابه الأول”، ويكون خطابه الثاني على قدر التوقعات والآمال؟ فلننتظر ونرَ.
رصيف 22
—————————-
البحث عن البرلمان البديل في دمشق/ إياس شاهين
الخميس 30 يناير 2025
في تاريخ دمشق الحديث، كما في مدن أخرى، لم تكن العمارة يوماً بريئة أو حتى محايدة، فهي تحمل في طياتها سرديات السلطة، وتعكس موازين القوى، وتُجسّد الامتياز النخبوي الذي يُعمّق المسافة بين الحاكم والمحكوم. البرلمان، كما اعتدنا أن نراه، ليس مجرّد تجسيد حاد للسلطة، بل أداة لترسيخ المسافة بين من يُفترض أنهم ممثلون للشعب وبين الشعب ذاته.
ما يعنينا هنا ليس الشكل، ولا الرموز البصرية التي تُثقله، بل الدور الذي يؤديه: هل هذه العمارة تخدم الشعب أم تكرّس غيابه؟ هل تحيي فكرة التشاركية، أم أنها تمثل انحياز السلطة وتفوقها الرمزي على من تمثلهم؟ ما الذي يجعل من الفضاء مكاناً شرعياً للتجمّع أو المنع؟ هذه الأسئلة تضع العمارة في مواجهة مع ذاتها، وتجعلها جزءاً من معركة أكبر؛ معركة تُخاض ضد كل ما يُقصي الإنسان، ويُحوّل المكان إلى أداة تحكّم بدلاً من أن يكون فضاءً للتحرّر.
المسرح يتحول إلى برلمان
في “شارع العابد”، أحد أبرز معالم التخطيط الكولونيالي في دمشق، يقف البرلمان السوري على أنقاض سينما ومسرح “جناق قلعة”. هنا، في هذا الموقع الذي شيّده العثمانيون عام 1916 بالتعاون مع الألمان، كانت أول دار للمسرح والسينما في دمشق، لكنها لم تصمد طويلاً؛ احترقت، ليُستبدل المسرح ببرلمان، وكأن المكان ذاته يروي قصة تحوّلات عميقة في وظيفة الفضاءات العامة، من منصّة للعرض الفني إلى قاعة للعرض السياسي، ومن فضاء للخيال إلى فضاء للسلطة.
ليس بعيداً عن البرلمان، على الزاوية الشمالية الشرقية منه، يقع “مقهى الروضة”، نقطة العلام الأشهر في دمشق للقاء والاستدلال المكاني، والذي بالمناسبة وصفه خليل صويلح في مقال له نُشر في صحيفة “الأخبار” اللبنانية عام 2008 بـ “البرلمان الثقافي”، وهنا إشارة أولى على إمكانية كون هذا المقهى البسيط برلماناً بديلاً ومسرحاً يومياً للنقاشات الحرّة، كما أن أساس المبنى كان سينما صيفية، وهي مصادفة تحمل إشارة ثانية تبادرت إلى ذهني، تشابه التحول المعماري للبرلمان الحالي من سينما إلى مبنى رسمي.
جلوسي في الروضة اليوم مختلف. لست هنا من أجل التسلية، بل برفقة أصدقاء ننتظر لقاء “حازم نهار”، الكاتب ذائع الصيت، للحديث عن “المؤتمر الوطني”، وهو إشارة ثالثة إيجابية عن كونه برلماناً بديلاً، يحتضن حوارات جادة تهم الشأن العام، على نقيض حالة الاستعراض التي سادت البرلمانات البديلة الأخرى في المدينة بتجمّع لمؤثرين وصانعي محتوى.
الحديث عن “برلمانات المؤثرين” قد يبدو مضيعة للوقت. هي مجرّد مسارح أخرى، ولكنها ليست مسارح للحوار الحقيقي، فالمسرح، حتى عندما يتحول إلى برلمان، يجب أن يظل وفياً لجوهره: منصة لطرح الأسئلة، لكشف السلطة، وليس للحشد والظهور. هنا لا ننفي شرعية وأحقية الاحتفال والسعادة بسقوط النظام، لكن الوقت يمر والأمور تجري من تحتنا، وأنا الآن أبحث عن البرلمان البديل وأحاول الإجابة على الأسئلة الكبرى: كيف نصنع مكاناً يمثل الناس حقاً؟ كيف نحول النشاطات العشوائية إلى فعل سياسي حقيقي؟
بالعودة إلى “مقهى الروضة” والحديث مع “حازم نهار”، كانت لحظة تضجّ بالتناقضات. المكان، رغم سوء تنظيمه، جذب جمهوراً متنوعاً، قَدِم من كل الجهات، وحتى العابرين أمام واجهته الشفافة استوقفهم مشهد التجمهر وغلبهم الفضول للدخول. النقاشات في الداخل أعطت إحساساً حقيقياً بالحياة، وكأن “مقهى الروضة” قد تحول، دون تخطيط مسبق، إلى مؤتمر حوار مفتوح. لا يحتاج المكان إلى فلسفات معمارية كبيرة ليتحول إلى فضاءٍ حيوي، بل يكفي أن يجتمع فيه الناس، أن تتشابك الأصوات، أن يصبح امتداداً لنبض المدينة.
بالطبع، “مقهى الروضة” كمبنى لا يقارن بالبرلمان الرسمي، بما يحمله من تفاصيل متقنة وأناقة متوازنة. على العكس، المقهى يتسم بالعشوائية، بالاستعراض والمزاجية، لكنه مع ذلك فضاء يخلق معنى آخر للحوار. أثناء الجلسة، أشار أحد الأصدقاء إلى وجود مقهى يحمل الاسم ذاته في حمص، ربما أقدم تاريخياً، ويقع بين محور الساعة القديمة والجديدة، وبتكوين مشابه. كانت هذه المقارنة جزءاً من حوار طبيعي بين معماريين، محاولة لفهم الروابط الخفية بين الأماكن ودلالاتها، لكن مصادفة حديث “حازم” عن ضرورة وجود مؤتمرات وطنية تأسيسية في كل محافظة جعلت من المقاربة أمراً شيقاً للبحث، وأثار سؤالاً أعمق: هل يجب أن تكون دمشق مركز كل شيء… مقرّاً للبرلمان ولمن يقرّر؟ لماذا لا تتوزع البرلمانات البديلة، فتكون امتداداً لخصوصية كل مدينة وروحها؟
سحابة الدخان الكثيفة دفعتني للخروج والتشكيك بأهلية المكان صحياً، وعلى “محور العابد” مشيت باتجاه “قهوة مزبوطة”. لم أكن أهدف سوى لإلقاء التحية على أحدهم لأنني على ثقة بلقاء أحد ما أعرفه، مثل “زينة”، الصحفية التي تعتبر هذا المكان برلمانها المفضل: فضاء نخبوي، فني، ثقافي. مقهى “مزبوطة” يختلف عن “الروضة”؛ فهو ذو طابع معماري مميز، يحتل الطابق الأول من مبنى يعود إلى حقبة الاستعمار الفرنسي، وتنسيق عالي الجودة في تفاصيل نوافذه، وحبكة محكمة على زاوية تقاطع شارعين تتوّجها شجرة مجنونة ظليلة.
ثورتنا على الموروث القديم
داخل المكان، كانت النقاشات أكثر هدوءاً، تميل إلى العمق، وتشمل الجميع، حتى غير المدخنين، وكأن هذا الفضاء يعكس مجتمعاً سورياً أكثر تنوّعاً ومرونة من الروضة. هنا، كان اللقاء بالمفاجآت: “مضر”، “كنان”، وغيرهم ممن لم أرَهم منذ 13 عاماً على الأقل. اللقاءات المقصودة والعفوية معاً تضفي على “مزبوطة” بُعداً آخر، ويرفع من أسهمه كبرلمان من نوع خاص.
لكن، من صنع هذه الأماكن؟ من أعطاها قيمتها؟ الإجابة ببساطة: الناس، الزوار، السياق العمراني وسهولة الوصول. هم من حولوا “الروضة” و”مزبوطة” إلى فضاءات نابضة بالحياة. ليست العمارة وحدها من تصنع المكان، بل النشاط الإنساني، الحوار والروح التي تملأه.
الفكرة الأعمق هنا هي أن لا أحد يمكنه ادعاء امتلاك المكان، لا أصحاب “الروضة” ولا “مزبوطة”. الشرعية تأتي من الاستخدام، من التفاعل بين الناس والمكان. في نهاية الأمر، برلمانات المدينة ليست مباني رسمية، بل أفعال تعيد صياغة فضاءات الحياة اليومية، وتجعلها منصات مفتوحة للحرية والنقاش.
برلماناتنا: حدود تُخلق ولا تُسأل عنها
لكن ماذا عن البرلمانات التي نصنعها نحن؟ تلك التي تولد من الهوامش، من الزوايا المخفية التي لم يلتفت إليها أحد، وتتشكل دون إذن أو تخطيط مسبق؟ هذا السؤال جاءني عندما التقيت بـ “مايا”، المعمارية الشغوفة بالسينما. دعوتها لمشاركتي فكرة برلمان مفتوح، عروض سينمائية في الشارع، مكان لا يرأسه أحد ولا يتوقف، لا لشيء لكن كي يفرض قانونه وبأنه من طبيعة الأشياء في المدينة.
أبعد قليلاً باتجاه السوق، بدأت التجربة في منطقة “الشعلان”، عند جدار أبيض في زقاق هادئ وقليل الحركة وسهل الوصول والنفاذية. أطلقت على الفكرة اسم “إسقاط”، مستوحياً العنوان من سياق البلاد: إسقاط النظام، وإسقاط الصور والأفكار على الحائط. كانت التجربة ضربة رمزية لقوانين الرقابة والمنع، كما وصفها صديقي “وسام”، محاولة لعرض أعمال كانت مختبئة وغير قابلة للنشر، أعمال تدعو إلى رفع سقف الحريات، لرسم حدود جديدة تتجاوز المكان والزمان.
لم تكن التجربة مثالية. الطقس كان قاسياً، النظافة حول المكان لم تكن كما ينبغي والتوقيت لم يكن موفقاً، ومع ذلك كانت التجربة برمتها محاولة لخلق فضاء جديد للحوار، برلمان مؤقت في الشارع، خارج القاعات الرسمية وخارج سلطة المؤسسات. المفاجأة كانت في وفود الناس، رغم المطر، بدافع الفضول أو الرغبة في المشاركة. كانت تلك اللحظة شاهداً على أن البرلمان ليس مكاناً بقدر ما هو فعل، ليس منتخباً بالضرورة، بل يتجسّد في رغبة الناس في الحرية والنقاش. فكلمة “برلمان” ذاتها، المشتقة من الفرنسية parlement، تعني التحدث أو المناقشة، وهنا يكمن جوهرها الحقيقي: ليست رمزاً للسلطة، بل مساحة للحديث والنقد ولتبادل الأفكار.
في العمارة، ندّعي أن تصميم البرلمانات يمكنه تشكيل علاقة الشعب بالسياسة. نبني قباباً تشير إلى الانفتاح، وجدراناً زجاجية توحي بالشفافية، لكن هذه التصاميم، في معظم الأحيان، تخدم السلطة أكثر مما تخدم الناس، تتحول إلى أدوات لتأطير الديمقراطية داخل حدود معمارية، إلى محاولة لحصر التمثيل الشعبي في رموز مغلقة تكرّس النخبة وتقصي العامة.
البرلمانات الحقيقية ليست مباني مهيبة أو قاعات مزخرفة. هي الأفعال التي تخلق الحوار، هي الغرف التي تُفتح للنقاش، هي الزوايا المهملة التي تتحول إلى فضاءات لإعادة تعريف معنى الحرية، هي حالة اجتماعية، نشاط مستمر، مكان ينشأ من أحقية النقد ونقد النقد والاستماع.
البرلمان الذي أبحث عنه ليس مجرد مبنى، هو فضاء، شرعيته تُستمد من النشاط الذي يحتضنه، من الناس الذين يشغلونه، لا من هيمنة ورمزية الشكل الذي يرتديه.
ما بين “الروضة”، “مزبوطة” وجدار “الشعلان” وغيرها، تتشكل البرلمانات البديلة كحالة حيوية نابضة في دمشق. المدينة ليست بحاجة إلى برلمان واحد يشير إلى السلطة، بل لمساحات متعدّدة، تحدّدها أفعال سكانها، وتعطيهم حق التواجد والنقاش. هذه البرلمانات البديلة تعكس مدينة تتغير، تستعيد ذاتها من قبضة القمع، وتُعيد صياغة علاقتها بسكانها، وهنا تتسع الفكرة: دمشق اليوم ليست مجرد مكان، بل مدينة تتحدى الحدود المرسومة، وتخلق حدوداً جديدة بأيدي ناسها.
الآن نحن من يجب أن يصنع الحدود ويهدمها. ونرفض السؤال عنها. نحن من يعيد تعريف الفضاء. فالحرية لا تُمنح، بل تُخلق. لا نحتاج إلى بناء برلمان، بل إلى بناء إرادة حرة، قادرة على خلقه أينما شاءت.
رصيف 22
————————–
من مرايا إلى مسافة أمان… الدراما السورية “تنكش” عش الدبابير/ جوان ملا
الخميس 30 يناير 2025
منذ التسعينيات وإلى اليوم، دخلت سوريا عصراً خاصاً بها، لا نتحدث عن عصر سياسي ولا جغرافي، بل عصر فني، عصر الدراما السورية التي أثّرت بأجيال عدة على امتداد الوطن العربي.
خلقت هذه الدراما حيّزاً مميزاً لها في القلوب والعقول، بنَت جسراً مع الناس وأظهرت لهم عيوبهم ومحاسنهم، أضحكتهم وأبكتهم وقامت بتوعيتهم، وإلى اليوم تُعادُ الكثير من الأعمال المخلدة على الشاشات أو عبر يوتيوب ليشاهدها الناس من جديد، إما في سهرة عائلية تعيد دفء العائلة السورية المشرذمة التي كانت ذات يوم تقضي وقتها تحتسي الشاي أمام مدفأة المازوت وهي تشاهد مسلسل التاسعة والنصف مساء على التلفزيون السوري، أو أثناء تناول الشاب المغترب لطعامه الذي حضّره وحده بعيداً عن أمه كي يستعيد لقطات ولحظات من الحنين، أو حين تحضير الأم للطعام في المطبخ كي تُسلي نفسها بعد أن فارقها أولادها.
هذه الدراما لم تكن مجرد رسائل وقصص مطروحة فقط، بل حكايات عنّا نحن، عن ذكرياتنا وأوجاعنا وقضايانا، وكل حوار أو مشهد يعيد لنا النوستاليجا وتلك الأيام التي لم نخسرها رغم حرب طويلة ما زالت آثارها موجودة إلى اليوم.
الفصول الأربعة
تماماً كعائلة كريم ونبيلة في مسلسل “الفصول الأربعة”، كانت تجتمع معظم العائلات السورية كل يوم خميس في بيت الجد والجدة، يتناولون الطعام ويتجاذبون أطراف الحديث؛ سهرات لا تخلو من الضحك والتسلية ولهو الأطفال. أيامٌ كانت مليئة بالحب، نقلت الدراما السورية تفاصيلها بأسلوب متميز راقٍ يحمل رسالة إنسانية، ليُطرَح في عدة أعمال، ولا سيما مع بداية عام الألفين، مجموعات متنوعة من الحكايات كانت أُسَرية بامتياز، تناقش قضايا الطفل والمرأة والشباب والعمل، وبعدها بدأت تتشعب لتلامس النقد الاجتماعي السياسي والفكري والثقافي والمجتمعي.
بقعة ضوء ومرايا
بين سلسلتي “مرايا” و”بقعة ضوء”، حاكى الفنان ياسر العظمة منذ الثمانينيات، مشكلات وقضايا المجتمع السوري، وبين الضحكة والكوميديا السوداء كانت اللوحات المطروحة تشرّح المجتمع السوري والعربي بأكمله، بل إن بعضها تنبأ بالمستقبل السياسي والتقني، ليحذو حذوه في ما بعد مسلسلُ “بقعة ضوء”، مقدماً لوحات درامية ناقدة لاذعة للسلطة والمجتمع أيضاً، ورغم أن هذه الأعمال كانت تخضع للسلطة والرقابة، لكن النظام السابق كان يسمح لها بالظهور من باب التنفيس عن السوريين/ات وادعائه بحرية الفن.
رغم ذلك كانت هذه المسلسلات بمثابة نواة لتأسيس أعمال درامية أخرى ترفع من السقف النقدي بشكل أكبر.
وإلى اليوم يَنظر المشاهد العربي لنفسه من خلال هذه الأعمال على مدار سنوات طويلة، لتبقى تلك اللوحات الدرامية بمثابة أرشيف درامي للمجتمع ورصد تغيراته بالتدريج.
ولادة من الخاصرة
من عمق الألم والوجع وتسلط السلطة، بدأت الدراما السورية باللعب على حبال النار و”نكش” عش الدبابير، فرغم الحفاظ على الدراما الأسرية والكوميديا الساخرة الناقدة، بدأت في منتصف الألفينيات تظهر ملامح لأعمال درامية “ثقيلة” تجابه جَور السلطة، كان أحدها وربما أقواها “غزلان في غابة الذئاب”، وتلاه العديد من المحاولات التي وضعت الاصبع على العين المجروحة، من خطف وتعذيب وسَجن وقتل بسبب التعبير عن الرأي أو مجابهة أزلام النظام.
من “الغزلان” إلى “لعنة الطين” و”الولادة من الخاصرة”، أعمالٌ درامية تخطت المتوقع والسقف، تحايلت على الرقابة قدر الإمكان ووصلت لمبتغاها، وربما كان لها دور ولو بعيد في انطلاق الثورة السورية عام 2011 بعد أن وجد السوريون أنفسهم محاطين بـ”حيطان إلها آدان”، على حدّ قولهم.
مخاضٌ طويل للدراما السورية برز عنه في ما بعد ولادةٌ متعسرة من الخاصرة لأعمال عدة بدأت تنقسم على نفسها وتروي آلام وآمال السوريين/ات بين الحرب والثورة والتشرذم الذي دبَّ في قلب البلاد بين أصوات المدافع والانفجارات والمؤيد والمعارض.
عن الخوف والعزلة
بدأت حالة الهجرة والانقسام في المجتمع السوري ورحيله عن بلاده مجبراً، وبالتالي باتت الدراما السورية تسير على خُطى خطرة بين محاولة إرضائها للنظام الحاكم كي تصل للناس بطريقتها وبين أن تكون شفافة ذات أثر حر، فكانت المحاولات تلك تتم خارج سوريا كي تكون حرة الأفكار بعيداً عن سلطة النظام ورقابته مثل “قلم حمرة”، و”غداً نلتقي”، بينما بقيت الأعمال المُصَوَّرة في الداخل السوري تحاول أن تتحايل أو ترضي الرقابة، وبنفس الوقت تحكي بصوت الناس مثل “ضبوا الشناتي”. لذا سُرقت الدراما من السوريين بسبب خناق الرقابة المحكَم، وظل الجمهور متعطشاً لمن يتحدث عنه، فحاول الفنانون والمنتجون، لكنهم لم يستطيعوا تخطي الممنوع إلا بما أمكن، وباتت الأعمال الشامية بمثابة هروب من الواقع مع حصار الدراما السورية الاجتماعية المعاصرة من القنوات العربية، وأصبحت الإسقاطات غايةً لدى الكُتّاب في الأعمال التي يكتبونها، لإيصال صورة عن معاناة السوريين لكن بأسلوب مبطن، وبقي الجمهور منتظراً أن تعود له حكاياته بعد أن شعر أن بينه وبين وطنه والدراما سوراً من الخوف والعزلة.
مسافة أمان
رغم التخبطات التي حلت بها، لكن الدراما السورية بقيت متماسكة قدر الإمكان، لها جمهورها الواسع بأيديولوجياته المختلفة ينتظر كل مرة حكاية جميلة جديدة تتحدث عنه كما كان يحدث في السابق.
اليوم بعد سقوط النظام ورفع شعار الحرية للثورة السورية منذ انطلاقتها، وبما أن الحرية لا تتجزأ ولا تكون مشروطة بأهواء معينة، ينتظر الفنانون السوريون ويعملون كي يستعيدوا أنفسهم من خلال طرح أفكارهم بحرية كانت محدودة بسقف منخفض، لكنهم يخشون أن يُعاد السيناريو نفسه بأسلوب مختلف فيتحول من ديكتاتورية أمنية إلى ديكتاتورية دينية تفرض ما تريد هيَ أن تتحدث به.
غير أنه لا يمكن التكهن حتى اليوم بالوضع الفني بسوريا مستقبلاً، فهو، كما كل البلاد، يخط طريقه الأول نحو الحرية والحياة كي يعود صوت الناس ويرسم ملامحهم بشكل شفاف دون مواربة أو تضليل.
إلى أن تتبلور سوريا الجديدة بكل ما فيها، يعيد الجمهور ما شاهدوا وسمعوا ورأوا من حكايات درامية سورية كانت جزءاً أساسياً من حياتهم، على أمل أن يكون فن بلادهم في الأيام القادمة جزءاً غير مسلوبٍ منهم كما سُلِبت سابقاً أراضيهم وبيوتهم، فهم اليوم على مسافة أمان مع الوطن والدراما السورية وكل ما يحيط بهم، فقد اعتادوا الانتظار وها قد أفضى إلى نتيجة بعد سنين عجاف، ويبقى أن نعرف نتيجة هذا الانتظار إلى أين من الممكن أن يؤدي.
رصيف 22
——————————
==========================