عن رياض صالح الحسين/ محمود خيرالله

ـ اعتُقل وتعرض للتعذيب بسبب “الكراس الأدبي” وآخر كلمة شعرية كتبها هي “الثورة”
ـ أحب فتاة عراقية لكنها فارقته بسبب الغيرة من فنانة تشكيلية.. فحزن ومرض ومات
ـ كان طفلاً عليلاً وفقد السمع والنطق السليم صبياً لكنه كان شاباً رومانسياً عاشقاً
ـ نقل جثمانه عارياً إلا من سروال داخلي من “مشفى المواساة” إلى بلدته “مارع” ليُدفن هناك
ـ ميزة رياض هي الحفاظ على التوازن بين الشروط الجمالية والفنية للقصيدة ووظيفتها السياسية
هناك شعراء قليلون جداً لا يكتمل ميلادهم إلا بعد الموت.. أشهرهم رياض الصالح الحسين، بدليل أنه بانتهاء شهر نوفمبر من العام 2024 يكون قد مرّ على غيابه اثنان وأربعون عاماً، من الحضور الاستثنائي في الشعر العربي، كأنه يزداد حضوراً وتألقاً كلما غاب، تتداوله الأيدي وتتناقل أشعاره صفحات “التواصل الاجتماعي” والمنصات الرقمية، وتستعيد تجربته المواقع الثقافية الجادة لتعريف قرائها بشعره، لدرجة أنه يمكنك تصنيف حضوره بعد موته ـ بين جمهور الشعر بعيداً عن الأكاديميين والنقاد ـ على أنه من ذلك النوع الذي يجعل صاحبَه يتقلَّب في قبره.
ولأن كثيراً من الشعراء العرب منذ الربع الأخير من القرن العشرين تأثروا ـ على نحو متفاوت ـ بتجربة رياض، بل نستطيع القول إن القصيدة الجديدة تدين بالشيء الكثير لخيال هذا الشاعر السوري وطموحه، رأينا أن بعد أربعة عقود وعامين من رحيله لابد أن نقف ملياً أمام تجربته لكي نعيد قراءة أشعاره، وأن نقدّم منها هذه المختارات ـ التي تُنشر لأولِ مرة في الصحافة الثقافية المصرية ـ بعدما نقرأ قصة رحيله المُفجعة، تلك القصة التي لا يُراد لنا أن نعرفها، لمجرد أنها تدور حول حياة وموت وشعر واحدٍ من أهم شعراء قصيدة النثر، هو الشاعر السوري رياض الصالح الحسين (1954 ـ 1982).
لنقرأ أولاً هذه القصة التعيسة:
في العاشر من مارس عام 1952 ولد رياض لأسرة رقيقة الحال في قرية تقع جنوب سوريا هي “درعا”، لأب يعمل في الجيش “مساعد أول” وأم سبق أن تزوجت قبل أبيه، فكان لديه أشقاء من الجهتين، ولقد ترك الطفل المعلول دائماً ـ على ما يبدو ـ الدراسة بعد شهور من نيل الشهادة الابتدائية، بسبب مرضه بالتهاب المجاري البولية، الذي تطور فيما بعد إلى فشل كلوي حاد، دفعه إلى إجراء جراحة في “مشفى مواساة” مجانية في دمشق عام 1967، كان من نتائجها أنه فقد السمع والقدرة الطبيعية على النطق، وتسببت في إجراء جراحة أخرى له في بلغاريا عام 1974، لمعالجة آثار الجراحة الأولى.
بعد ذلك انتقل شاباً للعمل في “حلب” ليحصل على وظيفة “عامل مياوم” في شركة خاصة للغزل، ثم عمل مع الشاعر علي كتخدا بفرز الأوراق في مؤسسة “الأمالي” الجامعية، التابعة لاتحاد طلبة “جامعة حلب”، دخل في علاقات مع أدباء مثل نذير جعفر ونبيل سليمان وحامد بدرخان، ووقتها كتب قصيدة التفعيلة إلى أن توقف عنها منصرفاً بكل طاقته لكتابة قصيدة النثر، حيث ضمت أعماله الكاملة العشرات من قصائد النثر ونحو 5 قصائد “تفعيلة” فقط، لكنه تحول نهائياً لكتابة قصيدة النثر العام 1977، ومع مطلع العام 1978 انتقل رياض للعيش في دمشق، وعمل مع أخيه حسن عند أحد الخياطين، إلا أنه سريعاً ما انصرف إلى الجو الثقافي في العاصمة، وعمل في مكتب الدراسات الفلسطينية حتى وفاته.
لقد كان موقفاً تقدمياً جداً لشاعر ومثقف علم نفسه بنفسه، فقد غادر التعليم مبكراً، لكنه كان مؤمناً بقيمة الحرية أكثر من كل المتعلمين، إلى الحد الذي دفع فيه ثمن هذا الموقف من حريته هو شخصياً، فقد تشكلت قناعات رياض الفكرية والشعرية ليس فقط على نار مرضه الدائم ومعاناته الصحية أو العاطفية بل تشكلت أيضاً على نار تعرضه لتجربتيْ الحبس والتعذيب، حين أسس مع أصدقائه الأدباء “الكراس الأدبي” وهو إصدار “نشرة” ـ محدودة التوزيع دون شك ـ صدر منها 9 أعداد لكنها توقفت بعد اعتقال أغلب المشاركين فيه على يد السلطات السورية في ذلك الوقت.
ونترك لكلمات منذر مصري أن تصف لنا إيمان رياض الكامل بالحرية وبالتالي بقيمة الثورة، والذي تجلى لحظة القبض عليه بسبب “الكراس الأدبي” كما تجلى في شعره حتى آخر كلمة فيه، حيث كانت تلك الكلمة “الثورة” هي آخر ما كتبه رياض من شعر، يقول منذر: “تعرض رياض لمزيد من التحقيق والتعذيب بغية التأكد من صممه وتعثر نطقه، الأمر الذي ساهم بتحديد الموقف السياسي الذي حمله رياض للدقيقة الأخيرة والكلمة الأخيرة من حياته، وأظنه ما زال يحمله في موته”.
لقد كان إيمان رياض بالثورة ينطوي على نوع من الإيمان العميق بقيمة الحب، فما قيمة الحب بدون حرية، وما ضرورة الحرية بدون حب، كأن كلاً منهما ينادي الآخر ويستدعيه، وبين أصدقائه يأتي ذكر أسماء فتيات صادقهن رياض وأحبهن، إلا أنه في آخر سنة عاشها كان مولهاً بفتاة عراقية، تدعى هيفاء أحمد، يذكر أنها كانت أرملة ولديها طفلتان، وقد تقدم رياض لخطبتها، وأخبر صديقه منذر مصري في رسالة بتاريخ 20 يونيو 1982: “أما أنا فأبحث عن كوخ للزواج، فالأمر أصبح جدياً، والطفل يقرع الجدران”. لكنه تعرض لأزمة عاطفية حادة قبيل موته وربما كانت من أهم أسباب موته، حينما قطعت هيفاء أحمد علاقتها به إثر معرفتها برحلته إلى اللاذقية بصحبة الفنانة التشكيلية السورية “هالة الفيصل”، مما جعله لا ينام لأيام، يقضي لياليه وحيداً، دون صحبة أحد، سوى التدخين والكحول، مما أدى إلى انهياره بالكامل ذهنياً وصحياً.
هنا غاب رياض عن أصدقائه لأسابيع، لكن الجميع شهد بأن الأديب العراقي مهدي محمد علي كان هو أول من بادر بالذهاب إليه في غرفته، ليجده في أسوأ حال، فنقله بصحبة الشاعر والمترجم شفيق هاشم “العراقي الآخر” إلى مشفى المواساة في حالة إسعافية، يوم الجمعة 19 نوفمبر 1982، لكن في اليوم التالي مات رياض، وانتقل جثمانه عارياً إلا من سروال داخلي من براد مشفى المواساة إلى “مارع” ليُدفن هناك.
الأكثر غرابة وإدهاشاً في قصة رياض ليس العطش الدائم الذي كان يشعر به بسبب مرضه، بل الغريب فعلاً هو أن موهبته فقط هي التي قادتنا إلى شعره، ولولا أن قصائده انتشرت وتم تداولها عبر الأصدقاء والمحبين والقراء خارج سوريا بعد موته بسنوات، لكنا ربما قد فقدناه، لأن شاعرنا حين غادر عالمنا مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، كان لايزال غضاً في التاسعة والعشرين، بينما كانت قصيدة النثر العربية ـ وقتها ـ شابة مليحة في مثل عمره تقريباً، وعلى ما يبدو أنه أحبها ووَجَدَ نفسَه فيها، لدرجة أنه ترك لنا منها 4 مجموعات شعرية ـ طُبع آخرها بعد موته ـ كانت كافيةً لتسهم في تحوّل مسار الشعر العربي الحديث، ولتظل مقروءة وقادرة على إثارة الإعجاب، بما فيها من مقولات ونبوءات.
لقد تولى مجموعة من أصدقاء رياض ومحبيه مسئولية نشر أعماله الكاملة على أحد المواقع الألكترونية، لتعرف طريقها إلى عشاق الشعر حول العالم، تحت مسئولية الشاعر خلف علي الخلف، ورغم هذه المحبة الجارفة ظلت الساحة فارغة لعقود من كتاب ورقي واحد مطبوع لدواوين رياض الأربعة، إلى أن فعلتها “دار منشورات المتوسط” في إيطاليا، وقامت في العام 2016 ـ بعد أكثر من ثلاثة عقود من رحيله ـ بإصدار كتاب أنيق يضم “الأعمال الكاملة” لرياض ـ لأول مرة ـ مع قصائد بخط يده، ومقدمة للشاعر السوري الكبير منذر مصري تحمل عنواناً دالاً: “سيرة موت ناقص”، وشهادات للأدباء: عبدالكريم كاصد وفرج بيرقدار وهاشم شفيق والكاتب عماد نجار، ابن أخت رياض الصالح الحسين.
“إلى الدنيا والناس”
قبل كل شيء، لن أنسى الإشارة إلى أن رياض لم يأتِ شاعرَ قصيدةِ نثرٍ من العدم، بل كان ابناً وفياً لتجربة شعرية عريضة بدأت من قبله، ولاتزال مستمرة إلى اليوم، قوامها شعراء قصيدة النثر من سوريا ولبنان والعراق، كتبوا منذ منتصف الخمسينيات من القرن العشرين: أدونيس وأنسي الحاج ومحمد الماغوط ـ الأخير تأثر به رياض كثيراً ـ واستمرت مع جيل الستينيات في قصائد سعدي يوسف، ثم ازدهرت قصيدة النثر وتبلورت كثير من ملامحها مع جيل شعراء السبعينيات، ومنهم: منذر مصري ونوري الجراح ووديع سعادة وبسام حجار وعباس بيضون وسركون بولص.. وغيرهم، وهو الجيل الذي ينتمي إليه رياض، والذي ظهرت بعده أجيال تكتب قصيدة النثر السورية، مثل: عارف حمزة ومروان علي ورشا عمران وندى منزلجي وصالح دياب وغيرهم، ممن انتقلوا للهجرة والمنافي الاضطرارية، قبل أو بعد الثورة 2011.
أحب أن ألفت النظر كذلك، إلى أن الميزة الكبرى لقصائد رياض تتلخص في نجاحه دائماً في الحفاظ على التوازن الدقيق في شعره بين الشروط الجمالية والفنية للقصيدة وبين وظيفتها السياسية، إن كان ثمة وظيفة للشعر، فشعر رياض ليس شعر رفض سياسي واضح ومباشر، ولكنه شعرٌ يتوقد فيه الحسُ الاجتماعي، وقد تجلى هذا التوازن بين الشرط الجمالي والوظيفة في نقطتين ضروريتين للدخول إلى عالم رياض الشعري، ولتفسير بعض ما فيه من دلالات، الأولى هي طريقته في اختيار عناوين أعماله الشعرية الأربعة، وفلسفة العنوان في شعره بشكل عام، والثانية هي إهداءات دواوينه والمعاني التي تقولها اختياراته للجمل التي افتتح بها أعماله، وسأكتفي بهاتين النقطتين ـ هنا ـ كمدخل لقراءة أوسع آمل أن أتمها قريباً لشعر رياض.
أولاً: عناوين أعماله الشعرية
أعتقد أن التنوع الذي اختار به رياض عناوين مجموعاته بين الطويل والقصير، ومن بنية عنوان من كلمتين “مضاف ومضاف إليه” إلى بنية عنوان “جملة وشبه جملة”، أقول إن هذا التنوع في الأدوات النحوية لم يخرج عناوين المجموعات الشعرية للشاعر عن حيز محدد من المعاني والدلالات التي أرادها، ونحن لن نحتاج إلى كثير من الشرح والتفسير لكي نفهم أن رياض كان يسارياً بالفطرة مشغولاً بالعالم وبالآخرين، وأن العنوان عنده كان يحمل دائماً جزءاً من تفسيره لما يحدث، كأنه إجابة على سؤال، ما مصير الدورة الدموية للإنسان: “خراب الدورة الدموية”، وقد يتحول مآل الأمر الذي يحدث في العالم إلى “أساطير يومية”، وقد يكون العنوان مثل الحقيقة تماماً، مخاتلاً ومفجعاً مثل: “بسيط كالماء.. واضح كطلقة مسدس”، بما ينطوي عليه هذا العنوان من مفارقة، بين جمال الطبيعة وبساطتها ـ لرجل عطشان دائماً مثل رياض ـ وبشاعة البشر، أي بين بساطة الماء وفداحة الطلقة التي هي حاجة إنسانية بشعة للإيذاء، فليس هناك ما هو أكثر فداحةً من طلقة تطلق في أي مكان في العالم، أما “وعل في الغابة” فسوف نلحظ فيه أن الذات الفردية باتت متخلصة من كثير من قيودها، وربما لأن الشاعر كان يكتبه وهو يحتضر في شهور حياته الأخيرة، فقد كان الـ ”وعل” ـ نوعٌ من الماعز البري ـ مثقلاً بالقرون التي لا تساعده للاختباء في الجبال ولا تحميه من المفترسين، مفرداً ووحيداً، في مواجهة “الغابة” بألف ولام التعريف، وبكل وحوشها وشراستها.
ثانياً: الإهداءات والجمل الافتتاحية:
أهدى رياض ديوانه الأول “خراب الدورة الدموية” هكذا: “إلى الدنيا والناس”، ولا أظن أنها كانت فكرة سائدة وقتها، أن يهدي الشاعر ديوانه الأول لا إلى حبيبته ولا إلى أمه، بل “إلى الدنيا والناس”، أي إلى الحياة وساكنيها، في حين لم يحمل ديوانه الثاني “أساطير يومية” إهداءً لأحد، لكنه اقتطف في المفتتح عبارة دالة من رواية “زوربا” للكاتب والروائي اليوناني نيكوس كزانتزاكس، تقول: “لقد قلت لك أيها الرئيس، إن كل ما يجري فوق هذه الأرض، غير عادل ..غير عادل ..غير عادل! وأنا دودة الأرض زوربا الحلزون، لا أوافق على ذلك”، أما في ديوانه الثالث “بسيط كالماء.. واضح كطلقة مسدس”، فقد اقتطف من شاعر مصري قديم ضاقت به الدنيا:
“لمن أتحدّث اليوم
الإخوةُ أشرار
والأصدقاء ليسوا أصدقاء حب
لمن أتحدّث اليوم
القلوب قلوبُ لصوص
وكل رجل يغتصبُ ما عند جارِه”
أما ديوانه الأخير “وعل في الغابة” فقد اكتشفه الأصدقاء في درج مكتبه بعدما مات رياض، وأصدروه كما هو، فقد أهداه إلى “هيفاء أحمد” وافتتحه بهذه العبارة من الشاعر الأسباني رافائيل ألبرتي “أنت في وحدتك بلد مُزدحم”.
ومن القراءة الأولى لهذه المقتطفات يمكن أن نلمح علاقة قوية جداً بين كل هذه الأقنعة التي يرتديها رياض في كل مقتطف منها ليقول من خلاله ما يريده، فالشاعر الذي يفتتح ديوانه الأول بإهدائه إلى الغالبية العظمى من البشر “إلى الدنيا والناس”، هو الذي سوف يختار الإشارة في مفتتح ديوانه الثاني إلى تلك الرغبة المحمومة في تحقيق العدالة بين الناس، كما في كلمات “زوربا” اليوناني، وهو نفسه الشاعر المصري القديم الذي يندب حظه من الشرِ الذي يملأ العالم والأصدقاءِ الذين ليسوا أصدقاء حب والقلوبِ التي أصبحت قلوبَ لصوص، فرياض شاعر ينتمي إلى الإنسانية كلها، ويدافع عن البشر جميعاً، فقد كان قريباً من أفكار “حركات التحرر الوطني” من الاستعمار، التي عرفتها دول العالم الثالث منتصف القرن العشرين، وتخليص الإنسان من القيود المفروضة عليه، سواء من الاستبداد الأجنبي “الاستعمار” أو الاستبداد المحلي، وحتى في العبارة التي افتتح بها “وعل في الغابة”، والتي اقتطفها من الشاعر الأسباني الذي شارك في الحرب الأهلية الأسبانية رافائيل ألبرتي:“أنت في وحدتك بلد مُزدحم”، ما يشير إلى أن الشاعر يتبنى فكرة الانتماء إلى الإنسان والدفاع عن فردانيته وحقه في العيش الكريم، لا يتعصب ضد عرق ولا يقلل من شأن الآخرين، وبالتالي فإن هذا الفرد الوحيد الذي يكتبه رياض لابد أن يدافع عن العدالة والمساواة بين البشر، ولا يُمكن إلا أن يكون مزدحماً بالآخرين، سواء كانوا هؤلاء الذين ينتمي إليهم حتى لو لم يكن يجسد حلمهم، أو كانوا هم الذين ينتمون إليه وهم ـ بالتالي ـ الذين يشكلون عالمه.
الموت من “هيروشيما” إلى “نيكاراغوا”
الحق أن الوعي الذي كتب به رياض قصيدته النثرية كان وعياً على درجة لا يستهان بها من التنظيم الجمالي والعمق الفلسفي، نظرياً كان يكتب شعراً طليعياً:“يستند إلى الحياة نفسها ويحطم القوالب التقليدية، ويجعل من الإنسان الفرد محوره وغايته”، بتعريف يوسف الخال للشعر الطليعي، في بيانه الشهير، وفي مواجهة نظام سياسي عتيد الاستبداد يمكن للشاعر السوري أن يعشق خبز سوريا وزيتونها، لكنه سيظل أبداً يكره السياط ويشير إليها ويذكّر بها، لأنها ترمز إلى “أزمنة العبودية”، والشاعر بطبعه يقف ضد العنف والدماء والحروب، حتى لو بالهذيان واليأس، فها هو يدعو أصدقاءه في قصيدة “هيروشيما”، المدينة اليابانية المنكوبة بالقنبلة الذرية الأمريكية، لشرب القهوة وتبادل الأنخاب، للاحتفال بسقوط القنبلة الذرية (الثانية) بين عيني “هيروشيما”، ناوياً أن يجمع في هذا الاحتفال الطغاة من كل العصور، وأن يعطيهم “الحرية” تلك التي سلبوها من الآخرين:
“سأجمعُ أسماء الطغاةِ كما يجمعون الطوابع التذكارية
في ألبومٍ ضخمٍ من ورقِ الأيام
أضع فرانكو بجانب سالازار
موسوليني تحت هتلر
السادات أمام سوموزا
سميث بين ساقي سالومي
وأعطيهم حرية الموت تحت سنابك التاريخ”
لقد اتخذت قصيدةُ رياض المبكرة والسباقة من الموت رابطاً يجمع كل هذه الخيوط في نسيج واحد، ها هو النص الذي لا يخشى الموت بل يهزأ به ويستخف بتراثه العتيد من الحزن والأسى، ها هو رياض ابن الثقافة التي تعتبر الموت هو “المناحة العظمى” يقول في الموت قولاً آخر، يأتي الموت في شعر رياض كمصير محتوم، لا يصح ـ وبالطبع لا يمكن ـ الفرار منه، بل يعتقد أن الموت ولو كان فريضة على البشر إلا أنه في شعره أمر يمكن التعالي عليه أو التلاعب به أواللعب معه، كما في هذا النص القصير، الذي يعتبر الحياة قبراً كبيراً، يذوب فيه الموتى، يذهبون ويعودون منه بسهولة وأريحية، كما يفعل الولدُ في قصيدة “الدرّاجة”:
“الولد فوق الدراجة
سعيداً ضاحكاً منتشياً
يدور في فناء قبره
(حينما كان حياً
سقط عن الدراجة ومات)
الولد في فناء قبره
يدور بدراجة من عظام
سعيداً ضاحكاً منتشياً”
لقد كان رياض من الذكاء بحيث كتب عدة تنويعات سياسية في شعره، بينها قصيدة تعتبر في حد ذاتها “نكتة سوداء” في وجه النظام السياسي السوري، وفي وجه الاستبداد في كل العصور، تحكي عن مآس وأخطاء سورية الطابع لكنها تحمل اسم بلد آخر هو “نيكاراغوا”، على سبيل السخرية والاستهزاء بالخيال الرقابي المريض، كأنه يريد أن يقول “كلنا في العذاب عالم ثالث”، وفي الوقت نفسه يهرب من تهم الرقابة متجنباً غضب الرقيب، حيث يمكن لقاريء الشعر وحده أن يفهم المجاز في هذه القصيدة، وحين ترفع اسم سوريا لتضع مكانها أيّ بلد آخر في العالم الثالث، تكون القصيدة معبرة في الوقت نفسه، عما يحدث في أماكن كثيرة من العالم، وفي كل العصور، وإن كان رياض لم يعش عصر “مصانع لإنتاج الأمراض الرخيصة” فها نحن نعيشه، وإذا كان رياض لم يعش عصر “زراعة الأرض بالفيروسات والجماجم والتوابيت” فها نحن نعيشه:
“ نيكارغوا
مصانع لإنتاج الأدوية الغالية
وأخرى لإنتاج الأمراض الرخيصة
طائرات لنقل البشر إلى الحروب
وأخرى لنقل البشر إلى الغابات الجميلة
أراض لزراعة البرسيم والقمح والبترول
وأراض لزراعة الفيروسات والجماجم والتوابيت
نيكارغوا
مدينة عذبة بشفتين ناريتين
شوارع عريضة للنمور والفئران والسجون
وشوارع ضيقة للأبقار والعصافير والحرية
نيكاراغوا”
ولأن موهبة رياض كانت من النوع العصي على المحو من النقاش والتقييم والتكريم، وعلى الرغم من تجاهل طباعة أعماله في بلده أو في أيّ بلد آخر، لم تكد تمر أربعةُ عقود من الزمان على موته حتى كانت قصائده قد استردت حضورها، وبدا كأن رياض شاعر ناج من الموت يستطيع أن يكلمنا من هناك، وكأننا نريد من قصيدة النثر ـ حتى لو كُتبت قبل خمسين عاماً ـ أن تدلّنا على الطريق، أن تصف مشاعرنا نيابةً عنا، وأن تقول لنا من ماضيها ومن موت شاعرها ما لا نستطيع نحن أن نقوله، وأن يُترجم شاعرُ قصيدة النثر من عالمه “الآخر” ما يحدث من بؤس هنا في عالمنا “الأصلي”:
“ يا سورية الجميلة السعيدة
كمدفأة في كانون
يا سورية التعيسة
كعظمةٍ بين أسنانِ كلب
يا سورية القاسية
كمشرطٍ في يد جراح
الشاعر ينادي هنا المعنى العميق لـ “سوريا”، الجميلة والسعيدة كمدفأة في شهر “كانون” البارد، وهذا هو أصل الأشياء والمعنى الأول، لكنه يعود ويصفها ثانية بالتعيسة ربما بسبب ظروف الفقر، وفي هذه الحالة يشبهها بعظمةٍ بين أسنان كلبٍ، ثم يعود ويصفها في قسوتها على أولادها بمشرط في يدِ جراح، لكي يقول لنا في النهاية إنها تمثل له هذه المعاني الثلاثة معاً، فهي الدفء، وهي نفسها البلد التي يمكن أن تكون تعيسة، ويمكن أن تكون قاسية، كما يتجلى في ممارسات بعض عناصر السلطة، لكنها تبقى بلاده، التي يخاطبها دون أن ينسى ما أكله فيها، مستعطفاً: “نحن أبناؤك الطيبون/ الذين أكلنا خبزَك وزيتونَك وسياطَكِ/ أبداً سنقودك إلى الينابيع”، أي أنه يقر بالخبز والزيتون بوصفهما من خيرات البلاد، كما يقر بالسياط التي تعرض لها، بوصفها من السمات المؤسفة للحكم فيه، وكأن السياط هنا معطوفة على الخبز والزيتون من سمات العيش في هذا البلد، ورغم إقراره بذلك كله يتعهد رياض بأنه سيظل يحب “سوريا” ويسعى إلى أن يقودها إلى الينابيع وألا يتركها تضيع:
“نحن أبناؤك الطيبون
الذين أكلنا خبزَك وزيتونَك وسياطَكِ
أبداً سنقودك إلى الينابيع
أبداً سنجفف دمك بأصابعنا الخضراء
ودموعَك بشفاهنا اليابسة
أبداً سنشقّ أمامك الدروب
ولن نتركك تضيعين يا سورية
كأغنيةٍ في صحراء”.
محمود خيرالله
مجلة إبداع ـ عدد يناير/ فبراير