تشارلز سيميك المسخ يعشق متاهته (يوميّات) *
ترجمة تحسين الخطيب
مقدّمة المؤلّف الخاصّة بالطبعة العربيّة
لا أذكر كم كنت يافعاً، حين شرعت، للمرة الأولى، في التّعليم تحت جمل وفقرات في الكتب التي أطالع فيها، ولكنّني أحتفظ بذكرى واضحة عن شراء أوّل دفتر ملحوظات صغير، لتدوين تعليقات إضافيّة عمّا كنت أقرأه، في ذلك الوقت، وأفكّر فيه. كان الزّمن عام 1962، فخطر ببالي أن أفعل ذلك في مدينة «نانسي» في فرنسا، حين هممت بشراء جريدة من متجر يبيع القرطاسيّة، فرأيت رفّ دفاتر ملحوظات صغيرة، مصنوعة بأناقة باذخة، تنتمي إلى ذلك النّوع الذي يوضع في الجيب بكلّ سهولة ويسر. اشتريت دفتراً، على الفور، ثمّ رحت أحمله معي أينما ذهبت، حتّى ملأت صفحاته خربشاتي، فاضطررت إلى شراء واحد جديد. اليوم، وبعد أكثر من خمسين سنة على تلك الحادثة، وما يربو على مئات الدّفاتر التي استخدمتها في مدة لاحقة، فإنّني لا أزال أحمل معي دفتراً من نوع تلك الدّفاتر وأكتب فيه. إنّ الكتاب، الذي أنتم على وشك أن تقرؤوه، مصنوع من تدوينات منتخبة من تلك الدّفاتر التي دوّنت فيها في السّنوات العشرين الأخيرة.
وتلك ليست نوع الكتابة التي يمكن أن توجد فيها. في الحقيقة، إنّ كثيراً من محتواها يتكوّن من خربشات عشوائيّة لكلمات، وجمل، وأبيات شعريّة ـــ تعود لي أو لأحد سواي ـــ واقتباسات قصيرة من الجرائد أو الكتب، تدوينات قصيرة تشبه اليوميّات، عن وجبات في مطاعم وزيارات متاحف وخربشات كثيرة، نطاقها ومقروئيّتها هما سرّ، بالنسبة إليّ، مثلما قد تكون بالنسبة إلى قارئ آخر ما. إنّ ما أودّ قوله هو وجود قصديّة قليلة جدّاً في دفاتر المحلوظات، هذه، بل هي تجنح، بالأحرى، إلى أن تكون أشياء تفتّق ذهني عنها، أو خطرت في بالي في مكان ما. لقد خدمتني، في المقام الأوّل، كوسيلة مساعدة لتذكّر نتف اللّغة والأفكار التي أريد أن أستخدمها في قصيدة ما، أو في بعض مقالات أعكف على كتابتها؛ بل كانت، على نحو أكثر مباشرة، وسائل تذكير لدفع بعض الفواتير أو لإحضار بعض السّراويل من محل تنظيف الثّياب.
يقول الرّوائي البولندي العظيم، ڤيتولد غومبروڤيتش، في مطرح ما في يوميّاته، إنّنا نقوم بهذا النّوع من الخربشة، ليس من أجل هدف أسمى، بل لتأكيد وجودنا بعينه. لم أدرك أنّ هذا الأمر يمكن أن يكون صحيحاً بالنسبة إليّ، حتّى وجدت نفسي، في يوم من الأيّام، في حالة استماتة تحتّم عليّ أن أضيف بعض صفحات أخرى لكتاب صغير يضمّ قصائدي النّثريّة، كان على وشك أن يُنشر، فخطر في بالي أن أنظر في دفاتر الملحوظات، هذه، بحثاً عن مادّة ما. فاندهشت، حين وجدت فيها بضعة أشياء تستحقّ الصّون. ثم كانت دهشتي أعظم، حين أُعجب القرّاء بتلك النّتف والقطع التي جئت بها. ولقد أعجبتني أيضاً، وخصوصاً أنّ لديّ ذكرى غامضة بشأن كتابتها، ولم يسبق لي أن قرأتها، بنفسي، من قبل. ثم، وفي سنوات لاحقة، اقتبست تدوينات أكثر من دفاتر ملحوظاتي القديمة، حتى اقترح عليّ الأصدقاء أن أنشر كتاباً مصنوعاً، برمّته، منها. فكان «المسخ يعشق متاهته» ثمرة ذلك. صدر في الولايات المتحدة في عام 2008، ثم ترجم إلى الإيطالية، ونشر هناك، في عام 2010، وها هو الآن ـــ يا لفرحتي العظيمة ومسرّتي ـــ يظهر بالعربية، في ترجمة جديدة، أنجزها تحسين الخطيب.
• في الهزيع الأخير من اللّيل في شارع مكدوغل، اقترب منّي رجل عجوز ثمّ قال: «سيّدي، إنّني أحبّر كتاب حياتي وأحتاج إلى دايم كي أكمله». فأعطيته دولاراً.
وفي ليلة أخرى، في متنزّه ساحة واشنطن، قالت لي امرأة بدينة تعتمر باروكة مخيفة: «أنا أستير، إلهة الحبّ. إن لم تعطني دولاراً، ستحلّ عليك لعنتي». فأعطيتها نكلة.
• إحدى ذكريات ما بعد الحرب تلك: عربة أطفال تدفعها امرأة عجوز حدباء، يجلس ابنها في داخلها وقد بترت ساقاه.
كانت تساوم بائع الخضار حين انطلقت العربة بعيداً عنها. كان الشّارع شديد الانحدار، فانطلقت على عجلاتها صوب سفح التّلّة، والمقعد يلوّح بعكّازتيه. كانت أمّه تصرخ طلباً للنّجدة، وجميع من في الشّارع يضحكون كما لو أنّهم في السّينما. بصتر كيتن، أو شخص ما على شاكلته، على وشك اجتياز جرف ما…
• يضحك المرء لأنّه يدرك أنّ الأمور سوف تسير على خير ما يرام. ولكنّه سيندهش حين تسير بخلاف ذلك.
• لم أخبركم كيف أصابني القمل بارتداء خوذة ألمانيّة. كان هذا الأمر حكاية ذائعة الصّيت في عائلتنا. أتذكّر تلك المساءات الشّتويّة بعد الحرب، والجميع يتحلّقون حول الموقد، يثرثرون وينتابهم القلق حتّى الهزيع الأخير من اللّيل. كان الأمر محتوماً؛ فعاجلاً أو آجلاً، سوف يحضر شخص ما خوذتي الألمانيّة الطّافحة بالقمل. بدت الحكاية، بالنّسبة إليهم، أفكه شيء تناهى إلى أسماعهم أبداً. كانت عيون الكهول تغرورق بالدّمع من شدّة الضّحك. فأيّ صبيّ غبيّ هذا الذي يتجوّل في الأرجاء معتمراً خوذة ألمانيّة طافحة بالقمل! كان القمل يدبّ في كلّ مكان فوق الخوذة. ويستطيع أيّ غبيّ أن يراه بوضوح!
جلست هناك من دون أن أنبس ببنت شفة، متظاهراً بالبهجة، أسوة بهم، مومئاً برأسي، بينما أحدّث نفسي: يا لهذه الزّمرة من الحمقى! جميعاً! فلا فكرة لديهم كيف حصلت على الخوذة، ولم أكن أنوي إخبارهم. حدث ذلك في تلك الأيّام الأولى بعد تحرير بلغراد، تماماً، كنت في المقبرة القديمة صحبة بعض الأصدقاء، نتلصّص هنا وهناك. ثمّ رأيناهما فجأة! جنديّان ألمانيّان، من الواضح أنّهما ميّتان، ممدّدان على الأرض. دنونا كي نحظى بنظرة أفضل. لم تكن لديهما أسلحة. كانت فردتا بسطاريهما قد اختفت، غير أنّ خوذة كانت قد وقعت بجانب أحدهما. لا أذكر ما الذي حصل عليه الآخرون، ولكنّني ذهبت من أجل الخوذة. سرت على أطراف أصابعي كي لا أوقظ الرّجل الميّت. كما أنّني قد أشحت بناظريّ عنه. لم أر وجهه البتّة، حتّى وإن اعتقدت في بعض الأحيان بأنّني قد رأيته فعلاً. ما زال كلّ شيء آخر يتعلّق بتلك اللحظة واضحاً، بالنّسبة إليّ، وضوحاً شديداً لا لبس فيه. تلك حكاية الخوذة الطّافحة بالقمل.
• كنّا نأكل البطيخ تحت سرب الطّائرات التي تحلّق في الأعالي. وبينما كنّا نأكل، كانت القنابل تسقط على بلغراد. شاهدنا الدّخان يتصاعد في البعيد. شعرنا بالحرّ في الحديقة، فطلبنا أن نخلع قمصاننا. فاح صوت البطيخة فرقعة حادّة، علامة على أنّها يانعة، حين قطّعتها أمّي بسكين كبيرة. ولقد سمعنا أيضاً ما اعتقدناه الرّعد، ولكنّنا، حين نظرنا عالياً، كانت السّماء زرقاء، خالية من الغيوم.
• سمعت أمّي رجلاً يتوسّل من أجل حياته ذات مرّة. تتذكّر النجوم، وأشكال الأشجار المعتمة على طول الطّريق التي كانوا يفرّون فيها من الجيش النمسوي في عربة ذات دولابين يجرّها، على مهله، ثور وحيد. تقول: «بدا صوت ذلك الرّجل فزعاً فزعاً شديداً هناك في الغابة». ثم واصلت العربة المسير. لم ينبس أحد ببنت شفة. ثمّ سرعان ما استطاعوا سماع النّهر الذي من المفترض أن يعبروه.
• كانت النّساء، في طفولتي، يرتقن الجوارب في المساء. كان وجود «نسل كبير» في جورب أحدنا مسألة كارثيّة. فالجوارب كانت باهظة الأثمان، وكذلك كانت الكهرباء. كنّا نتحلّق جالسين حول الطاولة ذات المصباح الوحيد: جدّتي تقرأ الصّحف، ونحن الأطفال نتظاهر بإنجاز فروضنا المدرسيّة المنزليّة، بينما نراقب أمّنا وهي تمدّ أظفارها المطليّة بالأحمر في داخل الجورب الشّفّاف.
• قرأت، في سيرة حياة الشّاعرة الروسيّة مارينا تسڤتايڤا، بأنّ أوّل قراءاتها الشّعريّة في پاريس وقعت في السّادس من شهر شباط (فبراير) عام 1925، وبأنّ إعلان الصّحيفة قد أشار إلى وجود ثلاثة موسيقيّين ضمن البرنامج أيضاً: السّيدة كونيلّي التي صدحت بأغنيات إيطاليّة قديمة، والأستاذة موجيليڤسكي التي عزفت على الكمان، وڤي. إي. بايوستوڤ الذي رافقهما على الپيانو. كان ذلك مذهلاً! كانت السيّدة كونيلّي، واسمها الأوّل نينا، صديقة أمّي. لقد درستا سويّة لدى معلّمة الغناء ذاتها، السيّدة كيدروڤ، في پاريس، ثمّ انتهى المطاف بـنينا كونيلّي، على نحو ما، في بلغراد، أثناء الحرب العالميّة الثانية، فعلّمتني بعض أناشيد أطفال، روسيّة وفرنسيّة، ما زلت أذكرها جيّداً. أذكر بأنّها كانت امرأة جميلة، تكبر أمّي بقليل، وبأنّها قد ذهبت إلى الخارج بعدما وضعت الحرب أوزارها.
• كنت مستلقياً في الظّلام أفكّر في رحابة الكون وزوجتي تشخر على الوسادة المجاورة.
• ها نبيذ قطاف كروم نفيسة، عتّق خمسين عاماً، على وشك أن يسكب في البالوعة.
• رجل عجوز يغنّي: «آه يا ماريّا» بأعلى صوته، وهم يدفعونه مكبّل اليدين صوب سيّارة شرطة أضواؤها ترمش.
• ليتني في صندوق بريد، بجوار رسالة تجاهر بالحبّ، مضمّخة بقبلات محمومة، مرسلة إلى شخص مجهول.
• وجوه في ازدحام النّاس في الشّارع. كانوا يذهبون في مشاغلهم حين رأوني أحدّق فيهم. كانوا إمّا مسرورين أو قد أشاحوا بوجوههم مزعوجين. كانوا يختبئون طوال الوقت في مرمى البصر الواضح فأعثر عليهم.
• ممتطياً صهوة خنزيرة، متشبّثاً بأذنيها، صارخاً: «ابتعدن عن طريقي، أيّتها الدّجاجات!» هل فعلت ذلك حقّاً؟
• أنا عضو في تلك الأقليّة التي ترفض أن تكون جزءاً من أيّ أقليّة محدّدة على نحو رسميّ.
• أحبّ أن أسمع نغمة مرحة تعزف على نحو حزين.
• «المحتالون ذاتهم… أينما تذهب… وبصرف النّظر عن نظام الحكم، أو الفلسفة، أو العقيدة، أو اللّون… (سيلين). لقد كانت تلك أيضاً تجربتي.
• العصر الذّهبيّ للأدب الأميركيّ. حين اعتاد رعاة البقر قراءة أشعار إيميلي ديكنسن على صهوات جيادهم المسرجة، ورجال الشرطة يذرعون الشّوارع حاملين ديوان شعر لـوالاس ستيڤنز في جيوب معاطفهم.
• كلّ دفاع عن الشّعر دفاع عن الحماقة.
• ألاحظ أنّ المحتلّين occupiers في كلّ مكان غاضبون من سوء أدب المحتلّين occupied الذين لا يفعلون شيئاً سوى الشّكوى من سوء المعاملة التي يتعرّضون إليها.
• كلّما كان الظّلم فادحاً، كان صوت الغضب أعلى.
• جلست مثل مفرقعة ناريّة في السّرير، مرعوباً من فكرة موتي.
• تظهر لنا الصّور الفوتوغرافيّة ما عجزنا عن قوله بالكلمات.
• تدور موسيقى الجاز حول السّعادة. السّعادة القديمة وقد صارت سعادة جديدة.
• الدّين: تحويل سرّ الكينونة إلى شكل يشبه جدّنا وهو جالس على المبولة.
• الثّلج الذي وصل إلى باب بيتي في هذا الصّباح يشبه عروساً طلبت بالبريد.
• كأنّ الضّحك المعلّب، المبثوث على شاشة التّلفاز، علب بيرة مربوطة بسيّارة تسير في العتمة بلا مصباحين أماميّين.
• كوميديا ساعات الحوائط: ساعة الحائط التي يحتفظ بها الكون وتلك التي يهرع إليها الصّرصار فوق حائط مطبخي وقد استشارها للتّو.
• من الذي قال: «إن لم يردنا الله أن نسكر، فلماذا جعل النّبيذ لذيذاً، في غاية اللّذّة؟».
• المرآة البرونزيّة المصريّة (1500 قبل الميلاد) التي في المتحف البريطانيّ، حيث استطعت أن ألمح صورة منعكسة غائمة لنفسي ذات أصيل ماطر عام 1982، ما زالت هناك.
• الحلم الأميركيّ الجديد هو أن تصبح فاحش الثّراء، وينظر إليك، بالرّغم من ذلك، بوصفك ضحيّة.
• إنّه نوع من تلك الأحياء السّكنيّة التي قد يحتفظ فيها جرذ بأحد الأطفال كحيوان أليف.
• كلّ أمّة خائفة من حقيقة ما فعلته بالآخرين.
• أغنياؤنا يسرقون أفضل من لصوصنا العاديّين.
• الدّور الرّئيس الذي تقوم به الصّحافة الحرّة في النّظام الديموقراطي هو حجب حقيقة أنّ البلاد تحكمها قلّة ما.
• يسروع، دهسته درّاجة هوائيّة لفتاة صغيرة، يتلوّى من الألم.
• ظلّ يحكّ رأسه الأصلع بعود ثقاب، وهو جالس يتفكّر، كأنّه يحاول أن يشعل النّار فيه.
• ظل طرحه ضوء الوعي هي الرّوح. في غضون ذلك، أستطيع الإحساس بعطسة قادمة.
• قصيدة قصيرة: أوجز الكلام وأخبرنا بكلّ شيء.
• يوتوبيا: كعكة شوكولاته وافرة، يحرسها من الذّباب ناقوس زجاجيّ.
• مرتاحو البال، يرتدي عمّال المذبح، في ساعة الغداء، مآزرهم الملطّخة بالدّماء.
• حين ينام الأطفال، تقضم الفئران الفتات الذّهبيّ الذي يسقط فوق أغطية أسرّتهم.
• الزّمن، الأخرس، يحتاج إلى فمك الكبير في هذه اللّيلة.
• أخذ المؤتمرين الثّملين إلى دكّان حانوتيّ بوعد أن يشاهدوا عرضاً جنسيّاً حيّاً، ثمّ تركهم ينتظرون بين التّوابيت.
• يحدث أن يدخل صرّار ليل منزلاً مهجوراً، في نهاية طريق نادراً ما يسلكها النّاس، كي يغنّي حين يهبط اللّيل.
• رجل عجوز يجثم فوق مبولة ولافتة «يوم القيامة» على ظهره.
• وصف حياته البائسة بكلب أبيض صغير، يجلس مشرئبّ الأذنين، يهزّ ذيله الصّغير من حين إلى حين.
الأخبار