سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 01 شباط 2025

حرية إلى الأبد: كل المقالات والتحليلات والحوارات التي تناولت انتصار الثورة السورية اعتبارا من 08 كانون الأول 2024، ملاحقة يومية دون توقف تجدها في الرابط التالي:
سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع
———————————-
قراءة في بيان غرفة العمليات العسكرية وخطابي السيد أحمد الشرع
1 شباط/فبراير ,2025
أعلنت القيادة السورية الجديدة، في 29 كانون الثاني/ يناير 2025، أن السيد أحمد الشرع سيُلقي كلمة ضمن “مؤتمر النصر”، في اجتماع يضمّ فصائل إدارة غرفة العمليات العسكرية، وفصائل الجيش الوطني، وممثلين عن بعض فصائل درعا. وقد تواردت قبل الاجتماع توقّعات عن فحوى الاجتماع، ومدى قدرته على الإجابة عن الأسئلة المطروحة بعد سقوط النظام وهروب بشار الأسد، وعن المرحلة القادمة في سورية.
عُقد الاجتماع بعيدًا عن وسائل الإعلام، وبعد انتهاء الاجتماع، أعلن الناطق باسم إدارة العمليات العسكرية، العقيد حسن عبد الغني، مجموعة من القرارات المتخذة، تضمّنت إلغاء العمل بدستور 2012، وحلّ مجلس الشعب واللجان المنبثقة عنه، وحلّ الجيش وجميع الأجهزة الأمنية، وحلّ حزب البعث وأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، وحلّ جميع الفصائل العسكرية، وتسمية أحمد الشرع رئيسًا للبلاد، وتفويضه بتشكيل مجلس تشريعي مؤقّت للمرحلة الانتقالية، يتولّى مهامه إلى حين إقرار دستور دائم للبلاد.
ألقى أحمد الشرع خطابه الأول معتبرًا فيه أن “النصر هو تكليف بحدّ ذاته”، وحدد في خطابه أولويات سورية اليوم، بأن يملأ فراغ السلطة بشكل شرعي وقانوني، وأن يحافظ على السِّلم الأهلي من خلال السعي لتحقيق العدالة الانتقالية ومنع مظاهر الانتقام، وأن تُبنى مؤسسات الدولة، وعلى رأسها المؤسسات العسكرية والأمنية والشرطية لحفظ أمن الناس. ولم تظهر أيّ مداولات في هذا الاجتماع المفصلي في تاريخ سورية الحديث، ولم يتم بثه حيًا حين انعقاده، ولم يصدر أي خبر يوضّح آلية مناقشة قرارات هذا البيان مع المشاركين فيه. وفي 30 كانون الثاني/ يناير، ألقى الشرع خطابه الثاني، وكان موجّهًا للشعب السوري وتضمن خارطة طريق للمرحلة الانتقالية.
يسعى تقدير الموقف هذا إلى قراءة هذه الخطوة التي انتظرها السوريون 54 يومًا، ويُحلل ما جاء في البيان والخطابين بتكثيف، لمعرفة مدى استجابتها لمتطلبات المرحلة الانتقالية.
الدلالة العامة للبيان والخطابين:
أجاب البيان وخطابا الشرع عن تساؤلات السوريين ومطالبهم بالإعلان عن برنامج المرحلة الانتقالية. وقد كان القصد من قرارات إدارة العمليات العسكرية وخطابي الشرع هو الانتقال مما يسمى “الشرعية الثورية”، إلى “الشرعية الدستورية”. وتناول البيان والخطابان المستوى الحوكمي وامتلاك الصلاحيات، والمستوى الأمني والاستقرار ومنع الفوضى، ومستوى العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، وموضوعات حل الفصائل وإعادة بناء الجيش ومؤسسات الأمن، ومستوى إعادة الإعمار وخلق اقتصاد قوي يفسح المجال لعودة اللاجئين، ومستوى علاقات سورية الخارجية، ودورها الإقليمي والدولي، وخطوات المرحلة الانتقالية القادمة. وقد أجاب البيان والخطابان عن غالبية الأسئلة التي كانت تطرح، وبقيت موضوعات أخرى غامضة، وثمة ملاحظات جزئية سنتناولها في ما يأتي من هذه المادة.
أحمد الشرع رئيسًا للجمهورية
تسمية أحمد الشرع رئيسًا للجمهورية العربية السوريةسدّت الفراغ الدستوري الذي حصل بعد سقوط النظام وفرار رئيس الجمهورية، فقد أصبح الشرع الآن، بموجب قرار إدارة العمليات العسكرية، يمتلك تلك الصلاحيات، وأصبح ممثلًا لسورية على المستوى الدولي، وتجلّى ذلك في الزيارة التي قام بها أمير قطر إلى سورية، صبيحة اليوم التالي للخطاب، بتاريخ 30 كانون الثاني/ يناير 2025.
تميّز خطابا الشرع بأنهما كانا نصًا مكتوبًا، واتسما بالقِصر وهدوء اللغة، والثقة، وقد أظهر الشرع تواضعًا ومسؤولية إذ قال: “أحدثكم اليوم، لا كحاكم، بل كخادم لوطننا الجريح”، كما تميّز خطابه بلغة بيضاء إلى حد ما، واستعمل “لغة جندرية”، حين تحدث عن “ السوريين والسوريات”.
حل مؤسسات النظام السابق
عمليًا، فككت المؤسسة العسكرية والمؤسسات الأمنية السابقة، بما فيها مؤسسة الشرطة، نفسَها بنفسها، وهذا ما جعل سلطة الأسد معلقة في الفراغ، فما كان أمامه سوى الهروب، وفي الممارسة العملية، انطلقت إدارة العمليات العسكرية من هذا الواقع وثبتته، وافترضته أمرًا لا رجعة عنه، وقد جاء بيان مؤتمر النصر لينص على “حل الجيش، وإعادة بناء جيش على أسس وطنية”، وعلى “حلّ جميع الأجهزة الأمنية، وتشكيل مؤسسة أمنية جديدة” و “حلّ حزب البعث وأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، وحظر إعادة تشكيلها تحت اسم آخر”. وهذه الخطوات كانت متوقعة ومنتظرة، إلا أن عدم تحديد مصير عناصر هذه المؤسسات ومصادر رزقهم، والذين يبلغ تعدادهم عدة مئات من الآلاف، قد يشكّل دافعًا لهؤلاء للانخراط في نشاطات معادية قد تصل إلى الانجرار إلى حمل السلاح. ومن هنا تبرز ضرورة إيضاح مصير هؤلاء، من ناحية تأمين مصدر رزق لهم ولأسرهم. ومن ناحية أخرى، ثمة سؤال حول تفسير عبارة “حظر إعادة تشكيل أحزاب الجبهة تحت اسم آخر”، حيث إن ذلك قد يفتح الباب لاتهام أي حزبٍ يحمل أفكارًا قومية أو اجتماعية ويسارية، بأنه من “أذناب حزب البعث وجبهته التقدمية”، بل يُخشى أن توحي هذه العبارة بأن هناك توجهًا بعدم السماح بوجود أحزاب سياسية وحياة سياسية، ولا سيما أن كل التصريحات والخطابات تجنبت التطرق إلى الحياة السياسية القادمة أو الحريات العامة بالتنظيم والتعبير والاعتقاد، ولم تستخدم كلمة “ديمقراطية” بأي معنى من المعاني، في حين تحدث الشرع عن “بناء وطن جديد، يحكم فيه بالعدل والشورى معًا”.
حلّ الفصائل العسكرية
كان من أبرز القرارات وأصعبها قرار “حل جميع الفصائل العسكرية والأجسام السياسية الثورية والمدنية، ودمجها في مؤسسات الدولة”، وكان الشرع قد وعد -في مقابلات إعلامية سابقة- بحلّ هيئة تحرير الشام وجميع الفصائل الأخرى، وحصر السلاح بيد الدولة، وهي الخطوة الضرورية للانتقال من الحالة الفصائلية إلى حالة الدولة. وبناءً على هذا القرار، فإنّ كل فصيل يرفض حل ذاته سيُعدّ خارجًا عن القانون. وهذه مسألة على غاية الحساسية، فعلى الرغم من أن قادة معظم الفصائل وممثليها قد حضروا الاجتماع، وألقوا كلمات مباركة للرئيس الشرع، تظل هناك مسائل عدة تحتاج إلى توضيح: ما هي الآلية التي سينفّذ بها حل الفصائل؟ وكيف ستُسوّى الخلافات مع فصائل السويداء التي تضع مطالب مرتفعة، ومع فصيل أحمد العودة؟ وما المقصود بحلّ الأجسام الثورية والمدنية المنبثقة عن الفصائل؟ وهل يمكن دمج الأجسام الثورية والمدنية في مؤسسات الدولة، كما نص البيان، في ضوء التوجّه ألا تكون أجهزة الدولة متضخمة؟!
وعلى الرغم من النصّ على “ إتمام وحدة الأراضي السورية، كل سورية، وفرض سيادتها تحت سلطه واحدة وعلى أرض واحدة”، فستبقىمسألة قوات (قسد) مرتبطةً بالمفاوضات الجارية بين السلطات الجديدة و(قسد)، والتي بدت متعثرة حتى الآن، وبالطبع، لا يمكن إرغام (قسد) على ما لا ترغب فيه، ما دامت القوات الأميركية موجودة شرق الفرات.
الانفتاح على المشاركة في السلطة
أوّل ما يلفت النظر، في ما جرى في هذين اليومين، الحديث عن مؤتمر للحوار الوطني، بدلًا من “المؤتمر الوطني” الذي شاع الحديث عنه خلال الأسابيع الماضية، وكان يُنتظر من المؤتمر الوطني، الذي أمل السوريون أن يكون واسع التمثيل، أن تصدر عنه تلك القرارات، وأن يكون هو من يمنح الشرعية للسلطة الجديدة، ويحدد محتوى المرحلة الانتقالية وغيرها، لكن الترتيب كان على هذا النحو الذي رأيناه، فكانت القرارات الأساسية صادرة عن إدارة العمليات العسكرية في جلسةٍ بدت كمجلس عسكري، مما يشير إلى استمرار سياسة احتكار السلطة، وعدم إشراك قوى سياسية ومجتمعية وفصائل عسكرية أخرى تتطلع للمشاركة في السلطة، بالرغم من أن الشرع أكّد كالمعتاد “أن هذه مرحلة انتقالية، وهي جزء من عملية سياسية تتطلب مشاركة حقيقية لكلّ السوريين والسوريات في الداخل والخارج، لبناء مستقبلهم بحرية وكرامة دون إقصاء أو تهميش“. وسيبيّن المستقبل القريب شكل الترجمة الفعلية لهذا الوعد.
أما مؤتمر الحوار الذي أعلن، فقد بدا “كجائزة ترضية”، حيثلن يكون له سلطة فعلية تنفيذية ذات تأثير في القرار، بقدر ما هو سلطة معنوية. وثمة خشية من أن يستعمل هذا الاستبدال ذريعة لعدم رفع العقوبات من قبل الولايات المتحدة وأوروبا التي تراقب الوضع، مما سيترك أسوأ الأثر على سورية مستقبلًا. حيث يأمل جميع السوريون برفع هذه العقوبات، وفتح الطريق أمام إعادة الإعمار وعودة اللاجئين، ووضع حد لمحنة الشعب السوري التي طال أمدها.
برنامج المرحلة الانتقالية
في كلمته الثانية، في 30 كانون الثاني/ يناير 2025، قدّم الرئيس الشرع، وبشكل مقتضب، بعض البنود الرئيسة في برنامج المرحلة الانتقالية، وقد تضمّنت البنود التالية:
“سنعمل على تشكيل حكومة انتقالية شاملة تعبّر عن تنوّع سورية، برجالها ونسائها وشبابها، وتتولى العمل على بناء مؤسسات سورية الجديدة، حتى نصل إلى مرحلة انتخابات حرة نزيهة”. وهنا عبّر الشرع عن التنوع السوري بالتنوع بحسب الجنس “رجال ونساء وشباب”، وتجنّب التعبير عن تنوع التوجهات السياسية، وتنوع مكونات الشعب السوري، كما هو معتاد من عرب وأكراد وسريان وتركمان مسلمين ومسيحيين وعلويين وإسماعيليين وغيرهم، مع أنه بدا أنه يقصد ذلك.
إلغاء الدستور، وقد كان من المتوقع إلغاء دستور 2012 الذي فصّل حافظ أسد النسخة الأولى منه على مقاسه سنة 1972، ومنح نفسه كافة الصلاحيات، ووضع نفسه على رأس السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، إضافة إلى قيادة الجيش والأمانة العامة لحزب البعث، الذي كان يعدّ قائد الدولة والمجتمع، وهو الدستور الذي عدّله مجلس الشعب سنة 2000، وكان مفصّلًا على مقاس بشار الأسد حتى يتمكن من الترشح لرئاسة الجمهورية، وهو الشاب الذي لم يكن له حينها أو من قبل أي موقع في الدولة السورية أو مؤسساتها، ولا يملك أيّ كفاءات سوى أنه ابن حافظ أسد، وقد كانت نسخة دستور 2012 نسخة ثانية، من حيث الشكل والمحتوى عن دستور 1972، مع تعديل طفيف لا قيمة له. ولسد الفراغ الدستوري خلال المرحلة الانتقالية، سيختار الرئيس الشرع لجنة تحضيرية لاختيار “مجلس تشريعي مصغر”، لم يحدد مواصفاته أو مهماته، ولا عدد أفراده، ولا مواصفات شاغليه.
مؤتمر الحوار الوطني، وقد جاء في كلمة الرئيس الشرع: “سنعلن في الأيام القادمة عن اللجنة التحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني الذي سيكون منصة مباشرة للمداولات والمشاورات واستماع مختلف وجهات النظر حول برنامجنا السياسي القادم“. ولكنه لم يفصح عن برنامج سياسي بعد، وكان من اللافت أنه قال “حتى نصل إلى مرحلة انتخابات حرّة نزيهة”، بما يعني أن النظام السياسي سيقوم على الانتخابات، ولكن هل سيقوم على الحريات العامة في التنظيم والتعبير والاعتقاد؟ وهل سيكون هناك قانون أحزاب تعمل بحريّة؟ وهل ستكون هناك حياة سياسية نشيطة هي شرط لفاعلية اجتماعية قوية؟ وهذه أسئلة ينتظر السوريون جوابًا واضحًا عليها. على أي حال، يمكن أن يلعب هذا المؤتمر دورًا إيجابيًا في التشاور، عبر طرح المشكلات الواقعية فيه للمناقشة وتبادل الآراء، حيث يمكن عقده أكثر من مرة في العام.
إعلان دستوري مؤقت: قال الرئيس الشرع في كلمته “بعد إتمام هذه الخطوات، سنعلن عن الإعلان الدستوري ليكون المرجع القانوني للمرحلة الانتقالية”، أي أن الإعلان الدستوري سينتظر بضعة أشهر أخرى كي يظهر إلى الوجود، حيث لم تحدد أي مدد زمنية لتنفيذ خطوات هذا البرنامج، مع أن الإعلان الدستوري المؤقت هو الوثيقة الأساسية التي يجب أن تظهر في البداية، وأن تنبثق الصلاحيات وتستمد الخطوات شرعيتها منها. ولكن يبدو أن صعوبة وحساسية ودقة ما ستحتويه هذه الوثيقة، والانقسامات التي ستتبلور حول محتواها، قد جعل تأجيلها واقعًا.
في الختام، تعيش سورية بعد سقوط نظام الأسد مرحلة صعبة مليئة بالتحديات المتراكمة في كل الجوانب، وذلك في ظل رغبة شعبية قوية بالخروج عاجلًا من الأزمة الأمنية والمعيشية والخدمية والاقتصادية، فقد تعب السوريون من الحرب، وبقاء العقوبات يعوق حركة أي سلطة حالية أو قادمة، ويسدّ طريق خروج سورية من أزمتها. وترتفع أصوات تطالب القيادة السورية بمطالب تتجاوز قدرة القيادة على تنفيذها، مثل إجراء تحسين عاجل في الخدمات وفرص العمل والرواتب، وذلك بالتزامن مع تحدٍّ كبير يتمثل بسيطرة (قسد) على ثلث سورية تقريبًا، وما تزال مسألة وجود الفصائل وضبط السلاح والأمن تشكّل تهديدًا لا يمكن غض النظر عنه. وتحتاج القيادة الجديدة والرئيس الشرع إلى فرصةٍ حتى يتمكنوا من وضع البلد على مسار المرحلة الانتقالية، ومن المبكّر أيضًا الحكم على سياسات الشرع، فالمبادئ التي يطرحها في معظمها تلبّي غالبية مطالب السوريين، وإن كان الملاحظ أن البون ما زال شاسعًا بين الخطابات وبين الممارسات في الواقع، ولا سيّما من حيث المشاركة والانفتاح وعدم احتكار السلطة تحت ذريعة الأمن والاستقرار، وينتظر السوريون أن يشاهدوا هذا البون الشاسع يضيق.
مركز حرمون
———————————
ملخص ما جاء في حديث الكاتب والسياسي السوري أكرم البني خلال ندوة في جامعة برلين الحرة قبل أيام.
تحديث 01 شباط 2025
بداية، لا بد أن نعترف بأن عملية إسقاط النظام المجرم قد تم بأقل إراقة للدماءـ وأن نعترف أيضاً بأن ثمة خطاب مقبول حتى الآن، من قبل بعض قادة السلطة الجديدة، وأحياناً وعود مطمئنة حول أهمية التشارك والتعاون في إدارة البلاد بعيداً عن الاستئثار والاقصاء.
لكن في المقابل يبدو أن الوطن السوري الذي تخلص من أكبر عقبة أمام تطوره، لا يزال في رسم مستقبله وترسيخ المواطنة الحرة، أو بناء دولة المواطنة والديمقراطية، يرتهن إلى عوامل كثيرة، بعضها يعيق وبعضها حافز ومشجع..
من أهم المعوقات..
أولاً، البنية الأيديولوجية للجماعات المنتصرة وفي مقدمتها هيئة تحرير الشام، واعتمادها مرجعية دينية في جوهرها مشروع سياسي يتطلع إلى إقامة شرع الله على الأرض، الأمر الذي إن لم يتم تجاوزه أو التخفيف من حضوره، فسوف يتعقد مسار العمل لبناء المواطنة الحرة.
ثانياً، ما نشهده من ميل لافت عند السلطة الجديدة لاتخاذ بعض القرارات والاندفاعات تسودها روح الاستئثار واقصاء الآخرين والأمثلة كثيرة.. تشكيل حكومة تصريف الأعمال من لون واحد… طريقة القيام بالترفيعات والتعيينات العسكرية.. الموقف من مناهج التعليم.. الموقف من المرأة السورية. الخ.
وما يزيد الطين بلة حجم التباينات بين الفصائل المشاركة في السلطة، وحجم الجماعات المتشددة فيها والتي لا تريد تقديم تنازلات يعتبرونها إساءة لتطبيق شرع الله.
ثالثاً، لدينا تجارب الإسلام السياسي وطريقتها الباطنية في العمل لتحقيق مطالبها، واتباعها غالباً مبدأ تمسكن حتى تتمكن.. وهو ما يزيد من حجم المخاوف والعقبات.
رابعاً، الأدوار السلبية وربما التخريبية التي يرجح أن تلعبها فلول النظام كما إيران وميليشياتها.
خامساً، واقع القوى السياسية الديمقراطية المشتتة والضعيفة والتي لم تتمكن نيل ثقة الناس عبر سنوات الحرب الطويلة بل كانت محط انتقاد وأحياناً رفض.
إلى جانب هذه العقبات على تنوعها، ثمة حوافز تشجع على الرهان في تقدم خيار دولة المواطنة والديمقراطية…
أولاً، حجم الخراب، انسانياً واقتصادياً وعمرانياً والذي لا يمكن لطرف واحد تجاوزه أو تحمل تبعاته.
ثانياً، مصالح ومواقف بعض الأطراف العربية والغربية التي تشدد وإن بشكل متفاوت في رفض قيام دولة اسلاموية أو حكم ديني، في سورية، وأيضاً في رفض تمدد النفوذ التركي اقليمياً، ويمكن تلمس هذه المواقف والمصالح في تصريحات الزائرين الأجانب والعرب، والأهم في مقررات اجتماعي العقبة والرياض حول الشأن السوري.
ثالثاً، خصوصية المجتمع السوري بتعدد مكوناته وبعضها وازن، ويزيد المر وضوحاً ما يعرف عن ميل قطاع مهم من المكون السني الإسلامي نحو الاعتدال ورفض التعصب والتطرف. وهنا يمكن إدراج ما يحتله حراك السويداء كما الوضع الكردي في شرق الفرات… وتجاه الحالة الكردية وكي تتمكن من لعب دور قوي وذي صدقية يفترض المسارعة لإجراء مراجعة نقدية لتجاوز تراجع الثقة بها، خاصة وقف الانتهاكات والتركيز على إنجاح الحوار الكردي، الكردي والحوار الكردي العربي، ومعالجة المشكلات التنموية اقتصاديا واجتماعياً.
رابعاً، ما راكمته السنوات المنصرمة من كفاءات سياسية وثقافية ومدنية يمكنها في حال تشابكت أن تلعب دوراً مؤثراً في رسم المستقبل السوري.
خامساً، وهو الأهم، ما يصح اعتباره التركة الثقيلة للإسلام السياسي في فشله المتكرر في غالبية التجارب.. فشله التنموي، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، ودفع المجتمعات نحو التخلف والانعزال والتفكك… ما يعني عجزه فعلياً مع هذه التركة الثقيلة، عن قيادة المرحلة القادمة.
مع وضوح العقبات فإن ذكر الحوافز السابقة غرضه زرع الأمل والجدوى في التغيير القادم.
———————————-
في حيثيات تسمية الشرع رئيساً لسورية/ عمر كوش
01 فبراير 2025
ربّما تأخر الإعلان عن تعيين أحمد الشرع رئيساً لسورية الجديدة في المرحلة الانتقالية نحو 50 يوماً، لكنّه جاء بعد توافقات بين قادة الفصائل العسكرية، التي خاضت معاركَ أفضت إلى سقوط نظام الأسد في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024. وشكلّ تعيين الشرع خطوةً مهمّةً جدّاً بالنظر إلى ما يحمله منصب رئاسة سورية الجديدة من معانٍ ودلالات رمزية وقانونية، ومن أنه يعبّر عن سيادة الدولة والشعب معها، بوصفه المنصب الأرفع في الدولة، القادر على تمثيلهما في المحافل الدولية. وترافق الإعلان بمنحه تفويضاً لتشكيل هيئة تشريعية، تتولّى مهامها في سنّ القوانين والتشريعات، مع حلّ مجلس الشعب، ووقف العمل بدستور 2012، وتشكيل لجنة تتولّى مهمة كتابة إعلان دستوري. إضافة إلى صدور قرارات مهمّة، تهدف إلى تعزيز مسيرة التحوّل الذي حصل، واستكمال عملية الانتقال السياسي.
قد يكون الأمثل لو أن هذه الخطوات كلّها اتّخذها مجلس تأسيسي منتخب، أو مؤتمر حوار وطني جامع، لكن الإدارة الجديدة يبدو أنها أدركت صعوبة عقد مثل هذا المؤتمر، الذي اضطرت إلى تأجيله عدّة مرّات، بالنظر إلى عدم توفّر الشروط الضرورية لعقده، وبات المطلوب التريّث أكثر من أجل الإعداد الجديد له، كي يكون بمثابة مؤتمر تأسيسي، وتمثيلي، جامع لمختلف مكوّنات المجتمع السوري الاجتماعية والسياسية والدينية والإثنية. ولعلّ القرار بحلّ هيئة تحرير الشام، ومعها جميع الفصائل المسلّحة، هي خطوة في غاية الأهمية من أجل بناء جيش مهني وفق أسس وطنية، وتجنيب البلاد سيناريوهات دموية ضربت السلم الأهلي في أكثر من بلد عربي، إضافة إلى تعذّر استكمال مهام المرحلة الانتقالية، بوجود الحالة الفصائلية العسكرية، التي تتقاذفها رؤى وخلفيات متناثرة ومختلفة. وهنا تكمن أهمية حلّ جميع الفصائل، إضافة إلى حلّ جميع الأجسام الثورية والمدنية والسياسية الخارجة منها، سواء تلك الموجودة في الشمال أم في سواها من المناطق، والتي تمتلك أذرعاً كثيرة، وتطاول مختلف المجالات الإدارية والمدنية والقضائية، التي صاحبتها طيلة السنوات السابقة. ومن المهم أن يُطبَّق الأمر نفسه على الحكومة المؤقّتة للائتلاف، والائتلاف نفسه، وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سورية، ومخرجاته المدنية (مجلس سوريا الديمقراطية)، والعسكرية (قوات سوريا الديمقراطية، ووحدات حماية الشعب الكردية التي تهيمن عليها).
منذ اللحظات الأولى لتولّي غرفة عملية ردع العدوان مقاليد السلطة في سورية، كانت هناك أسئلة وتحدّيات كثيرة. ولم تكن التحدّيات كامنةً في كيفية سدّ فراغ السلطة الحاصل بعد انهيار جيش النظام وفرار بشّار الأسد فقط، بل أيضاً في الكيفية القانونية والدستورية لتولّي الإدارة الجديدة المرحلة الانتقالية، فكان طرح عقد المؤتمر الوطني بمثابة المخرج الشرعي المطلوب، لكنّه واجه مشكلة اختيار المندوبين إليه والممثّلين، وخاصّة طرق تعيينهم وكيفية اختيارهم، إذ تعذّر انتخابهم من الشعب في ظلّ غياب القانون الانتخابي المُحدِّد لذلك. وبالتالي، يطاول الأمر أيضاً كيفية الانتقال من مفهوم الإدارة الجديدة إلى الدولة الجديدة، التي تستلزم تعيين رئيس لها، لذلك تحدّث أحمد الشرع عن ملء فراغ السلطة بشكل شرعي وقانوني. ولم يكن متاحاً سوى خيار اللجوء إلى الاحتكام للشرعية الثورية في تعيينه رئيساً لسورية في المرحلة الانتقالية. وعنى ذلك نهاية مرحلة إدارة غرفة عملية ردع العدوان، وانتقال الشرعية الثورية إلى الرئيس أحمد الشرع، الذي فوّضته بتشكيل هيئة تشريعية مؤقّتة، سيكون من بين مهامّها، ليس إصدار القوانين فقط، بل إقرار الموازنة العامّة للدولة، ومنح الثقة لحكومة انتقالية، وصولاً لتشكيل هيئة عليا ومستقلّة تسنّ قانون انتخابات، تمهيداً لإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية في الفترة المُقبلة.
غير أن تفويض الرئيس أحمد الشرع باختيار أعضاء الهيئة التشريعية المؤقتة، يمكن أن تكون له إيجابيات وسلبيات، تتمثل إيجابياته في أن الرئيس لن يحكم منفرداً، عبر إصدار المراسيم أو الأوامر التنفيذية، بل سيكون هناك كيان تشريعي، يفترض أنه سيمتلك صلاحيات معينة وواضحة، وألا يتحوّل مجلسَ تصفيق للرئيس، مثلما كانت عليه حاله إبان فترة النظام البائد. وهنا تكمن سلبيات تعيين الرئيس أعضاء المجلس التشريعي المؤقّت، من خلال اختيار شخصيات موالية بشكل أعمى للرئيس، أو لا تستطيع الاضطلاع بمهام المجلس المتعارف عليها، أو مناقشة القوانين التي تصدرها السلطات التنفيذية.
تكمن حيثيات نجاح الرئيس أحمد الشرع في قيادة مرحلة الانتقال في تلبية مطالب غالبية السوريين الحريصين على بذل ما في وسعهم من أجل إنجاحها، واعتبارها مهمتهم جميعاً. وهي مهمّة لا تقتصر على السلطة الانتقالية فقط، التي يتوجّب عليها إدراك أن نجاحها يعتمد على تلبية مطالب السوريين واحتياجاتهم. ولعلّ خروج جموع غفيرة من السوريين إلى شوارع المدن وساحاتها للاحتفال والتأييد فور الإعلان عن تعيين الشرع رئيساً، وما رافقته من قرارات جديدة، يشي بأن ثقهم بالإدارة وبقيادتها كبيرة، لكنّهم في الوقت نفسه يأملون في أن ينعكس ذلك كلّه على أوضاعهم المعيشية المزرية، وعلى أن مشاركتهم الفاعلة في تحمّل المسؤولية، وتطلّعهم إلى بناء سورية جديدة، تحفظ فيها حرّياتهم السياسية، وخاصّة حرّية التعبير وإبداء الرأي، وصون حقّهم في نقد الخطوات الخاطئة، خاصّة أنهم سمعوا كلاماً مطمئناً من الشرع حول رفضه غرور المنتصر المؤدّي إلى الطغيان، وصون السلم الأهلي، ورفض اللجوء إلى الانتقام والثأر، وفي الوقت نفسه ضرورة تطبيق العدالة الانتقالية. فضلاً عن تركيزه على “الرحمة والعدل والإحسان عند القدرة”، وأن “السلطة والمال فساد عظيم لولا الأخلاق”. والأهم هو أن السلطة الجديدة عليها أن تنظر إلى السوريين، ليس من باب سدّ حوائجهم فقط (على أهميتها)، بل بوصفهم كائنات سياسية، وعليها أن تصون حقوقهم، وأن تعمل على إشراكهم في بناء مستقل بلادهم.
العربي الجديد
—————————
هل انتهت الثورة السورية؟/ عمر الشيخ
01 فبراير 2025
لفهم الواقع السياسي في سورية، يجب العودة إلى جذوره التاريخية التي كرّست استبداد الحُكم لصالح القائد الأوحد. قبل سيطرة حزب البعث عام 1963، شهدت البلاد تجربة ديمقراطيّة واعدة تجلّت في نظام برلماني تعدّدي أتاح مساحة للحوار السياسي والتعبير عن التنوّع المجتمعي. ورغم ما رافقها من اضطراباتٍ، ظلّت السلطة قائمة على التنافس المشروع وإرادة الشعب، غير أن سلسلة الانقلابات العسكريّة الّتي بدأت في أواخر الأربعينيات، حوّلت السلطة لساحة صراعٍ بين النخب السياسية والعسكرية، ما فتح الباب أمام نشوء أنظمة شمولية. هذا المسار أدّى تدريجياً إلى تآكل الديمقراطية وتعزيز الاستبداد، حتى وصلت البلاد إلى نظام حكم آل الأسد، الذي انتهى بسقوط النظام في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، وسط أصوات الحرّية والتغيير في طول البلاد وعرضها.
ومع وصول حزب البعث إلى السلطة، شهدت سورية تحوّلاً جذرياً في الحُكم، فأصبحت الشعارات القومية والاشتراكية غطاءً لهيمنة الحزب المطلقة. تمركزت السلطة في يد القيادة العليا، وتراجع دور المؤسّسات الديمقراطية، وفي رأسها مجلس الشعب، ليصبح واجهة رمزيّة خاضعة للقرارات المركزية. بلغ هذا النهج ذروته مع استيلاء وزير الدفاع (آنذاك)، حافظ الأسد، على الحكم عام 1970، فأرسى نظاماً أمنياً عسكرياً يعتمد على شخصنة السلطة، وعلى شبكة واسعة من أجهزة المخابرات تستند إلى توغّل حزب البعث في الدولة والجيش. استخدم النظام الاعتقالات التعسّفية والقمع العنيف لنشر الخوف وإخضاع المجتمع، ومكافحة أي معارضة سياسية أو فكرية.
لقد رسّخت التحوّلات السياسية في سورية الخوف عنصراً أساساً في الوعي الجماعي للسوريين، فتحوّلت السلطة من خدمة الشعب إلى أداة قمعٍ ومراقبة، تخترق تفاصيل الحياة اليوميّة. هذا الواقع دفع الأفراد إلى التعايش السلبي مع القمع، ممّا أضعف شعورهم بالمواطنة والمسؤولية الفردية والمجتمعية. وربّما على الصعيد الاجتماعي، عمّقت السياسات القمعيّة الانقسامات بين الناس وزرعت الشكوك المتبادلة، فبات الخوف من الوشاية والتجسّس يخيّم على العلاقات اليومية. كما يمكن تلمّس كيف أضعفت مركزية السلطة المجتمعات المحلّية، وفتّتت الهياكل التقليدية، في ظلّ تنامي المخبرين في الدولة الأمنية، ممّا زاد عزلة الأفراد سياسياً واجتماعياً. لقد أصبح الخوف جزءاً من الهُويَّة السياسية للسوريين، حوّل فِكَر التغيير أو النقد السياسي للدولة أمراً شبه مستحيلٍ. هذا الإرث القمعي يشكّل اليوم عقبة كبيرة أمام إعادة صياغة مفهوم السلطة، ويبدو أنه لا يمكننا تجاوز الماضي من دون كسر العلاقة المرضيّة بين السلطة والخوف.
إن إعادة بناء سورية تتجاوز إعادة إعمار البنية التحتية، حسب ما نستنتجه من مراقبة المجتمع السوري في مناطق سقوط النظام، حتى التحرّر الكامل من سطوته، ولعلّ إعادة البناء تتطلّب التهديم العام عبر الحوارات واللقاءات، والتواصل الاجتماعي الحقيقي، لتضمن تلك الخطوات تحرير مفهوم السلطة من إرث القمع وإعادة صياغتها عقداً اجتماعياً قائماً على الشفافية والمساءلة. وأظن أن تحقيق ذلك يأتي من تحرير الوعي الجماعي من الخوف، واستعادة الثقة بأنّ السلطة يمكن أن تكوّن شراكة لبناء مجتمعٍ عادلٍ متنوّع يفهم خصوصية البلاد. ومنذ انطلاق الثورة عام 2011، حدث تحوّلٌ تاريخي في فهم السوريين مسألة الكرامة وانتزاع الحرّية رغم المخاطر. ولكن الثورة ذاتها واجهت تحدّياتٍ داخلية، وانتقلت عدوى الاستبداد إلى بعض أوساطها، ممّا استدعى مراجعاتٍ مستمرّة في الصراع العسكري والخطاب السياسي.
طوال أيّام الثورة، واجه السوريون نظام الأسد وصراعات الفصائل والتحدّيات الاجتماعية. ورغم الشتات والدمار، بقي الأمل بزوال النظام قائماً، سواء عبر دعمٍ دولي لقوة ثورية موحّدة، أو إرادة شعبية عازمة على تحقيق الحرّية والخلاص. وتوفّرت فرصة مناسبة في المنطقة، شحنها المزاج العام بالتصدّي لعصابة حوّلت الدولة السورية مرتعاً للمخدّرات والتطرّف وأغرقت الدول باللاجئين. وبسقوط حكم عائلة الأسد في سورية، بعد خمسة عقود من الاستبداد، تقف البلاد أمام فرصة تاريخية لإعادة بناء مستقبلها وسمعتها على أسس جديدة. هذا التحوّل كثيراً ما يتطلّب تجاوزاً لإرث القمع الذي حوّل سورية من وطن غني بالتنوّع إلى دولة مغلقة تحت هيمنة عسكرية قمعية، راحت تصدّر التعاسة والأخطار للعالم، وتقنّن حياة سكّانها إلى مستويات دون خطّ الفقر.
اليوم، تواجه سورية تحدّياً كبيراً يتمثّل في بناء وعي وسلوك جديدَين يتخطَّيان عقلية الانتقام والتشفّي. وتمثّل العدالة الانتقالية جوهر هذا التحوّل، فهي السبيل العادل لتحقيق المحاسبة من دون انتقام، ومعالجة جراح الماضي بطريقة تحفظ وحدة المجتمع، وترسّخ قيم الحرّية، التعدّدية، وسيادة القانون. إن رفض الانتقام ليس ضعفاً، بل هو شرطٌ أساسي لإعادة بناء الثقة، وخلق بيئة تدعم الأمل بدلاً من الأحقاد. سورية الحرّة لا بدّ أن تكون وطناً يحتضن جميع أبنائها، وطناً يتحوّل فيه إرث الألم إلى قوة تدفع نحو التغيير، وتنبت بذور التصالح واستحقاق الوفاق الوطني لجميع السوريين. ويقتضي ذلك أيضاً مواجهة أولئك الذين يبدّلون ولاءاتهم من دون تحمّل مسؤولية الكوارث التي ساهموا في صنعها. علينا جميعاً العمل من أجل تحرير العقل الجمعي من الأدلجة الضيقة، وبناء وعي بديل يرى في التنوع ثراءً لا تهديداً، وفي الآخر المختلف شريكاً لا عدوّاً.
يتطلب الواقع حواراً شجاعاً يؤسّس عقداً اجتماعياً جديداً يضمن حقوق الجميع، فتكون العدالة، وليست الكراهية، الأساس للسلام المستدام. بعد عقود من الاستبداد، يحتاج السوريون إلى إعادة تعريف السلطة خدمة للمواطن لا أداة للقهر، واستعادة دورهم مواطنين ذوي حقوق وواجبات. إذا ترك الفراغ السياسي والاجتماعي الناتج عن سقوط النظام من دون معالجة واعية فقد يؤدّي إلى فوضى وصراعاتٍ مدمّرة، كما أظهرت تجارب دول أخرى. وهنا إشارة مباشرة إلى ضرورة بناء مؤسّساتٍ ديمقراطية تشاركية لعلّها السبيل لتجنّب تفكّك الولاءات، وتحقيق الاستقرار الذي تحتاجه الدولة السورية.
كيف يمكننا في غياب وعي سياسي جامعٍ إعادة تعزيز ثقافة المواطنة الحقيقية، التي تعيد للفرد مكانته شريكاً أساساً في بناء الدولة، بدلاً من أن يكون تابعاً للسلطة الحاكمة؟ يمكننا التّفكير في استراتيجيات تعزّز الجهود التشاركية بين الفاعلين السياسيين، والثقافيين، والمدنيين، بهدف بناء جسور تواصلٍ فعّالة بين الشارع والنخب. يتطلّب ذلك تعاونَ الكيانات الثقافية، الأحزاب الجديدة، منظّمات المجتمع المدني، الإعلام، لتمكين المجتمع من ممارسة الرقابة، والمشاركة الفاعلة في صياغة دستورٍ يعبّر عن تطلّعات السوريين.
إلى جانب ذلك، يجب تعزيز التنافس السلمي لضمان تمثيل التعددية السورية. ويتطلب الوضع الراهن توحيد الجهود العسكرية والأمنية لتحقيق الاستقرار، مع إرساء مبادئ عدالة محايدة ومنصفة تعبّر عن إرادة جميع الأطراف. ورغم التحدّيات الراهنة، ينبغي أن تركّز الجهود على الإصلاح، مع تجنّب الوقوع في أخطاء الماضي، خاصّة أن سقوط النظام كشف بوضوحٍ حجم الكارثة والتجاوزات التي ارتكبت، ومدى تغلغل الأفراد الداعمين للأسد في مؤسّسات الدولة الحيوية، سواءٌ الوزارية أو الخدمية وغيرها. وهذا يستلزم وقتاً لمعالجة الوضع وتحييد كلّ من تورّطت يداه في إراقة الدماء من بين هؤلاء.
التّحذير الأشدّ يكمن في الحذر من انتقال بعض داعمي النظام الساقط إلى صفوف الثورة من دون فهم حقيقي لمعناها، ومن دون تقديم نقد ذاتي أو اعتذارٍ صادقٍ للضحايا. الثورة ليست وسيلة لتبديل رموز السلطة أو تمجيد قائدٍ جديدٍ، بل هي مشروعٌ لتغيير جذري يهدف إلى وضع السلطة في خدمة الشعب، لا العكس. إسقاط الأنظمة وحده لا يكفي، فالثورة الحقيقية تتطلّب مواجهة السلوكيات المشوّهة كالتشبيح، الذي يُعبِّر عن عمق الأزمة في بنية الفرد ويعوق بناء مجتمع قائم على العدالة. إن غاب هذا الوعي، ستظلّ الثورة تدور في حلقة مفرغة. سقوط نظام الأسد لا يعني نهاية المشكلة إذا بقيت حاضنته في أجهزة الدولة تفكّر وتعمل بالعقلية ذاتها، التي دمّرت الدولة، فالثورة سوف تبقى ناقصة.
العربي الجديد
—————————-
مؤتمر حوار لحلّ المسألة الكردية في سورية/ بشير البكر
01 فبراير 2025
على أصحاب القرار في سورية أن يستبعدوا السلاح من أيّ مسألة داخلية، مهما بلغت من الأهمية، والبحث عن حلول للقضايا المعقّدة بالحوار، لأن العنف لا ينهي خلافاً، ولا يعزّز وجهة نظر بقدر ما يولّد من مشكلات، سوف تتفاقم مع الوقت لتتحوّل أزماتٍ متفجّرةً، تستهلك الطاقات العامّة، وتفتح أبواب المستقبل على سلسلة من العداوات والحروب.
أحد مولدات ثورة عام 2011 هو الاحتجاج على القمع الرهيب، وتكميم الأفواه، ومصادرة حرّية التعبير، وعلى العهد الجديد أن يقطع أولاً مع نهج النظام السابق، ويتعامل مع السوريين مواطنين لهم كامل الحقوق في دولة القانون، وليس رعاياً تتكرّم عليهم السلطة بما تجود به. وعلى هذا المنوال، لا بدّ من إدراك عميق لما تركه نظام الحزب الواحد والعائلة الأسدية من ملفات معقّدة، يتطلّب نفض الغبار عنها سعة صدر وحكمة، من دون تسرّع وحسابات آنية.
الاستخفاف بالمسألة الكردية في سورية لا يحلّها، وإذا لم يجر تشخيصها على نحو دقيق، فإن التعامل معها سيُحدث مشكلات إضافية، ولن يقود إلى إنهائها. ولا يمكن للدولة ومواطنيها الأكراد، ومجتمع شرق سورية المتنوّع والمتعدّد، العربي وغير العربي، أن يخرجوا من عنق الزجاجة من دون حوار صريح، يشارك فيه الجميع لوضع النقاط على الحروف، والخروج بتفاهمات مشتركة حول مستقبل منطقة شرق سورية، التي عانت من التمييز منذ قيام الكيان السوري.
وليس صحيحاً أن الكرد وحدهم من يمتلكون مظلومية خاصّة في هذه المنطقة، بل العرب أيضاً، الذين ترفد منطقتهم الموازنة السورية بما يتجاوز 40% من عائداتها، في حين أنها لا تحظى بقدر من خدمات التعليم والصحّة والبنى التحتية والتمثيل في مؤسّسات الدولة أسوة ببقية المحافظات، ولهذا ترتفع أصوات عربية من الجزيرة السورية تطالب بأخذ معاناة أهلها بعين الاعتبار، وعدم اختصار الأمر بالظلم التاريخي الذي لحق بالأكراد، وهو صحيح، ويحتاج إلى علاج جذري بالتفاهم، وليس بالحرب والابتزاز، وفرض أجندات أجنبية.
لا يتلخّص شرق سورية في أنه أرض ثروات نفطية وزراعية ومشكلة كردية مزمنة، بل هو مركّب معقّد من القضايا المتداخلة سكّانياً وثقافياً واقتصادياً، وما لم تُدرَك هذه الحقيقة، فإنه لن يتم الوصول إلى حلّ شامل، وقد تذهب الجهود في اتجاه وتغفل بقية الاتجاهات، وتُسوَّى مسألة على حساب أخرى. ويعتمد نجاح سياق الحلّ الشامل على تحريم استخدام السلاح في الحوار من أجل التوصّل إلى حلّ سياسي، وعدم استخدام ثروات المنطقة وظروف أهلها أوراق ضغط، وأن تتوقّف قوات سوريا الديمقراطية (قسد) عن احتكار تمثيل أكراد سورية، وتخرج من المعادلة المقاتلين الذين التحقوا بها من خارج الحدود، وتقدّم كشف حساب عن عائدات نفط المنطقة التي تسيطر عليها.
العلاج العادل لمشاكل المنطقة هو المدروس والمتأني، والذي يتم بمشاركة الجميع من خلال مؤتمر حوار حول وضع شرق سورية، يشارك فيه أهل المنطقة، تحت سقف الدولة السورية، التي هي ملك جميع السوريين، وأن يتم فيه طرح المشاكل كافّة، والنقاش من حولها، للوصول إلى حلول تنهي قضية التمييز، وتضع خطّة تنمية شاملة للمنطقة تقوم على توظيف جزء من الثروة النفطية للتنمية المحلّية، وإحياء المشاريع الزراعية التي تضرّرت بسبب الجفاف وقلّة المياه، بما في ذلك العودة إلى مشروع الغاب السوري بالتعاون مع تركيا، التي تمتلك الماء.
أسلوب المفاوضات الثنائية مع “قسد”، والوساطات التي تقوم بها أطراف خارجية، كرئيس إقليم كردستان السابق مسعود البرزاني، مؤشّرات جيّدة إلى توجّه الأطراف كافّة، لكنّها لا تغني عن مؤتمر حوار شامل يخصّ جميع أهل شرق سورية للاتفاق على أسس لحلول مستدامة.
العربي الجديد
——————————
بوتين والحاجة إلى الشرع/ بيار عقيقي
01 فبراير 2025
لم يُبنَ تشكّل الوقائع السياسية في العالم سوى على مبدأ “تأمين المصالح المتبادلة”، وكلّ ما يزعزع هذا المبدأ يؤدّي إلى توتّرات وصدامات وصولاً إلى اندلاع حروب.
الثلاثاء الماضي كان يوم الوفد الروسي في دمشق، وفي رئاسته نائب وزير الخارجية، ميخائيل بوغدانوف، ومبعوث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الخاصّ إلى سورية، ألكسندر لافرنتييف. جرى التوافق بين الوفد وقائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع، قبل تنصيبه رئيساً للبلاد الأربعاء الماضي، على الحاجة إلى تأمين المصالح المتبادلة بين الطرفَين. هي الحاجة نفسها التي دفعت الاتحاد السوفييتي إلى الاستعانة بسورية مركزاً أساسياً له في المياه الدافئة في عام 1971، وهي الحاجة نفسها التي روّجها بوتين لتدخّله العسكري في سورية بدءاً من 30 سبتمبر/ أيلول 2015، لدعم الرئيس المخلوع بشّار الأسد. أثبتت روسيا أن ما دفعها إلى دمشق في المرَّتَين الحاجة إلى حيّز جغرافي يسمح لها في ترك أبواب المضائق التركية إلى البحر الأسود مفتوحةً أمامها، وأيضاً نقل أيّ معركة موجّهة ضدّها بعيداً من البرّ الروسي من جهة أخرى.
من الصعب تخيّل أنه، قبل فترة قصيرة جداً، رُفعت صور مشتركة للأسد وبوتين في احتفالات شعبية في “سورية المفيدة”، الممتدّة من دمشق إلى الساحل السوري. واليوم لم يعد غريباً رفع صور مماثلة لبوتين والشرع، في حال حصلت، ولا حتى الحديث عن “مناورات سورية روسية مشتركة”، أو رفع وتيرة تعليم اللغة الروسية في سورية. ربّما قد يحصل ذلك وأكثر، غير أن المطلب الأساسي للشرع تلخّص في طلب دمشق من موسكو تسليم الأسد. تعلم روسيا أن الغرب اشترط على السوريين عدم التعاون معها في مقابل تسهيلات مرتبطة برفع العقوبات عن سورية، المفروضة منذ أيّام النظام المخلوع، وتقديم مساعدات واسعة النطاق. يدرك الروس أن موقف الشرع ليس سهلاً حيال تأمين المصالح المتبادلة، ما لم تسلّمه ورقةً تسمح له في التبرير أمام الغرب بضرورة التعاون مع روسيا في سورية. وليس هناك من ورقة أكثر أهميةً من تسليم الأسد وأعوانه إلى دمشق.
إلى أيّ حدّ يُمكن للروس فعلها؟ وما الرسالة التي يُمكن أن توجّهها إلى الفارّين السابقين إلى أرضها، خصوصاً من دول الجوار الروسي، كالرئيس الأوكراني الأسبق فيكتور يانوكوفيتش، الموالي لها؟ ماذا لو تهاوى العسكر المدعوم منها في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، واضطرّت قياداتهم للجوء إلى المنفى في موسكو؟ ما الذي سيضمن لهم عدم تسليمهم إلى قادة الأنظمة الجديدة في بلادهم باسم “المصالح المتبادلة”؟ في المقابل، ما الذي ستستفيد منه روسيا في احتضان بيادقها المنفيين، في ظلّ عقوبات غربية تنهشها بسبب غزو أوكرانيا؟
طالما تحدّث بوتين نفسه عن مفاهيم مرتبطة بإدارة النزاعات الدولية، عالماً أن المصالح المتبادلة هي التي تحكم مثل هذا العالم، يدرك أن أيّ تنازل يُمكن إدراجه في إطار “العواطف” سيدفع به في مرحلة لاحقة إلى التنازل أكثر، خصوصاً أن الأوليغارشيين في دائرته الضيّقة باشروا توجيه الإنذارات بشأن الوضع الاقتصادي.
المأزق الروسي الحالي، بما يتعلق بالعلاقة مع سورية الجديدة، سيحكم مستقبل روسيا الخارجي. ليس في الأمر مصادفة. سبق للروس أن خرجوا من قاعدتهم البحرية في طرطوس بعد انهيار السوفييت في عام 1971، ولن يكون غريباً تكرار مثل هذا المشهد. الأغرب وقع في الأصل: أظهر الروس والإيرانيون وحلفاؤهم أن ما ردّدوه من “تخلي الأميركيين عن حلفائهم”، قاموا به هم على أكمل وجه. لم تساند روسيا الأسد في معركته الأخيرة، واتهمت جيشه بالتقاعس. أمّا الإيرانيون، فغزة ولبنان والأسد شهود على ذلك. لا ذلك فحسب، بل إن الرئيس دونالد ترامب، بات حاجة ملحّة لبوتين وللنظام الإيراني. الأول يدعو إلى التفاهم معه، والثاني مستعدّ لإبرام اتفاق نووي معه. إذاً علامَ الاستناد إلى أن نظامي موسكو وطهران هما “جزء منا”، فيما كل ما يريدانه هو الحصول على الرضى الأميركي؟
العربي الجديد
————————–
أسئلة ناقصة/ ممدوح عزام
31 يناير 2025
بسقوط النظام السوري سوف تسقط الكثير من النقاشات التي سادت في السنوات العشر الماضية، حول المسائل الثقافية المتنوّعة، ومن بينها تلك التي وضعت الرواية السورية، والروائيّين السوريين، في دائرة التساؤل المُحرِج أحياناً بخصوص: ماذا فعلتَ تجاه الثورة؟ أو كيف شاركت بكتاباتك في الثورة السورية؟
الراجح أنّ تلك الأسئلة لم تكن بريئة، إذ لم تكن تنطوي على العتَب الخفي المُحبّ وحده، بل كانت تحتوي ريبة وشكوكاً ترتطم بالرواية السورية عموماً، وتُدينها، إذا لم يكن الروائي قد استجاب لمطالب الحشد التي تتمركز حول الاستجابة الضرورية لموضوع الثورة، بحسب الوصفة المُسبقة التي قد لا توجد على الأرض. وكانت الأطروحة على الشكل التالي: إذا كان الشعب قد ضحّى، وطُورد، وهُجّر، وهُدِّمت قُراه، وبلداته، ومدُنه، من أجل الكرامة والحرّية والحياة الطيّبة الخالية من القمع والاضطهاد، فكيف يُمكن أن يتأخّر الروائي عن مواكبة هذه الثورة؟ ما دور الكاتب؟ أين القصّة والرواية والمسرحية والأُغنية التي شاركتنا تلك الهَبّة؟
واللافت أنّ السنوات العشر الماضية قد شهدت مشاركة أدبية واسعة من السوريين في التعبير، أو محاولة التعبير، عن الحدث الثوري ذاته، أي الانطلاق إلى التسجيل والتوثيق الذي يأخذ طابع الحكاية والقصّة والرواية، أو كتابة النصوص ذات الطابع الفنّي الذي لا يخرج أيضاً عن مستلزمات الحدث العظيم الذي واجهته سورية في السنوات الماضية.
تبدلّت الأوضاع اليوم، وقد أُلغيت تلك الأسئلة تقريباً، وهذا منطقي، لأنّها في الجوهر لم تكن أسئلة أدبيّة، وخاصّة إذا أعاد الكاتب طرح سؤاله الخاص: وأنتم ماذا قرأتم من الروايات التي كتبَها الروائيّون السوريون في موضوع الثورة؟
يُمكنني أن أقدّم جواباً مختلفاً في الحقيقة، فلم يوزّع أي روائي سوري من أي رواية كتبها عن الثورة أكثر من ألف نسخة، ولا يُمكن القول إنّ عمله لا يستحق أكثر من ذلك، إذ لم تُقرأ الروايات، ولم تُجرَ أي حوارات حولها، لا بين النقّاد، ولا بين القرّاء، ولا في وسائل التواصل، إلّا قليلاً، وكانت روايات الجوائز المدعومة إعلامياً تستأثر باهتمامات وأموال القرّاء السوريين أكثر من أي عمل سوري كان موضوعُه الثورة.
وربّما يُمكن أن يَطرح الوضع الجديد في سورية علينا أسئلة أُخرى في البحث عن العلاقة بين الأدب والمجتمع، فما حدث في سورية اليوم يختلف تماماً عمّا حدث في جميع البلدان العربية التي شهدت الثورات؛ إذ ثمّة انقلاب في السُّلطة والنظام والدولة والمجتمع معاً. وهكذا فإنّ مهاماً جديدة، وتبدُّلات في الرؤية، ومواقف مختلفة من العالَم من حولنا، ونظرة جديدة، يُمكن أن تكسر كثيراً من المفاهيم والمواقف واليقينيات التي كانت سائدة، أو شبه سائدة، بين السوريين جميعاً، في مواجهة الانهيار الشامل لعالمهم الذي عاشوا في ظلاله أكثر من نصف قرن.
ولأنّ الوضع الحالي يتّسم بالبطء، والتقدّم بخُطى وئيدة، دون أن يتّضح المسار والهدف، فإنّ الفرصة الجديدة المتاحة أمام الرواية، والأدب والفنّ بصورة عامّة، هي أن يعتني كلّ نوع بنفسه، أن يفكّر كيف يخدم احتياجاته، لا مطالب الدُّعاة أو الموجِّهين، وفي ذلك يقع النفع الحقيقي للأدب
العربي الجديد
————————
عندما ينادي الشبيحة والرديحة والمتفذلكون بالديمقراطية!/ د. فيصل القاسم
تحديث 01 شباط 2025
لم نتوقف منذ أكثر من ثلاثين عاماً عن جلد الديكتاتوريات والطغاة والأنظمة العسكرية والأمنية، وكنا وما زلنا نطالب بأنظمة ديمقراطية مدنية وعدالة اجتماعية وحريات وحماية كل المكونات وبناء دول لكل أبنائها ودساتير حقيقية يعمل تحتها الحاكم والمحكوم، ولن نتوقف حتى نحقق تلك الأمنيات الصعبة مهما طال الزمن، لكن لو سألت غالبية السوريين اليوم اللاجئين منهم والنازحين وحتى العاديين ماذا تريدون أولاً، فبالتأكيد سيطالب اللاجئون والنازحون بالداخل والخارج بتأمين ظروف العودة إلى بلدهم وبيوتهم، وهي بالمناسبة مدمرة وغير صالحة للعيش فيها، كما أنهم سيطالبون بأبسط مستلزمات الحياة، خاصة وأن رغيف الخبز كان صعب المنال في عهد النظام الساقط، وكل السوريين في الداخل كانوا يعانون الأمرين لتأمين كيلو خبز، لا سيما وأن زوجة بشار التي كان يلقبها السوريون بماري أنطوانيت الشام تاجرت حتى بلقمة عيش السوريين، وكانت تشاركهم في كل حبة أرز يأكلونها، فوضعت كل المواد الاستهلاكية الأساسية تحت ما يسمى البطاقة الذكية التي كان يحصل الناس بموجبها حتى على رغيف الخبز.
تصوروا أنكم للحصول على حصتكم المحددة والمقننة يجب أن تخضعوا للبطاقة، التي تحدد لكم وقت الحصول على الخبز وحتى عدد الأرغفة لكل عائلة، وهو ما لم يحصل في أي مكان، فما بالكم في سوريا التي لديها الإمكانية لتصدير القمح لبلدان عدة. فكيف بالله عليكم يمكن أن يطالب مواطن سوري مسحوق بتطبيق الرفاهيات السياسية في البلاد كالانتخابات والدستور والدولة المدنية والعلمانية والديمقراطية وهو لا يجد لقمة الخبر؟ مستحيل، لكن مع ذلك ورغم قساوة الوضع المعيشي والخدمي والأمني في سوريا، بدأت تظهر هناك بعض الأصوات التي تريد حرق المراحل كوضع دستور جديد بسرعة البرق وإجراء انتخابات عاجلة، لا بل إن بعضهم خرج إلى ساحة الأمويين ليطالب بحريات ربما يسخر منها الأوروبيون أنفسهم. وللغرابة فإن معظم المطالبين بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية العاجلة إما كان موالياً أو مستفيداً من النظام أو غير متأثر بالكارثة التي ضربت سوريا والسوريين أو متفذلكين أو سفسطائيين أو علمانجيين يتاجرون بالعلمانية، أو طائفيين، أو انفصاليين أو خاسرين من سقوط النظام أو متسكعين في مواقع التواصل أو كارهين للقيادة الجديدة في سوريا، هؤلاء فقط هم الذين يطالبون بأشياء مستحيلة الآن.
وسنحسن النية وسنقول إن كل تلك المطالب التي تندرج تحت عباءة الديمقراطية مطالب محقة، ولا شك أن كل السوريين يطمحون للحصول عليها بعد عقود من العيش تحت أبشع ديكتاتورية عرفها القرنان العشرون والواحد والعشرون. لكن لو نظرنا إلى نوعية الأصوات التي تملأ الدنيا ضجيجاً اليوم على مواقع التواصل وحتى في الساحات العامة للمطالبة بالحريات والدولة المدنية سنرى أنها كانت في معظمها تعمل بوظيفة شبيحة دعماً للنظام الساقط أو فئات خاسرة من سقوطه، فهم لا يعرفون أصلاً معنى ديمقراطية ولا مدنية ولا علمانية، ولم يمارسوها طيلة حياتهم، لأنهم كرسوا أعمارهم ليكونوا مجرد أدوات في أيدي الطاغية لذبح السوريين وقهرهم وقمعهم وسحقهم تعذيبهم والتنكيل بهم بأبشع الأساليب والوسائل، وكلنا شاهد عمليات التعذيب في أسوأ سجون عرفها العالم كصيدنايا وفلسطين والمزة. ومن بين المطالبين بالانتخابات أيضاً ليس فقط شبيحة وجلادين، بل كتاب وإعلاميون وإعلاميات وفنانون وفنانات أمضوا حياتهم في صحافة الرأي الواحد، ولم يستطيعوا طوال عمرهم أن يقولوا أو يكتبوا كلمة صدق واحدة، لأنهم كانوا مجرد أبواق رخيصة تردد كل أنواع الكذب والنفاق والدجل والفبركات التي كان يتقيأها إعلام النظام الساقط على مدى أكثر من نصف قرن من الزمان. تصوروا أن يخرج لكم إعلامي يعمل بوظيفة شبيح منذ سنوات ليطالب بالحرية الإعلامية والشفافية في سوريا الجديدة.
والله لا يمكن لنا إلا أن نقلب على ظهورنا من الضحك على هذا الرهط من الشبيحة والرديحة. قال شو قال: يريدون حريات، وهم الذين كانوا يدسون على أبسط أنواع الحريات، ولا يسمحون لأحد أن يتكلم حتى عن أسعار الفجل والخس والطماطم. لكن ما شاء الله بمجرد أن سقط نظامهم الفاشي تحول كل واحد منهم إلى مونتسكيو أو جان جاك روسو عصره، فصار ينظّر على السوريين بالديمقراطية وراح يحدثنا عن فضائل المجتمع المفتوح لكارل بوبر.
لقد عاش هؤلاء الأفاقون الذين يطالبون بالديمقراطية اليوم، عشرات السنين وهم غير قادرين على فتح أفواههم إلا عند طبيب الأسنان فيما كان يسمى بسوريا الأسد، لكن في اللحظة التي تحرر فيها الشعب السوري من أسوأ طغيان عربي، راحوا يرفعون أصواتهم ويطالبون بأنواع الحريات البشرية والحيوانية بلمح البصر. كل ذلك ليس لأنهم يريدون الديمقراطية للسوريين، بل لأنهم يريدون إحراج الإدارة الجديدة والانقلاب على الانتصار العظيم. لكن هيهات، فإن عقارب الساعة لا ترجع إلى الوراء. وهذا لا يعني مطلقاً أن السوريين اليوم لا يريدون الديمقراطية والحريات والانتخابات الحرة بل يريدونها البارحة قبل اليوم، لكن هل هناك أي بديل الآن عن تعيين قيادة مؤقتة في ظل استحالة إجراء أي استفتاء أو انتخابات نتيجة الوضع الميداني والتقني في سوريا؟ أليس من الطبيعي أن مَن قاد عملية إسقاط النظام يتولى قيادة سوريا المحررة؟ أليست الشرعية في زمن الفوضى هي لمن يمتلك قوة فرض الأمن وبناء الدولة؟ أليس تعيين رئيس جديد لسوريا ضرورة قانونيّة من أجل الاعتراف الدوليّ، لأن الفارّ مازال في القانون الدوليّ رئيسَ سوريّا حتّى ثوان من مؤتمر النصر؟ ألا يقول المثل الشعبي: «كل شيء بوقته حلو» فما فائدة الرفاهيات السياسية في وقت يعيش فيه غالبية السوريين تحت التحت على كل الأصعدة ولا بد من التعافي أولاً قبل المطالبة بالمستحيلات؟ ألا يعلم الرديحة في مواقع التواصل أن المسحوقين في سوريا اليوم وهم الأغلبية لا يستطيعون أن يفطروا ديمقراطية، ويتغدوا علمانية، ويتعشوا انتخابات، ويتحلوا بـ«رز بحليب دستوري».
كاتب واعلامي سوري
القدس العربي
—————————————
الديمقراطية: هل نتركها لجيل آخر؟/ وسام سعادة
تحديث 01 شباط 2025
هل يمكن تفادي الحديث عن الديمقراطية وتجويز صرف النظر عن استحقاقها وإلحاحها، بدعوى أنّ اللجاج حولها قليلاً ما نفع، بل أضرّ وأفسد وعفّن؟ وأن إطناب الحديث عنها، ولصقها كحل سحري وفوقي وفجائي بكل المشاكل عصفها ومسخها وأوقعها مطية لكل مخادعة، للذات أم للغير، لا فرق؟ وأن مصادرة وتعليق وتأجيل وتتفيه غيرها من قضايا ومسائل باسمها سحب بالنتيجة البساط نهائياً عنها؟
إذ لم يشفع كل هذا الصخب الذي كانت الديمقراطية عنوانه الأبرز بالسير إليها، بل لم يؤد الإسراف في اللغو بصددها، والغلو في الرغبوية والإدارية بشأنها، على حساب التفاعل مع الواقع وطيّاته وتعقيداته، إلا إلى إتلاف الدفع في اتجاهها، وإحباط الشوق إليها، وأنه، في هذه المرحلة سواء سميناها بالمرحلة الراهنة، أو وصفناها بالمرحلة التاريخية – وما عادت التاريخية هنا تفهم ما الذي تعنيه بالتحديد، هذا إن كانت تعني – لم يعد هناك ما يُنتظر من فكرة الديمقراطية، والأفضل بل الأسلم للفاهمة والذائقة على حد سواء طرحها جانباً، اجتنابها، لفظها، أو أقله تركها لجيل آخر، يتدبّر أمرها وينظر في تعبئة رصيدها من عدمه. الآن هي بلا رصيد. بل هي اللارصيد عينه.
لقد مرت تواقيع الفكرة الديمقراطية في البلدان العربية بعدد من المراحل في العصر الحديث.
في المرحلة الكولونيالية، المتفاوتة بين البلدان، تمحور جزء من سردية الحركات الوطنية حول رغبة وقدرة الشعوب على اقتباس المؤسسات الدستورية من الحواضر الغربية في مقابل الجلاء والاستقلال، لا سيما وأن الإدارات الاستعمارية ما كانت تتردد في التدخل الفظ على حساب الصيغ الدستورية المعمول بها في ظل الانتداب والحماية.
نهضت سردية التحرر الوطني على الوعد بمتابعة التطور الدستوري التعددي بشكل أكثر ثقة وانسجاماً ورسوخاً ما أن يُزاح علم الحاضرة الاستعمارية. لكن، ما أن جلت جيوش القادمين من وراء البحار، حتى تهاوت التجارب الدستورية البلدية معها. أيضا لأن هذه التجارب ما كانت قادرة على توسيع قاعدتها الاجتماعية ولا على تنويع نخبها. وفي المطرح الوحيد الذي سمحت بذلك، أي في سلك الضباط، كانت النتيجة هو صعود ضباط الطبقة الوسطى المتحدرين من أصول ريفية حديثة العهد، وبشكل ناقم في آن واحد وطنياً واجتماعياً على نظام الأعيان والأفندية، وغير قادر على تمييز هذا النظام القديم المدان بمسؤوليته في هزيمة 1948 عن الدستور والتعددية السياسية وحرية الرأي والفكر.
النتيجة أن عصر النهضة العربية انتهى في اللحظة التالية مباشرة لرحيل المستعمر بدل أن يتوهج ويسطع في إثر الجلاء، وأن ديمقراطية القلة جرى الإطاحة بها، باسم الكثرة، إنما من قبل قلة أخرى، شعبية الأصل، فتية وحالمة، ولو أنها تحولت بعد ذلك إلى مجاميع كالحة هرمة، مهووسة بالتجسس على الناس، و«تعسيسهم» – أي تحويل عمومهم، إلى عسس – وامتصاص الثروات وتبديدها. كل هذا بدأ بإعدام ديمقراطيات الباشوات والبكوات «الضيقة – الفوقية» باسم «ديمقراطية الجماهير» وقوى الشعب العامل» حتى ولو أن الجماهير لم يطلب منها سوى أداء دور «المؤيد للقرارات المتخذة» من رأس الجهاز، وفي أحيان كثيرة، القرارات المرتجلة.
جرى هكذا استبعاد الديمقراطية التمثيلية، الليبرالية، القائمة على توطيد مجموعة أساسية من الحريات العامة والخاصة، وتكريس حاكمية القانون واستقلالية القضاء، والتداول على السلطة، والانتخابات التنافسية والتعددية السياسية، باسم الديمقراطية الاجتماعية، والإصلاح الزراعي، وإعادة توزيع الثروات. فكان الاستهداء إلى شعار الاشتراكية، ربطا بهذا الإيثار للديمقراطية الاقتصادية على تلك السياسية. وباسم الاشتراكية سُوّغ لنظام الحزب الواحد، وعبادة الزعيم الملهم، الذي يتجسد فيه الشعب. أصاب هذا التحول الذي قادته مجاميع الضباط من الطبقة الوسطى نصف الريفية الشيوعيين العرب بالصدمة. الأخيرون كانوا يعتقدون بأن المرحلة هي للبرجوازية الوطنية تقودها إلى التحرر الوطني والديمقراطية. وأن المرحلة بالتالي ليست للتحويل الاشتراكي، بل لإنتاج ضرورته المجتمعية التي لم تظهر بعد. «المفاجأة» كانت أن القادمين من الطبقة الوسطى، بهراوة العسكر، فرضوا موضوعة الاشتراكية. اشتراكية إنما من دون صراع طبقي، بل على قاعدة تفاديه، ومن دون علمانية، ولو سمت نفسها اشتراكية علمية كما فعل ميثاق العمل الوطني 1962 في ظل جمال عبد الناصر. بالنتيجة، أخذت الاشتراكية العربية هذه تتفسخ، إن لجهة تعثرها التنموي، أو إغلاظها على نبض الحياة في المجتمعات، أو بأثر من هزيمتها القومية، قبل عقود من انهيار الاشتراكية السوفياتية، فسارعت الأنظمة السلطوية نفسها، بدءا من «تعددية المنابر» في مصر، وبشكل مقارن مع إطاحة زين العابدين بن علي في تونس، إلى تبني الديمقراطية كبديل من موقع الأنظمة نفسها. انتقلنا، هكذا، من عصر «الاتحاد الاشتراكي العربي» ومن النموذج «اللايت» للاشتراكية «الدستورية» في حال تونس (أيام الحبيب بو رقيبة) إلى الديكتاتورية باسم تعبيد الطريق للتحول نحو الديمقراطية. فكانت تجربة «الحزب الوطني الديمقراطي» في مصر كتكثيف لهذه المرحلة التي دامت منذ نهاية السبعينيات وحتى انتفاضات 2011. كانت فكرة هذه الأنظمة تقول بأن الاشتراكية سحبت من التداول، سواء عندنا أو على صعيد العالم، ولم يبق سوى الديمقراطية، إنما ينبغي الاستعداد لها، تأهيل النفس والحزب وآلة الدولة والمواطنين لها. جعلها، باختصار، تؤدي الوظيفة إياها التي أُسندت سابقاً للاشتراكية: الحاجة إلى إشعار الناس بأنهم يعيشون في زمن «مؤقت» كل ما فيه ليس له معنى إلا حسب ما هو مراد له في المستقبل، وإشعار الناس في الآن نفسه أنهم يعيشون في زمن فوق الزمن، في «الأبدية» أبدية النظام العصي على كل تعثر في التنمية، وعلى كل كبوة أو هزيمة، بل وعلى الموت البيولوجي نفسه.
بعد انتفاضات 2011 ستظهر سردية أخرى: أن الشعوب فرضت أجندة الديمقراطية ثم خربتها بأيديها، أو لم تكن قادرة على الدفاع عنها فخرّت هذه الديمقراطية صريعة، أو أنها ما إن أفسحت المجال للديمقراطية حتى فاز بها في أول الأمر أعداءها. باختصار ستظهر سردية أن الديمقراطية كانت شوقاً مشروعاً طالما هي لم تُجرّب، ثم حصل أن جرّبت، في مصر وتونس، فكان تجريبها كافياً للوقوف على كنهها، والعدول عنها. والأساس في هذا؟ أن العقد الاجتماعي الذي يجعل مصدر الشرعية في الشعب غير مناسب لهذه البلدان، وأن العقد الأجدى البحث عنه هو بين حاكم ومحكوم، لا يشعر فيه الحاكم بأن المحكوم هو من أتى به إلى السلطة، في مقابل أن يعي إن رأفته وحلمه مع هذا المحكوم ورعايته له هو ضرورة لبقائه في السلطة. هذا ما يطرح اليوم بشكل أو بآخر. ويطرح هنا من موقع الإسلاميين، وهناك من موقع الليبراليين. ليست هناك طبعة واحدة لسردية انفكاك السحر عن الديمقراطية، بالشكل الداعي لإحلال معياري فعالية الحاكم ورضا المحكوم على الحاكم مكانها. في المقابل، ربما كان في انفكاك السحر عن الديمقراطية، ومن قبله انفكاك السحر عن الاشتراكية، ما يدعو للتأمل في مصائر هاتين الفكرتين عند العرب، وكيف لحقت الثانية، الديمقراطية، بسابقتها، الاشتراكية، لجهة أننا في الحالتين، أمام إله من تمر جعنا فأكلناه. ألا يعني هذا في المقابل أنه لا مجال لإعادة جعل كلمة ديمقراطية تتصف بمدلول نافع لصالح العدد الأكبر من الناس في مجتمع ما من دون إعادة التفكير في ما يمكن إعادة استصلاحه واحياؤه من فكرة الاشتراكية؟
كاتب من لبنان
القدس العربي
——————————-
البلاد على طرقاتها جثثُ سيّاراتٍ وكلاب/ ساري موسى
01 فبراير 2025
خلال رحلتَين في كانون الثاني/ يناير المنقضي، بفارق أسبوعَين بينهما، الأُولى إلى دمشق والثانية إلى اللاذقية، كان لافتاً للنظر أمران: سيّارات مهجورة إلى جانب الطرق السريعة، وكلاب مدهوسة ومتروكة في وضعية ما بعد الصدم أو الاصطدام. المئات من جثث النوعَين على امتداد حوالي مئتين وخمسين كيلومتراً للطريق الأُولى، ومئة كيلومتر للطريق الثانية، بمعدّل جثّة من أحدهما على الأقلّ كلَّ بضعة كيلومترات.
يقول سائق المركبة المتّجهة إلى دمشق، مفسّراً الحالة الأُولى، إنّ العسكريّين وعناصر الأمن، فجر ذلك الأحد الذي كان فجراً كلّه، فجراً ممتدّاً إلى اليوم، وإلى يوم لا يبدو قريباً، وإن بدأت تتبدّى أخيراً علائم صباحه، فرّوا من مقرّات عملهم في دمشق والمدن الأُخرى بسيّاراتهم الرسمية، أو بتلك الخاصّة التي استولوا عليها بالسلب و”السلبطة”، أو حتى بالدبابات وناقلات الجند والشاحنات الزيتية الضخمة، وتركوها على مقربة من مساقط رؤوسهم حيث أَقلَّهم أقرباء لهم، أو نزلوا منها حيث توقّفت عن التقدّم بسبب قِدمها وعدم صيانتها، أو حيث نفد وقودها.
بعض هذه السيّارات محترق، أَضرم النار فيها من نزلوا منها ووقفوا يتفرّجون. بعضها الآخر، بل غالبيتها، فكّك لصوص دواليبها وما يصلح للبيع منها، فأضحت كسمكة مأكولة اللحم لم يبق منها سوى الحسك، وتركوها مفتوحة الأبواب الأربعة وأغطية المحرّكات، لتبدو كأنّها مقصوفة أو مفجّرة بعبوة ناسفة. سيّارات أُخرى يمكن رؤيتها في قعر وديان أو منتصف منحدرات، أوقفتها حيث بقيت معلّقةً صخرة أو شجرة. يمكن عند رؤيتها تخيُّل المشهد السينمائي الهارب من سرعة اللحظات، حيث وقف من نزل من هذه السيّارات يشاهد انحدارها وتخبّطها ودمارها. جثث السيّارات هذه، المتفحّمة والهياكل المدَهْورة إلى المجهول، هي صورة عن البلاد، عن المكان الذي أوصلها إليه والحال التي تركها عليها من كان يقودها.
أمّا الكلاب، فلم أعرف سبب كثرتها ومبرّر قتلها، ولم يُخبرني أيٌّ من السائقين بذلك. هل كانت الحال هكذا دائماً؟ لكنّ الفرق أنّ عمال البلديات، أو أياً من الموظّفين الحكوميّين المسؤولين عن سلامة الطرقات، كانوا يزيلون جثثها الملقاة في درب السيّارات المسرعة، فيما لا يفعلون ذلك الآن والبلاد لم تستقرّ أوضاعها، ولم يستقم عمل الإدارات فيها بعد.
لم أر كلاباً أليفةً فقط، بيضاء وبنيةً وسوداء، بل أنواعاً أُخرى من الفصيلة ذاتها، منها عدد من الجقلان الحمراء (بنات آوى)، التي لم يفكّر أحد بسلخ وبرها الجميل وشدّه وتجفيفه، للاستفادة منه وبيعه كما فعلوا بالسيّارات. كما أنّي شاهدت ضبعاً في وضعية موت مهيبة. كان مقعياً على قوائمه القصيرة، تحت ثقل عنقه الطويل، وكأنّه سُحق بضربة من الأعلى.
فيما أتأمّل وضعية موته الغريبة، خلال ثانيتَي مرورنا بجانبه على طريق اللاذقية، انتبه إليَّ السائق الذي حفظ مكان وجوده، وقال لي: “هيداك اللي من فصيلة تانية، هرب الشهر الماضي لأنّو خاف يصير فيه نفس الشي”.
العربي الجديد
——————————-
“فلسطين قضية يملكها آل الأسد حصريًا”!/ راسم المدهون
1 فبراير 2025
عام 1976 قام عدد من المسلحين الفلسطينيين التابعين لما سمي وقتها “حركة فتح – المجلس الثوري” التي كان يقودها صبري البنا (أبو نضال) باحتجاز عدد من نزلاء “فندق سميراميس” في قلب العاصمة السورية دمشق، وانتهت العملية باقتحام قوات الأمن السورية المكان، ونجحت في تحرير الرهائن والقبض على من نفذوها.
تلك الحادثة الإرهابية استنكرها عبر بيان رسمي محمود عباس (أبو مازن)، الرئيس الفلسطيني الحالي، وعضو اللجنة المركزية لحركة فتح في تلك الأيام، ولكنّ سلطة الأسد الأب أصرّت على تجاهل بيان أبو مازن، وواصلت استثمار العملية الإرهابية لتمرير دخول القوات العسكرية السورية إلى لبنان وصدامها مع فصائل الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية.
في صباح تلك العملية كان أفرادٌ من “سرايا الدفاع” لا يتجاوز عددهم العشرين، يجوبون ساحة “السبع بحرات” أمام المصرف المركزي السوري، ويطلقون هتافًا لم تعرفه سورية العربية قبلهم ولم يتفوه به أحد بعدهم: “بدنا نحكي عالمكشوف… فلسطيني ما بدنا نشوف”، وكان المارة يسمعونهم ويبتعدون، وكانت “مظاهرتهم” تذبل وتخفت ما جعلهم يتفرقون.
تلك الواقعة – العار حدثت في دمشق، وكان “أبطالها” ينسون (وربما يجهلون) أنها الشام عاصمة العرب والعروبة وعاصمة دولة بني أمية، وقبل ذلك وبعده أخت فلسطين التي لم تبتعد عنها يومًا على مدار التاريخ، ولم يكن غريبًا بالنسبة لي أن يؤوي حافظ الأسد نفسه التنظيم الذي قام باحتجاز رهائن السميراميس ويمنحه مقرات في دمشق بعد شهور قليلة من تلك العملية الإرهابية، وكان تصرف الأسد – الأب مفهومًا في سياق سياسته التي مارسها لعقود طويلة في محاربة العمل الوطني الفلسطيني، وبذل جهودًا كبرى للسيطرة على قرار منظمة التحرير الفلسطينية ومحاولة تسييرها وفق أهوائه وغاياته كورقة يستخدمها في سوق المساومة.
بعض “طرائف” تلك الأيام عشتها حين انعقد “مؤتمر مدريد”، وكنت كغيري أرى السلوك الغريب والمتناقض لسلطة الأسد الأب، فتلك السلطة التي كانت تشارك في المؤتمر كانت تدفع التنظيمات الفلسطينية التابعة لها للتظاهر ضد مشاركة الوفد الفلسطيني في المؤتمر مع أنه هو ذاته المؤتمر الذي يشارك فيه وفد الدولة السورية.
وكنا نعلق على ذلك بالقول إن المؤتمر خياني واستسلامي في شقه الفلسطيني فيما هو عكس ذلك في شقه الأسدي، بل إن تلك السلطة أوعزت للمشرفين على مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا”، والتي يحتل الوظائف الرئيسية فيها بعثيون، بإخراج تلاميذ مدارسهم في مظاهرات “تشجب المشاركة في مدريد” وتهتف بسقوط عرفات المستسلم، بل إن أحد قادة التنظيمات الفلسطينية التابعة لسلطة الأسد ذهب في يوم افتتاح مؤتمر مدريد بعيدًا في تماهيه مع أوامر النظام، فزايد على الجميع بأن أمر عناصره برفع علم أسود على مقره الرئيسي تعبيرًا عن رفضه للمشاركة الفلسطينية في المؤتمر، وفوجئ بغضب قادة أمن من النظام يأمرونه بإنزاله فورًا وهو ما فعله بالطبع.
حرب جواز السفر
جواز السفر الفلسطيني الصادر عن السلطة الفلسطينية مرَّ بدوره بمراحل تنوعت واختلفت بدءًا من رفض هذا الجواز وتجريم حامله، صعودًا نحو غض النظر عنه والسماح لحامله باستخدامه في السفر من سورية وإليها، ولكن بشرط عجيب إذ احتفظ النظام بقرار عدم ختمه في الخروج والدخول تأكيدًا من النظام وأجهزته الأمنية على عدم اعترافهم بهذا الجواز، ثم أخيرًا بالموافقة على حصول لاجئي عام 1948 الفلسطينيين على حمله، ولهذا قصة وتفسير أيضًا: مع صعود الثورة السورية حرص نظام الأسد الوريث على “تطفيش” أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين وتشجيعهم على الخروج من البلاد، فذهب إلى خطوة السماح للفلسطيني السوري بامتلاك جواز سفر فلسطيني حين انتشرت حكاية أن بلدان أوروبا تقبل منح اللجوء لحاملي هذا الجواز أكثر من قبولها بحاملي “وثيقة السفر” الصادرة عن إدارة الجوازات السورية، ولهذا تناقصت بصورة ملحوظة أعداد من تبقوا في سورية من الفلسطينيين، خصوصًا وأن نسبة ملحوظة من هؤلاء الفلسطينيين شاركوا أشقاءهم السوريين وواجهوا معهم جرائم النظام وبطش أجهزته القمعية.
كان ما حدث في “مخيم اليرموك” ذروة جرائم النظام الذي افتعل كل شيء لجرّ المخيم وسكانه من الفلسطينيين والسوريين إلى أتون حرب الإبادة التي شنّها على الشعب السوري بعد شهور قليلة من انطلاق الثورة السورية السلمية: دفع النظام بعض فصائله “الفلسطينية” إلى دفع الشباب الفلسطينيين إلى مغامرة اجتياز الحدود السورية مع الجولان المحتل مرتين نتج عنهما سقوط شهداء في المرة الأولى بعدد محدود، في حين سقط في المرة الثانية عشرون شابًا شهداء، وكانت تلك محاولة من النظام لأن يقول إنه يقاوم إسرائيل وإنه حريص على تحقيق حق عودة الفلسطينيين إلى وطنهم. وهو قد عمد بعد ذلك إلى زج المخيم في الحرب بصورة مباشرة، وكانت الإشارة الكبرى لذلك البدء في قصف طائرات سلاح جو النظام لمسجد المخيم وقتل عدد كبير من الناس ما أدى إلى هروب جماعي من المخيم وفرض حصار خانق على من بقي داخل المخيم من سكانه، وهو الحصار الذي ذاق فيه سكان المخيم ضراوة الجوع ولجأوا لأكل الشجر وحتى القطط ومات كثير منهم بسبب الجوع.
هو نظام “المقاومة والممانعة” الذي يمتلك الحق في تقرير ما ينفع الفلسطينيين وما يضرهم، وهو من يحق له النطق باسمهم وباسم قضيتهم الوطنية، وقد راجت طويلًا في أوساط الفلسطينيين نكتة حدثت فعلًا في الواقع: أحد الفلسطينيين الذين لم يسبق لهم أن دخلوا سورية كان قادمًا من الجزائر حيث يعمل، وفوجئ بالتحقيق معه من قبل الأجهزة الأمنية فأصابته الدهشة لأنه بريء ولم يفعل شيئًا، وتفتقت “سذاجته” بأن يقترح على رجال الأمن أن يريحوا أنفسهم ويريحوه بأن يأخذوه إلى “فرع فلسطين” معتقدًا أن هذا الفرع يتبع لمنظمة التحرير الفلسطينية، وأصابته دهشة وحيرة في تفسير سخرية رجال الأمن من اقتراحه وهم تركوه لأن أحد عناصر الأمن قال لزملائه: “دعوه فهو لا يعرف كوعه من بوعه”، وهكذا كان.
ضفة ثالثة
——————————-
أتنجح الديكتاتورية في سوريا هذه المرة؟/ عمر قدور
السبت 2025/02/01
لكلمة ديكتاتور إرث دلالي صار سلبياً في القرن الماضي، فطغى على المعنى الأصلي الذي نستخدمه هنا، ونقصد المعنى الآتي أصلاً من الأدبيات السياسية الرومانية قبل 2500 عام. حيث كانت كلمة ديكتاتور تعني تفويض مجلس الشيوخ أحدَ القناصل أو القضاة، بحسب التسميات الرومانية القديمة، ليحكم البلاد بصلاحيات استثنائية، ضمن ظروف وطنية تقتضي منحه هذا الاستثناء، ولأجَلٍ مسمّى عادةً، وفي التجارب الأولى كان الأجل المحدد قصيراً لا يتعدى الشهور الستة القابلة للتمديد.
يوم التاسع والعشرين من كانون الأول، تم تنصيب السيد أحمد الشرع رئيساً لسوريا، بموجب قرار صدر عن الفصائل العسكرية المجتمعة في دمشق لتعلن النصر على الأسد، بعد أكثر من خمسين يوماً من إسقاطه. طريقة تنصيب السيد الشرع رئيساً، والصلاحيات المُسندة إليه وفق قرار التكليف الذي أُعلِن، ثم خطاب الشرع نفسه في اليوم التالي؛ هذه جميعاً تؤكّد المعنى الذي ذهبنا إليه لجهة المضمون الديكتاتوري للتكليف، من حيث منحه صلاحيات استثنائية في ظرف استثنائي.
مع تنصيب السيد الشرع، بادر كتّاب ومحلّلون إلى تبرير ما حدث تحت مسمّى الشرعية الثورية، وهي تسمية مستمدة من أدبيات اليسار والأحزاب القومية، ومن الواضح أنهم تجنّبوا استخدام كلمة الديكتاتورية مع أن أطروحاتهم تدور حولها تحديداً. الإرث السلبي المعاصر للكلمة قد يبرّر تحاشيها، إلا أن البديل لا يقدّم إطاراً من المفاهيم يخدم نقاشنا السوري الحالي، لذا نعود للتأكيد على استخدامنا هنا للمعنى التقني الذي أشرنا إليه. الاستئناس بالشرعية الثورية مفيد هنا لجهة طريقة استلام السلطة، ومن ثم تقويض مؤسسات السلطة السابقة، لكنه لا يخلو من إرث سيء أيضاً، لأن الشرعية الثورية في التجارب المعروفة (ومنها سوريا) آلت إلى الطغيان والاستبداد.
اليوم، هناك أمر واقع يقرّ به معظم السوريين، أحبّوه أو كرهوه، فالسيد الشرع قاد العملية الأخيرة للإجهاز على سلطة الأسد، وهو في خطابه الأول الموجَّه إلى السوريين اعتبرها تتويجاً لنضالاتهم. ومن المؤكد أنه بحكم قيادته ما حدث في الشهرين الأخيرين يحظى بشعبية هي الأكبر حالياً ومن دون منافس. ورغم الاختلاف الشديد في آراء السوريين، ليس هناك اليوم مَنْ يطرح تنحّيه عن السلطة. وهناك إلى حد كبير إقرار (معلن أو غير معلن) بأن وضع البلد يتطلب ديكتاتورية ما، لئلا تغرق في فوضى فصائلية ومن ثم في حرب أهلية، وأن هذه الديكتاتورية هي المدخل لتوحيد البلاد تالياً.
بعد الإقرار السابق، يمكن الجزم بأن نسبة كبرى من السوريين تريد من السيد الشرع أن يكون ديكتاتوراً بالمعنى “الحميد” للكلمة، وهو الأصل الكلاسيكي لها. المفروغ منه، وفق هذا التصور، أنه سيجمع العديد من الصلاحيات التنفيذية والتشريعية، بما أن المؤسسات المناط بها ذلك لم تعد قائمة، ومن نافل القول في الحالة السورية أنها كانت مجرد شكل خالٍ من المضمون. ولا أحد يقول اليوم أن سوريا جاهزة لانتخابات تُجرى سريعاً، لأن الأرضية المناسبة لإجرائها غير متوفرة، بما في ذلك جاهزية السوريين أنفسهم على مستوى التنظيم والاستعداد للترشّح والانتخاب الديموقراطي الحر.
هنا يجب التمييز جيداً بين الديكتاتورية والاستبداد، فالثاني غير محدود المدة بطبيعته، ومن مقوماته الأساسية ألا يكتفي بالاستحواذ على السلطات الثلاث، بل يتعدّاها إلى مصادرة الحريات العامة، ومن ثم الفضاء العام برمّته. نجاح السيد الشرع يكون بدءاً من عدم الاستحواذ شخصياً (أو بما يمثّل) على الفضاء العام، أي بإبقائه فضاءً عاماً يتشارك فيه السوريون على اختلاف أهوائهم ومشاربهم السياسية والاجتماعية.
ومما لا شكّ فيه أن سوريا انتقلت من عهد تكميم الأفواه كلياً إلى زمن: صفر مخابرات. هذا هو الإنجاز الذي تظاهر من أجله السوريون في مستهل ثورتهم، وهو مستحقّ تماماً، وواحد من أهم تحدّيات حكم السيد الشرع ألا تُمسّ الحريات العامة تحت أية ذريعة. لأن بدء المساس بها، مهما كانت الذريعة، سيكون توطئة للانتقاص منها بذرائع شتى. السوريون، بحكم طبيعة المرحلة، تنازلوا عن حقوقهم السياسية، من ترشيح وانتخاب ووجود سلطات ثلاث مع مبدأ الفصل بينها. وتجريدهم من حريات الرأي والتنظيم السياسيين، فضلاً عن الحريات الإعلامية والاجتماعية، سيؤدي إلى الاستبداد الذي تخلّصوا منه ولا يريدون رؤية ما يذكّرهم به. نذكّر بأن الديكتاتورية بالمعنى الأم لا تعني الانقضاض على الحريات العامة.
الواقع الذي آلت إليه الأمور بعد تنصيبه رئيساً على النحو الذي شهدناه، أن السيد الشرع يمتلك الصلاحيات التنفيذية والتشريعية، من دون تحديد أو تقييد لها أو لمدتها الزمنية، والهيئة “الثورية” التي منحته التفويض انعقدت لمرة واحدة وصارت بحكم المنحلّة بموجب القرارات التي اتُخذت في الاجتماع نفسه. يُفهم من ذلك أن ما تحدّثَ عنه الشرع نفسه في إطلالات إعلامية سابقة لم يعد مطروحاً، تحديداً لجهة حديثه عن أربع سنوات من أجل انعقاد مؤتمر وطني، تنبثق عنه لجنة تقوم بإعداد الدستور، وصولاً إلى إجراء انتخابات في النهاية.
في خطاب السيد الشرع غداة تنصيبه، وفي القرارات التي رافقت التنصيب، لم تكن هناك إشارة إلى المدة التي ينتهي في آخرها الحكم الاستثنائي، لتبدأ الحياة السياسية الديموقراطية. لن نتوقف هنا عند غياب مفردة الديموقراطية عن التداول لدى الرئيس الجديد والمسؤولين الذي سبق له تعيينهم بعد إسقاط الأسد، ولنقل أن حديثه عن انتخابات حرة كافياً، لو أنه وضع سقفاً زمنياً ملزماً له، خصوصاً مع تقليله من شأن المؤتمر الوطني العتيد، إذ لم يعد مناطاً به وفق التصور الجديد الاتفاق على عقد اجتماعي، بل صار أشبه بمنتدى حواري استشاري.
رغم غياب وسيلة القياس السياسية، وهي الانتخابات، لا مجازفة في القول ثانية إن الرئيس الجديد يتمتع (بلا منافسة) بشعبية واسعة. المصدر الأول والأوسع لها نراه في المقارنة التي لا تزال ماثلة مع العهد البائد، والمصدر الثاني يفصح عن نفسه من خلال المقارنة مع الصورة الشائعة عن الإسلاميين وعن هيئة تحرير الشام بوصفها فصيلاً إسلامياً متشدداً، ليظهر قائدها بصورة مغايرة لما هو متوقَّع.
على ذلك انشغل سوريون كثر بمراقبة تفاصيل شكلية، مثل عدم مصافحة وزيرة أجنبية وارتداء ربطة عنق…، ومراقبة الشكليات الخاصة بالمسؤولين الكبار شائعة في الكثير من البلدان، إلا أنها لا تكون على حساب مراقبة الأداء بوصفه هو الأساس والفيصل. سوريا ليست استثناءً، والانتباه سينصبّ في المدى القريب على الإنجازات المطلوبة من العهد الجديد. ولأن الكارثة السورية ضخمة جداً فإن المسارعة إلى إنهاء الاستثناء الديكتاتوري تعفي الرئيس الجديد من تحمّل عواقبها بمفرده، حيث فرص النجاح مساوية لفرص نقيضه.
وضْعُ سقف زمني منطقي من أجل الوصول إلى نظام سياسي تداولي، والحفاظ على الحريات العامة ضمن هذه المهلة، هما ما يكفل نجاح الديكتاتورية في سوريا هذه المرة، وعدم انزلاقها إلى الاستبداد. الأدبيات السياسية الرومانية القديمة قدّمت نموذجين شديدي التطرف عن الديكتاتورية، واحد منهما نموذج يوليوس قيصر، والثاني هو سينسيناتوس الذي نجح في مهمته خلال 16 يوماً وتنحى عن المنصب عائداً لزراعة أرضه. ليس مطلوباً من القيادة الجديدة التصرف على غرار الأخير، ومن المرجّح بشدة أن يضمن نجاحُها في هذا الاستحقاق حصولَها على الشرعية الدستورية التي لم يدركها من قبلُ أصحابُ الشرعية الثورية.
المدن
——————————-
“مخيم الهول”: الخوف من “داعش” وخطر المجاعة/ شفان ابراهيم
01.02.2025
تعمل ضمن مخيم الهول، مجموعة من المنظمات الإنسانية الدولية، والجمعيات والمنظمات المحلية، والتي تتوزع أنشطتها ما بين الإغاثة، برامج وأنشطة الحماية، دعم سبل العيش، التماسك المجتمعي، دعم الحوارات ضد النزاعات، مشاريع المياه والصرف الصحي، وتوفير المياه والخبز اليومي. وهي في غالبيتها العظمى ذات تمويل أميركي، ما يعني تضرر 3 قطاعات وشرائح مجتمعية عدة بشكل مباشر جراء قرار وزارة الخارجية الأميركية بوقف المساعدات.
أصدر وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، قراراً بوقف جميع المساعدات الخارجية الأميركية، مستثنياً تمويل إسرائيل ومصر. وجاء في المذكرة الداخلية، “عدم الالتزام بأي تمويل جديد لأي جهة أو تمديد أي تمويل حالي، وذلك إلى أن تتم مراجعة كل تمويل جديد أو تمديد والموافقة عليه، بما يتماشى مع أجندة الرئيس دونالد ترامب، كما أوقفت المذكرة جميع العقود والمنح، إلى حين اتخاذ قرارات بشأن استمرار البرامج أو تعديلها أو إنهائها بناءً على هذه المراجعة”.
تقول المهندسة شهلا حجي، إن المذكرة تسببت بــ”كارثة إنسانية”، وتضيف: “نحن ثلاث عوائل نعيش من الوارد المالي لعملي ضمن منظمة دولية في مخيم الهول… القرار فاجأنا كثيراً، وسيتسبب بمشاكل اقتصادية كثيرة لنا، بخاص في ظل هذه الظروف المعيشية والإنسانية البالغة الصعوبة، لا موارد مالية لنّا غير عملي في المنظمة، أساعد والدي في دراسة شقيقي في كلية الطب البشري في دمشق، وأتكفل بجزء صغير من مصاريف منزل شقيقتي المتزوجة، بالإضافة الى منزلنا، الواضح أن أشهراً صعبة جداً تنتظرنا”.
خلال السنوات الثلاث الأخيرة، خرجت 20 دفعة من العراقيين من مخيم الهول في المنطقة الكردية في سوريا، غالبيتهم من الأطفال والنساء، إذ سبق أن صرح وزير الهجرة والمهجّرين العراقي كريم النوري، لوكالات أنباء عراقية، بأن “الأفراد الذين لديهم ملفات أمنية ويدهم ملطخة بالدماء لا يمكنهم العودة إلى العراق”، في إشارة إلى رعايا العراق الموجودين في مخيم الهول السوري.
عملية العودة هذه تركت أثراً في الأوساط الكردية من أتباع الديانة الإيزيدية، الذين تعرضوا لحملة إبادة للرجال وسبي النساء والأطفال في شنكال. يقول مروان ششو من أهالي شنكال: “قرار العودة هو إهانة لدمائنا وأعراضنا، صحيح أن الرجال لن يعودوا، لكن ربما نساؤهم أيضاً يشاركونهم أعمالهم الجبانة”، في إشارة إلى توجيه تهمة الإبادة الجماعية لفرنسية استعبدت طفلة إيزيدية .
معظم الدول التي يحمل المعتقلون جنسياتها تتنصّل من مسؤولياتها حيالهم، في حين أن الإدارة الذاتية أعلنت عبر مؤتمر صحافي قبل أيام، عن استعدادها لترتيب العودة الطوعية للسوريين المقيمين في مخيم الهول، والعودة إلى بيوتهم ومدنهم إذا أرادوا ذلك.
المشكلة أن غالبية المدن مدمّرة، والبنية التحتية لا تتحمل عودة كل تلك الإعداد. ووفقاً للناشط المدني ضرار الأسعد من دير الزور، في حديثه لـ “درج”، فإنه سبق أن أُخرجت دفعتان من قاطني الهول بوساطة شيوخ العشائر العربية، لكن للأسف لم يتم دمجهم ولم تتقبل القواعد الاجتماعية فكرة مصاهرة أو مجاورة عائلة مقاتل داعشي. وما عمق المشكلة أكثر، الصورة النمطية التي تربط داعش بكل من يقيم في المخيم، والمشاكل المستقبلية كبيرة وكثيرة سواء من حيث أنساب الأطفال وتعليمهم، أو تجنيسهم، أو دمجهم في المجتمع”.
واقع المخيم بائس وتعيس، على رغم كل الدعم الذي تقدمه المنظمات الإنسانية، تقول رقية الحسن من أهالي بلدة الهول في حديثها مع درج: “أطفال عوائل التنظيم أصبحوا كباراً وفتية، بل وبإمكانهم الإنجاب أيضاً. هؤلاء كبروا من دون تعليم وفي حرمان تام، وأعين التنظيم تراقبهم على الدوام، على رغم فصل البالغين عن النساء، منعاً لعمليات غسل الأدمغة التي تقوم بها نساء داعش ضمن المخيم”.
تعمل ضمن قطاعات المخيم، مجموعة من المنظمات الإنسانية الدولية، والجمعيات والمنظمات المحلية، والتي تتوزع أنشطتها ما بين الإغاثة، برامج وأنشطة الحماية، دعم سبل العيش، التماسك المجتمعي، دعم الحوارات ضد النزاعات، مشاريع المياه والصرف الصحي، وتوفير المياه والخبز اليومي. وهي في غالبيتها العظمى ذات تمويل أميركي، ما يعني تضرر 3 قطاعات وشرائح مجتمعية عدة بشكل مباشر جراء قرار وزارة الخارجية الأميركية.
القطاعات التي تضررت هي: كتلة الموظفين، والتي تقترب من /30/ ألف عامل موزعين على المنظمات العاملة سواء في مخيم الهول أو عموم شمال شرقي سوريا. والثانية: قاطني المخيم نفسه، والذين يعتمدون في توفير وتأمين الخبز والماء والحاجيات الضرورية على ما تقدمه تلك المنظمات. والثالثة: الإدارة الذاتية نفسها التي غالباً ما ستكون عاجزة عن سد الحاجة المطلوبة.
وفقاً لمصدر مسؤول ضمن الإدارة الذاتية اشترط عدم الكشف عن اسمه، فإن “قرار الانسحاب سيضع الإدارة في مأزق حقيقي لتأمين تلك الحاجيات والمستلزمات، وسيعزز عودة التطرف والعنف، إضافة الى خسارة كتلة مالية ضخمة، إذ فُرضت ضريبة دخل على رواتب موظفي المنظمات الدولية وفقاً لنسبة الراتب، وتتراوح من /3-7$/، كما أن قطع التمويل عن المنظمات المساهمة في تمويل مستلزمات أسر داعش، سيضعنا في مشاكل كبيرة، بخاصة أن رواتب الكثير من حراس مخيم الهول تموّلها المنظمات الدولية”.
الخوف من الثغرات الأمنية
التقى “درج” مع شيخموس أحمد، رئيس مكتب شؤون النازحين واللاجئين في شمال سوريا وشرقها، للحديث عن هذا القرار، فقال إنه “أثر سلباً على الواقع الإنساني و المعيشي والأمني في المخيمات، وبخاصة مخيمات الهول وروج التي تحتوي على عوائل تنظيم داعش الإرهابي، وستكون هناك ثغرات أمنية ستستغلّها الخلايا في المخيم، ناهيك باستغلال الواقع الإنساني والاقتصادي”.
ويضيف: “القرار سيشلّ المخيمات المدعومة من المنظمات التي تمدّها الخارجية الأميركية بالمواد والمستلزمات المعيشية المطلوبة، وبالتالي فإن الخلايا الإرهابية ستستغلّ القرار لتعود مجدداً”، لافتاً: “صحيح أن منظمات أخرى نسقت مع الإدارة الذاتية وتسعى الى سد الثغرات والفجوات التي تسبب بها القرار، لكن الواضح أن الأشهر الثلاثة المقبلة ستشهد تحديات كبيرة للمنظمات والإدارة الذاتية في تأبين الاحتياجات اليومية والشهرية”.
مخاطر مختلفة تتمخّض عن القرار
في حديثه مع “درج”، قال الباحث الكردي براء صبري:”تلقت الأطراف المعنية بالعمل الإنساني الأنباء عن توقّف التمويل من الخارجية الأميركية، بالكثير من القلق، ليس فقط من تراجع نشاطات تلك الجهات بل أيضاً من احتمالية توقّفها الطويل. وبالتالي، عدم إنجاز البرامج الفاعلة في تلك المناطق الهشة التي تعاني أصلاً من الضعف والتدهور الاقتصادي الاجتماعي المديد والناجم عن سنوات من الحرب والعقوبات والفشل الإداري العام لجلّ الجهات العاملة هناك”.
أضاف صبري، أن الجهات العاملة في المجال الإنساني وإن “لم تستطع تقديم الكثير ومواكبة الأحداث في سوريا، إلا أن توقّف عملها قد يزيد من فداحة الموقف هناك”، لافتاً الى أن التعويل المفترض على قدرة الحكومة الجديدة في دمشق على “رأب الصدع، هو تعويل مفرط في التفاؤل أصلاً. المشاريع المرتبطة بالدعم الإنساني للأطراف النازحة ستكون الأكثر تأثراً. وبالطبع، ستستفيد الجماعات التي تَعتاش على الفوضى والفقر والانهيار السياسي والثقافي والاجتماعي من هذه الحالة، وبالتالي ستستيقظ مجدداً من حالة الجمود التي وضعتها فيها النشاطات الهادفة الى تخفيف الأزمات وتعزيز النمو”.
يتابع صبري، “قد يكون من المفضل شرح تلك التداعيات للجهات الممولة لمحاولة التخفيف من وطأة القرار ريثما يتم تدارك القرار والبدء بتفعيل السيولة اللازمة لحركة تلك الأنشطة”.
من جهته، قال درويش درويش (اسم مستعار، 39 عاماً)، مسؤول قسم تيسير الجلسات الحوارية في مشاريع التماسك المجتمعي وبناء القدرات وسبل العيش في منظمة عاملة ضمن مخيم الهول، والذي يخشى أن يفقد عمله في حال عودة تلك المنظمات بسبب تصريحه: “المنظمات قدمت كل شيء للمنطقة، وأساساً لولاها لما تمكنت الإدارة الذاتية من عمل أيّ شيء للنازحين والقاطنين في الهول وغيره، لكن هل يمكن القول إن المنظمات أسست لمرحلة الاستقرار أو اعتماد الأهالي على أنفسهم في حال أي توقف لعملهم، الإجابة قطعاً لا، بل إن الكارثة الأكبر هي ارتباط اسم المنظمة بالسلة الغذائية، إذ لم تتمكن المنظمات من خلق فكر مدني وتأسيسي، أو تفكير للعمل والتطوع”.
كذلك، أعاد من التقى بهم “درج” ممن عملوا ضمن المنظمات الإنسانية ذات التمويل الأميركي، سبب القرار الأخير إلى ثلاثة عوامل أساسية، هي: الفساد الكبير الذي أصاب المنظمات، والذي اعتُقد أن القرار سيفضي الى إطاحة رموزه ضمن تلك المنظمات في حال عودتها الى العمل مجدداً. والثاني، أن جميع المنظمات وعلى رغم كثافة الدعم الذي قدمته، إلا أنها لم تخرج عن إطار دعم الطوارئ والحالات المؤقتة، ولم تتمكن من تحفيز المستفيدين للانتقال من حالة الاستهلاك الى الإنتاج والعمل، على رغم آلاف ورش بناء القدرات وتمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة. والعامل الثالث هو السياق المغلوط الذي قدمه بعض العاملين في قطاعات البحث لتلك المنظمات.
الواضح أن أياماً صعبة ستضاف الى الواقع الأمني الهش والاقتصادي السيئ، وتتجه المنطقة صوب المجهول اقتصادياً وتنامي مخاطر التطرف والعنف.
– صحافي سوري كردي
درج
————————————-
مضاء المغربي… صديقي الجولاني الذي يحلم بزيارة سوريا !/ إيناس حقي
01.02.2025
يصارحني صديقي الجولاني مضاء المغربي بخوفه من أن يكون انتصار الثورة وعودة السوريين إلى وطنهم سبباً في إعادة الجولان إلى عزلته وحرمان أبنائه من فرص اللقاء التي أتاحها انتشار السوريين في كل بقاع الأرض.
تعرفت إلى بطل فيلمي الأول “المعبر” في دمشق، عندما كنت أبحث عن شخصية من الجولان المحتلّ، منفصل عن أهله وسيأتي رجل من عائلته لزيارة المشايخ التي يرعاها الصليب الأحمر الدولي.
لا أذكر كيف تعرفت إلى مضاء المغربي، كان شاباً قادماً من الجولان للدراسة في كلية طب الأسنان، وكان والده جمال المغربي سيأتي مع المشايخ لزيارة سوريا تحت لواء زيارة دينية، يسمح فيها بالقدوم فقط للرجال. صوّرت حينها مشهداً مؤثراً للقاء الأب بابنه بعد سنوات غياب، وكم تكرر المشهد في سوريا اليوم، أضعاف ما غابه مضاء عن والديه؟!
أثناء تصوير الفيلم، كان لا بد لنا من الالتفاف على الرقابة، وتجنّب تصوير قدوم المشايخ إلى قبر حافظ الأسد، في زيارة دينية لا تتجاوز مدتها اليومين.
كانت هناك مقاصد كثيرة لم نستطع قولها من دمشق. اليوم، بعد الحرية، قررت أن أتواصل مع مضاء، كي أسأله من كان يقصد عندما قال لي: “كل اللي بيقولوا إنه نحنا أقوياء بالجولان كذابين، نحنا مش أقوياء نحنا ضعاف”.
فوجئ مضاء بسؤالي، فقد انقضى أكثر من عشرين عاماً على التصوير، وفوجئ أكثر لأنه أخبرني أنه يفكر بهذه الجملة منذ سقط الأسد. قال لي: “أعتقد أن أفضل إجابة عن هذا السؤال فعلاً هي وضعنا اليوم في الجولان المحتل، نحن فعلياً مجموعة من البشر، لا نتجاوز بضعة آلاف، لا نشعر بأن أحداً مسؤول عنا، النظام أهملنا منذ وقعنا تحت الاحتلال لعشرة أعوام، ثم حصر علاقته بنا بمخابراته، بينما أصر التلفزيون السوري على إلصاق صفة البطولة بنا، ونحن فعلياً أناس عاديون، بل للدقة ضحايا حرب، وُضعنا في ظرف تاريخي وسمع العالم بنا، لكننا نبقى في النهاية نتيجة لمخرجات حرب 1967. لكن هؤلاء الضحايا في المقابل رفضوا اعتداء الاحتلال، وحمل أي صفة أخرى سوى سوريين، كما رفضوا الخدمة في جيش المعتدي.
يفكر مضاء قليلاً ثم يضيف: “أحاطني وصولي إلى دمشق بجوّ يشي بأننا الأبطال والصامدون، وكان هذا يشعرني بالغبن، لأنه يوحي بأننا وحدنا. كنت شاباً في مطلع العشرينات ويُنظر إلي على أنني القادم من أرض البطولة والمقاومة، فيما الحقيقة أن أهلنا هم الذين قاوموا. نحن جيل تربى على قيم أهله، وقد عانينا من الموضوع الذي تحدثنا عنه مطولاً في الفيلم: الفرق بين المدرسة والشارع. في المدرسة منهج إسرائيلي يحاول تطبيع الوضع، وشارع سوري فيه نشاط مؤسساتي وأندية خارج سيطرة الاحتلال. علمتني طفولتي أن المجتمع يسمح لي برفع صوتي بكلمة (لا) لأنني محميّ الظهر، لأن وعيي تشكل فيما يتظاهر الناس ويقولون نحن سوريون”.
بعد انتهاء تصوير الفيلم وتخرّجه في الجامعة، اتّخذ مضاء قرار العودة إلى الجولان، وهو قرار منعه من زيارة دمشق لاحقاً، تودعنا، وكان الوداع مؤلماً للغاية لأنه وداع لا لقاء بعده، أو هكذا كنا نظن في حينه. كان اتصال مضاء بي وأنا في دمشق يخيفني، إذ كنت أخشى أن يعرّضني اتصال من رقم إسرائيلي لمساءلة أمام مخابرات الأسد، التي لم تكن لتفهم أن المتصل صديق سوري يرزح تحت الاحتلال، لكن وسائل التواصل الاجتماعي أنقذتنا من عبء التواصل الهاتفي.
اندلعت الثورة السورية، وتحوّلت هواية العزف والغناء لدى مضاء إلى وسيلته للمشاركة في الثورة، فأسس فرقة “نص تفاحة” التي أنتجت أغنيات ارتبطت بتلك الثورة وبذاكرة السوريين عنها، من دون أن يعرفوا أنها آتية من أرضهم المحتلة.
مع انطلاقة الثورة، أطلق أبناء الجولان المحتل بياناً لمساندة ثورة شعبهم، إلا أن الاستقطاب والانقسام المجتمعي بين موال ومعارض، انسحب على الأرض المحتلّة، يتذكر مضاء قائلاً: “في العام 2011، في المجتمع نفسه الذي زُرعت فيه قيم الحق ورفض الظلم، عندما قلنا لا للظلم، فوجئنا بالمجتمع يحاول إسكاتنا”.
بعد سنوات الثورة الأولى، وخروجي من سوريا ووصولي إلى منفاي الباريسي، أتى مضاء إلى باريس لإحياء حفلة موسيقية تقدّم فيها فرقة “نص تفاحة” أغانيها.
لا يمكنني اختصار اللقاء في سطور، إذ ترافقت مشاعر الدهشة بإمكان اللقاء مع الحزن على مكان لقائنا وشرطه، مع حفلة غنينا فيها وهتفنا وكأننا في وسط دمشق. تودعنا هذه المرة بروح مختلفة، فاللقاء ممكن، وسيعاد. يخبرني مضاء أن الشتات السوري على قسوته خفف من عزلته وجمعه بأصدقاء ظن أنه لن يستطيع اللقاء بهم بعد اليوم. وكانت من فضائل الثورة برأيه، أن الجولان انفتح على بقية السوريين في الخارج، وصار أبناؤه يلتقون بالسوريين في كل مكان بالعالم.
بعد أربعة عشر عاماً على اندلاع الثورة، سقط نظام الأسد، وبعد الاحتفال والتهنئة والبكاء، بدأ الحديث جدياً عن موقع الجولان من الواقع السياسي السوري الجديد. ففي لحظة، دمّر الجيش الإسرائيلي آخر مقدرات الجيش السوري وتقدّم في الجولان المحتل، في ظل وصول ترامب ثانية إلى الحكم في أميركا، بعدما وعد في ولايته الأولى بضمّ الجولان الى إسرائيل، وبالتزامن مع خطاب متكرر من الإدارة السورية بأن سوريا لن تشكل تهديداً على أحد من جيرانها.
أسأل مضاء عن أمنياته ورغباته، فيجيبني: أن يستطيع أبناء الجولان المحتل زيارة وطنهم الأم متى شاؤوا، أن يُمنحوا رقماً وطنياً ويُعترف بهم كمواطنين واقعين تحت الاحتلال (وهو واقع حالهم بحسب القانون الدولي). والأهم “الاهتمام بنا قليلاً من الناحية الفكرية، كنت قد قلت يوماً وأكرر: كما أشتاق لدمشق ولبانياس ولسوريا، أحب أن يشتاق أهل سوريا للجولان وأن يحكوا عنه”.
ويصارحني بخوفه من أن يكون انتصار الثورة وعودة السوريين إلى وطنهم سبباً في إعادة الجولان إلى عزلته وإلى حرمان أبنائه من فرص اللقاء التي أتاحها انتشار السوريين في كل بقاع الأرض. كما يشير إلى قلقه من أن أهالي الجولان لم يُذكر أبداً منذ التحرير على لسان أي من رجالات السلطة الجديدة.
سألت مضاء عن حلمه، فقال: أحلم بحفل في دمشق، حفل أغني فيه في ساحة الأمويين أغاني “نص تفاحة” مع غيري من فرق الموسيقى الشبابية في سوريا، في حفل مشترك نحتفل فيه بانتصار إرادة الشعب. يراودني هذا الحلم وأراه كأنه حقيقة.
ننهي حوارنا بأمل وتخيُّل أن نلتقي في دمشق مرة أخرى. أتخيل أن أعيد الى مضاء كاسيتات موسيقية، لم يطاوعه قلبه قبل المغادرة أن يرميها، فأعطاني إياها، وتركتها خلفي عندما غادرت بحقيبة سفر. هل نلتقي ونسمع الكاسيتات معاً؟ وهل يصبح سؤالنا فقط هو كيف نجد مسجلة تشغل الشرائط القديمة في زمننا الحالي؟
درج
—————————-
هنا وهناك في آن معاً: عن محاولاتٍ للانتماء بين ألمانيا وسوريا/ هبة القادري
01-02-2025
بدأتُ كتابة هذا النص لأول مرة قبل ثمان سنوات، بعد شهور من وصولي إلى ألمانيا. كنتُ أحاول أن ألتقط ما أشعر وأفكر فيه عن تجربتي في الهجرة. كتبَ لي محرّر الجمهورية، صادق عبد الرحمن: «يمكننا نشر النص ولكنني أعتقد أنك ستغيرين رأيك بعد تفاعل التجربة مع الزمن، فتريثي»، وهذا ما فعلت. وضعتُ النص جانباً.
كل عام، كنتُ أعود إليه مرة، أُضيف مقطعاً وأمحو آخر، وأربطه بحدث أو أفكّ ارتباطه. نُعيد جدولته للنشر، ثم نُلغيها.
هذا العام، قررنا أخيراً أن ننشره. لكن النص كان ناقصاً، يفتقرُ إلى نهاية. ثم حدث ما لم يكن في الحسبان: سقط نظام الأسد. فجأةً، النص الذي ظل معلقاً طوال هذه السنوات وجد خاتمة وانفراجاً، كما كثير من الأشياء الأخرى.
في هذا النص، سأحكي عني، عن بحثي عن ذاتي ومحاولاتي للانتماء، بين الوطن والمنفى، قبل الثورة في سوريا وبعدها، مروراً بالحرب واللجوء، وصولاً إلى محاولات الاندماج في ألمانيا. سأكتب كما لو أنني أجمع شظايا نفسي وألحمها، لأصنع معنىً وأفهم أكثر.
كل ما عِشته في طفولتي تَجذَّرَ في عقلي والتحمَ به بعمق. أتذكر صباحاتي التي تَشاركتُها مع والدي. فأنا، على خلاف أمي وأخي الأكبر، كنتُ أستيقظ باكراً، ربما لأستأثر بلحظات صافية مع والدي. أتذكر بردَ الصباحات الذي سرعان ما ينقلب دفئاً حين يرمي والدي قشة الكبريت في «الصوبيا». كنتُ أتأمل لهب النار وخيط المازوت الرفيع الذي يتحكم به، والدفء يتسلل إلى بطني بدءاً من أطراف أصابع قدمي بينما ألصقهما بقاعدة الصوبيا وأنا أنتظر والدي حاملاً إبريق البابونج. كانت الصباحات تشبه بعضها، إلا صباحاً واحداً عالقاً في ذاكرتي. أفتح حقيبتي المدرسية بعد يومي الأول في الصف الأول، أخرجُ دفترَ الطلائع المطبوع عليه صورة حافظ الأسد. يلقي والدي نظرة على الدفتر ويرى الرموش الكثيفة التي رسمتُها لحافظ، يتغصُّن جبينه ويشيحُ بنظره: «رجّعيه متل ما كان»، يقول لي بنبرة لا تَتركُ مجالاً للاعتراض. أحاول أن أمحو الرسم ولكن الألوان تعاند. يأخذ والدي الدفتر ويقول لي أن أقول للآنسة إنني ضيعته. أحاول النقاش والاعتراض، ولكنّه يصبح على غير عادته مُقتضَباً وحادّاً. ظننتُ يومها أنه يكنّ محبّة لحافظ الأسد، فتقصدتُ لاحقاً أن أمتدحه أمامه، فكانت تغضّنات جبينه أشد كثافة. تعذَّرَ عليَّ فهمُ أبي وأصبحَ الأمر أحجيةَ طفولتي، ولُغزَها. وهذا لم يكن تفصيلاً استثنائياً، فصورة الأسد في كل مكان في البلد، واسمه، ملتصق بمراكزها الثقافية ومكتباتها ومعاهد تحفيظ القرآن وشوارعها. لا أعلم إن كان هذا سبباً وراء شعوري العميق بعدم الانتماء لسوريا.
أما بالنسبة لفلسطين فكنت متأكدة من شعور والدي تجاهها ومن انتمائي لقضيتها. عام 2008 قمتُ بحملة لجمع النقود من أجل غزة في مدرستي. عندما علمت مديرة مدرستي بذلك الشأن، عاقبتني وأخذت المبلغ كاملاً وطلبت استدعاء ولي أمري. أصبح والدي يومها مضطراً لمواجهتي بالحقيقة التي أجبرني أن أَعِدَهُ أنها ستبقى سرّاً بيني وبينه: نظام الأسد ليس داعماً لفلسطين كما يدّعي، وقد يسجنني إذا جمعتُ تبرعات دون ترخيص. تجرعتُ الحقيقة التي اختصّني والدي بها في عمر الثالثة عشر. وكَتمتُها. وانحلَّ جزء من أحجية الطفولة، وحَلَّتْ محل الفضول مرارة مريعة. في السنوات التي تلت ذلك كنا نعرف بشكل جماعي أن نظام الأسد يقف في طريقنا وفي وجه أحلامنا، لكن لم يكن بوسعنا أن نقف في طريقه. حتى قرارات شخصية على غرار: ماذا سندرس؟ وماذا سنكون؟ كانت مغلقةَ الأفق ولا تُرضي أحلامنا. موت أحلامنا لحظة ولادتها كان أمراً يومياً مُعاشاً. حتى العام 2011 حين انطلقت شرارات الثورة السورية. اعتُقِلَ المدوِّن السوريُّ أحمد حذيفة، وسمعتُ يومها للمرة الأولى بالاعتقال السياسي، ثم تفتّحَ وعيي بعدها بالتدريج على الجحيم: معتقلات تدمر، سجون صيدنايا، تسليم الجولان، الظلم والتغييب والتعذيب. مع انطلاق المظاهرات في سوريا وأول هتافات الحرية أحسست بانتماء رهيب للبلد. وكأن لي جذوراً شقّت وجودي فجأة وامتدت لتنغرس عميقاً في الأرض. بعد سنوات من الشعور غير المفهوم بالغربة وانعدام الأفق، جربت أن أذوب في حبّ البلد وقطعت على نفسي وعداً أنني لن أتركها وأنني وصديقاتي «سوف نبقى هنا»، مهما جرى.
مثل كثيرين، كنتُ أعتقد أن الثورة لن تستغرق أكثر من شهور، أو على الأكثر سنة. أو ربما سنتين. مع الوقت بدأت قوانا تخور واصطدمَ شعار البقاء الذي رفعناه عالياً بصخور الواقع ليتكسّرَ عليها ويكسرنا. سمعنا أصوات جنازير الدبابات ومُحركاتها في حاراتنا، أحرقَ الأسد بيوتنا، اعتقلَ مئات الآلاف منا، قتل أصدقاءنا وغيّبهم، داس على أحلامنا وحناجرنا. عام 2013 نكثتْ أولى صديقاتي العهد وهاجرت إلى مصر. السنوات التالية تلتها سلسلة من الخيانات الحتمية. كل واحدة منا نكثت العهد في زمن مختلف، إلى وجهات مختلفة. عام 2016 غادرت أنا .. إلى الشمال الألماني البارد.
ولدتُ وكبرت في القلمون في سوريا في منطقة اعتاد معظم رجالها السفر؛ في معظم الأحوال إلى الخليج، للبحث عن فرص العمل وجمع المال. جدتي هي الفتاة الوحيدة في عائلتها التي لم يكن زوجها مغترباً، ووالدتي هي البنت الوحيدة في عائلتها التي تزوجت من رجل لا يسافر. أخبرني جدّي أن أمي أخبرته عندما كانت في الثامنة أنها لا تعرف الكثير عن زوجها المستقبلي، لكنها تعرف على وجه الدقة أنه لا يسافر ولا يُدخّن. وهكذا كان.
على عكس والدتي، لم أنتمِ قبل 2011 لبلدي أو محيطي، لا لمدينتي ولا لشارع بيتي، لكني كنت أنتمي إلى غرفتي الصغيرة. صحيحٌ أنها لاتدرأ البرد ولا تحمي من الحر، إلا أن لها باباً يمكنني أن أُغلقه على نفسي.
أحفظ تفاصيل بيتنا جيداً، والتي كانت تتغير كل سنة قليلاً مع زيادة مَعاش والدي. وعندما تغيبُ عني بعض التفاصيل، تُذكّرني بها الصور التي تحتفظ بها أمي. لا أعرف الكثير عن طفولتي المبكرة لكنني أعرف أنني قضيتُ سنوات أُطالب والدَيّ بغرفة لي. غرفة تخصّ المرء وحده كما تقول فرجيينيا وولف. بعد أن أدركوا أنني عنيدة وأن حالتنا المادية لا تسمح لنا بالانتقال إلى بيت أكبر، قرَّرَ والدي تحويل بلكونة المنزل عن طريق ألواح زجاجية إلى «شبه غرفة» لابنته الكبرى، لكي يُريح رأسه.
كانت غرفتي ملحقة بغرفة المكتبة التي يستضيف والدي فيها ضيوفه، ما يعني أنه كان علي أن أتركها سرعان ما يحضرون. لكن لم يكن الأمر مشكلة، لأني كثيراً ما أحببت أن أجلس مع ضيوف والدي الذين كنتُ أُفضّلهم عن ضيوف أمي. لكن حينما بدأت أصبح «صبيّة» أصبح دخولي غير مُرحَّب به. أتذكر لحظة الفراق الأليم حينما حضرت أكواب الشاي وجهزتُ نفسي لأشارك في المجلس، لكن والدي أخذ الشاي وأخذني من يدي ليقودني بلطف إلى خارج الغرفة ويهمس لي: بابا الأحسن تضلي مع أمك. هنا انتهت مرحلة من عمري، وبدأت معركة أمي لتطويعي مع عوالم النساء وتجهيزي لها.
عام 2011 توطّدت علاقتي مع الغرفة، إذ أنها كانت مكاناً استراتيجياً للوصول الأسرع إلى الانترنت الخليوي «السيرف»، بوابتي السريّة إلى العالم. كنتُ أُحضِّرُ للبكالوريا في هذا العام، وأُتابع الثورة السورية، وأُقسم في كل مرة يسألني والدي إن كنت كتبت شيئاً على فيسبوك أنني لم أفعل، وفي سري أحمد الله أنه لم يسمع بتويتر أو بالوورد بريس. انتميتُ لهذه الغرفة رغم شحّ الوقود وازدياد البرد وتموضع القناصين في محيطها. وقعَ زجاج الغرفة أثناء الانفجارات، ووجدنا فيها غيرَ مرةٍ شظايا من القصف، لكنها كانت تُعطيني شعوراً عالياً بالأمان والدفء رغم أنها كانت تقنياً أكثر الأمكنة خطراً وبَرداً.
اعتدتُ الوحدة والغربة بعد رحيل صديقاتي، انتهت الثورة في مدينتي وفي دمشق، شيَّعتُ الثورة في قلبي وشعرتُ أن روحي شابت، وأن ما آمنتُ به وصَنعني تحوَّلَ إلى مقبرة من الجماجم. كنتُ أسمع الناس البسطاء المتعبين وهم يدعون «الله يطفيها بنورو» ويدعون على من كان السبب بالخراب، بينما ينتظرون في طوابير الخبز ويركضون خلف عبوات الغاز. عشتُ أعواماً من الخريف النفسي الصقيعي. لم أكن قادرة نفسياً على التعامل مع المشهد نفسه كل يوم: شباب في عمري أو أكبر، يتم توقيفهم على الحواجز وسحبهم. لا نعرف إلى أين؛ الجيش أم المعتقل. أصبحت الحياة ضاغطة بشدة، ولعجزي عن التلاؤم معها صرتُ أتوق للموت، لموت فيزيائي يشبه ذلك النفسي الذي أعيشه، ورغم وفرة الموت حولي لم يكن يجد سبيله إلَيّ. حاولت أن أذهب إليه، وكنت أَجبن.
قررت اللحاق بصديقاتي وبحثتُ عن سُبُل للسفر. فكَّرت طويلاً وملياً. صرت متأكدة أن وجودي خارج أسوار البلد أنفع لي وللبلد على حد سواء. في لا وعيي العميق ترتبط تجربة الهجرة بالموت النفسي الذي عشته أو الولادة الجديدة التي كنتُ أنشدها. أخذت وقتي تماماً في عملية الرحيل، الذي كان بالنسبة لي: قتلُ نسخةٍ من الذات. وبينما أَنتظِرُ الفيزا من السفارة الألمانية، كانت أمامي شهورٌ أَحزِمُ فيها متاعي وكان لدي الوقت في تقطيع وتقليم ارتباطاتي العاطفية واحدة تلو الأخرى. وهذا ما فعلت، لأني كنت أعرف أن الرحيل يعني اللاعودة، ولسبب ما كنت مقتنعة أن امتلائي بوطني الجديد يعني أن أفرغ نفسي من وطني الأول، وكانت لدي حاجة ماسّة أن أبدأ صفحة جديدة: على بياض.
في نهايات صيف 2016 وصلني اتصال من رقم مجهول يُبارك لي باللهجة اللبنانية حصولي على الفيزا إلى ألمانيا. كنتُ وقتها مع أمي في زيارة نسائية. اعتراني شعور بسعادة وخِفة كبيرة خَفّفت عني ثقل الزيارة، التي كان أجمل ما فيها أنها انتهت.
رغم أني كنت في أشد الاقتناع بأن الرحيل هو كل ما أريد، كانت الليالي الأخيرة في سوريا مليئة بالشكوك التي تنخزُ كأشواك صغيرة تلافيفَ دماغي، فتُبقيني متيقظة. هل فعلتُ كل ما بوسعي قبل أن أخرج؟ هل «قرعتُ جدران الخزان» كفاية؟ هل فعلتُ يا غسان كنفاني؟ هل فعلنا؟
أثناء طريقي إلى بيروت في السيارة التي ستوصلني إلى مطارها، كنتُ أُلقي على كل شيء نظرة الوداع الأخيرة. على الأطفال الصغار الذين يتسولون الخبز و«الفراطة»، على الشبيحة وعضلاتهم المنفوخة حتى تكاد تتمزق، وعلى طوابير السيارات التي تنتظر على دور الوقود. تذكرتُ مقولة ميلان كونديرا «إن غيوم المغيب البرتقالية تعكسُ على كل شيء ألق الحنين، حتّى على المقصلة». ثم تذكرتُ أني لا يمكن أن أعتبر نفسي ناجية حتى أعبر حاجز الفرقة الرابعة. هنا عاد القلق الاعتيادي ليأخذ مكانَ الحنين السابق لأوانه. ثم تعطلت مشاعري، حتى عبرتُ الحدود اللبنانيّة. في كل لحظة قبلها كان الرعبُ يأكلني من عبارة: اتفضلي معنا، ومن أن يكون الأمن السوري قد اكتشف عملي الصحفي في دمشق ونشاطاتي الثورية، التي أنا نفسي، لا أتذّكرها.
لم أستطع تَنفُّسَ الصعداء حتى ركبتُ الطّائرة. عندما أقلعتْ وبدأتْ بالارتفاع بدأ عقلي يتفتَّحُ على فكرة أن هذه الحقبة الزمنية من تاريخ أيامي قد انتهت. بكل ما فيها. أدركتُ أن علي اليوم أن أنتقل بذاتي إلى باب جديد من كتاب أيّامي: باب الغربة. جهزتُ نفسي للمرحلة القادمة وللخفَّة التي اعتقدتُ أنها تنتظرني في الشمال الألماني، حيث سأبدأ من جديد.
نزولي من الطائرة كان كالوقوف على عتبة حياة جديدة ومُتخفّفة: من الماضي، من الألم، من الخسارة، من الذكريات، من الارتباطات المؤلمة. حقائبي معي وعضلاتي تحت جلدي مِطواعة وقلبي مرن ومفتوح على مصراعيه. أريد أن آخُذَ حقي في الشباب والتفتح من قلب الحياة، أريد أن أزورَ مدناً وأن أفتحَ أحاديثَ بلا خوف وأن آخذ كثيراً وأعطي بسخاء.
عندما اعتزمتُ السفر إلى ألمانيا وبدأت تَعلُّمَ اللغة الألمانية، صرتُ أنتبه أن كثيراً من الكتاب الذين أقرأ لهم والذين صاغوا فكري كانوا ألماناً أو كتبوا بالألمانيّة: إيمانويل كانت، شتيفان تسفايج، فيكتور فرانكل، إيريك فروم، حنة آرنت، نيتشه، وشاعري المفضل: ريلكه. ما جعلني أشعر بقرابة فكرية مع الألمان، وما وَلَّدَ لدي توقاً لمعرفة وقراءة المزيد.
رغم كل ذلك، كان الفراغ عنوان البدايات في الشمال الألماني. حاولت أن أملأ ساعاتي وأيامي وأسابيعي بكل هو ألماني، بدأتُ أُكوِّنُ علاقات مع المكان وأُصغي إلى نصائح السابقين والألمان. الجميع أكَّدوا لي أن اللغة هي المفتاح. بدأت حياتي تدور حول اللغة الألمانية التي أحببتها فعلاً. صرتُ أعيد قراءة الكتب التي قرأتها بالألمانية وكأني أحاول إعادة بناء معرفتي بلغة المكان الجديد. أبحث عن كتب جديدة، أقرأ كل ما تصله يدي، من كتب الفلسفة الألمانية إلى مكونات علبة الشامبو. صرتُ أحاول أن أخلط نفسي بالناس بكل الفضول، وربما، بالحاجة المحزنة لأن أجد رفقة في المكان. عرفتُ أن جميع اللاجئين تُحاصرهم عقدة الناجي فاستطعتُ التحايل عليها وإبعادها من طريقي. صرتُ أُعرِّفُ عن نفسي، حتى أمام نفسي، بأني كائن كوني «كوزموبوليت»، ولا مُنتمٍ لشيء لكنه وفي الوقت نفسه مُنتمٍ لكل شيء. أصلاً أصلاً انتمائي إلى سوريا لم يكن إلا محضَ صدفة جغرافية. أما قراري بالهجرة فهو على الأقل قرارٌ واع. هكذا حاولتُ أن أُقنع نفسي.
«من أين أنت؟»
اصطدمَتْ رغبتي بأن أكون كائناً لا مُنتمياً بهوَس الألمان بمعرفة أصول الناس الذين لا يحملون شَعراً أشقر وعيوناً زرقاء، وخصوصاً أولئك الذين يُخطئون في تصريف الأفعال والصفات. صرتُ أتحايل على هذا الهوَس وأجيبُ بكلمات منمقة لا تحمل إجابات مريحة، إلى أن أدركتُ أن ذلك يجعل المقابلين لي أكثر فضولاً وانزعاجاً وإزعاجاً.
في البداية ظننتُ أنني لم أكن مرتاحة مع سؤال «من أين أنت؟» بسبب رغبتي في أن أكون منتمية لكل الأمكنة ولا منتمية لأي مكان في الوقت نفسه، أو لأني لستُ جاهزة بعد للتعامل مع ندوب الماضي وانكساراته. أردتُ أن أطوي الصفحة. كما أن السؤال بدا مزعجاً أيضاً لأنه يصرّ على أن يُعرّفني ويحشرني في قالب يُعفي الألمان من قراءتي وفهمي. بعد فترة من وجودي في ألمانيا، عرفتُ أن هذا السؤال مزعج للجميع، حتى الجيل الثالث من الأتراك في ألمانيا، وحتى للألمان الذين وُلدوا لأحد الأبوين من أصول غير ألمانية نقية. فهمتُ بعدها أن السؤال في جوهره ليس مَعنياً بفهم أصول الناس، وإنما بالتأكد أنهم ليسوا ألماناً. من ناحية أخرى كان علَيَّ أن أقول إنني لاجئة، وفي ألمانيا تم تقزيمُ اللاجئين إلى باحثين عن الأمان والخبز ومثيرين للشفقة. لم يكن قلبي المفتوح على مصراعيه مرتاحاً لأكونَ ويكونَ محطَّ نظرات الإشفاق. بعد القليل من القراءة عرفتُ أنه حتّى اللاجئون الألمان في أميركا كانوا ينزعجون من إطلاق تسمية اللاجئين عليهم، إلى درجة أن حنّة آرنت ابتدأت مقالتها «نحن اللاجئون» بأنها: لا هي ولا اللاجئون الآخرون يحبون أن تُطلَق عليهم هذه التسمية، وأنهم لا ينفكّون يفعلون كل ما بوسعهم ليتخلصوا منها.
بدأتُ حياتي الجديدة. تعلّمتُ اللغة، قرأتُ القوانين، صرتُ أتتبع الطقس، أَصِلُ إلى المواعيد قبل أوانها، أُرتب أوراقي وأضبطُ نفسي على إيقاع المكان الجديد. لم تكن شهوري الأولى من الإقامة في ألمانيا يسيرة، الليالي المُعتمة الطويلة الباردة كانت تأكلُ روحي. والوحدة وجمود الحياة كانت تتسلل إلى نَقيّ عظامي. لكن يعزّيني أني أعرفُ هدفي؛ أريدُ أن أدرس وأن أكون فعّالة ومُنجِزة. حاولتُ أن أتَّبِعَ كل النصائح الجيدة. التفاؤل والكثير منه، كان عنوانَ فترة اللجوء. لكي يعيد المرء بناء حياته يجب أن يكون متفائلاً وقوياً.
بعد كل ما عَبرْتُ به وعَبَرَ بي، أردتُ أن أخطو بأسرع ما يمكن وبأخفِّ ما يكون. كرصاصة. نحو الهدف. لا تلتفّ.
ألمانيا هي وطني الذي قررتُ أن أختاره وأمدُّ جذوري فيه. خياري. لكن لسبب ما، كنتُ كُلّما كثَّفتُ محاولاتي لمدِّ جذوري والاندماج في المكان والانتماء له، كلما تقلّصتْ تلك الجذور وارتدّت إليَّ بنفس القوّة وازدادت حالةُ الهروب لديّ. بعد فترة انتبهتُ أني أعيش حياتي في ألمانيا وكأني أحملُ جذوري وأرفعها كفستان لا ينبغي أن يلامس الأرض، وأركضُ إلى الأمام.
كورسات الاندماج
كانت مرحلة دورات الاندماج من أبرز المراحل التي علقت في ذاكرتي، وكانت مُؤسِّسة لصوغ علاقتي مع نفسي ومع ألمانيا. أعتقدُ اليوم أنني لم أكن مُحصَّنة نفسياً كفاية للتعامل معها. رغبتي الملحّة باستبدال وطني جعلتني أفتح قلبي على مصراعيه، وكنتُ أشعر بامتنان كبير للبلد الذي أعطاني فرصة. مما جعلني أكثر هشاشة. دورات الاندماج كانت تحمل أشكالاً من الفوقية الألمانية. وفي تلك المرحلة، لم أَكُن واعية تماماً بسطوة اللغة وأثرها عليّ. فكل ما كنت أسمعه بالألمانية، التي كانت مُفرادتي اللغوية وقواعدي فيها لا تزيد عن مستوى طفل في الخامسة من العمر. حينما أنظر إلى الوراء، أَعتقدُ أن تأثيرات هذه المرحلة تشبه تأثيرات التربية في الطفولة وسنوات النضج الأولى.
أثناء النقاشات في الدروس كانت تحدث الكثير من الصِّدامات بين الثقافات. هذه الدورات كانت أول احتكاك لي مع أهل بلدي من جديد. كان لدي شيء من النوستالجيا سرعان ما تلاشى حين أصبحت النقاشات مساحات لقتال شوارعَ لفظي، تنهال فيها كثير من الآراء الرجعية الداعمة للديكتاتوريات والمُعادية للمرأة والحريّات. كان يهيمن عليّ الخزي والمرارة، خصوصاً عندما أضطر أن أُترجِمَ ما قيل. عمّقتْ تلك المرحلة شعوري بالخجل أمام الألمان «المتفوقين أخلاقيّاً» والأقدر لغويّاً، وفوق كل ذلك: يستضيفوننا. كل هذا سيتغير بعد ذلك، وسأعمل عليه بشكل حثيث، نفسياً ومَعرفيّاً. لكن في تلك المساحة آنذاك كان الشرخ المفروضُ عليّ بين مكاني الأصلي ومنفاي يزيد، على نحو يبدو أنه لا يمكن التئامه. وكانت تزداد معه الحاجة للابتعاد، التي تدفعني لأركض في الاتجاه المعاكس بأسرع ما يمكنني. تلك الحاجة كانت تحمل في ثناياها رغبةً ملحَّةً بالانغراس في المجتمع الألماني .. كملجأ.
شيءٌ من الانكسار والخزي صار يصطبغ بحنجرتي وأنا أُترجم، والأسئلة تزداد إلحاحاً: من أين كل هذه الرجعية؟ هل نحن شعوب متخلفة؟ أم أن عشرات السنوات من الديكتاتورية كفيلة أن تخلق هذا؟ بدأتْ تتوازن الكفة عندما تعملّتُ الألمانية كفايةً، وانحسرت حالة الانبهار بكل ما هو ألماني. . توازنتُ أكثر بعد صعود اليمين المتطرف. صرتُ أسمع آراء الألمان المتعلمين والمتحضِّرين الداعمة لليمين المتطرف والمؤمنة بالمؤامرات والرجعية والكارهة للنساء، وبالألمانيّة التي كانت مرتبطة لدي بشكل طفولي محرج: بكل ما هو حضاري. مصائبُ قوم عند قوم فوائد. إن كانت هذه الآراء موجودة بعد سنوات من العمل الممنهج المؤسساتي على التعليم السياسي والديمقراطية، فلا عتبَ علينا نحن السوريون، قلتُ لنفسي وقتها.
أخ، ها أنا أقول «نحن» و«هُم» وأنظر إلى نفسي كسوريّة. ها أنا أحشرُ نفسي في القالب الذي أتفاداه. مسألة عدم الانتماء هذه ليست يسيرة كما كنتُ أحسب. يقول ميلان كونديرا في رواية الجهل إن فكرة الوطنية فكرة مرتبطة بمحدوديّة الزمن المتاح لنا على الأرض، فلو كان مُقدّراً لنا أن نعيش ضعف عمرنا مثلاً، لتلاشت رومانسية فكرة الانتماء لوطن واحد، لأن الشباب سيتّسع لوطنين. كنتُ معجبة بكلام ميلان كونديرا نظريّاً، ولكن محاولاتي العملية لعقلنة الانتماء والحنين، وجعلِ هويتي سائلة، كانت تفشل؛ مراراً. هويّتي السوريّة تُباغتني حين تصطدم بشيء، وتتصلَّبْ.
في الجامعة
أوضحَتْ لي النصائحُ التي أخذتُها، وجسُّ النبض الذي أجريته، أن الألمان غير معنيين ببلادنا. إنهم مشغولون كفاية بحياتهم اليومية، وبأوروبا التي يطوفون حولها ككعبة ويعتقدون أنها مركز العالم. يكفيهم احتواؤنا والمشاكل التي نتسبّب لهم بها على أرضهم. خصوصاً أن منطقتنا معقَّدة تعقيداً يصعب اختصاره وتلخيصه، هذا إن لم يتعذَّر فهمه أصلاً. ألا يكفيهم تكبُّدُ عناء لفظ أسمائنا المعقدَّة ومحاولة محاكاة مخارج حروفنا. عرفنا جميعاً وقيلَ لنا بوضوح أنه لا أحد يرغب في الاستماع لما كنا عليه قبل وصولنا إلى ألمانيا.
قررتُ بشكل واضح أن أُخفي هويتي، خصوصاً أن ألمانيتي باتت أفضل وبوسعها مساعدتي في الالتفاف على سؤال الـ«من أين أنت؟».
بعد مدّة من محاولاتي في التخفِّي، سألتني بروفيسورة مادة الصحافة عن جنسيَّتي الأصلية. أخبرتها أني من سوريا. شعرَتْ هي بالأسى تجاهي، وشعرتُ أنا بالأسى على أساها وضربني اليأس العميق من جدوى محاولات الهرب. كنا نناقش في إحدى المحاضرات مبادئ نقل الخبر الصحفي. وكان المثال هو الكيماوي في سوريا. لم تكن دكتورتنا مقتنعة بما يتداوله الإعلام من استعمال الأسد للسلاح الكيماوي، لأن ضرْبَ الأسد لمعارضيه بالسلاح المحرَّم دولياً «غير عقلاني». كان الجميع يستمع والبروفيسورة تجول بنظرها بحثاً عن وقع كلماتها، إلى أن تقع عيناها عليّ. توجّهت لي بالسؤال: ما هو سبب الصراع بين أمريكا وروسيا على الأرض السورية؟
اتجهت إلي العيون، تلعثمتُ في اللغة، ضاعت مني تراكيب الجمل ولم أعد أعرف هل أولويتي هي أن أنتقد سؤالها؟ أم أن أتعامل مع كشف هويتي التي أحاول إخفاءها ببلاهة؟ أم أن أجد جواباً؟ أحسستُ باضطراب مربك وأحسستُ أن عقلي صمتَ وتخلى عنّي؛ أريد أن أتكلم لكن الكلمات تبقى ملتصقة على شفتي أو عالقة في حلقي.
ضربني يأسٌ عميق. هربتُ إلى أكثر إجابة ساذجة في العالم: السلطة؛ الصراع على السلطة. تبَّاً. تعدى الأمرُ اليأسَ إلى احتقارِ الذات. بدأ عقلي يغلي، وغضبت، وبدأتْ فكرة الهوية السائلة تسخر مني.
سابقاً، كنتُ أتمنى أن أنال فرصة لأتكلم عن ما يحدث في بلدي، كنتُ أتمنى أن يسمعني العالم، وفي قرارة نفسي أعلم أن دخولي مهنة الصحافة ما هو إلّا نتيجة حاجتي الماسَّة للصراخ بأعلى صوتي. حاجتي المتفائلة لإسماع العالم كله وجعله يُبصر ويسمع ويشعر. لكن هذه الحاجة خبت اليوم وتحولت إلى تشاؤم أخرس، أقصى ما يريده هو أن ينجو بنفسه وأقصى أمنياته هي أن يُشيح العالم نظره عنه، وأن يوفِّر عليه نظرياته وأحكامه. عدتُ إلى المنزل وأنا مثقلة، وقرأت كل ما وصلتْ إليه يدي عن الثورات والحروب ونضالات الحرية وعن التعذيب والتغييب، وكأني أجمع ذخيرة لغويّةً لمعارك فكريّةٍ تبدَّى لي أنه لا مناص من خوضها. تعرفتُ على منظمات مَعنية بالحديث عن الثورة السورية في ألمانيا، وبدأتُ أُعيد التعرُّفَ على جذوري وتعريف نفسي بلغة جديدة. وفي ذلك أدركت كم كان بحثي عن الخفَّةِ ثقيلاً.
الغرق برأس مرفوع
على خلاف كثير من السوريين والسوريات، كان خياري في السفر خياراً واعياً اتخذته وقمت باجراءاته، ما جعلني أُوهِمُ نفسي أني حرَّةُ الإرادة. رفعتُ تحدياً منذ البداية أمام نفسي وأصدقائي، أنَّي سأجد لي مكاناً في ألمانيا ولو اضطررتُ لحفره بأظافري، وعوّلتُ على قدرتي على إعادة بناء ذاتي وعلى يأسي من إمكانية عودتي لوطني. قابلَ أصدقائي الواقعيون تفاؤلي المفرط بابتسامة صبورةٍ كإعلان هدنة مع الزمن، الذي يثقون أنه وحده كفيل بتغيير نظرتي بكل تأكيد. كما فعل معهم.
أثناء رياضة ركوب الماء في بحيرة قريبة من مدينتي تركَ أحد اللاعبين اليد الخشبية التي يتمسك بها، والتي تتحرك عن طريق حبل متّصلٍ بمحرِّكٍ كهربائيّ ضخم ممتد على مساحة من البحيرة. كنتُ خلفه تماماً، فهوَت قطعة الخشب بكل سرعتها على وجهي. آلمني فكِّي وشعرت بالخدر وفقدت السيطرة على جسدي وبدأ الماء يسحبني. صرخَ لي المسؤول من بعيد، هل أنت بخير؟ كان جوابي الأوتوماتيكي: نعم نعم أنا بخير. لا تقلق.
خرجَ الجواب كمُنعَكس من لاوَعيي، وأنا أجاهد أن أُبقي رأسي مرفوعاً فوق الماء لِئلّا يلحظ الآخرون اضطرابي ولِئلّا يرونني أغرق. وكأني لا أريد أن أكون عِبئاً على أحد. صرخَتْ فيَّ صديقتي الألمانية قائلة، «اطلبي النجدة! هل فقدتِ عقلك!»؛ أنقذني المسؤولون. أخبرتني صديقتي الغاضبة مني أن علَيَّ أن أكتبَ تقريراً بما حدث، وإلا فإني أُسقِطُ حقي في حال حدثت مضاعفات لي. على طريق العودة سألتني صديقتي عن سبب هذه الـ«لا» الصارخة، والواثقة من نفسها، التي رَفعتُها. لم أعرف الجواب مباشرة، لكني عندما فكرت عرفتُ أن سببها هو محاولاتي للاندماج في المجتمع، وشعوري بأنّي الضيف الذي يجب أن يخجل عندما يطلب، وأن يرفع قدميه لكي لا يوسخ السجادة، وأن يُبقي رأسه مرفوعاً حتى وهو يغرق. وسألتُ نفسي أي اندماج هو ذا!
ماذا يعني أن نندمج؟
عميقاً داخلي أردتُ أن أكون حرّةً تماماً. أردت أن أبني ذاتاً خفيفة ومُتحرِّرة من ثقل الماضي والهوية وضيق القضايا. أردتُ أن أُجرب أن أكون كالآخرين العاديين. ولم أكن أعي ثقلَ هذه الخِفّة، حتى شاركتُ ورشة صحفية لليافعين عام 2021. كان علينا أن نقترح موضوعاً ذا ارتباط سياسيّ. اقترحتُ أن أكتب عن «النشاط السياسي للسوريين والسوريات في ألمانيا». تحدثتُ مع زملائي وزميلاتي المشاركين لبلورة قصتي، وبدا واضحاً لي عدم اكتراثهم. حاولت جسَّ النّبض وكانت معظم الردود من نوع: الأفضل أن ينشطوا في مواضيع تخصُّ مجتمعهم الجديد وليس بلدهم. يجب أن يندمجوا هنا. شعرتُ يومها بالوحدة والغضب والألم، وما كنتُ قد تصالحت معه من عدم اهتمامهم بقضايانا اتّضحَ أنه تصالحٌ هشٌّ.
عدتُ إلى مكان إقامتي وأنا أنظر إلى اندماجي المعتوه، الذي سرعان ما يتقلّصُّ ليحلَّ محلَّه شعورٌ مريعٌ بالاغتراب. بعد ذلك قرّرتُ أن أواصل العمل على مقترحي متجاهلة آراء من سألت. أثناء مقابلاتي التقيت توماس كروغر مدير مركز التعليم السياسي في ألمانيا (bpb)، وقال لي عبارة استمرَّ أَثرُها كصدىً في وعيي لفترة طويلة: «النشطاء والناشطات السوريون في ألمانيا ليسوا فقط زملاء في النضال من أجل الحريَّة والديمقراطية، وإنما علينا أن نُرافقهم ونتعلَّمَ منهم». لم تقوّي العبارة مقالي الصحفي فقط، بل كان لها أثرٌ نفسيٌّ علاجيٌّ عميق. شعرتُ في تلك اللحظة أن جذوري التي قطعتها نبتت كبراعم جديدة من جسدي.
بعدها صرتُ أفكر بشكل نقديّ في سياسات الاندماج، التي كنت قد أخطأت وأخذتها على محمل الجد زيادةً على اللزوم، وحاولتُ بكل حاجتي اليائسة للانتماء أن أُنجِحَها، ولم أنجح. ماذا يعني الاندماج أصلاً، أو الانتماء؟ وماذا يعني أن تكون ألمانياً؟ ما زالت هذه الأسئلة دون إجابات. لا يوجد أركانٌ لاعتناق الهوية الألمانية ولا فروض يجب فعلها لنيلها.
كثّفتُ بحثي بعدها وعثرت على أبحاث الكاتبة الأميركية برينيه براون Brené Brown، التي قضت معظم حياتها العملية تدرس الشجاعة والخزي والانتماء. تقول برينيه أن أكثر أمر فاجأها من سنوات دراستها عن الانتماء هو اكتشافها أن التكيُّفَ والاندماج ليسا بلا جدوى فحسب، وإنما يقفان عقبة أمام الانتماء. لأن التكيف يتطلب منا أن نتغيّر، أما الانتماء فلا يتطلب منا تغيير ما نحن عليه؛ بل أن نكون ذواتنا. منذ يومها بدأتُ أُعيدُ اكتشاف نفسي، وأقترب كل يوم منها أكثر. لم أَعُد أتهرَّبُ من التعريف عن نفسي كسوريّة، يل صرتُ أسارع إلى ذلك، حتى دون أن يسألني أحد. بالتدريج بدأت هويتي تستيقظ وغضبي يتصاعد وتصالُحي مع العالم يزداد في آن معاً. كل خطواتي السابقة على طريق الاندماج لم تكن على الطريق الصحيح، والأسوأ: لقد كانت في الاتجاه المعاكس.
لا أعتبرُ أني وجدت إجابات قاطعة عن سؤال الانتماء. لقد كنت، وما زلت، باحثة عن الأجوبة. ولكنني توقفتُ عن توجيه الأسئلة إلى الخارج، وبدأت أصغي إلى التعاليم التي يهمس بها دمي. بدأتُ أفهم ذاتي وماضيّ، ولاحظتُ، عبر كل خطوة أخطوها إلى ذاتي وسوريّتي، أن انتمائي للمجتمع الألماني يصبح أكثر سلاسة.
عندما وصلتُ إلى ألمانيا عام 2016، كانت تنعم البلد برخاء أصدقائي نسبي وبالديمقراطية والحريات الصحفية. وكنت قادمة من بلد مُمزَّق بالحرب معدوم الأمل. في 2025، نشهد تراجع البلد اقتصادياً وصعود اليمين المتطرف وتراجع الحريات الصحفية وحرية التعبير، خصوصاً بعد السابع من أكتوبر. تتغير الموازين أمامي. أسطورة التفوق والتقدم الأوروبي انهارت لدي كما لدى معظم أصدقائي السوريين والعرب. ليس هناك شعوب مُتخلفة وأخرى متقدمة، وإنما شعوب تستمر في نضالاتها من أجل الحرية، التي لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد. كلّنا على سفينة واحدة؛ سفينة نضالات البشر من أجل القيم الكونية: الحرية والكرامة والعدالة. وخلال ذلك لم تتلاشَ سوريا من ذهني، وإنما أصبح العالم كله في وعيي وكأنه سوريا كبيرة، تحاربُ أسوداً متنوعين. تكتب لي زميلتي الصحفية اليوم: أنا خائفة من الانتخابات وبدأت أستيقظُ على الكوابيس. أنا أيضاً أشعر بالقلق على الديمقراطية وأرى تراجع حرية الصحافة، وعَلَيَّ أن أحدد لمن سأعطي صوتي في الانتخابات الألمانية القادمة. أنا سوريّة وألمانيّة، هنا وهناك. أعمل في الصحافة باللغتين العربية والألمانية، تعنيني قضايا البلدين ولدي أهل وأصدقاء فيهما، وجذور في التربتين.
قبل شهر وبضعة أيام، يسقط الأبد. مشهدٌ مُصوَّر من دمشق، تخترقه صرخة تاريخية من قلب المدينة: بشار الأسد سقط. أشاهد الفيديو من منزلي في ألمانيا. يرتعشَ جسدي، وتنكشطُ طبقة تلو طبقة عن روحي؛ الغربة والهزيمة واليأس. تصعد أول مظاهرة شاركت فيها في الميدان في دمشق إلى قمة وعيي: الهتافات، الشرارات، والرصاص. في لحظة أشعر بالانفتاح الكامل على هبة 2011، طالبة البكالوريا في سوريا التي تبخّ كلمة حريّة بالدهان على الجدران، وتتجرأ أن تكتب على مدونتها ما يحدث في مدينتها، ويأكلها الخوف طيلة الليلة التي تلي ذلك. ثم أشعر بالانفتاح على كل نُسَخي، قبلها وبعدها.
تتجمّعُ قطع البازل المبعثرة، وأشعرُ بالانكشاف على ذاتي والانفتاح على العالم. لم يسبق لروحي أن تفتّحت بهذا العمق وهذا الكشف. تراخت ركبتاي تحتي، وتصافحت نُسَخي السابقة كلها وتصالحت مع كُلّي. أنا وطفولتي وغربتي ولحظة الثورة المرارة والهزيمة والمنفى ودورات الاندماج والجامعة والانتماء وعدمه. والكتابة طويلاً تحت اسم مستعار.
هذا هو نصّي الأوّل بالعربيّة باسمي الحقيقيّ: هبة القادري، بعد سنوات من الاختباء وراء أسماء مستعارة.
موقع الجمهورية،
——————————-
ملف المعتقلين بين لبنان وسوريا.. تصفية حسابات أم تحقيق عدالة؟/ بتول يزبك
2025.02.01
عشرات الاتّفاقيات والمعاهدات والبروتوكولات والمذكّرات والبرامج والعقود، فضلًا عن الهيئات والمجالس المشتركة، وأشهرها ما هو مسمى بـ”المجلس الأعلى السّوريّ اللّبنانيّ ” تلك الّتي تربط لبنان بسوريا، بعضها وُضع قبل أن يستلم نظام الأسد المخلوع سدّة الحكم قبل 54 عامًا، وغالبيتها تمّ إبرامها وعقدها في فترة هذا الحكم، وكانت المُحرّك لشقاقٍ أهليّ داخليّ لبنانيّ لفتراتٍ طويلة حتّى اللحظة. اليوم، تعود العلاقات اللّبنانيّة-السّوريّة إلى واجهة المشهد السّياسيّ، خصوصًا بعد سقوط النظام الأسديّ في سوريا. في بيروت، تتجدّد الآمال بإعادة صياغة العلاقة مع دمشق، مستندةً إلى التحوّلات الإقليميّة التي يُنظر إليها كفرصة لإنهاء مرحلةٍ سوداويّة في تاريخ البلدين “الشقيقين اللدودين”. هذه التطلعات تجلّت بشكلٍ أوضح بعد زيارة رئيس حكومة تصريف الأعمال، نجيب ميقاتي، إلى دمشق.
والحال، أنّه لطالما شكّلت الاتفاقيات الموّقعة بين لبنان وسوريا مادةً جدليّة في المشهدين السّياسيّ اللّبنانيّ والسّوريّ، فمنذ خمسينيات القرن الماضي، أبرمت عشرات الاتفاقيات والبروتوكولات والبرامج المشتركة الّتي غطّت مختلف المجالات، من الاقتصاديّة والتجاريّة إلى القضائيّة والأمنيّة. غير أن المرحلة الأكثر تعقيدًا في هذه العلاقة بدأت مع دخول الجيش السّوريّ إلى لبنان، والذي عزّز ارتباط بيروت بدمشق باتفاقيات كرسّت الوصاية السّياسيّة والأمنيّة على هذا البلد، الذي لطالما نظر إليه النظام بوصفه امتدادًا لسوريا من دون الحاجة للتعاطي معها كندٍّ مستقلّ، وعلى رأسها “معاهدة الأخوّة والتعاون والتنسيق” الّتي اُستخدمت كأداةٍ سياسيّة لتعزيز الهيمنة السّوريّة على لبنان، في ذلك الوقت.
فما مصير الاتفاقيات المُبرمة والمجالس المشتركة بين لبنان وسوريا، بعد إسقاط النظام؟ وهل يُمكن الاستفادة من التغيير الجذريّ الحاليّ في سوريا، لـ “تنظيف” دفاتر الوصاية السّوريّة على لبنان وإحقاق العدالة لضحايا النظام في لبنان وسوريا عبر هذه الاتفاقيات؟
الإشكاليّة القانونيّة للاتفاقيات الموّقعة
من الناحية القانونيّة، فإن الاتفاقيات الّتي أُبرمت بين الحكومات اللّبنانيّة والسّوريّة تبقى سارية المفعول ما لم يتمّ تعديلها أو فسخها من قبل أحد الطرفين. ويرى مراقبون أن هذه الاتفاقيات، الّتي وُقّعت في ظلّ نظام الأسد، لم تكن في معظمها متكافئة، حيث انحرفت عن أصول التعاون الثنائيّ العادل لصالح منح سوريا نفوذًا واسعًا على القرار اللّبنانيّ، واستغلال النظام المخلوع لهذه العلاقة الملتبسة، في استقدام الميليشيات الّتي ساندته في حربه على السّوريّين من لبنان.. ومن هنا، يطرح التساؤل حول مدى قانونية هذه الاتفاقيات في مرحلة ما بعد الأسد، وما إذا كان الطرفين ملّزمين بها أم أن هناك هامشًا لإعادة التفاوض عليها وفق رؤية أكثر استقلاليّة وسياديّة وندّيّة.
المحامي محمد صبلوح، مدير مركز “سيدار للدراسات القانونيّة”، يُشير في حديثه إلى “تفلزيون سوريا” إلى أن “الكثير من هذه الاتفاقيات وُقّعت تحت ضغطٍ سياسيّ أو عسكريّ، مما يجعل مشروعيتها القانونيّة موضع تساؤل. فعلى سبيل المثال، اتفاقيات التعاون الأمني بين البلدين لم تكن تحقق مصلحة مشتركة بقدر ما كانت تؤمّن غطاءً قانونيًا للتدخل السّوريّ في لبنان”. ويرى صبلوح أن “لبنان يملك حق إعادة النظر بهذه الاتفاقيات من خلال الآليات الدبلوماسيّة، مستندًا إلى مبدأ سيادة الدول وإرادة الشعوب في تقرير مصيرها”، وهذا ما ينطبق على الجانب السّوريّ أيضًا.
المجلس الأعلى اللبناني-السوري.. استمرار أم إعادة تقييم؟
من جهةٍ أخرى، يُعد المجلس الأعلى اللّبنانيّ-السّوريّ أحد أبرز المؤسسات التي أُنشئت لتعزيز التعاون بين البلدين، لكنه بات موضع تساؤل في ظل التحوّلات السّياسيّة. فبينما يعتبره البعض أداة لضمان استمرار التعاون، يرى آخرون أنّه لم يعد ذا جدوى، ويجب إعادة تفعيل المؤسسات الدستوريّة في كلا البلدين لضمان علاقات أكثر شفافية وتوازنًا.
وقد انبثق المجلس الأعلى اللّبنانيّ-السوّريّ من المادة السّادسة من معاهدة الأخوّة والتعاوّن والتنسيق بين سوريا ولبنان في العام 1991. ويتألف المجلس من رئيسي جمهوريّة البلدين، رئيسي حكومتي البلدين ونائبيهما، بالإضافة إلى رئيس مجلس النّواب اللّبنانيّ ورئيس مجلس الشعب السّوريّ. وحسب المهام الرسميّة المنوطة به، يضع المجلس السّياسة العامة للتنسيق والتعاون بين الدولتين في المجالات كافة (السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية وغيرها)، ويشرف على تنفيذها. تُعد قراراته إلزاميّة ونافذة المفعول ضمن إطار النظم الدستورّية لكل من البلدين. وعلى الرغم من كل الأحداث والتوترات الّتي وقعت بين البلدين، لا يزال المجلس قائماً حتى يومنا هذا. إلا أن وجوده أصبح شكليًّا أكثر منه عملي منذ العام 2005. وعن استمرار المجلس ووضعه القانونيّ، يؤكد الخبراء الدستوريون أنّه لا يزال قائمًا بموجب المعاهدة الثنائية، وأن إلغاءه يتطلب إجراءات دستوريّة توافقيّة بين الحكومتين اللّبنانيّة والسّورّية.
ملف المعتقلين بين لبنان وسوريا: تصفية حسابات أم تحقيق عدالة؟
بموازاة ذلك، يظلّ ملف المعتقلين بين لبنان وسوريا واحدًا من أكثر الملفات تعقيدًا في العلاقات الثنائيّة بين البلدين، إذ تتشابك فيه الأبعاد السّياسيّة والقانونيّة والإنسانيّة، ما يجعله “جرحًا مفتوحًا” يستدعي معالجةً فوريّة. وبين اللبنانيين المخفيين قسرًا في السجون السورية منذ عقود، والمعتقلين السوريين في السّجون اللّبنانيّة، تبرز أسئلة جوهرية حول تحقيق العدالة، أم أن الأمر لا يعدو كونه تصفية حسابات سياسية؟
تعود جذور التعقيد القانونيّ إلى الاتفاقيات القضائيّة المُبرمة بين لبنان وسوريا، والّتي تعود إلى عام 1951، حيث نصّت هذه الاتفاقيات على التعاون الأمنيّ والقضائيّ، بما في ذلك تبادل المعلومات وتسليم المطلوبين. ورغم الإضافات اللاحقة على هذه الاتفاقيات، إلّا أن تطبيقها ظلّ خاضعًا للاعتبارات السّياسيّة أكثر من الالتزامات القانونيّة. في ظلّ المتغيرات الأخيرة، يثور الجدل حول ما إذا كان لبنان ملزمًا بتسليم شخصيات سورية مطلوبة من النظام الجديد في دمشق، وفق هذه الاتفاقيات. فهل من واجب لبنان تسليم مطلوبين متهمين بجرائم حرب، أم أن له حق احتضانهم ومحاكمتهم محليًا وفق القوانين اللبنانية؟ وما هو تأثير هذا الأمر على السيادة اللبنانية والعلاقات الثنائية بين البلدين؟
المعتقلون السوريون في السّجون اللبنانية: بين الترحيل والعفو
على الجانب الآخر، يواجه لبنان تحديًا متعلقًا بالمعتقلين السّوريّين في سجونه، إذ تتصاعد أصوات تطالب بالإفراج عنهم أسوةً بالمعتقلين اللبنانيين في سوريا. وهنا يُشير صبلوح قائلًا: “ترجع جذور قضية المعتقلين السّوريّين في لبنان إلى السّنوات الأولى من الحرب السّوريّة، حيث وجد العديد من السوريين أنفسهم في لبنان إما كلاجئين أو كمعتقلين لأسباب مختلفة، من بينها المشاركة في الاحتجاجات ضدّ النظام السّوريّ أو الانخراط في أنشطةٍ معارضة، بما في ذلك تشكيل جماعات مسلحة أو المشاركة في النزاع الداخليّ”. يؤكد المحامي صبلوح أن الحكومة السّوريّة بدأت بإعداد قائمة بأسماء المعتقلين السوّريّين في لبنان، خصوصًا السّجناء السّياسيين وسجناء الرأي، وتشمل القائمة أيضًا أشخاصًا تمّ توقيفهم بسبب انضمامهم إلى قوى معارضة للنظام السّابق. بالإضافة إلى ذلك، تطالب السلطات السّوريّة بتسليم العديد من السجناء المحكومين بتهمٍ جنائيّة مختلفة. ويُقدّر عدد السّجناء السّوريين في لبنان بنحو 1700 إلى 1750 شخصا، غالبيتهم موقوفون على خلفياتٍ جنائيّة أو جزائية دون محاكمات، في حين يبلغ عدد معتقلي الرأي نحو 200 شخص.
من جانبها، تؤكد مصادر في إدارة العمليات العسكرية التابعة للحكومة الانتقاليّة السّوريّة أنّ العمل على هذا الملف قد بدأ فعليًا. وأشارت المصادر إلى أنّ رئيس الجمهوريّة الحالي، أحمد الشرع، أبلغ رئيس حكومة تصريف الأعمال اللّبنانيّة، نجيب ميقاتي، خلال زيارته الأخيرة إلى سوريا، بضرورة تسليم السّجناء السوريين. وأوضحت أن الاتفاقية القضائيّة الموقعة بين لبنان وسوريا ستُستخدم كإطارٍ قانونيّ لطلب التسليم رسميًّا عبر القنوات الدبلوماسيّة والقضائيّة. وبشأن أعداد المعتقلين، أكدّت المصادر أن عمليات الإحصاء لا تزال جارية، لكن التقديرات تشير إلى وجود أكثر من 1700 سجين، وفقًا لتقارير حقوقيّة.
جدلية استمرار اعتقال السوريين في لبنان
يشير صبلوح إلى أن السلطات اللبنانية تتعامل مع هذا الملف بسياسة المراوغة، حيث تواصل اعتقال السوريين بذريعة “الإرهاب”، رغم أنها رحّبت رسميًا بالإدارة العسكرية الجديدة في سوريا وتعاملت معها. ويطرح تساؤلًا حول ازدواجية المعايير، حيث يتم اتهام العديد من المعتقلين السوريين بالإرهاب فقط لدعمهم الثورة، في حين أن لبنان نفسه أبدى استعداده للتعاون مع القيادة الجديدة في سوريا.
ويضيف صبلوح أن هناك تناقضًا واضحًا في المواقف، إذ تُعتبر بعض الميليشيات التي قاتلت ضد النظام السوري “شهداء وأبطالًا” في لبنان، بينما تصنّفهم السلطات السورية كقتلة. ويشدد على ضرورة إيجاد صيغة قانونية لمعالجة هذا الملف. أما فيما يخص المعتقلين اللبنانيين المتهمين بدعم الثورة السورية (السجناء الإسلاميين)، فالأعداد كبيرة، وقد تم اعتقال معظمهم في مختلف المناطق اللبنانية. ويؤكد أن الحل يتطلب تعديل الاتفاقيات السابقة وسن قوانين جديدة على المستوى النيابي. ويختتم صبلوح بالإشارة إلى أن العديد من المعتقلين لم تتم محاكمتهم بعد، وهم قيد الاحتجاز الاحتياطي أو موقوفون لأسباب غير واضحة. كما أشار وزير الداخلية اللبناني إلى أن غالبية السّجناء السّورييّن يواجهون مشكلات قانونية بسبب افتقارهم إلى محامين يتابعون قضاياهم.
العدالة الانتقالية ومصير المفقودين
لا تزال عائلات اللبنانيين المختفين قسرًا في السجون السورية تطالب بكشف مصير أبنائها، بينما تواصل السلطات السورية التذرّع بالاتفاقيات الأمنية لتطالب بتسليم معتقلين سوريين في لبنان. أمام هذا الواقع، يبرز خيار تشكيل لجنة مشتركة بين البلدين، بمشاركة منظمات حقوقية دولية، بهدف التحقيق في مصير المختفين والمعتقلين، وتحديد المسؤوليات ضمن إطار العدالة الانتقالية. وإن التوصل إلى آلية للمحاسبة الشفافة، بعيدًا عن التوظيف السياسي، قد يساهم في طي صفحة الماضي، وتحقيق تقدم ملموس في العلاقات بين لبنان وسوريا، شريطة أن يكون هناك التزام جادّ من الجانبين بإحقاق العدالة، لا استخدامها كأداة للضغط السياسي. كما أن استكمال المسار القانوني في هذا الملف سيعزز ثقة المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية، ويفتح المجال أمام تعاون أوسع في مجال الإصلاحات القضائية وحقوق الإنسان.
المصالحة الثنائية ومآلات العلاقات المستقبلية
في أوّل خطاب له أمام البرلمان، شدّد الرئيس اللبناني، جوزيف عون، على ضرورة إطلاق حوار جاد لحل القضايا العالقة، وفي مقدمتها ترسيم الحدود البرية والبحرية، مشددًا على أهمية بناء علاقات متوازنة تخدم مصالح الشعبين بعيدًا عن الأجندات التي أرهقت البلدين لسنوات. لكن هذه الدعوات لا يمكن أن تكون كافية ما لم تُترجم إلى خطوات عملية تعيد صياغة العلاقة بين البلدين بطريقة تحترم سيادة لبنان وتحقق شراكة متكافئة.
إن إعادة النظر في هذه الاتفاقيات يجب ألا تكون مجرد خطوة رمزية، بل جزءًا من عملية إصلاحية شاملة تشمل جميع جوانب العلاقة اللبنانية-السورية. يجب على لبنان استثمار التغيرات السياسية في المنطقة للحصول على دعم عربي ودولي يساعده في إعادة ترتيب أولوياته الوطنية. كذلك، فإن تعزيز المؤسسات القانونية والدستورية سيكون عنصرًا أساسيًا لضمان أن أي اتفاق مستقبلي لن يكون مجرد امتداد لما فرضته ظروف تاريخية معينة. إن الطريق نحو علاقات طبيعية ومتوازنة بين لبنان وسوريا ما زال طويلًا ومعقدًا، لكنه ليس مستحيلًا. المطلوب اليوم هو رؤية سياسية جريئة تضع المصلحة الوطنية فوق أي حسابات أخرى، وتستفيد من الفرص المتاحة لتحقيق شراكة قائمة على العدالة والاحترام المتبادل.
تلفزيون سوريا
——————————-
مفاتيح المصالحة الروسية مع دمشق/ سمير صالحة
2025.02.01
كانت المقاتلات الروسية قبل نحو شهرين تواصل استهداف إدلب وجوارها دعما لنظام الأسد في السيطرة على هذه البقعة الجغرافية القريبة من الحدود التركية . هي كانت وبحسب الأوامر التي تتلقاها تهاجم آخر حصون ومواقع ” الإرهابيين والجهاديين والخارجين ” عن سلطة حليفها . اليوم يجلس أحمد الشرع لمحاورة الوفد الروسي الزائر برئاسة نائب وزير الخارجية والمبعوث الخاص للرئيس بوتين إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ميخائيل بوغدانوف وألكسندر لافرينتيف المبعوث الرئاسي للتسوية السورية، في لقاء تعارفي مباشر هو الأول من نوعه . هما يعرفان بعضهما بعضا عن بعد ، من خلال مئات الغارات والهجمات الروسية في مناطق نفوذ ” هيئة تحرير الشام ” في إدلب ومقار القيادة وغرف العمليات العسكرية من دون نجاحها في القضاء على الشرع .
خيوط اللعبة الإستراتيجية التي كان يمسك بها الكرملين ويحركها في سوريا قطعها ثوار سوريا فجر الثامن من كانون الأول المنصرم . ورقة موسكو الثمينة المتبقية بيدها في سوريا هي مقايضة الأسد بالقواعد العسكرية . لكن البداية في دمشق كانت سيئة جدا بسبب تصريح شيخ الدبلوماسية الروسية بوغدانوف وهو يقوم نتيجة للمحادثات ” البناءة والإيجابية ” وعند حديثه عن ” العلم السوري المعتمد حاليا والذي نفترض أنه لن يؤثر على الصداقة والتعاون وفق أسس المنافع المتبادلة بين روسيا وسوريا ” . هو يقدم مسألة تغيير العلم وينسى أن دماء السوريين كانت تنزف حتى الأمس القريب بسبب قنابل المقاتلات الروسية فوق رؤوسهم . وانهم يوفرون الحماية لبشار وأعوانه عندهم وأن النقاش ينبغي أن يشمل كما جاء في بيان دمشق حول الزيارة ” دعم روسيا للتغييرات الإيجابية الجارية حاليا في سوريا. وتسليط الضوء على دور روسيا في إعادة بناء الثقة مع الشعب السوري من خلال تدابير ملموسة مثل التعويضات وإعادة الإعمار والتعافي. و آليات العدالة الانتقالية التي تهدف إلى ضمان المساءلة وتحقيق العدالة لضحايا الحرب الوحشية التي شنها نظام الأسد. ومعالجة أخطاء الماضي ” .
يحاول البعض في موسكو الرهان على تصريحات الشرع حول أهمية التعاون مع الروس. و إن ” روسيا ثاني أقوى دولة في العالم، ولها أهمية كبيرة “، وأن لدمشق “مصالح استراتيجية مع موسكو” . وهناك عروض روسية تحدث عنها الوزير لافروف أكثر من مرة ، ” سوريا دولة صديقة بالنسبة لروسيا، لقد أسهمنا في تخلصها من التبعية الاستعمارية وإعداد عشرات الآلاف من الكوادر السورية ونحن على استعداد لمساعدتها في العملية الانتقالية بالبلاد في إطار مجلس الأمن، وكذلك في إطار رفع جهود الحوار الوطني والعمل جنباً إلى جنب مع الدول العربية “، لكن العواصم الغربية متشددة حيال الطرف الروسي ، وأوروبا تتمسك بشرط إغلاق القواعد العسكرية الروسية وإنهاء النفوذ الروسي أمام السواحل السورية ، قبل خطوة رفع العقوبات وزيادة مستوى الدعم لسوريا .
الثمن الواجب دفعه من قبل روسيا كبادرة حسن نية هو تسهيل عودة ملايين الدولارات التي نقلها النظام السابق لموسكو وتسليم الفارين وعلى رأسهم بشار الأسد والإعلان عن سياسة روسية جديدة في سوريا . خطوات بهذا الاتجاه قد تسهل جهود الوساطة التركية ربما .
في السياسة كل شيء ممكن ، والقيادة السورية الجديدة عند إكمال المرحلة الانتقالية قد تهادن مع موسكو . لكن المصالحة والتطبيع ليس موضوع الساعة . فهو في المرحلة الحالية مسألة بالغة التعقيد والصعوبة على المستوى الثنائي والإقليمي .
تُعد روسيا القوة العسكرية الرئيسية التي ساعدت نظام الأسد في البقاء على رأس السلطة واستعادة كثير من الأراضي التي كانت تحت سيطرة الثوار . كانت المفاوض الأقوى في الملف السوري والمؤثر الأكبر على رسم خارطة مستقبل سوريا . دخلت على خط الوساطة بين الأسد والعديد من العواصم العربية وكادت أن تنجح في ذلك لولا متغيرات أواخر تشرين الثاني المنصرم . كانت تعد نفسها للإمساك بمفاتيح الاقتصاد والإعمار وإعادة بناء سوريا الجديدة . فوجدت نفسها اليوم تلملم ما بعثرته سياستها وتفاوض دمشق الجديدة على تقديم تنازلات لحماية مصالحها في المتوسط .
استخدمت روسيا آلتها العسكرية لفرض مصالحها، حتى مطلع كانون الأول المنصرم . مع انهيار سياستها هناك بدأت تبحث عن عروض وحلول جديدة مع دمشق . لكن اللاعب الأميركي والأوروبي سيكون لها بالمرصاد .
تمثل القواعد العسكرية الروسية في سوريا أحد أعمدة الوجود الروسي في المنطقة، خصوصًا في البحر الأبيض المتوسط . لذلك ستحتاج موسكو إلى إيجاد توازن بين حماية مصالحها في سوريا وبين التعامل مع التحديات السياسية المعقدة على المستويين الإقليمي والدولي . من هنا ستكون أنقرة حذرة جدا وهي تقدم اقتراحاتها للحليف السوري الجديد حول شكل العلاقة المحتملة مع موسكو . فهناك أكثر من عامل محلي وإقليمي داخل لعبة التوازنات والمصالح يحدد الخيارات التركية حيال مسار ومستقبل علاقاتها بروسيا .
مفتاح تحرر الكرملين من ارتدادات سياسته السورية قد لا يكون في دمشق بل في أنقرة ولكن بقبول أميركي . والهدف هنا هو ليس الملف السوري بقدر ما سيكون معالجة الملفات الإقليمية الشائكة والمعقدة بين روسيا والغرب .
بقاء القواعد العسكرية الروسية في سوريا شأن سوري أولا وآخرا . لكن القيادة السياسية في دمشق ستأخذ بعين الاعتبار وهي ترسم سياساتها الإقليمية وتحسم موقفها ، الفرص الإستراتيجية السانحة وحسابات الربح والخسارة في بناء سوريا الجديدة .
كان التشدد الأميركي في رفض بقاء الأسد على رأس السلطة أحد أهم العوائق أمام موسكو في سوريا . كادت أن تنجح في إقناع واشنطن بقبول هذا الواقع بعد التحولات في مواقف كثير من العواصم . لكن مفاجأة أواخر تشرين الثاني خلطت الأوراق وبدلت أماكن جلوس الأطراف المؤثرة في الملف السوري . وهي مشكلة روسيا التي تواجه مشكلة تقديم كثير من التنازلات ليس لدمشق الجديدة وحدها بل للعواصم التي تمسكت بإسقاط نظام الأسد .
رحل الأسد الذي كان يطالب بانسحاب القوات التركية من شمالي سوريا . وأخذ معه الثقل والنفوذ الروسي . لكن موسكو التي أشركت تركيا في كل حوارات الملف السوري تنتظر من أنقرة رد الجميل ودخولها على خط الوساطة بينه وبين القيادة السياسية الجديدة في سوريا .
مسألة تسليم الأسد وملف الأموال المنقولة إلى روسيا تشكل جزءًا من الفضاء المعقد الذي تحاول موسكو التنقل فيه لتسجيل اختراق ما. لكن حسابات المصالحة مع سوريا في المرحلة الحالية مسعى معقد سيأخذ في الحسبان العديد من العوامل المحلية والإقليمية .
في هذا السياق، يمكن أن يتحول اللاعب التركي إلى المحرك المحوري في تسهيل التفاوض، لكن ذلك يعتمد على التغيرات في المواقف التي تطرأ على التعامل مع المشهد السوري أيضا .
ستسعى موسكو بالتأكيد للحفاظ على بعض مصالحها في سوريا، لكنها في أحسن الأحوال أمام وضع صعب ومعقد بين التمسك بورقة الأسد من جهة ، وبين محاولة فتح صفحة جديدة من العلاقات مع القيادة السورية الجديدة والمجتمع الدولي من جهة أخرى . فقدت موسكو قبل أسابيع وضعية الراعي السياسي والعسكري لمستقبل سوريا . وهي خسرت ثقلها السياسي والأمني والاقتصادي الكبير الذي كانت تعول عليه في سوريا . لم تعد المرجع الأساسي الذي ضمن حماية النظام لعقود ، وليست هي من يحدد شكل ومسار علاقة بعضهم مع سوريا بعد الان . هي أمام تحديات كبيرة، خصوصًا إذا ما قررت القيادة السورية في دمشق الإصغاء لما سيقوله الغرب .
تلفزيون سوريا
——————————-
تساؤلات عن طبيعة الدولة الجديدة: علمانية أم دينية؟/ أحمد عيشة
2025.02.01
اليوم، بعد مضي خمسين يوماً على خلاص سوريا من جلادها، عائلة الأسد البائسة التي خنقت البلاد طوال أربع وخمسين عاماً و23 يوماً، يكثر النقاش على وسائط التواصل الاجتماعي وفي الوسائل العامة الأخرى حول هوية أو طبيعة الدولة فيها وشكل نظام الحكم، هل ستكون دولة علمانية أم دينية (إسلامية)، وما هي طبيعة نظام الحكم ؟ تلك هي بعض الأسئلة التي تراود أذهان كثير من السوريين، مع أجوبة مختلفة. تبدو مثل هذه الأسئلة، وسط محاولة الخروج من النفق المرعب الذي كانت تعيش فيه، وكأنها تبتعد عن القضية أكثر أهمية، وهي الخلاص من الاستبداد والانتقال إلى الديمقراطية، فمن حق السوريين أن يعيشوا في ظل قانون عادل يحمي حرياتهم وخاصة حرية الرأي والتعبير وتشكيل الأحزاب والتجمعات والاحتجاج ضمن الأطر الديمقراطية بما يدفع بالبلاد نحو النهوض من الكارثة التي تعيشها سوريا اليوم، وبالتالي، ينبغي ألا يسمَح بأي شكل من الأشكال بالعودة إلى نمط استبدادي جديد تحت أي صيغة.
تحررت سوريا أخيرًا من جلادها، وبالنسبة للسوريين الذين تحملوا كثيراً من الظلم والاستعباد، سيكون من غير المعقول أن يتنازلوا عن أي من الحقوق الأساسية التي خرجوا إلى الشوارع من أجلها، وقدموا في سبيلها مئات الألوف من الشهداء ومثلهم من المعتقلين، وهي الحقوق المتمثلة بتأمين شروط حياة كريمة بما تشمله من حرية وتأمين فرص عيش وبناء قواعد نهوض حقيقية (مادية وثقافية)، لكن وسط تلك الظروف تركز بعض الأصوات والآراء على المطالبة بصيغة ما من العلمانية وحقوق الأقليات والنساء وتكريسها دستورياً، وبغض النظر عن أحقية تلك المطالب أم لا، يجعل منها الغرب لغاياته الخاصة اشتراطات لرفع العقوبات المفروضة على سوريا، والتعامل مع الإدارة الجديدة، بحيث تبدو أمام السوريين وكأنها “طلبات” غربية -استعمارية أكثر منها مطالب داخلية.
تتجه كل الأنظار إلى الحكومة الانتقالية الحالية لسماع أجوبة شافية وشفافة، حول طبيعة الدولة والنظام السياسي المقبل في البلاد، وهو حقّ، لكن ما يتم نسيانه أو تناسيه هو الظروف التي تعيشها البلاد، وهي في أسوأ حالاتها الاقتصادية حيث نهبها نظام الأسدية بالكامل، ناهيك عن هلاك البنى التحتية المتبقية وحجم الدمار الفظيع، والجراح والآلام المتولدة عن تحويلها إلى مقبرة وزنازين. ومن الطبيعي وفقاً لظروف التغيير التي سادت، وضداً لتلك المطالب، أن ترى قطاعات واسعة من المجتمع أن الوقت قد حان لتطبيق شكل من أشكال “الحكم الإسلامي”، خاصة أن تلك القطاعات قد عانت أكثر من غيرها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن سياسة العنف لحد الإبادة التي طبقها النظام بحق القطاعات الثائرة لن توّلد سوى المجال الديني لردعها والحماية منها، مما يخلق خندقة جديدة بين “علماني” و”ديني”، يمكن أن تأخذ البلاد إلى
مسار غير مرغوب، خاصة نتيجة لغياب الحوار والتفاهم وسيادة لغة الأيديولوجيا أكثر من المصالح والحقوق.
شكلت العلمانية بنسخها السائدة في الوطن العربي، بغض النظر عن نموذجها وتجلياتها في الغرب، إطاراً داعماً للاستبداد وترسيخاً للدكتاتوريات وقوة معادية للديمقراطية، وحتى الفترة الأخيرة، منذ سنوات، وظفت كقوة معادية للديمقراطية، فقد كانت “العلمانية” أحد الشعارات التي استخدمت ضد حكومة الرئيس محمد مرسي المنتخبة ديمقراطيًا في مصر، لإعادة الحكم العسكري، وكذلك الأمر في تونس لاحقاً، حيث أعيد البلدان لتجربة حكم أسوأ من السابق، وكان من ضحاياها أولئك الذين طالبوا بالعلمانية وحقوق المرأة وغيرها، هذه المطالب التي لن تتحقق إلا عند ترسيخ دولة مستقرة بمؤسسات وأحزاب ونقابات يمكن أن تشكل حماية لها وتعزيزاً لتجربة التشارك والديمقراطية، فشرط العلمانية هو الديمقراطية وليس العكس، والديمقراطية لن تقوم من دون دولة وقانون ومجتمع.
لا شك أن تناول سياسة النظام البائد من منظور أنه طائفي لا تكفي وحدها، فهناك مستويات عديدة، مثل الامتيازات والمصالح ناهيك عن الرعب المطبق، لكن يبقى التمييز الطائفي ركناً أساسياً في سياسته، فمنذ بداية الثورة وطوال سنواتها الأربع عشرة، كانت السلطات تلاحق المتظاهرين وتعتقلهم أينما كانوا، وسبق لها في الثمانينيات أن اعتقلت المعارضين من مختلف الطوائف، لكنها لم تقصف أحياء أو مناطق غير “سنية” بالأسلحة الثقيلة والبراميل والطائرات وحتى الكيمياوي، بل تخلصت من معارضيها بشكل فردي، في حين قصفت مناطق بأكملها وفي بعض الأحيان سوّتها بالأرض نتيجة لخروج المظاهرات فيها، واعتقلت كثيرين لمجرد انتمائهم الجغرافي، وهذا أمر يجب أخذه بالحسبان لفهم احتمالات المرحلة المقبلة، بما يعنيه أنه من حق مجتمع وأناس متدينين أن يأخذوا حقهم في تجربة الإدارة والسلطة من منظور ديني وثقافي، يقدم العدالة والمساواة كبديل عن صيغة الديمقراطية وحقوق الإنسان.
ولا بد، بناء على ما سبق، أن نتوقع أن الديمقراطية في بلد عربي وإسلامي ستكون حتمًا مختلفة عن النسخ الغربية، وقد تكون العدالة والمساواة، بمعنى تطبيق قانون واحد على الجميع من دون تمييز، أحد البدائل أو الصيغ الممكنة لتجربة جديدة في الحكم، فليس المهم الكلمة أو التوصيف، وإنما الممارسة أو السلوك الذي سيحكم الحياة السياسية، بمعنى الحق بضمان مشاركة الجميع في صياغة مستقبل بلادهم بالطريقة التي يحميها القانون، هذا الحق الذي يفرض المشاركة والانخراط في التجربة الجديدة، بعد التخلص من الميزان السياسي والأيديولوجي الذي حكم تجربة الحياة السياسية طوال قرن من الزمن، وهذا يستدعي نقد التجربة والانتقال نحو بدائل جديدة تجعل من مشاركة الناس والدفاع عن مصالحهم وفق الوقائع والممكنات، لا الاحتكام إلى قوالب ونماذج سابقة تقيّد حركة الوقائع فيها، فقد تخلصت البلاد من عقوبة
المشاركة السياسية كقتل، وأصبح الناس فاعلين في الحديث عن شؤونهم وتقريرها، وهذا جوهر السياسة والأمر المطلوب.
المخاوف المشروعة والحقيقية هي من فقدان الحريات التي نشهد بدايات لها في سوريا اليوم، التي تشمل التجمع والحوار والتظاهر والنقد وغيرها من الحريات الشخصية، التي ينبغي ألا تختَزل إلى فتح الحانات أو لباس المرأة، حيث تصبح أحد مقاييس الحرية (المثيرة للجدل والمبتذلة أحيانًا)، وبالتالي لا ينبغي أن يكون معيار الحكم على الحرية هو مدى علمانية أو إسلامية نظام الحكم، بل مدى ديمقراطيته أو استبداده. بعد عقود من الزمن، صارت العلمانية في الغرب مترادفة مع الحريات، أما في بلادنا، وسوريا على وجه الخصوص، فنظام الأسد كان يسمح بشرب الخمر وارتداء التنانير القصيرة ويزدري الحجاب، إلا أن علمانيته كانت استبدادية وطائفية، مما خلقت خطاباً مناهضاً للعلمانية كرد فعل على أشكال العلمانية الاستبدادية أو الغربية الملفحة بالاستعلاء.
في سورية الجديدة أيضًا، سيقرر الناس شكل العلاقة والتعامل في المسائل الاجتماعية والأيديولوجية، فالقسر في ذلك سيولد الرفض والمقاومة ليس فقط من “الطوائف والأقليات” كتعبير عن التعلق بالحرية، بل من غالبية الناس التواقين للحرية، الرفض لآليات القسر والإكراه التي خبروها وعانوا منها طويلاً، حتى لو كانت باسم الدين، وبالتالي فإن المهم والأساسي لسوريا أن تحكَم بطريقة ديمقراطية بعيدة عن الإكراه، أما أن تكون الدولة دينية أم علمانية، فهي مسألة للزمن ولتطور الوقائع ومدى مشاركة البشر في تقرير مصيرهم، لكن الأساس أن تؤسس الدولة وبطريقة تشاركية حرّة.
تلفزيون سوريا
——————————–
سوريا… العودة ممكنة: عن زيارة إلى دمشق والساحل السوري/ رولا أسد
تحديث 01 شباط 2025
“في اللحظة الذي تخطت قدمي اليمنى البوابة الحديدية، قلت وشعرت وشممت ورأيت أنني وصلت، هنا سوريا، أنا في سوريا. ركبت الباص وبدأت بالبكاء، بكاء التشافي من الغربة، بكاء أنّنا كنّا على حق”. هذا ما تقوله المديرة التنفيذية السابقة لشبكة الصحفيات السوريات رولا أسد، في هذا النص/ الشهادة عن زيارتها إلى سوريا التي غادرتها في أيلول/ سبتمبر ٢٠١١ ولم تعد إليها إلا في نهاية كانون الأول/ديسمبر ٢٠٢٤، لتواجه الماضي والحاضر، الأمل والخوف، والخوف ليس مما يحمله المستقبل فحسب، بل أيضًا مما يذكّر به اسم كنيتها الذي يتشابه مع كنية العائلة التي لم يصدّق بعد السوريين/ات أنهم/ن تخلّصوا منها وإلى الأبد.
أوّل مرة شعرت بأنني قد غادرت، كان في أيلول/ سبتمبر ٢٠١١، ولأوّل مرّة أشعر بأنّني أعود إلى دمشق، كان في شتاء عام ٢٠٢٤ بعد هروب رأس النظام السوري الطاغي بشار الأسد في ٨ كانون الأول/ ديسمبر إلى موسكو. لن أقول سقوط الأسد، لأن الأسد لم يسقط وإنّما هرب، تاركًا البلد لصفقةٍ مع هيئة تحرير الشام المسلّحة، بينما نحن الشعب ما زلنا نتلمّس أطراف هذه الصفقة من تسريباتٍ تركيّةٍ وتحرّكاتٍ قطرية، نتلمّس الواقع الذي يمهّد الطريق للمستقبل من خلال ظهور قائد هيئة الشام وتصريحاته أحمد الشرع. ولكن التصريح الذي لربما كنا نتأمّل أن يأتي متأخرًا قليلًا حتى لا يفسد فرحتنا بهروب الطاغية، كان التصريح الناري للمتحدّث الرسمي باسم الإدارة السياسية التابعة لإدارة العمليات العسكرية عبيدة أرناؤوط، حين قال: “كينونة المرأة وطبيعتها البيولوجية والنفسية لا تتناسب مع كل الوظائف كوزارة الدفاع مثلًا”.
أوظّب حقيبة سفري وأتفكّر في كينونتي كامرأة وأُعيد النظر في كلِّ قطعة ملابس أضعها في الحقيبة: هل هذه القطعة مناسبة؟ هل هي ملوّنة بحيث تلفت النظر؟ أنتبه إلى أنّ الملابس لها حل وليست المشكلة، انتبه لشكلي غير الثنائي، شعري القصير جداً والحلق في أنفي وهيئتي بشكل عام، أبدأ بإعداد الخطط، هل عليّ ارتداء قبعة طول الوقت؟ هل أزيل الحلق عن أنفي؟ هل أبالغ في مظهري الأنثوي؟ للحقيقة نسيت كيف أفعل ذلك.
كتبت هذه السطور وأنا لا أزال في بيتي في أمستردام قبل يومين من السفر، أحاول لملمة مشاعري، وأفكاري، وذكرياتي، أحاول كتابة قائمة بالأماكن التي أريد أن أمشي فيها، والأصدقاء والمعارف اللواتي لم يغادرن قط، من بقي هناك! من سألتقي صدفة في الطريق؟ مع من سيكون أوّل فنجان قهوة وحديث نسوي من دمشق؟
الطريق حدود
تصدح اللهجات السورية في الطائرة المتجهة من إسطنبول إلى عمان، يتململ الشباب من أيّ دقيقة تأخير. يُطلقون النكات هنا وهناك فرحًا ولتخفيف بعض من التوتّر. لحظة إقلاع الطائرة صاح أحدهم “تشبثوا يا شباب”. ضحكت كما ضحك كثيرون معًا، مسترجعين إحدى المسلسلات الدرامية السورية. لم أتمكّن من النوم. المشاعر الجياشة منعتني من الاسترخاء قليلًا، فرحت أتابع حديث المجموعة القريبة مني. بدأ شاب بالحديث عن العلمانية وشتم من يطالب بها، قائلاً “يا زلمة قال فلانة بدها علمانية ولسه دموع أمهات الشهداء ما نشفت، ما بيستحوا؟!”.
أردت أن أتدخل، أردت أن أقول له إنّ العلمانية لا تستهتر بدموع الأمهات، بل تحترمها، ولا تستخدمها لمكاسب سياسية، أردت أن اقتحم النقاش وأقول ما دخل علمانية الدولة بدموع الأمهات! لكني صمتت وحاولت تشتيت ذهني بإغلاق عينيّ، متخيّلة لحظة وصولي إلى دمشق. الطريق إلى دمشق كان طويلًا ومكلفًا. توجّب عليّ التوقف في عمان، ودفع ثمن التأشيرة مرّتين كما نصحتني صديقة لي سبقتني إلى سوريا، مرّة لدخولها من المطار ومرّة
مالُ الأزمات سريعٌ، مبتكرٌ ومكرّر. في عمان حين سألت عن سيارة أجرة من عمان إلى دمشق، كان الجواب الأوّل ٢٠٠ دولار أمريكي، ثمّ بدأ الجواب يتكرّر ب ١٠٠ دولار. بدأت أعيد حساباتي، عليّ أن أقتصد قدر المستطاع حتى أتمكّن من تقديم شيء لاحقًا لعائلتي مع تأخر رواتب البعض وخوفهم/ن من خسارة وظائفهنّ. فكّرت أنّ خيار الحافلة متاح. ليس بسرعة سيارة الأجرة، لكنه أرخص. ألجأ لرفيقاتي في عمان للاستفسار عمّا هو متاح، تتكفّل صديقتي كعادتها بفتح الخيارات أمامي.
نسأل في مكاتب السفريات في عمّان عن طريق للشام، وأكتشف أنّ خيار ٢٠٠ و١٠٠ دولار أمريكي هو سرقة لحاجة الآخر بالوصول إلى مكانٍ حلموا به لسنوات. يبدو أنّ الطريقة القديمة لاتزال متاحة، أي طريق عمان دمشق، أربع ركاب، كلّ راكب ٥٠ دينار أردني ما يعادل ٧٠ دولار أمريكي. تقول صديقتي كنّا نذهب إلى دمشق ب ٢٠ دينار أردني، أجد هذا الخيار معقولًا. يقول صاحب مكتب السفريات “بكرا سفرتين ع السبعة أو التسعة الصبح”. تتسارع دقات قلبي وأشعر أنّ ما كان حلمًا يقترب. نسأل مكتب بجانبه للاستعلام ويجيب أنّ الوضع ذاته مع اختلاف صغير، هو أنّ الانطلاق قد يكون بعد الظهر. أقول لصديقتي “ربّما أفضل هذا الخيار”. أجد نفسي متردّدة وأهرب من بدء آخر مسافة تفصلني عن دمشق، أشعر بصدري يثقل وترتفع دقات قلبي؛ إنه القلق، أعرفه جدًا، أخفّف عن نفسي بابتسامة وأقول لصديقتي، لأعرف لماذا أؤجل الانطلاق: “خلاص بكرا الساعة ٩ عالشام”.
استيقظت باكراً، أنتظر أن تصبح الساعة التاسعة صباحًا، صديقتي التي أغرقتني بكرمها وضيافتها جعلت من ساعاتِ الانتظار صبحية لطيفة مع كأس متة. حان وقت الانطلاق، تلعثم السائق ليغادر عمان لأنه كان بحاجة لراكب ثالث بالإضافة لي وشاب. كان يكرّر متحدّثًا مع نفسه ويحاول إسماعنا “لتكون هذه السفرة جايبة همها لسه بدي راكب، والله بكره يوم السبت، ما في حدا يا زلمة”. دخنا وهو يدور بنا من مكتب سفر إلى مكتب سفر يسأل زملائه عن راكب، لو لم أكن قد تعلمت الصبر في سنوات غربتي لصرخت في وجهه غضبًا من تأفّفه وتوترّه وإطالة عمر الرحلة. هدأتُ وحاولت أن أفكّر “دعي كلّ شيء ليكون”. قرّر الانطلاق وبدأت اتصالات تنسيق المبادلة مع سيارة أجرة أخرى من الحدود السورية.
حتى تاريخ ٢٧ كانون الأول /ديسمبر، لم يكن مسموحًا للسيارات الأردنية بمغادرة الأردن بقرار حكومي، وحتى حملة الجنسيات الأردنية لم يُسمح لهم/ن بدخول سوريا، حتى لو كانوا/ن من أصول سورية. أمّا السوريات/ون الذين غادروا/ن خُتِم لهم/ن ب “عدم عودة”.
بالعودة لعملية المبادلة، شعرت وكأنها تحمل معنى أثقل من كونها أمرًا لوجستيًا وحلًّا عمليًا تمّ خلقه لجعل عمل مكاتب السفريات في البلدين يستمر ولجعل سفر الناس ممكن، خاصة أنّ سائقي السفريات هذه يجعلون الأمر في بالغ الأهمية وكأنها عملية تهريب.
يمرّ الوقت ونصل الحدود الأردنية وتأتي اللحظة التي أقول لنفسي “لحسن حظي أني احتفظت بهويتي السورية وحملتها معي”، إذ لم يكن ليُسمح لي بدخول سوريا باستخدام جواز السفر الهولندي فقط. انتهت إجراءات الجانب الأردني من ختم الجوازات وتفتيش الحقائب وانتظار الشاب الذي كان معي لمدّة ساعة بسبب أوراقه والتدقيق فيها، وقبل وصولنا منطقة “No man’s land” أي المنطقة المحايدة بين الحدود، وصلنا خبر أنّ سائق سيارة الأجرة الذي سيقلنا إلى دمشق سيتأخر بسبب حادث! ولسببٍ ما، كان لابدّ من تبديل السيارة بسيار أخرى، وهذا يعني أنّ عليّ حمل ونقل ورفع حقيبة سفري الثقيلة بالهدايا عدّة مرات. أقول متمتمة “تعبت يالله، بدي أوصل”.
قبل دخول سوريا، شرح لنا السائق أنّ حافلات للصليب الأحمر ستنقلنا من هنا إلى الحدود السورية. لم أعد أسمع شيئًا من اللحظة التي بدأت الأرض السورية تقترب، وفي اللحظة الذي تخطت قدمي اليمنى البوابة الحديدية، قلت وشعرت وشممت ورأيت أنني “وصلت، هنا سوريا، أنا في سوريا”. ركبت الباص وبدأت بالبكاء، بكاء التشافي من الغربة، بكاء أنّنا كنّا على حق.
حين وصلنا الحدود السورية لفت نظرنا جميعا أوّل تغيّر، العلم القديم الجديد يرفرف مرحّبًا، وعند مكتب ختم الجوازات بدأ عقلي الصحفي بالعمل والتنبّه لأقل الحركات والكلمات والتعابير. أحاول البحث عن شيء، ثم وقفت وذكّرت نفسي “دعي كل شيء ليكون”. كانت عملية ختم الجواز سلسة رغم توجّسي من أيّ تصعيد بسبب اسم عائلتي وتشابهها مع اسم عائلة الطاغية. عناصر الهيئة يحاولون تولي الأمور بتنظيم دور ختم الجوازات، دَور سيارات الأجرة، وما إلى ذلك من أمورٍ لوجستية بسيطة. يحاول شباب الهيئة ترتيب انطلاق سيارات الأجرة ويحاولون شرح الأجرة المتوقّعة تفادياً للاستغلال. يفضّل الحديث مع الشاب الذي اتفقت معه أن نكمل الطريق لدمشق، لم يسأل من هذا الشخص بالنسبة لي، يكفي أنه رجل ليتحدّث معه ويتجاهلني. رتبنا أمر السيارة إلى دمشق وركبنا، وفي نقطة التحقّق مرّة أخرى من الأوراق والركاب، انتبه عنصر لهيئتي وابتسم، ابتسامة بين الاستغراب والتنمّر، أخفى ضحكته ووشوش صديقه لينتبه لي في المعقد الخلفي. بقيت أراقب المشهد بصمت، وفكرت “آه، بلشنا أول لرقص حنجلة”.
الطريق إلى دمشق
سائق من درعا بدأ بتعريفنا نحن الركاب على سوريا، بنقاط علّام على الطريق. يقول “أحقر حاجز للنظام البائد” كان هنا. يشتم تلك الأيام، ويشتم حافظ وبشار لِما فعلوه بالبلد، ويستمر في سرد القصص حول استغلال الحواجز سابقًا لسائقي سيارات الأجرة. أراقب الطريق وأبتسم كلّما شاهدت جداريات وصور بشار مشوّهة، مهشّمة، مكتوب فوقها عبارات تحرير أو شتائم، وأجد أنّ الطريق أوسع بعد تنظيفه من تماثيل الأب القامع.
نصل منطقة البرامكة في دمشق، ثم أجري لوحدي من سيارة الأجرة لتصريف بعض المال وشراء بطاقة هاتف محلية “سيريا تيل” كما نصحتني صديقتي “أنها أفضل هذه الأيّام”. منطقة المرجة مُكتظة ومزدحمة كعادتها وصرّافي العملات منتشرين في الطرقات. حمل كيس أسود صغير وثقيل يعني أنّ الشخص صرف للتو مبلغ من المال، كم الأوراق المالية السورية مقابل تصريف ١٠٠ دولا أمريكي كان مفاجئًا لي. أدردش قليلاً مع السائق ويستوقفني قوله عن انفراج الأحوال قليلًا “قبل ٨ الشهر (كانون الأول هروب بشار الأسد) كانت الطبخة تختارنا، هلق صرنا نختار شو ناكل”.
أصلُ إلى ساحة السبع بحرات وأنتظر صديقتي التي سأبقى عندها فترة تواجدي في دمشق، في مقهى جديد يطلّ على الساحة التي يقع فيها بنك سوريا المركزي. أتذكّر أنّه في اليوم التالي لهروب الأسد، دخل بعض الرجال إلى البنك المركزي وسرق بعضهم المال. تدخل لواء مقاتلين من درعا لحماية البنك وتمّ إلقاء القبض على الآخرين. في المقهى أطلب فنجان سحلب وأنظر حولي، لأجد على طاولة بجانبي مجموعة شباب، يبدو أنهم من الهيئة، يمكن تمييزهم من اللهجة الإدلبية، وأيضًا من لباسهم الغامق الألوان والبنطلونات ذات الجِيب الجانبية وطريقة وضع الشال على الرأس. تأتي صديقتي، ونبارك لبعضنا وأقول لها “أنا سنية في احتفالي، طلبت سحلب لكي أُبيّض أوّل يوم لي في دمشق”.
أمشي وأمشي في شوارع دمشق، تضج أغنية فيروز في رأسي ويتكرّر ذات المقطع “خايفة أكبر بهالغربة وماتعرفني بلادي”. أكرّر لنفسي “غربتي ومنفاي انتهيا، وأنا هنا في دمشق. أمشي من شارع العابد إلى الشعلان، ثم إلى البحصة لأقطع سوق الحرامية إلى الحميدية متجهةً إلى مدحت باشا وباب شرقي ومنها إلى باب توما. أسترخي وأقول بلادي تعرفني ولأقدامي ذاكرة المكان.
(سوق الحميدية في دمشق. تصوير رولا أسد/ خاص حكاية ما انحكت)
تُمطر في دمشق، أضع قبعتي على رأسي وأرفع شالي ليغطي أنفاسي. تختفي معالمي وراء الألوان الداكنة، السترة السوداء الفضفاضة والبنطال ذو الجيب الجانبي يجعل من الصعب تمييز جنسي. فجأة أسمع سيّدة تقول لي “الله يخليلنا ياكون يا شباب”، أندهش وابتسم “الخالة فكرتني هيئة”. تكرّر هذا عدّة مرات في اليوم الأوّل لي في دمشق.
رائحة البلد
تُكثّف رائحة الدخان والتدخين والمازوت الأجواء في الشوارع. قهوة الروضة تصبح مركز المركز للعائدات والعائدين، الأجواء هناك استثنائية؛ الأغاني الثورية من “جنة يا وطنا” بصوت الساروت، “عالهودلاك ” بصوت وصفي معصراني، إلى الاشتعال الحركي المتكرّر كلّما صدحت أغنية “يلعن روحك يا حافظ”، حيث يهبّ من تحمّس للغناء والرقص بصوت عالي والباقي يراقب ويدندن، ثم نعود لما كنا عليه من الأحاديث السياسية والحياتية، وتصريحات “حكام سوريا الجدد”، خاصة هذه المرّة تصريحات مديرة مكتب شؤون المرأة في الإدارة السورية الجديدة عائشة الدبس “…لكنني لن أفتح المجال لمن يختلف معي بالفكر.. عانينا من المنظمات التي كانت لها أجندات مضرة بأطفالنا ونسائنا، إذ كانت تقدم برامج غير ملائمة نتج عنها نتائج كارثية”.
مرّ هذا التصريح في دمشق سريعاً بين سخرية وعدم أخذ التصريح على محمل الجد. حاولت مع بعض الصديقات فكفكة هذا التصريح، وعدنا بالذاكرة إلى ما شاركته معنا صديقات من إدلب عن معاناتهن من قمع هيئة تحرير الشام الممنهج، الذي لم يأت دفعة واحدة ولكن تمّ بناؤه رويداً بين إعطاء خيار الخضوع لقوانينهم أو بالترهيب والعنف.الانغماس اليومي في الهم المعيشي يجعل كلّ شيء آخر أقل أهمية، خاصة لِمن بقين وبقوا في سوريا؛ قلّة الكهرباء تجعل الأولويات اليومية واضحة، من غسيل، واستحمام، وشحن الهاتف والكومبيوتر ..إلخ. عشت هذا الهم لعشرة أيّام فقط ولم أتمكّن من تجاوز فكرة كم الوقت الضائع على اللوجستيات اليومية، لكني فهمت كيف جعل نظام الأسد الناس في حال إلهاء مستمرّة، يحاولون العيش والبقاء على قيد الحياة، في ظل البرد الشديد والجوع.
كلّ شيء كان يحدث في نفس الوقت خلال هذه الفترة في دمشق، الوقفات الاحتجاجية والتضامنية، وجلسات حوارية، ومظاهرات. العطش للتواجد في الفضاء العام، والعجلة في التنظيم أفقدت بعض هذه الوقفات فرصة حشد الناس بطريقة مناسبة. وكانت وقفات للتضامن مع اللاجئين واللاجئات والاحتجاج أمام وزارة التربية بعد إعلان تعديلات على المناهج الدراسية قليلة العدد وهزيلة.
سمعت أنّ وزارة الإعلام بدأت بإعطاء تصاريح صحفية، قلت لصديقة صحفية أرغب باختبار العملية، دخلنا الوزارة المهملة وكأنّ عملية نهب حصلت فيها للتو. الطابق الأوّل غارق تقريبًا بالمياه المتسرّب من السقف، الجدران مهترئة، الدرج وسخ ومتكسّر ورائحة رطوبة شديدة تفوح في المكان.
ندخل مكتب التصاريح، في الغرفة الخارجية من المكتب. يجلس بعض الرجال، يسألني أحدهم ماذا أريد ويطلب مني أن أجلس. أقدّم نفسي كصحفية مستقلة لعدّة جهات وأحمل بطاقة صحفية إلكترونية هولندية باعتباري عضوّة في الاتحاد الصحفي الهولندي. حين سمع اسم عائلتي (أسد) جفل وجهه. رجل آخر كان بجانبه، لا أعرفه، يسألني منتظرًا التأكيد: سنية؟ أردّ: علوية. يطلب مني الشخص الأوّل نموذج لأعمالي. أرسله له على الواتسآب بعد مشاركة رقمه. أفكرّ: هل لدي خيار آخر؟ وهل تقع الخصوصية عند الحاجة؟ وهل مشاركة أرقام الهاتف الشخصي بهذه البساطة؟ هل هذا هو طريق جديد للرقابة؟ أفكر: ماذا أشارك معه؟ قرّرت مشاركة مادة كنت كتبها ونشرتها لاحقًا وقت دراستي الماجستير عن السلاح الروسي المُستخدم ضدّ المدنيين في إدلب. أردت أن أوجّه رسالة مبطّنة له أنني لست كلّ ما تفكّر به سياسيًا. وضّح لي أنّ تصريح الأفرع الأمنية يحتاج معاملة خاصة بسبب الفوضى التي حصلت بدخول من شاء للأفرع ومحاولة شاب سرقة قرص صلب “هارد ديسك” قبل يومين (تطن في رأسي جملة “ألم يكن ذلك جزء من مسرحية التحرير!”)، لذلك تتطلب زيارة الأفرع الأمنية التنسيق عبر الهاتف مع شباب الهيئة، حرّاس الفرع المعني. لأخذ التصريح العام توجّب عليّ التوجه إلى مكتب آخر.
وصلت إلى مكتب مليء بالصحفيين والصحفيات، الكل ينتظر التصاريح لتُوقّع من الوزير. أتقدّم، أعطي اسمي وأقول إنني أرغب بتصريح لتغطية عملي في دمشق واللاذقية وجبلة، تتغيّر الحالة في الغرفة. بشيء من الدهشة، يتفضّل أحدهم ويقول “أنت من الأسد الأسد” وآخر “الله يعينك على هالاسم، غيريه، شغلتها بسيطة بهولندا”. أقول له “لا حرج علي في هولندا وإنما هنا المشكلة”. يضحك بريبة وأكمل ضحكتي باصطناع. تتناثر في الغرفة مجاملات موجهة للموظف وأسئلة عشوائية في محاولة لفهم كيف ستعمل الوزارة، عن التصاريح، وهل ستبقى ورقية أم إلكترونية. في النهاية أحصل على ترخيص مدّته ثلاثة أيام فيما يحصل الغالبية على تصريح مدته خمسة عشر يومًا.
منحي تصريح لمدّة ثلاثة أيام فقط هو قرار طائفي تميزي وتضييق لمساحة عملي الصحفي، مرده غالبًا إلى رغبتي في الذهاب إلى الساحل السوري ذي الأغلبية العلوية، حيث تحدث الإعدامات الميدانية واصطياد بعض الشباب الذين كانوا في الجيش بغضّ النظر عن تسويتهم لأوضاعهم العسكرية كما سأعلم لاحقًا عند زيارة عائلتي في مدينة جبلة.
لازلت في دمشق، واليوم هو يوم رأس السنة، يوم لن يتكرّر في حياتي. بدأت يومي مع صديقي محمد بدران المقيم في أمستردام، بتناول بعض المعجنات من الشعلان وقهوة في “قهوة مزبوطة”. محمد عائد لأوّل مرّة إلى بيته في مخيم اليرموك. رافقته فضولًا ودعمًا له، وشوقًا للمخيّم الذي تربطني به ذكريات مع بعض الصديقات.
أراد محمد تذكّر الطريق إلى بيته بعد غياب اثني عشر عامًا. مشينا من بداية المخيّم ومحمد يروي لي قصصًا عن طفولته، والدمار على مرمى النظر. مشهد محزن وقاس، الأبنية المحروقة والمُفجّرة، المركبات العسكرية والمدنية المدمرة، شوارع كاملة لا أحد يسكنها، نصل إلى جامع الوسيم، تبدو الدهشة بادية على صديقي، يقول “الشارع لبيتي ورا، لم أعرف كيف أصل لبيتي”. أخفّف عنه وأقول “لم يبق معالم واقفة حتى تتذكر”.
أُنهي الزيارة، وأذهب مع صديقتي إلى فرع الخطيب الأمني، كانت معتقلة هناك وترغب بزيارة المكان للاستشفاء والتشفّي كما أعتقد. أستخدم التصريح إياه لإبرازه للضابط. يستغرب من قصر مدته هو أيضًا. يُسمح لنا بالدخول، ويرافقنا حارس من الهيئة. صديقتي تبحث عن زنزانتها وأنا معها أصوّرها، لا ضوء طبيعي ولا كهرباء والعتمة جزء من هذا المكان. باستخدام إضاءة الهواتف المحمولة تتمكّن صديقتي من تذكّر زنزانتها. تأخذ وقتها بالجلوس أرضًا وتحاول استيعاب التجربة السابقة والحالية، انشغل بتصوير ما يمكنني تصويره. لم أستطع مقاومة أن أصوّر كلّ هذا القبح والقيء، والمنفردات، والجدران، وكاميرات المراقبة، وغرفة الملفات التي رُمي فيها كلّ شيء، هنا بعض من صور ذاك المكان، كي لا ننسى وكي لا نسمح بإعادة إنتاج هذه السجون والأقبية والأفرع.
خرجنا من فرع الخطيب، وكلّ ما أريده أن أكون في ساحة عامة، أذهب إلى ساحة الأمويين وأرفع لافتة “تحية لكلّ الصحفيات السوريات من قلب دمشق”. أشعر بالرضا والفخر أنني كنت على الجانب المحقّ من العمل الصحفي، أردت أن أملك الفضاء العام، ولو للحظة لي ولكل زميلاتي الصحفيات، أردت أن يرانا العالم ويعترف بجهودنا كصحفيات على مدى سنوات الثورة والحرب.
المديرة التنفيذية لشبكة الصحفيات السوريات رولا أسد تحيى الصحفيات السوريات من ساحة الأمويين في دمشق/ خاص حكاية ما انحكت)
تقترح صديقتي أن نقوم بمظاهرة “طيارة” أي قصيرة بعد منتصف الليل، لاستقبال العام الجديد بروح ثورية وحنينًا لأيّام المظاهرات الطيّارة. تجتمع الناس في منطقة وسط بين فندقي أمية وفندق الشام حيث يسهر أغلب الأصدقاء والمعارف، ونبدأ بالهتاف “واحد واحد الشعب السوري واحد”، “ما في للأبد عاشت سوريا وسقط الأسد”. يتحمّس أحد شباب الهيئة القريب من المظاهرة ويطلق رصاص حي في الهواء. لا نفهم.. ننحني أرضًا لنفهم الرصاص، هل هو احتفالي أم تفريق للمظاهرة؟ سريعًا تعود الهتافات وأصوات من هنا وهناك “لا تخافوا”. لكن بدأ الأصدقاء أيضًا بتكرار “فركش” أي انتهت المظاهرة، ولكن المظاهرة كبرت واقترب عدد أكبر للتظاهر وشاركت السيارات العابرة بالزمامير، لا رغبة في الخروج من الشارع، الكلُّ في تلك الحظة يريدون الفضاء العام، يريدون حرية التظاهر والغناء.
الساحل بعد غياب
أصل بيت أهلي بعد غياب ثلاثة عشر عامًا. أحضن بقوّة وحب أختي الكبيرة، أمي وأبي، وتسعة عشر شخصًا آخر من عائلتي، متلهفون لسماع أخباري وأسئلة كثيرة لي أنا الصحفية المعارضة لنظام الأسد حول مستقبل البلاد. أرتبك لأن لا جواب لديّ ولا أحمل لهم أيّة تطمينات مع تصاعد أعمال العنف في الساحل السوري.
أحاول فقط أن أشرح لهم بعض الأحداث التي اكتشفت أنهم لم يسمعوا بها قط أو أنّ رواية النظام الرسمية لها كانت كاذبة كالهجوم الكيماوي على الغوطة الشرقية، تدمير شبه كامل لحمص وإدلب، أعرض لهم بعض الصور من هاتفي لزيارتي لمخيّم اليرموك وفرع الخطيب.
أرى الدهشة على وجوههم ثم يعود الخوف من المستقبل القريب، لا أرى صور لأخي “الشهيد”، الذي أُجبر في العام ٢٠١٢ على الانضمام للجيش وقتل برصاص قناص في دمشق ٢٠١٣. تقول أختي باكية “لقد دفنت أخي مرتين، حين موته وحين انتزاع صورته من الحائط. نخاف بعد القرار الأخير بتسمية شهداء الجيش قتلى، أن يُستفزوا إذا ما فتشوا البيوت ولاحظوا الصور”. أسكت طويلًا، لا شيء يُقال في تلك اللحظة، وأخاف من فكرة أنّ التاريخ سيُعيد نفسه وأنّ المقموع سيصبح قامعًا ويغالي من قمعه.
حسّي الصحفي يدفعني لفهم عمليه التسوية وهويات الانشقاق التي وجد فيها شباب الساحل بعضًا من الذّل، حجتهم أنهم كانوا جزءًا من جيش الدولة فلماذا ينشقون عنه؟! بالنسبة لي، لم تكن كلمة انشقاق ذّل، كانت دلالة لبدايات الثورة. أتذكر كلّ الفيديوهات الرائعة، حين كانت تقف مجموعات من الجيش أمام الكاميرات ليعلنوا انشقاقهم. مرّة أخرى أحاول شرح البعض من تاريخ سوريا الحديث الذي غُيّب وزوّر من قبل نظام الأسد.
أذهب إلى مركز التسوية مع تصريحي الصحفي المنتهية صلاحيته. سمحوا لي بدخول المركز ومقابلة الضابط المسؤول عن عملية تسليم السلاح. الغرفة مليئة بالسلاح. خلال تسجيل المقابلة، دخل شخص بيده قنبلتين ليضعهما على الطاولة. أفكّر هل ستنفجر الغرفة بنا! أكمل عملي متظاهرة بالتركيز، وهنا مقابلة قصيرة مع الضابط واصفًا العملية من وجهة نظر الهيئة في مدينة جبلة.
الثقة غير موجودة، هذا ما لمسته. رغم تطوّع العديد من شباب الساحل بتسليم أسلحتهم، يبدو أنه لا ثقة في أنّ هذه العملية تسري على كلّ المناطق في سوريا. الكلّ متوّجس من الكلّ حتى تلك اللحظة وعمليات القتل الفردية لا تزال مستمرة، وتصريح القيادة العامة عن “أنها أعمال فردية” تعيد للذاكرة تصريحات النظام البائد عندما كانت تحدث أعمال عنف لم يرغب بتبنيها بأنها “أخطاء فردية”. أصمت، وأخاف من فكرة أنّ التاريخ سيعيد نفسه.
أعود إلى دمشق، وأذهب مباشرة لحضور حفلة كورال غاردينيا. تتحوّل حفلات الكورال إلى ملتقى للأحباب والغياب، للعناق، للضحكات والبكاء والاندهاش. تسحرنا الأغاني المنتقاة ونبكي بكاء جماعيًا لكلّ الشهداء، الغناء والبكاء لحظتها أقرب للتعافي الجمعي والاعتراف بالوجع العام، خاصة حين غنى الكورال أغنية لعبد الباسط الساروت “يا يما بثوب جديد زفيني جيت شهيد”. يأخذنا غناء المجموعة لعوالم مختلفة ولمشاعر متضاربة من الفرح والغضب والحنين، ويرجعنا للواقع لسوريا بأغنية “عالهودلاك” ولفلسطين الحبيبة بأغنية “يا طالعين على الجبل”:
آتي لليوم الأخير لي في دمشق، أريد أن أشبع من كلّ شيء، من السماء، من رائحة الهواء العبقة بالمازوت، من الأحاديث العابرة مع سائقي حافلات الأجرة، من نظرات المُشاة لي المستغربة والمبتسمة، من الأكل اللذيذ، من وجودي الفيزيائي في شوارع الشام.
في آخر يوم من هذه الزيارة يتحقّق حلم طال انتظاره ثلاثة عشر عامًا، أن نجلس، صحفيات من عدّة أنحاء من سوريا سوية لنناقش تجربة العمل الصحفي من وجهة نظرنا بشكل سياقي. تمتلئ قاعة مركز نيسان في جرمانا بالضيوف، أفرح وتمتلئ عيني بالدموع، ويرجف قلبي حين أرحّب بالجميع باسم شبكة الصحفيات السوريات، وأخوض نقاشًا مع ضيفاتي، كان من أهم ما خضت وسمعت على مدار عقد من الزمن.
(ندوة لشبكة الصحفيات السوريات في قاعة مركز نيسان في جرمانا في ريف دمشق/ خاص حكاية ما انحكت)
أعود لأمستردام ولا زلت في حالة دهشة، أحاول استيعاب التجربة، وأكرّر أنّ العودة إلى سوريا ممكنة، أن لي وطنًا اليوم، وأنني لست مضطرة لتقبّل واقعي في الغربة، لقد أصبحت الغربة خيارًا، حتى لو أنّ هذا الشعور مؤقت لكنه حقيقي.
حكاية ما انحكت
—————————————-
ملاحظات
Majid Albunni
في سوريا، تنوّع اثني عظيم ومدارس فكرية أصيلة واختلاف فردي غزير، سوريا فيها الاسلام والمسيحية وما يتفرّع عنهما. ففيها السني والعلوي والاسماعيلي والمرشدي والشيعي، وفيها السلفي التنظيري والسلفي الجهادي، والأشعري، والمرتجئة، والصوفي والإخوان وغيرهم، وفيها المسيحية الأرثودكس، والكنيسة الأرمنية، والكاثوليك والسيريانية والمارونية وغيرهم. وفيها الاسلامي السياسي، والليبرالي الاسلامي، والليبرالي الغربي، والشيوعي، والاشتراكي، والقومي، والواقعي التعددي، وغيرهم. وفيها الكردي والدرزي وما بينهما، وفيها من يريد الحكم الديمقراطي، والحكم الإسلامي او المستمد من الشريعة الإسلامية، ومن يريد العلمانية، ومن يريد حكماً رشيداً مهما كان شكله، وغيرهم..
سوريا فيها من يعتكف في المساجد تقرباً من الله، ومن يخمر في البارات سارحاً في بحور الكون. وفيها من يجتهد في علوم الدين ومن يغوص في أسئلة الفلسفة وعلم الاجتماع. وفيها طًلاب الدنياً وزهّادها. فيها العاملين الحالمين بأن تكون أرضهم منارة العلم والخير لا صفة لهم إلّا الإنسان وحب الخير، وأخيراً فيها من لا باع له في كلّ هذا إلا قوت يوم كريم له ولأهله، وغيرهم…
في سوريا، على كل هذه المكوّنات الغزيرة أن تعي أنّه لا خيار لها إلا تقبّل حقيقة وجود الآخر والعمل تحت سقف قانون أو تشريع يتيح لها التعبير عن شخصيتها وماهيتها وهويتها دون ضرر أو ضرار. دون ذلك، سينتشر الرياء والكذب، والكيدية والتآمر، وستكون سوريا ما يسمّى ب “الدولة الضعيفة” القابلة للتفكّك أو التقسيم او قد تصبح أرضية للاقتتال الداخلي في أي وقت.
في سوريا المستقبل، يجب أن لا يكون فضل لمكوّن على آخر إلا في عمل الخير وإصلاح الأنفس والصدق والتصدّق والعمل الدؤوب لبناء الدولة الجامعة المُنتِجة. في سوريا المستقبل، لا مكان للمجرمين والقتلة والسفّاحين والمرتزقة والانتهازيين، مهما كانت خلفيّتهم ومهما عليَ شأنهم.
المرحلة الحالية أصعب بكثير من الثورة، وهي مرحلة بناء الإنسان والدولة، الدولة التي تليق بتاريخ سوريا وأصالتها ومساهماتها، سوريا التي لا بدّ أن تكون إلّا سوريا التقبّل والمحاسبة والعدل والتنوّع والتعاون على البر. والله أعلم وأدرى.
الفيس بوك
————————–
ملاحظات
Hiba Ezzideen
من كم يوم زارتنا صحفية فرنسية و صحفية سورية بمركز عدل و تمكين بكفر يحمول بريف إدلب. بعد الزيارة كتبت الصبية السورية مقال رح حطه بالتعليقات بأنو قديه كانت متفاجئة أنو في منظمة نسوية بريف إدلب عم تشتغل بمساحة تأثير عالية و بخدمات حقيقية. مبارح، كنا بالاجتماع الشهري تبع الفريق و معنا كتير موظفين/ات مابعرفن، لأنه توظفوا من شهرين و ماقدرنا نعمل الاجتماع الشهر الماضي بسبب انشغالنا بالتحرير و أنو كتار منن راحوا يزورا بيوتن و أهلن. بالاجتماع، بيقول زميلنا أنو ياجماعة أنا في شي غريب حسيته بهالمنظمة، أنو أهل المنطقة بيتعاملوا معها على أنها جزء من حياتن، مو أنها منظمة جاية تقدم خدمات و تمشي.
ليش عم أكتب هيك؟
لقلكن ليش، صارلنا تقريباً خمس سنوات منشتغل بريف إدلب، بعز دين الفترة اللي كان فيها تيار متطرف بالهيئة و فلول داعش و حراس الدين و جند الأقصى، و منقول أننا منظمة نسوية، و قدرنا نشكل تعريف جمعي نحن و الناس عن النسوية تبعنا، أي صار ألنا نسوية بتشبهنا يمكن تكون مهادنة بنظر النسويات، و أحياناً متمردة بنظر الأسلاميات بس قدرنا نخلق هاد التفاهم مع المتجمع.
هدول السنوات كانوا من أصعب ما عدى علينا كفريق بحياتنا، عم نحاول نغير مفاهيم و نقدم خدمات بنفس الوقت، و مرة منصطدم بالعسكر و مرة بالأصوليين و مرة بالمجتمع. لكن كان مطلبنا واضح، النساء هنن المركز و مافي حدا يقصين، و لا يهمشن. عدد المرات التي تم الاستهزاء فينا على اللغة الجندرية لا تعد و لا تحصى، و عدد الرسائل اللي وصلت لفريقي من ناس عم يسبوني كتيرة، بس ضلينا مصرات على هالشي.
بـأحد المرات كان في شكوى علينا، و راح المحامي تبعنا، عند أحد المسؤولين بحكومة الإنقاذ عن الموضوع، و هالشخص هلق صار بمكان مرموق بالحكومة الجديدة، فقله للمحامي أنو يازلمة هبة كتير كتير خطابها عالي و أحياناً بتزيدها، ففرجاه المحامي، محاورة على تلغرام بيني و بين أحد شرعيي داعش سابقاً، فقله المسؤول: قسماً بالله هالملخوقة بنت بيت، يازلمة شقد مهذبة بالرد عليه! أمانة سلم عليها و أي مساعدة بدكن ياها نحن جاهزين.
هاد ما بيعني أن كل حكومة الإنقاذ عندن نفس الرأي تجاه النساء لكن ماحدا منعنا من العمل. طبعاً كان في مضايقات، بس بعتقد حتى لو كانت حكومة الإنقاذ علمانية رح تتعاطى مع قضايا النساء بطريقة مشابهة بس يمكن بفجاجة أقل.
أنا وحدة من الناس اللي كنت هاجم الهيئة بس كنت أنزل ع إدلب كل سنة وضل شهر و أنشر أني بإدلب و أتفتل، ما تعرضت للاعتقال ولا للاستجواب، كانت تجيني تهديدات من بعض الوليدات الأمنيين المخبرين للهيئة.
أي؟
يعني، السنوات الأخيرة من تواجد حكومة الإنقاذ بإدلب و الحراك المدني و النسوي اللي كان مستمر رغم كل الخذلان و التضييق غيروا شوي من المعادله، صارت الحكومة بتعرف منيح أنو مافيها تتجاوز هدول الحراكين، و صاروا هدول الحراكين بيعرفوا كتير منيح محددات العمل مع الإنقاذ وهامش المناورة.
السنوات الأخيرة، الأربع سنوات تقريباً صرت بتعترض دون ما تنقتل أو تنشحط، و صرتي بتقولي أنا نسوية دون ما يتم منعك من العمل. طبعاً الأمور مانها لوز، بس أيمت كانت بسوريا لوز؟ و هل كمان الأمور بذات الطابع الوردي اللي عم يحكوا عنه بعض الزميلات بحسن النية؟ لأ طبعاً لأنن زاروا إدلب بعد التحرير و لو رايحات قبل التحرير بيوم كان قد يكون رأين مختلف، و كتير سهل نوصف بناء على مشاهدات سريعة بس الصبايا اللي عاشوا بإدلب بيعرفوا تماماً معاناة أنك تكون ناشطة بالشأن العام أو نسوية.
هل رح تتحسن الأمور؟ أي، و خطاب الشرع مبارح في كتير رسائل، رسائل ألنا كنسويات ومدافعات عن حقوق النساء أولاً أنو شغلنا ماراح ع الفاضي و تخصيص النساء و جندرة اللغة مانن مكتسبات إلا للنساء اللي اشتغلوا كل السنوات الماضية لحتى مايكونوا النساء تحصيل حاصل. بس مهم نعرف أنو حاشية الشرع ماعندها بالضرورة نفس البراغماتية بالتعامل، بس رح نوصل لنتيجة معن إذا استمرينا بالشغل.
بالتعامل مع الحكومة مافي شي جيد ع طول و لا سيء ع طول، بس إذا اشتغلت ع السيء بيصير أقل سوءا و هكذا.
الفيس بوك
—————————-
======================